الشعاع الرابع عشر‌ [3/4]: رسائل من السجن

[هذا الشعاع يتضمن الدفاعات التي أدلى بها الأستاذ النورسي في جلسات محاكمته بمحكمة أفيون، وكان ذلك في عامَي 1948 – 1949، كما يتضمن دفاعات طلاب النور كذلك، والرسائل التي بعث بها الأستاذ النورسي إليهم]

[هذا القسم هو جزء ثالث من أربعة أجزاء من الشعاع الرابع عشر، وهو يتضمن رسائل بَعَث بها الأستاذ النورسي إلى طلابه حين كانوا جميعًا في سجن أفيون]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

 ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

 كل يوم من أيام العمر التي تمضي في السجن، يمكن أن يُكسِب المرءَ ثوابَ عبادة عشرة أيام، ويمكن أن يحوّل ساعاته الفانية إلى ساعات باقية خالدة.. بل يمكن أن يكون قضاء بضع سنين في السجن وسيلة نجاة من سجن أبدي لملايين السنين.
وهذا الربح العظيم مشروط لأهل الإيمان بأداء الفرائض، والتوبة إلى اللّٰه من الذنوب والمعاصي التي دفعته إلى السجن، والتوجه إليه تعالى بالشكر صابرًا محتسبًا، علمًا أن السجن نفسَه يحول بينه وبين كثير من الذنوب.
المحتويات عرض
2. [رسائل من السجن]

[الشعاع الرابع عشر: 3/4]

[رسائل من السجن]

 

رسائل من السجن

[أنوارُ سلوانٍ ثلاثة]

﴿باسمه سبحانه﴾

السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته أبدًا دائمًا..

أيها الإخوة الأعزاء الأوفياء..‌

لقد رأيت أنوارَ سُلوانٍ ثلاثةً، أبينها في نقاط ثلاث للذين ابتُلوا بالسجن ومن يقوم بنظارتهم ورعايتهم ومن يعينهم في أعمالهم وأرزاقهم.

[السجن يمكن أن يكون وسيلة نجاة أخروية]

النقطة الأولى: أن كل يوم من أيام العمر التي تمضي في السجن، يمكن أن يُكسِب المرءَ ثوابَ عبادة عشرة أيام، ويمكن أن يحوّل ساعاته الفانية -من حيث النتيجة- إلى ساعات باقية خالدة.. بل يمكن أن يكون قضاء بضع سنين في السجن وسيلة نجاة من سجن أبدي لملايين السنين.

فهذا الربح العظيم مشروط لأهل الإيمان بأداء الفرائض، والتوبة إلى اللّٰه من الذنوب والمعاصي التي دفعته إلى السجن، والتوجه إليه تعالى بالشكر صابرًا محتسبًا، علمًا أن السجن نفسَه يحول بينه وبين كثير من الذنوب.

[زوال الألم لذة]

النقطة الثانية: أن زوال الألم لذةٌ، كما أن زوال اللذة ألمٌ.

نعم، إن كل من يفكر في الأيام التي قضاها بالهناء والفرح يشعر في روحه بحسرة وأسف عليها، حتى ينطلق لسانُه بكلمات الحسرات: أواه.. آه.. بينما إذا تفكر في الأيام التي مرت بالمصائب والبلايا فإنّه يشعر في روحه وقلبه بفرح وبهجة من زوالها حتى ينطلق لسانه بـ: “الحمد للّٰه والشكر له، فقد ولّت البلايا تاركةً ثوابَها”، فينشرح صدره ويرتاح.

أي إنّ ألمًا مؤقتًا لساعة من الزمان يترك لذة معنوية في الروح، بينما لذةٌ مؤقتة لساعة من الزمان تترك ألمًا معنويًّا في الروح، خلافًا لذلك.

فما دامت الحقيقة هذه، وساعاتُ المصائب التي ولّت مع آلامها أصبحت في عِداد المعدوم، وأنّ أيام البلايا لم تأتِ بعدُ، فهي أيضًا في حكم المعدوم.. وإنّه لا ألمَ من غير شيء.. ولا يَرِدُ من العدم ألمٌ.. فمن البلاهة إذن إظهار الجزَع ونفاد الصبر الآن، من ساعات آلامٍ ولّتْ، ومن آلامٍ لم تأتِ بعدُ، علمًا أنها جميعًا في عِداد المعدوم.

ومن الحماقة أَيضًا إظهار الشكوى من اللّٰه وتركُ النفس الأمارة المقصّرة من المحاسبة، ومن بعد ذلك قضاءُ الوقت بالحسرات والزفرات.. أَوَ ليس من يفعل هذا أَشدَّ بلاهةً ممن يداوم على الأكل والشرب طَوالَ اليوم خشيةَ أَنْ يجوع أو يعطش بعد أيام؟

نعم، إنّ الإنسان إن لم يُشتِّتْ قوة صبره يمينًا وشمالًا -إلى الماضي والمستقبل- وسدَّدَها إلى اليوم الذي هو فيه، فإنها كافيةٌ لتحل له حبالَ المضايقات.

حتى إنني أَذكر -ولا أَشكو- أَنّ ما مرَّ عليَّ في هذه المدرسة اليوسفية الثالثة1المقصود: سجن “أفيون” حيث دخله الأستاذ النورسي وطلاب النور سنة ١٩٤٨. في غضون أيامٍ قلائل من المضايقات المادية والمعنوية لم أَرها طوال حياتي، ولا سيما حرماني من القيام بخدمة النور مع ما فيّ من أمراض، وبينما كان قلبي وروحي يعتصران معًا من الضيق واليأس، إذا بالعناية الإلهية تمدني بالحقيقة السابقة، فانشرح صدري أيّما انشراح، وولّت تلك المضايقات، فرضيتُ بالسجن وآلامه والمرض وأَوجاعه؛ إذ مَن كان مثلي على شفير القبر يُعَدّ ربحًا عظيمًا له أن تتحول ساعةٌ من ساعاته التي يمكن أن تمر بغفلة إلى عشر ساعات من العبادة.. فشكرت اللّٰه كثيرًا.

[إعانة السجناء صدقة مأجورة]

النقطة الثالثة: إن القيام بمعاونة المسجونين بشفقة ورأفة وإعطاءهم أرزاقهم التي يحتاجون إليها وضماد جراحاتهم المعنوية ببلسم التسلّي والعزاء، مع أنه عمـل بسيـط، إلّا أَنّه يحمل في طياته ثوابًا جزيلًا وأجرًا عظيمًا.. حيث إن تسليم أرزاقهم التي تُرسل إليهم من الخارج يكون بحكم صَدقة، وتُكتب في سجل حسناتِ كلِّ مَن قام بهذا العمل، سواءٌ الذين أَتَوا بها من الخارج أو الحراس أو المراقبون الذين عاونوهم، ولا سيما إن كان المسجون شيخًا كبيرًا أو مريضًا أو غريبًا عن بلده أو فقيرًا معدمًا، فإن ثواب تلك الصدقة المعنوية يزداد كثيرًا.

وهذا الربح العظيم مشروط بأداء الفرائض من الصلوات لتُصبح تلك الخدمة لوجه اللّٰه.. مع شرط آخر هو أن تكون الخدمة مقرونة بالشفقة والرحمة والمحبة من دون أَن يحمّل شيئًا من المنّة.

❀   ❀   ❀

 

[الشباب في أمسّ الحاجة إلى رسائل النور]

حاشية صغيرة لرسالة “مرشد الشباب”

﴿باسمه سبحانه﴾

إن المسجونين هم في أمَسِّ الحاجة إلى ما في رسائل النور من سلوان حقيقي وعزاء خالص، ولا سيما أولئك الشبان الذين تلقَّوا صفعات التأديب ولطمات التأنيب بنَـزواتهم وأهوائهم، فقضوا نضارةَ عمرهم في السجن، فحاجة هؤلاء إلى النور كحاجتهم إلى الخبز.

[إيقاظٌ للشباب]

إن عروق الشباب تنبض لهوى المشاعر، وتستجيب لها أكثرَ مما تستجيب للعقل وترضخ له، وسَورات الهوى -كما هو معلوم- لا تبصر العقبى، فتُفضِّل درهمًا من لذة حاضرة عاجلة على طنٍ من لذة آجلة، فيُقْدِم الشابُّ بدافع الهوى على قتل إنسان بريء للتلذذ بدقيقة واحدة من لذة الانتقام، ثم يقاسي من جرائها ثمانيةَ آلاف ساعة من آلام السجن.. والشاب ينساق إلى التمتع لساعة واحدة في اللهو والعبث -في قضيةٍ تخص الشرف- ثم يتجرع من ورائها آلام ألوف الأيام من سجنٍ وخوفٍ وتوجسٍ من العدو المتربص به.. وهكذا تضيع منه سعادةُ العمر بين قلق واضطراب وخوف وآلام.

وعلى غرار هذا يقع الشباب المساكين في ورطات ومشاكل عويصة كثيرة حتى تُحوّل ألطفَ أيام حياتهم وأحلاها إلى أمرّ الأيام وأقساها، وفي حالة يرثى لهم ولا سيما بعد أن هبّت عواصفُ هوجاء من الشمال تحمل فتنًا مدمّرة لهذا العصر؛ إذ تستبيح -لهوى الشباب الذي لا يرى العقبى- أعراضَ النساء والعذارى الفاتنات وتدفعهم إلى الاختلاط الماجن البذيء، فضلًا عن إباحتها أموالَ الأغنياء لفقراء سفهاء.

[خطر يهدد الشباب]

إن فرائص البشرية كلَها لترتعد أمام هذه الجرائم المنكرة التي تُرتكب بحقها، فعلى الشباب المسلم في هذا العصر العصيب أن يشمّروا عن سواعد الجد لينقذوا الموقف، ويَسُلُّوا السيوفَ الألماسية لحجج رسائل النور وبراهينها الدامغة -التي في رسالة “الثمرة” و”مرشد الشباب” وأمثالهما- ويدافعوا عن أنفسهم، ويصدّوا هذا الهجوم الكاسح الذي شُنّ عليهم من جهتين.. وإلّا فسيضيع مستقبلُ الشباب في العالم، وتذهب حياتُه السعيدة، ويفقد تنعّمه في الآخرة، فتنقلب كلُها إلى آلامٍ وعذاب؛ إذ سيكون نـزيلَ المستشفيات، بما كَسبت يداه من إسراف وسفاهة.. ونـزيلَ السجون، بطَيشه وغيّه.. وستبكي أيامُ شيخوخته بكاءً مرًا، ويزفر زفرات ملؤها الحسرات والآلام.

ولكن إذا ما صان نفسه بتربية القرآن، ووقاها بحقائق رسائل النور، فسيكون شابًا رائدًا حقًا، وإنسانًا كاملًا، ومسلمًا صادقًا سعيدًا، وسلطانًا على سائر المخلوقات.

[لنغنم شبابًا دائمًا]

نعم، إن الشاب إذا دفع ساعة واحدة من أربع وعشرين ساعة من يومه في السجن إلى إقامة الفرائض، وتاب عن سيئاته ومعاصيه التي دفَعَتْه إلى السجن، وتجنّب الخطايا والذنوب مثلما يجنّبه السجنُ إياها.. فإنه سيعود بفوائدَ جمّة إلى حياته وإلى مستقبله وإلى بلاده وإلى أمته وإلى أحبّائه وأقاربه، فضلًا عن أنه يكسب شبابًا خالدًا في النعيم المقيم بدلًا من هذا الذي لا يدوم خمسَ عشرة سنة.

هذه الحقيقة يُبشِّر بها ويخبر عنها عن يقين جازم جميعُ الكتب السماوية وفي مقدمتها القرآنُ الكريم.

نعم، إذا ما شكر الشاب على نعمة الشباب -ذلك العهدِ الجميل الطيب- بالاستقامة على الصراط السوي، وأداء العبادات، فإن تلك النعمة المهداة تزداد ولا تنقص، وتبقى من دون زوال، وتصبح أكثر متعةً وبهجة.. وإلّا فإنها تكون بلاء ومصيبة مؤلمة ومغمورة بالغم والحزن والمضايقات المزعجة حتى تذهب هباءً فيكون عهدُ الشباب وبالًا على نفسه وأقاربه وعلى بلاده وأمته.

[حين يتحول السجن إلى محل عبادة وخلوة]

هذا وإن كلَّ ساعة من ساعات المسجون الذي حُكم عليه ظلمًا تكون كعبادة يومٍ كامل له، إن كان مؤديًا للفرائض، ويكونُ السجن بحقه موضعَ انـزواء واعتزال من الناس كما كان الزهّاد والعُبّاد ينـزوون في الكهوف والمغارات ويتفرغون للعبادة، أي يمكن أن يكون هو مثل أولئك الزهاد.

وستكون كل ساعة من ساعاته -إن كان فقيرًا ومريضًا وشيخًا، متعلقًا قلبُه بحقائق الإيمان، وقد أناب إلى اللّٰه، وأدّى الفرائض- في حُكم عبادة عشرين ساعة له، ويتحوّل السجنُ بحقّه إلى مدرسة تربوية إرشادية، وموضعِ تحابب ومكان تعاطف، حيث يقضي أيامَه مع زملائه في راحة فضلًا عن راحته وتوجه الأنظار إليه بالرحمة، بل لعله يفضّل بقاءَه في السجن على حريته في الخارج التي تنثال إليه الذنوب والخطايا من كل جانب، ويأنس بما يتلقى من دروس التربية والتزكية فيه.

وحينما يغادره لا يغادره قاتلًا ولا حريصًا على أخذ الثأر، وإنما يخرج رجلًا صالحًا تائبًا إلى اللّٰه، قد غنم تجاربَ حياتية غزيرة، فيُصبح عضوًا نافعًا للبلاد والعباد، حتى حدا الأمر بجماعةٍ كانوا معنا في سجن “دنيزلي” إلى القول، بعد ما رأوا الذين أخذوا دروسًا إيمانية في سمو الأخلاق ولو لفترة وجيزة من رسائل النور:

“لو تلقّى هؤلاء دروسَ الإيمان من رسائل النور في خمسة عشر أسبوعًا، فإنه أجدى لإصلاحهم من إلقائهم إلى السجن خمس عشرة سنة”.

فما دام الموتُ لا يفنى من الوجود، والأجلُ مستورٌ عنا بستار الغيب، ويمكنه أن يحلّ بنا في كل وقت.. وأن القبر لا يُغلق بابُه.. وأن البشرية تغيب وراءه قافلةً إثر قافلة.. وأن الموت نفسه بحق المؤمنين ما هو إلّا تذكرة تسريح وإعفاء من الإعدام الأبدي -كما وُضّح ذلك بالحقيقة القرآنية- وأنه بحق الضالين السفهاء إعدام أبدي كما يشاهدونه أمامهم؛ إذ هو فراق أبدي عن جميع أحبتهم وأقاربهم بل الموجودات قاطبة.. فلا بد ولا شك بأن أسعد إنسان هو مَن يشكر ربه صابرًا محتسبًا في سجنه مستغلًا وقته أفضل استغلال، ساعيًا لخدمة القرآن والإيمان مسترشدًا برسائل النور.

[خلاصة تجربتي]

أيها الإنسان المبتلَى بالملذات والمُتع..

لقد علمتُ يقينًا طوال خمس وسبعين سنة من العمر، وبألوفِ التجارب التي كسبتُها في حياتي، ومثلها من الحوادث التي مرت عليّ: أن الذوقَ الحقيقي، واللذةَ التي لا يشوبها ألم، والفرحَ الذي لا يكدّره حُزن، والسعادةَ التامة في الحياة إنما هي في الإيمان، وفي نطاق حقائقه ليس إلّا. ومن دونه فإن لذةً دنيوية واحدة تحمل آلامًا كثيرة كثيرة. وإذ تُقدِّم إليك الدنيا لذةً بقدر ما في حَبَّةِ عنب، تصفعك بعشر صفعات مؤلمات، سالبةً لذةَ الحياة ومتاعَها.

أيها المساكين المبتلَون بمصيبة السجن..

ما دامت دنياكم حزينة باكية، وأن حياتكم قد تعكرت بالآلام والمصائب، فابذلوا ما في وسعكم كيلا تبكي آخرتُكم، ولتفرح وتحلو وتسعد حياتكم الأبدية.

فاغتنموا يا إخوتي هذه الفرصة، إذ كما أن مرابطةَ ساعة واحدة أمام العدو ضمن ظروف شاقة يمكن أن تتحول إلى سنة من العبادة، فإن كل ساعة من ساعاتكم التي تقاسونها في السجن تتحول إلى ساعات كثيرة هناك إذا ما أديتم الفرائض، وعندها تتحول المشقات والمصاعب إلى رحماتٍ وغفران.

سعيد النورسي

 ❀   ❀   ❀

[حكمة سَوق القدَر الإلهي لنا إلى المدرسة اليوسفية]

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

لا أعزيكم، بل أهنئكم..

إذ ما دام القدر الإلهي قد ساقنا إلى هذه المدرسة اليوسفية الثالثة لحكمة اقتضاها، وأنه سيطعمنا قسمًا من أرزاقنا دعتنا إلى هنا، وما دامت تجاربنا القاطعة قد علّمتنا -لحدّ الآن- أن العناية الإلهية لطيفة بنا وقد جعلتنا ننال سر الآية الكريمة: ﴿وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم﴾، وأن إخواننا الحديثي العهد في المدرسة اليوسفية هم أحوج الناس إلى السلوان الذي تورثه رسائل النور، وأن العاملين في دوائر العدل هم أشد حاجة من الموظفين الآخرين إلى القواعد والدساتير السامية التي تتضمنها رسائل النور، وأن أجزاء هذه الرسائل تؤدي لكم مهمتكم خارج السجن وبكثرة كاثرة، وأن فتوحاتها لا تتوقف، وأن كل ساعة فانية هنا في السجن تصبح بمثابة ساعات من العبادة الباقية… [فـ]ينبغي لنا -وفق النقاط المذكورة- أن نتجمل بالصبر والثبات شاكرين خالقنا مستبشرين إزاء هذه الحادثة.

أُعيد إليكم الرسائلَ الصغيرة المسلية كلها، والتي كتبناها في سجن “دنيزلي”.

نسأل اللّٰه أن تُسَلِّيكم أيضًا تلك الفقرات المشحونة بالحقائق.‌

❀   ❀   ❀

[ظهور المُفتين والأئمة والوعاظ في صفوف النور]

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

أولًا: حمدًا للّٰه بما لا يُحدّ من الحمد للّٰه.. لقد ظهر في الساحة روّادٌ معنويون من المفتين والوعاظ والأئمة والعلماء، الذين هم الأصحاب الحقيقيون لرسائل النور، حيث كان الشباب والمعلمون والطلاب هم طلبة النور الغيارى لحدّ الآن.

فألف ألف تهنئة وبارك اللّٰه فيكم يا أدهم وإبراهيم وعلي عثمان.. فلقد بيّضتم وجوه أهل المدارس الشرعية، وحوّلتم إحجامهم وترددهم إلى شجاعة وإقدام.

ثانيًا: ما ينبغي أن يتأسف ويندَم أولئك الذين وَلّدوا هذه الحادثة من جراء فعالياتهم وانفعالاتهم الخالصة للّٰه؛ لأن سجن “دنيزلي” قد بارك الذين لم يأخذوا الحذر في أعمالهم من حيث النتيجة، حيث التعب قليل والفائدة المعنوية عظيمة جدًّا، نسأل اللّٰه أن لا تكون هذه “المدرسة اليوسفية الثالثة” قاصرة عن التي قبلها.

ثالثًا: علينا الشكر للّٰه على ظروفنا العصيبة هذه في السجن وذلك لما فيها من زيادة الثواب حسب المشقة، ونسعى في الوقت نفسه لأداء وظيفتنا التي هي خدمة الإيمان بإخلاص، أما التوفيق في أعمالنا أو الحصول على نتائج خيّرة فيها فموكولة إلى اللّٰه سبحانه وتعالى ولا نتدخل فيها، بل نظل صابرين شاكرين للّٰه إزاء هذه المعتكفات قائلين: خير الأمور أحمزها.

وعلينا أن نعلم أن هذه الحادثة ما هي إلّا علامة على قبول أعمالنا، وهي وثيقة وأمارة على اجتيازنا الامتحان في جهادنا المقدس.

❀   ❀   ❀

[طلب بسيط من مدير السجن: لا أريد اللقاح ولا المشفى]

إلى السيد مدير السجن والهيئة الإدارية:‌

طلبٌ بسيط لا أهميةَ له ظاهرًا، إلّا أن له أهمية قصوى بالنسبة لي:

إن حياتي التي مضت في السجن الانفرادي والتجريد المطلق، وعمري الذي ناهز الخامسة والسبعين: قد أوهَنا جسدي، بحيث أصبح لا يطيق اللقاحات ضد الأمراض.

وقد أُجري عليَّ قبل مدة مديدة اللقاح، ودام جراحُه طوال عشرين سنة، حتى أصبح بمثابة سم ملازم. يعرف ذلك الطبيبان الصديقان في “أميرداغ”.

وقبل أربع سنوات أجروا عليَّ اللقاح مع المحكومين في سجن “دنيزلي”، فلازمتُ الفراش عشرين يومًا، علمًا بأنه لم يُلحِق الضررَ بأيٍّ منهم، وقد كفاني حفظُ اللّٰه وعنايته فلم أضطر إلى الذهاب إلى المستشفى.

بمعنى أن جسدي لا يتحمل اللقاح قطعًا، فضلًا عن أن عذري شديد، إذ قد بلغتُ من العمر الخامسة والسبعين، ونَحَلَ جسمي، وربما لا يتحمل سوى لقاحِ طفلٍ في العاشرة من العمر، فضلًا عن أنني أقضي حياتي منفردًا في تجريد مطلق ولا أختلط مع أحد من الناس.

وقبل شهرين أَرسل الوالي طبيبين إلى “أميرداغ” وكشفوا عليَّ كشفًا كاملًا، ولم يجدوا أي مرض سارٍ إلّا الضعف الشديد والتشنج الظهري.

فحالتي هذه لا تَحمِلني قطعًا على إجراء التلقيح، وأرجوكم رجاءً حارًا لا ترسلوني إلى المستشفى، فلا تلجئوني إلى البقاء تحت تحكم الأطباء ومن لا أعرفهم، فإني لا أستطيع البقاء في هذا الوضع ولم أُطقه طوال حياتي، ولا سيما في هذه السنوات العشرين التي قضيتُها في التجريد المطلق.

وعلى الرغم من أنني بدأت أجد الراحة في دخولي القبر في هذه الفترة، إلّا أنني فضَّلتُ السجن حاليًّا على القبر لِمَا وجدت من معاملةٍ إنسانية في هذا السجن، ولكيلا أمس مشاعر الهيئة الإدارية، فضلًا عن القيام ببث العزاء والسلوان في قلوب المسجونين.

❀   ❀   ❀

[لم يجد الأعداء نقصًا في رسائل النور]

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

أولًا: لا تتألموا على الإهانات والأذى التي ينـزلونها بشخصي بالذات، لأنهم لا يستطيعون أن يجدوا نقصًا في رسائل النور، فينشغلون بشخصي الاعتيادي المقصّر كثيرًا، فأنا راضٍ عن هذا الوضع، بل لو وجدتُ ألوفًا من الإهانات والتحقير والآلام والبلايا الشخصية لأجل سلامة رسائل النور وظهور قيمتها لشكرت اللّٰه شكرًا مكللًا بالفخر، وذلك مقتضى ما تعلمته من درس النور، لذا لا تتألموا عليّ من هذه الناحية.

ثانيًا: إن هذا التعدي السافر الواسع النطاق والهجوم الشديد الظالم، قد خف حاليًّا من العشرين إلى الواحد، فلقد جمعوا بضعة أشخاص بدلًا من ألوف الخواص من طلاب النور، وجمعوا عددًا محدودًا من إخوة جدد بدلًا من مئات الألوف من المهتمين بالرسائل المرتبطين بها، مما يعني أن المصيبة قد تحولت إلى أخف حالاتها بالعناية الإلهية.

ثالثًا: لا تقلقوا يا إخوتي ولا تيأسوا.. فإن الوالي السابق الذي كان يحيك المؤامرات ويدبر الدسائس ضدنا طوال سنتين قد ولّى بفضل العناية الإلهية.

ولربما قد خفف وزير الداخلية الهجوم علينا لسببين: أنه من بلدتي، وأن أجداده أهل دين حقًا.

رابعًا: لقد أثبتتْ تجاربُ كثيرة وحوادث عديدة بما يورث القناعة التامة: أن الأرض تهتز والسماء تبكي ببكاء رسائل النور وحزنها، ولقد شاهدنا هذا مرارًا بأم أعيننا وأثبتناه كذلك في المحكمة.

وأعتقد أنّ تَوافُقَ ابتهاج الصيف -في بدايته- في هذه السنة بانتشار رسائل النور سرًّا، وتبسمَها باستنساخها بالرونيو، وتطابقَ حدّة الشتاء وغضبه وبكائه بالقلق على مصادرة الرسائل والتحريات الكثيرة في كل مكان وتوقفِ نشاطها، ما هو إلّا أمارة قوية على أن رسائل النور معجزة كبرى ساطعة لحقائق القرآن العظيم تتجلى في هذا العصر، حيث الأرض والسماء ذات علاقة معها.

 ❀   ❀   ❀

[تهنئة القادمين إلى السجن]

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

لقد خطر لي اليوم فجأة أن أهنئ القادمين إلى هذه المدرسة بدلًا من تقديم التعازي لهم -بمناسبة قضية رسائل النور- بسَوقٍ من القدر الإلهي والرزق المقسوم فيها، لأن كل واحد من الأكثرية ينقذ إلى حدٍّ ما عشرين أو ثلاثين، بل مئةً، بل ألفًا من إخواننا الأبرياء بديلًا عنهم من الأتعاب والمشاق.

وكذا فإن دوام عملكم في سبيل الإيمان بوساطة رسائل النور، يعني أن كل واحد منكم يؤدى عملًا كبيرًا في وقت قليل، نظيرَ ما ينجزه البعض في عشر سنوات من أعمال تنجز في مائة سنة.

وكذا فإن الداخلين في هذه المجاهدة المرهقة، والحاضرين هذا الامتحان الجاري في هذه “المدرسة اليوسفية” الحديثة، وأخْذَهم حظَّهم فعلًا من نتائجه القيمة الكلية، وملاقاتَهم بيُسر إخوتهم الخالصين المخلصين المشتاقين إلى رؤيتهم، وتَبَادُلَهم أبحاث درسٍ ممتع لذيذ، وكذا عدمُ دوام أوقات الراحة في الدنيا بل ذهابُها هباءً منثورًا.. أقول: إن الذين يكسبون مغانم عظيمة إلى هذا الحد، وبمثل هذه الأتعاب القليلة يستحقون التهنئة حقًا.

إخوتي.. إن هذا الهجوم الواسع الذي شُن علينا، إنما هو لصدّ فتوحات رسائل النور وغزوها القلوب، إلّا أنهم أدركوا أنهم كلما تعرضوا لرسائل النور ازدادت سطوعًا وكسبت أهمية أكثر وتوسعت دائرة الدروس، فلا تُغلب رسائل النور، إلّا أنها تنضوي تحت ستار “سرًّا تنورت”، ولأجل هذا بدّلوا خطتهم، فلا يتعرضون للأنوار ظاهرًا.

وحيث إننا تحت العناية الإلهية، فعلينا الشكر العظيم لربنا الجليل مع التجمل بكمال الصبر.

❀   ❀   ❀

[حالتان غريبتان للمؤلِّف]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

لقد آن أوان بيان حالتين غريبتين من أحوالي:

أولاها: أُخطِرَ إلى قلبي أن في عدم لقائنا -في سجن التجريد المطلق- لقاءً حرًا بإخوتي الذين أُحبهم أكثر من روحي، فيه مصلحةٌ وعناية إلهية.

ذلك لأن كثيرًا من إخواننا في الآخرة ممن كان يصرف خمسين ليرة للمجيء إلى “أميرداغ” لأجل لقاء يدوم خمسين دقيقة، وأحيانًا عشر دقائق، وأحيانًا يرجع خائبًا دون لقاء.. كانوا يُلْقُون أنفسهم إلى هذه “المدرسة اليوسفية” بحجة بسيطة.

فلو كان وقتي الضيق وحالتي الروحية النابعة من الانزواء يسمحان بذلك، فإن الخدمة النورية ما كانت لتسمح بالمجالسة التامة والمحاورة الكاملة مع أولئك الأصحاب الأوفياء.

ثانيتها: لقد شاهد المجاهدون في جبهات متعددة من الحرب عالِمًا جليلًا فاضلًا، وذكروا له مشاهدتهم، فقال: إن بعض الأولياء قد ظهروا بمظهري وأدَّوا بدلًا عني في موضعي أعمالًا لأجل إكسابي ثوابًا وليستفيد أهل الإيمان من دروسي.

ومثل هذا تمامًا، فقد شاهدوني في جوامع “دنيزلي” وأنا نزيلُ سجنِها، حتى أبلغوا ذلك إلى الجهات المسؤولة وإلى المدير والحرّاس، وقال بعضهم في قلق واضطراب: “مَن يفتح له باب السجن!” فالأمر نفسه يحدث هنا تمامًا.

والحال أنه بدلًا من إسناد حادثة جزئية خارقة إلى شخصي المقصر جدًّا، فإن رسالة “ختم التصديق الغيبي” تثبت خوارق لرسائل النور وتبيِّنها كاسبةً ثقة أهل الإيمان برسائل النور أكثر بكثير من تلك الحادثة بمائة مرة، بل بألف مرة، فضلًا عن تصديق أبطال النور بأحوالهم الخارقة وكتاباتهم الرائعة لمقبولية رسائل النور.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[توجيه الطلاب إلى وظائف معينة]

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

لا تقلقوا عليّ، فإنني سعيد ومحظوظ لأني معكم في بناية واحدة، فأنا راضٍ ومسرور.

إن وظيفتنا الحالية إرسالُ نسخة من “الدفاع” إلى “إسبارطة”، وإنْ أمكن كتابةُ عشرين نسخة منه بالآلة الطابعة بالحروف القديمة والحروف الجديدة، كي يُبرَز إلى المدعى العام هناك وتعطى نسخةٌ منه إلى محامينا، ونسخة أخرى إلى المدير كي يسلمه هو إلى وكيل دعوانا، وليرسَل إلى المسؤولين في “أنقرة” بالحروف الجديدة والقديمة كما كان في “دنيزلي”.

وإن أمكن تهيئةُ خمسة نسخ للدوائر المسؤولة، لأن رسائل النور المصادَرة قد أُرسلت بالحروف القديمة إلى تلك الدوائر، ولا سيما إلى هيئة ديوان رئاسة الشؤون الدينية وأعيدت إلى هنا.

ثم أبلِغوا وكيلنا السيد أحمد، أنه عند طبعه الدفاع بالآلة الطابعة عليه أن يلاحظ بدقة صحةَ العبارات والكلمات، لأن إفادتي لا تشبه إفادات الآخرين، فإن خطأً في حرفٍ واحد، وأحيانًا في نقطة واحدة، يغيِّر المسألة ويفسد المعنى.

وكذا أعيدوا آلتي الطابعة بالحروف القديمة والجديدة إنْ لم يسمحوا بهما.

وكذا لا تضجروا يا إخوتي ولا تقلقوا ولا تيأسوا، فإن العناية الإلهية ستسعفنا سريعًا بمضمون الآية الكريمة: ﴿إن مع العسر يسرًا﴾.

❀   ❀   ❀

[ما يورث الانشغال برسائل النور]

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

إن رسائل النور تواجهكم وتقابلكم بدلًا مني، فهي ترشد وتعلِّم تعليمًا جيدًا إخوانَنا الجدد المشتاقين لدروس النور.

ولقد ثبت بالتجارب أن الانشغال برسائل النور، سواءٌ قراءتها أو استقراؤها أو كتابتها: يورث الفرح للقلب والراحة للروح والبركة في الرزق والصحة للجسد.

وقد أنعم اللّٰه عليكم حاليًّا ببطل من أبطال النور، وهو “خسرو”، وستكون المدرسة اليوسفية أيضًا موضع دراسة مباركة لمدرسة الزهراء إن شاء اللّٰه.

إنني كنت إلى الآن أُخفي خسرو ولا أظهره إلى أهل الدنيا، إلّا أن المجموعات التي نُشرت قد أظهرته إظهارًا لا لبس فيه لأهل الدنيا، فلم يبق شيء للإخفاء، ولهذا أظهرتُ بضعًا من خدماته إلى بعض الإخوة الخواص، وسوف نبين -أنا وهو- الحقيقة إن لزم الأمر بعينها ولا نخفي شيئًا.

ولكن الآن يواجهنا شخصان عنيدان رهيبان من بين الذين يستمعون إلى الحقيقة، وقد ظهر أنهما يعملان لصالح الزندقة والشيوعية -أحدهما معروف في “أميرداغ” والآخر معروف هنا- وهما يحاولان نشر الشبهات ضدنا بمنتهى المكر والدسيسة، وذلك لقذف الرعب في قلوب الموظفين.

لذا علينا الأخذ بالحذر الشديد، وعدمُ إبداء القلق، وانتظارُ العناية الإلهية بالتوكل لتمدنا.

❀   ❀   ❀

[أخلاق الإيمان والصلح داخل السجن]

يا إخوتي في الدين ويا زملائي في السجن..‌

لقد أُخطر لقلبي أن أبين لكم حقيقة مهمة، تنقذكم بإذن اللّٰه من عذاب الدنيا والآخرة، وهي كما أُوَضِّحُها بمثال:

إنّ أحدًا قد قتل شقيقَ شخصٍ آخر أو أحد أقربائه، فهذا القتل الناجم من لذةِ غرورِ الانتقام التي لا تستغرق دقيقة واحدة تورثه مقاساة ملايين الدقائق من ضيق القلب وآلام السجن، وفي الوقت نفسه يظل أقرباء المقتول أيضًا في قلق دائم وتحيّن الفرص لأخذ الثأر، كلما فكروا بالقاتل ورأوا ذويه، فتضيع منهم لذةُ العمر ومتعة الحياة بما يكابدون من عذاب الخوف والقلق والحقد والغضب.

ولا علاج لهذا الأمر ولا دواء له إلّا الصلح والمصالحة بينهما، ذلك الذي يأمر به القرآن الكريم، ويدعو إليه الحق والحقيقة، وفيه مصلحة الطرفين، وتقتضيه الإنسانية، ويحث عليه الإسلام.

نعم، إن المصلحة والحقيقة في الصلح، ﴿والصلح خير﴾؛ لأن الأجل واحد لا يتغير، فذلك المقتول على كل حال ما كان ليظل على قيد الحياة ما دام أجلُه قد جاء، أما ذلك القاتل فقد أصبح وسيلة لذلك القضاء الإلهي، فإن لم يَحُلَّ بينهما الصلحُ فسيظلان يعانيان الخوف وعذاب الانتقام مدة مديدة؛ لذا يأمر الإسلام بعدم هجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام.

فإن لم يكن ذلك القتلُ قد نجم من عداء أصيل ومن حقد دفين، وكان أحد المنافقين سببًا في إشعال نار الفتنة، فيلزم الصلح فورًا، لأنه لولا الصلح لعظمت تلك المصيبة الجزئية ودامت، بينما إذا ما تَصالح الطرفان وتاب القاتل عن ذنبه، واستمر على الدعاء للمقتول، فإن الطرفين يكسبان الكثير، حيث يدب الحب والتآلف بينهما، فيصفح هذا عن عدوه ويعفو عنه واجدًا أمامه إخوة أتقياءَ أبرارًا بدلًا من شقيق واحد راحل، ويستسلمان معًا لقضاء اللّٰه وقدره، ولا سيما الذين استمعوا إلى دروس النور، فهم مدعوون لهجر كل ما يفسد بين اثنين، إذ الأُخوّة التي تربطهم ضمن نطاق النور، والمصلحة العامة، وراحة البال وسلامة الصدر التي يستوجبها الإيمان.. تقتضي كلُّها نبذَ الخلافات وإحلال الوفاق والوئام.

ولقد حصل هذا فعلًا بين مسجونِين يعادي بعضهم بعضًا في سجن “دنيزلي”، فأصبحوا بفضل اللّٰه إخوة متحابين بعد أن تلقّوا دروسًا من رسائل النور، بل غدَوا سببًا من أسباب براءتنا، حتى لم يجد الملحدون والسفهاء من الناس بُدًّا أمام هذا التحابب الأخروي، فقالوا مضطرين: “ما شاء اللّٰه.. بارك اللّٰه!” وهكذا انشرحت صدورُ السجناء جميعًا وتنفسوا الصعداء بفضل اللّٰه.

إذ إني أرى هنا مدى الظلم الواقع على المسجونين، حيث يشدد الخناق على مائة منهم بجريرة شخص واحد، حتى إنهم لا يخرجون معًا إلى فناء السجن في أوقات الراحة.. إلّا أن المؤمن الغيور لا تسعه شهامتُه أن يؤذي المؤمن قط، فكيف يسبب له الأذى لمنفعته الجزئية الخاصة، فلا بد أن يسارع إلى التوبة والإنابة إلى اللّٰه حَالَما يشعر بخطئه وتسبّبه في أذى المؤمن.

❀   ❀   ❀

[رسائل النور في بلاد الحرمين]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

إني أهنئ رسائل النور وأهنئكم وأهنئ نفسي بالبشارات القيّمة التي زفّها خسرو وحفظي والسيد من “بَارْطِنْ”.

نعم، إن الذين سافروا إلى الحج في هذه السنة مثلما وجدوا علماء أجلاء في مكة المكرمة يسعون إلى ترجمة مجموعات من رسائل النور إلى العربية والهندية، كذلك وجدوا المدينة المنورة قَبِلَتها ورضيَت عنها بحيث وضعوها في الروضة المطهرة لدى الحجرة الشريفة للقبر النبوي المبارك (ﷺ)، بمعنى أن تلك الرسائل قد نالت القبول النبوي ودخلت ضمن رضى الرسول الكريم محمد (ﷺ).

فلقد زارت رسائلُ النور تلك الأماكنَ المقدسة بدلًا عنا كما هي نيتنا وكما أبلغنا المسافرون إلى الحج.

وإن فائدة أخرى من الفوائد الكثيرة جدًّا لِمَا ينشره أبطال النور من هذه المجموعات المصحَّحة أنهم أنقذوني من مهمة التصحيح والقلق عليه، وأصبحوا بمثابة مائة مصححٍ بما أوجدوا من المصادِر المصححة، فشكرًا للّٰه بما لا يتناهى من الحمد والشكر، أسأل اللّٰه تعالى أن يكتب ألف حسنة في سجل حسناتهم لكل حرف من حروف تلك المجموعات، آمين، آمين، آمين.

❀   ❀   ❀

[بشارة في رؤيا مباركة]

رؤيا لطيفة ذات بشارة ظهر تأويلها‌

أتاني “علي” الذي يعاونني في الأمور وقال: لقد رأيت فيما يرى النائم أنك و”خسرو” قد قبّلتما يدَ الرسول الكريم (ﷺ)، وإذا بي أستلم رسالة تتضمن أن مجموعةَ “عصا موسى” المكتوبة بخط “خسرو” قد شاهدها الحُجاج في الروضة المطهرة، بمعنى أن تلك المجموعة قد قَبّلت اليدَ المعنوية للرسول الكريم (ﷺ) ونالت رضاه.

❀   ❀   ❀

[مزيتان لطلاب رسائل النور]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الأوفياء وزملائي في السجن..‌

أولًا: لا تقلقوا من عدم التقاء بعضنا بالبعض الآخر، فنحن نتواجه معنًى في كل وقت، فإن قرأتم أيّةَ رسالة تحصلون عليها أو تستمعون إليها، فإنكم تشاهدونني وتتحاورون معي خلال تلك الرسالة بصفةِ خادم القرآن العظيم بدلًا من شخصي الاعتيادي، علمًا أنني كذلك أواجهكم خيالًا في جميع أدعيتي وفي كتاباتكم وعلاقاتكم؛ وحيث إننا معًا ونعمل ضمن دائرة واحدة، فكأننا نتقابل دائمًا.

ثانيًا: نقول للقادمين الجدد من طلاب رسائل النور في هذه المدرسة اليوسفية الحديثة:

لقد ثبت بحجج قوية وبإشارات قرآنية أوقفت الخبراء وألجأتهم إلى الاستسلام: “أن طلاب النور الصادقين ستختم حياتهم بالحسنى ويدخلون القبر بالإيمان.. وأن كل طالب -حسب درجته- يكون شريكًا لمكاسبِ جميع إخوانه المعنوية ولأدعيتهم، وذلك بفيض أنوار الاشتراك المعنوي النوري، كأنه يؤدي العبادة ويستغفر بألف لسان”.

فهاتان الفائدتان والنتيجتان المهمتان، وفي هذا الزمان العجيب تزيلان جميع الصعاب والمشقات، وهكذا تُربِح رسائل النور طلابها هذين الربحين العظيمين بثمن زهيد جدًّا.

❀   ❀   ❀

[أوصلوا حقائق الإيمان إلى أعلى منصب]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

إن الدفاعات المرفوعة في محكمة “أفيون” تتضمن حقائق جليلة ذات علاقة بنا وبرسائل النور وبهذه البلاد وبالعالم الإسلامي، فلا بد أن تُستنسخ منها ما يقرب من عشر نسخ بالحروف الجديدة لترسل إلى الدوائر العليا في “أنقرة”.

إن وظيفتنا الآن هي تبليغ تلك الحقائق إلى أركان الحكومة وإلى دوائر العدل وإلى الأمة، ولا أهتم قطعًا لو أبرؤوا ساحتنا أو عاقبونا، ولربما هذه الوظيفة هي إحدى الحِكم المقدَّرة بالقدَر الإلهي، فساقنا إلى هذه المدرسة.

أسرِعوا على قدر الإمكان في استنساخها بآلة الرونيو، فنحن مضطرون إلى إبلاغها تلك الدوائر العليا حتى لو أخلو سبيلَنا اليوم، فلا يغرركم أحد بتأخيرها، كفى التأخير والتأجيل، وليكن هذا الدفاع مسكَ الختام لدفاعات قُدّمت طوال خمس عشرة سنة إزاء مسألة واحدة وتجاه الظلم القاسي والعذاب الأليم الذي لا نظير له والحجج التافهة المختلقة.

فما دمنا قد حصلنا على صلاحيةِ استنساخِ دفاعاتِنا بالرونيو حسب القانون، ومن المحاكم السابقة، فلا يستطيع أحد أن يمنعنا من استعمال حقنا هذا قانونًا.

وإن لم تجدوا حلًّا للأمر رسميًّا فليستنسخ محامينا حوالي خمس نسخ، وليكن أمينًا على الحفاظ على سلامتها وصحتها.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[العناية الإلهية جاءت بنا إلى هذا السجن]

إخوتي الجدد ويا مسجونين القدامى..‌

لقد بتُّ على قناعة تامة من أن العناية الإلهية هي التي ألقَت بنا إلى ههنا وذلك لأجلكم أنتم، أي إن مجيئنا إلى هنا إنما هو لبث السلوان والعزاء الذي تحمله رسائل النور إليكم.. وتخفيفِ مضايقات السجن عنكم بحقائق الإيمان.. وصونِكم من كثير من بلايا الدنيا ولأوائها.. وانتشالِ حياتكم المليئة بالأحزان والهموم من العبثية وعدم الجدوى.. وإنقاذِ آخرتكم من أن تكون كدنياكم حزينة باكية.. فما دامت الحقيقة هي هذه، فعليكم أن تكونوا إخوة متحابين كطلاب النور، وكأولئك الذين كانوا معنا في سجن “دنيزلي”.

فها أنتم أولاء ترون الحراس الذين يحرصون على القيام بخدماتكم يعانون الكثير من المشقات في التفتيش، بل حتى إنهم يفتشون طعامكم لئلا تكون فيه آلة جارحة، ليَحُولوا دون تجاوزِ بعضكم على بعض، وكأنكم وحوش مفترسة يقضي الواحد على الآخر ليقتله، فضلًا عن أنكم لا تستمتعون بالفرص التي تتاح لكم للتفسح والراحة خوفًا من نشوب العراك فيما بينكم.

ألا فقولوا أنتم الإخوة الجدد الذين يحملون بطولة فطرية وشهامة وغيرة.. قولوا أمام الهيئة ببطولة معنوية عظيمة في هذا الوقت:

“ليست الآلات الجارحة البسيطة وحدَها، بل لو سلّمتم إلى أيدينا أسلحة نارية أيضًا فلا نتعدى على أصدقائنا وأحبابنا هؤلاء الذين نُكِبوا معنا، حتى لو كان بيننا عداءٌ أصيل سابق. فقد عفونا عنهم جميعًا، وسنبذل ما في وسعنا أن لا نجرح شعورهم ونكسر خاطرهم، هذا هو قرارنا الذي اتخذناه بإرشاد القرآن الكريم وبأمر أخوّة الإسلام وبمقتضى مصلحتنا جميعًا”.

وهكذا تُحَوّلون هذا السجن إلى مدرسة طيبة مباركة.

❀   ❀   ❀

[سجننا هذا اجتماع أخَوي]

إخوتي الأعزاء الأوفياء..

إن الذين هم في سياسة واحدة أو مهنة واحدة، أو وظيفة واحدة أو في خدمة تتعلق بالحياة الاجتماعية أو لهم نوع من تجارة خاصة.. كل طائفة من طوائف أهل الدنيا هؤلاء لهم اجتماع عام يخصهم يتذاكرون فيه أمورهم.

كذلك طلاب النور العاملون في الخدمة المقدسة للإيمان التحقيقي، فإن مجيئَهم إلى الاجتماع العام في هذه “المدرسة اليوسفية” بأمر القدر الإلهي وباقتضاء العناية الربانية وسَوقِها، لا شك أنه يحمل فوائد معنوية جليلة جدًّا وسينعمون بتلك الفوائد والنتائج القيمة إن شاء اللّٰه.

وإن كل واحد من أركان طلاب النور سيكون بمثابة حرفِ أَلِفْ، حيث إن “حرف ألف” قيمتُها واحدة إن كانت بمفردها ولكنها مع أخواتها، أي أربع ألفات معًا متكاتفة ومواجهة بأحوالها تصبح قيمتها ألفًا ومائة وإحدى عشرة، وكذلك سيكون ثواب ذلك الأخ المنخرط في هذا الاجتماع وقيمته وخدمته السامية ألفًا بإذن اللّٰه.

❀   ❀   ❀

[في السجن تحلوا بالحذر والاتزان]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

إن سبب سدّهم اليوم نوافذي ودقِّها بالمسامير هو عزلي عن المسجونين وقطعُ تبادل السلام والتحيات فيما بيننا، إلّا أنهم أبدَوا حجة تافهة ظاهرية أخرى، فلا تقلقوا.

بل إن انشغالهم بشخصي الذي لا أهمية له، وانصرافَهم عن شد الخناق على رسائل النور وطلابها، وإنزالَهم الإهانات والعذاب بي، وإيلامي قلبًا وحقيقةً مع عدم تعرضهم لرسائل النور، يجعلني في رضًى عن هذا الوضع، بل أشكر ربي صابرًا فلا أضطرب ولا أقلق أبدًا، وأنتم كذلك لا تتألموا، فإني على قناعة من أنّ صرفَ أعدائِنا المتسترين أنظارَ الموظفين في السجن إليَّ فيه عناية إلهية وخير من حيث سلامةُ ومصلحةُ رسائل النور وطلابها.

فعلى بعض الإخوة ألّا يحتدّوا ولا يتفوّهوا بكلام جارح يمسّ شعورهم، وليأخذوا حذرهم في حركاتهم وسكناتهم، دون إبداء القلق والاضطراب، ولا يفتحوا الموضوع عن هذه المسألة أمام كل أحد، لأن هناك جواسيس يحرّفون كلام إخوتنا السذج والجدد الذين لم يتعلموا بعدُ أخذَ الحذر، ويصرفون كلامهم إلى معانٍ مغايرة، ويستهولون الأمور التافهة، ويخبرون المسؤولين بها.

إنّ وضعنا الحاضر كله جدّ لا هزل فيه؛ ومع هذا فلا تضطربوا قطعًا، واعلموا أننا تحت رعاية العناية الإلهية، وقد عزمنا على مجابهة جميع المشقات بالصبر الجميل بل بالشكر العظيم للّٰه، فنحن مكلفون بالشكر لأن درهمًا من التعب والمشقة يورث طنًا من الثواب والرحمة.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[إجراء احتياطي لحفظ الدفاعات القضائية]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

لقد أَودعتُ جميعَ أعمال الدفاع إلى طلاب النور الأركان الذين قَدِموا والذين سيَقدُمون إلى هنا، وذلك بناء على سببين مهمين وبإخطار قوي، فاضطررت إلى هذا الأمر قلبًا.. أُودِعُها بخاصة إلى كل من: خسرو، رأفت، طاهر، فيضي، صبري.

السبب الأول: لقد علمت قطعًا من دائرة التحقيق، ومن أمارات عديدة، أنهم يحاولون إحداث مشكلات ضدي، بكل ما لديهم من قوة، والتهرب من ظهوري وغلبتي عليهم فكرًا، ولهم في ذلك إشعار رسمي، فكأنني إذا تكلمت بشيء فسأبين قدرة علمية وقابلية سياسية بحيث أُلْزِمُ المحاكمَ الحجةَ وأُسكتُ السياسيين، لأجل ذلك يمنعونني عن الكلام بمعاذير واهية، حتى إنني أثناء التحقيق أجبت عن أحد الأسئلة قائلا: لا أتذكر. فتعجب الحاكم وحار في الأمر وقال: كيف ينسى شخص مثلك يملك ذكاءً وعلمًا فوق المعتاد؟

نعم، إنهم يعتقدون أن رفعة شأن رسائل النور وتحقيقاتها العلمية الدقيقة من بنات أفكاري، ومن هنا يأخذهم العجب والحيرة، فلا يريدونني أن أتكلم مع أحد، وكأن كل من يقابلني ويواجهني سيكون مباشرة طالبًا غيورًا من طلاب النور! ولهذا يمنعونني من المقابلة مع أي أحد كان، حتى إن رئيس الشؤون الدينية قال: “كل من يقابله ينجذب إليه، إن جاذبيته قوية”.

بمعنى أن مصلحتنا تقتضي أن أُودِع شؤوني إليكم الآن، وما لديكم من دفاعاتي القديمة والجديدة تشترك بدلًا عني في مشاوراتكم بعضكم مع بعض، فهي كافية لهذا الأمر.

السبب الثاني: أُجّل إلى وقت آخر بمشيئة اللّٰه.

أما الإشارة القصيرة إلى الإخطار المعنوي فهي أن الذي جعلني أترك السياسة وقراءة الجرائد وأمثالها من الأمور الفانية خلال خمسة وعشرين عامًا ومَنعني من الاشتغال بها، هو واجب أخروي جليل جدًا، مع حالة روحية ذات أثر فعال.

فهذان السببان أيضًا يمنعانني كليًّا عن الاشتغال بهذه المسألة بتفرعاتها الدقيقة، فأنتم تؤدون أيضًا مهمتي بالاستشارة أحيانًا مع موكلَيكم الاثنين.

❀   ❀   ❀

[الشخص المعنوي يؤدي الوظيفة]

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

لقد ورد الآن في الصلاة إلى القلب الآتي:

إنه بناء على حُسن الظن المفرط الذي يحمله الإخوة الأعزاء ينتظرون منك درسًا وإرشادًا لهم، وهمّة ومددًا ماديًّا ومعنويًّا، فمثلما وكّلتَ الإخوةَ الخواصَّ في أمورك الدنيوية وأودعتها إلى الشورى فيما بين الأركان -وحَسَنًا فعلتَ- كذلك بتوكيلك الشخص المعنوي للخواص الخالصين في أعمالك الأخروية والقرآنية والإيمانية والعلمية فإنهم يؤدون تلك الوظيفة مع وظيفتهم وعلى أفضل وجه وأكمله، وهم فعلًا يؤدونها الآن وعلى الدوام.

مثلًا: إن كان الذي يواجهك ويسترشد بنصيحةٍ ودرسٍ منك مُؤقّتًا بمقدار درهم، فإنه يستطيع أن يأخذ مائة درهم من النصيحة والدرس والإرشاد من جزء من أجزاء رسائل النور، فضلًا عن أنه يصاحبها وينتصح منها بدلًا منك.

ثم إن الخواص من طلاب النور يؤدون وظيفتك هذه كل وقت، ونسأل اللّٰه أن يكون شخصهم المعنوي المالك لمقام رفيع والدعاء المقبول ظهيرًا لهم وأستاذًا ومعينًا.

هكذا ورد الإخطار فأَوْرَثَ السلوان لروحي وزفَّ لها البشرى والراحة.

❀   ❀   ❀

[حادثتا انفجار مُريبتَين في السجن]

إخوتي الأعزاء الأوفياء..

إن وقوع حادثتَي الانفجار في غضون اليومين الماضين من دون أن يكون هناك سبب ظاهري، لا تشبهان المصادفة، وتَنُمَّان عن مغزى عميق.

أُولاها: انفجار المدفأة الحديدية القوية الموجودة في ردهتي فجأة، وأحدثت صوتًا قويًّا حطمت القطعة الفولاذية التي تحتها، فهَلِعَ منها “الخياط حمدي”، وأوقعنا في حيرة. علمًا أنها تتحمل حرارة الفحم الحجري في عزّ الشتاء.

ثانيتها: تهشم القدح الموضوع على مشربة الماء تهشمًا عجيبًا في ردهةِ “فيضي” من دون سبب ظاهري، وذلك في اليوم التالي لانفجار المدفأة.

والذي يرد إلى الخاطر أن القنابل الموضوعة لِتنفجرَ علينا قد فجرتها نُسَخُ الدفاع المرسلةُ إلى دواوين المسؤولين الستة في “أنقرة”، وأن مدفأة الغضب التي تستعر لِتَحْرِقَنا بنارها قد تحطمت دون أن يُلحقَ بنا الضرر.

ولعل تلك المدفأة المباركة التي كانت أنيسةً نافعةً وتستمع إلى آهاتي وتضرعاتي تخبرني قائلةً: لا حاجة إليّ، وسترحل من هذا السجن.

❀   ❀   ❀

[عمران الأوقات المباركة بالعبادة والخدمة الإيمانية]

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

انتابني اليوم قلق وحزن لأجلكم بإخطارٍ معنويٍّ ورَدَ إلى القلب، فلقد حزنتُ لأحوال إخواننا الذين يرغبون في الخروج حالًا من السجن من جراء قلقهم على هموم العيش، وفي الدقيقة التي فكرتُ في هذا، وردت خاطرة ميمونة إلى القلب مع حقيقة وبشرى هي أنه:

ستَحُلُّ الشهور الثلاثة المباركة جدًّا الحاملة لأثوبة عظيمة بعد خمسة أيام، فالعبادات مثابة فيها بأضعافها، إذ الحسنة إن كانت بعشر أمثالها في سائر الأوقات ففي شهر رجب تتجاوز مائة حسنة، وفي شهر شعبان تزيد على ثلاثمائة حسنة، وفي شهر رمضان المبارك ترتفع إلى الألف حسنة، وفي ليالي الجُمَع فيه إلى الآلاف، وفي ليلة القدر تصبح ثلاثين ألف حسنة.

نعم، إن الشهور الثلاثة سُوقٌ أخروية سامية رفيعة للتجارة، بحيث تُكسِب المرء هذه الأرباحَ والفوائد الأخروية الكثيرة جدًّا.. وهي مَشْهَرٌ عظيم ومعرض ممتاز لأهل الحقيقة والعبادة.. وهي التي تَضْمن عمرًا لأهل الإيمان بثمانين سنة خلال ثلاثة شهور، فقضاء هذه الشهور الثلاثة في المدرسة اليوسفية التي تُكسِب ربحًا بعشرة أمثالها، لا شك أنه ربح كبير وفوز عظيم، فمهما كانت المشقات فهي عين الرحمة.

فكما أن الأمر هكذا من حيث العبادة، فهي كذلك من حيث الخدمة النورية والعملِ لنشر رسائل النور، إذ تتضاعف الخدمات إلى خمسة أضعافها باعتبار النوعية إن لم تكن باعتبار الكمية، لأن القادمين والمغادرين لدار الضيافة هذه (السجن) يصبحون وسائط لنشر دروس النور، وقد ينفع أحيانًا إخلاصُ شخصٍ واحد بمقدار عشرين شخصًا.

ثم إن كان هناك شيء من المشقات والمضايقات، فلا أهمية له إزاء انتشار سر الإخلاص الموجود في رسائل النور بين صفوف المسجونين الذين هم أحوج الناس إلى ما في الرسائل من سلوان، ولا سيما ممن تسري في عروقهم بطولات سياسية.

أما من حيث هموم العيش، فمن المعلوم أن هذه الشهور هي سُوق الآخرة وقد دخل بعضكم هذا السجن بدلًا عن الكثيرين من الطلاب، بل إن بعضكم قد دخله بدلًا عن الألف، فلا شك أنه ستكون لهم مساعدات وإمدادات لأعمالكم الخارجية.

هكذا وردت الخاطرة وفرحتُ بها فرحًا تامًا، وعلمت أن البقاء هنا إلى العيد نعمة إلهية عظيمة.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[إلى رئاسة الوزارة ووزارة العدل ووزارة الداخلية‌]

إلى رئاسة الوزارة ووزارة العدل ووزارة الداخلية‌2كَتَبَ هذه العريضة محامو الأستاذ وبإذنه وأُرسلت إلى الدوائر العليا المذكورة.- (صونغور)...

إن جميع رجال الدولة يعرفونني عن كثب، ولا سيما أولئك الذين عاصروا الظروف الجسام التي مرت على البلاد منذ إعلان الحرية (الدستور) وفي أثناء الحرب العالمية الأولى، وخلال غزو الحلفاء للبلاد ودخولهم “إسطنبول”، وما أعقبته من أحداثٍ لحين تشكلِ الحكومة الوطنية، وفترة إعلان الجمهورية.. فالذين يحيطون علمًا بتلك الظروف ممن يتولون الآن مناصب في الدولة يعرفونني معرفة جيدة.. ومع هذا فاسمحوا لي أن أعرض مَشاهِدَ من حياتي أمامكم عرضًا سريعًا:

[سعيد القديم]

“ولدتُ في قرية “نورس” التابعة لولاية “بتليس”، وطوالَ فترة حياة التلمذة وتحصيلِ العلوم دخلتُ في مناقشات علمية حادة مع كل مَن قابلته من العلماء، كنت أتغلب عليهم بفضل العناية الربانية، حتى بلغتُ “إسطنبول”، وهناك في جوِّها المشوب بآفة الشهرة والصيت لم أنقطع عن مناظراتي العلمية، إلا أن وشاية الحاسدين والخُصَماء، أدَّت بي أن أُساق إلى مستشفى المجاذيب بأمر السلطان عبد الحميد -رحمه اللّٰه رحمة واسعة- ثم استقطبتُ نظر حكومة الاتحاد والترقي، بناءً على خدماتي أثناء إعلان الدستور وحادثة ٣١ مارت، طرحتُ عليهم مشروع بناء جامعة في مدينة “وان” باسم “مدرسة الزهراء” على غرار الأزهر الشريف.. حتى إنني وضعت حجرها الأساس بنفسي.

ولكن ما إن اندلعت الحرب العالمية الأولى حتى شكلتُ من طلابي والمتطوعين “فرق الأنصار” وتوليت قيادتهم، فخضنا معارك ضارية في جبهة القفقاس مع الروس المعتدين في “بتليس”.. وقعت أسيرًا بيدهم، إلّا أن العناية الربانية أنجتني من الأسر، وأتيت “إسطنبول”. وعُينتُ فيها عضوًا في “دار الحكمة الإسلامية”، وبادرت إلى مجاهدة الغزاة المحتلين لإسطنبول في تلك الظروف الحرجة، وبكل ما وهبني اللّٰه من طاقة.. إلى أن انتهت حروب الاستقلال وتشكلت الحكومة الوطنية في “أنقرة”، فنظرتْ من جديد -تثمينًا لخدماتي تلك- إلى مشروع تأسيس الجامعة في “وان”.

[سعيد الجديد]

إلى هنا كانت حياتي طافحة بخدمة البلاد، وفق ما كنت أحمله من فكرة خدمة الدين عن طريق السياسة، ولكن بعد هذه الفترة وَلَّيْتُ وجهي كليًّا عن الدنيا، وأقبرتُ “سعيدًا القديم” -حسب اصطلاحي- وأصبحت “سعيدًا جديدًا” يعيش كليًّا للآخرة، فانسللت من حياة المجتمع، ونفضتُ يدي عن كل ما يخصهم، فاعتزلت الناس تمامًا، واعتكفت في “تل يوشع” في “إسطنبول”، ومن ثم في مغارات في جبال “وان” و”بتليس”، بتُّ في مجاهدة مستديمة مع روحي ووجداني، انفردت إلى عالمي الروحي رافعًا شعار “أعوذ باللّٰه من الشيطان والسياسة”، صرفت كل همي ووقتي إلى تدبّر معاني القرآن الكريم، وبدأت أعيش حياة “سعيد الجديد”.

[ولادة رسائل النور]

أخذتني الأقدار نفيًا من مدينة إلى أخرى.. وفي هذه الأثناء تولدتْ من صميم قلبي معانٍ جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم.. أمليتُها على مَن حولي من الأشخاص، تلك الرسائل التي أطلقت عليها اسم “رسائل النور”، إنها انبعثت حقًا من نور القرآن الكريم، لذا نبع هذا الاسم من صميم وجداني، فأنا على قناعةٍ تامة ويقينٍ جازم بأن هذه الرسائل ليست مما مضغته أفكاري، وإنما هي إلهام إلهيّ أفاضه اللّٰه سبحانه على قلبي من نور القرآن الكريم، فباركتُ كلَّ من استنسخها، لأنني على يقين أن لا سبيل إلى حفظ إيمان الآخرين غير هذه السبيل، فلا تُمنَع تلك الفيوضات عن المحتاجين إليها.

وهكذا تلقفتْها الأيدي الأمينة بالاستنساخ والنشر، فأيقنت أن هذا تسخير رباني وسَوق إلهي لحفظ إيمان المسلمين، فلا يستطيع أحد أن يمنع ذلك التسخير والسَّوق الإلهي، فاستشعرت بضرورة تشجيع كل مَن يعمل في هذه السبيل امتثالًا بما يأمرني به ديني.

فهذه الرسائل التي تربو على المائة والثلاثين رسالة لا تبحث بحثًا مقصودًا عن أمور الدنيا والسياسة، وإنما تخص كليًّا أمور الآخر ة والإيمان، وعلى الرغم من كل هذا فقد أصبحت الشغل الشاغل للانتهازيين والمتصيدين في الماء العكر حتى أوقفتني السلطات في كل من “أسكي شهر” و”قسطموني” و”دنيزلي”.. وأجرت المحاكمُ تدقيقات علمية على الرسائل، قام بها خبراء متخصصون، إلّا أن الحقيقة -بفضل اللّٰه سبحانه- كانت تتجلى بنصاعتها دومًا، وتتبوأ العدالة مكانتها اللائقة بها.

[اتهامات باطلة]

بَيد أن هؤلاء المتربصين للفرص المتصيدين في الماء العكر لم يسأموا أبدًا، بل تسببوا في اعتقالي في هذه المرة، وأتوا بي إلى “أفيون” يسندون إليَّ التهم الآتية وأنا رهن التوقيف للاستجواب:

١- إنك قد شكلت جمعية سياسية.

٢- إنك تنشر أفكارًا تعادى النظام.

٣- إنك تستهدف غاية سياسية.

والأسباب الموجبة لهذه الاتهامات ودلائلها هي بضع عشرة جملة في عدد من رسائلي.

أيها الوزير المحترم..

“آتوني جملة لا يمكن تأويلها، وأنا أحكم بها عليكم بالإعدام”، قالها نابليون؛ تُرى أية جملة يتفوّه بها الإنسان لا تكون سببًا للتأويلات والجرم والذنب؟ ولا سيما من كان مثلي بالغًا الخمس والسبعين من العمر وقد تخلى عن أمور الدنيا ونفض يده عنها كليًّا وحصر حياته كلَها للآخرة. فلا بد أن تكون كتاباتُ مثل هذا الشخص حرة طليقة، لأنها مقرونة بحُسن النية وحُسن الظن، فليس فيها تردد ولا تحرّج، لذا فإنّ تحري الجرم والتنقيب عن التهمة بالتدقيق تحت سطور هذه الكتابات، ظلم واضح فاضح لا غير.

وبناءً على هذا فإن رسائل النور البالغة ثلاثين ومائة رسالة، لا تتضمن -قصدًا- ما يتعلق بأمور الدنيا قط، بل كلها تتعلق بالآخرة والإيمان، فلا غَرْو أنها مقتبسةٌ من فيض نور القرآن الكريم، وليس فيها أية غاية وقصد دنيوي ولا سياسي قط، فما من محكمةٍ تناولت أمور هذه الرسائل إلّا وقررت تبرئتها بالقناعة نفسها، ولهذا فإن إشغال المحاكم بما ليس ضروريًّا لها ولا يلزمها وعزلَ أهل العمل المؤمنين الأبرياء عن أعمالهم وأشغالهم أمر مؤسف بحق البلاد والعباد.

نعم، إن “سعيدًا القديم” الذي بذل كل حياته في سبيل إسعاد هذه الأمة ونشرِ الأمن والسعادة في ربوع البلاد، وانسحب انسحابًا كليًّا عن الدنيا بأسرها وكفّ يده عن أمورها كليًّا، أيمكن له أن يشتغل بالسياسة بعد أن أصبح “سعيدًا جديدا” وبلغ من العمر الخامسة والسبعين؟ أعتقد أنكم مقتنعون كذلك بهذا قناعة تامة.

[لي غاية واحدة]

 لي غاية واحدة وهي أنني في هذا الوقت الذي أتقرب فيه إلى القبر.. وفي هذا الوطن الذي هو بلاد إسلامية، نسمع نعيق أبوام البلاشفة.. هذا النعيق يهدد أسس الإيمان في العالم الإسلامي، ويشدّ الشعب ولا سيما الشباب إليه، بعد سلب الإيمان منهم.

إنني بكل ما أملك من وجود، أُجاهد هؤلاء، وأدعو المسلمين وبخاصة الشباب إلى الإيمان، فأنا في جهاد دائم مع هذه المجموعة الملحدة، وسأمثُل إن شاء اللّٰه في ديوان حضوره سبحانه وأنا رافع راية هذا الجهاد، وكل عملي ينحصر في هذا، وأخشى ما أخشاه أن يكون الذين يحولون بيني وبين غايتي هذه هم بلاشفة أيضًا.

فغايتي المقدسة هي التكاتف والتساند والترابط مع كل من يجاهد أعداء الإيمان هؤلاء.. أعطُوني حريتي وأطلِقوا يديّ كي أعمل بالتكاتف مع القوى المجاهدة في سبيل إعلان التوحيد وترسيخ الإيمان في هذه البلاد وإصلاح الشباب المتسمم بالشيوعية.

الموقوف

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[أنجع علاج بثُّ السلوان]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الصدّيقين..‌

إن أنجع علاج في هذه الدنيا، ولا سيما في هذا الزمان، وبخاصة للمبتلين بالمصائب، ولطلاب النور الذين انتابهم ضجر شديد ويأس قاتم هو تسلية أحدهم الآخر، وإدخال السرور في قلبه، وإمداد قوته المعنوية، وضماد جراحات الضيق والحزن والسأم، وتلطيف قلبه المغموم، كأخ حقيقي مضح، إذ الأخوة الحقة والأخروية التي تربطنا لا تتحمل التحيز والإغاظة.

فأنا أعتمد عليكم كليًّا وأستند إليكم، وأنتم على علم بقراري وعزمي بأنني عازم على أن أضحي مسرورًا لأجلكم أنتم بروحي، لا براحتي وشرفي فحسب، بل قد تشاهدون هذا مني فعلًا.

حتى إنني أقسم لكم: إنه منذ ثمانية أيام يتألم قلبي من عذاب شديد، من جراء حادثة تافهة سببت دلالًا ظاهريًّا بين ركنين من أركان النور، فأحزن أحدُهما الآخرََ بدلًا من أن يكونا مبعث سلوان. فصرختْ روحي وقلبي وعقلي معًا، وبكت قائلة: “أواه! أواه! الغوث الغوث يا أرحم الراحمين، احفظنا وأجرنا من شياطين الجن والإنس، واملأ قلوب إخواني بالوفاء التام والمحبة الخالصة والأخوّة الصادقة والشفقة الكاملة”.

فيا إخوتي الثابتين الصلبين صلابة الحديد.. أعينوني في مهمتي! فإن قضيتنا في منتهى الدقة والحساسية، فلقد سلمتُ إلى شخصكم المعنوي جميعَ مهماتي، لشدة ثقتي واطمئناني بكم، فعليكم إذن أن تسعَوا -ما وسعكم- لإمدادي وعوني، فعلى الرغم من أن الحادثة تافهة جزئية، فإن وقوع شعرة، مهما كانت صغيرة في عيننا تؤلم، وفي ساعتنا توقفها، إن هذه الحادثة الجزئية تعد كبيرة حيث أخبرتْ عنها الانفجاراتُ الثلاثة المادية والمُشاهَدات الثلاث المعنوية.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[دعوة إلى التساند الحقيقي]

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

إن انفجار مدفأتي وتهشّم أقداح “فيضي” و”خسرو” ينبئان عن وقوع مصيبة ستحل بنا.

نعم، إنه ينبغي التساند الحقيقي والترابط الصادق الذي هو أقوى مرتكز ونقطة استنادٍ لنا مع غضِّ النظر عن أخطاء بعضنا البعض، وعدم الاستياء من “خسرو” الذي هو بطل النور والممثل لشخصه المعنوي وفي موقعي أنا.

وقد كنت أشعر قبل بضعة أيام ضيقًا شديدًا في صدري وأقول في قلق: “لقد وجد أعداؤنا وسيلة للتغلب علينا”..

حذار.. حذار.. حذار.. اعملوا فورًا على رأب الصدع في ترابطكم الوثيق الفولاذي.. أُقسم باللّٰه إن هذه الحادثة -ولا سيما في هذه الفترة- تُلحق الضرر بالعمل للقرآن وخدمة الإيمان أكثر من دخولنا السجن.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[اغتنام الليالي المباركة]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

إن “ليلة المعراج” بمثابة “ليلة قدر” ثانية، فكسب الثواب بالعمل المتواصل -كلما أمكن- يرتفع في هذه الليلة من الواحد إلى الألف.

وكذا بالسر الكامن في الاشتراك المعنوي ستؤدون عبادات وتدعون دعوات في هذه الليلة المباركة، ولا سيما في هذا المعكتف المُثاب عليه كثيرًا، بأربعين ألف لسان كبعض الملائكة المسبّحة بأربعين ألف لسان، ومن ثم تشكرون ربكم بعبادات هذه الليلة، إزاء عدم تضررنا بواحد من ألف من الأضرار التي كانت تلحق بنا نتيجة العاصفة السابقة.

إننا نبارك أخذكم الحذر التام، ونبشركم في الوقت نفسه أن العناية الربانية قد تجلت بحقنا تجليًا واضحًا.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[الاشتغال برسائل النور يزيل الضجر]

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

أولًا: أبارك ليلتكم، ليلةَ المعراج، بكل ما أملك من روح وجسد.

ثانيًا: إن دعوانا منذ عشرين سنة هي أن طلاب النور لا يتعرضون -ما أمكن- لنظام البلاد ولا يمسّون أمنَها بسوء، إلّا أن قضية سجننا هذه يمكن أن تُعد أمارة قوية وحُجة على جرح دعوانا تلك، حيث إن الذين يهاجموننا يزعمون أننا نُخِلّ بأمن البلاد ونظامِها أولًا.

إلّا أن العناية الإلهية قد ظهرت بشكل خارق بكرامة إخلاصكم ووفائكم، إذ قد خَفَّت شدة المصيبة من المائة إلى الواحد، وغدت القُبة حَبة بفضله تعالى، وإلّا فإن الذين يستهولون الأمور ويجعلون الحَبة قُبة بحقنا يستغلون هذه الفرصة لبثِّ الافتراءات ضدَّنا، وربما يحملون الناس على تصديقها.

ثالثًا: لا تفكروا فيّ ولا تقلقوا عليّ أبدًا، فإن وجودي معكم في بناية واحدة يزيل كل صعابي ومشقاتي ومضايقاتي.. وحقًّا إن اجتماعنا هنا له أهميةٌ عظيمة من جهات شتى، وفوائدُ جمةٌ لخدمة الإيمان، حتى إن إرسال تلك الحقائق المهمة التي تتضمنها “تتمة الاعتراض” إلى الدوائر العليا السِّتِّ هذه المرة، وجلبَها أنظارَهم وإجرائَها حكمها فيهم -إلى حدٍّ ما- أزال جميعَ مشقاتنا وأتعابنا.

رابعًا: إن الانشغال برسائل النور -حسب الإمكان- يزيل الضجر والضيق، ويمكن أن يعدّ خمسة أنواع من العبادة.

خامسًا: لقد خفّت المصيبة السابقة من شدتها من المائة إلى الواحد بفضل دروس رسائل النور، وإلّا لكانت تصبح -من حيث الظرف الدقيق زمانًا ومكانًا- الحبةُ قبابًا كثيرة، أي هي بمثابة إلقاء الشرارة في البارود، حتى إن فريقًا من الموظفين الرسميين قالوا: “إن الذين استمعوا إلى دروس النور لم يتدخلوا في الأمر”، فلو كان الجميع يستمعون إليها لمَا حدث شيء قط.

فلا تُفسحوا يا إخوتي المجال -قدر المستطاع- إلى الثنائية والتفرقة، لئلا يُضاف شيء آخر إلى ضيق السجن وضجره؛ وليكن المسجونون أيضًا إخوة متحابين كطلاب النور، ولا يهجرنّ بعضُهم بعضًا.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[حذار من اهتزاز المحبة الخالصة فيما بينكم]

إخواني الأوفياء المخلصين..‌

لقد تَحتّم علينا بدرجةِ الوجوب استعمالُ دساتيرِ لمعةِ الإخلاص وسرِّ الإخلاص الحقيقي فيما بيننا وتجاه بعضنا للبعض الآخر، ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، وبكل ما نملك من قوة.

إذْ علمتُ بخبرٍ يقينيٍّ أنه قد عُيّن ثلاثة أشخاص، منذ ثلاثة شهور، ليُلقوا الفتور فيما بين الإخوة الأوفياء هنا، باستغلال اختلاف الأفكار والمشارب فيما بينهم، وعاملِين على تثبيط عزائم الأقوياء منهم، وبث الشبهات والأوهام والخوف في قلوب الرقيقين منهم القليلي الصبر والتحمل، لِجَعْلِهم يتخلون عن القيام بخدمة النور، فيمددوا مدةَ محاكمتنا لهذه الأغراض.

فحذار.. حذار.. وإياكم أن تهتز تلك المحبة الصميمية الصادقة التي ربطت قلوبكم، إذ إن اهتزازًا طفيفًا في الأُخوّة والمحبة بقدر ذرة واحدة يضرنا أيَّما ضرر، لأن بعض علماء الدين في “دنيزلي” قد ابتعدوا عنا بسبب تزعزعٍ طفيف، نحن نضحي بأرواحنا رخيصةً في سبيل أُخوَّتنا إن استوجب الأمر، وهذا ما تقتضيه خدمتنا القرآنية والإيمانية.

لذا فلا يضجرنَّ أحدٌ من الآخر مما يسببه توتر الأعصاب الناجم عن الضيق الشديد ومن أي سبب آخر، بل ليَسْعَ كلٌّ منكم بزيادة محبته لأخيه وزيادة صميميته وإخلاصه له، وليُحمِّل نفسَه التقصيرَ بكمال التواضع والتسليم، وإلا فسوف نتضرر عظيمَ الضرر، إذ تصبح الحبة الصغيرة قبة عظيمة تستعصي على الإصلاح.

أختصر الكلام هنا مُحيلًا الموضوعَ إلى فراستكم.

❀   ❀   ❀

[المفسدون يتربصون وعلاج ذلك]

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

بناءً على إخطار معنوي مهم، إنّ لكم مهمة أو مهمتين نوريتين، تلك هي السعي بكل ما أوتيتم من قوة بدروس رسائل النور، لئلا يحدث بين المسجونين المبتلين المساكين في هذه “المدرسة اليوسفية الثالثة”، الانحيازُ إلى جهة والانشقاق، حيث إن مفسدين خطرين يتربصون تحت الستار ليستغلوا الاختلاف والأغراض الشخصية والحقد والعناد.

فما دام معظم أصحابنا في السجن يحملون روح البطولة والتضحية بروحهم لأجل بلادهم وأمتهم وأحبتهم إن استوجب الأمر، فلا شك أن الواجب على أولئك الرجال الشهام أن يضحّوا بعنادهم وأغراضهم الشخصية وعداواتهم لأجل سلامة الأمة وراحة المسجونين، والنجاة من إفساد المتسترين الذين يعملون بخفاء لصالح الفوضى والإرهاب ويلقحون أفكار الناس بالشيوعية، فيضحون بتلك العداوة التي لا فائدة فيها قطعًا، بل فيها ضرر كبير ولا سيما في هذا الوقت العجيب.

وإلّا، (أي بخلاف هذا)، سيكون الأمر في هذا الوقت العصيب كمن يُلقي الشرارة في البارود، وسيلحق الضرر بمائة سجين ضعفاء وبطلاب النور الأبرياء، وبولاية “أفيون” هذه، بل ربما يكون وسيلة لطرف أصابع منظمة أجنبية دخلت البلاد.

وحيث إننا قد دخلنا السجن لأجل أولئك بالقدر الإلهي، بل قِسمٌ منا لا يريد مغادرةَ السجن لاستدامة سعادتهم وراحتهم المعنوية، ونحن مستعدون للتضحية براحتنا وهنائنا في سبيل راحة الآخرين من إخواننا، وتحمُّلِ كل ضيق وضجر بالصبر الجميل، فلا بد أن إخواننا الجدد أولئك أيضًا يصبحون كمسجونِي سجن “دنيزلي”، فلا يضجر بعضهم من بعض، ولا يهجره ولا يسأم منه ويستاء، بل عليهم -وهذا ضروري- أن يتصالحوا فيما بينهم إخوانًا متحابين تلطيفًا لخاطر أُخُوّتنا ولأجل حرمة شهر شعبان وشهر رمضان المبارك.

وبدورنا نحن جميعًا -وأنا كذلك- نعدّهم ضمن دائرة طلاب النور، حتى إنهم قد دخلوا ضمن دعواتنا.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[الحكمة في تأجيل موعد المحاكمة]

إخواني الأعزاء الصادقين.‌.

أولًا: إن في تأجيل موعد محاكمتنا وحضور إخواننا الذين أُخلُوا منها هنا يوم المحاكمة، فيه خير كثير.. والخير فيما اختاره اللّٰه.

نعم، لما كانت قضية رسائل النور تهم العالم الإسلامي كله وبخاصة هذا البلد، لذا تستدعي أمثال هذه الاجتماعات الصاخبة المثيرة الجالبة لأنظار الناس عامة إلى حقائق رسائل النور.

وهكذا تلقي رسائل النور دروسَها الرائعة وبصراحة تامة على الأصدقاء والأعداء، حتى أظهرت أخفى أسرارها إلى أعدى أعدائها دون إحجام ولا تردد، في مثل هذه الاجتماعات التي هي فوق حسباننا وخارج حذرنا وخلاف إخفائنا للرسائل، وتُضادد تهوين معارضينا لشأنها، فضلًا عن أنها خارج طوقنا وإرادتنا.

فما دامت الحقيقة هذه، فينبغي لنا أن نعدّ مضايقاتنا التي نعانيها هنا -وهي جزئية وقليلة جدًّا- علاجًا مرًّا نتناوله بالصبر والشكر قائلين: “كل حال يزول”.

ثانيًا: لقد كتبتُ لمدير هذه “المدرسة اليوسفية”:

عندما كنت أسيرًا في “روسيا” قامت الثورة البلشفية أولَ ما قامت من السجون، كما أن الثورة الفرنسية قد اندلعت من السجون أيضًا، وحمَلَها أولئك المسجونون المذكورون في التاريخ باسم الفوضويين.

لذا نحن طلاب النور قد سعينا في كل مرة في سجن “أسكي شهر” و”دنيزلي”، وكذلك هنا (في أفيون) قدر المستطاع لإصلاح المسجونين، وقد تكلل ذلك السعيُ الجميل في “أسكي شهر” و”دنيزلي” بالثمرات الطيبة، وستثمر هنا إن شاء اللّٰه فوائدَ أكثر.

حتى إنه في هذا الوقت الدقيق والمكان الحرج مضت تلك الزوبعة3المقصود العصيان الذي دب في صفوف المسجونين في سجن “أفيون” ولم يشترك فيه طلاب النور قط. (المؤلف). وخفَّت شدتها من المائة إلى الواحد بفضل دروس النور، إذ لولا ذلك لكانت التيارات الخارجة المفسدة تتمنى الفرصَ لتستغل الاختلافات وأمثالَ هذه الحوادث، ولكانت تلقي الشرارة في البارود وتشب الحريق.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[لا بد من الاجتماع، وقد قدَّره الله في السجن]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الصدّيقين الثابتين في خدمة القرآن، يا من لا يتهربون منا من شدة الضيق..

أحزنتني نفسي الآن في التفكير لأجلكم، جراء ضيق مادي ومعنوي، ولكن.. إذا بخاطرٍ يَرِد إلى القلب، وهو أنكم لو تحملتم عشرةَ أضعافِ هذه المشقات والمتاعب وبصورة أخرى لكانت زهيدة في سبيل لقاء أحدٍ من الإخوة هنا لقاءً عن قرب.

ثم من الضرورة بمكان أن يكون لطلاب النور كلَّ بضعِ سنين اجتماعٌ يجتمعون فيه دفعة واحدة، كما كان أهل الحقيقة سابقًا يجتمعون مرة أو مرتين كل سنة ويديمون فيه مسامراتِهم ومحاوراتهم على وفق مشرب رسائل النور المكلل بالتقوى والرياضة الروحية، ومسلكِها المتسم بإلقاء الدروس إلى الناس كافة وإلى المحتاجين خاصة بل حتى إلى المعارضين، ولأجل إنطاق الشخص المعنوي في دائرتها.

فالمدرسة اليوسفية هذه أفضل مكان لطلاب النور وملائم جدًّا لهذه الأغراض، بحيث تَهُون أمامه المشقاتُ حتى لو كانت ألف مشقةٍ وضيق.

إن اجتناب بعض إخوتنا الضعفاء وانسحابَهم من ميدان العمل للنور لسآمتهم في سجوننا السابقة كان خسارة جسيمة لحقت بهم، بينما لم يلحق أي ضرر برسائل النور وطلابها، بل انضم بدلًا منهم من هو أكثر ثباتًا وإخلاصًا منهم.

وحيث إن امتحان الدنيا عابر ويمضي بسرعة ويسلِّم لنا ثوابه وثمراته، فعلينا الاطمئنان إلى العناية الإلهية شاكرين ربنا من خلال الصبر.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[رجاء لإعادة المصحف الشريف]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الصدّيقين..‌

أولًا: عندما تسلّمون القطعتين الأخيرتين إلى رئيس المحكمة، بوساطة شخص فاضل تختارونه ليطّلع عليها اطلاعًا غير رسمي، ليكن ذلك بعد طبعهما بالحروف الجديدة أو بالحروف القديمة، وقدِّموا معهما إليه مذكرة أخرى تكتبون فيها:

إن “سعيدًا” يقدم لكم شكرَه الجزيل ويقول: لقد فتح الحراس الشبابيك إلّا أن المدعي العام لا يسمح لأي واحد من إخوتي بالمجيء إليَّ، وإنه يرجو منكم رجاءً حارًا أن تعيدوا إليه المصحف الشريف المحجوز في المحكمة والمكتوب بخط نفيس معجز كي يتلو فيه هذه الشهور المباركة، علمًا أنه قد أُرسلت ثلاثة أجزاء من ذلك المصحف إلى رئاسة الشؤون الدينية ليسعَوا في طبعه بالصورة.

وعلاوة على ذلك يرجو منكم أن تسلموا إليه إحدى المجموعات التي سُلّمت إلى المحكمة، كي تكون له مدارَ تَسَلٍّ في تجريده المطلق وضيقه الشديد، وليأنسَ بمطالعتها ويصاحبها في عزلته هذه عن الناس.

علمًا أن تلك المجموعات قد مرت على ثلاث محاكم أو أربع دون أن يعترضوا عليها، فضلًا عن تقديرِ الكثير من علماء مكة المكرمة والمدينة المنورة والشام وحلب وكبار علماء الأزهر بمصر، بل إعجابهم بها من دون أن ينتقدوا منها ولا يعترضوا عليها، وذلك بشهادة الحجاج القادمين.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[أصلِحوا الجفاء فورًا]

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

إن لدى “فيضي” نسختين من “الحزب النوري”، فإن لم تكونوا بحاجة إليهما فلترسَل إحداهما إليّ، أو ليكتب “محمد فيضي” نسخة أخرى، فضلًا عن أننا بحاجة إلى “رسالة رمضان” و”الآية الكبرى” المطبوعة.

أصلِحوا فورًا الجفاءَ الموجود فيما بينكم.

حذار.. حذار من هذا.. لأن انحرافًا ولو طفيفًا جدًا، يُلحِق بدائرة النور ضررًا أيما ضرر، فلا تنفعلوا بالأحاسيس الناشئة من الضيق، فلقد أشار انفجارُ مدفأتي إلى هذه الحادثة.

❀   ❀   ❀

[قررت ألا أنظر إلى أي تقصير منكم]

إخوتي الأعزاء الصدّيقين: خسرو ومحمد فيضي وصبري..‌

كنت آمُلُ أن أُودع إليكم -بكل ثقتي وقناعتي- الحفاظ على سلامة رسائل النور ثم أَدخلَ القبر سليم القلب، وكنت أعتقد أنه لا يمكن أن يَحُول شيءٌ -مهما كان- بين بعضكم البعض الآخر، والآن هناك إشعار رسمي موضوع بخطة رهيبة لإحداث جفوة بين أركان طلاب النور.

ولما كنتم مستعدين للتضحية -إذا استوجب الأمر- بحياتكم لأجل الآخرين، بمقتضى وفائكم الخالص وترابطكم الوثيق برسائل النور، فلا شك، بل ويحتم عليكم أن تضحوا بمشاعركم الجزئية العابرة التي لا أهمية لها في سبيل الآخرين، إذ بخلاف ذلك ستَلحق بنا بلا شك -في هذه الفترة- أضرارٌ جسيمة، كما أن هناك احتمالَ الافتراق عن دائرة النور.. أقول ذلك وأنا أرتعد من هذا المصير.

ولقد انتابني ضيقٌ شديدٌ منذ ثلاثة أيام لم أرَ مثله قط، وهزَّني هزًّا عنيفًا، وعلمتُ الآن قطعًا أنَّ تدللًا من بعضكم على البعض الآخر وإن كان طفيفًا -كشعرة في العين- يقع وقوع القنبلة في حياتنا النورية.

حتى إنني أبلغكم هذا أيضًا: لقد بُذِلَتْ جهودٌ مضنية لإظهارنا ذوي علاقة مع الزوبعة السابقة، فيحاولون الآن إلقاء الجفاء -ولو قليلًا- فيما بينكم.

إنني قررتُ أن لا أنظر إلى تقصير أيٍّ منكم، رغم أنني أقاسي -في سبيل الحفاظ على مشاعركم- المتاعب والمضايقات أكثر منكم بعشر مرات، فأطلب منكم باسم أستاذِنا الشخصِ المعنوي لطلاب النور، تركَ الأنانية وعدم الأخذ بها محقًّا كان المرء أم غير محق.

وإن كانت هناك أصابع خفية تلعب في ذلك المكان العجيب، لوجودكم معًا، فليذهب أحدكم إلى ردهة “طاهري”.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[اغتنام ليلة النصف من شعبان]

إخوتي الأعزاء الصديقين.. ويا زملاء الدراسة في هذه “المدرسة اليوسفية”..‌

إن الليلة القادمة هي ليلة النصف من شعبان، وهي بمثابة نواة سامية لسنة كاملة، ونوع من برنامج للمقدرات البشرية، لذا تكتسب هذه الليلة قدسية من ليلة القدر، فمثلما الحسنات تتضاعف إلى ثلاثين ألف ضعف في ليلة القدر، يرتفع العملُ الصالحُ وكل حرف من الحروف القرآنية في ليلة النصف من شعبان إلى عشرين ألف ثواب.

فلئن كانت الحسنة بعشرِ أمثالها في سائر الأوقات، ففي الشهور الثلاثة ترتفع إلى المائة وإلى الألف، وفي هذه الليالي المشهورة ترتفع إلى عشرة آلاف، وعشرين ألفًا، وثلاثين ألفًا من الحسنات، فهذه الليالي المباركة تعدل عبادة خمسين سنة، لذا فالانشغال – قدر المستطاع – بتلاوة القرآن الكريم والاستغفار والصلوات على الرسول الكريم (ﷺ) في هذه الليلة ربح عظيم جدًّا.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[العبادة الجماعية في الليالي المباركة]

﴿باسمه سبحانه﴾

السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته أبدًا دائمًا.. سلّمكم اللّٰه في الدارين.

نبارك لكم ليلة النصف من شعبان بكل قلوبنا وأرواحنا، تلك الليلة التي يمكن أن يغنم فيها أهل الإيمان عمرًا معنويًّا يَعدل خمسين سنة من العبادة.

فكل طالب مخلصٍ خالص للنور في هذه الليلة كأنه يعبد ربه ويستغفره بأربعين ألف لسانٍ كبعض الملائكة المسبِّحين بأربعين ألف لسان.. هكذا نأمُل من رحمته تعالى باطمئنان تام وبسرِّ الاشتراك المعنوي وبفيض التساند المعنوي.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[شرح حديث الدجال للمعارضين]

﴿باسمه سبحانه﴾

أولًا: لقد اعترض البعض في الادعاء على مسألة من “الشعاع الخامس” تتعلق بالدجال، متأثرين في اعتراضهم هذا بادعاءات بعض أصحاب الأهواء والبدع من العلماء، الذين ينكرون مجيء الدجال أو حتى عدد من الدجالين في الإسلام، ولعلّ الحديث النبوي التالي يُعتبر خيرَ دليل على دحض تلك المزاعم.

فقد ورد في الحديث الصحيح: “لن تزال الخلافة في ولد عمي -صِنْو أبي- العباس حتى يسلِّمها إلى الدجال”، وهذا الحديث الشريف فضلًا عن أنه يعتبر معجزة رائعة من معجزات نبينا (ﷺ)، فإنه يدل دلالة صريحة على أن الخلافة العباسية ستظهر وتستمر مدة طويلة بما يقرب من خمسمائة سنة، ثم تدمَّر على يد دجالٍ من الدجالين الثلاثة من أمثال “جنكيز” و”هولاكو” ويتولى حكومة دجالية في العالم الإسلامي؛ أي إنه يدل دلالة ظاهرة على أن العالم الإسلامي سيُفْتَتَن بثلاثة من الدجالين طبقًا للأحاديث المختلفة الواردة.

على أن الخبر الغيبي الوارد في هذا الحديث ينطوي على معجزتين قطعيتين من معجزات الرسول (ﷺ).

إحداها: أن الخلافة العباسية ستقوم فيما بعد وتدوم خمسمائة عام.

ثانيها: أن هذه الخلافة ستنقرض على يد دجال ظالم طاغ من أمثال “جنكيز” و”هولاكو”.

فيا عجبًا! هل يمكن لصاحب الشريعة الذي أَخبر في كتب الأحاديث عن أشياء جزئية تعود إلى شعائر الإسلام والقرآن أن لا ينبئ عن الأحداث العجيبة التي في زماننا هذا؟! وهل يمكن أن لا يُشار إلى تلاميذ رسائل النور الذين نذروا أنفسهم لخدمة القرآن خدمة مخلصة، وبشكل رائع وواسع، لا سيما في زمن عجيب كزماننا هذا، وفي ظروف صعبة وشديدة كظروفنا.. تلك الخدمات التي يعترف بها الأعداء والأصدقاء؟!

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[قضية فلسطين]

﴿باسمه سبحانه﴾

إلى الرائد النوري العزيز وخادم القرآن أخي رأفت بك..‌

هذه نكتة من نكات الآية الجليلة: ﴿وَضُرِبَتْ عليهم الذِّلَةُ والْمسْكَنَةُ﴾.

إن اليهود لما أفرطوا في حُب الحياة والتكالب على الدنيا استحقوا أن يَتلقَوا صفعةَ الذل والمسكنة في كل عصر وكل مكان.

إلّا أن الأمر بالنسبة لقضية فلسطين هذه يختلف بعض الشيء، فقد حلّ محل حُبِ الحياة والتكالبِ على الدنيا -الذي هو جبلّة اليهود وديدنُهم على مر العصور- شعورٌ قومي وديني؛ حيث بدؤوا يحسون أن “فلسطين” هي مقبرة بني إسرائيل، وأن الأنبياء السابقين كانوا من قومهم.

وبالنظر إلى شعورهم القومي والديني هذا فإنهم لم يتلقَّوا صفعة تأديب بسرعة هذه المرة، وإلّا فكيف يكون باستطاعة ثلة قليلة من الناس أن تعيش وسط ذلك الجمع الهائل من العرب الذين يطوقونها من كل صوب دون أن يتلقَّوا صفعة سريعة وتُضربَ عليهم الذلة والمسكنة؟!

❀   ❀   ❀

[سؤال حول كروية الأرض]

سؤال: هل هناك آية كريمة تدل على كروية الأرض؟ وفي أية سورة من سور القرآن الكريم؟ فإن شبهةً تجول في فكري حول تسويتها أو كرويتها، وحيث إن أراضي كل حكومة تحدها البحار فما الذي يحافظ على أطراف هذه البحار الواسعة؟

الملا علي من أميرداغ‌

الجواب: لقد حَلَّت رسائل النور هذه المسألة وما شابهها من المسائل، علمًا أن علماء الإسلام قد قبلوا بكروية الأرض، وأنها لا تخالف الدين.

ولا يدل ورود السطح في الآية الكريمة4(وإلى الأرض كيف سطحت) (الغاشية: ٢٠). على عدم كرويتها.

هذا وإن استقبالَ القبلة شرط في الصلاة لدى المجتهدين، والشرط يسري في جميع الأركان، لذا يَلزم استقبال القبلة في الركوع والسجود، وهذا إنما يمكن بكروية الأرض.

والقبلة شرعًا عمودٌ نورانيٌّ يَصعد من فوق الكعبة إلى العرش، وتمتد من أسفلها إلى الفرش، فاستقبال القبلة في أركان الصلاة إنما يكون بكروية الأرض وبكون القبلة عمودًا نورانيًّا كما ذكرنا.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[الخير فيما اختاره الله في عدم الإفراج]

﴿باسمه سبحانه﴾

﴿وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلّا يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ﴾

السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته..

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

نبارك من كل قلوبنا وأرواحنا حلولَ شهر رمضان المبارك، ونسأله تعالى أن يجعل ليلة القدر لكم خيرًا من ألف شهر. آمين.. ويقبلَها سبحانه منكم في حكم ثمانين سنة من العمر المقضي بالعبادة.. آمين.

ثانيًا: إنني أعتقد أن بقاءنا هنا إلى العيد فيه خير كثير وفوائد جمة، إذ لو أُفرج عنا لحُرِمنا من خيرات هذه “المدرسة اليوسفية”، فضلًا عن أننا سننشغل بأمور دنيوية في هذا الشهر المبارك شهرِ رمضان الذي هو شهر أُخروي بحت، وهذا مما يخل بحياتنا المعنوية.

إذن فالخير فيما اختاره اللّٰه، وستكون إن شاء اللّٰه أفراحٌ كثيرة وخيرات أكثر.

لقد علمتم أيضًا يا إخوتي في المحكمة أنهم لا يستطيعون وجدان شيء علينا حتى بقوانينهم أنفسهم، لذا يتشبثون بأمور جزئية جدًّا لا تمسُّ القانون بشيء ولو بقدر جناح بعوضة، فينقِّبون في مكاتب جزئية وأمور جزئية خاصة جدًّا، حيث لا يجدون من المسائل النورية العظيمة وسيلة تكون سببًا للتعرض لنا.

ثم إن لنا مصلحةً أخرى، وهي أنهم ينشغلون بشخصي الذي لا أهمية له، فيهوّنون من شأني بدلًا من انشغالهم بطلاب النور الكثيرين ورسائلِ النور الواسعةِ الانتشارِ، فلا يَسمحُ القدر الإلهي لهم بالتعرض لطلاب النور ورسائل النور، بل يشغلهم بشخصي فحسب.

وأنا بدوري أبيّن لكم ولجميع أصحابي وأصدقائي أنني أرضى بجميع المشقات الآتية على شخصي وبكل سرور وامتنان وبكل ما أملك من روح وجسد، بل حتى بنفسي الأمّارة، في سبيل سلامة رسائل النور وسلامتكم أنتم، فكما أن الجنة ليست رخيصة فإن جهنم كذلك ليست زائدة عن الحاجة.

ولما كانت الدنيا ومشقاتها فانية وماضية عابرة بسرعة، فإن المظالم التي يُنـزِلها بنا أعداؤنا المتسترون سننتقم منهم ونثأر لأنفسنا بأضعافِ أضعافِها بل بمائة ضعف، وذلك في المحكمة الكبرى وجزءٌ منها في الدنيا.. فنحن بدلًا من الحقد والغضب عليهم نأسف على حالهم.

فما دامت الحقيقة هي هذه، فعلينا التوكل على اللّٰه والاستسلام لما تجري به المقادير الإلهية والعناية الإلهية التي تحمينا، من دون أن يساورنا القلق، مع أخذ الحذر، والتحلي بالصبر الجميل والشكر الجزيل، وشدِّ أواصر المحبة ووشائج الألفة والمسامرة المباركة مع إخوتنا هنا في الأيام المباركة لهذا الشهر المبارك شهر رمضان، وقضائِه في جوٍّ من الأخوّة الخالصة والسلوان الجميل والترابط الوثيق، والانشغال بالأوراد في هذا الشهر الذي يرفع الثواب إلى الألف، ومحاولة عدم الاكتراث بهذه المضايقات الجزئية العابرة الفانية بل الانهماك بدروسنا العلمية، وذلك حظٌّ عظيمٌ يؤتيه اللّٰه من يشاء.

هذا وإن دروسَ النور المؤثِّرة تأثيرًا جيدًا في هذا الامتحان العسير واستقراءَها حتى للمعارضين فتوحاتٌ نورية لها أهميتها وقيمتها.

حاشية: إن إنكار بعض إخواننا كونَه طالبًا من طلاب النور دون ما حاجة إلى ذلك ولا سيما (…) وسترهم لخدماتهم النورية الجليلة السابقة من دون ضرورة، رغم أنه عمل سيء، إلّا أن خدماتهم السابقة تدعونا إلى الصفح عنهم وعدم الاستياء منهم.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[علينا النظر إلى الجهة الحسنة من كل شيء]

﴿باسمه سبحانه﴾

﴿وَإِنْ مِنْ شَيءٍ اِلّا يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ﴾

إخوتي الأعزاء الصدّيقين..‌

أولًا: إن الليالي المقبلة تُكسب المرء ثمانين ونيفًا من سني العمر المليء بالعبادة، واحتمالُ وقوع ليلة القدر فيها واردٌ حسب ما ورد في الحديث الصحيح: “تحرُّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان”5انظر: البخاري، فضل ليلة القدر ٣؛ مسلم، الصيام، فضل ليلة القدر برقم ١١٦٥- ١١٦٧. فعلينا إذن السعي لاغتنام هذه الفرصة الثمينة، فهي سعادة عظمى ولا سيما في مثل هذه الأماكن المثابة عليها.

ثانيًا: بمضمونِ: “مَن آمن بالقدر أمِنَ مِن الكدر”، وكذا حسب القاعدة الحكيمة: “خذوا من كل شيءٍ أحسنَه”، وكذا قوله تعالى: ﴿الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هَداهُم اللّٰه وأولئك هم أولوا الألباب﴾.

فحسب هذه الآية الجليلة والقواعد السابقة: علينا أن ننظر إلى الجهة الحسنة من كل شيء، والوجهِ الجميل المبشِّر منه لكي لا تنشغل قلوبُنا بما لا يعني من الحالات القبيحة العابرة التي لا حاجة لنا إليها، بل هي مضرة تورث الضيقَ والانقباض.

ولقد ذُكر في “الكلمة الثامنة”: رجلان يدخل أحدهما الحديقة بينما يغادرها الآخر. فالمحظوظ السعيد هو الذي ينظر إلى الأزاهير وما شابهها من الأشياء الجميلة في الحديقة، فينشرح ويرتاح ويهنأ، بينما الآخر الشقي يحصر نظره في الأمور القذرة الفاسدة لعجزه عن التنظيف، فينتابه الغثيان ويتضايق بدلًا من أن ينسرَّ في الحديقة، ويتركها هكذا..

هذا وإن صفحات الحياة الاجتماعية البشرية الحالية ولا سيما “المدرسة اليوسفية” هي بمثابة حديقة، فيها أشياء قبيحة وحسنة معًا، وفيها أمور محزنة ومفرحة جنبًا إلى جنب، فالكيّس مَن أشغل نفسه بالأمور الجميلة، من دون أن يعبأ بالقبيحة والفاسدة منها، فيشكرُ ربّه وينسرُّ في موضع الشكوى والقلق.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[لمعة الإخلاص خير ناصح]

إخوتي الأعزاء الصادقين الثابتين..‌

أبارككم بكل روحي وقلبي، فلقد ضمدتم جرحنا بسرعة، وأنا بدوري فرِحتُ تمام الفرح وانسررت الليلةَ بالشفاء.

ومن المعلوم أن “مدرسة الزهراء” تتوسع وتزوّد الأذهان والقلوب بسر الإخلاص الحقيقي والتضحية الجادة وترك الأنانية والتواضع التام وذلك ضمن دائرة النور، وتقوم بنشر هذه الأمور في الأوساط، فلا بد إذن أن لا يُفسد تلك الدروسَ القوية والعلاقة الأخوية المتينة ما يتولد من المشاعر والأحاسيس من أمور عابرة في منتهى الجزئية ولا الدَّلُّ فيما بينكم.. إن لمعة “الإخلاص” خير ناصح في هذا المجال.

وقد وُضِعتْ في الوقت الحاضر خطةٌ رهيبة لضربنا وتشتيتِ رسائل النور وزعزعةِ الروابط بين طلابها، وذلك بإلقاء الجفاء بين الطلاب وإحداثِ السآمة فيما بينهم وإيجادِ الفرقة من حيث اختلاف المشرب والفكر.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[ارفعوا الهجر والسخط فورًا]

أخي العزيز السيد رأفت..‌

بحرمة القرآن العظيم، وبحق ارتباطكم القرآني، وبشرف خدماتكم العظيمة في مسلك النور طوال عشرين سنة.. ارفعوا ما بينكم من هجر وسخط.

فهو رهيبٌ رغم كونه شيئًا جزئيًّا -ظاهرًا- إلّا أنه أليمٌ فجيعٌ بالنسبة لأوضاعنا الحالية الدقيقة. فهو عونٌ عظيمٌ للمنافقين المتسترين الذين يسعون لإبادتنا وإفنائنا.

تخلَّوا يا إخوتي عن استياء بعضكم عن بعض، الشبيه بِإلقاء الشرارة في البارود، واحملوا الآخرين عن التخلي عنها، إذ بخلاف ذلك هناك احتمال قوي أن يَلحق الضررُ بنا وبالخدمة القرآنية والإيمانية بالأرطال بسبب حق جزئي شخصي لا يعادل درهمًا.

وإني أُطَمْئِنُكم -مقسِمًا باللّٰه- أنه إذا أهانني أحدُكم أشدَّ إهانة وأشنع تحقير، وحطَّ من كرامةِ شخصيتي كليًّا، ولم يتخلّ -في الوقت نفسه- عن الخدمة القرآنية والإيمانية والنورية، فإنني أصفح عنه وأتنازل له عن حقي، وأُصالحه، وأسعى لعدم الاستياء منه.

فما دمتم تعلمون أن أعداءنا يستغلون جفاءً جزئيًّا فيما بين الإخوة، تصالَحوا فورًا، وتخلَّوا عن التدلل الذي لا معنى له، بل فيه ضرر بليغ، وإلّا فسيكون ضررًا جسيمًا لخدمتنا الإيمانية.

ولما كانت العناية الإلهية قد وَهبت لنا الكثيرين بدلَ الضائعين المفارِقين لنا، فستُسعفنا وتمدّنا بإذن اللّٰه.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[قلوب الخبراء أصبحت من النوريين]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

لا تقلقوا.. فنحن في ظل العناية الإلهية وتحت رعايتها.. إن المشقات الظاهرة تحمل رحمات كثيرة.

لقد أرغموا الخبراء على أن يهوّنوا جزءًا من الرسائل.. لا شك أن قلوب الخبراء قد أصبحت من “النوريين”.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[الحكمة في تأجيل الإفراج]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الصديقين الثابتين الذين لا ينال منهم القلق والاضطراب، ولا يتركون الآخرة بالعودة إلى الدنيا الفانية..‌

لا تحزنوا من بقائنا هنا مدة أخرى لرغبتهم في توسيع دائرة قضيتنا، بل كونوا راضين شاكرين كما أنا راضٍ شاكر، إذ العمر لا يتوقف، بل يحث الخطى نحو الزوال، وينال البقاء بثمراته الأخروية في مثل هذه المعتكفات، فضلًا عن أن دائرة دروس رسائل النور تتوسع.

فمثلًا: اضطر علماء هيئة الخبراء إلى قراءة “سراج النور” بإمعان، علمًا أن هناك احتمالَ ورود نقيصة لخدمتنا الإيمانية -بجهةٍ أو جهتين- فيما إذا أُفرج عنا في هذه الفترة.

إنني لا أرغب في مغادرة السجن بالرغم من أنني أقاسي المضايقات أكثر منكم بكثير، وأنتم كذلك اجهدوا -حسب المستطاع- على الصبر والتحمل والتعود على نمط الحياة هنا، مع الاشتغال باستنساخ رسائل النور ودراستها لتجدوا السلوان والسرور.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[التفسير نوعان ورسائل النور تفسير للقرآن]

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

أولًا: ربما كان عددٌ منا يسافر لأداء فريضة الحج في هذه السنة لو كان السفر إليه حرًّا مسموحًا به6سُمِح بالسفر إلى الحج لأول مرة في تركيا في سنة ١٩٤٧..

نسأل اللّٰه تعالى أن يَقبل نياتِنا هذه وكأننا سافرنا إلى الحج فعلًا، ويمنحَ خدمتنا الإيمانية والنورية ثوابًا عظيمًا كثواب الحج ونحن نعاني هذه الأحوال المليئة بالمضايقات والمشقات.

ثانيًا: إن رسائل النور تفسير قيّم وحقيقي للقرآن الكريم، لقد كرَّرنا هذا الكلامَ، وخطر الآن للقلب بيانُ حقيقته وذلك لعدم وضوح معناه الحقيقي:

التفسير نوعان:

الأول: التفاسير المعروفة التي تُبيِّن وتوضح وتثبِت معانيَ عبارات القرآن الكريم وجُمَلَه وكلماته.

القسم الثاني من التفسير: هو إيضاحُ وبيانُ وإثبات الحقائق الإيمانية للقرآن الكريم إثباتًا مدعَّمًا بالحجج الرصينة والبراهين الواضحة؛ ولهذا القسم أهمية كبيرة جدًّا.

أما التفاسير المعروفة والمتداولة فإنها تتناول هذا النوع الأخير من التفسير تناولًا مجملًا أحيانًا، إلّا أن رسائل النور اتخذت هذا القسم أساسًا لها مباشرة، فهي تفسير معنوي للقرآن الكريم بحيث تُلزِم أعتى الفلاسفة وتُسكتهم.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[نسعى لإقرار الأمن]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

تُرى هل نحن ورسائلُ النور أكثر إضرارًا في الأوساط، بحيث يَكتب كلُّ محرر للصحف ما يشاء ويَعقد كل صنف اجتماعًا دون مداخلةِ أحد؟!

والحال إذا انعدمت التربية الدينية فلا تكون لدى المسلمين وسيلة للإدارة سوى الاستبداد المطلق والرشوة التي لا تحدها حدود، إذ كما لا يتهود المسلم -التارك لدينه- حقًّا ولا يتنصّر حقًّا، بل يكون ملحدا ويضل ضلالًا بعيدًا، كذلك لا يكون شيوعيًّا قط بل فوضويًّا إرهابيًّا، وعندئذٍ لا يمكن إدارته إلّا بالاستبداد المطلق.

أما نحن طلاب النور فإننا نسعى لمعاونة الإدارة وإقرار الأمن والنظام وإحراز السعادة للأمة والوطن، والذين يجابهوننا هم إرهابيون ملحدون أعداء الأمة والوطن، فالأَولى للحكومة بل الألزم لها أن تسعى لحمايتنا ومعاونتنا لا التعرض لنا والتعدي علينا.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[الحكمة في إطالة مدة البقاء في السجن]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

أولًا: إن الإفراج عن كل من “رأفت” و”أدهم” وأفراد عائلة “جالشقان” و”برهان” وأمثالهم من طلاب النور الناشرين، يدل على أن انتشار رسائل النور ليس محظورًا، فلا تتعرض لها المحكمة.

ثم إنه علامة على الإقرار بعدم وجود تحزب وتشكيل جمعية.

ثم إن إطالة مدة قضيتنا وجلبهم الأنظار إلى رسائل النور في ميدان واسع إنما هي بمثابة دعوة عامة لقراءتها، وإعلان رسمي لها يثير لدى السامعين المشتاقين الرغبة في قراءتها.. وهي وسيلة لكسبنا نحن وأهلِ الإيمان المنافعَ العظيمة التي تفوق مشقاتِنا بمائة درجة.. وهي إشارة إلى تأثير مثل هذا الدرس الإيماني النـزيه في أوسع دائرة في الأرض -كالقنبلة الذرية- إن شاء اللّٰه إزاء هجوم كلي شامل قاسٍ شرس تشنّه جيوشُ الضلالة الرهيبة في هذا الزمان.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[مِن خطط الأعداء]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الأوفياء: رأفت، محمد فيضي، صبري..‌

لقد تلقيت إخطارًا قلبيًّا فأرجوكم رجاءً خالصًا لأجل رسائل النور، وبركة هذا العيد المبارك، ولأجل حقوق الأخوّة السابقة فيما بيننا: اسعوا أيها الإخوة الثلاثة لضماد جرحنا الجديد الغائر، لأن أعداءنا ينفّذون خطتين اثنتين علينا:

أُولاها: التهوين من شأني.

ثانيتها: بث الجفاء فيما بيننا، بنشر روح الانتقاد والاعتراض والاستياء فيما بينكم، ولا سيما مع “خسرو”.

إني أُعلن لكم: لو كان لـ”خسرو” ألف تقصير وخطأ فإني أخاف من الكلام عليه، لأن الكلام عليه خيانة عظيمة في الوقت الحاضر، حيث يَعني الكلامَ على رسائل النور مباشرة، وعليَّ بالذات، ويكون لصالح الذين استضعفونا، فهو خيانة عظيمة إلى حدٍّ فجّرَتْ مدفأتي.

وإني على قناعة من أن التعذيب الذي يذيقونني إياه مؤخرًا ناتج من انحلال الترابط فيما بينكم، والذي ليس له مغزى قط، بل فيه ضرر كبير.

إن أصابع رهيبة تتدخل هنا في السجن، ولا سيما في الردهة السادسة، لا تدفعوني يا إخوتي إلى البكاء والحزن في عيدنا هذا، تصالَحوا فورًا صلحًا قلبيًّا.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[ضرورة البقاء في السجن في هذه الفترة]

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

كنت أريد أن يُخْلُوا سبيل اثنين أو ثلاثةٍ من إخواننا اليوم، إلّا أن العناية الإلهية قد أخّرتهم لفوائد يحصلون عليها.

بل إن بقاءنا في وضعنا هذا بما يقرب من عشرين يومًا ضروري، بل ضروري جدًّا، لأن وجودنا معًا في هذا العيد ضروري لنا ولرسائل النور، ولخدمتنا وراحتنا المادية والمعنوية، ولنأخذَ حظَّنا كاملًا من أدعية الحجاج، ولنجاة رسائل النور المرسلة إلى “أنقرة” من المصادرة، ولتزايد عدد الذين يشفقون على كوننا مظلومين فينسلكوا في مسلك النور، وليكون حُجةً على أننا لا نستجير بخونة الوطن والأمة بالرضى عن الأخطاء العظيمة التي تُرتكب حاليًّا.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[نحن مكلفون بالشكر]

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

السجن هو أفضل مكان لنا في هذه الفترة الطافحة بالشبهات والأوهام والاضطرابات والقلاقل.

وإن رسائل النور ستُكسب لنا ولهم الإفراج بإذن اللّٰه، إذ ما دامت رسائل النور تستقرئ نفسها بشكل لا مثيل له، وإلى هذه الدرجة الواسعة خلال هذه الظروف الصعبة المحيطة، وإزاء معارضين كثيرين جدًّا، وتدفع طلابَها إلى أنواع شتى من العمل للإسلام في السجن، ولا تفسح المجال إلى تذللهم بفضل العناية الإلهية.. فنحن إذن مكلفون بأداء الشكر للّٰه بدل الشكوى، والاطمئنان إلى هذا.

فإن تحملي جميع الشدائد والمضايقات الشديدة نابع من هذه القناعة والاطمئنان، فلا أتدخل في مشيئة اللّٰه.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[أسلوب القراءة في أثناء التصحيح]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الأوفياء..‌

إن إحدى النسختين، لي، والأخرى للمدير.. صحِّحوا أخطاء النسخة الأخرى على نسختي المكتوبة بخطي.

وعندما كنت أطالع رسالة “الآية الكبرى” هذه المرة، وجدت أنها ذات قيمة عالية ولا سيما المقام الثاني والمحاورة المعنوية في الختام، وقد استفدت منها أيّما استفادة.

فلأجل أن تستفيدوا، ليقرأْها أحدُكم وليستمع إليها الآخر، وليتولَّ اثنان من إخواننا المطالعةَ أثناء التصحيح ولا يظلوا عاطلين عن العمل.

ثانيًا: “الكلمة العاشرة” الخاصة بي والمكاتيبُ الموجودة هنا وغيرها يجب أن لا تضيع، ولا تبقى معطَّلةً عن القراءة، فلقد عهدتُ نظارتها ومراقبتها إلى “جيلان”.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[تأجيل قضيتنا فيه خير]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الصديقين الثابتين..‌

أولًا: إن تأجيل قضيتنا فيه خير، والخير فيما اختاره اللّٰه، فقد كان قلبي يرغب في هذا التأخير. وإطلاقُ حرية رسائل النور يستدعيه كذلك. وستُوَفَّقون -بهذا التأخير- إن شاء اللّٰه إلى بث السلوان فيما بينكم، وإلى تقوية الروح المعنوية، وإلى مذاكرةٍ علمية وإقامة جلسات طيبة، وإلى كتابة رسائل النور ومطالعتها وإلى إزالة نقطة الزحمة7الزحمة: تعني بالتركية الإزعاج. وتحويلها إلى رحمة، وإلى تبديل هذه الساعات الفانية إلى ساعات خالدة باقية.

ثانيًا: إن تهانينا بالعيد قد جرت في المنـزل المؤقت للمحكمة، لذا فأنا أُرسل إليكم حلاوة العيد وهي ماء زمزم، أتى به رائد مدينة قونية “الأخ زبير” وعسل قرية “نورس” الذي له مغزى عظيم عندي؛ ضعوا الماء في وعاء العسل ورجّوه جيدًا ثم صبوا فيه ماء زمزم، واشربوه هنيئًا مريئًا.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[الرابطة الأخوية بين طلاب النور]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخواني الأعزاء الصديقين..‌

لقد طُرح عليّ سؤال ذو مغزى هام، من مصدر هام جدًّا؛ فقد سألوني ما يلي:

على الرغم من أنكم لستم جمعية، وذلك بشهادة ثلاث محاكم أصدرت حكمَها بالبراءة بهذا الصدد؛ وبعد أن أخذتْ ستُّ ولايات على عاتقها مهمةَ الرصد والتجسس طوال عشرين عامًا، وتَبيّن لها في النهاية أَنْ لا علاقة لكم بتلك التهمة، وأنها مختلَقَة من أساسها.. على الرغم من ذلك كله، فإن العلاقة التي تربط “طلاب النور” بعضهم ببعض لا يوجد لها نظير في أي جمعية أو هيئة.. فهلا تفضلتم بإيضاح هذه المسألة وحل تلك المعضلة؟

فأجبتهم قائلًا: نعم، إن طلاب النور ليسوا جمعية أو شبه جمعية، ولن يكونوا.. خاصة وأنهم يربأون بأنفسهم عن أن ينتموا إلى ذلك النوع من الجمعيات التي تتشكَّل لأغراض شخصية أو جماعية، مستهدِفةً كسب المنافع السياسية أو الدنيوية -إيجابيةً كانت تلك المنافع أم سلبية- بَيد أن أبناءَ وبنات وأحفاد أبطال هذا الوطن القدامى من فدائيي الإسلام، الذين قدَّموا ملايين الأرواح -بكمال المسرّة والرضى- في سبيل نيل مرتبة الشهادة، لا بد أنهم قد ورِثوا حظًا من روح تلك التضحية والفداء حتى أظهروا تلك العلاقة الخارقة التي دفعت أخاهم هذا العاجز الضعيف إلى القول أمام محكمة “دنيزلي”:

«إن الحقيقة التي افتدتها ملايين الأبطال برؤوسهم، فداءٌ لها رؤوسنا أيضًا».

قال هذه الجملة باسمهم، وأسكت المحكمة، تاركًا إياها في حيرة وتقدير وذهول.

بمعنى أن في طلاب النور فدائيين حقيقيين خالصين مخلصين للّٰه، لا يريدون إلّا وجهه ونيل رضاه والحياة الآخرة.

فلم يجد الماسونيون والشيوعيون وأهل الضلالة والإفساد والزندقة والإلحاد والطاشناق وأمثالهم من المنظمات الخطرة وسيلةً لدحر أولئك النوريين، فغرَّروا بالحكومة ودوائر العدلية بوساطة قوانين مطاطة بغيةَ تشتيتهم وكسر شوكتهم.. ألا حبطت أعمالهم.. فلا ينالون شيئًا منهم بإذن اللّٰه، بل سيكونون وسيلة لزيادة عدد الأبطال المضحين للنور والإيمان.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[لماذا تخشاكم عصابات الأرمن؟]

إخواني الأعزاء الصديقين..‌

سأذكر لكم ما جرى من محاورة قبل أربعين سنة، شبيهةٍ بالتي جرت أمس:

كانت علاقة طلاب “سعيد القديم” وطيدة جدًّا مع أستاذهم، حتى بلغت مرتبة التضحية والفداء، لذا كان “سعيد القديم” يتمكن من التصدي للفعاليات الكثيرة التي كانت تقوم بها عصابات الأرمن وفدائيو الطاشناق في حوالي مدينة “وان” و”بتليس”، بل كان يُوقِفهم عند حدّهم إلى درجة ما.

وحينما وجد لطلابه بنادق الماوزر، وتحولت مدرسته إلى ما يشبه المعسكر -إذ الكتب كانت جنبًا إلى جنب مع البنادق- حضر قائد عسكري برتبة فريق وشاهَدَ هذا المنظر، وقال: “هذه ليست مدرسة دينية بل ثكنة عسكرية”.

وأمَر قائلًا: “اجمعوا بنادقه” لما ساورته الشكوك من جراء حادثة “بتليس”، فحصلوا منا خمس عشرة بندقية، وبعد حوالي شهرين اندلعت الحرب العالمية الأولى، فاسترجعتُ بنادقي منهم.

وعلى كل حال، ولمناسبة هذه المواقف والأحوال سألوني:

إن عصابات الأرمن التي تملك فدائيين رهيبين تخشاكم، حتى إنها تجنبت الاحتكاك معكم وتفرقوا بعيدًا عنكم لَمَّا صعدتم جبل “أرَك” في “وان”.. تُرى ما القوة التي فيكم حتى يكون الأمر هكذا؟

فكنت أجيبهم: إن فدائيي الأرمن الذين يقومون بهذه البطولات الخارقة، إنما يقومون بـها في سبيل الحصول على حياة دنيوية فانية، ولأجل كسب مصلحة قومية مؤقتة صغيـرة، وللحفاظ على سلامتها.. ونحن نُجابه هؤلاء بالطلاب الذين يَسْعَون في سبيل الحصول على حياة باقية خالدة، ولأجل كسب مصالح إيجابية لأمة الإسلام السامية العظيمة، وقد أيقنوا بأن الأجل واحد لا يتغير، فلا شك أن هؤلاء الطلاب لا يتخلفون قطعًا عن أولئك الفدائيين.

﴿أقول باسم إخوتي -مع عجزي-:  سنظهر أننا وارثي أجدادنا في البطولة والشجاعة أيضًا كما أننا وارثيهم في الدين -إن لزم الأمر،- بل سنتفوق كثيرًا إن شاء اللّٰه.﴾

بل إذا لزم الأمر يَفْدون بحياتـهم وبأجلهم المحتوم وبعمرٍ لا يعدو بضع سنوات ظاهرية، في سبيل الفوز بملايين السنوات من العمر الخالد، وفي سبيل الحفاظ على سلامة مليارات من الناس المؤمنين الأتقياء.. يَفدونها دون تردد، وبكل فخر واعتزاز.

❀   ❀   ❀

[لا بد من الامتحان والتمحيص]

إخواني الأعزاء ذوي الشفقة والوفاء..‌

لقد اشتد عليّ منذ يومين أثر الرشحة (الزكام) سواء في رأسي وفي أعصابي، ففي مثل هذه الحالات أشعر بحاجة إلى الأُنس بالأصدقاء والتسلي بلقائهم، ولكن ضايقتْني وحشةُ الانفراد والتجريد العجيب مضايقة شديدة، فورد إلى القلب شكوى على هذه الصورة.

لِمَ هذا التعذيب؟ وما فائدته لخدمتنا في سبيل القرآن والإيمان؟

وفجأةً أُخطِر للقلب صباحَ هذا اليوم، الآتي: إن دخولكم هذا الامتحان القاسي، وتمييزَكم الدقيق في المحك مرات عدة لِيخلص الذهب عن النحاس، واختبارَكم من كل جانب وناحية بتجارب ظالمة لمعرفة مدى بقاء حظوظ نفوسكم الأمارة ودسائسها، ومن ثم تمحيصكم بثلاث ممحِّصات، كان ضروريًّا جدًّا لخدمتكم التي هي خالصة لوجه الحق والحقيقة، لذا سمح القدر الإلهي والعناية الربانية به.

لأن الإعلان عن هذه الخدمة السامية، في ميدانِ امتحان كهذا، تجاهَ معارضين عنيدين ظَلَمة يتشبثون بأتفه حجة.. جَعَل الناسَ يفهمون أن هذه الخدمة القرآنية نابعة من الحق والحقيقة مباشرة، ولا تُداخلها حيلة ولا خداع، ولا أنانية ولا غرور، ولا غرض شخصي، ولا منافع دنيوية وأخروية.

إذ ما كان عوام المؤمنين يثقون بها لولا هذا الامتحان، حيث كان لسان حالهم يقول: ربما يقولون ليغرروا بنا ويخدعونا.

ويرتابُ خواص المؤمنين ويقولون: ربما يعملون هكذا وصولًا إلى مقامات معينة، وكسبًا لثقة الناس بهم ونيلًا للإعجاب، كما يفعله بعض أهل المقامات المعنوية، وعندئذ لا يثقون بالخدمة.

ولكن بعد الابتلاء، اضطر حتى أعتى عنيد مرتاب إلى التسليم بالأمر، لذا إن كانت مشقتكم واحدة فإن ربحكم ألف إن شاء اللّٰه.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[حول حادثة عدم القيام للقائد الروسي]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

إن إعلان الحادثة التي وقعت أثناء أسري في روسيا8المقصود عدم قيام الأستاذ النورسي للقائد الروسي. في الجريدة، قد زَيَّد من توجه الناس وإقبالهم رغم شدة المنع والسعي لتجنيب الناس عنّا.

وقد قال رئيس الحراس: إن ثلاثة أشخاص رسميين قد قالوا أمس في فِناء السجن وهم من المؤيِّدين لإنـزال الإهانات بنا ولا سيما بي: عندما يظهر “سعيد” من النافذة يتجمع الناس وينظرون إليه، فعليه أن لا يقف أمام النافذة، وإلّا فبدِّلوا ردهته إلى أخرى.

إخوتي..‌

لا تهتموا.. فلقد قررتُ أن أتحمل المضايقات مهما كانت، وستتبدل -إن شاء اللّٰه- إلى أفراح ومسرات ببركة دعواتكم.

إنّ أصل تلك الحادثة صحيح، ولكن لم أفصّل في بيانها لعدم وجود شاهدٍ لي في الحادثة، إلّا أنني لم أكن أعلم أن مفرزة من الجنود قد أتوا لإعدامي، وعلمت ذلك بعدئذٍ. ولم أعرف أيضًا ما قاله القائد الروسي من كلام لإرضائي، فالنقيب المسلم الذي كان حاضرًا في أثناء الحادثة والذي أَخبر “الجريدة” بها، قد فهم إذن ما قاله القائد الروسي مكررا: “معذرة”.

إخوتي..‌

إنني كلما انشغلت برسائل النور تضاءلتْ المضايقاتُ وخفّت، بمعنى أن وظيفتنا هي الانشغال برسائل النور وعدم الاهتمام بالأمور العابرة، مع التحلّي بالصبر والتجمل بالشكر.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[سجية تحير العقول]

سجية تحير العقول لبديع الزمان‌

هذا المقال نشر في مجلة “أهل السنة” الصادرة بإسطنبول في ١٥ تشرين الأول ١٩٤٨ بقلم صاحبها المحامي.‌

عندما جُرِحْتُ وأُسـِرْتُ في موضعِ “بتليس” في الحرب العالمية الأولى، وقع بديع الزمان أيضًا في اليوم نفسه أسيرًا، فأُرسل إلى أكبر معسكر للأسرى في سيبريا، وأُرسِلتُ إلى جزيرة “نانكون” التابعة لـ”باكو”.

ففي يوم من الأيام عندما يزور نيقولاي نيقولافيج المعسكرَ المذكور للتفتيش -يقوم له الأسرى احترامًا- وعندما يمر من أمام بديع الزمان لا يحرك ساكنًا ولا يهتم به، مما يلفت نظر القائد العام، فيرجع ويمر من أمامه بحجة أخرى، فلا يكترث به أيضًا، وفي المرة الثالثة يقف أمامه، وتجري بينهما المحاورة الآتية بوساطة مترجم:

– أَمَا عرفني؟

– نعم، أعرفه إنه نيقولاي نيقولافيج، خال القيصر والقائد العام لجبهة القفقاس.

– فَلِمَ إذَن قَصَد الإهانة؟

– كلا.. معذرة، إنني لم أستهن به، وإنما فعلتُ ما تأمرني به عقيدتي.

– وماذا تأمر العقيدة؟

– إنني عالم مسلم، أحمل في قلبي الإيمان، فالذي يحمل الإيمان في قلبه أفضل ممن لا يحمله، فلو أنني قد قمت له احترامًا لكنت إذن قليل الاحترام لعقيدتي؛ ولهذا لم أقم له.

– إذن فهو بإطلاقه صفةَ عدم الإيمان عليَّ يكون قد أهانني وأهان جيشي وأهان أمتي والقيصَر، فلتُشَكَّل حالًا محكمةٌ عسكرية للنظر في استجوابه.

وتتشكل محكمة عسكرية بناء على هذا الأمر، ويأتي الضباط الأتراك والألمان والنمساويون للإلحاح على بديع الزمان بالاعتذار من القائد الروسي وطلبِ العفو منه، إلّا أنه أجابـهم بالآتي:

 “إنني راغب في الرحيل إلى دار الآخرة والمثول بين يدي الرسـول الكريم (ﷺ)، فأنا بحاجة إلى جواز سفرٍ فحسبُ للآخرة، ولا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني”.

وتجاهَ هذا الكلام يُؤْثِر الجميعُ الصمتَ منتظرين النتيجة.

وتُنهي المحكمة أعمالَها بإصدارِ قرارِ الإعدام بموجَب مادةِ إهانة القيصر والجيش الروسي. وتَحضر مفرزة يقودها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام، ويقوم بديع الزمان إلى الضابط الروسي قائلًا له بابتهاج: اسمحوا لي خمس عشرة دقيقة فقط لأؤدي واجبي.

فيقوم إلى الوضوء.. وأثناء أدائه الصلاة، يحضر نيقولاي نيقولافيج ويخاطبه: “أرجو منك المعذرة؛ كنت أظن أنكم قمتم بعملكم هذا قصد إهانتي، فاتخذتُ الإجراءات القانونية بحقكم، ولكن الآن أدركت أنكم تستلهمون هذا العمل من إيمانكم، وتنفذون ما تأمركم به عقيدتكم؛ لذا أبطلتُ قرار الحكم بحقكم. إنكم تستحقون كل تقدير وإعجاب لصلاحكم وتقواكم، أرجو المعذرة فقد أزعجتكم، وأكرر رجائي مرارًا: أرجو المعذرة”.

إن هذه العزة الدينية، وهذه السجية الرفيعة التي هي قدوة حسنة للمسلمين جميعًا أخبرني عنها أحد أصحابه في معسكر الأسر، وهو برتبة نقيب، وكان شاهد عِيان للحادثة.

وأنا ما إن عرفت هذا حتى اغرورقت عيناي بالدموع دون اختيار مني9على الرغم من أن أستاذنا لم يأمرنا بإدخال هذه الفقرة التي كتبتها الجريدة، فإنها أدرجت هنا لأنها تتضمن عبرًا غالية، وتستجيش المشاعر وتثير الاهتمام. (خسرو)..

عبد الرحيم زابسو

❀   ❀   ❀

[إرسال حصة الطعام لبيعها إلى المحتاجين]

إخوتي..‌

لانقطاع شهيتي عن الطعام، ولتضرري من الهدية، أرسلتُ إليكم ما وقع لي من حصة الطعام وهي: ثلاثُ قِطَع من الدهن، وسلَّة من العنب، وكيس من التفاح، وعلبتان من الشاي والسكر.

فقد كنت عازمًا على إرسال شيءٍ ما هديةً لكم، ولكن علمت أنه لديكم منه أيضًا، وقد قبلتُه لئلا تسخط عليَّ “مدرسة الزهراء” قائلةً: لَم يأكل من هديتي!

بيعوا هذه المواد إلى المحتاجين بأثمان رخيصة وإلى المستحقين، لأنني سأشتري بأثمانها البيض واللبن والخبز، كي تكون هديةً مباركةً حقًّا، وشفاءً لي وللشارين ولمدرسة الزهراء وشُعَبها، وليكن “خسرو” المشرف على البيع، ويتولى “جيلان” و”حفظي” أمر البيع.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[المُصِرُّ على العِناد لا تُطهِّرُه إلا النار]

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

أولًا: لمناسبة ما نشر في الجريدة حول حادثةِ أسرِي، أُخطر إلى قلبي الآن:

إن قائدًا جبّارًا للروس قد تخلّى عن حِدّته وهدَّأ غضبُه إزاء ما أبديتُه من عزة الإيمان، فاعتذَر.

ولكن الموظفين الرسميين الذين يَرَون صلابة الإيمان لدروس رسائل النور القوية الخالصة، والتي تَفُوق مائةَ درجةٍ على الصلابة التي أبداها شخصي، أقول: إنْ لم تَلِنْ قلوبُهم، وأصروا على عنادهم، فلا يُطهِّرهم إذن إلّا نار جهنم.

لأن هذا العمر القصير المحدود لا يسعه جزاءُ هذا الجرم العظيم؛ حيث إن الدهن لا يمكن أكله إذا فسد، بخلاف اللبن والحليب، نسأله تعالى أن تكون رسائل النور قد أنقذت الكثيرين منهم قبل أن يفسدوا.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[معاملة محيِّرة وقعت خلال الأسر]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

أولًا: لقد أُخطر إلى قلبي بيانُ معاملةٍ محيرة وذات عبرة وقعت خلال أسري لمرتين (في روسيا وهنا):

كنا في “قوصتورما”، في روسيا، مع تسعين من ضباطنا الأسرى في ردهة واحدة، وكنتُ أُلقي عليهم أحيانًا الدرسَ، وذات يوم حضر القائد الروسي وشاهَد الموقفَ وقال: إن هذا الكردي قائدَ المتطوعين قد ذبح كثيرًا من جنودنا، ويأتي الآن ويلقى دروسًا سياسية هنا، لا يمكن هذا، أمنعُه قطعًا.

ولكن بعد يومين قال: “يبدو أن دروسكم غير سياسية، بل دينية وأخلاقية.. استمر عليها” فسمح بإلقاء الدرس.

وفي أسري الثاني: مَنعتْ “العدليةُ” أن يَحضر عندي أحد إخوتي الخواص الذي استمعَ إلى دروسي طوال عشرين سنة، ويُحسِن إلقاءَ الدرس أفضل مني؛ ومَنعتْ كذلك أن يأتيني من يعاونني في أموري الضرورية الخاصة كيلا يأخذ درسًا مني.

والحال، أن رسائل النور لا تدع حاجة إلى تلقّي الدروس من غيرها، فضلًا عن أنه لم يَبق لنا درسٌ غيرها، وليس لنا سرٌّ يُخفى.. وعلى كل حال فقد حال شيء عن ذكر هذه المسألة الطويلة.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[ظهور سعيد الثالث]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

تَعرِض لي حالةٌ روحيةٌ مهمةٌ لمرتين أو ثلاث، وهي حالة شبيهة بالتي دفعَتني لأنـزوي في جبَل يوشع بإسطنبول قبل ثلاثين سنة وجعلتْني أنسلُّ من الحياة الاجتماعية البرّاقة لـ”دار الحكمة الإسلامية”، بل لم أسمح حتى ببقاء المرحوم “عبد الرحمن” معي، وهو الطالب الأول لرسائل النور وبطلُها الرائد، كي ينجزَ بعضَ أعمالي الضرورية.

تلك الحالة التي هي انقلابٌ روحي أظهر ماهية “سعيد الجديد”.

والآن بدأتْ عندي تباشيرُ شبيهةٌ بتلك الحالة، وأعتقد أنها إشارة إلى ظهور “سعيد الثالث” الذي يكون تاركًا للدنيا كليًّا.

بمعنى أن رسائل النور وطلابَها الغيارى سيؤدون مهماتي بدلًا عني، فلم يعُد هناك حاجة إليّ.

ومن المعلوم أن كل جزء من الأجزاء الجامعة لرسائل النور، وكل طالب من طلابها الثابتين يُدرِّس ويرشد أفضل مني وأتم.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[أهمية نكتة توحيدية في لفظ هو]

﴿باسمه سبحانه﴾

أولًا: إنني أخال -بناءً على بعض الأمارات- أن رسالة “مرشد الشباب” تعطى لها أهمية أكثر من المجموعات الأخرى لرسائل النور، فأعتقد أن ما فيها من “نكتة توحيدية في لفظ «هو»” قد قصمت ظهرَ أعدائنا الزنادقة وشتتت طاغوتَ الطبيعة التي يستندون إليها. فلم يَعُد لشيءٍ ما أن يخفيه بعد أن كان التراب الكثيف يخفيه إلى حدٍ ما.

إلّا أنه بعد ظهور تلك النكتة التوحيدية لا يمكن إخفاؤه في الهواء الرقيق الشفاف، بمعنى أنه لا يستطيع أن يخفي نفسه في أية جهة كانت.

ليغرروا العدلية بالكفر العنادي والتمرد الارتدادي، وستصرِف رسائلُ النور بإذن اللّٰه أنظارَ العدلية إلى صالحها، وستُفشِل هذا الهجومَ وتجعله بائرًا.

ثانيًا: إن ما نُشر في هذه الفترة، سواء في مجلة “أهل السنة” أو الجريدة المحلية هنا، وكذا المقابلة الصحفية التي أجراها “زبير” بحرارة، أصبح بمثابةِ إعلانٍ جيدٍ للاشتغال برسائل النور.

اقرأوا -بدلًا مني- الأبحاث التي تَخصُّنا وتروق لي، وأعلموني بها.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[الأخذ بالحذر ضروري]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الصديقين محمد ومصطفى وإبراهيم وجيلان..‌

أولًا: لقد شاهدتُكم أمس وأنتم الأربعة في جلسة أخوية لطيفة، فسررتُ بها كثيرًا وشكرتُ اللّٰه عليها، واستمعت إليها بفرح وسرور وكأنني معكم في الجلسة.

ولكن شاهدت فجأة أن هناك في جهتيكم مَن يَسترِق السمع إليكم، ودام الاستماع نصف ساعة من الزمان، فقلقتُ وقلت في قلبي: ربما بينهم جاسوس يغيّر معاني الكلام فيجعل من الحبة قبة حيث كانوا يُلقون السمع باهتمام، ولا يتلفت إليهم الإخوة المتكلمون لعدم اهتماهم بالحذر، ولمتعة الجلسة والمؤانسة التي فيها، فكتبت إليكم جوابًا بهذا الشأن.

والحمد للّٰه.. فقد علمتُ أن الكلام ما كان فيه ضرر، ومع هذا فالأخذ بالحذر ضروري في هذه الفترة الحرجة.

ثانيًا: لقد علمتُ من رسالة “المَلاحق” الحاملة لحُسن ظنٍّ مفرطٍ بحقي بما يفوق حدّي مائة درجة، أنه سيكون نظير المرحوم “حسن فيضي” الذي هو رائد طلاب النور في “دنيزلي”، وسيظهر في “أفيون” بإذن اللّٰه من أمثال “حسن فيضي” الكثيرون، فلا تكون “أفيون” قاصرة عن “دنيزلي” وعندها تتبدل مشقاتُنا مسراتٍ ورحمات.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[إثارة الاهتمام إلى قراءة جرائد إسلامية]

إخوتي..‌

ما كنت أهتم بالجرائد، إلّا أن نَشرَ مجلّةِ “أهل السنة” و”سبيل الرشاد” مقالاتٍ لصالحنا، حيَّرتْ -بلا شك- الأعداءَ الزنادقةَ والحاسدين، وقد أثار اهتمامي احتمالُ محاولة هؤلاء لإسكات أولئك الأصدقاء

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[سُلوان ذو حقيقة]

﴿باسمه سبحانه﴾

سُلوان ذو حقيقة يزيل مصائبي المضجرة.‌

الأول: تحوُّل المشقات إلى رحمات ومسرات.

الثاني: الانشراح النابع من الرضى والتسليم لعدالة القدر الإلهي.

الثالث: السرور الناشئ من رعاية العناية الإلهية الخاصة بطلاب النور.

الرابع: اللذة الناشئة من زوال المصيبة التي هي عابرة.

الخامس: الأثوبة العظيمة.

السادس: عدم التدخل في مشيئة اللّٰه.

السابع: حصول أخف الجراحات وأقل المشقات عند أشد الهجوم شراسة.

الثامن: تضاؤل المصيبة بدرجات كثيرة بالنسبة للمبتلَين الآخرين.

التاسع: الفرح المنبعث من تأثير الإعلانات الرفيعة عن الانتهاء من الامتحان العسير في خدمة النور والإيمان.

فهذه المسرات المعنوية التسع، علاج لذيذ ومرهم لطيف إلى حدّ لا يمكن تعريفه لتهدئة آلامنا الشديدة.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[توضيح لما قيل في المحكمة]

﴿باسمه سبحانه﴾

أولًا: إنه لَعناية إلهية أنني لم أتمكن من سماع ما قاله المدعي العام من افتراءات، وإلّا كنت أجيبه بكلام قاس.

وما قلته في المحكمة: “سأحيلك إلى المحكمة”. أعني به: أحيلك إلى المحكمة الكبرى لظلمك إيانا، وإلى محكمة دنيوية لتصرفك غير القانوني.

وقصدي مِن: “ليس لي محام”، أن لنا جميعًا محاميًا لمسألتنا الكلية التي تخصنا معًا.

أما الهجوم عليّ شخصيًّا فأنا المتكفل بالإجابة عنه.. أبلغوا هذا “أحمد حكمت”.

ثانيًا: إن دفاعاتنا السابقة كافية لدحض افتراءات المدعي العام.

ثالثًا: لقد كَتب إليّ كل من “مصطفى عثمان” و”جيلان”، أن ما قيل في المحكمة لا يؤدي إلى تأثير سيء في وسط دائرة النور، ولا يعكر صفو القلوب قطعًا؛ ووجدت البطل الرائد “طاهري” قد تلقى الأمر هكذا أيضًا.

رابعًا: أظن أن الكفر والضلالة لأنهما يهجمان علينا بشكل منظم مستندَين إلى منظمات ومؤسسات، فإن القدَر الإلهي يعذبنا بظلمهم الشنيع المستند إلى المنظمات، بمعنى أن اتحاد أهل الإيمان فيما بينهم في الوقت الحاضر أمر ضروري، ونحن لجهلنا بتلك الحقيقة نتلقى صفعة تأديب عادلة من القدر الإلهي.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[أفضل مكان لنا الآن هو السجن]

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

أولًا: إن أفضل مكان لنا هو السجن في زمن حكمِ وزارة مستبدة تمنع الحج وتهدر ماء زمزم وتحظره، وتسمح بإنزال أشد الظلم بنا، ولا تكترث بمصادرة “ذو الفقار” و”سراج النور” وترفع درجة الموظفين الذين يتولون تعذيبنا قصدًا، وبلا سند قانوني، ولا تُلقي السمع إلى أصواتنا المرتفعة ولا إلى بكائنا بكاءَ المظلومين المنطلقِ من مساكننا بلسان الحال.

إن أفضل مكان لنا في فترة حكم هذه الوزارة هو السجن، إلّا أنه إذا نُقلنا إلى سجن آخر فستحل السلامة كليًّا.

ثانيًا: كما أنهم حمَلوا أبعد الناس عنا بالإكراه على قراءة أخص الرسائل سرية، كذلك يدفعوننا دفعًا وبإصرار لنشكل جمعية.

لأن الأخوّة الإسلامية الموجودة في اتحاد جماعة أهل الإيمان قد نَمَتْ لدى طلاب النور نموًا خالصًا طاهرًا مكللًا بالتضحية الجادة والفداء التام الذي ورثوها عن أجدادنا الأوائل الملايين الأبطال الذين ضحوا بكمال الشوق بأرواحهم في سبيل حقيقة، فارتبط النوريون بتلك الحقيقة ارتباطًا وثيقًا بحيث لا يدع حاجة لحدّ الآن إلى تشكيل منظمات، سياسية كانت أم رسمية علنية كانت أم سرية.

إذن فهناك حاجة في الوقت الحاضر بحيث يسلط القدر الإلهي أولئك علينا، فهم يقترفون الظلم بإسناد جمعية موهومة إلينا، والقدَرُ الإلهي يقول لنا: لِمَ لم تُكوِّنوا بإخلاص تام وبتساند تام حزبَ اللّٰه الحقيقي؟

فصفَعَنَا صفعةَ تأديبٍ بأيديهم، وقد عَدَل.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[وضع الإمكانات بدل الوقوعات في الاتهامات]

﴿باسمه سبحانه﴾

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

أولًا: لا أجدكم بحاجة إلى السلوان، يكفي أنكم تشدون الروح المعنوية بعضكم لبعض؛ وتكفيني كذلك اللوحة التي تقابلني.

وقد عُلم أن هذا الهجوم الأخير ما كان إلّا ظلمًا وعملًا غيرَ قانوني وترهيبًا لم ينجم إلّا من أوهام وضعف، فقد كانت أوضاع الناس وموقف أفراد الأمن بمثابة اعتراضٍ على ذلك الهجوم العابث.

ثانيًا: هل تكفي دفاعاتي لما تُسنَد إلينا من اتهامات؟ وهل المحامون و”زبير” يسعون في الأمر؟ ألديهم شيء من القلق؟

عليهم أن لا يقلقوا قطعًا، إن المواد التي يتهموننا بها توجِب اتهام جميع من يحمل الأخوّة الإيمانية، حتى جماعات المصلين لجميع الأئمة، وطلاب جميع المعلمين والأساتذة.. بمعنى أنهم وجدوا أنفسهم أمام معارضين أقوياء فهجموا علينا هذا الهجوم بوضع الإمكانات بدل الوقوعات.

ثالثًا: إن قناعتي الشخصية هي أننا يجب أن نبقى في السجن حتى الربيع، إذ من المعلوم أن الأمور تتوقف في الشتاء، وستُمدنا العناية الإلهية إن شاء اللّٰه.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[الأخذ بالحذر]

إخوتي الأعزاء الصديقين..‌

أولًا: الأخذ بالحذر والحيطة مع الاستشارة والثبات أمور ضرورية.

ثانيًا: لقد سلمت أعمالي هنا إلى “زبير” و”جيلان”، حيث أُخطر لي إخطارًا معنويًّا أن “زبير” بديلُ ابن أخي المرحوم “عبد الرحمن”، و”جيلان” بديلُ ابن أخي الآخر المرحوم “فؤاد”.

❀   ❀   ❀

[لقد نجونا من مكائد هائلة]

إن الاعتداء والهجوم في هذه المرة قد شن في دائرة واسعة جدًّا.‌

فقد هاجمَنَا كلٌّ من رئيس الحكومة والوزراء؛ هاجموا وفق خطة مرسومة بُنِيت على أوهام رهيبة.

فحسبَ ما تلقيته من خبر وبأمارات كثيرة، إن الإخباريات الكاذبة للمنافقين المتخفين، وبدسائسهم الماكرة، لفّقوا لنا علاقة قوية وارتباطًا وثيقًا بالمنظمة الداعية إلى إحياء الخلافة الإسلامية، وبالجمعية السرية للطريقة النقشبندية، بل أظهرونا كأننا في مقدمتهم ورائدوهم.. حتى ساقوا الحكومة إلى اضطراب وقلق كبير، مبينين المجموعات الكبيرة لرسائل النور المجلدة في إسطنبول والمرسَلة إلى العالم الإسلامي -التي كسبت الرضى والقبول هناك- دليلًا على نشاط النوريين! فقذفوا في رَوع الحكومة الخوف والهلع، وأثاروا عِرق الغيرة والحسد لدى بعض العلماء الرسميين، وهيجوا الأوهام والشكوك لدى الموظفين حتى جعلوهم ضدنا.

وقد حسِبوا أن هناك وثائق كثيرة وأمارات عديدة تُديننا، واعتقدوا كأن سعيدًا الجديد لا يتحمل الأوضاع كما كان سعيد القديم، فيخل بالنظام.

ولكن الحمد للّٰه بما لا يتناهى من الحمد والشكر، فلقد خفف وطء تلك المصيبة من الألف إلى الواحد، فهم لم يستطيعوا أن يعثروا على أية علاقة كانت مع المنظمات والجمعيات، فهي غير موجودة أصلًا، فكيف يجدونها؟

ولهذا اضطر المدعي العام إلى اختلاق الأكاذيب والافتراءات وإسناد أمور جزئية تافهة غير ذات مسؤولية إلينا.

فما دامت الحقيقة هي هذه، فقد نجونا إذًا نحن ورسائل النور من تسع وتسعين بالمائة من المصيبة، لذا ينبغي لنا انتظار رعاية العناية الإلهية وترقبها بالشكر والصبر والتضرع لتتجلى علينا تجليًا كاملًا.

فعلينا إذن الشكرُ، بل ألف شكر وليس الشكوى، وأن نمدّ يد العون إلى القادمين والمغادرين لهذه المدرسة اليوسفية وتسليتهم بدروس النور.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[سلوك بعض الطلبة غيرَ مسلك النور]

﴿باسمه سبحانه﴾

أخي العزيز الصدّيق..‌

لقد علمتُ بإخطارٍ شديد أنك و”أحمد فيضي” قد سلكتما سلوكًا خارج مسلك النور الذي هو: عدم المجابهة والمبارزة، وعدم الانهماك مع أهل الدنيا (السلطة الحاكمة)، وعدم الدخول في أمور السياسة، والدفاع فقط عند الاضطرار القاطع.

فما أدليتما به وقرأتماه من فقراتٍ في المحكمة من أمور كثيرة ومُضرّة كانت تنم عن المجابهة والمبارزة وبأسلوب سياسي، وقد ألحَقَ أضرارًا كثيرة لرسائل النور، حتى ولّدت إنـزالَ العقاب بنا جميعًا، وإلى تشديد الخناق عليّ.

فأنا لا أسخط عليك ولا على “أحمد فيضي”، ولكن كان يجب إراءته لي أولًا؛ لقد أعطي لكما ذلك الوضع (الدفاع) كقضاء إلهي مادي، وعليكم العمل مثلي لأجل ترميمه.

والألزم لـ”فيضي” ترك الدفاع السياسي بكل ما يملك من قوة، والتوجه الكلي إلى رسائل النور كـ”طاهري”، ولينشغل مع الطلاب الجدد.

❀   ❀   ❀

Exit mobile version