الشعاع الرابع عشر‌ [1/4]: الدفاعات.. دفاعات محكمة أفيون

[هذا الشعاع يتضمن الدفاعات التي أدلى بها الأستاذ النورسي في جلسات محاكمته بمحكمة أفيون، وكان ذلك في عامَي 1948 – 1949، كما يتضمن دفاعات طلاب النور كذلك، والرسائل التي بعث بها الأستاذ النورسي إليهم]

[هذا القسم هو جزء أول من أربعة أجزاء من الشعاع الرابع عشر، يتضمن دفاعات النورسي في محكمة أفيون]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

 ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

لا تبارزوا رسائل النور المستنِدة إلى القرآن الكريم فإنها لا تُغلب، وإلّا فسيكون أمر هذه البلاد مؤسفًا إذا ما حاول أحدٌ طمسَ نورها، وسوف تذهب إلى مكان آخر، وتنور أيضًا.
ألا فلتعلموا جيدًا بأنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من الشعر، وفُصل كلَّ يومٍ واحدٌ منها عن جسدي، فلن أَحني هذا الرأسَ الذي نذرتُه للحقائق القرآنية أمام الزندقة والكفر المطلق، ولن أتخلى بحال من الأحوال عن هذه الخدمة الإيمانية النورية، ولا يسعني التخلي عنها.
المحتويات عرض
2. [دفاعات محكمة أفيون]
2.2. [رد على لائحة الادعاء]

الشعاع الرابع عشر

[الدفاعات.. دفاعات محكمة أفيون]

[دفاعات محكمة أفيون]

[وجِّهوا إليَّ تهمةً حقيقية]

تتمة قصيرة جدًّا لإفادتي

أُبيّن لمحكمة أفيون:

إن إفادتي التي قدمتُها لأنظاركم ولعدالة القانون، والتي تتضمن تحرّيَ منـزلي تحرِّيًّا غيرَ قانوني بثلاثة وجوه، وسَوقي للاستجواب ومن ثم توقيفي واعتقالي، كلُّ ذلك تعرّضٌ لكرامةِ ثلاث محاكم ومسٌّ لعدالتها واحترامها، بل استخفافٌ بها؛ لأن تلك المحاكم الثلاث وهيئاتِ الخبراء الثلاث، قد أتمَّت تدقيقَ ما ألّفتُه خلال عشرين سنة من مؤلفات، وما كتبتُه من مكاتيب، وأجمَعوا قرارهم على براءتنا، فأُعيدت إلينا كتبُنا ومكاتيبُنا.

وبعد البراءة، ومنذ سنوات ثلاث وأنا أعيش في انـزواء عن الناس، وتحت ترصّد شديد بحيث لا أكتب لبعض أصدقائي غير رسالة واحدة لا ضرر فيها، فعلاقتي بالدنيا شبه مقطوعة، بل لم أذهب إلى موطني رغم السماح.

والآن فإن تجديدَ المسألةِ نفسها بما ينمّ عن عدم الاكتراث بالقرار العادل للمحاكم الثلاث، إنما هو استهانة بكرامة تلك المحاكم وحطٌّ من شرفها.

لذا لأجل الحفاظ على كرامة تلك المحاكم التي عَدلتْ في حقي، أرجو من محكمتكم أن تبحث عن سبب آخر ومسألةٍ أخرى لتتهموني بها غير المسائل التي هي: “رسائل النور، تشكيل جمعية، تأسيس طريقة صوفية، احتمال الإخلال بالأمن والنظام”.

إن ذنوبي وتقصيراتي كثيرة، لذا قررت أن أُعِينَكم بقدر ما يتعلق الأمر بمسؤوليتي، فلقد تعذبتُ خارج السجن عذابًا يفوق كثيرًا عمّا في داخله، حتى غدا القبر أو السجن موضعَ راحتي الآن، ولقد سئمت الحياةَ حقًا.. كفى الإهانات والتعذيب والترصد المؤلم فيما يشبه السجن الانفرادي طوال عشرين سنة، فلقد بلغ السيلُ الزبى، وأوشك أن يمسّ غيرةَ اللّٰه، وعندها يا لخسارة هذه البلاد.. إني أذكّركم بهذا.

إن أعظم ملجأ لنا وأقواه:‌ ﴿حَسْبُنا اللّٰه وَنِعْمَ الوَكيلُ﴾.. ﴿حسبي اللّٰه لا إله إلّا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم﴾.

❀   ❀   ❀

[رد على لائحة الادعاء]

“ردّ على لائِحة الادعاء”‌

﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾

﴿وبه نستعين﴾

“بعد صمت دام ثمانية عشر عامًا، اضطررت إلى إعادة تقديم هذه الدعوى ردًًّا على لائحة الادعاء، رغم تقديمها إلى المحكمة وتقديم صورةٍ منها إلى المراجع العليا في أنقرة”.

“أدناه خلاصةٌ لدفاع قصير -هو الحقيقة عينها- قد قلته للمدعين العامين وضابطي الشرطة الذين أتوا لتحري منـزلي في “قسطموني” ثلاث مرات، وقلته أيضًا لمدير الشرطة ولثلة من أفراد الشرطة -في المرة الثالثة- ولمحكمة دنيزلي وأفيون.

فليكن معلومًا لديكم أن ما قلته لهم هو:

إنني أعيش معتكفًا ومنـزويًا منذ عشرين سنة، فطوال ثماني سنوات في “قسطموني” بقيتُ مقابل مخفر الشرطة، وكذا الحال في بقية الأماكن؛ كنت طوال هذه الفترة تحت المراقبة والترصد الدائم، وقد تحرّوا منـزلي عدة مرات، ومع ذلك لم يعثروا على أية أمارة لها علاقة بالدنيا أو بالسياسة، فلو كان لي شيء من التدخل بها لكانت الشرطة والعدلية تعلم به، أو علمتْ به ولكن لم تُعِرْ له بالًا، بمعنى أنهم مسؤولون أكثر مني.

فما دام الأمر هكذا فلِمَ تتعرضون لي إلى هذا الحد دون داع إليه وبما يُلحق الضرر بالبلاد والعباد؟ علمًا أنه لا يُتعرض في الدنيا كلِّها للمنـزوين المعتكفين المنشغلين بآخرتهم.

[نحن طلاب النور]

نحن طلابَ النور آلينا على أنفسنا أن لا نجعل من رسائل النور أداة طيعة للتيارات السياسية، بل للكون كله.. فضلًا عن أن القرآن الكريم قد منعَنا بشدة من الاشتغال بالسياسة.

[وظيفة رسائل النور]

نعم، إن مهمة رسائل النور الأساس هي خدمة القرآن الكريم، والوقوف بصرامة وحزم في وجه الكفر المطلق الذي يُودِي بالحياة الأبدية ويجعل من الحياة الدنيا نفسها سُمًّا زعافًا وجحيمًا لا يطاق؛ ومنهجها في ذلك هو إظهار الحقائق الإيمانية الناصعة المدعَمة بالأدلة والبراهين القاطعة التي تُلزم أشد الفلاسفة والمتزندقة تمردًا على التسليم بالإيمان، لذا فليس من حقنا أن نجعل رسائل النور أداة لأي شيء كان، وذلك لأسباب:

[لماذا لا نتدخل بالسياسة]

 أولًا: كي لا تُحوَّل الحقائق القرآنية التي تفوق الألماس نفاسةً إلى قطع زجاج متكسر في نظر أهل الغفلة، حيث يتوهمونها كأنها دعاية سياسية تخدم أغراضًا معينة، وكي لا نمتَهن تلك المعاني القرآنية القيمة.

ثانيًا: إن منهج رسائل النور الذي هو عبارة عن الشفقة والعدل والحق والحقيقة والضمير لَيمنعُنا بشدة عن التدخل بالأمور السياسية أو بشؤون السلطة الحاكمة. لأنه إذا كان هناك بعض ممن ابتُلوا بالإلحاد واستحقوا بذلك العقاب، فإن وراء كل واحد منهم عددًا من الأطفال والمرضى والشيوخ الأبرياء، فإذا نزل بأحد أولئك المبتلَيْنَ المستحِقين للعقاب كارثةٌ أو مصيبة، فإن أولئك الأبرياء أيضًا سيحترقون بنارهم دون ذنب جَنَوْه.

وكذا لأن حصول النتيجة المرجوة أمر مشكوك فيه، لذا فقد مُنِعْنا بشدة من التدخل في الشؤون الإدارية بما يُخل بأمن البلاد ونظامها عن طريقِ وسائلَ سياسية.

ثالثًا: في زمن عجيب كزماننا هذا، لا بد من تطبيق خمسةِ أسس ثابتة، حتى يمكنَ إنقاذ البلاد وإنقاذ الحياة الاجتماعية بأبنائها من الفوضى والانقسام. وهذه المبادئ هي:

١- الاحترام المتبادل.

٢- الشفقة والرحمة.

٣- الابتعاد عن الحرام.

٤- الحفاظ على الأمن.

٥- نبذ الفوضى والغوغائية، والدخولُ في الطاعة.

والدليل على أن رسائل النور في نظرتها إلى الحياة الاجتماعية قد ظلت تُثبت وتُحكم هذه الأسس الخمسة وتحترمها احترامًا جادًّا محافِظةً بذلك على الحجر الأساس لأمن البلاد، هو أن رسائل النور قد استطاعت في مدى عشرين عامًا أن تجعل أكثر من مائة ألف رجل أعضاء نافعين للبلاد والعباد دون أن يتأذى أو يتضرر بهم أحد من الناس، ولعل محافظتَي إسبارطة وقسطموني خير شاهد وأبرز دليل على صدق ما نقول.

فإذا كانت هذه هي الحقيقة، فلا شك أن أكثر أولئك الذين يتعرضون لأجزاء رسائل النور إنما يخونون الوطن والأمة والسيادة الإسلامية، ويعملون -سواءٌ بعلم أو بدون علم- لحساب الفوضوية والتطرف.

إن مائة وثلاثين رسالةً من أجزاء رسائل النور التي مَنحت مائة وثلاثين حسنة وفائدة لهذه البلاد، لا تزيلها الأضرار الموهومة التي يتوهمها أهلُ الغفلة القاصرُو النظرِ الشكاكون، من نقصٍ وقصورٍ في رسالتين أو ثلاث؛ فالذي يهوّن من شأن تلك الرسائل بهذه الأوهام والشبهات ظَلومٌ مبين.

[ما تهمتي؟]

أما تقصيراتي وذنوبي التي تَمَسُّ شخصي الذي لا أهمية له، فإني أضطر دون رغبة مني إلى القول بأن الذي قضى حياة الاغتراب -التي هي أشبه ما تكون بالسجن الانفرادي- طوال اثنتين وعشرين سنة، معتكِفًا ومنـزويًا عن أحوال الناس، والذي لم يخرج باختياره طوال هذه الفترة إلى مجمع الناس في السوق وفي الجوامع الكبيرة، والذي أُجري عليه أشدُّ أنواع الضيق والعنت وخالَف أمثالَه من المنفيين فلم يراجع الحكومةَ ولو لمرة واحدة، ولم يقرأ جريدة ولم يستمع إليها، بل لم يكترث بها طوال هذه الفترة -وخير شاهد على هذا القريبون من أصدقائه وأحبّائه خلال سنتين في قسطموني وخلال سبع سنوات في أماكن أخرى- بل لم يَعرف أحداثَ الحرب العالمية ولا المنتصر من المغلوب، ولم يهتم بالمعاهدة والصلح، بل لم يعرف حتى من هم أطراف الحرب، ولم يتحرك فضوله لمعرفتهم، ولم يسأل عنهم ولم يستمع إلى الراديو القريب منه خلال ثلاث سنوات سوى ثلاث مرات؛ والذي يواجه الكفر المطلق برسائل النور، ذلك الكفر الذي يفني الحياة الأبدية ويزيد آلام الحياة الدنيا ويجعلها عذابًا في عذاب، والشاهد الصادق لذلك مائة ألف ممن أنقذوا إيمانهم برسائل النور المترشحة من فيض نور القرآن العظيم والتي تجعل الموت بحق مائة ألف شخص تذكرة تسريح بدلًا من الإعدام الأبدي..

تُرى أي قانون يسمح بالتعرض لهذا الرجل (يقصد نفسه) وجعْلِه في يأسٍ من الحياة، ودفعه إلى البكاء والحزن، مما يدفع مائة ألف من إخوانه إلى البكاء؟! بل أية مصلحة في ذلك؟ أَلاَ يرتكبون باسم العدالة غدرًا لا مثيل له ولا نظير؟ أفلا يكون باسم القانون خروجًا عن القانون؟!

[من حقنا أن نرفض مبادئكم]

أما إذا قلتم واحتججتم بتصرفكم هذا بما يحتج به فريق من الموظفين في هذه التحريات، وادعيتم كما يدعون، بأنك وطائفة من رسائلك تخالفان نُظمنا ومبادئنا.

فالجواب:‌

أولًا: ليس من حق نظمكم ومبادئكم المبتدَعة هذه أن تدخل معتكفاتِ المنـزوين إطلاقًا.

ثانيًا: إن ردّ أمرٍ ما شيء، وعدمَ قبوله قلبيًّا شيء آخر، وعدم العمل به شيء آخر تمامًا.

وإن ولاة الأمور إنما ينظرون إلى اليد لا إلى القلب، وهناك في كل قُطر وفي كل مكان معارِضون شديدون للحكومة لا يتدخلون في شؤون الإدارة والأمن، حتى إنه في عهد سيدنا عمر رضي اللّٰه عنه لم يُمَسَّ النصارى بشيء مع أنهم كانوا ينكرون الإسلام وقوانين الشريعة.

وعلى هذا، واستنادًا إلى مبدأ حرية الفكر والوجدان، إذا كان بعض طلاب النور يرفضون نظمكم ومبادئكم، وينتقدونها على أساس علميّ نقدًا بَنّاءً، أو إنْ صدرت منهم أعمال وتصرفات لا تتفق وتلك المبادئ، بما في ذلك إضمار العداء لأولى الأمر، فليس من حق القانون أن يحاسبهم على ذلك بشرط واحد وهو أن لا يتدخلوا في الشؤون الإدارية، وأن لا يُخِلّو بالأمن والنظام.

أما بالنسبة للرسائل، فقد أطلقنا على تلك الرسائل أنها سرية وخاصة، وحظرنا نشرها، حتى إن أحدهم قد أتى لي بنسخة واحدة من الرسالة التي سببت هذه الحادثة لمرة أو مرتين طوال ثماني سنوات في قسطموني، وضيعناها في اليوم نفسه، وأنتم الآن تشهرونها بالقوة والإكراه، وقد اشتهرت حقًا.

ومن المعلوم أنه إذا وجد نقص يوجب الذنب في رسالة ما، فإن تلك الكلمات وحدها تُحذف ويُسمح بالبقية، ولقد وجدوا خمس عشرة كلمة فقط هي مدار النقد من بين مائة رسالة من رسائل النور بعد إجراء تدقيقات عليها دامت أربعة أشهر في محكمة “أسكي شهر”، ووجدوا في صفحتين فقط من بين أربعمائة صفحة من مجموعة “ذوالفقار”1مجموعة تضم رسالة المعجزات القرآنية والمعجزات الأحمدية ورسالة الحشر. موضعَ نقدٍ بعدم تلاؤمها مع القانون المدني، حيث فيهما تفسير الآيات الكريمة الخاصة بميراث المرأة وحجابها، ذلك التفسير الذي كتب قبل ثلاثين سنة.. كل ذلك يُثبت أن هدف رسائل النور ليست الدنيا، بل الناس كافة بحاجة إليها، فلا تصادَر تلك المجموعة (ذوالفقار) لأجل تلكما الصفحتين.. ولترفعْ إذن الصفحتان وتُعَدْ لنا مجموعتنا. نعم، من حقنا أن نطالب بإعادتها لنا.

أما إذا خِلْتم الإلحاد ضربًا من متطلبات السياسة، وقلتم بزعمكم -كما يزعم البعض-: “إنك برسائلك هذه تفسد علينا مدنيتنا وتَحُول دون تمتعنا بمباهج الحياة وملذاتها”.

فأنا أقول: “إنه لا يمكن لأي شعب أن يعيش بلا دين، وهذا دستور عام معترف به في الدنيا كلها، ولا سيما إن كان هناك كفر مطلق، فإنه يسبب لصاحبه عذابًا أشد إيلامًا من عذاب جهنم في الدنيا نفسها، كما أُثبتَ ذلك بأدلة وبراهين لا تقبل المناقشة في رسالة “مرشد الشباب”، تلك الرسالة المطبوعة رسميًّا، إذ لو ارتد مسلم -والعياذ باللّٰه- فإنه يقع في الكفر المطلق، ولن يبقى في الكفر المشكوك فيه الذي يمهل الحياة لصاحبه إلى حدٍ ما؛ ولا يكون كملاحدة الأجانب أيضًا، بل من حيث التمتع بملذات الحياة التي قد يتصورها، لا يكون حظه من ذلك سوى الهبوط إلى مرتبة أدنى من مرتبة الحيوانات بمائة مرة التي لا معنى للماضي والمستقبل لديها، وذلك لأن موت الموجودات السابقة واللاحقة وفراقها الأبدي، يترك في نفسه آلامًا مستمرة متعاقبة بسبب ضلاله.

أما إذا جاء الإيمان ولامس بشاشةَ القلب وتمكّن فيه، فإن أولئك الأصدقاء الذين لا يحصيهم العد سيَحْيَوْن فجأةً ويقولون بلسان حالهم: نحن لم نمت.. ولم نفنَ.. وحينئذٍ تنقلب تلك الحالة الجهنمية إلى لذائذ فيحاء وروضة غناء.

[لا تبارزوا رسائل النور]

فما دامت الحقيقة هي هذه، فإنني أذكّركم بالآتي:

لا تبارزوا رسائل النور المستنِدة إلى القرآن الكريم فإنها لا تُغلب، وإلّا فسيكون أمر هذه البلاد مؤسفًا إذا ما حاول أحدٌ طمسَ نورها، وسوف تذهب إلى مكان آخر، وتنور أيضًا.

ألا فلتعلموا جيدًا بأنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من الشعر، وفُصل كلَّ يومٍ واحدٌ منها عن جسدي، فلن أَحني هذا الرأسَ الذي نذرتُه للحقائق القرآنية أمام الزندقة والكفر المطلق، ولن أتخلى بحال من الأحوال عن هذه الخدمة الإيمانية النورية، ولا يسعني التخلي عنها.

لا شك أنه لا يُنظر إلى نقائصَ تقع في إفادةِ معتكِف منذ عشرين سنة، ولا يقال: إنه خرج عن الصدد لدفاعه عن رسائل النور..

إذ ما دامت محكمة “أسكي شهر” لم تجد غير مادة أو مادتين لرسالة أو رسالتين من بين مائة من الرسائل السِّرّية الخاصة والعلنية العامة، أثناء إجراء التدقيق عليها خلال أربعة أشهر، علمًا أن المادتين توجبان عقابًا خفيفًا، حتى إن المحكمة حكمت بالسجن لمدة ستة أشهر على خمسة عشر من المتهمين البالغ عددهم مائة وعشرين شخصًا، ونحن بدورنا قضينا هذا العقاب..

وما دامت جميع أجزاء رسائل النور قد أصبحت في متناول المسؤولين -قبل سنوات- وأعيدت إلى أصحابها بعد إجراء التدقيق عليها خلال شهور عدة..

وما دامت لم تظهر أية أمارة تمس العدلية والأمن طوال ثماني سنوات في “قسطموني” رغم التحريات الدقيقة..

وما دام قد تحقق لدى هيئة التحريات الأخيرة في “قسطموني” -قبل سنوات- أن بعض الرسائل وُجدت تحت أكوام الحطب، مما يومئ إلى عدم نشرها بل فقدانها..

وما دام مدير الشرطة في قسطموني ومسؤول العدلية قد وعداني وعدًا قاطعًا بإعادة الكتب المخفية لي، وقبل استلامي لها ساقوني في اليوم التالي بمجرد مجيء أمر التوقيف من إسبارطة..

وما دامت محكمتا “دنيزلي” و”أنقرة” قد برأتا ساحتنا أعادتا إلينا جميع الرسائل..

فلا بد وبناء على هذه الحقائق الست بمقتضى واجبِ محكمة “دنيزلي” ومدعيها العام كما هو من واجب عدلية “أفيون” ومدعيها العام أخذُ جميع حقوقي المهمة بنظر الاعتبار، فأنا على أملِ أن المدعي العام الذي يدافع عن الحقوق العامة سيدافع عن حقوقي الشخصية التي أصبحت بمثابة الحقوق العامة لمناسبة رسائل النور، بل أنتظر ذلك منه.

[سعيد القديم يتكلم]

إن سعيدًا الجديد الذي انسحب من ميدان الحياة الاجتماعية منذ اثنتين وعشرين سنة، ويجهل القوانين الحاضرة وأصول الدفاع الحالية، والذي قدّم مائة صحيفة من الدفاع المبرهن ببراهين لا تُجرَح، والذي قدّمها سابقًا إلى محكمتَي “أسكي شهر ودنيزلي”، وقاسى جزاء تقصيراته إلى ذلك الوقت، ومِن بعده في قسطموني وفي أميرداغ حيث قضى حياته فيما يشبه السجن المنفرد وتحت الرقابة الدائمة.. أقول: إن هذا السعيد الجديد -وأمره هذا- يؤثر جانب الصمت ويدع الكلام لسعيد القديم.

يقول سعيد القديم: لما كان سعيد الجديد قد أعرض عن الدنيا ولا يتكلم مع أهلها ولا يجد مبررًا للدفاع إلّا إذا اضطر إلى ذلك، إلّا أن المسألة تمس الكثيرين من الأبرياء من الفلاحين وأصحاب الأعمال، حيث يُعتقلون بمناسبة علاقتهم الواهية معنا، ويصيب أعمالَهم الكسادُ لعجزهم عن تدارك حاجات أهليهم وأطفالهم في موسم العمل هذا.. إن هذا الأمر قد مَسَّ وجداني مسًّا قويًّا وأبكاني من الأعماق.

لذا أقسم باللّٰه العظيم أنه لو كان باستطاعتي أن آخذ على عاتقي جميع مشاق أولئك لأخذتها، فالذنب كله يعود لي -إن كان هناك ذنب- وهم أبرياء أصلًا، فلأجل هذه الحالة المؤلمة، على الرغم من سكوت “سعيد الجديد” أقول:

[ثلاثة أسئلة أوجهها إلى وزير الداخلية]

لما كان “سعيد الجديد” يجيب عن مائة من الأسئلة التافهة للمدَّعين العامين -لولايات “إسبارطة” و”دنيزلي” و”أفيون”- فأنا كذلك من حقي أن أسأل ثلاثة أسئلة من وزير الداخلية التي يرأسها “شكري قايا”، وأسأل من وزارة العدل الحاضرة. والأسئلة هي:

[السؤال الأول: أي قانون يحاسِب على الإمكانات بدل الوقوعات]

السؤال الأول: بأي قانون يجري توقيفي وتوقيف مائة وعشرين شخصًا معي، جراء مشادّة كلامية لم تفض إلى حادثة، جرت بين شخص اعتيادي من “أكريدر” وهو ليس من طلاب النور وبين عريفِ شرطة (جاويش) لمجرد أن وُجد بحوزته أحد مكاتيبي الاعتيادية، ومن ثم إجراء التحقيق عليه من قبل المحكمة في أربعة أشهر، ومن بعد ذلك إبراء ساحةِ الجميع سوى خمسة عشر شخصًا من الضعفاء المساكين، مع إلحاق ضرر ماليٍّ لأكثر من مائة شخص بأكثر من ألف ليرة؟

تُرى بأي أصلٍ من أصول القانون يمكن جعل الإمكانات والاحتمالات بدلًا عن الوقوعات؟ وعلى وفق أيّ دستور يتم إضرار سبعين شخصًا من “دنيزلي” ضررًا ماليًّا يقدّر بألوف الليرات بعد أن كسبوا البراءة؟

[السؤال الثاني: لماذا يُعَمَّم الجرم؟]

السؤال الثاني: الدستور الإلهي هو: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾.

وإن وجود رسالة صغيرة قد حظرنا نشرَها، ولم أحصل عليها خلال ثماني سنوات سوى مرةً أو مرتين، وقد كُتب أصلُها قبل خمسٍ وعشرين سنة وهي التي تنقذ الإيمان من الشبهات في نقاط مهمة فيها، وتُنجي المرءَ من الوقوع في إنكار الأحاديث المتشابهة.. أقول: إن حصول هذه الرسالة الصغيرة لدى رجل لا نعرفه وفي مكان بعيد عنا، ومَنْحَها معنًى مغايرًا لها، ووجدانَ مكتوبٍ في “كوتاهية” و”بَالِيكَسِيرْ” ينمّ عن تعرض طفيف، ثم توقيفَنا جراء ذلك في شهر رمضان المبارك حينها وفي هذا الجو القارس حاليًّا، مع كثير من الفلاحين والكَسَبة الأبرياء، وتوقيفَ شخصٍ لمجرد وجودِ مكتوبٍ اعتيادي قديم لنا بحوزته، أو أخذني في جولة بسيارته، أو أبدى علاقةَ صداقةٍ معنا، أو لقراءته أحدَ كتبي، وإلحاقَ ضرر مادي ومعنوي بهم وبالوطن وبالأمة بقدر أُلوف الليرات استنادًا إلى شبهات تافهة..

أتساءل: أيُّ قانون من قوانين العدالة يُجري كلَّ هذا؟ وحسبَ أيةِ مادةٍ قانونية تنفذ الأمور؟ إننا نطالِب بمعرفة تلك القوانين لئلا نخطئ في المسير!

نعم، إن حقيقةَ أحد الأسباب التي أدت إلى اعتقالنا في كل من “دنيزلي” و”أفيون” هي “الشعاعُ الخامس“، علمًا أن هذه الرسالة كُتب أصلُها قبل فترةِ “دار الحكمة الإسلامية” بكثير، بِنِـيّة إنقاذ إيمان العوام تجاه المنكرين لطائفة من أحاديث نبوية شريفة لجهلهم بمراميها وتأويلاتها، حتى قالوا: لا يطيب لها العقلُ.

ولنفرض فرضًا محالًا أن هذه الرسالة متوجهةٌ إلى الدنيا والسياسة، وكُتبت في الوقت الحاضر، ولكن لأنها رسالة سرية، ولم يُعثر عليها عندنا لدى إجراء التحريات، وإن ما أخبرتْ به من أمور مستقبلية هي صحيحةٌ، وأنها تزيل الشبهات الواردة على الإيمان، ولا تمسّ الأمن والنظام ولا تتعرض لأشخاص معينين، بل تُبيّن حقيقة علمية بيانًا كليًّا.. أقول: لو فرضنا هذا فرضًا محالًا، فلا يشكِّل أيضًا ذنبًا، وذلك لأنها أَخذت بالسرية التامة للحيلولة دون حدوث مناقشة حولها قبل أن تَنشُرها وتُعلن عنها المحاكم.

ثم إنّّ ردَّ شيءٍ ما ورفضَه يخالف تمامًا عدمَ قبوله قبولًا علميًّا، ويباين كليًّا عدم العمل به، فتلك الرسالة لا تَقبل علميًّا النظامَ الذي سيأتي في المستقبل القريب، بل ترفضه، وهذا لا يشكّل ذنبًا، ولا نجد احتمال وجود ذنبٍ بمثل هذا في قوانين العدالة في العالم كله.

حاصل الكلام: إن الكفر المطلق يُبيد الحياةَ الأبدية، ويحوِّل الحياة الدنيوية إلى سمّ زعاف ويمحو لذتَها ومتعَها.. فرسائل النور منذ ثلاثين سنة تقطع دابرَ هذا الكفر، وقد حازت التوفيقَ في دحرها المفهومَ الكفري الرهيب الذي يحمله الماديون الطبيعيون، وتُثبت ببراهين ساطعة دساتيرَ سعادة هذه الأمة في حياتَيها، وتستند إلى حقيقة القرآن السامية.

فرسائلُ هذا شأنُها لو كانت لها ألف نقص ونقص -وليست مسألة أو مسألتين- تترجح حسناتُها التي تفوق الأُلوف على نقائصها بل تُذهبها؛ نحن ندّعي هذا ومستعدون للإثبات.

[السؤال الثالث: لماذا التعرض للأبرياء؟!]

السؤال الثالث: من المعلوم أنه لو شوهدت خمسُ كلمات غير مستساغة قانونًا في مكتوب يحمل عشرين كلمة فإن تلك الكلمات الخمس تُحذف ويُسمح للأُخريات؛ ولقد تُوُهِّم في خمس عشرة كلمة وَهْمًا ظاهريًّا على أنها تحمل ذنبًا، وذلك في محكمة “أسكي شهر” بعد إجراء التدقيق عليها لمدة أربعة أشهر، ولم تجد هيئةُ الوكلاء في مجموعةِ “ذوالفقار” البالغةِ أربعمائة صفحة ما يخالف القانون الحالي سوى صفحتين فقط، لا تلائمان القوانين الحاضرة، علمًا أن الصفحتين لم تتعرضا إلّا لتفسيرِ آيتين كريمتين2الآية الكريمة: (للذكر مثل حظّ الانثيين) و (فلأمّه السدس). كُتب قبل ثلاثين سنة، وأن خبراء “دنيزلي” و”أنقرة” لم يجدوا إلّا خمسة عشر سهوًا في رسائل النور التي أصبحت وسيلةً لإصلاح مئات الألوف من الناس إلى الآن، وحَققتْ للبلاد والأمة ألفًا من المنافع.

ثم إنّ أخذ عائلة “جَالِشْقان” إلى التوقيف في موسم العمل هذا وفي عزّ الشتاء القارس مع أي مبدأ يتلاءم من مبادئ الجمهورية؟ وأيُّ قانون من قوانينها يجيزه؟

علمًا بأن كل ما قامت به هذه العائلةُ هي أنها قَدّمت خدمات بسيطة للرسائل واستنسخوها لإنقاذ إيمانهم، وعاونوني في غربتي في “أميرداغ” إشفاقًا على شيخوختي وابتغاءً لوجه اللّٰه.

وما دامت مبادئ الجمهورية لا تتعرض للمَلاحدة وفقًا لمبدأ حرية الضمير والوجدان، فمن الأَولى والأحق أن لا تتعرض لأولئك الذين لا علاقة لهم بالدنيا، ولا يجادلون مع أهلها، ويعملون لآخرتهم وإيمانهم ووطنهم بشكل نافع، كما لا ينبغي ولا يحقّ لأرباب السياسة الذين بيدهم السلطة في آسيا التي تشرفت بالأنبياء أن يحملوا الشعب على التخلي عن الصلاح والتقوى اللذَين هما بمثابة الغذاء والعلاج من الحاجات الضرورية لهذه الأمة منذ ألف عام.

إنه من مقتضى الإنسانية الصفحُ عن تقصيراتٍ تَرِد ضمن أسئلةِ مَن قضى عشرين سنة من عمره معتكفًا منـزويًا عن الناس.. تلك التي يسألها بعقلِ “سعيد القديم” قبل عشرين سنة.

إنني أذكّركم بالآتي لمنفعة الأمة والأمن وكواجب من واجباتي الوطنية:

إن اعتقالَ أو محاولةَ الإساءة إلى أولئك الذين لهم علاقة واهية بنا و برسائل النور، قد يدفع بالكثيرين ممّن لهم منافعُ إيجابية للوطن والنظام أن يتحولوا إلى أناس مُعادين للإدارة، ويفسح المجالَ للفوضى والإرهاب.

نعم، إن عدد الذين أنقذوا إيمانَهم برسائل النور، واندفع بها خطرُهم عن المجتمع، بل أصبحوا أعضاء نافعين إيجابيين يزيد كثيرًا على مائة ألف شخص، وهم يشغلون مناصب رفيعة في كل دائرة من دوائر الحكومة الجمهورية، ويمثلون مختلف طبقات الناس، وهم يعملون بتفانٍ وإخلاص كاملين وعلى أتمّ وجه من الصدق والنفع والاستقامة.. فالإنصاف يقتضي إذن حمايةَ هؤلاء ومساندتهم لا محاولةَ الإساءة إليهم.

إن فريقًا من الموظفين الرسميين الذين ضربوا صفحًا عن الإنصات إلى شكوانا ولم يسمحوا لنا بالكلام، ويتذرعون بمختلف الحجج والادعاءات الزائفة في مضايقتنا لَيحملوننا على الاعتقاد اعتقادًا قويًّا، بأنهم بتصرفهم هذا إنما يفسحون المجال للفوضى في البلاد.

ثم إني أقول باسم مصلحة الحكومة: ما دامت محكمَتَا “دنيزلي” و”أنقرة” لم يتعرضا “للشعاع الخامس” بعد إجراء التدقيق عليه وأُعيد إلينا، فمن الضروري للإدارة أن لا تُقحمه في أمور رسمية ثانية فتجعلَ منه موضع نقاش، فكما أننا قد أخفينا تلك الرسالة قبل أن تحصل عليها المحكمةُ وتُعلن عنها، فعلى محكمة “أفيون” أن لا تجعل منها مدار سؤال وجواب؛ لأن تلك الرسالة قويّة، لا تُردّ؛ وقد أخبرتْ عن حوادثَ قبل وقوعها، ووقعتْ كما أخبرتْ؛ فضلًا عن أنها لا تستهدِف أمور الدنيا، وكل ما في الأمر أن أحدَ معانيها الكثيرةِ تُوافق رجلًا مات وانتهى أمره3المقصود مصطفى كمال..

فلقد حملني وجداني أن أذكّركم لمصلحة البلاد والأمة ولأجل صيانة الأمن والنظام والإدارة بالآتي:

لا يدفعنّكم التعصب لذلك الرجل الميت إلى إقحام ذلك الخبر الغيبي والمعنى الوارد في تلك الرسالة في أمور رسمية، فإنها تفسح المجالَ لزيادة الإعلان عنها.

[إعادة إبراز نص الدفاع المرفوع في دنيزلي، وفيه تسعة أسس]

إلى السادة رئيس محكمة أفيون والمدعي العام والأعضاء‌..

أُقدّم لكم هنا نصَّ الدفاع الذي كنت قد قدمتُه إلى المراجع العدلية في “دنيزلي” والذي اشتمل على تسعة أُسس.

إنني -كما تعلمون- شخص قد ترك الحياة الاجتماعية ولا سيما الحياة الرسمية والسياسية التي لها نواحٍ دقيقة، لذا فإنني لا أعلم ما يجب عليّ عملُه حيالها، ولا أفكّر في ذلك، إذ إن التفكير فيه يؤلمني ألمًا شديدًا، ولكني مضطر إلى أن أُدرج دفاعي هذا لأنني تعرضت في محكمة سابقة إلى أسئلة متكررة عديدة لا داعي لها من شخص لا يتصف بالإنصاف، وهذا الدفاع (الذي يعدّ بمثابةِ خاتمة للأجوبة التي قدمتها آنذاك) قد يَخرج أحيانًا عن الصدد، وقد يكون فيه تكرارٌ لا لزوم له، وقد يخلو من النظام والاتساق، وقد يحوي على عبارات عنيفة يمكن أن تُستغل ضدي، أو جملًا تخالف بعض القوانين الجديدة التي لا أعرفها، ولكن ما دام هذا الدفاع يتوجّه نحو الحقيقة ويستهدفها لذا يمكن التجاوز عن جوانب القصور هذه من أجل الحقيقة. إن دفاعي كان يستند إلى تسعة أسس:

[أساس 1: أعمِلوا قانون حرية الوجدان]

الأول: ما دامت حكومة الجمهورية لا تتعرض لأهل الإلحاد ولأهل السفاهة وذلك تحت شعار حرية الوجدان السارية في الجمهورية، لذا فإن عليها -من باب أَولى- أن لا تتعرض لأهل الدين ولأهل التقوى.

وما دامت أيةُ أمة لا تستطيع العيشَ دون دين، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن أممَ قارة آسيا لا تشبه أمم أوروبا من ناحية الدين، وأن الإسلام لا يشبه النصرانية من زاوية الحياة الشخصية والحياة الأخروية، فالمسلم الملحد لا يشبه الملاحدة الآخرين، لذا أصبح هذا الدين حاجةً فطرية في أعماق هذه الأمة التي نَوّرتْ أرجاء الدنيا منذ ألف عام بدينها وبدفاعها البطولي عن تمسكها بهذا الدين تجاه جميع غارات العالم وهجومه عليه.

وليس هناك أي تقدم وأية مدنية تستطيع الحلول محلَّ تعلّم الصلاح والدين وحقائق الإيمان في نفس هذه الأمة.. لا تستطيع أن تحل محله ولا أن تنسيها إياه.

إذن فإن على أية حكومة تحكم أمة هذا الوطن وتأخذ العدالة والأمن بنظر الاعتبار أن لا تتعرض لرسائل النور، ويجب أن لا تسمح لأحد أن يقوم بهذا التعرض.

[أساس 2: فرق بين الرفض والتمرد]

الأساس الثاني هناك فرق كبير بين أن ترفض وتردَّ شيئًا ما وبين أن لا تعمل بذلك الشيء؛ ففي كل حكومة هناك جماعةٌ معارضة لها بشدة، فقد يكون هناك جماعة مسلمون تحت حكم مجوسي، وقد يكون هناك يهود أو نصارى تحت حكم إسلامي كما في عهد عمر بن الخطاب رضي اللّٰه عنه، ومع ذلك تصان الحرية الشخصية لمن لا يخلّ بالأمن ولا يتعرض لإدارة الحكومة، فالحكومات يهمها الظاهر ولا تنقّب ما في داخل القلوب.

علمًا بأن أي شخص يروم التعرض للأمن وللسياسة ولإدارة الدولة لا بد أن يطالع الجرائد ويتتبع ما يجري في الدنيا من أحداث لكي يحيط علمًا بالتيارات وبالأوضاع المساعدة له، لكي لا يخطئ في تصرفه ولا تزلّ قدمُه.

أما رسائل النور فقد منعت طلابَها عن هذا منعًا باتًا، حتى إن أصدقائي المقربين يعلمون بأنني ومنذ خمس وعشرين سنة تركت الجرائد ولم أسأل ولم أستفسر عن أية جريدة، ولم يكن لدي فضول أو رغبة فيها فضلًا عن قراءتها.

وأما الآن فلا أعرف (ومنذ عشر سنوات) أي شيء عن أخبار العالم وأوضاعها سوى عن هزيمة الألمان وانتصار البلاشفة.. إلى هذه الدرجة منعتني رسائل النور وأبعدتني عن الحياة الاجتماعية.

إذن فمن المفروض ومن الواجب أن تَمنع حكمةُ الحكومة وقانونُ السياسة ودستورُ العدالة التعرضَ لي أو لإخواني من أمثالي، وكلُّ من يتعرض لا يفعل ذلك إلّا تحت تأثير أوهامه أو أحقاده أو عناده.

[أساس 3: قصتي مع الشعاع الخامس ومؤسس الجمهورية]

الأساس الثالث لقد اضطُررت إلى تقديم الشرح الطويل التالي جوابًا على اعتراضات خاطئة لا معنى لها ولا ضرورة لها، التي قدّمها المدعي العام في المحكمة السابقة حول ما جاء في “الشعاع الخامس“، ولم يكن هذا المدّعي يستند إلى مادة في القانون، بل إلى حُبٍّ وتعصبٍ لشخص ميت.

أولًا: لقد كنا نحتفظ بـ”الشعاع الخامس” بشكل سري قبل أن تقع هذه الرسالة في يد الحكومة، ورغم التحريات التي أُجريت لم تعثر الحكومةُ عندي على نسخة منها، ولم تكن غاية هذه الرسالة إلّا إنقاذَ إيمان العوام وإزالةَ شبههم وإنقاذَهم من ردِّ وإنكار بعض الأحاديث المتشابهة، ولم تلتفت هذه الرسالة إلى شؤون الدنيا إلّا بالدرجة الثالثة أو الرابعة وكشيء عرضي، علمًا بأن ما أخبرَتْه كان صحيحًا ولم تتعرض لأهل السياسة ولأهل الدنيا ولم تخاصمهم أو تبارزهم، بل اكتفتْ بسَوقِ الأخبار دون أن تُعيِّن الأشخاصَ أو أن تسمِّي المسميات، بل تبين حقيقةَ حديث نبوي بشكل كلي وعام.

ولكنهم قاموا بتطبيق هذه الحقيقة على شخص مدهش عاش في هذا العصر فانطبقت عليه تمامًا، لذا فقد أظهروا اعتراضهم لأنهم حسِبوا أن هذه الرسالة أُلّفت في هذه السنوات، علمًا بأن تاريخ هذه الرسالة أَقْدَمُ من تاريخِ انتسابي إلى “دار الحكمة الإسلامية”، ولكنها نُسِّقت فيما بعد ودخلت ضمن رسائل النور، وإليكم التفاصيل:

قدِمتُ إلى إسطنبول قبل أربعين سنة، أي قبل عام واحد فقط من إعلان الحرية4إعلان الحرية: المقصود منه الإعلان الثاني للدستور، أي المشروطية الثانية وتم ذلك سنة ١٩٠٨ من قِبَل السلطان عبد الحميد الثاني.، وكان القائد الياباني العام آنذاك قد وجَّه إلى علماء الإسلام بعض الأسئلة الدينية، فوجَّه علماءُ إسطنبول هذه الأسئلة إليَّ كما طرحوا عليَّ أسئلة أخرى عديدة بهذه المناسبة، ومن ضمن هذه الأسئلة ما ورد في أحد الأحاديث الشريفة أنه “يصبح شخص رهيب في آخر الزمان وقد كتب على جبينه: هذا كافر”، فقلت: “سيتولى أمر هذه الأمة شخص عجيب، ويصبح وقد لبس قبعة على رأسه، ويُكره الناس على لبسها”.

فسألوني بعد هذا الجواب: “ألا يكونُ من يلبسها آنذاك كافرًا؟”.

قلت: “عندما تستقر القبعة على الرأس ستقول: لا تسجد، ولكن الإيمان الموجود في الرأس سيرغم تلك القبعة على السجود إن شاء اللّٰه، وسيُدخلها الإسلام.

ثم قالوا: “وسيشرب هذا الشخص ماءً، وستنثقب يدُه، وعند ذلك سيعلم الجميع أنه “السفياني”.

فأجبتهم: “هناك مَثلٌ يُضرب للمسرف فيُقال عنه: أن يدَه مثقوبة وكفَّه منخرقةٌ، أي إن المال لا يبقى في يده، بل يسيل ويضيع”.

وهكذا فإن ذلك الشخص المدهش والعجيب سيُبتلى بالإدمان على الخمر (وهو سائل)، وسيمرض جراء هذا الإدمان، مما سيقوده إلى إسرافات لا حدود لها، وسيُعوِّد غيرَه أيضًا على الإسراف.

فسأل أحدُهم: عندما يموت هذا الشخص سيهتف الشيطان في منطقة “ديكيلي طاش” في إسطنبول للدنيا أن فلانًا قد مات؟

فقلت له آنذاك: سيُعلَن هذا النبأ عن طريق البرقيات.

ولكني عندما سمعت فيما بعد باختراع الراديو علمتُ أن جوابي القديم لم يكن تامًّا.. وقلت بعد ثماني سنوات عندما كنت في دار الحكمة: سيتم إعلان النبأ إلى العالم أجمع بوساطة الراديو.

ثم سألوا أسئلة عديدة حول سد ذي القرنين ويأجوج ومأجوج وحول دابة الأرض والدجال وعن نزول عيسى عليه السلام، فأجبت عنها، حتى إن قسمًا من هذه الأجوبة أدرج في بعض مؤلفاتي القديمة.

بعد مدة أرسَل “مصطفى كمال” رسالتين بالشفرة إلى صديقي “تحسين بك” الذي كان واليًا سابقًا على مدينة “وان” يستدعيني إلى “أنقرة” لكي يكافئني على قيامي بنشر رسالة “الخطوات الست”5في تلك الفترة كانت هناك حكومتان: حكومة الخلافة في إسطنبول تحت الاحتلال الإنكليزي. وحكومة منشقّة في أنقرة برئاسة مصطفى كمال تقاتل دول الاحتلال. وكان الأستاذ النورسي في إسطنبول آنذاك فنشر هناك هذه الرسالة الموجهة ضد احتلال الإنكليز ودحض سياستهم، وكان لها وقع كبير آنذاك.، فذهبتُ إليها، فعرض عليَّ -مصطفى كمال- تعييني في وظيفة الواعظ العام في الولايات الشرقية براتب قدره ثلاثمائة ليرة في محل الشيخ السنوسي، وذلك لعدم معرفة الشيخ اللغة الكردية؛ وكذلك تعييني نائبًا في مجلس المبعوثان (المجلس النيابي) وفي رئاسة الشؤون الدينية مع عضوية في “دار الحكمة الإسلامية”، وكان يريد بذلك إرضائي وتعويضي عن وظيفتي السابقة.

وكان السلطان “رشاد” قد خصص تسعة عشر ألف ليرة ذهبية لإنشاء مدرسة الزهراء -التي كنتُ قد وضعت أسسها- ودارِ الفنون في مدينة “وان”، فقرر مجلس المبعوثان زيادةَ هذا المبلغ إلى مائة وخمسين ألف ليرة ورقية، حيث وقّع ثلاث وستون ومائة نائبًا من بين أعضاء المجلس البالغ عددهم مائتي نائب بالموافقة على ذلك.

ولكني عندما لاحظت أن قسمًا مما جاء من الأخبار في المتن الأصلي لرسالة “الشعاع الخامس” ينطبق على شخص شاهدته هناك، فقد اضطررت إلى ترك تلك الوظائف المهمة، إذ اقتنعت بأن من المستحيل التفاهم مع هذا الشخص أو التعامل معه أو الوقوف أمامه، فنبذت أمور الدنيا وأمور السياسة والحياة الاجتماعية، وحصرت وقتي في سبيل إنقاذ الإيمان فقط.

ولكن بعض الموظفين الطاغين والبعيدين عن الإنصاف استكتبوني رسالتين أو ثلاثًا من الرسائل المتوجهة إلى الدنيا، ثم قمت -نـزولًا عند رغبة بعض الذوات- بجمعِ وتنظيمِ أصولِ تلك الرسائل القديمة بمناسبة الأسئلة المتعلقة بالأحاديث النبوية المتشابهة حول علامات يوم القيامة، حيث أخذتْ هذه الرسالة اسم “الشعاع الخامس” من رسائل النور.

وإن أرقام رسائل النور ليست مطّردة مع ترتيبِ أو تسلسل تأليفها، فـ”المكتوب الثالث والثلاثون” مثلًا أُلّف قبل “المكتوب الأول“، كما أن أصل “الشعاع الخامس” هذا مع بعض أجزاء رسائل النور تم تأليفُها قبل رسائل النور.

على أية حال فإن تعصب المدعي العام لمصطفى كمال وصداقته له -وهو يشغل مثل هذا المقام- أدّى إلى أسئلة واعتراضات غير قانونية وغير ضرورية وخاطئة، مما ساقني إلى تقديم هذه الإيضاحات الخارجة عن الصدد، وأنا أبين هنا أحد أقواله كمثال على كلامه المشوب بالمزاج الشخصي الخارج عن القانون.

قال: ألم تندم من قلبك على ما أوردتَه في “الشعاع الخامس“؟ ذلك لأنك قمت بإهانته وتحقيره عندما قلت عنه: إنه أصبح مثل قربة الماء من كثرة شربه الخمرَ والشراب؟

وأنا أقول جوابًا على تعصبه الذميم والخاطئ تمامًا الناشئ من صداقته له: لا يمكن إسناد شرفِ انتصارِ الجيش البطل إليه وحده، ولكن تكون له حصة معينة فقط من هذا الانتصار، فمِن الظلم ومن الخروج على العدالة بشكل صارخ إعطاءُ غنائمِ الجيش وأمواله وأرزاقه إلى قائد واحد.

وكما قام ذلك المدعي العام البعيد عن الإنصاف باتهامي لكوني لا أحب ذلك الشخص ذا العيوب الكثيرة، إلى درجة أنه وضعني موضع الخائن للوطن، فإنني أتهمه أيضًا بعدم حبه للجيش، ذلك لأنه عندما يعطي إلى صديقه ذاك كلَّ الشرف وكل المغانم المعنوية، فإنه يكون بذلك قد جرد الجيش من الشرف، بينما الحقيقة هي وجوب توزيع الأمور الإيجابية والحسنات والأفضال على الجماعة وعلى الجيش، أما الأمور السلبية والتقصيرات والتخريبات فيجب توجيهها إلى القيادة وإلى الرأس المدبر وإلى الممسك بزمام الأمور.

ذلك لأن وجود أي شيء لا يتحقق إلا بتحقق جميع شرائطه وأركان وجوده، والقائد هنا شرط واحد فقط من هذه الشروط؛ أما انتفاء أي شيء وفسادُه فيكفي له عدم وجود شرط واحد أو فساد ركن واحد فقط؛ لذا يمكن عزو ذلك الفساد إلى الرأس المدبر وإلى الرئيس، لأن الحسنات والأمور الجيدة تكون عادة إيجابية ووجودية، فلا يمكن حصرها على من هم في رأس الدولة، بينما السيئات والتقصيرات عدمية وتخريبية، ويكون الرؤساء هم المسؤولين عنها.

وما دام هذا هو الحق وهو الحقيقة، فكيف يمكن أن يقال لرئيس عشيرة قامت بفتوحات: “أحسنت يا حسن آغا”؟ وإذا غُلبت تلك العشيرة، وجّهت إلى أفرادها الإهانة والتحقير؟! إن مثل هذا التصرف يكون مجانبًا للحق تمامًا ومعاكسًا له.

وهكذا فإن ذلك المدعي العام الذي قام باتهامي قد جانب الحق والحقيقة وجانَبَ الصوابَ، ومع ذلك فهو بزعمه قد حكم باسم العدالة.

وعلى مثالِ خطأِ هذا الشخص فقد جاءني قُبيل الحرب العالمية السابقة في مدينة “وان” بعضُ الأشخاص المتدينين والمتقين وقالوا لي: “هناك بعض القواد تصدر منهم أعمالٌ ضد الدين، فاشترك معنا لأننا سنعلن العصيان عليهم”.

قلت لهم: “إن تلك الأعمال اللادينية وتلك السيئات تعود إلى أمثال أولئك القواد، ولا يمكن أن نحمّل الجيش مسؤوليتها، ففي هذا الجيش العثماني قد يوجد مائة ألفٍ من أولياء اللّٰه، وأنا لا أستطيع أن أَمتشق سيفي ضد هذا الجيش، لذا لا أستطيع أن أشترك معكم”.

فتركني هؤلاء، وشهروا أسلحتهم، وكانت النتيجة حدوثَ واقعة “بتليس”6واقعة بتليس: عصيان قامت به العشائر الكردية المحيطة بمدينة بتليس ضد حكم الاتحاد والترقي قبيل الحرب العالمية الأولى. التي لم تُحقق أي هدف، وبعد قليل اندلعت الحرب العالمية، واشترك ذلك الجيش في تلك الحرب تحت راية الدين ودخل حومة الجهاد، فارتقت منه مئات الآلاف من الشهداء إلى مرتبة الأولياء، فقد وقّعوا بدمائهم على شهادات الولاية، وكان هذا برهانًا وتصديقًا على صحة سلوكي وصواب تصرفي في تلك الدعوى.

على أية حال.. لقد اضطررت إلى الإطالة قليلًا، وقد ساقتني إليها تصرفاتُ المدعي العام العجيبة والمتسمة بالإهانة تجاهي وتجاه رسائل النور؛ مع أن من الواجب عند مَنْ يتكلم باسم العدالة أن لا يَسمح لأية عواطف شخصية ولا لأية مؤثرات خارجية بالتأثير عليه وجرِّه إلى الخطأ وإن كان جزئيًّا، أو إلى عدم الحياد، وإلى الحكم بانفعالات شخصية ونفسية.

[أساس 4: لماذا الاتهام بعد التبرئة؟]

الأساس الرابع بعد أن قامت محكمة “أسكي شهر” بتدقيق مئات الرسائل والخطابات طوال أربعة أشهر، أعطت حكمًا بالسجن ستة أشهرٍ لخمسة عشر شخصًا فقط من بين مائة وعشرين متهمًا، أما بالنسبة لي فقد حُكم عليّ بالسجن سنة واحدة.

فمع أنهم دققوا مائة رسالةٍ (من رسائلي) فلم يجدوا فيها شيئًا سوى خمسَ عشرة كلمة في رسالة أو في رسالتين، وصدر القرار ببراءتي في مسائل تشكيل الطرق الصوفية والجمعيات السياسية وفي موضوع القبعة، وقد قضينا مدة الحكم في السجن.

وبعد ذلك وفي “قسطموني” لم يجدوا شيئًا لإدانتي مع أنهم تحروا وبحثوا وفتشوا كثيرًا ولعدة مرات.

وقبل سنوات وَضَعَت الحكومة يدَها في “إسبارطة” على جميع أجزاء رسائل النور بلا استثناء، العلنية منها والسرية الخاصة، وبعد تدقيق هذه الرسائل لمدة ثلاثة أشهر أعادَتْها إلى أصحابها.

وبعد عدة سنوات بقيتْ جميعُ الرسائل تحت تدقيق محكمة “دنيزلي” ومحكمة “أنقرة” لمدة سنتين، ثم أُعيدت جميعها إلينا.

إذن فما دامت هذه هي الحقيقة فإن القيام باتهامي واتهامِ رسائل النور و”طلبةِ رسائل النور” من قِبل أناس يتكلمون باسم القانون ولكنهم يتصرفون بحقد ويلوموننا تحت تأثيرِ أهواء ومشاعر شخصية وبشكل غير قانوني، لا يعني اتهامنا فقط، بل يعني قبل ذلك اتهامَ محكمة “أسكي شهر”، وكذلك اتهامَ حكومة “قسطموني”، واتهامَ موظفي الأمن في تلك الولاية، ويعني أيضًا اتهامَ جهاز العدالة في “إسبارطة” وكذلك محكمة “دنيزلي” ومحكمة الجنايات الكبرى في “أنقرة”.

أي إنهم يقومون بإشراك كل هذه المؤسسات معنا في الذنب (إن كان لنا أي ذنب)؛ لأنه لو كان لنا أي ذنب فمعنى ذلك أن الجهات الأمنية في تلك الولايات الثلاثة أو الأربعة لم تستطع أن ترى شيئًا رغم مراقبتها الدقيقة، أو أنها رأت ولكنها أغمضت عيونها، كما أن تلك المحكمتين لم تستطيعا معرفة ذلك مع قيامهما بالفحص الدقيق طوال سنتين، أو أنهما لم يُقرَءا باهتمام، إذن فإن هذه الجهات تكون هي المتهَمة أكثر مما نكون نحن.

هذا علمًا بأنه لو كانت لدينا رغبة في التوجه إلى الأمور الدنيوية، لما كان الصوت الصادر منا مثل طنين الذباب، بل لكان صوتًا هادرًا كدويّ المدافع.

أجل، إن رجلًا دافع بكل شدة وصلابة دفاعًا مؤثرًا ودون خوف أو وجل أمام المحكمة العرفية العسكرية التي انعقدت بسبب أحداث ٣١ مارت7حوادث ٣١ مارت: هي حركةُ تمرد في الجيش عام ١٩٠٩م تسببت في اندلاعها جماعةُ الاتحاد والترقي واتهموا السلطان عبد الحميد بإثارتها كمبرر لعزله، مع أن السلطان نفى هذا الاتهام وطلب تشكيل لجنة تتقصى الحقائق إلا أن الاتحاديين رفضوا ذلك وعزلوا السلطان.، وفي مجلس المبعوثان دون أن يبالي بغضب مصطفى كمال وحِدَّته.. كيف يُتهم هذا الشخص بأنه يدير سرًّا خلال ثماني عشرة سنة ودون أن يشعر به أحد مؤامرات سياسية؟!

إن من يقوم بمثل هذا الاتهام لا شك أنه شخص مغرض؛ وكما أمَّلنا من المدعي العام لمحكمة “دنيزلي”، فإننا نأمل من المدعي العام لمحكمة “أفيون” أن ينقذنا من اعتراضات هؤلاء المغرضين ومن أحقادهم، وأن يُظهر وجهَ العدالة وحقيقتَها.

[أساس 5: دستور طلاب النور تجاه السياسة]

الأساس الخامس إن من الدساتير الأساسية لطلبة النور هو عدمُ التعرض قدر الإمكان للسياسة ولأمور الحكومة وشؤونها وإجراءاتها، ذلك لأن القيام بخدمة القرآن بإخلاص يكفيهم ويُغنيهم عن أي شيء آخر.

ثم إن الداخلين الآن ساحةَ السياسة مع وجود تيارات قوية سائدة لا يستطيع أحد منهم أن يحافظ على استقلاليته وعلى إخلاصه، لأنَّ تيارًا من هذه التيارات سيجرّه إليه ويجعله يعمل لحسابه ويستغله في مقاصده الدنيوية، مما يؤدي إلى الإخلال بقدسية عمله وخدمته.

ثم إن أشد أنواع الظلم مع أشد أنواع الاستبداد قد أصبحا دستورًا وقانونًا من قوانين الصراع والنـزاع المادي في هذا العصر، وهذا يعني أن كثيرًا من الأبرياء يذهبون ضحيةَ خطأِ فردٍ واحد، أو يقع هذا الفردُ مغلوبًا على أمره.. عند ذلك يَتوهم مَن هَجَر دينَه من أجل دنياه أو جعل دينَه وسيلةً لدنياه أن حقائق القرآن المقدسة -التي لا ينبغي أن تُستغل لأي شيء- قد تم استغلالُها في ساحة الدعاية السياسية.

ثم إن أفرادَ الأمة بجميع طبقاتها.. المعارضين منهم أو المؤيدين، الموظفين منهم أو العامة.. جميعَهم لهم حصة في تلك الحقائق القرآنية وهم بحاجة إليها، لذا كان على طلبة النور أن يبقوا محايدين تمامًا، وكان من الضروري لهم عدمُ الخوض في السياسة وفي الصراع المادي وعدمُ الاشتراك فيه.

[أساس 6: رسائل النور فيضٌ قرآني فوق التهمة]

الأساس السادس لا يجوز التهجم على رسائل النور بحجةِ وجودِ قصورٍ في شخصي أو في بعض إخواني، ذلك لأن رسائل النور مرتبطة بالقرآن مباشرة، والقرآن مرتبط بالعرش الأعظم، إذن فمن ذا يجرُؤ أن يمد يده إلى هناك، وأن يحل تلك الحبال القوية؟

ثم إن رسائل النور لا يمكن أن تكون مسؤولة عن عيوبنا وعن قصورنا الشخصي، لا يمكن هذا ولا يجوز أن يكون أبدًا، حيث إن بركتها المادية والمعنوية وخدماتها الجليلة لهذه البلاد قد تحققت بإشاراتِ ثلاث وثلاثين آية قرآنية وبثلاث كرامات غيبية للإمام علي رضى اللّٰه عنه وبالإخبار الغيبي للشيخ الكيلاني قدس سره، وإلا فإن هذا البلد سيواجه خسائر وأضرارًا مادية ومعنوية لا يمكن تلافيها.

وسيَرتد كيدُ الأعداء الخفيين لرسائل النور من الملاحدة إلى نحورهم وستفشل بإذن اللّٰه الخططُ الشيطانية التي يحيكونها والحملات التي يشنونها عليها؛ ذلك لأن طلبة النور ليسوا مثل الآخرين، فبِعون اللّٰه تعالى وعنايته لا يمكن تشتيتهم، ولا حملهم على ترك دعوتهم، ولا التغلب عليهم.

ولو لم يكن القرآن مانعًا عن الدفاع المادي فإن طلبة النور -الذين كسبوا محبة جماهير هذه الأمة وتقديرها في حكم شريان في هذه الأمة- والذين هم موجودون في كل مكان، لن يشتركوا في حادثة جزئية كحادثة الشيخ سعيد أو حادثة “مَنَمَن”، إذ لو وقع عليهم -لا سمح اللّٰه- ظلم شديد إلى درجة الضرورة القصوى، وهوجِمت رسائل النور، فإن الملاحدة والمنافقين الذين خدعوا الحكومة سيندمون لا محالة ندمًا شديدًا.

والخلاصة أنه ما دمنا لا نتعرض لدنيا أهل الدنيا، فيجب عليهم أن لا يتعرضوا لآخرتنا ولا لخدماتنا الإيمانية.

 [حول الموقف من النظام الجمهوري]

(أدرج فيما يلي خاطرةً قديمة وقصةَ دفاعٍ لطيفةً حول محكمة “أسكي شهر” بقيت مخفيةً حتى الآن ولم تُدرج في المضابط الرسمية للمحكمة، كما لم ترد في دفاعي أمام تلك المحكمة).

سألوني هناك: ما رأيك حول النظام الجمهوري؟

فقلت لهم: تستطيعون أن تتأكدوا من كتاب “تاريخ حياتي” الموجود لديكم بأنني كنت شخصًا متدينًا ومن أنصار النظام الجمهوري، وذلك قبل أن تأتوا أنتم إلى الدنيا.. هذا باستثناء رئيس المحكمة المتقدم في العمر.

وخلاصة ذلك أنني كنت آنذاك منـزويًا -كحالي الآن- تحت قبة خالية، فكانوا يأتون لي بالحساء، وكنت أقوم بإعطاء النمل حبات الحساء واكتفي بغمس الخبز في سائل الحسـاء.

سألوني في محكمة “أسكي شهر” عن السبب؟

فقلت: “إن أمة النمل وكذلك النحل تعيـش في نظام جمهوري، وأعطي النمل الحبات احترامًا لنظامها الجمهوري”.

ثم قالوا: “أنت تخالف بذلك السلف الصالح”.

فأجبتهم: “لقد كان الخلفاء الراشدون خلفاء ورؤساء جمهورية في الوقت نفسه، فالصِّدِّيق الأكبر رضي اللّٰه عنه كان دون شك بمثابة رئيس جمهورية للعشرة المبشرة وللصحابة الكرام، ولكن ليس تحت عنوان أو شكل فارغ، بل كل منهم رئيس جمهورية متدين يحمل معنى العدالة الحقيقية والحرية الشرعية.

إذن فيا أيها المدّعي العام ويا أعضاء المحكمة.. أنتم تتهمونني الآن بمعاداة فكرٍ كنت أحمله منذ خمسين سنة، أما إنْ كان سؤالُكم حول الجمهورية العلمانية فإن ما أعلمه هو أن معنى العلمانية هو البقاء على الحياد، فكما لا تتعرض مثلُ هذه الحكومة للملحدين ولأهل السفاهة بحجة حرية الضمير فيجب أن لا تتعرضَ لأهل الدين ولأهل التقوى.

وإنني الآن لا أعلم الأوضاع السياسية والأحوال التي تعيش فيها الحكومةُ الجمهورية، لأنني قد اعتزلت الحياة الاجتماعية منذ خمس وعشرين سنة، فإن كانت قد دخلت في مرحلة مرعبة ومذهلة من العمل لحساب الملاحدة وبدأت بسنّ القوانين التي تدين من يعمل لآخرته ولإيمانه -والعياذ باللّٰه- فإني أقول لكم دون خوف أو خشية: إنه لو كان لي ألف نفس لما ترددت في التضحية بها في سبيل إيماني وفي سبيل آخرتي، واعملوا أنتم ما بدا لكم، وسيكون آخر كلامي: ﴿حَسْبُنا اللّٰه وَنِعْمَ الوَكيلُ﴾.

ولو قمتم بإعدامي ظلمًا أو بسجني مع الأشغال الشاقة فإنني سأردُّ عليكم بقولي:

إنني وبفضل ما كشفَته رسائل النور بصورة قاطعة لن أُعدَم، بل أُسرّح وأَذهب إلى عالم النور والسعادة، أما أنتم يا أعداءنا المتسترين والمتخفين الذين تسحقوننا لأجل الضلالة فأقول لكم بأنني متهيئٌ لكي أُسلّم الروح باطمئنان وبراحة قلب، لأنني أعلم وأرى أنه سيُحكم عليكم بالإعدام الأبدي وبالحبس الانفرادي المؤبَّد، لذا فإن انتقامي منكم سيكون تامًا وكاملًا. هذا ما قلتُه لهم.

 [أساس 7: لسنا تنظيمًا سياسيًّا]

الأساس السابع: استنادًا إلى بعض التحقيقات السطحية -التي جرت في أماكن أخرى- فقد اتهمَتنا محكمةُ “أفيون” بالسعي لإنشاء جمعية سياسية.

وأنا أقول جوابًا على هذا:‌

أولًا: إن جميع مَن صادقني يشهد بأنني لم أقرأ جريدةً واحدة منذ تسعة عشر عامًا ولم أستمع إليها ولم أسأل عنها، وفي ظرفِ عشرةِ أعوام وخمسةِ أشهر لم أعرف من الأخبار سوى هزيمةِ ألمانيا والخطر الشيوعي، لم أعرف أيَّ خبر آخر ولم يكن عندي فضول أو رغبة للمعرفة..

إذن فمثل هذا الشخص لا يمكن أن تكون له أدنى علاقة بالسياسة ولا الجمعيات السياسية.

ثانيًا: إن رسائل النور البالغَ عددُها مائة وثلاثين رسالة، موجودةٌ كلها في متناول اليد وأمام الأنظار، وقد اقتنعتْ محكمةُ “أسكي شهر” بأنه لا يوجد في رسائل النور أيّ هدف آخر وأية غاية دنيوية عدا حقائق الإيمان، لذا لم تتعرض إلّا لرسالة واحدة أو لرسالتين.

أما محكمة “دنيزلي” فلم تتعرض لأية رسالة، كما أن جهاز الأمن الضخم في “قسطموني” بالرغم من قيامه بالترصّد والمراقبة الدائمة طوال ثمانية أعوام لم يجد من يتهمه سوى شخصين كانا يعاونانني في شؤوني وثلاثة أشخاص آخرين بأسباب واهية، وهذا حجةٌ قاطعة بأن طلاب النور لا يشكّلون بأي حال من الأحوال جمعيةً سياسية.

أما إن كان مفهومُ الجمعية عند الادعاء العام هو جماعة إيمانية تعمل لآخرتها، فإننا نقول جوابًا له: لو قمتم بإطلاق تسمية الجمعية على طلاب دار الفنون (الجامعة) وعلى أصحاب كل مهنة من المهن، عند ذاك يمكن إطلاق اسم الجمعية -بهذا المفهوم- علينا.

أما إن كان المقصود هو جماعة تقوم بالإخلال بالأمن الداخلي ببواعث دينية فإننا نردّ على ذلك بأن عدم تورط طلاب النور طوال عشرين سنة بأية حادثة مخلّة بالأمن الداخلي في أي مكان، وعدمَ تسجيل أي شيء ضدهم في هذا الخصوص لا من قبل الحكومة ولا من قبل المحاكم، لَدليلٌ ساطع على بطلان هذه التهمة.

أما إن كنتم تتوهمون أن تقوية المشاعر الدينية ستؤدي في المستقبل إلى الإخلال بالأمن الداخلي وأن هذا هو ما تقصدونه من توجيه تهمة الجمعية إلينا فإننا نقول:

أولًا: إن جميع الوعاظ (وعلى رأسهم رئاسة الشؤون الدينية) يؤدون الخدمات نفسها.

ثانيًا: إن طلبة النور ليسوا بعيدين فقط عن الإضرار بالأمن والإخلال بالاستقرار، بل إنهم يعملون بكل قواهم وبكل قناعاتهم لحفظ الأمة من الفوضى والفتن، ويحاولون بكل جهدهم تأمين الاستقرار والأمن والدليلُ على هذا هو ما جاء في الأساس الأول أعلاه.

أجل، نحن جماعة هدفُنا وبرنامجُنا إنقاذ أنفسنا أولًا ثم إنقاذ أُمتنا من الإعدام الأبدي ومن السجن البرزخي الانفرادي المؤبّد، ووقاية مواطنينا من حياة الفوضى والسفاهة، ومحافظةُ أنفسنا (بالحقائق القوية الفولاذية الواردة في رسائل النور) من الإلحاد الذي يروم القضاء على حياتنا في الدنيا وفي الآخرة.

[أساس 8: رسائل النور خاليةٌ من الشُّبَه]

الأساس الثامن إنهم يقومون بتوجيه التُّهم إلينا استنادًا إلى بعض الجمل المؤثرة الواردة في رسائل النور، واستنادًا إلى بعض التحقيقات السطحية التي جرت في بعض الأماكن، ونقول نحن جوابًا على هذا:

ما دامت غايتُنا محصورةً في الإيمان وفي الآخرة وليست في الصراع والنـزاع والمبارزة مع أهل الدنيا..

وما دام التعرض الجزئي القليل جدًّا الوارد في رسالة أو رسالتين لم يكن مقصودًا من قِبَلنا، بل ربما ارتطمنا بهم عرَضًا ونحن نسير نحو هدفنا، لذا لا يمكن عدّه غرضًا سياسيًّا..

وما دامت الاحتمالاتُ والإمكانات تعدّ شيئًا والوقائع شيئًا آخر، ذلك لأن الاتهام الموجه ليس في أننا قمنا بالإخلال بالأمن بل هو “يُحتمل” أو من الممكن أن نخلّ بالأمن، وهو اتهام باطل ولا معنى له، ويشبه اتهام أي شخص باقتراف جريمةِ قتل لأن من الممكن أن يقوم بذلك، علمًا أن المحاكم في “أسكي شهر” وفي “قسطموني” وفي “إسبارطة” وفي “دنيزلي” لم تستطع العثور (بالرغم من تدقيقها الشديد) على أي دليلِ اتهام في آلاف النسخ من الرسائل والمكاتيب المتبادلة بين عشرات الآلاف من الأشخاص طوال عشرين عامًا، ومع أن محكمة “أسكي شهر” لم تعثر على شيء سوى رسالةٍ صغيرة، فاضطرت باستعمالِ مادة قانونية مطاطة إلى إلقاء المسؤولية علينا، ومع أنها تصرفتْ بشكل يُدين كل من ألقى درسًا دينيًّا إلّا أنها مع ذلك لم تستطع إلا إصدار الحكم بإدانة خمسة عشر شخصًا فقط من بين مائة شخص ولمدة ستة أشهر، ولو افترضنا أنَّ شخصًا مثلنا كان بينكم وتم القيام بتدقيق عشرين رسالة من رسائله الخاصة التي كتبها في ظرف سنة واحدة.. لو تم هذا ألا يمكن العثور في هذه الرسائل على عشرين جملة تضعه في موقف حرج وفي موقف المسؤولية؟

لذا فإن العجز عن العثور على عشرين جملة حقيقية تدين صاحبها من بين عشرين ألف نسخة من الرسائل والمكاتيب لعشرين ألف شخص طوال عشرين سنة برهان قاطع على أن الهدف المباشر لرسائل النور هو الآخرة، ولا علاقة لها بالدنيا.

[أساس 9: لا يوجد ما نُدان به]

الأساس التاسع: لقد سُجل في قرار الادعاء لمحكمة “أفيون” الموادُّ التي أوردها المدعى العام المنصف لمحكمة “دنيزلي”، وحكامُ التحقيق غير المنصفين والسطحيين في أماكن أخرى، وبدلالةِ ما عوملنا من معاملات أثناء التحقيق، والمواد هي نفسها وأبرزت المكاتيب من دون تاريخ يُذكر، والمراسلات التي تمت خلال عشرين أو خمس عشرة سنة أو عشر سنوات، فتلك المواد أُجيب عنها في الأساس الثالث والسؤال الثاني في ادعائي، والتي تدور حول الشعاع الخامس والرسائل البالغة مائة وثلاثين رسالة ومكاتيب مرت بالتدقيق في محكمة “أسكي شهر” وقضينا عقابه وشملَتها قوانينُ العفو، وبرأت ساحتَها محكمةُ “دنيزلي”، فالآن يحاولون أن يجدوا معاذير واهية من تلك الرسائل كي تكون موادَ اتهام لنا.

فيا تُرى إن الذي أخضع بخطاب منه ثمانيَ كتائبَ من الجيش في حادثةِ “٣١ مارت” مع أنهم لم يعيروا سمعًا لشيخ الإسلام ولا لكلام العلماء، هل يمكن أن يُقنِع ويَستغفِل طوال ثماني سنوات أمثالَ هؤلاء الرجال فقط؟ فهل يمكن أن يُقال إنه تمكّن فحسب من استغفال خمسة رجال في ولاية عظيمة، ولايةِ قسطموني؟

فلقد أخرجتم جميعَ كتبي والرسائل الخاصة والسرية منها والعلنية في “قسطموني” وحوادث “دنيزلي”. وبعد إجراء التدقيق عليها -لمدة ثلاثة أشهر- لم يعثروا في تلك الولاية العظيمة على غير فيضي وأمين وحلمي وتوفيق وصادق.

فهؤلاء الخمسة كانوا يعاونونني في أعمالي الشخصية ابتغاء وجه اللّٰه. وعثروا في ظرفِ ثلاث سنوات ونصف السنة في “أميرداغ” على ثلاثة أصدقاء، وبعثوهم إليّ.

فلو كنت أعمل كما ورد في تلك التحقيقات السطحية، لكنتُ أستطيع استغفال خمسمائة شخص لا خمسة أشخاص أو عشرة، بل لكنت أستطيع استغفال خمسة آلاف شخص بل خمسمائة ألف.

أُبيّن ما قلتُه في محكمة “دنيزلي” للحقيقة ولإظهار مدى خطئهم. وأدناه أُورِدُ نموذجًا أو نموذجين منها: إنهم يؤاخذوننا لقيامنا بجمع آيات كريمة من القرآن الكريم تُعين على التفكر في آيات اللّٰه -في الكون- تلك التي هي منبع رسائل النور، وذلك اتباعًا لعادة إسلامية جرت منذ عصر النبوة. وسمّينا مجموعة تلك الآيات: “حزب القرآن” أيمكن أن يقال لمن يقوم بمثل هذا العمل: إنهم يحرفون الدين..

ثم إني رغم مقاساتي سنةً واحدة من العقاب النازل بي حول “رسالة الحجاب” التي عثروا عليها تحت أكوام الحطب والوقود، نراهم يريدون إدانتنا بها كأنها استنسخت ونشرت هذه السنة.

ثم إنني لما اعترضت بكلمات قاسية على ذلك الشخص المعروف الذي تولى رئاسة الحكومة بأنقرة، لم يقابلني بشيء، بل آثر الصمت. إلّا أن بعد موته أظهرت حقيقةُ حديثٍ شريف خطأَه -كنت قد كتبته قبل أربعين سنة- فتلك الحقيقة والانتقادات التي كانت فطرية وضرورية واتخذناها سرية، وعامة غير خاصة على ذلك الشخص قد طبقها المدعي العام بحذلقة على ذلك الشخص، وجعلها مدار مسؤولية علينا. فأين عدالة القوانين التي هي رمز الأمة وتذكارها وتجل من تجليات اللّٰه سبحانه، من محاباة شخص مات وانقطعت علاقته بالحكومة.

ثم إننا جعلنا حريةَ الوجدان والعقيدة التي اتخذتْها حكومةُ الجمهورية أساسًا لها مدارَ استناد لنا. ودَافَعْنا عن حقوقنا بهذه المادة، ولكن اتخذتها المحكمةُ مدارَ مسؤولية وكأننا نعارض حرية الوجدان والعقيدة.

وفي رسالة أخرى انتقدتُ سيئات المدنية الحاضرة وبينت نواقصها، فأُسند إليّ في أوراق التحقيق شيء لم يخطر ببالي قط، وهو إظهاري بمظهر من يرفض استعمال الراديو8لأجل تقديم الشكر للّٰه تجاه نعمة الراديو، وهى نعمة إلهية عظمى، فقد قلت: “إن ذلك يكون بتلاوة القرآن الكريم من الراديو كي يُسمع ذلك الصوت الندي إلى العالم أجمع فيكون الهواء بذلك قارئًا للقرآن الكريم” (المؤلف). وركوبَ القطار والطائرة. فأكون مسؤولًا عن كوني معارضًا للرقي الحضاري الحاضر.

فقياسًا على هذه النماذج، يمكن تقدير مدى بُعد المعاملة عن العدالة. نأمل أن لا تهتم محكمة “أفيون” لما ورد في أوراق التحقيق من أوهام وشبهات كما لم تهتم بها محكمة “دنيزلي” العامة ومدعيها العام المنصف. وأغرب من جميع ما ذكر هو أن الطائرة والقطار والراديو التي تعتبر من نعم اللّٰه العظيمة وينبغي أن تقابَل بالشكر للّٰه، لم تقابِلها البشرية بالشكر فنـزلت على رؤوسهم قنابل الطائرات.

والراديو نعمة إلهية عظيمة بحيث ينبغي أن يكون الشكر المقدم لأجله في استخدامه جهازًا حافظًا للقرآن الكريم يُسمِع البشرية جمعاء. ولقد قلنا في “الكلمة العشرين“: إن القرآن الكريم يخبر عن خوارق المدنية الحاضرة، وبيّنّا فيها عند حديثنا عن إشارة من إشاراتِ آيةٍ كريمة، بأن الكفار سيَغلِبون العالم الإسلامي بوساطة القطار. ففي الوقت الذي أحثُّ المسلمين إلى مثل هذه البدائع الحضارية فقد جعلها بعض المدعين العامين لمحاكمَ سابقة مدارَ اتهام لنا وكأنني أعارض هذه الاختراعات.

ثم إن أحدهم قال: إن رسالة النور نابعة من نور القرآن الكريم، أي إلهام منه، وهي وارثة، تؤدي وظيفةَ الرسالة والشريعة. فأَورد المدعى العام معنى خطأ فاضحًا ببيانه ما لا علاقة له أصلًا وكأن “رسالة النور رسول” وجعلوا ذلك مادةَ اتهام لي.

ولقد أثبتنا في عشرين موضعًا في الدفاع وبحجج قاطعة أننا لا نجعل الدين والقرآن ورسائل النور أداة ووسيلة لكسب العالم أجمع، ولا ينبغي أن تكون وسائل قطعًا. ولا نستبدل بحقيقة منها سلطنةَ الدنيا كلها. ونحن في الواقع هكذا. وهناك ألوف من الأمارات على هذه الدعوى.

ولكن يبدو من سير الادعاء لمحكمة “أفيون” وفي قرارها المبني على تحقيقات أخرى: أننا نبتغي الدنيا ولا نسعى إلّا لحبك المؤامرات وكسب حطام الدنيا ونجعل الدين أداة لمواد خسيسة تافهة ونعمل على الحط من قيمته.. فيتهموننا على هذا الأساس.

فما دام الأمر هكذا فنحن نقول بكل ما نملك: ﴿حَسْبُنا اللّٰه وَنِعْمَ الوَكيلُ﴾.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[تتمة الاعتراض المقدم إلى محكمة أفيون]

﴿باسمه سبحانه﴾

تتمة الاعتراض المقدم إلى محكمة “أفيون”‌

إن مخاطَبي في هذا الاعتراض ليس محكمةَ “أفيون” ولا مدّعيها العام، بل أولئك الموظفين العاملين هنا وفي دائرة التحقيقات ممن تساورهم الشكوكُ والأوهامُ والأغراض الشخصية، فيتخذون مواضعَ ضدّنا مستندين إلى تحقيقات ناقصة وإخباريات مختلقة استند إليها مدّعون عامون ومخبرون ومتحرون في أماكن أخرى.

[اتهامنا بأننا تنظيم سياسي: لا أصل له]

أولًا: إن إطلاق اسم “الجمعية” -التي لا تخطر على البال ولا أصل لها أساسًا- على طلاب رسائل النور الأبرياء الذين ليس لهم أيةُ علاقة بالسياسة، ومن ثم عَدُّ أولئك المساكين الداخلين في تلك الدائرة ممن ليس لهم غايةٌ غيرُ الإيمان والآخرة، أنهم ناشرو تلك الجمعية وأعضاؤها الفعالون ومن منتسبيها، أو جعلُ الذين قرؤوا رسائل النور أو استقرؤوها أو استنسخوها مذنبين ودفعُهم إلى المحكمة.. كل هذه الأمور بعيدةٌ بُعدًا واضحًا عن العدالة.

والحجة القاطعة عليها هي أنَّ الذين يقرؤون مؤلفاتٍ ضارةً كالسم الزعاف والتي تهاجم القرآن، كمؤلفات “الدكتور دوزي” وأمثاله من الزنادقة، لا يُعَدّون مذنبين حسب دستورِ حرية الفكر والحرية العلمية، بينما تُعَدّ ذنبًا قراءةُ وكتابةُ رسائل النور التي تبين الحقائق القرآنية والإيمانية وتعلّمها المحتاجين إليها حاجة ماسة والمشتاقين إليها وتوضّحها لهم وضوحَ الشمس الساطعة

ثم إنهم اتهمونا على بضع جُمل فحسب وردت في رسائل اتخذناها رسائل سرية -لئلا تُفسّر تفسيرًا خاطئًا، وذلك قبل الإعلان عنها في المحاكم- علمًا أن تلك الرسائل قد دققتها محكمة “أسكي شهر” -سوى واحدةٍ منها- واتخذت ما يستوجب الأمر لها، ولم تعترض إلّا على مسألة أو مسألتين من رسالة “الحجاب”، وقد أجبتُ عنها في عريضتي وفي اعتراضي بأجوبة قاطعة، وقلنا: “إن ما في أيدينا نورٌ ولا نملك صولجان السياسة”، وأثبتنا ذلك في محكمة “أسكي شهر” بعشرين وجهًا.

وإن محكمة “دنيزلي” قد دققت جميعَ الرسائل دون استثناء، ولم تعترض على أية رسالة منها.. ولكن أولئك المدَّعين غير المنصفين قد عمَّموا حكمَ تلك الجمَل المعترَض عليها التي لا تتجاوز جملتين أو ثلاثًا على جميع الرسائل، حتى صادروا مجموعة “ذو الفقار” البالغة أربعمائة صفحة لأجل صفحات منها فقط؛ وجعلوا قارئي الرسائل ومستنسخيها مذنبين، واتهموني بأنني أُعارض الحكومة وأتحدّاها.

إنني أُشهد أصدقائي القريبين منى والذين يقابلونني.. أُشهدهم مُقسِمًا باللّٰه: إنني منذ أكثر من عشر سنوات لا أعرف سوى رئيسين للجمهورية ونائبًا واحدًا في البرلمان ووالي “قسطموني”، فلا أعرف معرفةً حقيقيةً أحدًا غيرَهم من أركان الحكومة ووزرائها وقوادها وموظفيها ونوابها، وليس لي الفضول لمعرفتهم، إلّا أن شخصًا أو شخصين أظهرا قبل سنة علاقة نحوي فعرفتُ عن طريقهما خمسةً أو ستةً من أركان الحكومة.

فهل من الممكن لمن يريد مبارزة الحكومة أن لا يعرف مَن يبارز، ولا يتحرك فيه الفضول لمعرفتهم، ولا يهتم بمن يواجههم، أهُم أعداءٌ أم أصدقاء؟

يُفهم من هذه الأحوال أنهم يختلقون معاذيرَ لا أصل لها قطعًا، فما دام الأمر هكذا، فإنني أقول لأولئك الظلمة غير المنصفين ولا أخاطب هذه المحكمة:

إنني لا أعير أقلَّ اهتمام بما تعتزمون إنزالَه بي من عقاب، مهما بلغت درجتُه من الشدة والقسوة، لأنني على عتبة باب القبر، وفي السن الخامسة والسبعين من عمري، فهل هناك سعادةٌ أعظمُ من استبدال مرتبة الشهادة بسنة أو سنتين من حياة بريئة ومظلومة كهذه؟

ثم إنني موقنٌ كلَّ اليقين ولا يخالجني أدنى شك في أن الموت بالنسبة لنا تسريح وتأشيرةُ دخول إلى عالم الطمأنينة والسعادة، ولنا آلاف البراهين من رسائل النور على ذلك، وحتى إنْ كان الموتُ إعدامًا ظاهريًّا لنا، فإن مشقةَ ساعة من الزمان تتحول بالنسبة لنا إلى سعادة ومفتاح للرحمة وفرصة عظيمة للانتقال إلى عالم البقاء والخلود.

أما أنتم يا أعداءنا المتسترين ويا أولئك الذين يضللون العدالة في سبيل إرضاء الزندقة ويتسببون في خلق الأوهام الزائفة في أذهان المسؤولين في الدولة لينشغلوا بنا دون داعٍ أو سببٍ.. اعلموا قطعًا -ولترتَعدْ فرائصُكم- أنكم تحكمون على أنفسكم بالإعدام الأبدي وبالسجن الانفرادي الدائم، وأن الانتقام لنا يؤخذ منكم أضعافًا مضاعفة، فها نحن أولاء نرى ذلك ونشفق عليكم، ولا شك أنَّ حقيقة الموت التي ظلّت تُفرغ هذه المدنية مائة مرة إلى المقابر، لا بد أن تكون لها غايةٌ ومطلبٌ فوق غاية العيش والحياة، وإن محاولة الخلاص من براثن ذلك الإعدام الأبدي هي قضية في مقدمة القضايا الإنسانية، بل هي من أهم الضروريات البشرية وأشدها إلحاحًا.

فما دامت هذه هي الحقيقة، أفَليس من دواعي العجَب والغرابة أن يَتهم نفرٌ من الناس طلابَ رسائل النور -الذين اهتدوا إلى ذلك السر وعثروا على تلك الحقيقة-، ويلصقوا اتهامات باطلة برسائل النور التي أَثبتت تلك الحقيقةَ نفسها بآلاف الحجج والبراهين؟ إن كل مَن له مسكة من عقل -بل حتى لو كان مجنونًا- يدرك تمام الإدراك بأن أولئك النفر باتهاماتهم تلك إنما يضعون أنفسهم موضع الاتهام أمام الحقيقة والعدالة.

[سبب اتهامنا بأننا تنظيم سياسي]

إن هناك ثلاث مواد توهم بوجود جمعية سياسية لا علاقة لنا بها أصلًا، هي التي خدعت هؤلاء الظلمة.

أولاها: العلاقة الوطيدة التي تربط طلابي منذ السابق، قد أوحت لهم وجودَ جمعية.

الثانية: أنَّ بعضًا من طلاب رسائل النور يعملون بأسلوب جماعي كما هو لدى الجماعات الإسلامية الموجودة في كل مكان، والتي تسمح بها قوانين الجمهورية ولا تتعرض لها؛ لذا ظنَّ البعضُ فيهم أنهم جمعية، والحال أنَّ نيَّة أولئك الأفراد القليلين ليس تشكيل جمعية أو ما شابهها، بل هي أخوّة خالصة وترابُط وثيق أخروي بحت.

الثالثة: أنَّ أولئك الظلمة يعرفون هم أنفسهم أنهم قد غرقوا في عبادة الدنيا وضلوا ضلالًا بعيدًا، ووَجدوا بعضَ قوانين الحكومة منسجمة معهم، لذا يقولون ما يدور في ذهنهم: إن سعيدًا ورفقاءه معارضون لنا ولقوانين الحكومة التي تساير أهواءنا، فهم إذن جمعية سياسية.

وأنا أقول: أيها الشقاة.. لو كانت الدنيا أبديةً خالدة، ولو كان الإنسان يظل فيها خالدًا، ولو كانت وظائفُه منحصرةً في السياسة وحدها، ربما يكون لفِرْيَتكم هذه معنى. ولكن اعلموا أنني لو دخلت العمل من باب السياسة لكنتم ترون ألفَ جملةٍ وجملة صيغت بأسلوب التحدي السياسي، لا عشرَ جمل في رسالة.

ولنفرض فرضًا محالًا أننا نعمل -كما تقولون- ما وَسِعَنا لمقاصد دنيوية وكسبِ مُتَعها الرخيصة والحصولِ على سياستها -ذلك الفرض الذي لم يحاول الشيطان أن يقنع به أحدًا- فما دامت جميعُ وقائعنا طوال عشرين سنة لا تُبرز شيئًا لملاحقتنا، إذ الحكومة تنظر إلى كسب الشخص لا إلى قلبه، والمعارضون موجودون في كل حكومة بشكل قوي، فلا شك أنكم لا تستطيعون أن تجعلونا في موضع التهمة بقوانين العدالة.

كلمتي الأخيرة:‌ ﴿حسبي اللّٰه لا إله إلّا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم﴾.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[حادثة غير قانونية بعشرة وجوه]

“حادثة غير قانونية”

[إعادة سجننا بعد التبرئة حادثةٌ غير قانونية من عشرة وجوه]

بعد براءتنا من محكمة “دنيزلي” ورغم اعتزالي الناسَ وانسحابي إلى الاعتكاف طوال ثلاث سنوات تاركًا السياسة كليًّا، فإن هذه الحادثة الجديدة التي أفضَتْ بنا إلى سجنِ “أفيون” لا تَمُتُّ إلى القانون بشيء، بل غيرُ قانونية بعشرة وجوه:

[1]

الأول إن رسائل النور قد مرّت بثلاث محاكم، وثلاث هيئات للخبراء، ومن سبع مراجع مسؤولة في “أنقرة”، وعند كثير من مدققي العدلية، في ظرف سنتين.. فاتفقوا كلهم من دون استثناء على براءة جميع الرسائل وبراءةِ “سعيد” ومن معه من أصدقائه البالغ عددهم خمسة وسبعين شخصًا، ولم يعاقَبوا حتى بجزاء يوم واحد، وعلى الرغم من هذا فإن تجاوزهم على تلك الرسائل وكأنها أوراق مخلّة بأمن البلد، يَجعل كل من يملك مسكة من الإنصاف أن يدركَ مدى خروج الأمر عن القانون.

[2]

الثاني إن الذي ظَلَّ في الانـزواء والاعتكاف في “أميرداغ” طوال ثلاث سنوات بعد البراءة، وعاش غريبًا، حتى إنَّ بابَه كان يُغلَق من الداخل والخارج معًا، ولا يَقبل أحدًا من الناس لمقابلته إلّا للضرورة القصوى، والذي تخلَّى حتى عن التأليف الذي كان مستمرًا عليه طوال عشرين سنة، يأتي المتحرّون ويكسرون قفلَ الباب ويداهمون غرفته إجراءً لسياسة دنيوية!

[3]

الثالث إنه كما قال في المحكمة: أنَّ من لم يهتم بأخبار الحرب العالمية -بشهادة سبعين شاهدًا- ولم يستفسر عنها، وما زال مستمرًا على حاله، ولم يقرأ أية صحيفة كانت منذ خمس وعشرين سنة ولم يستمع إليها، والذي قال: “أعوذ باللّٰه من الشيطان والسياسة” منذ ثلاثين سنة، ونفَرَ من السياسة بكل ما لديه من قوة، وقاسى ما قاسى من العذاب طوال اثنين وعشرين عامًا، ولم يراجِع ولو لمرة واحدة الدوائرَ الحكومية -لضمان راحته- دفعًا لجلب الأنظار إليه حيث إنه لا يتدخل بالأمور السياسية.. فعلى الرغم من كل هذا أيوافقُ القانونَ مداهمةُ منـزله ومعتكَفه وكأنه يدير المؤامرات السياسية، وشدُّ الخناق عليه بما لم يُرَ مثله؟! إن مَنْ يملك وجدانًا ولو بمثقال ذرة يتألم على هذا الوضع.

[4]

الرابع بعد تدقيق دام ستة أشهر في محكمة “أسكي شهر” تمت تبرئة رسائل النور من تُهمِ محاولةِ تشكيل جمعية سياسية أو تأسيس طريقة صوفية. ومع أن الرئيس الكبير حرض بعض أفراد وزارة العدل وموظفيها مدفوعًا إلى ذلك بأوهامه وبحقده الشخصي، إلا أن رسائل النور بُرِّئت من تهمة تشكيل أية جمعية وأية طريقة صوفية، هذا ما عدا “رسالة الحجاب” (التي تُعدّ جزءًا صغيرًا فقط من رسائل النور) حيث جعلوها تكأة وحُجة -ليست قانونية بل بقناعة شخصية ووجدانية- مما أدّى هذا الأمر إلى الحكم بالسجن لمدة ستة أشهر لعدد من طلاب النور لا يتجاوز عددُهم عشرةَ طلاب من بين مائة منهم، ولما كان هؤلاء موقوفين منذ أربعة أشهر ونصف حتى موعد فحص الرسائل وتدقيقها فإنهم لم يُسجَنوا سوى شهر ونصف الشهر.

وبعد عشر سنوات قامت محكمة “دنيزلي” أيضًا بتدقيقِ وتمحيصِ جميع ما كُتب من مكاتيب ورسائل ومؤلفات في عشرين سنة تدقيقًا جيدًا دام تسعة أشهر -على إثر اتهام هذه المؤلّفات بالتحريض على تأسيس جمعية أو طريقة صوفية- وأُرسلت إلى محكمة الجزاء الكبرى في “أنقرة” خمسة صناديق من هذه الكتب، حيث دُققت تلك الرسائل والكتب سنتين اثنتين من قبل محكمة الجزاء الكبرى في “أنقرة” ومحكمة “دنيزلي”، واتفقت المحكمتان بالإجماع على تبرئة هذه الرسائل والكتب من التُّهم الموجهة إليها كتشكيل جمعية أو طريقة صوفية وما شابهها من التُّهم9إن أساس رسائل النور وهدفها هو إظهار الحقيقة القرآنية والعملُ من أجل “الإيمان التحقيقي”؛ لذا فقد حصلت على قرار بالتبرئة عن تهمةِ تشكيلِ طريقة صوفية من ثلاث محاكم.

ثم إنه ما من شخص ادعى خلال عشرين سنة أن “سعيدًا أعطاني إذنًا بالدخول والانتساب إلى طريقة صوفية”.

ثم إنه لا يجوز أن يكون انتسابُ أكثريةِ أجدادِ هذه الأمة منذ ألف عام إلى مسلك معين سببًا في اتهامه أو تحميله مسؤولية ما.

ثم إن المنافقين المتسترين يُلصقون اسم “الطريقة” على حقيقة الإسلام. فلا يُتهم كل من يتصدى للدفاع عن دين هذه الأمة بأنه صاحب “طريقة”.

أما تهمة الجمعية، فالذي عندنا هو أخوة إسلامية هدفها أخوة أخروية، وليست جمعية سياسية، لذا فقد أصدرت محاكم ثلاث قراراتِها بالتبرئة أيضًا من هذه التهمة. (المؤلف).

 وإعادتها إلى أصحابها كما برّأت سعيدًا وأصدقاءه.

إذن كم يكون خروجًا على القانون اتهامُ “سعيد” باعتباره “رجلًا سياسيًّا يسعى لتشكيل جمعية” أو “رجل مؤامرات” أو ما شابه ذلك، وتحريضُ موظفي العدالة ضدَّه باعتباره “رجل طريقة”؟! يَعلم ذلك كلُّ من لم يمُت شعورُه.

[5]

الخامس لما كانت “الشفقة” دستورَ حياتي منذ ثلاثين سنة، وأساسَ مسلكي ومسلك رسائل النور، فإنني لا أتجنّب التعرض للمجرمين الذين ظلموني وحدَهم، بل لا أستطيع حتى مقابلتَهم بالدعاء عليهم، وذلك لكي لا أتسبب في إلحاق الضرر بأي شخص بريء، بل إن هذه الشفقة هي التي منَعتني من أن أتعرض أو حتى أن أدعُو على بعض الفساق بل الظالمين اللادينيين الذين اندفعوا بحقد شديد في ظلمي، ذلك لكي لا أتسبّبَ في ضرر مادي يَلحق بالشيوخ والعجائز المساكين من أمثال والد ذلك الظالم أو والدته، أو في الإضرار بأنفُس بريئة مثلِ أولاده؛ لذا فمن أجل أربع أو خمس من الأنفس البريئة لا أستطيع التعرّض لذلك الظالم الغدّار، بل أعفو عنهم أحيانًا.

وهكذا فبسرّ هذه الشفقة لا أكتفي قطعًا بعدم التعرض للحكومة وللأمن فقط، بل أوصي جميع أصدقائي بذلك إلى درجةِ أن بعض رجال الأمن المنصفين في ولايات ثلاث قد اعترفوا أن “طلاب رسائل النور” هم رجال أمن معنويون، لأنهم يحافظون على الأمن وعلى النظام؛ وهذه حقيقة يشهد عليها آلافُ الشهود، ويصدّقها فترةُ حياةٍ تمتد عشرين سنة، ومع طلاب يبلغ عددُهم الآلاف، لم يسجِّل رجالُ الأمن أيةَ حادثة منهم تمس الأمن.

ومع وجودِ كل هذه البراهين فقد اقتحموا بيت هذا الضعيف وكأنه رجلُ ثورة ورجل مؤامرة، وعاملوه دون إنصاف من قِبَل هؤلاء الأشخاص الغلاظ وكأنه سفّاح ارتكب مائة جريمة (مع أنهم لم يجدوا شيئًا في منـزله)، وقاموا بمصادرة نسخة نادرة من القرآن المعجز10نسخة من القرآن الكريم بخط اليد تبين الوجه الجميل للإعجاز في توافقات لفظ الجلالة. واللوحات الموجودة فوق رأسه وكأنها أوراق ضارة.

تُرى أي قانون يجيز مثل هذه التصرفات ضد آلاف الأشخاص المتدينين الذين حافظوا على الأمن بحُسن خُلقهم؟! وأيةُ مصلحة في تحريض هؤلاء ودفعِهم بالقوة للوقوف ضد الأمن والنظام؟!

[6]

السادس بفضل من اللّٰه تعالى إنني رجل عَرف من فيض القرآن منذ ثلاثين سنة كيف أن الشهرة المؤقتة والفانية للدنيا وجاهُها المتسم بالأنانية والأثرة، وعبادة الشهرة والصيت فيها، أمرٌ لا فائدة ولا خير منه ولا معنى له، فألفُ حمد وشكر للّٰه.

لذا فقد حاول منذ ذلك الحين وبكل جهده الصراعَ مع نفسه الأمّارة؛ ومع أن أصدقاءه والذين خدموه يعلمون علم اليقين ويشهدون بأنه قام بكل ما في وسعه لكسر شوكةِ نفسه والتخلّص من أنانيته وتجنب النفاق والتصنع، وقد حاول منذ عشرين سنة معارضة كل الذين أثنَوا عليه ومدحوه وتوجهوا نحو شخصه مدفوعين بحُسن الظن الذي تَهَشّ له نفسُ كل إنسان، وخالف كلَّ الذين رأوه أهلًا لمقامات معنوية، بل فرّ منها بكل ما يملك من قوة، وردَّ حُسن الظن المفرط الذي يحمله أصدقاؤه القريبون إليه وخلّانه الخاصّون، إلى درجةِ أنه آلمهم وجرح شعورَهم، وفي رسائله الجوابية لم يقبل أبدًا مديحَهم وحُسن ظنهم الزائد عن الحد في حقه، إذ نَسب كلَّ الفضيلة إلى رسائل النور التي هي عبارة عن تفسير للقرآن الكريم ولم يَنسبها لنفسه، بل حرمها من الفضائل، ووجّه “طلاب رسائل النور” للتعلق بالشخصية المعنوية لرسائل النور، وعدَّ نفسَه مجرد خادم عادي للقرآن الكريم، وهذا يُثبت إثباتًا قاطعًا بأنه لم يسْعَ أبدًا لإبراز شخصه وتحبيب نفسه بل ردَّ ذلك.

ومع ذلك فهل هناك قانون يسمح بتحميل أية مسؤولية عليه، ويسمح بالهجوم على دار هذا الشخص الغريب والمريض والمنـزوي في غرفته والمتقدم جدًّا بالعمر والذي لا حول له ولا قوة، والقيامِ بكسر قفل داره ودخول موظفي التفتيش إلى غرفته وكأنه مجرم عتيد، وذلك لمجرد أن بعض أصدقائه البعيدين عنه مدحوه خلافًا لرغبته وأَثنَوا عليه ثناءً يزيد عن حقه ورأوه أهلًا لمقام معنوي لما يحملونه من حُسن ظنٍّ مفرط، ثم لقيام واعظ لا يعرفه في مدينة “كوتاهية” بالتفوه ببعض الكلمات في حقه؟!

ومع أنني لم أُرسِل أيةَ رسالة إلى تلك المدينة، إلّا أنه تمتْ كتابةُ رسالةٍ وُضع عليها توقيع مزوّر لي، مما دعا إلى توهُّم مسؤوليتي عنها، وكذلك وجود كتاب مؤثِّر لا يُعرف كاتبه في مدينة “باليكسر”.. أهذه الأمور تسمح لهم باقتحام الدار والتفتيش فيها؟! مع أنهم لم يجدوا في الدار سوى الأوراد وسوى اللوحات.. أيُّ قانون في الدنيا وأية سياسة فيها تسمح بمثل هذا الهجوم؟!

[7]

السابع في مثل هذا الوقت الذي تُوجد فيه كل هذه التيارات الحزبية الفوارة في الداخل وفي الخارج، أي في الوقت الذي تهيأت له فرصةُ الاستفادة، أي فرَص كسب سياسيين عديدين إلى جانبه بدلًا من أفراد معدودين من أصدقائه، فإنه كَتب إلى جميع أصدقائه قائلًا لهم: “إياكم والانجراف في التيارات أو الدخول إلى معترك السياسة وإياكم والإخلال بالأمن”، وذلك لتجنب التدخل كليًّا في السياسة والإضرار بإخلاصه، وتجنّب جلب أنظار الحكومة عليه والابتعاد عن الانشغال بالدنيا.

وقد قام التيار السابق نتيجةً لأوهامه بمدّ يد السوء والضرر إليه جراء تجنّبه هذا، أما التيار الجديد فلادعائه: “أنه لا يساعدنا ولا يتعاون معنا”، وقد سبَّبا له ضيقًا وكربًا شديدين، ولكنه مع هذا لم يتدخل أبدًا في دنيا أهل الدنيا، بل انشغل بأمور آخرته إلى درجة أنه لم يرسل إلى أخيه الموجود في قرية “نُورْس” رسالة واحدة طوال اثنتين وعشرين سنة، ولم يرسل لأصدقائه في تلك المحافظات عشر رسائل طوال عشرين عامًا.. فأي قانون يسمح إذن بالتعرض لهذا الشخص الضعيف المنشغل بآخرته مثلَ هذا التعرض؟!

وفي الوقت الذي لا يتعرض أحد ضد انتشار كتب الملاحدة، وهي كتب ضارة جدًّا للبلاد وللأمة وللأخلاق، ولا لمطبوعات الشيوعيين، وذلك باسم قانون الحرية، فإنه تتم مصادرة أجزاء رسائل النور وكأنها أوراق ضارة وتُقدّم إلى المحكمة! هذا مع أن ثلاث محاكم لم تجد في هذه الرسائل أي أمر مضر، فهي تدعو منذ عشرين سنة إلى خير الحياة الاجتماعية لهذه البلاد ولهذه الأمة وتقوية أخلاقها وترسيخ أمنها، وإلى تقوية الأخوة الإسلامية مع العالم الإسلامي، هذه الأخوة التي تُعدّ ركنَ استنادٍ وقوةً حقيقية، وإلى إعادة صداقة العالم الإسلامي لهذه الأمة وتقويتها بصورة مؤثرة.

وقد أَمر وزير الداخلية علماءَ رئاسة الشؤون الدينية بتدقيق رسائل النور بُغية نقدها، وبعد ثلاثة أشهر من التدقيق لم تقم بنقدها، بل أدركت قيمتَها حق الإدراك وذكرت بأنها “مؤلَّف ذو قيمة كبيرة”، ووَضعت رسائلَ أمثال “ذو الفقار” و”عصا موسى” في مكتبتها؛ كما شاهد الحُجاج مجموعة رسائل “عصا موسى” في الروضة الشريفة للرسول الكريم (ﷺ).

فهل هناك قانون أو ضمير أو إنصاف يسمح بمصادرة رسائل النور وجمعها وتقديمها إلى المحكمة؟!

[8]

الثامن بعد اثنتين وعشرين سنة من النفي غير المبرر والمتسم بالضنك، وبعد أن أُعيدت له الحرية، فإنه لم يشأ الذهاب إلى بلده الذي ولد فيه حيث يوجد الآلاف من أهله وأحبائه، بل اختار حياة الغربة والعزلة لكي لا يقرب من الدنيا ومن معترك الحياة الاجتماعية والسياسية، وتَرَك الصلاة في الجامع -مع وجود ثواب كبير في صلاة الجماعة- واختار الصلاة المنفردة في غرفته.. أي إنه شخص يميل إلى تجنّبِ ما يبديه الناسُ نحوه من احترام.

كما أن عشرين سنة من عمره تشهد ويشهد معها آلافٌ من الشخصيات التركية الموقرة بأنه يفضّل تركيًّا واحدًا ذا دين وتقوى على العديد من الأكراد غير الملتزمين، كما أثبت في المحكمة أنَّ أخًا تركيًّا واحدًا قويَّ الإيمان مثل “الحافظ علي” يُرجَّح على مائة كردي.

أي إن شخصًا يتجنب لقاء الناس إلّا لضرورة ماسة لكي يتجنب مظاهر توقيرهم واحترامهم له، ولا يذهب حتى إلى الجامع، وعَمِلَ بكل جهده وعَبْر جميع مؤلفاته -منذ أربعين سنة- على ترسيخ الأخوة الإسلامية وعلى تنمية روح المحبة بين المسلمين، وعدَّ الأمة التركية حاملةً لراية القرآن ونائلة لثناء القرآن، وأحبَّ هذه الأمة حبًَّا جمًّا لهذا السبب، وصَرَف حياته من أجلها.. أيجوز أن يقول والٍ سابق في كتاب رسمي غادرٍ حاول منه نشر دعاية معينة قصَد منها إخافة أصدقائه: “إنه كردي وأنتم أتراك، وهو شافعي وأنتم حنفيون” بغية محاولة إلقاء الرعب في قلوب الجميع وجعلهم يحذرون منه ويتجنبونه؟!

ثم إنني أتسائل: أهناك قانون أو مصلحة في محاولةِ إجبار شخص منـزوٍ وإكراهِه على لبس القبعة.. مع أنه لم يجبره أحد على تغيير قيافته طوال عشرين عامًا وخلال محكمتين اثنتين؟ هذا علمًا بأن القبعة رفعت عن رؤوس نصف العساكر.

[9]

التاسع وهنا نقطة مهمة جدًّا وقوية11إن وجود النصارى واليهود في الحكومات الإسلامية، وكذلك وجود المسلمين في الحكومات النصرانية والمجوسية، يدل على أنه لا يمكن من الناحية القانونية التعرض لأي شخص معارض لم يتعرض بسوء إلى إدارة الدولة أو إلى أمنها بشكل فعلي.

وأيضًا إن الاحتمالات والإمكانات لا يمكن أن تكون مدار مسؤولية، وإلا استلزم تقديم الجميع للمحاكم على أساس احتمال قيامهم باقتراف الجرائم. (المؤلف).

 ولكني أسكت عنها لأنها تتعلق بالسياسة.

[10]

العاشر وهذا أيضًا لا يسمح به أي قانون، ولا توجد فيه أية مصلحة، وإنما هو عبارة عن أوهام لا معنى لها، وعن مبالغات تجعل من الحَبَّة قُبَّة، وهو تعرّضٌ وتهجُّم لا يُقِرّه أي قانون، وهنا أيضًا نَسكت لئلا نمَسَّ السياسة التي يُحظر النظر إليها حسب مسلكنا.

وهكذا فإننا نقول ونحن أمام أوجه عشرة من أوجه المعاملات غير القانونية: ﴿حسبنا اللّٰه ونعم الوكيل﴾.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[عشر نقاط في بيان عدالة قضيتنا]

نقاط أخرى أودّ أن أعرضها على إدارة مدينة “أفيون” ومحكمتها وشرطتها‌:

[1]

الأولى: أن ظهور أكثر الأنبياء في الشرق وفي آسيا وظهور أغلب الحكماء في الغرب وفي أوروبا: إشارة قدرية منذ الأزل على أن الدين هو السائد وهو الحاكم في آسيا، وتأتي الفلسفة في الدرجة الثانية.

وبناءً على هذا الرمز القدري، فإن الحاكم في آسيا إن لم يكن متدينًا فعليه -في الأقل- ألّا يتعرض للعاملين في سبيل الدين، بل عليه أن يشجعهم.

[2]

الثانية: أن القرآن الحكيم بمثابة عقل الأرض وفكرها الثاقب، فلو خرج القرآن -والعياذ باللّٰه- من هذه الأرض لجُنَّت الأرض، وليس ببعيدٍ أن تنطح رأسها الذي أصبح خاليًا من العقل بإحدى السيارات وتتسبب في حدوث قيامة.

أجل، إن القرآن هو العروة الوثقى وحبل اللّٰه المتين يربط ما بين العرش والفرش، وهو يقوم بحفظ الأرض أكثر مما تقوم به قوة الجاذبية، ورسائل النور هي التفسير الحقيقي والتفسير القوي لهذا القرآن العظيم، وهذه الرسائل التي أظهرت تأثيرها منذ عشرين سنة في هذا العصر وفي هذا الوطن لهذه الأمة تعد نعمة إلهية كبرى ومعجزةً قرآنية لا تنطفئ، لذا فليس على الحكومة التعرض لها وترويع طلابها منها ليبتعدوا عنها، بل عليها حماية هذه الرسائل والتشجيع على قراءتها.

[3]

الثالثة: بناءً على قيام أهل الإيمان الآتين بتقديم حسناتهم إلى أرواح الذين سبقوهم مع دعواتهم بالمغفرة لهم، فقد قلت في محكمة “دنيزلي”:

لو سألكم أهل الإيمان -الذين يعدون بالمليارات- في يوم المحكمة الكبرى وسألوا الذين يضيقون على طلاب رسائل النور الذين يعملون في سبيل إظهار حقائق القرآن ويحكمون عليهم بالسجن، وقالوا: “إنكم كنتم في غاية التسامح مع كتب الملاحدة والشيوعيين ومنشوراتهم باسم قانون الحرية، وتسامحتم مع الجمعيات التي ربّت وغذّت الفوضى، ولم تتعرضوا لهم أبدًا، ولكنكم أردتم أن تقضوا على رسائل النور وعلى طلابها بالسجن وبشتى وسائل التضييق، مع أنهم كانوا يحاولون إنقاذ الوطن والأمة من الإلحاد ومن الفساد وإنقاذ مواطنيهم من الإعدام الأبدي”.. لو سألوكم هذا فماذا سيكون جوابكم؟

ونحن أيضًا نوجه هذا السؤال إليكم.. لقد قلت هذا لهم، وعند ذلك قام أولئك الذوات المحترمون الذين كانوا من أهل الإنصاف والعدالة بإصدار قرار بتبرئتنا وأظهروا عدالة جهاز العدالة.

[4]

الرابعة: كنت أنتظر أن تستدعيني “أنقرة” أو “أفيون” إلى لجنة الشورى وتعاطي الأسئلة والأجوبة حول المسائل الكبيرة التي أخذت رسائلُ النور على عاتقها القيامَ بها.

أجل، إن رسائل النور هي أقوى وسيلة وأنجع دواء لهذه الأمة في هذا البلد في سبيل إعادة الأخوّة الإسلامية السابقة والمحبة السابقة وحسن الظن والتعاون المعنوي بين ثلاثمائة وخمسين مليون مسلم، وفي سبيل البحث عن وسائل هذا التعاون.

ونذكر أدناه أمارة واضحة على ذلك:

لقد قام في هذه السنة في مكة المكرمة عالم كبير بترجمة أجزاء كبيرة من رسائل النور إلى اللغة الهندية وإلى اللغة العربية، وأرسل هذه التراجم إلى الهند وإلى الحجاز قائلًا:

“إن رسائل النور تحاول تحقيق وحدتنا وأُخوَّتنا الإسلامية التي هي أقوى سند نستند إليها، وهي بذلك ترينا أن الأمة التركية هي دائمًا في المقدمة من ناحية الدين والإيمان”.

كما كنت أتوقع أن تثار أسئلة في مسائل كبيرة كالجبال الشوامخ أمثال: ما درجة خدمة رسائل النور وطلابها ضد الشيوعية التي تحولت إلى حركة فوضوية في وطننا؟ وكيف يمكن صيانة هذا الوطن المبارك وحفظه من هذا السيل الجارف المخيف؟

كنت أنتظر وأتوقع هذا، فإذا بي أُفاجأ بمسائل تافهة لا تزن جناح ذبابة، ولا تتجاوز مسائل جزئية لا تستلزم مسؤولية، نابعة من أحقاد شخصية وافتراءات مقصودة تجعل من الحبة قبة.. وهكذا قاسيت من هذه الشروط والظروف القاسية آلامًا لم أتجرعها حتى الآن.

وقد وُجهت إلينا الأسئلة نفسها حول المسائل التي وجهت إلينا في ثلاث محاكم سابقة، والتي برأتنا منها هذه المحاكم، مع إضافة مسألة أو مسألتين شخصيتين تافهتين وأسئلة لا معنى لها.

[5]

الخامسة: لا يمكن الوقوف أمام رسائل النور ومبارزتُها، لأنها لا تُغلب؛ فهي قد أسكتت منذ عشرين سنة أكثرَ الفلاسفة عنادًا، وتعلن حقائق الإيمان كالشمس في رابعة النهار؛ لذا فعلى الذين يحكمون هذا البلد الاستفادة من قوتها.

[6]

السادسة: إن التهوين من شأني بأخطائي الشخصية التي لا أهمية لها وإسقاطي في نظر عامة الناس بإنزال الإهانات بي، لا يضرّ رسائل النور، بل يمدّها -من جهة- إذ لو سكت لساني الفاني فإن ألسنة مئات الآلاف من نسخ رسائل النور لن تكفّ عن النطق، ولن تسكت عن الكلام والتبليغ، كما أن الألوف من طلبتها الأوفياء الذين مُنحوا قوةَ النطق ووضوح الحجة سيديمون تلك الوظيفة النورية القدسية الكلية إن شاء اللّٰه إلى يوم القيامة، كما كان شأنهم إلى الآن.

[7]

السابعة: كما ذكرنا في دفاعاتنا أمام المحاكم السابقة والتي سردنا فيها حججنا، فإن أعداءنا السريين ومعارضينا الرسميين وغير الرسميين الذين خدعوا الحكومة واستغفلوها، واستغلوا الأوهام والمخاوف المتسلطة على بعض أركانها، ووجهوا جهاز العدالة ضدنا، إما أنهم من المخدوعين بشكل سيء جدًّا، أو من المنخدعين، أو هم يعملون لصالح الفوضويين من الذين يحاولون قلب نظام الحكم بشكل غادر، أو هم من أعداء الإسلام ومن المرتدين الذين يحاربون الحقيقة القرآنية ومن الملاحدة الزنادقة.

فهؤلاء لم يترددوا أبدًا عندما حاربونا من إطلاق صفة النظام على الردة التامة، ومن إطلاق صفة “المدنية” على السفاهة والتسيب الأخلاقي الرهيب، ومن إطلاق صفة “القانون” على نظام الكفر القهري المنفلت والمرتبط بالأهواء.. وهكذا استطاعوا أن يضيقوا علينا تضييقًا شديدًا، واستغفلوا الحكومة وخدعوها ووجهوا جهاز العدالة للانشغال بنا دون أي داعٍ، لذا فإننا نحيل هؤلاء إلى قهر القهار ذي الجلال ونلتجئ إلى حصنِ ﴿حَسْبُنا اللّٰه وَنِعْمَ الوَكيلُ﴾، ليحفظنا من شرور هؤلاء.

[8]

الثامنة: قامت روسيا في السنة الماضية بإرسال العديد من الحجاج إلى حج بيت اللّٰه الحرام من أجل الدعاية وإظهار الروس بمظهرِ من يحترمون القرآن أكثر من الأمم الأخرى، ولتأليب العالم الإسلامي من الناحية الدينية ضد هذه الأمة المتدينة في هذا الوطن.

ثم إنه نظرًا للانتشار الجزئي لأجزاء كبيرة من رسائل النور في مكة المكرمة وفي المدينة المنورة وفي دمشق وحلب وفي مصر، وحيازتها على تقدير العلماء، وقيامها بكسر الدعاية الشيوعية، فإنها أظهرت للعالم الإسلامي بأن الأمة التركية وإخوتهم لا يزالون متمسكين بدينهم وبقرآنهم، وأنها بمثابة الأخ الكبير للعالم الإسلامي، وبمثابة قائد مقدام في سبيل خدمة القرآن.. أي إن رسائل النور بينت هذه الحقيقة في تلك المراكز والمدن الإسلامية وأظهرتها.

فإذا كانت الخدمات الجليلة لرسائل النور تقابَل بهذه الأنواع من التضييق والآلام، ألا ترون من الممكن أن تحتد الكرة الأرضية وتغضب؟!

[9]

التاسعة: أُورِدُ هنا تلخيصًا لإثبات مسألة معينة أوردتُها في مرافعتي أمام محكمة “دنيزلي”:

ولو فرضنا أن قائدًا رهيبًا وعبقريًّا استطاع بذكائه أن ينسب لنفسه جميع حسنات الجيش، وأن ينسب سيئاته وسلبياته الشخصية للجيش، فإنه يكون بذلك قد قلل عدد الحسنات التي هي بعدد أفراد الجيش إلى حسنة شخص واحد، وعندما نسَب سيئاته وأخطاءه إلى الجيش يكون قد كثّر هذه السيئات بعدد أفراد الجيش، وهذا ظلم مخيف ومجانب للحقيقة.

لذا فقد قلت للمدعي العام في إحدى محاكماتي السابقة عندما هاجمني لكوني وجهت صفعة تأديب لذلك الشخص عندما قمت قبل أربعين سنة بشرح حديث نبوي، قلت للمدعى العام: حقًا إنني أقلل من شأنه بإيراد أخبار من الأحاديث النبوية، إلّا أنني أقوم في الوقت نفسه بصيانة شرف الجيش وحفظه من الأخطاء الكبيرة، وأما أنت فتقوم بتلويث شرف الجيش الذي يعد حامل لواء القرآن، وقائدًا مقدامًا للعالم الإسلامي، وتلغي حسناته لأجل صديق واحد لك. فخضع ذلك المدعى العام للإنصاف، بإذن اللّٰه، ونجا من الخطأ.

[10]

العاشرة: لما كان من المفروض أن يقوم جهاز العدالة بحفظ حقيقة العدالة وحفظ حقوق جميع المراجعين له دون أي تمييز، والعملِ في سبيل الحق وباسمه وحده، فإننا نرى أن الإمام عليًّا رضي اللّٰه عنه في أيام خلافته يَمْثُل أمام المحكمة مع يهودي ليتحاكما12انظر: أبو نعيم، حلية الأولياء ٤/١٣٩-١٤٠؛ الذهبي، ميزان الاعتدال ٢/٣٥٣؛ السيوطي، تاريخ الخلفاء ص ١٨٤-١٨٥..

وقد شاهد أحد مسؤولي العدل أن أحد الموظفين احتد وغضب على سارق ظالم وهو يقطع يده، فأصدر أمره بعزل ذلك الموظف في الحال، وقال آسفًا: “من خلط مشاعره الذاتية بإجراء العدالة فقد اقترف ظلمًا كبيرا”.

أجل، إن الموظف عندما يقوم بتنفيذ حكم القانون إن لم يشفق على المحكوم فليس له أن يحتدّ عليه، فإن فعَلَ ذلك كان ظالمًا.

حتى إن أحد الحاكمين العادلين قال: “إن الشخص الذي يقوم بتنفيذ قصاص القتل إن احتد وغضب أثناء ذلك التنفيذ يُعَدُّ قاتلًا”.

إذن فما دامت الحقيقة الخالصة والبعيدة عن الأغراض هي التي لا بد أن تسود في المحكمة، فإن من الغريب أن يتعرض طلاب النور -البريئون والمحتاجون إلى من يُسَرِّي عنهم وإلى تجلي العدالة في حقهم- إلى إهانات ومعاملات قاسية هنا، رغم صدور قرارٍ بتبرئتنا من ثلاث محاكم، ورغم وجود أمارات عديدة لاستعداد تسعين في المائة من هذه الأمة للشهادة.

وهذا يدل على أنه لا يمكن صدور أي ضرر من طلاب النور، بل على العكس من ذلك فإنهم يقدّمون فوائد جمة لهذه الأمة ولهذا الوطن.

ولأننا قررنا أن نتحمل كلَ مصيبة وكلَ إهانة بكل صبر، فإننا نسكت ونحيل الأمر إلى اللّٰه تعالى، ونقول: “لعل في هذا الأمر خيرًا”، ولكنني خشيت أن تؤدي هذه المعاملات الموجَّهة إلى هؤلاء الأبرياء نتيجةً لتبليغات مُغرضة إلى قدوم البلايا، لذا اضطررتُ إلى كتابة هذا الأمر.

وإذا كان هناك أي تقصير أو ذنب في هذه المسألة فإنه يعود إليّ. ولم يَمُد لي هؤلاء المساكين يدَ المساعدة إلّا بدافع من إيمانهم ومن أجل آخرتهم ضمن مرضاة اللّٰه تعالى، ومع أنهم كانوا يستحقون التقدير، فإن القيام بمثل هذه المعاملات القاسية تجاههم قد أغضب حتى الشتاء.

ومن الغريب أيضًا والمحيِّر أنهم ساقوا أوهام تشكيل جمعية مرة أخرى، مع أن ثلاث محاكم دَققت هذه الناحيةَ وأصدرت قرارَها بالبراءة.

ثم إنه لا يوجد فيما بيننا أيّ أمر يستدعي اتهامنا بتشكيل أية جمعية، ولم تجد المحاكمُ ولا رجال الأمن ولا أهل الاختصاص أيةَ أمارة حول ذلك، إذ لا توجد بيننا سوى رابطة الأخوة الأخروية مثلما يوجد ما بين المعلم وتلاميذه، وما بين أستاذ جامعي وبين طلابه، وما بين حافظ القرآن وتلاميذه الذين يسعون لحفظ القرآن.

فالذين يتهمون طلاب النور بتشكيل جمعية عليهم أن ينظروا بنفس المنظار إلى جميع أهل المهن وإلى جميع الطلاب وإلى جميع الوعاظ أيضًا، لذا فلا أجد لزامًا عليَّ أن أدافع عن هؤلاء الذين جيءَ بهم إلى السجن هنا نتيجة اتهامات تافهة لا أساس لها أبدًا.

ولما قمتُ بالدفاع ثلاث مرات عن رسائل النور التي يهتم بها هذا البلد والعالم الإسلامي، والتي صدرت منها فوائد مادية ومعنوية كبيرة لهذه الأمة، فسأقوم بالدفاع عنها مرة أخرى منطلِقًا من الحقيقة نفسها، وليس هناك أي سبب يمنع دفاعي هذا ولا يوجد أي قانون أو أية سياسة تستطيع أن تَحُول بيني وتمنعني عن هذا.

أجل، نحن جمعية.. جمعية لها منتسبون يبلغ عددهم في كل عصر ثلاثمائة وخمسين مليونًا، وفي كل يوم يُظهِر كل منتسب حرمته وتوقيره الكامل لمبادئ هذه الجمعية المقدسة بأدائه الصلاة خمس مرات، ويُظهر استعداده لخدمة هذه المبادئ، ويهبّون لمساعدة بعضهم بعضًا بأدعيتهم وبمكاسبهم المعنوية حسب دستورهم المقدس: ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾، ها نحن أولاء أفراد هذه الجمعية العظيمة المقدسة، وظيفتنا الخاصة إيصال حقائق القرآن الإيمانية بشكلها اليقيني إلى أهل الإيمان، وإنقاذُهم وإنقاذ أنفسنا من الإعدام الأبدي ومن السجن البرزخي الانفرادي، ولكن لا توجد لنا أية علاقة بالجمعيات الدنيوية والسياسية المتّسمة بالألاعيب وبالأساليب الملتوية، ولا توجد لنا أية علاقة بلعبة الجمعيات أو بأية جمعية سرية مع أن هذه هي التهمة الموجهة إلينا على الدوام ونحن أصلًا لا نتدنى أبدًا إليها.

وبعد أن قامت أربعُ محاكم بتدقيق هذا الأمر وتمحيصه جيدًا قررت إصدار قراراتها بالبراءة.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[مرفق دفاع: كفى ظلمًا]

تتمة ومرفق للدفاع المقدَّم إلى ستة مراجع في “أنقرة”

وإلى محكمة “أفيون” للجنايات الكبرى

أقول وأصرح لمحكمة “أفيون” بأن تحمّلي وصبري قد نَفِدا، وأنه يجب وضع حدّ لهذا الأمر، فنحن منفيون منذ اثنتين وعشرين سنة دون أي سبب، وتحت الترصد الدائم، وكأن حبسي المنفرد وعزلي المطلق عن العالم لا يكفي، فقد قدموني للمحاكم ست مرات، وأدخلوني السجن ثلاث مرات، دون أي مبرر قانوني (سوى مسألتين أو ثلاث)، بل جراء أوهام وتوقع احتمالات، لأنهم لم يجدوا في مائة رسالة من رسائل النور أيَّ مأخذ قانونيٍّ ضدنا، وعاقبوا طلاب النور بغرامات مالية بلغت مئات الآلاف من الليرات، وهذا ظلم وغدر لا مثيل له، وستَلْعن الأجيالُ القادمة بكل شدة مسببي هذا الظلم والقائمين به، أما يوم المحكمة الكبرى فإننا نؤمن الإيمانَ كله بأن هؤلاء الظالمين سيُرمَون إلى جهنم وفي أسفل سافلين، وهذا ما جَعَلَنا نجد بعض التسرية، وإلّا فإنه كان في مقدورنا أن ندافع بكل قوة عن حقوقنا.

وهكذا ففي خمس عشرة سنة دخلنا ست محاكم، وتم تدقيق رسائل النور ومكاتيبنا مدة عشرين سنة، وكانت النتيجة أننا بُرِّئنا من قِبَل خمس محاكم تبرئة كاملة، أما محكمة “أسكي شهر” فلم تَجد ما يُوجِب الإدانة إلّا بضعَ جُملٍ في رسالة صغيرة هي “رسالة الحجاب” واتخذتْها عذرًا، واستندت إلى مادة قانونية مطاطة، وأصدرت حكمًا بعقوبة بسيطة ضدنا، ولكننا كتبنا في “اللائحة التصحيحية” التي قدمناها رسميًّا إلى “أنقرة” بعد محكمة التمييز، وأشرنا إلى أمر واحد فقط كأنموذج على عدم قانونية الحكم، وقلنا:

“إن آية الحجاب التي توضِّح عادةً من العادات الإسلامية القوية الواردة في الدستور المقدس لدى ثلاثمائة وخمسين مليونًا منذ ألف وثلاثمائة وخمسين عامًا.. هذه الآية الكريمة تعرّضت لاعتراض أحد الزنادقة، ولانتقاد المدنية؛ لذا قمت بتفسيرها والدفاع عنها متَّبِعًا إجماعَ ثلاثمائة وخمسين ألف تفسير، مقتديًا في ذلك نهج أجدادنا طوال ألف وثلاثمائة وخمسين عامًا؛ فإذا كانت هناك عدالة في الدنيا فيجب إصدار حكم بنقض العقوبة الصادرة والحكم الصادر بحق رجل قام بمثل هذا التفسير، لكي تُمسح هذه اللطخة العجيبة عن جبين جهاز العدالة في هذه الحكومة الإسلامية”.

وعندما قَدَّمتُ هذه اللائحة التصحيحية التي كتبتُها إلى المدعي العام هناك أُصيب بالذعر وقال:

“أرجوك.. لا ضرورة لكل هذا، فعقوبتك خفيفة، والفترة الباقية قليلة جدًّا، فلا حاجة لتقديم هذه اللائحة”.

ولا شك أنكم على علمٍ بأنني أدرجتُ نماذج أخرى عجيبةً من الاتهامات ضمن الاعتراضات والدفاعات التي أرسلتُها إليكم وإلى المراجع الرسمية في “أنقرة” على غرار هذا الأنموذج، لذا فإني أطلب من محكمة “أفيون” وآمل منها باسم العدالة إعطاءَ الحرية الكاملة لرسائل النور التي لها بركةٌ وخدمةٌ تُعادِل خدمة جيشٍ بأكمله في سبيل مصلحة هذه الأمة وهذا الوطن.

وبذهاب أصدقائي الذين دخلوا السجن بسببي، فقد خطر على قلبي فكر يسوقني لاقتراف ذنب يستحق أكبر عقوبة لكي أودع هذه الحياة، وهو ما يلي:

بينما كان من المفروض أن تقوم الحكومة بحمايتي وبمد يد العون والمساعدة لي، لوجود مصلحة كبيرة للأمة أو منفعة كبيرة للوطن في هذا الأمر، فإن قيامها بالتضييق عليَّ يشير إلى أن عصابة الإلحاد الخفيةَ التي تحاربني منذ أربعين سنة، والبعضَ من أفراد عصابة الشيوعيين التي التحقتْ بها الآن، استطاعوا احتلالَ أماكن مهمة في المراكز الرسمية، وهؤلاء هم الذين يقودون الحملة ضدي.

أما الحكومة فهي إما تجهل هذا الأمر أو أنها تسمح بذلك عن علم، وهناك أمارات عديدة مقلقة حول هذا الأمر.

السيد رئيس المحكمة..

لو سمحتم فإنني أود أن أطرح سؤالًا يحيرني كثيرًا: لماذا يقوم أهل السياسة بتجريدي من جميع حقوقي المدنية، ومن حقوقي في الحرية، بل ربما من حقوقي في الحياة، مع أنني لم أشترك في السياسة ولم أدخل معتركها؟!

لقد عاملوني وكأنني سفّاح خضب يديه بدماء مئات الضحايا، فوضعوني في حبسٍ منفردٍ ومنعزلٍ ثلاثة أشهر ونصف، وحاولوا أثناءها التعرض لحياتي، وأقدموا على تسميمي إحدى عشرة مرة.. وعندما أراد أصدقائي الحريصون وتلاميذي الصادقون حمايتي من شر هؤلاء منعوا اتصالهم بي، بل إنهم حرموني حتى من مطالعة كتبي المباركة والخالية من أي ضرر، والتي أجد الأُنس معها في وحدتي وشيخوختي ومرضي وغربتي.

لقد رجوت المدعي العام أن يعطيني كتابًا واحدًا من كتبي، ومع أنه وعدَ بذلك إلّا أنه لم يفعل، فاضطررت إلى البقاء وحيدًا في قاعة كبيرة ومقفَلة وباردة دون أي شاغل أشغل به نفسي، وأوعزوا إلى الموظفين وإلى الخدم والحراس التعاملَ معي بعداوة وبخشونة بدلًا من المعاملة الحسنة التي قد أجد فيها بعض السلوان وبعض التسرية؛ وهاكم أنموذجًا صغيرًا من معاملتهم هذه:

كتبتُ عريضة إلى المدير وإلى المدعي العام وإلى رئيس المحكمة، وأرسلتها إلى أحد إخواني لكي يكتبها بالحروف الجديدة التي أَجهَلها، وفعلًا تمت الكتابة وقُدّمت العريضة لهم. لقد عدُّوا هذا جُرمًا كبيرًا صادرًا مني، فقاموا بتغطيةِ وسدِّ جميع نوافذ غرفتي وسمّروها، ومع أن الدخان كان يؤذيني، فإنهم لم يتركوا نافذة واحدة دون تغطيتها وسدِّها.

ومع أن أنظمة السجن تقضي بأن لَا تتجاوز مدةُ الحبس الانفرادي خمسة عشر يومًا، فإنهم حبسوني حبسًا انفراديًّا مدة ثلاثة أشهر ونصف، ولم يسمحوا لأي صديق بالاتصال بيَّ.

ثم إنهم أرَوني لائحة اتهام بأربعين صفحة كتبوها وهيؤوها في ثلاثة أشهر، ولأنني لا أعرف الحروف الجديدة، ولكوني مريضًا، وذا خط رديء، فقد رجوتهم أن يبعثوا إليّ مَن يقرأ هذه اللائحة مع طالبَين من طلابي -من الذين يفهمون لغتي لكي يقوما بكتابة اعتراضي ودفاعي- فلم يأذنوا بذلك ولم يقبلوه، وقالوا: “ليأتِ المحامي لكي يقرأه”.

ثم لم يسمحوا حتى بذلك، بل قالوا لأحد الإخوان “اكتب اللائحة بالحروف القديمة وأعطها له”. ولكن كتابة تلك اللائحة لا يمكن أن تتم إلّا في ستة أو سبعة أيام! وهكذا فبدلًا من قراءةٍ تستغرق ساعة واحدة، فقد مددوا هذا العمل إلى ستة أو إلى سبعة أيام، وذلك لكي يمنعوا أيّ اتصال معي، وهذا عمل استبدادي مذهل يلغي كل حقوقي في الدفاع؛ ولا يتعرض سفاح ارتكب مائة جريمة وحُكم عليه بالإعدام إلى مثل هذه المعاملة في أية بقعة من بقاع الدنيا.

والحقيقة أنني في ألم شديد، لأنني لا أعرف أي سبب لمثل هذا التعذيب.

لقد قيل لي بأن رئيس المحكمة شخص عادل ورحيم، لذا فقد قمتُ بتقديم هذه الشكوى إلى مقامكم كتجربة أولى وأخيرة.

[أربعة أسس في لائحة الاتهام]

توجد أربعة أسس في لائحة الاتهام:‌

[أساس 1]

الأساس الأول: وهو الادعاء بأنني شخص أفخر بنفسي وأُمَجِّدها.

وقد رددتُ هذا الادعاء بكل ما أملك من قوة، وكانت اللجنة المختصة في محكمة “دنيزلي” قد ذكرتْ أنه “لو ادَّعى سعيد أنه المهدي المنتظر لقَبل كلُّ طلابه ذلك”.

[أساس 2]

الأساس الثاني: قيامه بإخفاء مؤلفاته.

يجب أن لا تُعطى معاني خاطئة من قبل الأعداء المتسترين، لأن الإخفاء لم يكن بقصدٍ سياسي أو بأي قصد يضر بأمن البلاد، ولا يُعَدُّ وجود جهاز طبع بالحروف القديمة عذرًا لهم للهجوم علينا.

أما قضية الصفعة الموجهة من رسائل النور إلى مصطفى كمال13أَوردَ الادعاءُ العام اتهامًا نتيجة سوء فهم فيما ورد من كرامة رسائل النور التي تجلى بعضها كصفعات تأديبية، إذ زعموا أننا نقول: إن البلايا والزلازل التي حدثت في أثناء الهجوم على طلاب النور وعلى رسائل النور إنما هي صفعات من رسائل النور… حاشا ثم حاشا، نحن لم نقل ولم نكتب هذا، بل ذكرنا في مواضع عدة مع إيراد الأدلة، أن رسائل النور بمثابة صدقات مقبولة، لذا فهي وسيلة لدفع البلايا، فعندما يتم الهجوم على رسائل النور تَبهت الأنوار وتجد المصائب الفرصةَ سانحة للظهور.

أجل إن مئات الحوادث والوقائع وشهادة وتصديق الآلاف من طلاب النور ترينا استحالة وجود المصادفة في توافق تلك الحوادث كما أظهرنا ذلك جزئيًّا في المحاكم، فإننا نؤمن بشكل قاطع بأن هذه التوافقات دليل على قبول رسائل النور ودليل على الكرم الإلهي، وهو نوع من الكرامة المهداة من القرآن الكريم إلى رسائل النور. (المؤلف).

فقد عرفتْ بها ست محاكم، وكذلك المراجع الرسمية في “أنقرة”، فلم يعترضوا عليها، وأصدروا قرارهم بتبـرئتنا، وأعادوا لنا جميع كتبنا ومن ضمنها “الشعاع الخامس“.

ثم إن قيامي بإظهار سيئاته ليس إلّا من أجل صيانة كرامة الجيش، أي إن عدم محبة شخصٍ فردٍ ليس إلّا من أجل كَيل الثناء إلى الجيش بكل حب.

[أساس 3]

الأساس الثالث: على الرغم من وجود مائة ألفِ طالبٍ من طلاب النور، وإحالة مائة ألف نسخةٍ من رسائل النور إلى ست محاكم في ظرف عشرين سنة، فلم تُسجَّل لدى موظَّفي أمنِ عشرِ ولاياتٍ أيُّ شيء يُخِلُّ بالأمن أو يقلق هدوء البلد؛ وإن عدم وجود أية مادة تشير إلى هذا الإخلال لا في هذه المحاكم الست ولا عند موظفي هذه الولايات العشر لَهُوَ أكبر دليلٍ وأفضل ردٍّ على التهمة العجيبة القائلة بأننا نُحرِّض على الإخلال بالأمن.

أما بخصوص لائحة الاتهام الجديدة هذه فمن العبث القيام بالرد عليها، لأنه ليس إلّا تكرارًا لتُهم سابقة سبق وأن تمت الإجابة عليها عدة مرات، وسبق لثلاث محاكم إصدارُ قراراتها بتبرئتنا منها، وهي مسائل لا أهمية لها.

ولما كان اتهامنا في هذه المسائل يُعد في الحقيقة اتهامًا لمحكمة الجنايات الكبرى في “أنقرة” ولمحكمة “دنيزلي” ولمحكمة “أسكي شهر” (لأن هذه المحاكم برّأتنا في هذه المسائل)، لذا فإنني أدَع الإجابة عنها لهذه المحاكم.

زد على هذا فهناك مسألتان أو ثلاث مسائل أخرى:‌

المسألة الأولى مع أنهم أصدروا قرارًا ببراءتنا وبإعادة ذلك الكتاب إلينا بعد تدقيق وتمحيص تامَّين دام سنتين في محكمة “دنيزلي” و”محكمة الجنايات الكبرى في أنقرة”، فإنهم يُلَوِّحون بمسألة أو مسألتين واردتَين في رسالة “الشعاع الخامس” بخصوصِ قائدٍ مات وانتهى أمره كمادة اتهام ضدنا.

أما نحن فنقول: إن توجيه نقدٍ صائبٍ كليٍّ بحق شخصٍ مات وانتهى أمره وانقطعت صلته بالحكومة لا يُعدّ في نظر القانون ذنبًا.

ثم قام مقامُ الادعاء باستخراج تأويل متحذلق من معنى عام وكلي، وطبّق هذا في حق ذلك القائد، علمًا بأنه ما من قانون يَعُدّ وجودَ معنى في رسالة خاصة وسرية يدِقّ على أفهام العامة ولا يدركها سوى واحد في المائة.. ما من قانون يعد ذلك ذنبًا.

ثم إن تلك الرسالة شرحت تأويلَ الأحاديث المتشابهة بشكل رائع، وعندما نكون بصدد بيان المعنى الحقيقي لحديث وانطبق هذا المعنى بحق شخص مقصّر فما من قانونٍ يَعُدُّ هذا ذنبًا، خاصة وأن هذا البيان موجود منذ حوالي أربعين عامًا، وتم تقديمه لثلاث محاكم ولمحكمتكم، وقُدّم مرتين خلال ثلاث سنوات إلى ستة مراجع رسمية في “أنقرة”، ولم يتم الاعتراضُ على دفاعي وعلى اعتراضاتي التي قَدمتُ فيها إجاباتٍ قطعية.

ثم إن نقدَ ذلك الشخص الذي كان ضمن انقلابٍ أدَّى إلى مساوئ عديدة، لا ترجع إليه وحده حسنات ذلك الانقلاب، بل ترجع إلى الجيش وإلى الحكومة، أما هو فقد تكون له حصة واحدة منها؛ فكما أن قيامنا بنقده من زاويةِ سيئاته لا يُعد ذنبًا، لا يجوز القول: إن ذلك يعني الهجومَ على حركة الانقلاب. ويا ترى أيُّ ذنب وأيّ جريرة في أن تَنتقِد أو تُضمِر عدمَ المحبة لرجل حوّل جامعَ “آيا صوفيا” الذي هو مبعث الشرف الأبدي لأمة بطلة، والدرّةُ الساطعة لخدماتها وجهادِها في سبيل القرآن، وهديةٌ تذكارية نفيسة من هدايا سيوف أجدادها البسلاء.. حوّله إلى دار للأصنام وبيت للأوثان، وجعل مقر المشيخة العامة ثانوية للبنات؟!

المسألة الثانية حول موجِبات الاتهام في لائحة الادعاء العام:

بعدما كسبنا البراءة في ثلاث محاكم، فإن بيانًا رائعًا لتأويل حديث شريف (في الشعاع الخامس) قبل أربعين سنة أنقذ الأمة، حيث إن شيخ الإسلام -للجن والإنس- “علي أفندي الزنبللي” قد قال: “ليس هناك أي جواز في لبس القبعة، حتى لو لبست مزاحا”.

كما لم يجوّز لبسَها شيوخُ الإسلام وعلماؤه، مما جعل عوام أهل الإيمان أمام خطر حين اضطروا إلى لبسها14وذلك بموجب قانون الأزياء الذي أَجبر الناس على لبس القبعات. إذ أصبحوا أمام خيارين: إما أن يتركوا دينهم، أو يقوموا بحركة عصيان.

ولكن إحدى فقرات رسالة “الشعاع الخامس” ذَكرتْ أنه: “ستعلو القبعةُ الرؤوس، وستقول: لا تسجدْ، ولكن الإيمان الموجود في ذلك الرأس سيُجبر تلك القبعة أيضًا على السجود ويجعلها إن شاء اللّٰه مسلمة”.

فأنقذتْ عوام أهل الإيمان من التمرد والعصيان، كما أنقذتهم من التخلي عن دينهم باختيارهم.

فضلًا عن أنه ليس هناك قانون يطالب الأشخاص المنـزوين بمثل هذه الأشياء، وأن ست حكومات في ظرف عشرين سنة لم تجبرني على لبس القبعة، كما أن النساء والأطفال وأئمة المساجد والموظفين في دوائرهم ومعظم القرويين غير مجبرين على لبسها، وفي الآونة الأخيرة رُفعت عن رؤوس الجنود.

كما أن لبس الطاقية وأغطيةِ الرأس غير ممنوع في كثير من الولايات، ورغم كل هذا فقد أصبح هذا15أي عدم لبس القبعة. عنصرَ اتهام ضدي وضد إخواني؛ فهل يوجد في العالم كله قانون أو مصلحة أو أصل يَعد مثل هذا الاتهام (الخالي من أي معنى) ذنبًا؟!

[أساس 3]

الأساس الثالث المتخذ مدارًا للاتهام: وهو زعم التحريض للإخلال بالأمن في “أميرداغ”.

وأنا أقول ردًا على هذا:

أولًا: نشير إلى الاعتراض الذي قدمْتُه إلى هذه المحكمة وإلى ست مراجع رسمية في “أنقرة” بعلم هذه المحكمة وإذنها، وهو اعتراضٌ لم يُرَدّ عليه، لذا فإنني أقدم الاعتراض نفسه كجواب للائحة الاتهام.

ثانيًا: يشهد كل من تكلم معي في “أميرداغ” ويشهد الأهالي وموظفو الأمن بأنني بعد صدور القرار ببراءتي ابتعدتُ بكل قوتي -وأنا قابع في انـزوائي- عن المشاركة في أية سياسة دنيوية، حتى إنني تركت التأليف والتراسل، فلم أكتب إلّا فقرتين صغيرتين حول الملائكة وحول حكمة التكرار في القرآن، ولم أكن أكتب سوى مكتوب واحد فقط في الأسبوع أحث فيه على قراءة رسائل النور، حتى إنني لم أبعث لأخي المفتي16المقصود هو عبد المجيد. -الذي كان من طلابي طوال عشرين عامًا- سوى ثلاث أو أربع رسائل في ظرف ثلاث سنوات، وكان يبعث إليّ ببطاقات تهنئة العيد على الدوام، وكان يَقلق عليَّ قلقًا كبيرًا.

أما أخي الآخر الساكن في بلدتي فلم أبعث له طوال عشرين عامًا أية رسالة أبدًا، ومع ذلك نرى أن لائحة الاتهام تقوم بحذلقة لا مثيل لها بتكرار الأسطوانة القديمة واتهامي بالإخلال بالأمن، وبالوقوف ضد الحركة الانقلابية.

ونحن نقول ردًَّا على هذا:

إن ما يزيد عن عشرين ألف نسخة من رسائل النور، طوال عشرين عامًا، طالعها عشرون ألفًا، بل مائة ألف من الناس بكل شوق وبكل قبول، ومع ذلك لم تجد ستُّ محاكم ولم يجد رجالُ الأمن في عشر ولايات معنيةٍ أيَّ شيء ضدهم.

وهذا يبين بأنه لو كان هناك احتمال واحد فقط من ألوف الاحتمالات ضدنا فإنهم يأخذون به، ويتخذون هذا الاحتمال وكأنه أمر واقع لا محالة، مع أنه لو كان هناك احتمال واحد ضمن احتمالين أو ثلاثة، ولم يَظهر أي أثر له فلا يُعَدُّ ذلك الاحتمال ذنبًا. حتى إن واحدًا بالألف من الاحتمال غير وارد، وهناك احتمالٌ واردٌ لكل شخص -ومنهم المدعي العام- وهو احتمالُ قيامه بقتلِ أشخاص عديدين، أو القيام بالإخلال بالأمن خدمةً للشيوعيين وللفوضويين.

إذن فإن النظر إلى مثل هذه المبالغة في الاحتمالات وكأنها أصبحت حقيقة وواقعة، واستعمالَها على هذا الأساس خيانة للعدالة وللقانون.

[وجود معارضةٍ لكل حكومة أمرٌ طبيعي]

ثم إن من الطبيعي وجود معارضة لكل حكومة، وإن المعارضة الفكرية لا تعدُّ جناية؛ فالحكومةُ تأخذ بالظاهر ولا تحاسِب على ما في القلوب. ونحن نخشى أن يكون الأشخاص الذين يوجِّهون مثل هذه التهم الباطلة في حق شخص لم يصدر منه أي ضرر ضد الوطن وضد الأمة، بل كانت له فوائد وخدمات كثيرة، ولم يتدخل في شؤون الحياة الاجتماعية، بل وأجبروه على العيش في عزلة تامة، والذي قوبلت مؤلفاتُه بكل تقدير في أهم المراكز الإسلامية17في الخطأ الثمانين من الأخطاء المائة التي وقع فيها المدعي العام، نراه يقول: “إن التأويل الوارد في الشعاع الخامس يُعدّ خطأً”.

وجوابي على ذلك هو: وردت في “الشعاع الخامس” الجملة التالية: “أحد التأويلات -واللّٰه أعلم- هو هذا التأويل”.

ومعنى هذه الجملة: “أن من الممكن أن يكون هذا هو معنى هذا الحديث الشريف”، لذا فلا يمكن من الناحية المنطقية تكذيب هذه الجملة، إلّا عند إثبات استحالتها.

ثانيًا: منذ عشرين عامًا، بل منذ أربعين عامًا، لم يقم أحد بردّ التأويلات التي أوردناها ردًّا منطقيًّا وعلميًّا سواء أكانوا من معارضيَّ أو ممن يحاولون معارضة رسائل النور، ولم يقل أحد من أولئك العلماء المعارضين: “إن هذه التأويلات فيها نظر”، بل صدّقوها مع ألوف من علماء طلاب النور.

لذا فإنني أحيل إلى مقامكم تقدير مدى البعد عن الإنصاف عندما يَردُّ هذا التأويلَ شخصٌ لا يعرف حتى عددَ السور الموجودة في القرآن الكريم.

والخلاصة: أن معنى التأويل لحديث شريف أو لآية كريمة هو: أنه معنى واحد محتمل من عدة معاني محتملة وممكنة. (المؤلف).

.. نخشى أن يكون هؤلاء الأشخاص أداة في خدمة الشيوعية وفي خدمة الفوضوية دون أن يشعروا.

[فرية ادعاء المهدوية]

هناك أماراتٌ أعلمُ منها أن أعداءنا الخفيين يحاولون النيل من رسائل النور والتقليل من قيمتها، فينشرون وَهْمَ وجود فكرة المهدية -من الناحية السياسية- فيها ويدّعون أن رسائل النور وسيلة لهذه الفكرة، ويبحثون ويدققون عسى أن يعثروا على سند لهم لهذه الأوهام الباطلة؛ ولعل العذاب الذي أتعرض له نابعٌ من هذه الأوهام.

وأنا أقول لهؤلاء الظالمين المتسترين وللذين يسمعون لهم ويعادوننا:

“حاشا ثم حاشا.. إنني لم أقم بمثل هذا الادعاء، ولم أتجاوز حدي ولم أجعل الحقائق الإيمانية وسيلة شخصية أو أداة لنيل الشهرة والمجد، وإن السنوات الثلاثين الأخيرة خاصة، من عمري البالغ خمسة وسبعين عامًا تشهد، وتَشهد رسائلُ النور البالغةُ مائة وثلاثين رسالة، ويَشهد الآلاف من الأشخاص الذين صادقوني حق الصداقة بهذا.

[لا نطلب مقامًا حتى ولو كان معنويًّا أو أخرويًّا]

أجل، إن طلاب النور يعرفون هذا، كما أنني سردت الحجج التي أَظهرتْ في المحاكم أنني لم أسْعَ من أجل مقام أو مرتبة لشخصي أو من أجل الحصول على مرتبة أو مقام أو شهرة معنوية أو أخروية، بل سعيت بكل ما أملك من قوة لتوفير خدمة إيمانية لأهل الإيمان، وربما كنت مستعدًا لا للتضحية بالمراتب الدنيوية الفانية وحدها، بل -إن لزم الأمر- بالتضحية حتى بالمراتب الأخروية الباقية لحياتي في الآخرة، مع أن الجميع يسعون للحصول على هذه المراتب، ويعلم أصدقائي المقربون بأنني -إن لزم الأمر- أقبل ترك الجنة والدخول إلى جهنم من أجل أن أكون وسيلة لإنقاذ بعض المساكين من أهل الإيمان18ذكر لي الأخ “محمد فرنجي” وقال: كنت أزور الأستاذ مرارًا، وكان يقول في أكثر من مرة: لقد رضيت بدخول جهنم لأجل إنقاذ إيمان شخص واحد.

وكرر القول نفسه لدى زيارتي الأخيرة له، فوقع في نفسي شيء، إذ كيف يدخل جهنم من كان سببًا لهداية أناس كثيرين جدًّا؟

وإذا بالأستاذ يعتدل في فراشه ويشير إلي بيده ويقول: ليس خالدًا.. ليس خالدًا.. بل مثلما يدخل أحدهم جهنم من جراء ذنب ثم يدخل إلى الجنة.

، وقد ذكرتُ هذا وبرهنتُ عليه في المحاكم من بعض الوجوه، ولكنهم يرومون بهذا الاتهام إسنادَ عدم الإخلاص لخدمتي الإيمانية والنورية، ويرومون كذلك التقليل من قيمة رسائل النور وحرمان الأمة من حقائقها.

أيتوهم هؤلاء التعساء أن الدنيا باقية وأبدية؟ أم يتوهمون أن الجميع مثلهم يستغلون الدين والإيمان في مصالح دنيوية؟ إن هذا التوهم يقودهم إلى الهجوم على شخصٍ تحدى أهل الضلالة في الدنيا وضحى في سبيل خدمة الإيمان بحياته الدنيوية، وهو مستعد للتضحية بحياته الأخروية إن لزم الأمر في سبيل هذه الخدمة. وأنه غير مستعد لأن يستبدل ملك الدنيا كلها بحقيقة إيمانية واحدة، كما صرح في المحاكم، ويقودهم إلى الهجوم على شخص هرب بكل قوته من السياسة ومن جميع مراتبها المادية منها وما يشمّ منها معنى السياسة سواءٌ أكانت من قريب أو بعيد، وذلك بسر الإخلاص، وتحمَّلَ عذابًا لا مثيل له طوال عشرين عامًا، ومع ذلك لم يتنـزل -حسب المسلك الإيماني- إلى السياسة.

ثم إنه يَعد شخصَه من جهة النفس- أقل مرتبةً من كثير من طلابه، لذا فهو ينتظر دومًا دعاءهم واستغفارهم له، ومع أنه يَعُد نفسه ضعيفًا وغير ذي أهمية، إلا أن بعض إخوانه الخلص أسندوا إليه في رسائلهم الخاصة بعضًا من فضائل النور، وذلك لكونه ترجمانًا للفيوضات الإيمانية القوية التي استمدوها من رسائل النور، ولم يخطر ببالهم في ذلك أيّ معنى سياسي، بل على مجرى العادة، ذلك لأن الإنسان قد يخاطب شخصًا عاديًّا ويقول له: “أنت وليّ نعمتي… أنت سلطاني”. أي يعطون له -من زاوية حسن الظن- رتبًا عالية لا يستحقها، وهي أكثر ألف مرة من رتبته ومن قيمته.

[لا نردُّ المديح وإنما نحيله إلى رسائل النور]

وكما هو معلوم فإن هناك عادة قديمة جارية مقبولة -لم يعترض عليها أحد- فيما بين الطلاب وبين أساتذتهم، وهي قيام الطلاب بمدحٍ مبالَغ فيه لأساتذتهم قيامًا منهم بحق الشكر، ووجودُ بعض التقاريظ والمدح المبالغ فيه في خاتمة الكتب المقبولة.. فهل يعد هذا ذنبًا بأي وجه من الوجوه؟

صحيح أن المبالغة تُعد في جانب منها مخالفة للحقيقة، ولكن شخصًا مثلي ليس له أحد، ويعاني من الغربة ما يعاني، وله أعداء كثيرون، وهناك أسباب عديدة لكي يبتعد عنه معاونوه ومساعدوه… أفيَستكثر عليّ هؤلاء البعيدون عن الإنصاف أَنْ أَشُدَّ من الروح المعنوية لهؤلاء المساعدين والمعاونين ضد المعارضين العديدين، وأَنْ أُنقذهم من الابتعاد والهرب وأَحُول دون كسر حماستهم المتجلية في مديحهم المبالغ فيه، وأن أُحَوّل هذا المديح إلى رسائل النور ولا أردّهم ردًا كاملًا وقاطعًا؟!

وهكذا يظهر مدى ابتعاد بعض الموظفين الرسميين عن الحق أو عن القانون وعن الإنصاف عندما يحاولون أن ينالوا من الخدمة الإيمانية التي يؤديها شخص بلغ من العمر عتيًّا وهو على أبواب القبر، وكأن هذه الخدمة مسخرة لغرض من أعراض الدنيا”.

إن آخر ما نقول: لكل مصيبة ﴿إنا للّٰه وإنا اليه راجعون﴾

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[ملحق في 4 نقاط]

ملحق

[نقطة 1: حول تفسير آيات الميراث]

لقد ورد في ختام قرار التحقيقات الأخيرة التي أُجريَتْ من قِبَل محكمة التحقيقات ما يأتي:

“لقد قرر مجلس الوزراء قبل أربعة أشهر منعَ نشر رسالة “المعجزات القرآنية“، أي “الكلمة الخامسة والعشرين“، ومصادرةَ أعدادها من السوق نظرًا لورود شرح لثلاث آيات قرآنية، وهذا الشرح يعارض القانون المدني الحالي ويصادم المدنية”.

وجوابًا على هذا نقول:

إن رسالة “المعجزات القرآنية” موجودة الآن ضمن رسالة “ذو الفقار”، هذه الرسالة يقارب عدد صفحاتها أربعمائة صفحة، كنت قد نشرتُها ردًّا على انتقادات المدنية الغربية للقرآن الكريم ردًّا قاطعًا لا يمكن جرحه أو الاعتراض عليه، ويَشغل هذا صفحتين منها في معرضِ تفسيرٍ لثلاث آيات قرآنية، وموجودٌ بصورة متفرقة في ثلاث رسائل قديمة لي.

الآية الأولى كانت آية الحجاب، والآية الثانية كانت حول الإرث وهي آيةُ: ﴿فلأمّه السدس﴾، أما الآية الثالثة فكانت أيضًا حول الإرث وهي آيةُ: ﴿فللذكر مثل حظّ الأنثيين﴾.

ومع أنني قمت بشرح حِكَمِ حقائقِ هذه الآيات في صفحتين اثنتين وقبل عشرين عامًا (بعضها قبل ثلاثين عامًا) شرحًا ألزم الفلاسفةَ، إلّا أنهم توهموا وكأنها كُتبت اليوم؛ وبدلًا من منع رسالة “ذو الفقار” البالغة أربعمائة صفحة، فقد كان في الإمكان إخراج هاتين الصفحتين فقط منها ثم إعادتها إلينا، وهذا حق قانوني لنا؛ إذ لو وُجدت كلمةٌ واحدة أو كلمتان ضارتان في خطاب ما، حُذفت هاتان الكلمتان وسُمِح بنشر ذلك الخطاب، وقياسًا على هذا فإننا نطالب بحقنا هذا من محكمتكم العادلة.

ولعدم وجود إمكانية مجيء أحدهم عندي ليقرأ لي لائحةَ الاتهام البالغةَ أربعين صفحة والصادرة قبل شهر، فقد قرؤوا هذه اللائحة لي اليوم (المصادف لليوم الحادي عشر من حزيران).. قرؤوا اللائحة واستمعتُ أنا، فوجدت أن الدفاع الذي كتبتُه قبل شهرين، وكذلك تتمة هذا الدفاع وملحقه الذي كتبتُه قبل شهر والذي أرسلته إلى مقامكم وإلى ست مراجع في أنقرة: يردُّ لائحةَ الاتهام هذه ردًّا قاطعًا، لذا لا أجد أيّ مسوِّغ لكتابة دفاع جديد، ولكني أُحب تذكيرَ مقام الادعاء عندكم بنقطتين أو ثلاث، فأقول:

إن السبب الذي حدا بي إلى عدم الإجابة على هذه اللائحة يعود إلى أنني لم أشأ أن أطعنَ في كرامةِ ثلاث محاكم عادلةٍ أَصدرت قراراتها ببراءتنا ولم أشأ أن أهينها، ذلك لأن تلك المحاكم حققت بشكلٍ دقيقٍ جميعَ الأسس الواردة في لائحة الاتهام هذه ثم أصدرت قراراتها بالبراءة. إن عدمَ احترام هذه القرارات وعدَّها وكأنها لا شيء يُعَدُّ تجاوزًا واعتداءً على شرف جهاز العدالة.

[نقطة 2: حول آية الحجاب]

النقطة الثانية: لقد حاول مقام الادعاء بحذلقةٍ إعطاءَ معانٍ لم تخطر على بالنا لمسألتين أو ثلاث من بين آلاف المسائل لاتهامنا، بينما توجد هذه المسائل في أمهات رسائل النور، وحازت على رضى وقبولِ المحققين من علماء الأزهر في مصر وعلماء الشام وحلب وعلماء مكة المكرمة والمدينة المنورة، وخاصة على رضى وقبول العلماء المحققين لرئاسة الشؤون الدينية، لذا فقد دهشتُ واستغربتُ عندما رأيت المدعي العام يورد بعض الردود وبعض الاعتراضات العلمية في لائحة الاتهام وكأنه عالمٌ من علماء الدين وشيخٌ من شيوخه!

ولنفرض جدلًا أن لي بعضَ الأخطاء، فلا يمكن أن تُعد ذنبًا يحاسِب عليه القانون، بل مجرد خطأ علمي، هذا مع العلم أن أي عالم من آلاف العلماء لم يرَ هذه الأخطاء التي يشير إليها المدعي العام ولم يعترض عليها.

ثم إن ثلاث محاكم برّأتنا وبرأت رسائل النور كلَّها سوى خمسَ عشرة كلمة واردة في “اللمعة الرابعة والعشرين” حول (الحجاب)، حيث أصدرت محكمة “أسكي شهر” عقوبات خفيفة بحقي وبحق خمسة عشر بالمائة من أصدقائي؛ وكنت قد ذكرت في تتمة دفاعي التي قدمتها إليكم بأنه لو كانت هناك عدالة على سطح الأرض لما قَبِلتْ ذلك الحُكم ضدي بسبب تفسيري ذاك، الذي اتبعتُ فيه حُكم ثلاثمائةٍ وخمسين ألف تفسير.

وقد حاول المدعي العام بذكائه وبمعاذير شتى اختيارَ بعض الجمل لكتاب ولخطابات تعود إلى عشرين سنة مضت وتحويرَها ضدنا، بينما أصبحت خمس أو ست محاكم -وليست ثلاث محاكم فقط- من المحاكم التي برأتنا شريكةً لنا في هذا الذنب أو الجرم المزعوم.

وأنا أذَكّر مقام الادعاء العام بضرورة عدم التعرض إلى كرامة تلك المحاكم العادلة.

[نقطة 3: حول انتقاد مؤسس الجمهورية]

النقطة الثالثة: إن نقدَ ومعارضةَ رئيس مات وانتهى أمره وانقطعت صلتُه بالحكومة، لكونه سببًا في بعض السلبيات في الانقلاب لا يُعدُّ ذنبًا أو جرمًا في نظر القانون.

ولم يكن انتقادُنا له صريحًا، بل قام المدعي العام -بحذلقته- بتطبيق ما جاء في بياننا بشكل عام وكلي على ذلك الرئيس، فما كان سرًّا من المعاني التي لم نوضحها أظهره هذا المدعي العام على الجميع وفضحه وركّز عليه أنظارَ الناس جميعًا، فإن كان هناك ذنبٌ في هذه المعاني فمن المفروض أن يكون المدعي العام شريكًا فيه، ذلك لأنه جلب أنظار الجماهير لهذه المعاني وحرّضهم.

[نقطة 4: حول تهمة التنظيم والجمعية]

النقطة الرابعة: على الرغم من قيام ثلاث محاكم بإصدار قراراتها بتبرئتنا بشكل قاطع من تهمة تشكيل جمعية، إلّا أن المدعي العام يحاول تكرار الأسطوانة القديمة حول الأوهام والمزاعم الخاصة بتشكيل جمعية سرية، ويُجهد نفسه في البحث عن أي معاذير غير حقيقية في هذا المجال.

ومع أن هناك عدة جمعيات سياسية ضارة لهذه الأمة ولهذا الوطن، فإنه يؤذَن لها ويسمح لها بأداء نشاطها، بينما يتم إلصاق تهمة “استغلال الدين لتحريض الناس على الإخلال بالأمن” بنا، مع أن هناك آلافَ الشهود وآلاف الشواهد وقراراتِ ستِ ولايات بعدم التعرض لنا، تُثبت بأن الصداقة الموجودة بين طلاب النور -وهي صداقة دراسة- هي في صالح الأمة وفي صالح الدين، وهي في سبيل تأمين السعادة الدنيوية والسعادة الأخروية، وأن هؤلاء الطلاب وقفوا وجاهدوا متساندين ضد جميع تيارات الإفساد سواء أكانت من الخارج أم من الداخل.

لذا فإن إلصاقَ تهمةِ تشكيل جمعية سرية والإخلالِ بالأمن مع أنه لم يسجَّل في ظرف عشرين عامًا أيّ حادثةِ إخلال للأمن ضد أي طالب من طلاب النور الذين يتجاوز عددهم مئات الآلاف.. إن مثل هذه التهم لا يحتدّ لها النوعُ الإنساني وحده، بل يحق لهذه الأرض أيضًا أن تحتدّ وتردّ هذه التهمة.

على أي حال، فإنني لا أجد مبررًا لإطالة الكلام، إذ إن دفاعي (الذي كتبتُه قبل لائحة الاتهام هذه) وتتمة دفاعي كافيتان للرد وللإجابة على المدعي العام.

الموقوف في سجن أفيون

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[توضيح إلى محكمة أفيون]

﴿باسمه سبحانه﴾

أوضّح لمحكمة أفيون ولرئيس محكمة الجنايات الكبرى أنه:

لقد قطعتُ علاقتي بالدنيا لأنني مفطور منذ البداية على عدم تحمل التحكم، وتبدو الحياة الآن أمام عيني ثقيلة جدًّا إلى درجة أنني أرى بأنني لا أستطيع العيش في مثل هذه الحياة المليئة بتحكمات لا معنى ولا ضرورة لها، إذ لا أستطيع تحمّل تحكمات ونوازع السيطرة لدى المئات من الأشخاص الرسميين خارج السجن، فقد مللتُ من مثل هذه الحياة، وأنا أطالبكم بكل ما أَملك من قوة أن تعاقبوني، وبما أنني لا أستطيع نيل الموت فإن من الضروري لي البقاءَ في السجن.

وأنتم تعلمون جيدًا أن الاتهامات الباطلة التي أَسْنَدها لي مقامُ الادعاء غيرُ موجودة وغيرُ واردة أصلًا، لذا فهي لا تكفي لإيقاع العقوبة بي، ولكن وجود تقصيرات كبيرة عندي تجاه الوظيفة الحقيقية هو الذي يسبب لي عقابًا معنويًّا، ولو كان الاستفسار مناسبًا فإنني مستعد للإجابة على استفساراتكم.

أجل إن ذنبي الوحيد المتأتي من تقصيراتي الكبيرة، والذي لا يُغتفر من حيث الحقيقة، هو أنني -بسبب عدم التفاتي إلى الدنيا- لم أعمل ما أنا مكلف به من إيفاء وظيفةٍ جليلةِ الشأن في سبيل الوطن والأمة وفي سبيل الدين، وأن عدم علمي ذلك لا يشكل عذرًا بالنسبة إليّ، وقد توصلت الآن إلى هذه القناعة في سجن “أفيون” هذا.

[لا نتبرؤ من علاقاتنا]

إن الذين يتهمون طلاب النور الذين تنحصر علاقتُهم الأخروية الخالصة برسائل النور وبمؤلفها، ويحاولون تحميلهم مسؤولية تشكيل جمعية سياسية، بعيدون كل البُعد عن العدالة والحقيقة.. أَثبتَ ذلك قرارُ التبرئة لثلاث محاكم بثلاث جهات، فضلًا عن هذا نقول:

إن جوهر الحياة الاجتماعية الإنسانية ولا سيما للأمة الإسلامية وأساسَها هو: وجود محبة خالصة بين الأقرباء، ووجودُ رابطة وثيقة بين القبائل والطوائف، ووجود أخوة معنوية وتعاونية نحو إخوته المؤمنين ضمن القومية الإسلامية، ووجود علاقةِ فداء نحو قومه وجنسه، ووجود التزام قوي ورابطة قوية لا تهتز مع الحقائق القرآنية التي تنقذ حياته الأبدية، ومع ناشري هذه الحقائق، وأمثالها من الروابط التي تحقق أساس الحياة الاجتماعية، وإن إنكارها لا يؤدي إلّا إلى قبول الخطر الأحمر الذي يتربص بنا في الشمال، والذي يبذر بذور الفوضى ويحاول القضاء على الأجيال وعلى القومية، ويجمع أطفالَ الناس هناك ويضعهم تحت تصرفه، ويحاول إزالة شعور القرابة وشعور القومية وإفسادَ المدنية البشرية والحياة الاجتماعية إفسادًا تامًا..

أقول: إنه بذلك الإنكار وذلك القبول يمكن إطلاق اسم الجمعية على طلاب النور، لذا فإن طلاب النور الحقيقيين يُظهرون علاقاتهم المقدسة مع الحقائق القرآنية، ويظهرون ارتباطهم الذي لا ينفصم مع إخوانهم في الحياة الآخرة؛ ولأنهم يتقبلون برحابة صدر أية عقوبة تقع عليهم بسبب هذه الأخوة فإنهم يعترفون بهذه الحقيقة كما هي في حضور محكمتكم العادلة، ولا يتدنَّون عند الدفاع عن أنفسهم إلى دَرَك الحيلة والنفاق والكذب.

الموقوف

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[ذيل تتمة الاعتراض]

ذيل تتمة الاعتراض المقدم

إلى الادعاء العام لمحكمة أفيون

[أولًا: ادعاؤكم فيه مئة خطأ]

أولًا: أُبيّن للمحكمة أن هذا الادعاء الجديد أيضًا مبني على ادعاءات قديمة لمحكمة “أسكي شهر” و”دنيزلي”، ومبني على التقرير المقدم من قبل خبراء سطحيين بعد تحقيقاتهم العابرة.

وقد ادعيت في محكمتكم: إن لم أُثبت مائةَ خطأ في هذا الادعاء فأنا راضٍ بإنزال عقاب مائة سنة من السجن بي، وها أنا الآن أثبت دعواي.

إن شئتم أقدم لكم الجدول المتضمن للأخطاء التي تزيد على المائة.

[ثانيًا: أتنازل عن جميع حقوقي بشرط]

ثانيًا: عندما أُرسِلتْ أوراقُنا وكُتُبُنا من محكمة” دنيزلي” إلى أنقرة كتبتُ لإخوتي -في غضون ترقبي وقلقي على صدور قرارٍ ضدنا- الفقرةَ التي في ختام بعض دفاعاتي، وهي أنه إذا استطاع موظفو العدالة الذين يدققون رسائل النور بهدف النقد والتقييم، أن يقووا إيمانهم وينقذوه، ثم حكموا عليّ بالإعدام، اشهدوا بأنني قد تنازلت لهم عن جميع حقوقي، لأننا خدام الإيمان ليس إلّا.

وإن المهمة الأساس لرسائل النور هي تقوية الإيمان وإنقاذه، لذا نجد أنفسنا ملزمين بالخدمات الإيمانية، دونما تمييز بين عدوٍ وصديق، ومن غير تحيّز لأية جهة كانت.

وهكذا.. أيها السادة أعضاءُ المحكمة، استنادًا إلى هذه الحقيقة، وفي ضوئها، قد استطاعت رسائل النور بحقائقها الناصعة وبراهينها الساطعة أن تستميل نحوها قلوب الكثيرين من أعضاء المحكمة وحملتهم على التعاطف معها، فلا يهمني بعدُ ما تريدون فعله، وما تقررون في حقي.. افعلوا ما شئتم فإني مسامحكم.. ولن أثور أو أغضب عليكم إطلاقًا، وهذا هو السبب في أنني تحملت أشد أنواع الأذى والجور والاستبداد والتعرض والإهانات المتكررة التي أثارت أعصابي والتي لم أُقابَل قبلُ بمثلها طوال حياتي كلها.. بل إنني لم ادعُ على أحد بالشر أو السوء.

وإن مجموعات رسائل النور التي بين أيديكم لهي دفاعي غير القابل للجرح أو الطعن، وهي خير دليل على زيف جميع الادعاءات المثارة ضدنا.

إنه لمثير للعجب والحيرة أنه في الوقت الذي دقق علماء أجلاء -من مصر والشام وحلب والمدينة المنورة ومكة المكرمة وعلماء من رئاسة الشؤون الدينية- مجموعاتِ رسائل النور ولم ينتقدوا منها شيئًا، بل استحسنوها وقدروها حق قدرها، وفي الوقت الذي حملت الرسائل مائة ألفٍ من أهل الحقيقة على التصديق بها رغم الظروف الصعبة المحيطة، ورغم ما أعانيه من الاغتراب والشيخوخة وقلة النصير، وفضلًا عن الهجمات الشرسة المتلاحقة.. أقول: في الوقت الذي تقدَّر الرسائلُ هكذا، إذا بالذكي19المقصود المدعي العام. الذي استجمع علينا ادعاءات واهية يتفوه بخطأ فاحش ينم عن سطحيته وسطحية نظرته للأمور، إذ قال: إن القرآن الكريم عبارة عن مائة وأربعين سورة! هذا الشخص نفسه يقيّم رسائل النور فيقول: “إن رسائل النور مع أنها تحاول تفسير القرآن الكريم وتأويل الأحاديث الشريفة، إلّا أنها لا تحمل ماهية علمية وقيمة راقية من حيث تقديمها المعرفة إلى قرائها”! ألا يُفهم من تنقيده هذا أنه بعيد كل البعد عن القانون والحقيقة والحق والعدالة!

وأشكو إليكم أيضًا:

لقد أسمعتمونا الادعاء العام كاملًا طوال ساعتين والذي أدمى قلوبنا لما فيه من أخطاء تربو على المائة سجّلناها في أربعين صفحة، إلّا أنكم لم تفسحوا لي مجال دقيقتين من الزمان كي أجيبه في صفحة ونصف الصفحة رغم إصراري على ذلك، لذا أطالبكم باسم العدالة بقراءة اعتراضي بتمامه.

[ثالثًا: لكل حكومة معارضون]

ثالثًا: إن لكل حكومة معارضين، ولا يسمح القانون بالتعرض لهم ما داموا لم يخلّوا بالنظام، أفيمكن لي ولأمثالي ممن أعرضنا عن الدنيا ونسعى للقبر أن نَدَع السعي للحياة الباقية على وفق المسلك الذي سلكه أجدادنا الميامين طوال ألف وثلاثمائة وخمسين سنة، وبهدي تربية قرآننا العظيم، وفي ضوء دساتير يقدّسها ثلاثمائة وخمسون مليونًا من المؤمنين في كل عصر، ثم ننشغل بحياة دنيوية قصيرة فانية، وننقاد لقوانين ودساتير غير أخلاقية للمدنية السفيهة، بل قوانينَ جائرةٍ وحشية كما هي في البلشفية، وننحاز إليها تحت ضغوط أعدائنا ودسائسهم؟!

فليس هناك قانون في العالم كله ولا إنسان يملك ذرة من الإنصاف يُكره الآخرين على قبول هذا بذاك.

إلّا أننا نقول لأولئك المعارضين: إننا لم نتعرض لكم فلا تتعرضوا لنا.

وهكذا بناء على هذه الحقيقة، إننا لسنا مع زعيم أصدر حسب هواه أوامر باسم القانون ونفذها بقوة لتحويل “جـامع أياصوفيا” إلى دار للأصنام، وجَعَل مقر المشيخة العامة ثانوية للبنات، لسنا معه فكرًا ولا موضوعًا، ولا من حيث الدافع ولا من حيث النتيجة والغاية، ولا نجد أنفسنا ملزمين بقبول أمر كهذا.

والواقع أنه بالرغم من حياة الأَسْر والتشرد التي عشتها خلال هذه السنوات العشرين، والتي ذقت فيها ألوانًا من العذاب، وتعرضت لأقسى وأشنع أساليب الظلم والاستبداد، ومع أن هناك مئات الألوف من إخواني النوريين الأوفياء، فإننا لم نتدخل في الأمور السياسية ولم تُسجَّل حادثة واحدة تدل على تعرضنا للأمن أو إخلالنا بالنظام.

إن ما أتعرض له في أخريات أيامي هذه، من الإهانات المتكررة والمعاملات الظالمة التي أُقابَل بها، وحياة الاغتراب والتشرد التي أعيشها والتي لم أر مثلها من قبلُ جعلني أمَلُّ الحياة.. إنني سئمت الحرية المقيدة، تلك الحرية التي يحدها التحكم ويعقلها الجور والاستبداد.

لقد رفعتُ إليكم طلبًا لا لإطلاق سراحي وتخفيف عقابي وإبراء ساحتي كما هو المألوف، بل لإنزال أشد العقاب بي وأقساه، نعم أشده وأقساه لا أخفِّه وأهونه، ذلك لأنه لا سبيل للتخلص من مثل هذه المعاملة العجيبة المنكرة سوى أحد أمرين: السجن أو القبر.

إن الطريق إلى القبر مسدود أمامي لا أستطيع الحصول عليه، لأن الانتحار محظور شرعًا، ثم إن الأجل سر خفي، لا يدرك الإنسان كُنهَه بَلْهَ أن تطاله يداه، لذا فقد رضيت بالسجن الذي أنا رهين اعتقاله وتجريده منذ حوالي ستة أشهر، إلّا أنني لم أقدم هذا الطلب في الوقت الحاضر إلّا نزولًا عند رغبة إخواني الأبرياء.

[رابعًا: لا أطلب ثناءً لنفسي]

رابعًا: إنني خلال هذه السنوات الثلاثين من حياتي، والتي أطلقتُ فيها على نفسي اسم “سعيد الجديد” أدّعي فأقول بأنني قد بذلت ما وسعني الجهد لكبح جماح نفسي الأمارة بالسوء، وصونها من العُجب والتطلع إلى الشهرة والتفاخر، بل قد جرحتُ أكثر من مائة مرة مشاعرَ طلاب النور الذين يحملون حسن ظنٍ مفرط بشخصي. يشهد على هذا ما كتبته في رسائل النور وحقائقها المتعلقة بشخصي، والمنصفون ممن يختلفون إليَّ بجد، والأصدقاء جميعًا.

فأنا لست المالك لبضاعة النور، بل لست إلّا دلّالًا ضعيفًا بسيطًا في حانوتِ مجوهراتِ القرآن، كما أنني بتصديق من إخواني المقربين، وبما شاهدوا من أماراتها العديدة، عازم على ألّا أضحي بالمناصب الدنيوية وأمجادها الزائفة وحدها، بل لو أُسند إليّ -فرضًا- مقاماتٌ معنوية عظمى، فإنني أضحي بها أيضًا لخدمتي للإيمان والقرآن، خشية اختلاط حظوظ نفسي بإخلاصي في الخدمة، وقد قمت بهذا فعلًا.

ومع ذلك فقد جعلَتْ محكمتُكم الموقرة مشاعرَ الاحترام التي أبداها نحوي بعضُ إخواني -نظيرَ انتفاعهم برسائل النور كشكر معنوي من قبيل احترامٍ زائدٍ عن احترام المرء لأبيه- مع رفضي وعدم قبولي لها، جعلَتْها مدارَ استجوابنا وكأنها مسألة سياسية، وحملتم فريقًا منهم على التنكر لذلك الاحترام، فيا عجبًا أي ذنب وأي جريرة في امتداح جاء على لسان الغير ولم يرض به هذا العاجز ولا يرى نفسه لائقًا بذلك؟!

[خامسًا: لسنا تنظيمًا]

خامسًا: إني أعلن لكم بصراحة تامة أن محاولة إلصاق تهمة الانتماء إلى التكتلات والتجمعات والتدخل في الشؤون الداخلية، إلى طلبة النور الذين لا علاقة لهم -بأيّ وجه- بالتحزب والتجمع والتكتلات والتيارات السياسية المختلفة، ما هي إلّا من وحي منظمةِ الزندقة المتسترة التي تعمل منذ أربعين سنة على هدم الإسلام ومحو الإيمان، خادمةً بذلك لنوع من البلشفية، والتي سبّبت -هذه المنظمة- في تغذية روح التطرف والفوضى في هذه البلاد، سواء بعلم أو بغير علم، واتخذت موقفًا مضادًّا تجاهنا.

بيد أن ثلاث محاكم مختلفة قد اتفقت على تبرئة ساحة رسائل النور وَطَلَبَتِها من تهمة الانتماء إلى التكتلات، سوى محكمة واحدة، وهي محكمة “أسكي شهر” حيث حكمت عليّ بالسجن لمدة عام واحد، ولمدة ستة أشهر على خمسة عشر من إخواني من مجموع مائة وعشرين شخصًا، ولعل الذي دفع محكمةَ أسكي شهر إلى اتخاذ ذلك القرار يعود إلى ورود فقرة كُتبت قديمًا جاءت ضمن رسالة صغيرة تتعلق بمسألة واحدة وهي “الحجاب“.

وكان نص تلك الفقرة كما يأتي: “لقد طرق سمعَنا أن صباغَ أحذية قد تعرض لزوجةِ رجل ذي منصب دنيوي كبير، كانت مكشوفة المفاتن، وراودها نهارًا جهارًا في قلب العاصمة أنقرة! أليس هذا الفعل الشنيع صفعة قوية على وجوه أولئك الذين لا يعرفون معنى الحياء من أعداء العفة والحجاب؟”.

وإذن فإن اصطناع الأسباب الواهية والاتهامات الباطلة ضد طلبة رسائل النور الآن، إن هو إلّا بمثابة الحكم ضد تلك المحاكم الثلاث، ومحاولةٌ لإلصاق التهمة بها ووصمِها بوصمة الخيانة والعار.

[سادسًا: لا تبارزوا رسائلَ النور]

سادسًا: لا يمكن المبارزة مع رسائل النور، فقد اتفقت كلمة علماء الإسلام الذين اطلعوا عليها أنها تفسير قيم صادق للقرآن الكريم، أي إنها تنطوي على براهين دامغة لحقائقه الناصعة وهي معجزة معنوية من معجزات القرآن في هذا العصر، وسدٌّ منيع أمام الأخطار والمهالك التي تتربص بهذه البلاد وبهذه الأمة من الشمال.

فالواجب يقتضي -من حيث الحقوق العامة- أن تعمل محكمتكم الموقرة على الترغيب في هذه الرسائل بدلًا من تخويف طلابها وترغيبهم عنها، هذا ما نعلمه، بل ننتظره منكم.

ومن المعلوم أن عدم التعرض لكتب الملاحدة وبعض الساسة المتزندقين ومجلاتهم وجرائدهم -مع ضررها الفادح على الأمة والبلاد والأمن العام- تحت ستار الحرية العلمية، يدفعنا حتمًا إلى القول والتساؤل: ما الجانب المحظور من التحاق شاب بريء يحتاج إلى العون والمساعدة إلى صفوف طلبة النور كي ينقذ إيمانه وينجو من التردي في هاوية الأخلاق الذميمة؟ أفليس من الحكمة والعدل والواجب أن تحتضن الحكومة ووزارة المعارف (التربية) هذا العملَ وتُشجعه وتقدره حق قدره بدلًا من أن تعمل على مكافحته وعلى ملاحقتنا دون سبب؟!

كلمتي الأخيرة: نسأل اللّٰه أن يوفق الحكام إلى إحقاق الحق وإقرار العدل.. آمين

﴿حسبنا اللّٰه ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير﴾

﴿الحمد للّٰه رب العالمين﴾

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[كلمتي الأخيرة]

كلمتي الأخيرة

أودّ أن أبيّن لهيئة المحكمة ما يلي:

لقد أدركتُ من لائحة الاتهام ومن وضعي لمرات عديدة وطويلة في السجن الانفرادي بأن شخصي هو الهدف في هذه المسألة، فقد لوحظ وجود مصلحة لتهوين شأني والنيل من شخصي، وقد زُعم أنني شخص ضار للإدارة وللأمن وللوطن، وأنني أسعى تحت ستار الدين إلى مقاصد دنيوية ومن أجل نوع من السياسة؛ و ردًّا على هذا فإنني أقول لكم بصراحة تامة:

لا تمدّوا يدكم بالأذى إلى رسائل النور، ولا إلى طلاب النور الميامين من أجل هذه الأوهام ومن أجل محاولتكم محاربتي شخصيًّا، لأنهم هم الأبناء المضحون في سبيل هذا الوطن وفي سبيل هذه الأمة، وإلّا فسيلحق بهذا الوطن وبهذه الأمة ضرر كبير، وقد يكون ذلك سبيلًا إلى خطر عليهما.

وأريد أن أؤكد لكم: لقد قررتُ أن أَقبل -في ضوء مسلكي الحالي- أيَّ أذى وأيةَ إهانة وأيَّ عذاب وأيَّ عقاب موجه إلى شخصي، بشرط ألّا يأتي أي ضرر إلى رسائل النور وإلى طلابها بسببي، ففي هذا ثواب لي في الآخرة، وهو وسيلة لإنقاذي وخلاصي من شرور نفسي الأمارة بالسوء، فبينما أبكي من ناحية فإنني مسرور من ناحية أخرى.

ولو لم يدخل هؤلاء الأبرياء المساكين السجن معي من أجل هذه المسألة لكانت لهجتي في الدفاع شديدة جدًّا، وقد شاهدتم أنتم أيضًا ورأيتم كيف حاول مَن كتب لائحة الادعاء البحثَ عن أسباب واهية ومعاذيرَ باطلة، فقدم جميعَ ما كتبتُه من كتب ومن خطابات سرية خاصة وغير خاصة في ظرفِ عشرين أو ثلاثين سنة من حياتي كأنني قد كتبتها بأجمعها في هذه السنة، وساق لبعضها معانيَ خاطئةً، وقدمها وكأنها لم تظهر للعيان ولم تدخل أية محكمة ولم يشملها أي قانون من قوانين العفو ولم تتعرض لمرور الزمن.. كل هذا من أجل النيل مني، والحطِّ من شأني.

ومع أنني ذكرت أكثر من مائة مرة بأني أعترف بضآلة شأني وصغر قيمتي، ومع أن معارضِيَّ يحاولون بكل وسيلةٍ النَّيلَ مني وتهوينَ أمري، إلا أن سبب محبة عامة الناس لي محبةً أقلقت رجال السياسة يعود إلى أن تقوية الإيمان يحتاج في هذا الزمن وفي هذه الظروف حاجة ملحة وقطعية إلى أشخاص لا يضحون بالحقيقة -في موضوع الدين- من أجل أي شيء على الإطلاق، ولا يجعل أحدهم الدين وسيلة وآلة لأي غرض ولأي شيء، ولا يعطي لنفسه حظًّا، وذلك لكي يمكن الاستفادة من إرشاداته في دروس الإيمان وتحصل القناعة التامة به.

نعم، إنه لم يحدث في أي ظرف من الظروف أَن اشتدت الحاجة إلى الخدمة مثلما بَلغتَه في عصرنا هذا، وذلك لأن الأخطار قد داهمتنا من الخارج بشدة وضراوة بالغتين، ومع اعترافي وإعلاني بأن شخصي العاجز لا يكفي لسدِّ هذه الحاجة أو مَلء ذلك الفراغ، فقد ذهب البعض إلى الظن بأن شيئًا من ذلك يمكن أن يتحقق على يديّ، لا لمزية معينة في شخصي، بل لشدة الحاجة إلى من يقوم بمثل هذا العمل، ولعدم بروز أحد بروزًا ظاهرًا لتحمل تلك المسـؤولية العظمى.

ولقد تأملتُ منذ أمد طويل في هذه المسألة في حيرة وتعجب، إذ على الرغم من أخطائي وعيوبي الشخصية المدهشة، وعدم جدارتي للقيام بمثل هذا العمل الجليل بأي وجه كان، فقد بدأت أفهم الحكمة في التفات العامة وإبدائهم ضربًا من مشاعر الاحترام نحوي.

والحكمة هي أن الحقائق التي تحتوي عليها رسائل النور، والشخصية المعنوية التي يمثلها كيانُ طلبتها، قد يَمَّـمتا وجهَ تلك الحاجة شطرهما، ولا سيما في ظرفٍ مثل ظرفنا ومثل وسطنا الحاليين، ومع أن حظي من الخدمة قد لا يبلغ الواحد في الألف، فإن البعض يعتقدون فيّ تجسيدًا لتلك الحقيقة الخارقة وممثلًا لتلك الشخصية الأمينة المخلصة، فيُبدون نحوي ذلك النوعَ من الالتفات.

والواقع أن هذا النوع من الالتفات بقدر ما هو ضارٌّ بي، ثقيل على نفسي أيضًا، حتى إنني آثرت الصمت بغير حق عن تلك الخسائر المعنوية، حفاظًا على الحقائق النورية وشخصيتها المعنوية. وربما يعود السبب في ذلك النوع من الالتفات إلى إشارة مستقبلية للإمام علي رضي اللّٰه عنه وللشيخ الكيلاني قُدِّس سره، ولبعض الأولياء الآخرين، بإلهامٍ إلهيّ إلى حقيقة رسائل النور، وشخصيةِ طَلَبَتِها المعنوية.. وما ذلك إلّا لكون تلك الرسائل مرآة صغيرة عاكسة لمعجزة القرآن المعنوية في عصرنا الحاضر.

ولعل ذلك البعض قد أخذ شخصي الضعيف بنظر الاعتبار، لا لشيء إلّا لكوني خادمًا لتلك الحقيقة الخارقة، ولقد أخطأتُ عندما لم أصرف التفاتهم الجزئي لشخصي -بتأويلٍ- إلى رسائل النور، والسبب في هذا يعود إلى ضعفي وكثرة الأسباب التي قد تدفع مساعدِيَّ إلى الخوف، وما قبولي جزءًا مما يخصّ شخصي في الـظاهر إلّا لإضفاء سمة الاعتماد وصبغة الثقة على أقوالي لا غير.

إنني أنذركم بما يلي:

لا داعي إطلاقًا للقضاء على شخصي الفاني المشارف على باب القبر، ولا داعي كذلك إلى إعطاء مثل هذه الأهمية لوجودي، وإنه مما يجب أن تَعلموه جيدًا هو أن المبارزة مع رسائل النور محاولةٌ يائسة.. إنكم لن تستطيعوا مبارزتها، فلا تبارزوها.. إنكم لن تتغلبوا عليها. ولئن حاولتم مبارزتها، فلن تعودوا إلّا بأضرار جسيمة على الأمة والبلاد معًا، ولكن لن تستطيعوا تشتيت شمل طلبتها أو تفكيك وحدتهم مهما حاولتم.. إذ ليس من السهل حملُ أحفاد أجدادنا وأبنائهم البسلاء الذين ضحَّوا بأكثر من خمسين مليونًا من الشهداء في سبيل الحفاظ على القرآن وحقائقه القيمة، على التنكر والنسيان لماضيهم المجيد، ولا الحيلولة دون بطولاتهم الدينية الرائعة التي كانت دومًا محط أنظار العالم الإسلامي وموضع إعجابه، وحتى لو انسحبوا من الميدان فإن أولئك الطلاب الأوفياء لن يتخلوا عن رسائل النور التي هي مرآة عاكسة لتلك الحقيقة ولن يرضوا -بذلك التخلي- أن يصيب الضرر الوطن والأمة والأمن.

وآخر قولي: ﴿فإنْ تولَّوا فقل حسبي اللّٰه لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم﴾.

❀   ❀   ❀

Exit mobile version