[هذا المقام الأول من الشعاع الخامس عشر يتضمن تلخيصًا للحجج الإيمانية حول الإيمان بالله ورسوله ﷺ مستقاة من كلمتَي الشهادة ومن سورة الفاتحة]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
[الشعاع الخامس عشر]
الشعاع الخامس
الحجة الزهراء
عبارة عن مقامين
[مقدمة]
يبدو هذا الدرس ظاهرًا رسالةً صغيرة، إلّا أنها في الحقيقة رسالةٌ عظيمة وقوية وواسعة جدًّا، وهي فاكهةٌ إيمانية وثمرة قرآنية فردوسية أينعت من حياتي التفكرية، ومن اتحادِ علم اليقين وعين اليقين في حياة النور المعنوية التحقيقية.
سعيد النورسي
❀ ❀ ❀
[المقام الأول]
المقام الأول
على ثلاثة أقسام
[القسم الأول: خلاصة شرح كلمة التوحيد]
القسم الأول
من الدرس الذي أُلقي في المدرسة اليوسفية الثالثة، وهو خلاصة الخلاصة للمكتوب العشرين.
﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾
﴿وبه نستعين﴾
فالذي قضى خمسًا وثلاثين سنة معتزِلًا الناسَ، وودَّع الدنيا ونسيَها، ولا سيما في الليالي، حتى استوحش من الناس لكثرة ما عانى من المراقبة المستديمة والترصّد الدائم لأعماله ترصدًا ينطوي على حقد وضغينة وسوء طويّة، طوال ثلاثٍ وعشرين سنة، حتى أصبح يتضايق من أن يقضي ساعةً من وقته مع أحدٍ من الناس وفي مكان واحد، سوى مَن يشتاق إلى رسائل النور ومَن يقوم بمعاونته.. أقول: لقد نقلوا هذا الضعيف -أنا العاجز- إلى الزنـزانة الخامسة كرهًا، حيث الازدحام على أشده، ومنعوا إخوتي من التردد عليّ، بحجةِ رَفْعي دعوى إلى محكمة التمييز حول وضعي في السجن المنفرد أحد عشر شهرًا.
فحينما كنت مضطربًا وقلِقًا على عدم تحمل العيش في هذا الازدحام الكثيف، إذا بالجو يبرد بردًا شديدًا -علامةً على الغضب- بحيث لو كنتُ في مكاني السابق لما تحملتُه قطعًا، فانقلب لي العُسر يسرًا، ونـزلتْ بي تلك الشدةُ رحمةً منه تعالى، فخطر للقلب:
على الرغم من قيام طلاب النور بأداء وظيفتهم -ونيابةً عنك- في تبليغ حقائق رسائل النور بجدٍّ وإخلاص، في كل ردهة من ردهات السجن، فإن هذه الردهة الخامسة الشبيهة بموضع انـزواء الزاهدين يتجدد دائمًا ويتبدل، فهي إذن أحوجُ ما تكون إلى دروس النور، وكذا الشباب والشيوخ لا شك أنهم بأمسِّ الحاجة إلى دروس يقينية وراسخة في إثبات وجوده تعالى وإثبات وحدانيته سبحانه، حيث يقرؤون ما تكتبه الصحفُ من هجوم الروس على الإيمان بهجمات الإلحاد الرهيبة وإنكار الخالق العظيم.
فالذي ورد إلى القلب أثناء الأذكار عقب الصلاة هو هذا، وذكرتُ بدوري التهليلَ الذي أذكره منذ السابق عقب صلاة الفجر عشر مرات، وهو:
“لا إلٰهَ إلّا اللّٰه وحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ يُحْيِي ويُمِيتُ وهو حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الخَيْرُ وهو عَلى كل شَيءٍ قَدِيرٌ وإلَيْهِ المَصِيرُ”1أحمد بن حنبل، المسند، ٤/٢٢٧؛ ابن أبي شيبة، المسند ٦/٢٧، ٧/١٧١؛ البزار، المسند ٣/٢٦٠؛ الطبراني، المعجم الكبير ٢٠/٦٥..
هذا التهليل العظيم والتوحيد الجليل الذي يحمل الاسم الأعظم -حسب روايةٍ- قد فصَّله “المكتوب العشرون” العظيمُ تفصيلًا واضحًا ساطعًا كالشمس، وذلك في إحدى عشرة كلمةً من كلماته في أحد عشر برهانًا من براهينِ وجوب وجوده تعالى ووحدانية ربوبيته، وأوردَ إحدى عشرة بشارة من البشارات السارة.
نعم، كنت أكرر هذه الجملة المقدسة بتدبر عميق مع التفكر في خلاصةٍ موجزة للمكتوب العشرين، فخطر للقلب فجأةً: ألقِ هذه الخلاصة الموجزة درسًا للعالِم الفاضل “نادر” ومن يقيم هنا من الشباب، وأنا بدوري قلت: بسم اللّٰه.. وبدأت بإلقاء الدرس:
إن في هذا الكلام التوحيدي إحدى عشرة بشارة، وإحدى عشرة حجة إيمانية، سأشير إلى الحجج وحدَها بإشارةٍ قصيرةٍ جدًّا مُحيلًا إيضاحاتِها وبشاراتها إلى “المكتوب العشرين” وإلى أجزاء رسائل النور.
وعندما كتبتُ هذا الدرس، رأيتُ من الأنسب أيضًا إدراجَ مالم أُفصح عنه للمسجونين من كلمات ونكات فيه.
وهكذا، فالكلمات الإحدى عشرة من ذلك الكلام التوحيدي هي الآتية:
[1: لا إله إلا الله]
الكلمة الأولى: “لا إله إلّا اللّٰه”
إن الحجة الإيمانية في هذه الكلمة هي رسالة “الآية الكبرى”، تلك الرسالة الخارقة التي لا نظير لها، فقد أدت إلى نيل طلاب النور البراءة من المحكمة، وظهورِهم في سجن “دنيزلي” وانتصارهم في كلٍ من محاكم “أنقرة” و”دنيزلي” وانتشارها بالخفاء انتشارًا مؤثرًا، مثلما أصبح طبعُها سرًّا سببًا لاعتقال طلابها تسعة أشهر.
نعم، إن شعاع “الآية الكبرى” أظهر ثلاثةً وثلاثين إجماعًا عظيمًا وحججًا كلية في الكون كله، مع إشارته في كل حُجةٍ كليةٍ إلى براهينَ غيرِ محدودة تُثبت وجودَ واجبِ الوجود ووحدانيتَه إثباتًا ساطعًا واضحًا وضوح النهار، فيستنطق السماوات بكلمات النجوم في المقدمة، ثم الأرضَ بجُمَل الحيوانات والنباتات، وهكذا حتى يستنطق الكونَ كلَّه بكلمات حقائق الحدوث والإمكان والتغيّر.
فعلى الذين يطلبون إيمانًا راسخًا لا يتزعزع، والباحثين عن سيفٍ لا ينثلم تجاه الفوضى الملحدة: أن يراجعوا رسالة “الآية الكبرى”.
[2: وحده]
الكلمة الثانية: “وحده”
والإشارة الوجيزة إلى الحجة التي فيها هي أن في كل جهة من جهات هذا الكون وفي كل ناحية من نواحيه تُشاهَد وحدةٌ واضحة:
فمثلًا: الكون كلُّه أشبهُ ما يكون بمدينةٍ عامرة، وقصرٍ شامخ، وكتابٍ بليغ مجسم، بحيث إن كلَ آيةٍ فيه، بل كلَّ حرفٍ من حروفه، بل كلَّ نقطةٍ من نقاطه في حُكم معجزةٍ وقرآنٍ مجسَّد.
نعم، فكما يبين هذا وحدةً واضحةً في الكون، فإن مصباحَ ذلك القصر مصباحٌ واحد، وقنديلَه الذي يبيِّن الأوقات واحد أيضًا، وطبّاخه المالك للنار.. واحد؛ وساقيه بالماء.. واحد؛ وهكذا واحد.. واحد.. واحد.. حتى يبلغ الألفَ وواحدًا من الواحد والوحدة.
وبإظهار الكون هذه الوحدة في كل شيء، يثبت أن صاحبَ ذلك القصر وتلك المدينة وذلك الكتاب، ذلك القرآن الكبير المجسم، وكاتبَه ومصنّفَه، موجودٌ وواحدٌ أحد.
[3: لا شريك له]
الكلمة الثالثة: “لا شريك له”
والإشارة المختصرة جدًّا إلى ما فيها من حجة هي: الآية الجليلة: ﴿قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذًا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلًا﴾ التي هي منبعُ شعاع “الآية الكبرى” وأستاذه وأساسه.
نعم، لو كان معه آلهةٌ ولها مُداخلة في الخلق والإيجاد والربوبية لَفَسد نظامُ الكون كلِّه واختل، بينما يُشاهَد أكملُ نظامٍ وأدقُّه في كل شيء، ابتداءً من جناح ذبابة صغيرة، ومن بؤبؤ عينها ومن حجيرتها الصغيرة، وانتهاءً إلى الطائرات الجوية، تلك هي الطيور التي لا تعد ولا تحصى، وإلى المنظومة الشمسية.
ففي كل شيءٍ في الوجود يُرى أكملُ نظامٍ سواءٌ أكان جزئيًّا أم كليًّا، صغيرًا أم كبيرًا، مما يُثبت هذا النظامُ الأكمل إثباتًا لا يحتمل الشك أنّ الشرك محالٌ وجودُه، وأنه معدومٌ أصلًا، ويُثبِت أيضًا إثباتًا واضحًا وجودَ واجبِ الوجود ووحدته.
[4: له الملك]
الكلمة الرابعة: “له الملك”
وإشارة قصيرة جدًّا إلى ما فيها من حجة طويلة هي أننا نشاهد بأبصارنا أنَّ وراء حجاب الغيب مَن هو متصرفٌ بالأمور، مالكٌ لقدرةٍ مطلقةٍ لا يَحُدُّها حدّ، ويملك من العلم ما لا يُحدّه حدود، إذ جَعل وجه الأرض مزرعةً واسعة سعةَ الأرض كلها، ينثر فيها كل ربيع بذورًا تزيد على مائة ألف نوع من النباتات، ينثرها جميعًا معًا ومختلِطًا بعضها ببعض، ثم يجني محاصيلَها جنيًا متمايزًا دون اختلاط ولا التباس، مع انتظام كامل، ويوزّع بيد الرحمة والحكمة على مائتي ألف نوع من الحيوانات ما يلائمُهم من رزق معيّن على حسب حاجتهم؛ وهكذا يُصرِّف الأمور على سعةِ مُلكه الواسع الفسيح، الغني المعطاء، ولا سيما مزرعة الأرض.
فالذي لا يؤمن بهذا المتصرف الحكيم والمَلِك الرحيم يُضطر إلى إنكار هذه الأرض مع محاصيلها، ويكون كالسوفسطائيين الحمقى.
[5: وله الحمد]
الكلمة الخامسة: وهي “وله الحمد”
إن إشارةً مختصرةً جدًّا إلى ما فيها من حجةٍ واسعةٍ جدًّا هي أننا نشاهد بأبصارنا وندرك بعقولنا إدراكًا لحدّ البداهة أن رزاقًا رحيمًا ومحسنًا كريمًا يتصرف ويدبّر أمور مدينة الكون، ويرعى شؤون حي الأرض، ويربّي معسكر الإنسان والحيوان، حتى إنه حوّل الأرض إلى سفينة تجارية، وإلى قطار لجلب الأرزاق، ليبعث على الشكر والحمد بما يغدُق من نِعَمه التي لا تعد ولا تحصى، جاعلًا من الربيع المبسوط على وجه الأرض ما هو بمثابة عربة القطار، المشحونة بمائة ألف نوع ونوع من أنواع الأطعمة، وملأ الأثداء الشبيهة بالمعلّبات باللبن السائغ لإمداد ذوى الحياة المعوِزين الذين نَفِدت أرزاقُهم نهاية الشتاء.
فمَن يملك ذرةً من عقلٍ يؤمن بلا شك أن هذا الأمر إنما هو من أفعالِ رزاقٍ رحيم، ومن لا يؤمن بهذا ويضل ضلالًا بعيدًا يضطر إلى إنكار جميع النعم المنضودة والأرزاق المعينة الباعثة على الحمد والشكر، وليس هو إلّا أحمقَ حيوانٍ مضر.
[6: يُحيي]
الكلمة السادسة: وهي “يحيي”
إن إشارة مختصرة جدًّا إلى ما فيها من حجة هي ما أُثبِتَ في “الكلمة العاشرة” وفي أجزاء رسائل النور بالبراهين القوية أنه يُبعَث على سطح الأرض في كل ربيع جيشٌ سبحاني ضخم مؤلََّف من ثلاثمائة ألف نوعٍ من أنواع ذوى الحياة، وبما لا يحد من الأفراد في أشكال متنوعة وأنماط مختلفة، فتُوهَب لها الحياةُ، وتُجهَّز بكل ما يَلزم الحياةَ، وبانتظام كامل، مما يبين لنا مائة ألف نموذج من نماذج الحشر الأعظم، بل من أماراته.
فالذي يحيي كل تلك المخلوقات المتنوعة غير المحدودة معًا، وهي مختلطةٌ ومكتنفة ومتشابكة بعضُها في بعض، بلا سهو ولا خطأ ولا نقص، ومن دون تحيُّر، ويميِّزها برغم اختلاطها وامتزاجها، وبلا نسيانٍ لأحد منها، ويَهَب لها الحياة بكمال الميزان والنظام، ويبعثها من نُطَفها التي هي قطراتُ ماء متماثلة، ومن نواها المتشابهة، ومن حبيبات لا يتميز بعضُها عن بعض إلّا قليلًا، ومن بويضات الحشرات التي هي عينُ الأخرى، ومن نُطف الطيور ومن بويضاتها التي هي عين بعضها أو بفروق طفيفة..
فالذي يحيي تلك المئات من الألوف من ذوى الحياة التي تضم أفرادًا لا تعد ولا تحصى، المتباينةِ صورةً وصنعة ومعيشةً، ويبعث تلك المئات من الألوف من الأحياء، ويكتب مائة ألف كتابٍ مختلفٍ بعضُها عن بعضٍ على صحيفة الأرض والربيع، يكتبها معًا ومتداخلًا وبلا خطأ كتابةً في أتم إتقان، ويتصرف فيها بعنايةٍ لا حدّ لها، ويعمل فيها بحكمة لا منتهى لها..
نعم.. إن الذي يفعل هذا إنما هو الخلاق العليم وهو المحيي والحي القيوم.. فمَن لا يعتقد بهذا لا شك أنه مضطرٌّ إلى إنكار نفسه وإنكار جميع الأحياء المنتشرة على الأرض كافة، والمعلَّقة على شريط الزمان في جميع مواسم الربيع الماضية، والموجودة على وجوه الأرض الحية والفضاء الحي.. وما هو إلّا أحمقُ الأحياء وأشقاهم.
[7: ويميت]
الكلمة السابعة: وهي “ويميت”
إن إشارة في منتهى الاختصار إلى حججها هي أننا نشاهد عندما تُسَرَّح ثلاثُمائة ألف نوعٍ من الأحياء من وظائفها باسم الموت في الخريف، فإنَّ كلَّ نوعٍ وكلَّ فردٍ يُودِع بذورَه إلى يد الحكمة للحفيظ الجليل، تلك البذور التي هي عُلَيباتُ صحائفِ أعماله، وفهارسُ أفعالهِ، وقوائم ما سيعمله في الربيع المقبل، وهي شبيهةٌ بروحه الباقية من جهةٍ -كبُذيرات التين المتناهية في الصغر، التي تحمل جميعَ قوانين الحياة لشجرتها، فهي بمثابة روحٍ باقيةٍ لها- فيَكتب فيها الخلّاقُ الحكيم، الحيُّ الذي لا يموت، بقلم القَدَر-كالكتابة في القوة الحافظة- تاريخَ حياة الشجرة وكأنها كتابٌ ضخم..
فمَن لا يؤمن بهذا الخلّاق الحكيم الحي الذي لا يموت، ليس هو إنسانًا أحمق وحيوانًا فاقد الشعور فقط، بل هو كذلك أشقى من شيطانٍ تُضرم به نارُ جهنم ومحكوم عليه بالموت الأبدي.
نعم، إن هذه الأفعال المذكورة والتي تشير إلى حجج هذه الكلمات، وهي أفعال حكيمة كلية محيطة وفي منتهى الإعجاز، وتضم ما لا يتناهى من المعجزات والخوارق.. هذه الأفعال لا يمكن أن تكون بلا فاعل قطعًا، بل ذلك محال بمائة محال، وباطل إطلاقًا، فإسنادُها إلى الأسباب العمياء الصماء العاجزة الفاقدةِ للشعور، الجامدةِ المختلطة المستولية غير المنتظمة، ممتنعٌ بألف مرةٍ ومرة، ولا أساس له قطعًا.
فلو فُوِّضت تلك الأفعالُ الحكيمة إلى غير الفاعل الحكيم لَلَزمَ وجودُ قدرةٍ مطلقةٍ وحكمةٍ مطلقةٍ وإتقانٍ بديع كليٍّ تَخُص تَشَكُّل جميعِ الأعشاب والأزاهير في كل ذرةٍ من ذرات التراب.. ويَلزم وجودُ قابليةِ فهـمِ وإفهامِ أقوال ومكالمات وكلماتِ جميعِ الهواتف والراديوات في كل ذرة من ذرات الهواء، كما ذُكر في نكتة توحيدية في لفظ “هو” في “مرشد الشباب”.
وهذا المفهوم الغريب العجيب لا يسع أيَّ شيطان كان أن يقنع به أحدًا قط، فالكفر والإنكار الذي هو خارجٌ عن نطاق العقل إلى هذا الحد وبعيدٌ كل البعد عن الحقيقة وهو إهانةٌ للكائنات كلها وتَعدّ على حقوقها.. لا جزاءَ له إلّا النار، وهو عينُ العدالة، فينبغي القول: “لتعش جهنم لمثل هؤلاء المنكرين”.
[8: وهو حي لا يموت]
الكلمة الثامنة: “وهو حي لا يموت”
إن إشارة مختصرة جدًّا إلى ما فيها من حجة هي: أن الشُميسات المشاهَدة مثلًا أثناء النهار على حَبابِ وجهِ البحر وعلى سطح النهر الجاري، تختفي بذهاب تلك الحباب، فتَظهر الشُميسات التي تعقبها كسابقاتها، فتشير بهذا إلى الشمس التي في السماء وتشهد عليها، وتدل بزوالها ووفاتها على وجود شمس دائمية وعلى بقائها.
كذلك المخلوقات على وجه بحر الكون المتبدل دومًا، وفي فضائه المتجدد الذي لا يحد، وفي مزرعة ذراته.. هذه المخلوقاتُ تسيل سراعًا وباستمرار في نهر الزمان الذي يتموج محتضنًا جميعَ الحوادث والموجودات الفانية، وتموت مع أسبابها الظاهرية، فيذوق كونٌ الموتَ كلَّ سنة، وكلَّ يوم، ويحل آخرُ جديدٌ محلَّه، وتموت دُنًى سيارةٌ باستمرار وعوالمُ سيالةٌ في مزرعة الذرات بعد أخذ المحاصيل منها.
فكما تُبيِّن الحبابُ والشُميساتُ بزوالها الشمسَ الدائمة، فإن وفاةَ تلك المخلوقات غير المحدودة وزوالَ تلك المحاصيل، وتسريحها مع أسبابها الظاهرية تسريحًا بكمال الانتظام، تدل دلالة قاطعة كالنهار الأبلج والشمسِ في وضح النهار على وجوب وجود الحي الذي لا يموت، على الشمس السرمدية، على الخلاق الباقي، على الآمر الأقدس، وعلى وحدانيته جلّ وعلا وعلى وجوده، دلالة ظاهرة أظهرَ من وجود الكائنات نفسها بألف مرة.. والشاهد على هذا كلُّ موجودٍ بحدِّ ذاته وكلُّ الموجودات معًا.
فلا شك أَنْ قد أدركتم مدى حماقةِ وصَمَمِ وجنايةِ مَن لا يسمع هذه الأصوات العالية التي تملأ فضاءَ الكون كله وهذه الشهاداتِ القاطعةَ الصادقة.
[9: بيده الخير]
الكلمة التاسعة: وهي ” بيده الخير”
إن إشارة في منتهى الاختصار إلى ما فيها من حجة هي أننا نشاهد في كل دائرة من دوائر هذا الكون، وفي كل نوع من أنواعه، وفي كل طبقة من طبقاته، حتى في كل فرد من أفراده، بل في كل عضو من أعضائه، بل حتى في كل حجيرةٍ من حجيرات جسمه، مَخزنًا احتياطيًّا، ومستودَعًا لادّخار الرزق، ومزرعةً وخزينةً تُهيئ ما يلزمه ويَقيه ، وتُسلّم -ما فيها- يدٌ غيبية إلى يد ذلك المخلوق في أنسب وقت ومن حيث لا يحتسب، بل بشكل خارجٍ عن طَوقه وإرادته، ضمن انتظامٍ تامٍّ على وفق ميزان دقيق، ويتم ذلك كله في منتهى الحكمة وغاية العناية..
فالجبال مثلًا تَدَّخِر كلَّ ما يلزم الأحياءَ والإنسانَ من معادنَ وأدوية، وكلَّ ما يلزم متطلبات الحياة، فهي خزائن مُلئت في غاية الكمال بأمر الواحد الأحد وبتدبيره، مثلما الأرضُ مزرعةٌ وبَيدرٌ ومطبخٌ تُهيئ أرزاق جميع الأحياء وبكمال الانتظام والميزان، وذلك بقوة الرزاق الحكيم، بل إن في كل إنسان وفي كل عضو من أعضائه مخزنًا ومستودعًا للادّخار، بل حتى في كل حجيرة من حجيرات الجسم أيضًا مخزنٌ صغير يناسبه لخزن الاحتياطي من الأرزاق..
وهكذا في كل موجودٍ مخزنٌ، حتى إن مخزنَ الآخرة هو دارُ الدنيا، ومزرعةُ الجنة ومستودَعُها هو عالمُ الإسلام وعالم الإنسانية الحقة، الذي تنبعث منه الحسناتُ والحُسْنُ والأنوار؛ ومخزنٌ من مخازن جهنم هو المواد الفاسدة والطوائف الملوثة التي تُنتج حناظل الشرور والقبح والكفر، تلك الشرور الناتجة من العدم، والملوِّثة لعوالم الوجود التي هي الخير، ومخزنُ حرارة النجوم وموردها جهنمُ، وخزينةُ أنوارها ومصدرها الجنةُ..
وهكذا فإن كلمةَ “بيده الخير” بإشارتها إلى جميع تلك الخزائن غيرِ المحدودة تبين حجة ساطعة جدًّا.
نعم، إن هذه الكلمة، وكذا عبارة: “بيده مقاليد كل شيء” حجتان للربوبية والوحدانية لا منتهى لِسَعَتهما، وهما ذات خوارق ومعجزات لا حدود لها، تبيِّنها هاتان الجملتان لمن لم يُطمَس على عينه، فانظر مثلًا من تلك الخزائن والمقاليد غير المحدودة إلى هذه فحسب:
إن المدبِّر الحكيم المالك لمفاتيح البذور والنوى، تلك المخازنِ الصغيرةِ التي يَضُمُّ كلٌّ منها أجهزةَ منهاجِ مقدَّراتِ شجرةٍ ضخمةٍ أو زهرةٍ فوّاحة، كما يوقظ بوّابَ بذرةٍ بأمره “أَفِقْ” بمفتاح الإرادة، وبميزانِ نظام تام؛ كذلك يفتح خزينةَ الأرض الهائلة بمفتاح الغيث، فيفتح جميعَ المخازن الصغيرة، أي الحبيبات التي هي نطف النباتات وجميعَ مبادئ الحيوانات، والقطرات التي هي نُطف الطيور والحشرات المتشكلة من هواء وماء، يفتحها جميعًا ومعًا وبلا خطأ، وذلك بتلقّيها أمرَ الانفتاح والانكشاف..
ويفتح سبحانه في الوقت نفسه جميعَ خزائن الكون الكلية والجزئية، المادية والمعنوية، بمفتاح خاص لكل منها، بيد الحكمة والإرادة والرحمة والمشيئة، فإن كنت تريد أن تعرف هذا وتراه فانظر إلى مخازنك الصغيرة وهي قلبُك ودماغُك وجسدك ومعدتك، وانظر إلى حديقتك وإلى الربيع الذي هو زهرةُ الأرض وإلى أزاهيره وثمراته، فإنه سبحانه يفتحها بيد غيبية بمفاتيح متباينة متنوعة آتية من مصنع ﴿كن فيكون﴾، يفتحها بكمال النظام والميزان والرحمة والحكمة، فيُخرِج رطلًا -بل مائة رطل- من المطعومات أحيانًا من درهمٍ من عُليبات صغيرة، يُخرجها بكمال الانتظام والميزان، مقيمًا بها ضيافةً فاخرة لذوي الحياة.
فهل من الممكن أن تتدخل قوةٌ عمياء وطبيعةٌ صماء ومصادفةٌ عشواء وأسبابٌ جامدة جاهلة عاجزة في فعلٍ لانهاية له يؤدّي إلى هذه الدرجة من الانتظام والعلم والبصيرة، وفي صنعةٍ دقيقةٍ ذات حكمة تامة لا تدنو منها المصادفةُ قطعًا، وفي تصرّفٍ موزون لا خطأ فيه إطلاقًا، وفي ربوبيةٍ جليلةٍ عادلةٍ عدالةً تامة لا ظلم فيها أصلًا؟!
وهل يمكن لمن لا يرى الأشياء كافة في آن واحد، ولا يستطيع إدارتها كلها دفعةً واحدةً، ولا يجعل الذراتِ والنجومَ السيارة معًا تحت أمره، أن يتدخل في هذه الإدارة وتصريفِ الأمور التي جوانبُها كلُّها ذات حكمة ومعجزة وميزان؟
وهكذا فمن لا يؤمن بمثل هذا المتصرف للأمور، المدبّر الرحيم، والربّ الحكيم، والذي بيده الخير، وله مقاليد كل شيء، ويضل ضلالًا بعيدًا، ليس له إلّا النار التي تستعر وتغضب حتى ﴿تكاد تميز من الغيظ﴾ كما قال تعالى، فتقول جهنمُ بلسان حالها: إنه يستحق عذابي الخالد، فليس هو أهلًا للرحمة.
[10: وهو على كل شيء قدير]
الكلمة العاشرة: وهي “وهو على كل شيء قدير”
إن إشارةً مختصرةً جدًّا إلى ما فيها من حجة هي أن كل ذي شعور يأتي إلى هذه الدنيا المَضيف ويفتح عينه يرى: قدرةً تُمسك الكونَ كله في قبضتها، وتضم علمًا أزليًّا مطلقًا لا يضلّ ولا ينسى، وحكمةً سرمدية لا عبث فيها إطلاقًا، وتشمل عنايةً بالغة، بحيث تجعل كل فرد من أفراد جيش الذرات منجذبًا جذبةً مولوية، فتستخدمها في وظائف شتى، وتُجري في اللحظة نفسها الكرة الأرضية في دائرة واسعة تبلغ مسافتها أربعة وعشرين ألف سنة في سنة واحدة، وتديرها كالعاشق المولوي المجذوب بالقانون نفسه، وإذ هي تجلب محاصيل المواسم إلى الحيوانات والإنسان، تجعل بالقانون نفسه في اللحظة نفسها الشمسَ مكوكًا ودولابًا، وتُديرها في مركزها دورانَ منجذبٍ عاشقٍ أيضًا مسخِّرةً النجومَ السيارة التي هي أفرادُ جيش المنظومة الشمسية، في خدمات ووظائف جليلة بكمال الميزان والانتظام.
وأن القدرة نفسها تكتب بقانون الحكمة نفسها في اللحظة نفسها مئاتِ الألوف من الأنواع على صحيفة الأرض كافة، والتي كل منها بمثابة مئات الألوف من الكتب، تكتبها معًا ومتداخلة، وبلا التباس ولا سهو، مُظهرةً بها ألوفًا من نماذج الحشر الأعظم.
وأن القدرة نفسها، في اللحظة نفسها تحوّل صحيفة الهواء إلى لوحةِ محوٍ وإثبات، جاعلةً من ذراتها كلها كأنها نهايات قلم ذلك الكتاب ونقاطِه، مستعمِلةً إياها في وظائف كثيرة ضمن ما يعيّنه الأمر والإرادة الإلهية، حتى إنها أعطت قابليةً إلى كلٍّ من تلك الذرات لتتلقى الكلمات والمكالمات كلها كأنها تعلَم بها وتنشرها بلا خطأ ولا حيرة، كأنها أُذينات صغيرة ولُسَينات دقيقة، مما يُثبت أن عنصر الهواء عرشٌ للأمر والإرادة الإلهية.
وهكذا فقياسًا على هذه الإشارة المختصرة: فالذي جعل هذا الكون في حكم مدينة منسّقة، وقصر عامر، ومَضيف فاخر، وكتاب معجز، وقرآن مبين، ويمسك في قبضة قدرته بميزان العلم ونظام الحكمة جميعَ طبقات المخلوقات ودوائرها وطوائفها ابتداءً من ذرة من ذراتها وانتهاءً إلى مجموع الكون كلِّه، ويدبِّر شؤونه ويتصرف فيه، ويُظهر ضمن تلك القدرة الجليلة حكمتَه البالغة ورحمتَه الواسعة، ويُعْلِم ضمن ربوبيته المطلقة ويُعرِّف بها وجودَه ووحدانيتَه تعريفًا ظاهرًا كالشمس في رابعة النهار، فيَطلب إزاء تعريفه التعرّفَ إليه بالإيمان، وإزاءَ تودُّدِه ودَّه بالعبادة، وإزاء آلائِه شكرَه وحمدَه.
فالذين لا يعرفون هذا الرحمن الرحيم ولا يَسْعون بالعبودية لحبِّه، بل يَضلُّون إلى الإنكار فيُضمرون نوعًا من العداء تجاهه.. هؤلاء ليسوا إلّا شياطين في صور أناسي، وفي حكم نماردة صغار وفراعنة صُغر، ولا شك أنهم يستحقون عذابًا خالدًا لا نهاية له.
[11: وإليه المصير]
الكلمة الحادية عشرة: وهي “وإليه المصير”
أي إن المصير هو إلى دائرة حضوره، وإلى عالَمِه الباقي، وإلى دار آخرته، وإلى منـزل سعادته السرمدية، كما أنه مرجع جميع مخلوقات الكون فتستند إليه وترجع إلى قدرته جميعُ سلسلة الأسباب، علمًا أن الأسباب ستائرُ وُضعتْ أمام تصرفات تلك القدرة، لأجل الحفاظ على هيبتها وعزتها المقدسة، فجميعُ الأسباب الظاهرية ستائرُ لا تأثير لها في الإيجاد قطعًا، فلولا أمرُه جلّ وعلا وإرادتُه لا يقدر شيء -حتى الذرة- من الحركة.
نشير إشارة مختصرة إلى ما في هذه الكلمة من حجة فنقول:
أولًا: إن حقيقة الحشر والآخرة والحياة الباقية التي تعبّر عنها هذه الكلمة المقدسة نحيل إثباتها والتصديق بها إلى “الكلمة العاشرة” وذيولِها وإلى “الكلمة التاسعة والعشرين” التي تُثبت تحققَها القاطع كتحقق الربيع المقبل، وإلى “المسألة السابعة من رسالة الثمرة”، وإلى شعاع “المناجاة”، وإلى الأجزاء الإيمانية لرسائل النور.
حقًّا إن تلك الرسائل قد أثبتت هذا الركن الإيماني بحجج لا منتهى لها، بأنّ تَحقق الآخرة ثابتٌ بدرجةِ تَحقُّق وجود الدنيا، بحيث تلجئ حتى أعتى المنكرين إلى التصديق به.
ثانيًا: إن ثُلث القرآن المبين يبحث في الآخرة والحشر، ويبني كل الدعاوى على تلك الحقيقة، لهذا فكما أن جميعَ معجزات القرآن وحُججه التي تثبت أحقيتَه تدل على وجود الآخرة، كذلك جميعُ معجزات الرسول (ﷺ) الشاهدة على صدق نبوته وجميعُ دلائل نبوته وجميعُ حجج صدقه تشهد على الآخرة والحشر؛ لأن أعظم ما دعا إليه ذلك النبي الكريم (ﷺ) طوال حياته كلها هو الآخرة، كما أن مائة وأربعة وعشرين ألفًا من الأنبياء الكرام عليهم السلام قد دَعوا جميعُهم إلى الحياة الباقية والسعادة الأبدية، وبشّروا البشرية بها، وأثبتوا صدقَ دعواهم بما لا يُحد من المعجزات والدلائل القاطعة، فلا شك أن جميع معجزاتهم وحججهم الدالة على نبوتهم وعلى صدقهم في دعواهم تشهد أيضًا على الآخرة والحياة الباقية التي هي أعظمُ وأدوم دعواهم.
فقياسًا على هذا فإن جميع الأدلة التي تثبت سائر الأركان الإيمانية، تشهد بدورها على حدوث الآخرة وعلى انفتاح أبواب دار السعادة الخالدة.
ثالثًا: إن خالق هذا الكون الذي خلقه بجميع ذراته وسياراته وأجزائه وطبقاته مقلِّدًا كلًّا منها بوظيفة بل وظائفَ كثيرة بكمال الحكمة ومسخِّرًا لها باستمرار إظهارًا لكماله وقدرته وربوبيته، والذي يُرسل طوائفَ المخلوقات قافلةً إثر قافلة، بل يرسل دنًى متعاقبة متجدّدة سيالة إلى مَضيف هذا العالم وإلى ميدان امتحان هذه الحياة الدنيوية لِيُظهر تجليات غير محدودة لأسمائه الحسنى السرمدية، وليلتقط صور تلك المخلوقات وأعمالها وأوضاعها بكامرات برزخية وسينمات أخروية منصوبة في عالم المثال، ومن بعد تسريحها يرسل طوائف أخرى قافلة إثر قافلة، بل يرسل نوعًا من دنى سيارة وسيالة إلى ذلك الميدان، لأجل أن تتسنّم وظائف جليلة وتصبح مرايا لتجليات أسمائه الحسنى.
فهل من الممكن لهذا الخالق الجميل، الصانع الجليل، اللّٰه ذي الكمال، أن لا يجعل دار ثواب وجزاء؟! وأن لا يقيم الحشر والنشور لنوع الإنسان الذي يقابِل بالشعور والعقل في هذه الدنيا الفانية جميعَ مقاصد ذلك الخالق الكريم، والذي يحبّ ذلك الخالق ويحبّبه بجميع استعداداته، والذي يَعرفه ويُعرّفه، ويتوسل إليه بأدعية لا حدّ لها لبلوغ السعادة الأبدية والبقاء الأخروي، والذي يسأل الحياة الباقية التي هي اللذة بعينها.. يسألها بجميع فطرته وروحه واستعداده لما يتألم آلامًا لا حدّ لها بالعقل الذي يحمله، فهل يمكن أن لا يكون لهذا الإنسان ثواب وعقاب؟! حاش للّٰه وألف مرة كلّا.
إن تفاصيل وإيضاح هذه الإشارة المختصرة موجودة بأسطع صورها وأقوى حججها في رسائل النور؛ لذا نحيل إليها ونختصر هذه المسألة الطويلة جدًّا.
﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلّا ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم﴾
❀ ❀ ❀
[القسم الثاني: خلاصة سورة الفاتحة]
القسم الثاني
خلاصة مختصرة لسورة “الفاتحة”
من درس واحد فقط أُلقي في المدرسة اليوسفية الثالثة في فترة قصيرة جدًّا أثناء نقلي من التجريد والسجن الانفرادي إلى الردهة العامة ومعاشرة الآخرين.
نموذج لدرسٍ قصير جدًّا أُلقي على طلاب النور في السجن
لقد أَمرتْ “الفاتحة” التي في الصلاة، القلبَ لبيان قطرةٍ من بحرها ولمعةٍ من فيوضات الألوان السبعة لشمسها؛ ولقد كتبنا نكاتٍ لطيفة في غاية الطِّيب والجمال لهذه الخزينة القرآنية السامية في كلٍّ من المكتوب التاسع والعشرين -في قسم منه- وبخاصة في السياحة الخيالية في “ن” نعبد وفي رسالة “الرموز الثمانية”، وفي تفسير “إشارات الإعجاز” وفي سائر أجزاء رسائل النور، إلّا أنني اضطررت -من جهة- إلى كتابة تفكري في الصلاة لإشارات تلك الخلاصة القرآنية الطيبة إلى أركان الإيمان وحججه فقط ولخلاصتها التي هي في منتهى الاختصار كالقسم الأول.
أبدأ بـ”الحمد للّٰه” محيلًا ﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾ إلى عدد من رسائل النور.
﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾
﴿الحمدُ للّٰه رَبِّ العَالمَينَ ٭ الرّحمن الرّحيمِ ٭ مَالكِ يَومِ الدِّينِ ٭ إياكَ نَعْبُدُ وإياكَ نَسْتَعينُ ٭ إهدِنا الصِرَاطَ المُسْتَقيمَ ٭ صِراطَ الذينَ اَنعَمْتَ عليهم غَيرِ المغضُوبِ عَليهم ولاالضّآلين﴾
﴿آمين﴾
[1: الحمد لله]
الكلمة الأولى: وهي ﴿الحمد للّٰه﴾
إن إشارةً في منتهى الاختصار إلى حجتها الإيمانية هي أن مبعث الحمد والشكر في الكون هو الآلاء والنِعَم التي تُغدَق قصدًا، ولا سيما إرسال اللبن الخالص السائغ للشاربين من بين فرثٍ ودمٍ للصغار والأطفال العاجزين، والإحسانات والهدايا الاختيارية، والإكرامات والضيافات الرحيمة التي غطَّتْ سطح الأرض برمّته، بل غمرت الكونَ كلَّه، وأن ما يُقدَّم لها من أثمان وقدْرٍ لقيمتها هي قول: “بسم اللّٰه” بدءًا ثم “الحمد للّٰه” ختامًا؛ وبينهما الإحساس بالإنعام من خلال النعمة نفسها، ثم البلوغ منه إلى معرفة الرب الجليل.
فانظر إلى نفسك بالذات، وإلى معدتك وإلى حواسك؛ كم هي محتاجة إلى أمورٍ كثيرةٍ ونِعَمٍ وفيرة؟! وكم تطلب الأرزاق واللذائذ والأذواق بأثمان الحمد والشكر! أَبْصِر هذا وقِس على نفسك كل ذي حياة.
وهكذا فإن الحمد غير المتناهي المنطلق بألسنة الأحوال والأقوال إزاء هذه الآلاء الشاملة، يبين كالشمس الساطعة ربوبيةً عامة وموجوديةَ معبودٍ محمودٍ ومُنعِمٍ رحيم.
[2: رب العالمين]
الكلمة الثانية: وهي ﴿رب العالمين﴾
إن إشارةً مختصرةً جدًّا إلى ما فيها من حجةٍ هي أننا نشاهد بأبصارنا أن في هذا الكون ألوفَ العوالم والأكوان الصغيرة، بل ملايين منها، وأغلبها متداخل بعضها في البعض؛ وبرغم أن إدارة كل منها وشرائطَ تدبير شؤونها متباينة، فإنها تُدار في منتهى التربية والتدبير والإدارة، فالكون كله صحيفة مبسوطة أمام نظره جل وعلا في كل آن، وجميع العوالم تُكتب كسطرٍ بقلم قدرته وقَدَره، وتُجدَّد وتُغيَّر، فتنبعث شهاداتٌ كلية وجزئية وبعدد الذرات والموجودات الحاصلة من تركّبها، وفي كل لحظة وآن، على وجوب وجود ربّ العالمين ووحدانيته، الذي يدير هذه الملايين من العوالم والكائنات السيالة بربوبيةٍ مطلقة ذات علم وحكمة لانهاية لهما، وذات عناية ورحمة وسعتا كلَ شيء.
إن من لا يصدّق بربوبيةٍ جليلةٍ تربّي وتدبّر الأمور؛ ابتداءً من مزرعة الذرات إلى المنظومة الشمسية وإلى دائرة درب التبانة؛ ومن حجيرةٍ في الجسم إلى مخزن الأرض وإلى الكون كله، تُربِّيها وتدبِّر شؤونها بالقانون نفسه وبالربوبية نفسها وبالحكمة عينها، ولا يستشعر بها ولا يدركها ولا يشاهدها، يجعل نفسه بلا شك أهلًا لعذاب خالد، ويسلب عنه الإشفاق والرحمة عليه.
[3: الرحمن الرحيم]
الكلمة الثالثة: وهي ﴿الرحمن الرحيم﴾
إن إشارة مختصرة جدًّا إلى ما فيها من حجة هي أنه يُشاهَد بوضوح ضوء الشمس وجودُ الرحمة غير المتناهية في الكون وحقيقتُها، فهذه الرحمة الواسعة تشهد شهادة قاطعة -كشهادة الضياء على الشمس- على رحمنٍ رحيمٍ محتجبٍ بستار الغيب.
نعم، إن قسمًا مهمًّا من الرحمة هو الرزق، حيث يُعطى معنى الرزاق لاسم اللّٰه “الرحمن”، والرزقُ نفسه يدل على الرزاق الرحيم دلالةً واضحة إلى درجةٍ تَجعل مَن له ذرة من شعور مضطرًّا إلى التصديق والإيمان.
فمثلًا: إنه سبحانه يهيئ أرزاق جميع ذوي الحياة، ولا سيما للعاجزين، وبخاصة للصغار، وهم منتشرون على الأرض كافة والفضاء كله، يهيئها لهم بصورة خارقة وهي خارج نطاق اختيارهم واقتدارهم، من غير شيء؛ من نوًى متماثلة، من قطرات ماء، من حبَّات تراب، حتى إنه يسخِّر للفراخ الضعاف العاجزة عن الطيران والجاثمة في أوكارها على قمم الأشجار، أمهاتِها وكأنها جندية متأهبة لتلقي الأوامر، فتجول الخضار وتجوب السواقي لجلب الأرزاق إليها، بل يسخِّر اللبؤةَ الجائعة لشبلها، فتُطعمه مما حصلت عليه من لحم دون أن تأكل، ويُرسل من بين فرث ملوّث ودم أحمر لبنًا سائغًا للشاربين، إلى صغار الحيوانات والإنسان، يرسله من ينابيع الأثداء، بلا اختلاط ولا امتزاج ولا تلوث، جاعلًا شفقة والداتهم مُعينةً لهم.
وكما أنه يُهرِع الأرزاقَ الملائمة إلى جميع الأشجار المحتاجة إلى نوع من الرزق بصورة خارقة، يُنعم على مشاعر الإنسان التي تطلب نوعًا من أرزاق مادية ومعنوية؛ ويُحسن لعقله وقلبه وروحه مائدةً واسعة جدًّا من الأرزاق، حتى كأن الكائنات مئات الألوف من موائد النعم المتداخلة ومئات الألوف من سفرات الأطعمة المتباينة، مكتنفٌ بعضها ببعض كأوراق الزهرة وكأغلفة العرانيس، غلافًا داخل غلاف، فتَدُلُّ لمن لم يطمس على عينه، على الرحمن الرزاق والرحيم الكريم بألسنةٍ بعدد تلك السُفرات المبسوطة وبمقدار ما عليها من أطعمة، ألسنة متباينة متغايرة كلية وجزئية.
[سؤال الشر والجواب عليه]
وإذا قيل: إن ما في هذه الدنيا من المصائب والقبائح والشرور تنافي تلك الرحمة التي وسعت كل شيء؛ وتعكّر صفوها!
الجواب: لقد أوفت جوابَ هذا السؤال الرهيب أجزاءُ رسائل النور؛ ولا سيما “رسالة القدر”، نحيل إليها مشيرين إشارة قصيرة إليه:
إن لكل عنصر ولكل نوع ولكل موجودٍ وظائفَ متعددة كلية وجزئية؛ ولكلٍّ مِن تلك الوظائف نتائج كثيرة وثمرات وفيرة، والأكثرية المطلقة منها هي نتائج جميلة ومصالح نافعة وخيرات ورحمات، وقسم قليل منها يصبح شرًّا وقبحًا جزئيًّا وظاهريًّا وظلمًا إزاء فاقدي القابلية والمباشرين به خطأً، أو المستحِقين للجزاء والتأديب، أو لما يكون وسيلة لإثمار خيرات كثيرة.
فلو مَنعت الرحمةُ ذلك العنصرَ وذلك الموجودَ الكلي عن القيام بتلك الوظيفة للحيلولة دون مجيء ذلك الشر الجزئي، لَمَا حصلت إذن جميعُ نتائجها الخيّرة الجميلة الأخرى، فيَحصل من الشرور والقبائح بعدد تلك النتائج، حيث إن عدم الخيرِ شرٌّ، وإفسادَ الجمال قبحٌ، بمعنى أن مئاتٍ من الشرور والمظالم تُقترف للحيلولة دون مجيء شرٍّ واحد، وهذا مناف كليًّا للحكمة والمصلحة والرحمة التي تتسم بها الربوبية.
مثال ذلك: أن الثلج والبَرَد والنار والمطر وما شابهها من الأنواع ينطوي كلٌ منها على مئاتٍ من الحكم والمصالح، فإذا ما قام أحدُ المهمِلين بسوء اختياره بارتكاب شر بحق نفسه كأن أدخل يده في النار ثم قال: ليس في خَلقِ النار رحمة، فإن فوائد النار الخيّرةَ الرحيمة -النافعة وهي لا تعد ولا تحصى- تكذّبه في قوله وتصفعه على فمه.
ثم إن أهواء الإنسان ومشاعره السفلية التي لا تَرى العقبى؛ لا تكون -قطعًا- مقياسًا ومحكًّا وميزانًا لقوانين الرحمانية والحاكمية والربوبية الجارية في الكون؛ إذ يَرى الوجودَ من خلال تلك المشاعر حسب ألوان مرآته، فالقلب المظلم الخالي من الرحمة يَرى الكائناتِ باكية قبيحة تتمزق بين مخالب الظلم وتتقلب في خضم الظلمات، بينما لو أبصرها ببصر الإيمان يجدها على صورة إنسان كبير متسربل بسبعين ألف حُلّة قشيبة مَخِيطة بالرحمات والخيرات والحِكَم، بعضُها فوق بعض كأنها حورية من الجنة لَبِست سبعين حلّة من حللها، ويجدها باسمةً دومًا بالرحمة ضاحكةً مستبشرة، ويُشاهِد نوعَ الإنسان الذي فيه كونًا مصغرًا، وكلَّ إنسان عالمًا أصغر، فيقول من أعماق قلبه وروحه: ﴿الحمدُ للّٰه رَبِّ العَالمَينَ ٭ الرّحمن الرّحيمِ ٭ مَالكِ يَومِ الدِّينِ﴾.
[4: مالك يوم الدين]
الكلمة الرابعة: وهي ﴿مَالكِ يَومِ الدِّينِ﴾
إن إشارة مختصرة جدًّا إلى ما فيها من حجة هي:
أولًا: إن جميع الدلائل المشيرة على الحشر والآخرة والشاهدةِ على حجةِ “وإليه المصير” في ختام القسم الأول من هذا الدرس، تشهد كذلك على الحقيقة الإيمانية الواسعة التي تشير إليها ﴿مَالكِ يَومِ الدِّينِ﴾.
ثانيًا: كما أن ربوبيةَ صانع هذا الكون ورحمتَه الواسعة وحكمتَه السرمدية، وكذا جمالُه وجلالُه وكمالُه الأزلي الأبدي، وكذا صفاتُه الجليلة المطلقة ومئات من أسمائه الحسنى، تستدعي كلُّها الآخرة قطعًا -كما قيل في ختام الكلمة العاشرة- كذلك القرآن الكريم بألوف من آياته وبراهينه.. وكذا الرسول الكريم محمد (ﷺ) بمئات من معجزاته وحججه.. وكذا جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.. وكذا الكتب السماوية والصحف المقدسة بدلائلها غير المحدودة، تشهد جميعًا على الآخرة.
وبعد، فمَن لا يؤمن بالحياة الباقية في الدار الآخرة إنما يقذف نفسه في جهنمَ معنويةٍ يُنشِئُهَا الكفر، فيقاسي العذاب دومًا ولمّا يزل في الدنيا، حيث تُنْـزِل الأزمنةُ الماضيةُ جميعُها والمستقبَلة والمخلوقات والكائنات بزوالها وفراقها مطرَ السَّوء على روحه وقلبه، فتذيقه آلامًا لا حدّ لها وأعذِبةً كعذاب جهنم قبل أن يَدخلها في الآخرة، كما وُضِّح ذلك في رسالة “مرشد الشباب”.
ثالثًا: نشير برمز ﴿يَومِ الدِّينِ﴾ إلى حجة عظيمة وقوية للحشر، ولكن حالة فجائية معينة سبّبت في تأخير تلك الحجة إلى وقت آخر، وربما لم تبق حاجة إليها بعد؛ لأن رسائل النور قد أَثبتت بمئات الحجج القوية القاطعة أن مجيء صبحِ الحشر وحلولَ ربيعِ النشور يقينٌ كمجيء النهار عقب الليل ومجيء الربيع عقب الشتاء.
[5: إياك نعبد وإياك نستعين]
الكلمة الخامسة: وهي ﴿اياك نعبد واياك نستعين﴾.
قبل الإشارة إلى ما فيها من حجة، ورَدَ إلى القلب بيانُ سياحةٍ خيالية ذات حقيقة بيانًا موجزًا بناءً على إيضاح “المكتوب التاسع والعشرين” لها، وهي كالآتي:
بينما كنت أبحث عن معجزات القرآن، كما هو مبين في رسائل النور، ولا سيما في تفسير “إشارات الإعجاز” وفي رسالة “الرموز الثمانية”، وحينما وجدتُ بضع معجزات حول الإخبار الغيبي في آية الختام لسورة الفتح؛ والمعجزة التاريخية في الآية الكريمة: ﴿اليوم ننجيك ببدنك﴾، بل وجدتُ لمعاتِ إعجازٍ متعددةً في كثيرٍ من كلمات القرآن ونكاتٍ إعجازيةً دقيقة في بعض حروفه.. في هذه الأثناء وأنا أقرأ سورة الفاتحة في الصلاة ورد إلى قلبي سؤال؛ ليعلّمني معجزةً من معجزات “ن” التي في “نعبد” و”نستعين”.
والسؤال هو: لِمَ قال: ﴿نعبد.. نستعين﴾ بنون المتكلم مع الغير، ولم يقل “أعبد.. أستعين”؟
وعلى حين غِرَّةٍ فُتح أمام خيالي ميدانُ سياحة واسعة من باب تلك الـ”ن”، فعلمتُ بدرجة الشهود السرَّ العظيم في صلاة الجماعة، وشاهدتُ منافعها الجليلة، وعلمتُ يقينًا أن هذا الحرف الواحد معجزة بذاتها، وذلك:
عندما كنت أصلى في ذلك الوقت في جامع “بايزيد”، وأثناء قولي: ﴿إياك نعبد واياك نستعين﴾ رأيت أن جماعةَ ذلك الجامعِ يؤيدون دعواي هذه بقولهم مثل ما أقول؛ ويشاركونني مشاركةً تامةً في دعواي هذه وفي دعائي الذي في ﴿اهدنا﴾ مصدِّقين إياي.. في هذا الوقت بالذات رُفع ستارٌ من أمام خيالي فرأيت كأن مساجد إسطنبول كلها قد تحولت إلى “مسجد بايزيد” كبير، وجميع المصلين فيها يقولون مثلي: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ مصدِّقين دعواي ومؤَمّنين على دعائي، ومن خلال اتخاذهم صورة شفعاء لي، رُفع ستار آخر أمام خيالي.
فرأيت أن العالم الإسلامي قد اتخذ صورة مسجد عظيم جدًّا، وأخذت مكةُ المكرمة والكعبة المشرَّفة بمثابة محراب ذلك المسجد العظيم، وقد يمّم جميعُ المصلين الصافين المتراصين وجوهَهم بشكل حلقات شطرَ ذلك المحراب المقدس، وهم يقولون مثلي: ﴿إياك نعبد واياك نستعين ٭ اِهْدِنَا..﴾، وكلٌّ منهم يصدّق الكلَ ويدعو باسمهم، جاعلًا جميعَ المصلين شفعاء له.
وحينما كنت أفكر أن طريقًا يسلكها جماعةٌ عظيمةٌ إلى هذا الحد لا تكون طريقًا عِوَجًا قطعًا، ولا تكون دعواها إلّا صوابًا، ولا يُرَدُّ دعاؤها، بل تطرد شبهات الشيطان.. وإذ أنا أصدّق منافع الصلاة العظيمة في جماعة تصديقًا شهوديًّا، رُفع ستارٌ آخر..
ورأيت كأن الكون مسجد كبير، وجميع طوائف المخلوقات منهمكة في صلاة جماعية كبرى، ﴿كلٌّ قد علم صلاته وتسبيحه﴾، يؤدي نوعًا من صلاةٍ خاصة به بلسان الحال، إيفاءً لعبوديةٍ واسعةٍ عظيمةٍ جدًّا إزاء ربوبية المعبود الجليل المحيطة، فيصدِّق كلٌّ منهم شهادةَ الجميع على التوحيد، بحيث يحصل كل منهم على إثبات النتيجة نفسها.
وإذ كنت أشاهد هذه الأمور، رُفع ستار آخر، ورأيت كما أن الكون الذي هو إنسان كبير يقول بلسان الحال وبلسان الاستعداد والحاجة الفطرية لكثير من أجزائه، وبلسان المقال لذوي الشعور من موجوداته: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ مُظهِرين عبوديّتهم لخالقهم إزاء ربوبيته الرحيمة، كذلك جسدي، هذا الكون الصغير، كجسدِ كل مصلٍّ معي في تلك الجماعة العظمى يقول بذراته وبقواه وبمشاعره أيضًا: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ بلسان الطاعة والحاجة، إزاء ربوبيةِ خالقه، منقادًا للأمر الإلهي مستسلمًا لإرادته سبحانه، ورأيت أن تلك الجماعة من الذرات والقوى والمشاعر تَعرِض في كل آن حاجَتها إلى عناية خالقها الجليل وتبسطها أمام رحمته وإعانته، وشاهدتُ بإعجابٍ السرَّ الرفيع للجماعة في الصلاة، وأبصرت المعجزةَ الجميلة لـ”ن” نعبد، واستودعت تلك السياحة الخيالية لدى باب “ن” الذي دخلتها منه، وحمدتُ اللّٰه قائلًا: الحمد للّٰه، وسعيت لأقول: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ بلسان تلك الجماعات الثلاث، أولئك الأصدقاء الكبار والصغار.
والآن انتهت المقدمة، ونرجع إلى ما نحن بصدده، وهو إشارة مختصرة إلى الحجة التي تشير إليها ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾.
أولًا: إننا نشاهد بأبصارنا فعاليةً وخلَّاقية مَهِيبتين دائمتين وفي أتم انتظامٍ وانسجامٍ تَجريان في الكون بأسره، ولا سيما على سطح الأرض.
ونشاهد ربوبيةً مطلقةً رحيمةً مدبِّرة ضمن هذه الفعالية والخلاقية، تستجيب لاستعاناتٍ واستغاثاتٍ تنطلق مما لا يُحد من ذوي الحياة غير المحدودة واستمداداتِها ودعواتِها الفعلية والحالية والقولية استجابةً تتسم بكمال الحكمة ومنتهى العناية.
ونرى تجلياتِ ألوهيةٍ مطلقةٍ ومعبودية عامة ضمن هذه الربوبية، وضمن مظاهر استجابةِ كلِّ كائن حي على حدةٍ استجابةً فعلية لمقابلة ألوف الأنماط من العبادات الفطرية والاختيارية التي تؤديها جميع المخلوقات، ولا سيما ذوي الحياة، وبخاصة طوائف الإنسان، يراها العقل السليم ويبصرها الإيمان، كما تخبر عنها جميع الكتب السماوية والأنبياء الكرام عليهم السلام.
ثانيًا: إن انشغال كل جماعة من الجماعات الثلاث المذكورة في المقدمة، بما ترمز إليه “ن” نعبد؛ انشغالَها جميعًا ومعًا بعبادات فطرية واختيارية وبأشكال مختلفة: تدل بالبداهة على أنها مقابَلةٌ شاكرةٌ إزاء ألوهيةٍ معبودة، وشهاداتٌ قاطعة لا حدّ لها على وجود المعبود المقدس.
وإن لكل جماعة من الجماعات الثلاث المذكورة ولكل طائفة من طوائفها، ولكل فرد من أفرادها، ابتداءً من مجموع الكون كله إلى جماعةِ ذراتِ جسد واحد، استعانةً فعلية وحالية، ولكل منها دعاء خاص بها كما يرمز إلى ذلك “ن” نستعين، فالسعي لإعانة كلٍّ منها وإغاثتِها واستجابةِ دعائها، شهادةٌ صادقة لا تقبل الشبهة قطعًا على مدبِّرٍ رؤوفٍ رحيمٍ.
فمثلًا: مثلما ذَكرتْ “الكلمة الثالثة والعشرون” أن استجابة الأنواع الثلاثة للأدعية التي تدعو بها جميع المخلوقات على الأرض كافةً، استجابةً خارقة جدًّا ومن حيث لا يحتسب، تشهد شهادة قاطعة على ربّ رحيم مجيب..
نعم، كما أننا نشاهد بأبصارنا استجابةَ دعاءِ كلِّ نواة وكل بذرة تسأل خالقها بلسان الاستعداد لتصبح شجرة وسنبلة، كذلك نشاهد إرسالَ الأرزاق إلى جميع الحيوانات التي تقصر أيديها عنها، وإعطاءَها ما يلزم حياتها، واستجابةَ مطاليبها التي هي خارجة عن طوقها؛ والتي تسألها من واحدٍ أحدٍ بلسان الحاجة الفطرية.
فهذه الاستجابات والإمدادات تشهد شهادة صادقة على خالق كريم يستجيب لجميع تلك الأدعية المنطلِقة بلسان الحاجة الفطرية، كما نشاهدها بأم أعيننا؛ ويَدفع مخلوقاتٍ عجيبةً لا شعور لها لإمداد تلك الحيوانات في أنسب وقت وفي أتم حكمة.
وهكذا فقياسًا على هذين القسمين؛ فإن استجابةَ جميع أنواع الأدعية التي تُسأل بلسان المقال؛ ولا سيما أدعية الأنبياء عليهم السلام والخواص، استجابةً خارقة، تشهد على حجة الوحدانية التي في ﴿وإياك نستعين﴾.
[6: اهدنا الصراط المستقيم]
الكلمة السادسة: وهي ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾.
إن إشارة في منتهى الاختصار إلى حجتها هي:
كما أن أقصر الطرق المؤدية من مكان إلى آخر هي الطريق المستقيم، وأن أقصر الخطوط الممتدة بين نقطة وأخرى بعيدةٍ عنها هو الخط المستقيم؛ كذلك إن أصوبَ طريق في المعنويات وفي الطرق المعنوية وفي المسالك القلبية وأكثرَها استقامة هي أقصرُها وأيسرها.
فمثلًا: إن جميع الموازنات والمقايسات المعقودة في رسائل النور بين طريق الإيمان والكفر تبيّن بيانًا قاطعًا أن طريق الإيمان والتوحيد أقصرُ الطرق وأصوبُها وأيسرها وأكثرها استقامة، بينما طرق الكفر والإنكار طويلة جدًّا وذات مشكلات ومخاطر، فلا شك أن هذا الكون الذي يُساق في طريقٍ ذات استقامة وحكمة -وهي أقصر الطرق وأسهلها في كل شيء- لا يمكن أن تكون فيه حقيقة الشرك والكفر، بينما حقائق الإيمان والتوحيد واجبة وضرورية في هذا الكون ضرورةَ الشمس فيه.
وكذا فإن أيسر الطرق في الأخلاق الإنسانية وأنفعَها وأقصرها وأسلمها هي في الصراط المستقيم وفي الاستقامة.
فمثلًا: إذا فَقدتْ القوة العقلية الحدَّ الوسط، وهو الحكمة والاستقامة، التي هي سهلة نافعة، تهوي بالإفراط والتفريط في خبٍّ مضر وبلاهةٍ ذات بلية، فتعاني المهالك في طرقها الطويلة.
وإن لم تسلك القوةُ الغضبية طريقَ الشجاعة التي هي حدّ الاستقامة، هوت بالإفراط في تهور وتجبّر ذي أضرار بالغة وظلم شنيع، وبالتفريط إلى كثير من التخوف والتجبن المذلّ المؤلم، فتعاني عذابًا وجدانيًّا دائمًا جزاءً لما ارتكبت من خطأ أَفْقَدها حدَّ الاستقامة.
وما في الإنسان من قوة شهوية إذا ضَيَّعت طريق الاستقامة السليمة والعفة تهوي بالإفراط في الفجور والفحش ذات المصائب، وبالتفريط في الخمود، أي الحرمان من أذواق النعم ولذائذها؛ فتعاني آلام ذلك المرض المعنوي.
وهكذا قياسًا على ما ذُكر؛ فإن الاستقامة هي أنفع طريق وأسهلها وأقصرها من بين جميع الطرق المسلوكة في حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية، وإذا ما فقد الإنسان الصراط المستقيم فإن تلك الطرق تكون طويلة جدًّا وذات بلايا كثيرة ومصائب وأضرار.
بمعنى أن ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ دعاءٌ جامعٌ وعبودية واسعة؛ كما أنها إشارة إلى حجة في التوحيد وإلى درس في الحكمة وتعليم الأخلاق.
[7: صراط الذين أنعمت عليهم]
الكلمة السابعة: وهي ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾
إن إشارةً قصيرة إلى ما فيها من حجة هي:
أولًا: مَن المقصود في ﴿عليهم﴾؟ تفسّره الآية الكريمة: ﴿فأولئك مع الذين أنعم اللّٰه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين﴾.
إذ تُبيِّنُ الطوائفَ الأربع الذين نالوا في النوع البشري نعمةَ سلوك طريق الاستقامة؛ مشيرة بـ ﴿النبيين﴾ إلى سيدهم محمد عليه السلام، وبـ ﴿والصديقين﴾ إلى أبي بكر الصديق رضي اللّٰه عنه، وبـ ﴿والشهداء﴾ إلى عمر وعثمان وعلي، فالآية الكريمة تخبر عن الغيب وتبين لمعةَ إعجازٍ بأن الذين يأتون بعد الرسول (ﷺ)، الصِّدِّيقُ رضي اللّٰه عنه ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان اللّٰه عليهم أجمعين، سيُستَشهدون ويتولّون الخلافة.
ثانيًا: إن هذه الطوائف الأربع الذين هم أصدقُ نوعِ البشر وأقومهم سلوكًا وأرفعهم شأنًا، قد دَعوا بكل ما أوتوا من قوة وبما لا يعد ولا يحصى من الحجج والمعجزات والكرامات والأدلة والكشفيات إلى حقيقة التوحيد، وصدَّقَ دعواهم أغلبُ البشر منذ سيدنا آدم عليه السلام، فلا شك أن تلك الحقيقة حقيقة قاطعة كقطعيةِ ثبوتِ الشمس، لذا فإن اتفاق هذا الجمِّ الغفير من خِيرة البشرية ممن أَظهروا صدقهم وعدلهم بمئات الألوف من المعجزات والحجج التي لاتحد، وإجماعَهم في المسائل الإيجابية كالتوحيد ووجوب وجود الخالق؛ لَهُوَ حجة قاطعة تزيل كل شبهة.
نعم، إن الحقيقة الجليلة التي آمَنَ بها أولئك الطوائف الأربع المذكورون الذين يمثلون أقومَ نوع البشر الذي هو النتيجة المهمة لخلق الكون وخليفةُ الأرض؛ وأجمعُ الأحياءِ استعدادًا وأرفعها شأنًا؛ بل هم أصدق مرشديهم المصدقين، وأئمتهم في الكمالات، هؤلاء أخبروا بالإجماع والاتفاق عن تلك الحقيقة التي آمنوا بها واعتقدوا بها اعتقادًا جازمًا بحق اليقين وبعلم اليقين وبعين اليقين، واطمأنوا إليها اطمئنانًا لا يتزعزع، مُظهِرين الكون بموجوداته جميعًا دليلًا، تُرَى أَلَا يرتكبُ جنايةً لا تحد مَن ينكر و لا يَعرف هذه الحقيقةَ الجليلة؟! ألا يستحق عذابًا خالدا؟!
[8: غير المغضوب عليهم ولا الضالين]
الكلمة الثامنة: وهي ﴿غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾
فهذه إشارة قصيرة إلى ما فيها من حجة:
إن تاريخ البشرية والكتبَ المقدسة، يخبر بالاتفاق إخبارًا قاطعًا وبصراحة تامة، استنادًا إلى التواتر وإلى الحوادث الكلية الثابتة والمعارف البشرية والمُشاهَدات الإنسانية، أن استجابة استمدادات الأنبياء عليهم السلام -وهم أصحاب الصراط المستقيم- استمدادًا غيبيًا فوق المعتاد في ألوف من الحوادث، وإنجازَ مطاليبهم بذاتها، ونـزولَ الغضب والمصائب السماوية بأعدائهم الكفار في مئات من الحوادث، تدل دلالة قاطعة لا ريب فيها على أن لهذا الكون ولنوع الإنسان الذي فيه؛ ربًّا حاكمًا عادلًا محسنًا كريمًا عزيزًا قهارًا؛ قد مَنح من لدنه النصرَ المؤزّر والنجاة الخارقة لأنبياء كرام كثيرين، أمثال نوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح عليهم السلام في حوادث تاريخية واسعة، وأَنـزل في الوقت نفسه مصائبَ سماوية مرعبة في الدنيا على أقوام ظَلَمةٍ كَفَرة أمثال ثمود وعاد وفرعون إزاء عصيانهم الرسلَ.
نعم، إن تيارَين عظيمين قد جريا متصارعَين في البشرية منذ زمن آدم عليه السلام.
الأول: هم أهل النبوة والصلاح والإيمان الذين نالوا النعمة وسعادة الدارين بسلوكهم الصراط المستقيم؛ فانسجمت بسلوكهم القويم أعمالُهم وحركاتهم مع جمال الكون الحقيقي ونظامه وتناسقه وكماله؛ لذا نالوا ألطاف رب العالمين؛ وسعادة الدارين؛ وأصبحوا السبب في رفع الإنسان إلى مراتب الملائكة بل أرفع منها؛ وكسبوا وأكسبوا أهل الإيمان جنة معنوية حتى في الدنيا؛ مع سعادة خالدة في الآخرة.. كل ذلك بسر حقائق الإيمان.
والتيار الثاني: هم الذين ضلوا عن سواء السبيل جاعلين بالإفراط والتفريط؛ العقلَ وسيلةَ عذابٍ وأداةَ لمّ الآلام؛ فأردَوا البشرية في دركات سحيقة أضلَّ من الأنعام، فاستحقوا الغضب الإلهي، فنـزلت بهم صفعاتُ المصائب جراء ظلمهم الذي ارتكبوه في الدنيا؛ زد على ذلك أنهم جَعَلوا بالضلالة التي هم فيها وبالعقل المرتبط مع الموجودات؛ الكونَ موضعَ أحزان وآلام ومأتمًا عامًّا، ومذبحة لذوي الحياة؛ يتقلبون في دوامات الزوال والفراق، ومَسْلَخة قذرة ضربت الفوضى أطنابها في الآفاق، لذا انحصرت روحُ الضال ووجدانُه بجهنم معنوية في الدنيا، وأصبح أهلًا لعقاب أليم في الآخرة.
وهكذا فإن الآية الكريمة التي في ختام سورة الفاتحة: ﴿الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ تبين هذين التيارين العظيمين.
فمنبع جميع الموازنات المذكورة في رسائل النور وأساسها ومرشدها هي هذه الآية الكريمة؛ وحيث إن رسائل النور قد فَسرت هذه الآية الكريمة بمئات من موازناتها، نحيل إيضاحها إلى تلك الرسائل مكتفين بهذه الإشارة.
[9: آمين]
الكلمة التاسعة: وهي، آمين.
وإشارة قصيرة جدًّا إليها هي: لما كانت” ن “التي في ﴿نَعْبُدُ﴾ و ﴿نَسْتَعِينُ﴾ تبين لنا الجماعاتِ العظيمةَ الثلاث؛ ولا سيما جماعة الموحدين في جامع العالم الإسلامي، وبخاصة ملايين المصلين الذين يؤدون الصلاة في ذلك الوقت، وتجعلنا ضمن صفوفهم؛ فاتحةً أمامنا طريقًا سويًّا لنكسب حظًّا من أدعيتهم، ولنغنم تصديقَهم لنا لنطقهم بمثل ما ننطق به نحن، ولنحظى بنوع من شفاعتهم؛ فنحن كذلك بقولنا: “آمين” نعزز أدعية أولئك الموحّدين المصلين؛ ونصدّق دعواهم؛ ونرجو بكلمة “آمين” أن يستجيب اللّٰه سبحانه وتعالى لاستعانتهم وشفاعتهم، محوِّلين عبوديتنا الجزئية ودعاءنا الجزئي ودعوانا الجزئية إلى عبودية كلية ودعاء كلي ودعوى كلية إزاء ربوبية كلية شاملة.
بمعنى أن كلمة “آمين” تَكسِب كلية واسعة، بل يمكن أن تكون بمثابة ملايين “آمين” بسر الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية، وبواسطة راديوات معنوية ورابطةِ الوحدة لجماعةٍ يَرْبون على الملايين من المصلين المتراصين في الصلاة في مسجد العالم الإسلامي.
﴿: وهكذا إذا ما أخذ رجل عامي شيئًا بقدر نواة، فالإنسان الكامل الذي ترقى روحيًّا يأخذ حظًّا كالنخلة، كلٌّ حسب درجته، ولكن الذي لم يرْقَ بعدُ، لا ينبغي له أن يتذكر هذه المعاني قصدًا2لقد سألنا أستاذنا إيضاحًا عن كلمة “قصدًا” الواردة في هذا الهامش ودوّنّا أدناه ما ذكره نصًّا: باسم طلاب النور في المدرسة اليوسفية الثالثة/جَيلان أرى أنه يمكن التفكر بالمعاني الواسعة الرفيعة للتشهد وسورة الفاتحة، ولكن بصورة إجمالية ومن دون أن تُقصد تلك المعاني قصدًا، وإنما بصورة تبعية، إذ إن تفاصيلها تورث على حضور القلب نوعًا من الغفلة، بينما معانيها المُجْمَلة تبدد الغفلة وتنور العبادة والمناجاة وتُسطعها، فتُظهر إظهارًا تامًّا القيم الرفيعة للصلاة والفاتحة والتشهد. أما المراد من “عدم الانشغال قصدًا” الوارد في ختام القسم الثاني فهو أن الانشغال بتفاصيل تلك المعاني بالذات قد تُنسي الصلاة أحيانًا، وربما تُخل بسكينة القلب والحضور، وإلّا فإني أشعر بفوائدها العظيمة إذا كان التفكر تبعيًّا وبشكل مختصر. (المؤلف)﴾
﴿الحمد للّٰه رب العالمين﴾
﴿سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلّا مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أنْتَ العَليمُ الحَكيمُ﴾
❀ ❀ ❀
[القسم الثالث: وأن محمدًا رسول الله]
القسم الثالث
من درسٍ واحد فقط، أُلقي في المدرسة اليوسفية الثالثة
﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾
﴿وبه نستعين﴾
[مقدمة]
المقدمة
لقد كُتب القسم الثاني بأمر معنوي صادر من سورة “الفاتحة” التي في الصلاة، وبفيض نورِ كلمة الشهادة: أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه..
وكذلك هذا القسم، فقد اضطررتُ إلى كتابته -بدافعٍ من ثلاثة أسباب لا إذن لي في بيانها حاليًّا- بتنبيهٍ معنوي وارد من جملةِ: أشهد أن محمدًا رسول اللّٰه، وبفيضِ نورِ الآيةِ الكريمة التي في ختام سورة “الفتح” والتي أَظهرت خمسَ معجزات غيبية، وهي قوله تعالى: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودينِ الحقّ ليُظهرهُ على الدّينِ كلّه وكفى باللّٰه شهيدًا ٭ مُحمّدٌ رسولُ اللّٰه والذينَ معهُ أشداءُ على الكفّارِ رُحماءُ بينهمْ…﴾ إلى آخر الآية..
أما تفاصيل هذا القسم وإيضاحاته وحججه المسندة بالدلائل، فأحيلها إلى رسالة “المعجزات الأحمدية” المنشورة ضمن مجموعة “ذو الفقار”، وإلى الحزب النوري المؤلَّف باللغة العربية، وسيشار إليها بثلاث إشارات مختصرة جدًّا:
ففي الإشارة الثانية والثالثة سيُكتب ما يشبه ترجمة القطعة الخاصة بشهادة “محمد رسول اللّٰه” في الرسالة الصغيرة المؤلفة هنا، والمستقاة من خلاصة الخلاصة للحزب النوري العربي، والتي هي وردي الدائم وتفكرٌ بالعربية مع كلمة التوحيد التي أكررها في الأذكار.
[الإشارة الأولى: ضرورة وجود الحقيقة المحمدية والرسالة الأحمدية]
الإشارة الأولى: إن محمدًا (ﷺ) الذي استَقبل مظاهرَ ربوبيةِ رب العالمين، وسرمديةِ ألوهيته، وآلائه العميمة التي لا تعد ولا تحصى، استقبلها بعبوديةٍ كليةٍ وتعريف لربّه الجليل، هذا النبي الكريم ضروريٌّ كضرورة الشمس لهذا الكون؛ إذ هو أستاذ البشرية الأكبرُ، ونبيُّها الأعظم (ﷺ)، وفخر العالَم، القمين بخطابِ “لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك”3تناوله العلماء معنًى ومبنًى، ولعل قول علي القاري هو الوسط بين المثبتين والنافين له، إذ يقول: إنه صحيح معنى ولو ضُعف مبنًى. (شرح الشفا ١/ ٢٦)..
وكما أن حقيقته (أي الحقيقة المحمدية) هي سببُ خلق العالم، ونتيجتُه وأكملُ ثمراته؛ كذلك تتحقق بها وبالرسالة الأحمدية الكمالات الحقيقية للكائنات قاطبة، إذ تُصبح مرايا باقية للجميل الجليل السرمدي تعكس تجلياتِ صفاته الجليلة، وآثارَه القيّمة الموظَّفة لدى أفعاله الحكيمة جلّ جلالُه، ورسائلَه البليغة المرسلة من الملأ الأعلى، وتغدو حاملةً لعالم باق، منتجةً دارَ سعادة خالدة ودار آخرة أبدية يشتاق إليها ذوو الشعور كلهم.. وأمثالَها من الحقائق التي تتحقق بالحقيقة المحمدية والرسالة الأحمدية.
لذا فكما يشهد هذا الكون شهادة قاطعة وفي منتهى القوة والثبوت على رسالته (ﷺ)، كذلك البشريةُ جمعاء بل جميع ذوى الشعور وفي مقدمتهم العالم الإسلامي، يشهدون جميعًا على ما بشّرت به الرسالة الأحمدية والحقيقة المحمدية بشارةً قوية قاطعة، تلك هي الحياة الخالدة التي تسألها البشريةُ بالعشق الدائم والشوق الملازم في كل حين وآن، تسألها بلسانِ جميعِ قوى ماهيتها الجامعة، وبألسنةِ جميع استعداداتها، وبألسنةِ جميع الأدعية والعبادات والتضرعات والتوسلاتِ المرفوعة إلى المولى القدير، فتَسأل حياةً باقية خالدة، نجاةً من العدم والعبث والإعدامِ الأبدي والفناء المطلق الذي هو أشد رهبةً وأكثر إيلامًا من جهنم.
فكما تشهد البشرية بهذا على أنه (ﷺ) فخرُ البشرية وأشرفُ المخلوقات طرًّا، كذلك فإن دخولَ مثل جميع الحسنات والخيرات التي يَكسبها يوميًّا ثلاثمائة وخمسون مليونًا من المؤمنين في كل عصر، في سجل حسناته (ﷺ) حسب قاعدةِ “السببُ كالفاعل”، ونيلَ تلك الشخصية المحمدية الفريدة مقامًا رفيعًا يحظى بعبودية كلية وفيوضات ربانية بقدرِ عبادةِ مئاتِ الملايين بل المليارات من العبّاد المحسنين.. هو شهادة قوية جدًّا على رسالته (ﷺ).
[الإشارة الثانية: عشرون شهادة على رسالة سيدنا محمد ﷺ]
الإشارة الثانية: إن الفقرة الآتية التي أتأمل فيها دائمًا هي من أورادي، وتشير إلى أكثر من عشرين شهادة على رسالة محمد (ﷺ)؛ نوجز فحواها باختصار، والفقرة هي:
(محمّدٌ رسولُ اللّٰه صادقُ الوعدِ الأمينُ: بشهادةِ ظهوره دفعَةً مع أُمّيّتِه بأكمل دينٍ وإسلاميّةٍ وشريعةٍ، وبأقوى إيمانٍ واعتقادٍ وعبادَةٍ، وبأعلى دعوةٍ ومناجاةٍ ودعواتٍ، وبأعمّ تبليغٍ وأتمّ متانةٍ خارقاتٍ مثمراتٍ لا مثلَ لها)4هذه الفقرات المحصورة بين قوسين مركنين وردت في النص باللغة العربية..
[الشهادة الأولى]
فأُولى تلك الشهادات هي: حجة الرسالة النابعة من إحدى عشرة حالة من حالاته (ﷺ).
نعم، إنه مع كونه أمّيًّا لم يتعلم القراءة والكتابة، فقد أتى بدينٍ أوقع عقلاءَ أربعة عشر قرنًا وفلاسفتَها في حيرة وإعجاب وانبهار، وفاق الأديان السماوية، وقد أظهره دفعة واحدة من دون أن يكون له تجربة مسبقة.. وهذه حالة لا مثيل لها.
وكذا الإسلامُ النابع من أقواله وأفعاله وحالاته، وإرشادُه ثلاثمائة وخمسين مليونًا من البشر في كل وقت، مربيًا أرواحهم مزكّيًا أنفسهم ومنوِّرًا عقولَهم، ودفعهم إلى الرقى المعنوي.. حالة لا مثيل لها.
وكذا قد أتى بشريعة غراء عظيمة بحيث أدارت بقوانينها العادلة خُمُسَ البشر طوالَ أربعة عشر قرنًا من الزمان إدارةً حَققت له الرقيَّ المادي والمعنوي.. وهذه حالة لا مثيل لها.
وكذا ظهورُه بإيمان راسخ واعتقاد جازم بحيث يستلهم منه جميعُ أهل الحقيقة في كل وقت، ويصدقون بالاتفاق على أنه في أرفع درجة وأسمى مرتبة، فضلًا عن عدم إيراث مخالفيه وأعدائه ومعارضيه في ذلك الوقت -برغم كثرتهم- أيةَ شبهة ولا وسوسة ولا شكٍّ قط، مما يبين بجلاءٍ أنه لا مثيل له في قوة الإيمان أيضًا، ولا نظير لإيمانه الرفيع الكلي.
وكذا قد أظهر عبوديةً وعبادة عظيمتين بحيث وحَّدَ المبدأَ والمنتهى، من دون تقليد لأحد، مُلاحِظًا أدق أسرارِ العبادة، ومُراعِيًا لها حتى في أشد الأوقات اضطرابًا، وأدّاها على أتم وجه وأتقنه.. وهذه حالة لا مثيل لها.
وكذا قد تضرع إلى خالقه الكريم ودعا دعوات لطيفة رقيقة بحيث لم يَبلغ أحدٌ مرتبةَ تلك الدعوات والمناجاة إلى هذا الزمان برغم تلاحق الأفكار.
فمثلًا: قد جعل ألفَ اسمٍ واسم من الأسماء الإلهية شفيعةً لدعائه في مناجاة “الجوشن الكبير”، فوصف خالقَه العظيم وصفًا بديعًا يليق به، وعرَّفه تعريفًا لا مثل له قط.. وهكذا فإن عدم بلوغ أحد ما بلغَه من معرفة اللّٰه، حالةٌ لا مثيل لها قط.
وكذا إنه دعا الناس إلى الدين دعوةً ملؤها الثقة، وبلّغ رسالته بشجاعة وإقدام بحيث إن معارضة قومه وعمِّه والدولِ الكبرى في العالم وأتباعِ الأديان السابقة وعدائَهم لم ينل منه الخوف ولا الإحجام قطعًا، بل تحدى العالمين وظهر على الجميع.. فهذه حالة لا مثيل لها.
وهكذا فإن مجموع هذه الحالات الثمان الخارقة التي لا نظير لها، شهادةٌ في منتهى القوة على صدقه (ﷺ) وثبوت دعوته، وهي حالات تُظهِر مدى اطمئنانه ومنتهى جديته ومبلغِ وثوقه وكمال صدقه وعدله (ﷺ).
لذا فالعالم الإسلامي يهنئ ويبارِك هذا النبيَّ الكريم (ﷺ) بقوله في كل جَلسةِ تَشَهُّدٍ في الصلاة يوميًّا وبملايين الألسنة: “السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّٰه وبركاته” مقدِّمًا له ولاءَه لمهمة النبوة، ومصدِّقًا إياه في بُشراه بالسعادة الأبدية التي أتى بها، فيَستقبله بامتنان بالغ وشكر عميم إزاء فتحه طريقًا سويًّا إلى الحياة الباقية التي تبحث عنها البشريةُ بعشق دفين عميق وشوق فطريّ عارم وباستعداد قوي جدًّا، بقوله: “السلام عليك أيها النبي” معبّرًا به عن زيارةٍ معنوية له (ﷺ) ولقاءٍ معه، ومرحِّبًا ومهنئًا إياه باسمِ ثلاثمائةٍ وخمسين مليونًا بل مليارات من المؤمنين.
[الشهادة الثانية]
الشهادة الثانية من الشهادات العشرين الكليةِ، والتي تضم كثيرًا من الشهادات وهي: (وبشهادة جميع حقائق الإيمان على تصديقه).
أي إن حقائق أركان الإيمان الستة وتحقُّقَها وصدقَها وصوابَها تشهد شهادةً قاطعة على رسالة محمد (ﷺ) وعلى صدقه وصوابه، لأن الشخصيةَ المعنوية لحياة رسالته، وأساسَ جميع دعاواه، وماهيةَ نبوته، إنما هي تلك الأركان الستة، لذا فإن جميع الدلائل الدالة على تحقق تلك الأركان تدل أيضًا على أن رسالة محمد (ﷺ) حق وأنه صادق مصدَّق؛ وكما بَينتْ رسالةُ “الثمرة” وذيولُ “الكلمة العاشرة” دلالةَ سائر الأركان الإيمانية على تحقُّق الآخرة، كذلك كلُّ ركنٍ من الأركان بحججه معًا حجة على رسالته (ﷺ).
[الشهادة الثالثة]
الشهادة الكلية الثالثة المتضمنة لألوف الشهادات: (وبشهادة ذاته عليه الصلاة والسلام بآلاف معجزاته وكمالاته وعلوِّ أخلاقه).
أي هو كالشمس دليلٌ بنفسها، فكما أَثبتت الرسالةُ الخارقة، رسالةُ “المعجزات الأحمدية” على صاحبها أفضل الصلاة والسلام في أَزْيَدَ من ثلاثمائة معجزة بروايات صحيحة، فكذلك انشقاق القمر إلى شقين بإصبعٍ من كفه المباركة (ﷺ) كما هو صراحةُ الآيةِ الكريمة: ﴿وانشق القمر﴾، وكذا نَبَعانُ الماء من أصابعه المباركة وتَدَفُّقه كما يتدفق من خمس عيون، وارتواءُ جيشٍ كاملٍ منه وشهادتُهم له، المنقولُ إلينا بروايات صحيحة متواترة، فضلًا عن تكرار هذه الحادثة العجيبة مرتين وفي مواضع أخرى..
وكذا رميُه حفنةً من ترابٍ بالكف نفسِها على جيش العدو المُغِير، ودخولُ التراب عينَ كل منهم، وانهزامُهم أثناء هجومهم كما هو صراحةُ الآيةِ الكريمةِ: ﴿وما رميتَ إذ رَميت﴾..
وكذا تسبيح الحصى في الكف نفسِه تسبيحًا واضحًا بيّنًا المرويُّ بروايات صحيحة.. وأمثالُها من المعجزات الباهرة التي ظهرت من يده المباركة (ﷺ) والمروي قسمٌ منها في كتب السِيرة والتاريخ بروايات متواترة قاطعة، وهي تربو على المئات، بل تبلغ الألف لدى أهل التحقيق من العلماء.
وكذا اتفاقُ الأولياء والأعداء على أنه في ذروة الأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة5حتى يقول سيدنا علي رَضِيَ اللّٰه عَنْهُ مشيدًا بشجاعة فائقة: إذا حزبنا أمر -في الحرب- احتمينا برسول اللّٰه (ﷺ) وتحصنًّا به. ونقلت التواريخ أن أعداءه كذلك شهدوا أنه (ﷺ) كان في ذروةِ كلِّ خصلةٍ نبيلة كما هو في الشجاعة. (المؤلف)، واتفاقُ جميع أهل التحقيق السالكين طريقَه المقتفين أثرَه البالغين الكمالاتِ والمدركين الحقيقةَ بعين اليقين، وتصديقهم جميعًا بحق اليقين، أن الكمالات المحمدية هي في قمة الدرجات، كما يدل عليها فيوضات العالم الإسلامي النابعةُ من دينه (ﷺ)، وحقائقِ الإسلام العظيم، فلا شك أن ذلك النبي الكريم بذاته (ﷺ) يشهد شهادة واسعة كلية ساطعة على رسالته نفسه.
[الشهادة الرابعة]
الشهادة الرابعة المتضمنة لكثير من الشهادات القوية: (وبشهادة القرآن بما لا يحد من حقائقه وبراهينه).
أي إن القرآن المعجزَ البيان يشهد بحقائقه وحججه التي لا تعد ولا تحصى على رسالته وصدقه (ﷺ).
نعم، إن القرآن الكريم الذي هو معجزة باهرة بأربعين وجهًا (كما أثبتتها رسالة المعجزات القرآنية المنشورة ضمن مجموعة ذو الفقار).. والذي أنار أربعة عشر قرنًا من الزمان.. والذي أدار خُمُس البشرية بقوانينه الرصينة التي لا تتبدل.. والذي تحدى وما زال يتحدى جميعَ المعارضين حتى لم يجرؤ أن يعارضه أحد إلى الآن ولو بسورة واحدة، بل إن جهاته الستَّ نورانية لا تدخل فيها الشبهات قطعًا، وتُصدّق ستة مقامات كبرى على صدقه وعدله، ويستند إلى ست حقائق لا تتزعزع، كما أُثبِتَ ذلك في رسالة “الآية الكبرى”.. والذي يُتلى في كل وقت بألسنة مئات الملايين وبكل لهفة وتوقير.. والذي يُكتَب في قلوب ملايين الحفاظ في كل دقيقة كتابة سامية.. والذي تترشح من شهادته جميعُ شهادات وإيمان العالم الإسلامي، وتنساب من نبعه جميعُ العلوم الإيمانية والإسلامية.
وكما أنه يصدِّق تلك الكتبَ السماوية السابقة، ينال التصديق المعنوي أيضًا من جميع الكتب والصحف السماوية.
فهذا القرآن العظيم بحقائقه كلها، وبحججه التي تُثبت صدقَه وعدله يشهد على صدقه (ﷺ) وعلى رسالته.
[الشهادة 5، 6، 7، 8]
الشهادة الكلية الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة:
(وبشهادة الجوشن بقدسيةِ إشاراته، ورسائلِ النور بقوة دلائلها، والماضي بتواتر إرهاصاته، والاستقبال بتصديق آلافِ حادثاته).
أي كما أن “الجوشن الكبير” الذي يضم ألف اسمٍ واسم من الأسماء الإلهية صراحةً وإشارةً، ونابعٌ -من جهةٍ- من القرآن الكريم، هذه المناجاة النبوية الخارقة التي تفوق مناجاةَ جميع العارفين الذين عرجوا في مراتب المعرفة الإلهية وترقوا فيها، وقد أتى بها جبريل عليه السلام وحيًا في غزوة قائلًا: “انـزع الدرع (الجوشن) واقرأ هذا الجوشن”، فإن الحقائق التي تتضمنها هذه المناجاة والأوصاف المتوجهة فيها إلى ربه الجليل بالذات تشهد شهادة صادقة على صدق محمد (ﷺ) وعلى رسالته.
كذلك رسائل النور المترشحة من القرآن الكريم، والمستفاضةُ -من جهةٍ- من “الجوشن الكبير” هي حجة واحدة على الرسالة المحمدية بأجزائها البالغة مائة وثلاثين رسالة، وذلك بإثباتها إثباتًا عقليًّا ومنطقيًّا جميعَ حقائق رسالته (ﷺ)، بل تعليمِها وتفهيمِها بسهولة ويُسرٍ ما تعجز عنه الفلسفة من مسائلَ بعيدة جدًّا عن العقل وإظهارِها أنها مسائل مستساغة معقولة كأنها مشهودة.. هذه الرسائل البالغة ثلاثين ومائة رسالة تشهد شهادةً كليةً على صدق محمد (ﷺ) وعلى رسالته.
وكذا الماضي هو شهادة كلية على رسالته، إذ الإرهاصات التي هي خوارق سبقت البعثة وتُعدّ من معجزات النبي الذي سيأتي، قد ذكرت في وقائع كثيرة في كتب السيرة والتاريخ ذكرًا متواترًا قاطعًا، فتشهد هذه الإرهاصات شهادة صادقة على رسالته (ﷺ)، ولهذه الإرهاصات أنواع كثيرة سيُبيَّن قسمٌ منها في الشهادة الآتية، وقسمٌ آخر ذكر في مجموعة “ذو الفقار” ونقلتها كتب التاريخ نقلًا صحيحًا.
فمثلًا: إرسالُ طير أبابيل لترمي جيش أبرهة الذي أتى لهدم الكعبة بحجارة من سجيل قُبيل ولادته (ﷺ)، وسقوطُ الأصنام في الكعبة ليلة الولادة المباركة، وتَصَدُّعُ إيوان كسرى، وخمودُ نار المجوس التي كانت تشتعل منذ ألف سنة، وإظلالُ السحاب له (ﷺ) كما أَخبر به بحيرا الراهبُ وحليمة السعدية.. وأمثالُها من الحوادث الكثيرة التي أخبرت عن نبوته (ﷺ) قبل بعثته.
وكذا المستقبل، أي الحوادث التي وقعت بعد وفاته (ﷺ) وأَخبر عنها وهي كثيرة جدًّا ومتنوعة جدًّا؛ منها: إخباره الغيبي التي تخص الآل والأصحاب الكرام، والفتوحات الإسلامية، وقد أُثبتت في رسالة المعجزات الأحمدية (المنشورة ضمن مجموعة ذو الفقار) برواية صحيحة ثمانين حادثة وقعت كما أخبر.
مثلًا: استشهاد سيدنا عثمان رضي اللّٰه عنه عند قراءته المصحف الشريف، واستشهاد سيدنا الحسين رضي اللّٰه عنه في كربلاء، وفَتْحُ الشام وفارس وإسطنبول، وقيامُ الدولة العباسية وسقوطُها ودمارها بيد جنكيز خان وهولاكو.. وما شابهها من معجزاته في إخباره الغيبي الذي ظهر في ثمانين حادثة، مما نقل إلينا نقلًا صحيحًا استنادًا إلى كتب السيرة والتاريخ التي ذكرتها بالتفصيل.
فهذه الإخبارات الغيبية مع سائر أنواعها التي تدل على صدقه (ﷺ) ومع وقائع مستقبلية كثيرة جدًّا تدل على صدقه، أي إن المستقبل يشهد شهادة قوية كلية على الرسالة المحمدية (ﷺ).
[الشهادة التاسعة]
الشهادة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة، والتي تشير إليها: (وبشهادة الآلِ بقوةِ يقينيّاتهم في تصديقه بدرجة حقّ اليقين.. والأصحاب بكمال إيمانهم في تصديقه بدرجة عين اليقين.. والأصفياء بقوّة تحقيقاتهم في تصديقه بدرجة علم اليقين.. والأقطاب بتطابقهم على رسالته بالكشف والمشاهدات باليقين) .
فمن الشهادة الكلية التي تشهد شهادة صادقة على صدق محمد (ﷺ) وعدله:
الشهادة التاسعة: وهي شهادة آل محمد (ﷺ) الذين نالوا مرتبةَ “علماءُ أمتي كأنبياء بني إسرائيل”، والذين هم أكفاء لآل إبراهيم عليه السلام في صلوات التشهد، وهم الأولياء العظام والأئمة الاثنا عشر رضي اللّٰه عنهم، ويتقدم الجميعَ الإمام علي والحسن والحسين رضوان اللّٰه عليهم أجمعين، والشيخ الكيلاني وأحمد الرفاعي وأحمد البدوي وإبراهيم الدسوقي وأبو الحسن الشاذلي (قدس اللّٰه أسرارهم)، وأمثالهم من الأقطاب والأئمة، يشهدون جميعًا وبالاتفاق وباعتقادهم اليقيني وبالكشفيات والمشاهَدات وبالكرامات والإرشاد التي أظهروها في الأمة، فيصدّقون بإيمانهم الراسخ الرسالةَ المحمدية وصدقَ الرسول الكريم (ﷺ).
[الشهادة العاشرة]
الشهادة العاشرة: وهي شهادة الصحابة الكرام الذين هم أفضل الناس وأسماهم منـزلة بعد الأنبياء عليهم السلام، والذين أداروا العالم من الشرق إلى الغرب بالعدل والقسطاس المستقيم بعد أن تنوّروا بنور محمد (ﷺ) في فترة قصيرة برغم كونهم بَدْوًا وأُميين، وظهروا على الدول العظمى وغدَوا أساتذة الأمم الراقية ذات الحضارات والعلم والسياسة، ومعلِّمين لها وسياسيين حكماء عادلين، فحوَّلوا ذلك القرن إلى خير القرون وعصرِ السعادة.
فهؤلاء الصحابة الكرام بعد تدقيقهم وتحرّيهم عن كل حال من أحوال محمد (ﷺ) ومشاهدتِهم بأبصارهم قوةَ معجزاته الكثيرة، تركوا عِداءهم السابق، وعافوا طريق أجدادهم، وضحَّوا بالنفس والنفيس تضحية كريمة رفيعة، وانضووا تحت راية الإسلام، كخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وأمثالهم ممن ترك آباءه وقبيلته، فإن إيمان هؤلاء الصحابة الكرام البالغَ درجة عين اليقين شهادةٌ صادقة كلية على صدق محمد (ﷺ) وعلى أحقية رسالته.
[الشهادة الحادية عشرة]
الشهادة الحادية عشرة: وهي شهادة ألوف من أهل التحقيق، أي شهادة المجتهدين والأئمة الأعلام والعلماء المحققين الذين يطلق عليهم جميعًا: الأصفياء والصديقون، والفلاسفة الدهاة من أمثال ابن سينا وابن رشد الذين آمنوا إيمانًا منطقيًّا وعقليًّا، رغم اختلاف مسلك كلٍ منهم عن الآخر، مستندين إلى ألوف الحجج القاطعة والبراهين الدامغة، حتى بلغوا درجة علم اليقين.. فإن إيمان هؤلاء جميعًا بمحمد (ﷺ) ورسالته وصدقه وصوابه شهادةٌ كلية إلى حدّ لا يمكن أن يردّها إلّا من كان ذا ذكاء يكافئ ذكاءهم كلهم.
ورسائل النور هي واحدة من أولئك الشهود الصادقين في هذا العصر، الذين لا يُحصَون ولا يُعدُّون، ولكن لما سقطت الحجة بأيدي المنكرين لها ولم يجدوا عنها مصرفًا، حاولوا أن يسكتوها بالمحاكم بتغرير أفراد الأمن ودوائر العدل.
[الشهادة الثانية عشرة]
الشهادة الثانية عشرة: وهي شهادة الأقطاب الذين يضم كلٌّ منهم قسمًا مهمًّا من الأمة الإسلامية ضمن حلقة درسه وإرشاده، ودفعوهم بالإرشاد الخارق والتوجيه الصائب والكرامات الظاهرة إلى الرقيِّ المعنوي مستندين في مواضع الحجج إلى المشاهدات والكشفيات.. فهؤلاء الذين هم أفذاذ أهل التحقيق والحقيقةِ قد شاهدوا كشفًا في رقيهم الروحاني صدقَ محمد (ﷺ) وصدق رسالته، وأنه في قمة مراتب الصدق والعدل والحق، فشهادة هؤلاء بالاتفاق والتطابق، على نبوته (ﷺ) وعلى رسالته، تصديقٌ قويٌّ إلى حدٍّ لا يمكن جَرحه إلّا مِنْ قِبَل مَن نال ما نالوه جميعًا من مراتب الكمالات والفضائل.
[الشهادة الثالثة عشرة]
الشهادة الثالثة عشرة: عبارة عن أربع حجج قاطعة واسعة كلية وهي:
(وبشهادة الأزمنة الماضية بتواتر بشارات الكواهن والهواتف والعرفاء في الأدوار السالفين، وبمشاهدة بشارات الرسل والأنبياء وبشهادتهم وبشارتهم عليهم السلام برسالة محمدٍ عليه الصّلاة والسّلام في الكتب المقدّسة).
إن خلاصة فحوى هذه الفقرة ستوضَّح هنا، أما إيضاحها الكامل وسندُها فهما في ختام رسالة “المعجزات الأحمدية” المنشورة ضمن “مجموعة ذو الفقار”.
والفقرة تعني أن مشاهير البشر في الأزمنة الماضية، وفي مقدمتهم الأنبياء الكرام عليهم السلام، والعارفون والكهان والهواتف، قد أخبروا بالاتفاق عن مجيء محمد (ﷺ) وعن رسالته، تلك الإخبارات التي تسمى “الإرهاصات” وهي صريحة ومكررة ومذكورة في كتب التاريخ والسيرة والحديث الشريف، بروايات صحيحة ومتواترة لقسم منها، وقد فَصَّلتْ رسالة “المعجزات الأحمدية” و بَيَّنتْ ما هو أقوى وأثبتُ من تلك الألوف من الإرهاصات، فنحيل إليها، ونقول بإشارةٍ في منتهى الاختصار:
أما إخبار الأنبياء فلقد ذكر في “المكتوب التاسع عشر” عشرون آية تخص نبوة محمد (ﷺ) بما يقرب من الصراحة من مئات الآيات في الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والزبور، ولقد سَجل حسين الجسر في كتابه مائةً من تلك الآيات التي تبشر بنبوة محمد (ﷺ) رغم التحريفات الكثيرة التي طرأت على تلك الكتب من قِبَل النصارى واليهود.
أما الكهان ففي مقدمتهم الكاهنان الشهيران “شقّ وسطيح” فهم يخبرون عن الغيب بوساطة الروحانيين والجن، فأخبروا بروايات صحيحة متواترة وصريحة لا ريب فيها عن مجيء الرسول (ﷺ) وإزالته لدولة فارس، وعن ظهور نبي عن قريب في الحجاز.
وأخبر كعب بن لؤي -من أجداد النبي (ﷺ)- وسيفُ بن ذي يَزَنْ من ملوك اليمن وتُبَّع من ملوك الحبشة وأمثالهم من العرفاء أولياءِ ذلك الزمان، أخبروا صراحةً عن رسالة محمد (ﷺ) وأعلنوها شعرًا، حتى قال أحد أولئك الملوك: “إني لأرجِّح خدمة محمد على هذه السلطنة”. وقال آخر: “لو أدركتُه لكنت له ابن عم” أي كنت كعلي رضي اللّٰه عنه مضحيًا ووزيرًا له.
وقد ذُكر في “المكتوب التاسع عشر” ما هو مهم وثابت من هذه الأخبار.
وعلى كل حال فإن هؤلاء العُرَفاء يشهدون شهادة صادقة كلية قوية على رسالة محمد (ﷺ) وعلى صدقيتها، كما نَشَر كتبُ التاريخ والسِّيَر هذه الأخبار نشرًا كاملًا.
وكذا الروحانيون، هم لا يشاهَدون ولكن تُسمع أقوالهم، ويطلق عليهم: الهواتف، فهم يشهدون شهادة صادقة كالعارفين والكهان على رسالة محمد (ﷺ) وعلى نبوته شهادة صريحة جدًّا، وكذا كثرةٌ من المخبرين، بل حتى الذبائح التي تُذبح للأصنام، والأصنام نفسها وشواهد القبور كل أولئك قد أخبروا عن نبوته (ﷺ)، فيشهدون شهادة صدق على رسالته وأحقيته بلسان التاريخ.
[الشهادة الرابعة عشرة]
الشهادة الرابعة عشرة: هي شهادة الكون القويةُ، تشير إليها هذه الفقرة العربية: (وبشهادة الكائنات بغاياتها وبالمقاصد الإلهية فيها على الرسالة المحمدية الجامعة؛ بسبب توقفِ حصولِ غاياتِ الكائناتِ والمقاصد الإلهية منها وتَقَرُّر قيمتها ووظائِفها وتَبَارُزِ حسنِها وكمالها وتحققِ حكمِ حقائقها على الرسالة الإنسانية لا سيما على الرسالة المحمدية؛ إذ هي المُظهِرة والمدار الأتم لها، ولولاها لصارت هذه الكائنات المكمَّلة والكتاب الكبير ذو المعاني السرمدية هباءً منثورًا متطايرةَ المعاني متساقطةَ الكمالات وهو محال من وجوه وجهات).
لقد ذكرتْ رسالةُ “الآية الكبرى” فيما يخص هذه الفقرة العربية الآتيَ:
هذا الكون كما أنه يدل على صانعه وكاتبه ومصوِّره الذي أوجده والذي يديره وينظمه ويتصرف فيه بالتصوير والتقدير والتدبير كأنه قصر باذخ، أو كأنه كتاب كبير، أو كأنه معرض بديع، أو كأنه مشهر عظيم..
فهو كذلك يستدعي لا محالة وجودَ مَن يُعبِّر عما في هذا الكتاب الكبير من معانٍ، ويعلَم ويُعلِّم المقاصد الإلهية من وراء خلق الكون، ويُعلِّم الحكم الربانية في تحولاته وتبدلاته، ويدرِّس نتائج حركاته الوظيفية، ويعلن قيمة ماهيته وكمالات ما فيه من الموجودات.. ويجيب عن الأسئلة الرهيبة المحيرة، من أين تأتى هذه الموجودات؟ وإلى أين المصير؟ ولِمَ لا تلبث هنا بل تمضى وترحل مسرعة؟ ويُوضِّح معانيَ ذلك الكتاب الكبير ويفسِّر حكمةَ آياته التكوينية.
أي يقتضي داعيًا عظيمًا، ومناديًا صادقًا، وأستاذًا محققًا، ومعلمًا بارعًا، فالكون من حيث هذا الاقتضاء يدل ويشهد شهادة قوية وكُلِّية على صدق النبي الكريم (ﷺ) وصوابه الذي هو أفضل مَن أتمَّ هذه الوظائفَ والمهمات، وعلى كونه أفضل وأصدق مبعوث لرب العالمين، فيشهد الكون قائلًا: أشهد أن محمدًا رسول اللّٰه.
نعم، إن ماهية الكون وقيمتَه ومزاياه تتحقق بالنور الذي أتى به محمد (ﷺ) وبه تُعلم وظائفُ ما فيه من موجودات ونتائجُها ومهماتها وقيمتها، وبه يكون الكون بأسره عبارة عن مكاتيبَ إلهيةٍ بليغة وقرآنٍ رباني مجسّم ومعرضِ آثارٍ سبحانية مهيب، إذ لولا نوره (ﷺ) لاتخذ الكونُ ماهيةَ مأتمٍ موحش وخرابٍ مخيف ذا أخلاطٍ متشابهة واضطراباتٍ متعاقبة يتردى في خضم ظلماتِ العدم والعبث والزوال والفناء.
فبناء على هذه الحقيقة فإن مزايا الكون وكمالاته وتحولاته الحكيمة ومعانيه السرمدية تقول بقوة: نشهد أن محمدًا رسول اللّٰه.
[الشهادة الخامسة عشرة]
الشهادة الخامسة عشرة التي تضم كثيرًا من الشهادات وهي: أن جميع التحولات والحركات والسكنات والحياة والممات وأمثالها من التصرفات الجارية في الكون إنما تتم بأمرِ وإرادةِ وقوةِ الذات الأقدس الواجب الوجود الذي يتصرف في هذا الكون ابتداءً من الذرات إلى السيارات، فتشهد إجراءاتُ ربوبيته وأفعالُ رحمانيته على الرسالة المحمدية (ﷺ).
والفقرة العربية الآتية تعبّر عن هذه الشهادة السامية الرفيعة:
(وبشهادة صاحب الكائنات وخلَّاقها ومتصرفها على الرسالة المحمدية؛ بأفعالِ رحمانيتهِ وبإجراءات ربوبيته؛ كفعل الرحمانية بإنزال القرآن المعجزِ البيانِ عليه، وبإظهار أنواع المعجزات على يديه، وبتوفيقه وحمايته في كل حالاته، وبإدامة دينه بكل حقائقه، وبإعلاء مقام حرمته وشرفه وإكرامه على جميع المخلوقات بالمشاهَدة والعيان، وكفعل ربوبيته بجعل رسالته شمسًا معنويةً لكائناته، وبجعل دينه فهرستةَ كمالاتِ عباده، وبجعل حقيقته مرآةً جامعةً لتجليات ألوهيته، وبتوظيفه بوظائف ضرورية لازمة لوجود المخلوقات في هذه الكائنات كلزوم الرحمة والحكمة والعدالة وكضرورة لزوم الغذاء والماء والهواء والضياء).
نحيل تفاصيل هذه الشهادة السامية القاطعة الواسعة جدًّا إلى رسائل النور، وننظر إلى معناها الإجمالي بإشارة في منتهى الاختصار وهي:
إننا نشاهد بأعيننا في هذا الكون أنّ مِن عادة الربوبية الجارية في كل آن بالعدالة والحكمة والعناية، حمايةَ الأبرار وتأديب الكذابين الفاسدين، نشاهدها ضمن تصرفاته المنتظمة جل جلالُه، فبمقتضى أفعاله الرحمانية إنـزالُ القرآن المعجز البيان على محمد (ﷺ).. وإظهارُ أنواع المعجزات الكثيرة البالغة نحو ألف معجزة على يديه.. وحمايتُه له تحت جناح رأفته الشفيقة في كل حالاته، بل في أخطر أوضاعه حتى حمايته بالحمام والعنكبوت!.. وتوفيقُه توفيقًا معززًا في مهامه.. وإدامةُ دينه بجميع حقائقه.. وتتويجُ هامةِ الأرض والبشرية بإسلامه.. وإعلاءُ مقامه وشرفه إلى أرفع مقام وأشرفه.. وتفضيلُه على الموجودات كافة بمنحه مقامًا مرضيًّا مقبولًا ودائمًا يفوق أفاضل الإنسانية.. وإعطاؤه شخصيةً تحملُ أجملَ الخصال الحميدة الرفيعة باتفاق الأولياء والأعداء حتى جُعِلَ خُمُسُ البشرية من أمته.. كل ذلك يشهد شهادة صادقة قاطعة على صدقه (ﷺ) ورسالته.
وكذا نشاهد من حيث أفعال ربوبيته جل وعلا: أن المتصرف بهذا العالم ومدبِّر شؤونه جعل رسالة محمد (ﷺ) شمسًا معنوية للكون، فقد أثبت في رسائل النور أنه بَدَّدَ بها جميعَ الظلمات، مُظهِرًا بها حقائقَ الكون النورانية.. وأبهج ذوى الشعور قاطبة بل الكون بأسره ببشارة الحياة الباقية.. وجعل دينه أيضًا فهرسَ كمالات جميع عباده المقبولين، ومنهجًا قويمًا لأفعال العبودية.. وجعل الحقيقة المحمدية -وهي شخصيته المعنوية- مرآة جامعة لتجليات أُلوهيته بدلالة القرآن الكريم والجوشن الكبير.. بل جعله ينال -علاوة على الحقائق التي أشرنا إليها- مثل حسنات أمته كافة في كل يوم طوال أربعة عشر قرنًا.. وبعثه إلى البشرية وأناط به وظائف جليلة سامية.. وجعله أحسن قدوة وأعظم مرشد وأكرم سيدٍ للبشرية قاطبة، بدلالة آثاره في الحياة الاجتماعية والمعنوية والبشرية، وجعَلَ البشرية محتاجة إلى دينه وشريعته وحقائقه التي أتى بها في الإسلام6
وقد شعرت وأنا أعاني شيخوختي وضعفي بواحدٍ من مليون من الأرزاق المعنوية التي أتى بها هذا النبي الكريم محمد (ﷺ)، فلو كان بوسعي لشكرته بملايين الألسنة والصلوات، وذلك: أنني أتألم غاية الألم من الفراق والزوال، مـع أن الدنيا التي أحبها والدنيويين يتركونني برحيلهم وبمفارقتهم لي، وأنا على علم برحيلي أيضًا، فيتملكني يأس أليم قاتم، ولكن أتسلى وأنجو كليًّا من هذا اليأس باستماع بشارةِ السعادة الأبدية والحياة الباقية من النبي الكريم (ﷺ)، حتى إنني عندما أقول “السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّٰه وبركاته” في التشهد، أقدم له بيعتي وطاعتي واستسلامي لمهمته، وأباركه في وظيفته مقدِّمًا نوعًا من الشكر إليه، مقابلَ تلك البشارة بالسعادة الأبدية، وهكذا ينطق المسلمون بهذا السلام خمس مرات يوميًّا. (المؤلف).
فهل من الممكن أن لا تكون الرسالة المحمدية شمسًا معنوية للكون، وهي التي نالت هذا العددَ من الشهادات الكلية الواسعة من رب العالمين الذي لا يُهمل رعايةَ وتنظيمَ شيء مهما كان حتى جناح ذبابة وزُهَيْرة صغيرة؟!
فكل شهادة من هذه الشهادات الخمس عشرة تتضمن شهادات كثيرة جدًّا، حتى إن الشهادة الثالثة قد أثبتت دعوى: «أشهد أن محمدًا رسول اللّٰه» بقطعية تامة وقوة راسخة لاندراج ألف من الشهادات تحتها بلسان المعجزات، وأعلنت تحققها وقيمتها وأهميتها العظيمة، بحيث إن مئات الملايين من الألسنة في طول العالم الإسلامي وعرضه يعلنون تلك الدعوى إلى الكون خمس مرات في اليوم.
كما أن ملياراتٍ من أهل الإيمان قد رضُوا وصدَّقوا بلا ريب أن أساس تلك الدعوى -وهو الحقيقة المحمدية- هي البذرة الأصلية للكون وسببُ خلقِه وأكمل ثمرته، وأن رب العالمين جل جلاله قد جعل تلك الشخصية المعنوية المحمدية داعيًا رفيعًا إلى سلطان ربوبيته وكشافًا صادقًا لطلسم الكائنات ومُعَمَّى الخلق، ومثالًا ساطعًا لألطافه ورحمته، ولسانًا بليغًا لشفقته ومحبته، وأعظم مبشر بالحياة الدائمة والسعادة الأبدية في العالم الباقي، وخاتمَ مبعوثيه وأعظمَ رسله (ﷺ).
فيا خسارةَ من لا يؤمن بحقيقةٍ لها هذه الماهية ولا يثق بها، أو لا يهتم بها! ويا فداحة خطئه وعِظَم ارتكابه بلاهةً وجناية.
فكما أن سورة “الفاتحة” التي في الصلاة بإشاراتها في القسم الثاني تبين حججًا قاطعة على دعوى حقيقة التوحيد في “أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه” وتضع عليها ما لا يحد من علامات التصديق، كذلك تأتي في هذا القسم الثالث أيضًا بشهودٍ أقوياءَ يصدِّقون ما في التشهد مِنْ “أشهد أن محمدًا رسول اللّٰه”، ويضعون عليه ما لا يحد من علامات التصديق.
فيا أرحم الراحمين.. بحرمة هذا الرسول الأكرم (ﷺ)، وفِّقنا لنيل شفاعته واتباع سنته السنية، واجعلنا بجوار آله وأصحابه الكرام في دار السعادة الأبدية. آمين، آمين، آمين.
اللّٰهم صلّ وسلّم عليه وعلى آله وصحبه بعدد حروف القرآن المقروءة والمكتوبة،
آمين.
سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلّا ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم
❀ ❀ ❀