[المَلاحق: رسائل متبادلة بين الأستاذ النورسي وطلابه تلامذة رسائل النور، وهي رسائل زاخرة بأحاديث إيمانية ومشاعر صادقة وإرشادات حكيمة]

في الصورة رسم زيتي للدار التي أقام بها الأستاذ النورسي إقامة جبرية في قسطمونو.
[مختصر ملحق قسطموني 2/3]
تأليف
بديع الزمان سعيد النّورسي
ترجمة
إحسان قاسم الصّالحي
❀ ❀ ❀
(من وظائف السيد المهدي)
إخوتي الأعزاء..
كتبتُ لكم الفقرتين الآتيتين قبل يومين تتمة لما كُتب لكم سابقًا من جواب حول حسن ظنكم النابع من وفائكم الخالص بما يفوق حدي بكثير جدًّا، إذ إن الحكمة في جوابي السابق -قبل أسبوع- والذي يجرح إلى حدٍّ ما حسن ظنكم المفرط، لرسالتكم المترشحة من وفائكم الخالص وهممكم العالية هي الآتية:
في هذا العصر تيارات قوية ومسيطرة إلى درجة تستحوذ على كل شيء، وتستولي عليه، وتمتلكه لنفسها، وتُسخِّره لأجلها، فلو أتى ذلك الذي يُنتظر مجيؤه حقًّا في هذا العصر، فإنني أرى أنه يغيّر هدفَه، ويجرِّد نفسه من الأجواء والأحوال الدائرة في عالم السياسة، حفاظًا على أعماله من أن تغتصبها تلك التيارات.
ثم إن هناك ثلاث مسائل هي: الحياة.. الشريعة.. الإيمان.
وإن مسألة “الإيمان” هي أهم هذه المسائل الثلاث وأعظمُها في نظر الحقيقة، بَيد أن “الحياة” و”الشريعة” تبدوان في نظر الناس عامةً وضمن متطلبات أوضاع العالم أهمَّ تلك المسائل.
ولما كان تغيير أوضاع المسائل الثلاث كلها دفعة واحدة في الأرض كافة لا يوافق سنة اللّٰه الجارية في البشرية، فإن ذلك الشخص المنتظر لو كان موجودًا في الوقت الحاضر لاتخذ أعظمَ تلك المسائل وأهمَّها أساسًا له دون المسائل الأخرى، وذلك لئلا تَفقد خدمةُ الإيمان نزاهتَها وصفاءَها لدى الناس عامة، ولكي يتحقق لدى عقول عوام الناس -الذين يمكن أن يُستَغفَلوا ببساطة- أن تلك الخدمة ليست أداة لأي مقصد آخر.
ثم إن معاول الهدم ومطارق التخريب تعمل منذ عشرين عامًا، مقترفةً أشدَّ أنواع الظلم وأقسى ضروب التعسف لإفساد الأخلاق، حتى ضاعت الثقة والوفاء، إلى درجة لم يعد يوثق بشخص واحد من كل عشرة أشخاص، بل من كل عشرين شخصًا.
فتجاه هذه الحالات المحيِّرة لا بد من ثباتٍ عظيم وصلابةٍ تامة ووفاءٍ خالص وغَيرة على الإسلام تفوق كل شيء.. وبخلافه ستبقى خدمةُ الإيمان عقيمةً بائرة، وتكون ضارة؛ بمعنى أن أخلصَ خدمةٍ وأسماها وأهمَّها وأولاها بالتوفيق هي الخدمة السامية التي يعمل فيها طلاب رسائل النور.
وعلى كل حال يكفي هذا القدر لهذه المسألة في الوقت الحاضر.
❀ ❀ ❀
(ختمة جماعية)
إخوتي الأعزاء الأوفياء..
أولًا: نبارك لكم ليلة نصف شعبان وشهر رمضان المقبل، ونسأله تعالى أن يجعل ليلة القدر خيرًا لكم ولنا من ألف شهر، ويُدخلها هكذا في سجل أعمالنا.
وقد عزمنا على أن ندعو حتى العيد بهذا الدعاء: “اللّٰهم اجعل ليلة القدر في شهر رمضان خيرًا من ألف شهر لنا ولطلبة رسائل النور الصادقين”.
ولقد قمنا بتوزيع أجزاءِ مصحفين شريفين على كل طالب من طلاب النور الخواص هنا، بحيث يَقرأ كلٌّ منهم يوميًّا جزءًا مخصصًا له، وبهذا تُختَم كلَّ يومٍ -من أيام شهر رمضان المبارك- ختمتان للقرآن الكريم، في مجلسٍ معنويٍّ واسعٍ جدًّا يضم إسبارطة وقسطموني معًا، يتوسطهما طلاب رسائل النور، حيث يَتصور كلٌّ منهم نيّةً جميعَ الطلاب معه.. نسأله تعالى أن يوفقنا في ذلك.
❀ ❀ ❀
(الاشتراك في الأعمال الأخروية)
باسمه سبحانه
وإن من شيءٍ إلّا يسبح بحمده
السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته بقدرِ حاصلِ ضربِ عاشراتِ دقائقِ ليلة القدر في حروف القرآن.
إخوتي الأعزاء الأوفياء..
أولًا: أهنئكم بحلول شهر رمضان المبارك بملء روحي ووجداني، وأبتهل إلى أرحم الراحمين تعالى أن يستجيب لدعواتكم التي ترفعونها في هذا الشهر المبارك.
ثانيًا: إن شهر رمضان لهذه السنة له أهميةٌ جليلةٌ للعالم الإسلامي عامةً ولطلاب النور أيضًا بمضمون دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية، ذلك الدستور الأساسي الجاري بين طلاب رسائل النور، فإنّ دخول ما يَكسبه كلُّ طالب من حسناتٍ إلى دفتر حسنات إخوانه كاملةً، هو مقتضى ذلك الدستور والرحمة الإلهية؛ لذا تكون مغانمُ الحسنات عظيمةً جدًّا وكليةً لمن يَدخل دائرةَ رسائل النور بصدق وإخلاص، حيث يَغنم كلُّ واحدٍ منهم ألوفًا من الحصص.
نسأله تعالى أن يجعل ذلك الاشتراك كالاشتراك في الأموال الدنيوية -ولكن بدون انقسام ولا تجزئة- اشتراكًا كاملًا بدخولها كاملةً في دفترِ حسناتِ إخوانه كدخول ضياءِ مصباحٍ في ألوف المرايا؛ بمعنى أن طالبًا من طلاب النور الصادقين إذا ما غَنِم حقيقةَ ليلةِ القدر وتمكّن من كسب المرتبة الرفيعة لشهر رمضان المبارك، نأمل أملًا عظيمًا من سعة رحمته تعالى أن يُملِّك سبحانه جميعَ الطلاب الصادقين تلك الغنيمة.
❀ ❀ ❀
(النساء في طريق النور)
إخوتي الأعزاء الأوفياء الأبطال الميامين..
أولًا: إن كل أخ من إخواننا الخواص في هذا الشهر المبارك، شهر رمضان، بمثابة الملائكة المالكين لأربعين ألف لسان، أي له أربعون ألف لسانٍ معنوي -أي بعدد الإخوة- وذلك بالدستور الأساس، وهو دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية، لذا فإن ما يَدْعون أو ما سيدعون من دعوات في هذا الشهر المبارك، نرجو من رحمته تعالى أن يكون مقبولًا بعدد تلك الألسنة؛ فهنيئًا لكم شهركم هذا شهر رمضان الحامل لهذه الماهية الفاضلة.
ثانيًا: كان المفروض أن يكون الجواب كتابًا كاملًا لرسائلكم في هذه المرة، تلك الرسائل المتعددة المؤثِّرة السارة الحاملة للبشارات، إلا أن ضيق الوقت حال دون ذلك، فلا تتألموا من الجواب المقتضب.
فللّٰه الحمد ألفَ ألفِ مرة، إن الأمهات المباركات في تلك القرية وسيداتها -قرية ساو-1قرية ساو: قرية قريبة من منفى الأستاذ النورسي “بَارلاَ”، وأهالي هذه القرية شِيبًا وشبابًا رجالًا ونساءً خدموا الإيمان عن طريق نشر رسائل النور واستنساخها. قد عَرَفْن رسائل النور ويقدرنها حق قدرها، فلقد أبكتْني -وأبكتْنا جميعًا- بكاءَ فرحٍ وسرورٍ التضحيةُ التي بذلتْها أولئك السيدات العزيزات أخواتي في الآخرة المخلصات في نشر رسائل النور.
من المعلوم أن أهم أساس في مسلك رسائل النور هو الشفقة، وحيث إن السيدات هن معدن الشفقة ومنبعها، فقد كنت أنتظر -منذ مدة- أن تُفهَم ماهية رسائل النور في عالم النساء، والحمد للّٰه فإن السيدات هنا وحوالَينا يعملن عملًا جادًّا وبشوق وفعالية أكثر من الرجال، فأَظهَرنَ أنهن حقًّا أخواتٌ للنساء المباركات في قرية ساو.
فهذان الأمران الظاهران فألٌ حسنٌ في أن رسائل النور ستسطع وتُنوِّر وتفتح قلوبَ أولئك السيدات معادن الشفقة.
ثم إن الرعاة الشجعان لقرية ساو الذين ينقلون في جعبهم رسائل النور ليستكتبوها، قد أبدَوا تضحيةً وبسالةً كأولئك السيدات هناك، مما يثير الهمم ويَبُثُّ الشوق في هذه المناطق أيضًا.
إننا نرغب في معرفة أسماء أولئك السيدات والرعاة كي يدخلوا بأسمائهم الخاصة ضمن الطلاب الخواص.
❀ ❀ ❀
(حادثتان لهما مغزى)
إخوتي الأعزاء الأوفياء..
أبين لكم حادثتين لطيفتين لهما مغزى وبشارة:
أولاها:
(مقابلة الذنوب المهاجمة)
تنبيهٌ يَحمل بشرى وردتْ من خاطرةٍ يائسة، حيث ورد على خاطري في هذه الأيام ما يأتي:
إن الذي يختلط بالحياة الاجتماعية، ما إن يَمَسَّ شيئًا إلّا ويجابَه بالآثام والذنوب في أغلب الأحوال، فالذنوب تحيط بالإنسان من كل جهة.. تُرى كيف تقابِل العبادةُ الخاصة للإنسان وتقواه الخاصة هذه الذنوبَ جميعَها؟
تأملتُ في هذا التفكير اليائس، حيث تذكرت أوضاع طلاب رسائل النور المندمجين في الحياة الاجتماعية، وفكرتُ في الوقت نفسه في إشاراتٍ قرآنية وبشاراتِ الإمام علي والشيخ الكيلاني حول نجاة طلاب رسائل النور وكونِهم من أهل السعادة.
فقلت في قلبي: كيف يقابِل طالبُ النور بلسانٍ واحدٍ هجماتِ ذنوبٍ تَرِد من ألف جهة، وكيف يتغلب عليها، وكيف ينجو منها؟
فأخذتني الحيرة، فخطر على قلبي تجاه هذه الحيرة ما يأتي:
إنه حسب الدستور الأساس الجاري بين طلاب رسائل النور الحقيقيين الصادقين، وهو الاشتراك في الأعمال الأخروية، وبسر التساند والترابط الخالص، فإن كل طالب خالصٍ صادقٍ لا يتعبد بلسان واحد، بل بعددِ ألسنةِ إخوانه جميعًا، فيستغفر ربه بعدد تلك الألسنة، ويقابِل الذنوبَ المهاجمة من ألفِ جهةٍ بألوفِ ألوفٍ من الألسنة المستغفِرة العابدة.
إن طالبًا خالصًا حقيقيًّا متقيًا، يعبد ربه بأربعين ألفٍ من ألسنة إخوته -كالملائكة المسبِّحة بأربعين ألف لسان- سيكون أهلًا للنجاة بإذن اللّٰه، ويكون من أهل السعادة بفضل اللّٰه.. يمتلك هذه العبادةَ الرفيعةَ الكليةَ بدرجةِ وفائه الصادق ضمن دائرة رسائل النور، وعمله الجاد، والتزامه التقوى واجتناب الكبائر.
فلأجل ألّا يُفوَّت هذا الربح العظيم، ينبغي السعي الحثيث في التقوى والإخلاص والوفاء.
ثانيتها:
(جبة مولانا خالد)
عندما كنت في الرابعة عشرة من العمر، وُجِدتْ موانعُ حالت دون قيام أحدٍ من الأساتذة بوضع العمامة ولفّها على رأسي وإلباسي الجبة، كدليل على الشهادة العلمية، كما كانت العادة جارية سابقًا؛ فما كان لبس الجبة الخاصة بالعلماء والكبار يلائم سني الصغير.
ثانيًا: كان العلماء في ذلك الوقت، قد اتخذوا موقف المنافس لي أو التسليم التام، فلم يتمكنوا أن يتقلدوا طور الأستاذ، وحيث إن عددًا من الأولياء العظام قد ارتحلوا من الدنيا، لذا لم يجد أحد في نفسه الكفاءة ليُلبسني الجبة أو يضع على رأسي العمامة.
فمنذ خمسين سنة كان من حقي هذه العلامةُ الظاهرة لنَيل الشهادة، وهي لبس الجبة وتقبيلُ يد أحد الأساتذة وقبولُه أستاذًا.. ولكنَّ تقديمَ جبة مولانا خالد النقشبندي من بُعدِ مائة سنة مع العمامة الملفوفة بها وإرسالَها إليّ في هذا العام بأسلوبٍ غريبٍ جدًّا لكي ألبسها، قد أورثني قناعة ببعض الأمارات. فأنا ألبس تلك الجبة المباركة التي يبلغ عمرها مائة سنة، وأشكر ربي بمئات الألوف من الشكر والحمد2لقد أخذت هذه الأمانة المباركة من السيدة “آسيا” وهي طالبة النور المحترمة وأختنا في الآخرة. (المؤلف).
❀ ❀ ❀
(مسألتان وردتا إلى القلب)
لقد وردت في هذه الأيام مسألتان دقيقتان إلى القلب، لم أستطع تدوينهما، إلّا أننا بعد فوات ذلك الأوان نشير إشارة فقط إلى تلك الحقائق المهمة:
أولاها:
(إلى المتكاسل في أذكار الصلاة)
لقد قلت لأحد إخواننا الذي أظهر تكاسلًا وفتورًا في قراءة الأذكار بعد الصلاة:
إن تلك الأذكار والأوراد عقب الصلاة هي سنةٌ نبويةٌ مطهرة، وطريقة محمدية شريفة، وهي أوراد الولاية الأحمدية، فأصبحتْ أهميتُها من هذه الزاوية عظيمة.
ثم وَضَّحت حقيقة هذا القول بهذا الشكل: مثلما أن الولاية الأحمدية التي انقلبت إلى الرسالة هي فوقَ جميع الولايات قاطبة، فإن طريقة تلك الولاية الكبرى وأذكارَها عقب الصلاة هي فوق سائر الطرق والأوراد بالدرجة نفسها.
ثم انكشف هذا السر كما يأتي:
كما أن كل ذاكر في حلقة الذكر، أو في ختمة الذكر في المسجد، يشعر برابطة روحية تربطه بمن حوله، فيُحسون جميعًا بحالة روحية نورانية، فإن ذا القلبِ اليقظ يُحِسُّ إحساسًا روحيًّا كلما سبّح بـ”سبحان اللّٰه.. سبحان اللّٰه.. سبحان اللّٰه..” بعد الصلاة، أنه في حلقة ذكر مع مائة مليونٍ من المسبّحين الذاكرين، كأنهم بين يدي الرسول (ﷺ)، الذي يترأس تلك الحلقة الذاكرة المترامية الأطراف.
فبهذه الأحاسيس الشاعرة بالعظمة والهيبة والرفعة والعلو يكرر المؤمن: “سبحان اللّٰه.. سبحان اللّٰه”.
ثم إنه عندما يردد “الحمد للّٰه.. الحمد للّٰه..” بأمر معنوي صادر من ذلك السيد الكريم (ﷺ) فإنه يتأمل ويفكر في عظمة تلك الكلمة: (الحمد للّٰه) المنطلِقة من صدور مائة مليون من المردِّدين في تلك الحلقة الواسعة الشاسعة، فيشترك معهم بقوله: “الحمد للّٰه.. الحمد للّٰه.. الحمد للّٰه..”.
وهكذا، مع كلمة “اللّٰه أكبر.. اللّٰه أكبر..” ومع “لا إله إلّا اللّٰه.. لا إله إلّا اللّٰه” ثلاثًا وثلاثين مرة، حيث يختم الذكر.
وبعد إتمام هذه الأذكار اللطيفة بتلك المعاني والتأمل الأخوي، يتوجه إلى سيد الحلقة الذاكرة، وهو الرسول الكريم (ﷺ)، حاملًا معه تلك المعاني المذكورة مع إخوانه في حلقة الذكر قائلًا: ألفُ ألفِ صلاةٍ وألفُ ألفِ سلامٍ عليك يا رسول اللّٰه.
أجل، هكذا أحسست، وهكذا فَهمت، بل هكذا رأيت خيالًا، لذلك أقول: إن الأذكار عقب الصلاة، لها أهمية كبرى.
المسألة الثانية:
(لِمَ تُفضَّل الدنيا على الآخرة؟)
إن خاصية هذا العصر هي أنها تجعل المرء يفضّل بعلمٍ الحياةَ الدنيا على الحياة الباقية، حتى أصبح تفضيل الزجاج القابل للكسر على الألماس الباقي عن علم، يجري وكأنه دستور وقاعدة عامة.
فكنت أحار من هذا حيرةً شديدة، ولكن أُخطر على قلبي في هذه الأيام الآتي:
كما أنه إذا اشتكى عضوٌ من الجسد تداعى له سائرُ الجسد تاركًا قسمًا من وظائفه، كذلك جهاز الحرصِ على الحياة والحفاظِ عليها والتلذذِ بالحياة وعِشقِها، المندرج في فطرة الإنسان: قد جُرح في هذا العصر، فبدأ يُشْغِل سائرَ اللطائف به لأسباب عديدة، محاولًا دفعَها إلى نسيانِ وظائفها الحقيقية.
وأيضًا لو كان هناك حفل بهيج جذاب حافل بالسفاهة والسُّكر، لانجذب إليه حتى الذين لهم مقامات رفيعة والنساء المحجبات العفيفات، كما ينجذب الأطفال والسائبون، فيشتركون معًا بجاذبيةِ ذلك الحفل تاركين وظائفهم الحقيقية.
كذلك الحياة الإنسانية في هذا العصر، ولا سيما الحياة الاجتماعية؛ فقد اتخذت وضعًا مخيفًا ولكن ذا جاذبية، وحالةٍ أليمة ولكن تثير اللهفة والفضول، بحيث تجعل عقلَ الإنسان وقلبه ولطائفه الرفيعة تابعةً لنفسه الأمارة بالسوء حتى تحوم كالفراش حول نار تلك الفتنة وترديها فيها.
نعم، هناك في حالات الضرورة رخصة شرعية في تفضيل الحفاظ على الحياة الدنيوية وترجيحها مؤقتًا على بعض الأمور الأخروية، ولكن لا يمكن تفضيلها بناءً على ضررٍ لا يَلحقه هلاك ولأجل حاجة فحسب، فلا رخصة في هذا.
والحال أن هذا العصر قد غرز حبَّ الحياة الدنيوية في عروق الإنسان، حتى إنه يترك أمورًا دينية ثمينة جدًّا كالألماس لحاجةٍ صغيرةٍ تافهة، أو لئلا يصيبه ضررٌ دنيوي اعتيادي.
نعم، إن هذا العصر الذي رُفعت منه البركةُ من جراء الإسراف المتزايد وعدمِ مراعاة الاقتصاد، ومن عدم القناعة مع الحرص الشديد، فضلًا عن تزايد الفقر والحاجة والفاقة وهموم العيش، مما سبب جروحًا بليغة في تطلع الإنسان للعيش وفي نزوعه لحفظ الحياة، علاوةً على تشعب متطلبات الحياة المرهِقة، زد على ذلك استمرارَ أهل الضلالة بتوجيه كل الأنظار إلى الحياة.. كلُّ ذلك عمَّق تلك الجروح حتى دفع الإنسانَ ليفضِّل أدنى حاجة من حاجات الحياة على مسألة إيمانية عظيمة.
نعم، إنه لا يَصمد تجاه هذا المرض العجيب لهذا العصر العجيب ولسقمه الرهيب إلّا رسائلُ النور الناشرة لأدوية القرآن المبين التي لها فعل المضاد للسموم. ولا يمكن أن يقاوِم هذا المرضَ العضالَ إلّا طلابُ رسائل النور الأقوياء الثابتون الذين لا يتزعزعون، الخالصون الصادقون المضحون.
ولهذا ينبغي الإسراع إلى الالتحاق بدائرة النور والالتزام بها، مع كامل الوفاء والثبات والجدية والإخلاص والثقة، حتى يمكن الخلاصُ من آثار ذلك المرض العجيب الرهيب.
تحياتنا إلى الإخوة جميعًا فردًا فردًا مع الدعاء لهم بالخير.
يا إخوتي.. إن فعالياتكم ونشاطكم وثباتكم هي بمثابة النابض المحرك لدائرة رسائل النور، بحيث تحفزوننا على الحركة والعمل هنا، وفي أماكن أخرى كثيرة.. ليرضَ اللّٰه عنكم أبدًا.. آمين آمين ألفَ ألفِ آمين.
❀ ❀ ❀
(الآلام في اللذائذ الظاهرية)
لمناسبة الرسالة التي كتبتُها لكم قبل بضعة أيام حول غلبة الحياة الدنيوية على الحياة الدينية، ظهر معنًى دقيقٌ جدًّا لقلبي، قد لا يُعبّر عنه بالقلم، ولكني سأشير إليه إشارة في غاية الاختصار:
إنني شاهدت أن ما يَخدع أهلَ الضلالة في هذا العصر العجيب ويجعلهم سكارى ثملين، وما يتلذذون به من لذة ظاهرية في أوضاع فانية، هو في الحقيقة في منتهى الألم، بينما شعرت -بما لا أتمكن من التعبير عنه- أن أهل الإيمان والهداية يتلذذون لذة علوية في نفس الموضع من تلك الأمور والأوضاع الفانية.
فلقد أثبتت رسائل النور في مواضع عدة أن كل شيء معدومٌ لأهل الضلالة سوى الحال الحاضرة، لذا فكل شيء بالنسبة إليهم مليء بآلام الفراق، بينما الماضي والمستقبل وما فيهما موجودان منوَّران لأهل الإيمان.
ولقد شاهدتُ أن الأوضاع المؤقتة الفائتة لأهل الدنيا معدومة في ظلمات الفناء المطلق، بينما تلك الأوضاع نفسها موجودة لأهل الهداية، لأنني تذكرت بحسرةٍ الأوضاعَ المؤقتة التي مرّت عليّ، وهي أوضاع تَحْمِل لذائذ وأهميةً وشأنًا فاشتقت إليها.
ولكن ما إن ورد على ذهني أن تلك الأوضاع الطيبة فنيَتْ في الماضي، إذا بنور الإيمان يذكّرني أنها باقية من نواحٍ عدة رغم فنائها الظاهري، لأن تلك الأوضاع جلوات أسماء اللّٰه الباقية، فهي باقية في دائرة العلم الإلهي والألواحِ المحفوظة والألواحِ المثالية، فالعلاقات التي تربطنا بتلك الأوضاع يورثها نورُ الإيمان بقاءً ووجودًا فوق الزمان، فيمكنك مشاهدة تلك الأوضاع من نواحٍ عديدة كثيرة وكأنها سينما معنوية كثيرة بل يمكنك الدخول فيها. فقلت: “مادام اللّٰه موجودًا فكل شيء موجود إذن”.
هذا الكلام الذي أصبح مضربَ المثل يمثِّل حقيقةَ: “من كان للّٰه تعالى كان له كلُّ شيء، ومن لم يكن له، كان عليه كل شيء، فكل شيء معدوم له”.
بمعنى أن الذين يفضلون درهمًا من لذة تحمل آلامًا وحسرات وظلمات على أضعافها من اللذائذ التي لا تحمل ألمًا في الموضع نفسه، لا شك أنهم سيقابِلون -بما يخالف مقصودهم- الألمَ في موضع اللذة.
❀ ❀ ❀
(خدمة الإيمان فوق كل شيء)
إن طلاب رسائل النور الحقيقيين يَرَون خدمة الإيمان فوق كل شيء، بل حتى لو مُنحوا درجة القطبية يرجِّحون عليها خدمة الإيمان حفاظًا على الإخلاص.
نحن طلاب رسائل النور: وظيفتُنا الخدمةُ، خدمةُ الإيمان والقرآن، وعدمُ التدخل في أمور اللّٰه، وعدم بناء خدمتنا على تلك الأمور الذي مما يومئ إلى ما يشبه التجربة والاختبار، فضلًا عن أننا نهتم بالنوعية دون الكمية.
لقد أدت أسبابٌ رهيبةٌ منذ سالف الزمن إلى تدهور الأخلاق، واستحبابِ الدنيا على الآخرة وتفضيلِها عليها في كل شيء؛ فضمنَ هذه الأحوال المحيطة، فإن فتوحات الإيمان التي تكسبها رسائل النور حتى الآن، وكسرَها لصولة الزنادقة وهجوم الضلالة، وإنقاذَها إيمانَ مئات الألوف من الناس المنكوبين، وتربيتَها مئاتٍ بل ألوفَ المؤمنين الحقيقيين الذين يعادل كلّ منهم مائة وألف من غيرهم، أثبتت إثباتًا قاطعًا بحوادث واقعية -وستثبت بإذن اللّٰه في المستقبل- إخبارَ المخبر الصادق (ﷺ) وصدّقته تصديقًا فعليًّا؛ وقد ترسخت في العروق إلى درجة لا يمكن لأي قوة كانت أن تجتثها بإذن اللّٰه من صدر الأناضول، حتى يأتي بإذنه تعالى في آخر الزمان أصحابُها الحقيقيون في الدائرة الواسعة للحياة، أي السيد المهدي وطلابه، فيوسِّعون تلك الدائرةَ وتتسنبل البذورُ المزروعة، فنشاهد نحن ذلك المشهد من قبورنا ونشكر ربنا.
❀ ❀ ❀
(ورطة المتدينين)
إن هذا العصر العجيب الذي أثقل كاهل الإنسان بالحياة الدنيوية بما كثّر عليه من متطلبات الحياة وضيّق عليه مواردَها، وحوّل حاجاته غيرَ الضرورية إلى ضرورية بما ابتلاه من تقليد الناس بعضهم بعضًا، ومن التمسك بعادات مستحكِمة فيهم، حتى جعل الحياةَ والمعاشَ هي الغاية القصوى والمقصَد الأعظم للإنسان في كل وقت.
فهذا العصر العجيب أسدل بهذه الأمور حجابًا دون الحياة الدينية والأخروية والأبدية، أو في الأقل جَعَلها أمرًا ثانويًّا أو ثالثيًّا بالنسبة له، لذا جوزي الإنسان على خطأه هذا بلطمة قوية شديدة حوَّلت دنياه إلى جحيم لا تطاق.
وهكذا يتورط المتدينون أيضًا في هذه المصيبة الرهيبة، ولا يَشعر قسم منهم أنهم قد وقعوا في الورطة.
وأذكر مثالًا: رأيتُ عددًا من الأشخاص -من أهل التقوى- يَرغبون في الدين ويحبون أن يقيموا أوامره كي يوفَّقوا في حياتهم الدنيوية ويفلحوا في أعمالهم، حتى إن منهم مَن يطلب الطريقة الصوفية لأجل ما فيها من كرامات وكشفيات؛ بمعنى أنه يجعل رغبته في الآخرة وثمارها تَكِئَةً ومرتبة سُلّمٍ للوصول إلى أمور دنيوية، ولا يَعلم هذا أن الحقائق الدينية التي هي أساس السعادة الدنيوية كما هي أساس السعادة الأخروية، لا تكون فوائدُها الدنيوية إلّا مرجِّحة ومشوِّقة، فإذا ارتقت تلك الفائدة إلى مرتبة العلة لِعَمَلِ البر فإنها تبطله، وفي الأقل يَفسُد إخلاصُه ويَذهب ثوابُه.
وقد ثبت بالتجربة أن أفضل منقذٍ مِن ظلم هذا العصر المريض الغادر المشؤوم ومن ظلماته الدامسة، هو النور الذي تُشِعُّه رسائل النور بموازينها الدقيقة وموازناتها السديدة.. يَشهد على صدق هذا أربعون ألف شاهد.
بمعنى أن القريبين من دائرة رسائل النور إن لم يدخلوها، فهناك احتمال قوي على وقوعهم في الخطر.
نعم، إن هذا العصر قد جعل حتى المسلمين يستحبّون الحياة الدنيا ويرجّحونها على الآخرة، على علم منهم ورغبة فيهم، كما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة﴾.
❀ ❀ ❀
(مصير الأبرياء من الكفار في البلايا)
باسمه سبحانه
وإن من شيءٍ إلّا يسبح بحمده
لقد مَسَّ مسًّا شديدًا مشاعري وأحاسيسي المفرطة في الرأفة والعطف ما أصاب الضعفاء المساكين من نكبات وويلات ومجاعات ومهالك من جراء هذه الطامة البشرية التي نزلت بهم وفي هذا الشتاء القارس.. ولكن على حين غرة نُبّهتُ إلى أن هذه المصائب وأمثالها تنطوي على نوع من الرحمة والمُجازاة -حتى على الكافر- بحيث تُهَوِّن تلك المصيبةَ، فتظل هيّنة بسيطة بالنسبة إليهم، وأصبح هذا التنبيه مرهمًا شافيًا لإشفاقي المؤلم على الأطفال والعوائل في أوروبا وروسيا، رغم أنني لم أتلق شيئًا عن أوضاع الدنيا وأخبار الحرب منذ بضعة أشهر.
نعم، إن الذين نزلت بهم هذه الكارثة العظمى -التي ارتكبها الظالمون- إن كانوا صغارًا وإلى الخامسة عشرة من العمر، فهم في حكم الشهداء، مِن أي دين كانوا، فالجزاء المعنوي العظيم الذي ينتظرهم يُهوِّن عليهم تلك المصيبة.
أما الذين تجاوزوا الخامسة عشرة من العمر، فإن كانوا أبرياء مظلومين، فلهم جزاءٌ عظيم ربما ينجيهم من جهنم، لأن الدين -ولا سيما الإسلام- يُستَر بستار اللامبالاة بدرجةِ “الفترة” في آخر الزمان، وأن الدين الحقيقي لسيدنا عيسى عليه السلام سيَحكم ويتكاتف مع الإسلام، فيمكن القول بلا شك: إن ما يكابده المظلومون من النصارى المنتسبين إلى سيدنا عيسى عليه السلام، والذين يعيشون الآن في ظلمات تشبه ظلمات “الفترة”، وما يقاسونه من الويلات، تكون بحقهم نوعًا من الشهادة، ولا سيما الكهول وأهل النوائب والفقراء والضعفاء المساكين الذين يقاسون النكبات والويلات تحت قهر المستبدين والطغاة الظالمين.
وقد بلغني من الحقيقة أن تلك النكبات والويلات كفارةٌ بحقهم من الذنوب النابعة من سفاهات المدنية وكفرانها بالنعم، ومن ضلالات الفلسفة وكفرها، لذا فهي أربح لهم مائة مرة.
وبهذا وجدتُ السلوان والعزاء من ذلك الألم المعذِّب النابع من العطف المتزايد، فشكرتُ اللّٰه شكرًا لا نهاية له.
أما أولئك الظالمون الذين يُسَعِّرون نار تلك الفتن والنكبات، أولئك السفلة من شياطين الأنس والجبابرة الطغاة الذين ينفذونها إشباعًا لمنافعهم الشخصية، فهم يستحقون ذلك العذاب المهين، فهو بحقهم عدالة ربانية محضة.
ولكن إن كان الذين يقاسون تلك النكبات هم ممن يُهرعون إلى نجدة المظلومين، ويكافحون في سبيل تحقيق راحة البشرية والحفاظ على الأسس الدينية والمقدسات السماوية والحقوق الإنسانية، فلا بد أن النتائج المعنوية والأخروية لتلك التضحيات الجسام كبيرةٌ جدًّا، بحيث تَجعل تلك الويلات بحقهم مدار شرف واعتزاز لهم، بل وتُحبّبها إليهم.
❀ ❀ ❀
(العمل لأسس الإسلام أَولى)
إخوتي..
لقد أرسلتُ في هذه الأيام برفقة طلابي الأعزاء رسالتين تخصان “الرموز الثمانية”، أرسلتهما إلى مكان ما، إلّا أن الطريق انسدّ، فلم تُرسَلا، فكررت مطالعتهما بدقة.
وساءلتُ فكري: تُرى لماذا أُسدِل الستار أمام هذا المسلك الذي يتسم بالتوافقات والذوق والجمال والاهتمام واللطف-بحساب الجُمّل بالأبجدية والجفر- ووُجّهنا إلى سلوك طريق آخر واستُعملنا فيه؟
فأُخطر على قلبي فجأةً: إن الانشغال بذلك المسلك الذي يَفتح مغاليق تلك الأسرار الغيبية يُلحق الضرر بالعمل لأسس الإسلام؛ فهذا العمل هو أهم من ذلك المسلك وأثمنُ منه وأقوَم، وهو محور الحاجة العامة ويَسد الحاجة الماسة للجميع بالعمل لأسس الإسلام، وهو خدمةُ خزينةِ الحقائق الإيمانية والاستفادة منها. ولهذا وُجِّهنا إلى سلوك هذا الطريق، لأن الانشغال بذلك المسلك يجعل المرء يَدَع أعظم المقاصد وأجلَّها -وهي الحقائق الإيمانية- في درجة تالية.
❀ ❀ ❀
(المقصد الأول هو الحقائق الإيمانية)
إخوتي الأعزاء الأوفياء..
لمناسبةِ تَلَقي أحد إخوتنا الصادقين المدققين في هذه الأيام صفعةَ تأديب طفيفةً من جراء عدم أخذه بالحذر، ولمناسبة استفسار “فيضي” و”أمين” وأخذهما الحيرة من اتخاذي طور عدم الرغبة في تلقي أي خبر عن أحوال العالم وأخبار السياسة والحرب، وعدم الاهتمام بها في غضون هذه الشهور الأربعة رغم علاقتي بها بِقَدَر آلاف الأشخاص.. فأقول: لهذه المناسبات، لزم أن أبحث ولو جزئيًّا عن حقيقة طالما بحثت عنها وبينتها كثيرًا، وهي الآتية:
بينما ينبغي أن تكون الحقائق الإيمانية أولَ مقصَدٍ وأسبقَه في هذا الزمان، وأنْ تبقى سائر الأمور في الدرجة الثانية والثالثة والرابعة، وفي الوقت الذي ينبغي أن تكون خدمة الحقائق الإيمانية برسائل النور أجَلَّ وظيفة، وموضعَ اهتمامٍ ولهفة، ومقصودةً بالذات، إلّا أن أحوال العالم الحاضرة، ولا سيما الحياة الدنيوية، ولا سيما الحياة الاجتماعية، والحياة السياسية خاصة، وأخبار الحرب العالمية بالأخص -التي هي تجلٍّ من تجليات غضب اللّٰه النازل عقابًا لضلالة المدنية الحاضرة وسفاهتها- والتي تستميل الناسَ إلى جانبها وتُهيِّج الأعصابَ والعروق حتى تدخل إلى باطن القلب، بل حتى مكَّنتْ فيه الرغباتِ الفاسدة المضرة بدلًا من الحقائق الإيمانية الرفيعة النافعة.
فهذا العصر المشؤوم قد غرز الناس بهذه الأمور وما زال، ولقّحهم بأفكاره وما زال، بحيث جعل العلماءَ الذين هم خارج دائرة رسائل النور، بل بعضَ الأولياء يُنزلون حكمَ الحقائق الإيمانية إلى الدرجة الثانية والثالثة بسبب ارتباطهم بتلك الحياة السياسية والاجتماعية منجرفين مع تلك التيارات، فيُولُون حبَّهم للمنافقين الذين يبادلونهم الفكر نفسه، ويعادون من يخالفهم الرأي من أهل الحقيقة بل من أهل الولاية وينتقدونهم، حتى جعلوا المشاعر الدينية تابعة لتلك التيارات.
فتجاه هذه المهالك العجيبة التي يحملها هذا العصر، فإن خدمة رسائل النور والانشغالَ بها قد أسقطا من عيني التياراتِ السياسية الحاضرة، إلى درجة لم أهتم في غضون هذه الشهور الأربعة بأخبار هذه الحرب ولم أسأل عنها.
ثم إن طلاب رسائل النور الخواص -وهم منهمكون بمهمة نشر الحقائق الإيمانية الثمينة- لا ينبغي لهم أن يورثوا الفتور في وظيفتهم المقدسة بمشاهدة لعب الشطرنج للظالمين، ولا يعكّروا صفو أذهانهم وأفكارهم بالنظر إلى لعبهم؛ فلقد وهب لنا سبحانه وتعالى النورَ والمهمة النورانية، وأعطاهم لعبًا مُظلِمةً ظالمة، فهم يستنكفون منا ولا يَمُدون يد المعاونة إلينا ولا يرغبون فيما لدينا من أنوار سامية، فمن الخطأ التنزلُ إلى مشاهدة لعبهم المظلمة على حساب وظيفتنا، فالأذواق المعنوية والأنوار الإيمانية التي هي ضمن دائرتنا كافيتان لنا.
تحياتنا إلى الأخوة جميعًا فردًا فردًا، ونهنئهم بعيدهم السعيد.
الباقي هو الباقي
سعيد النورسي
❀ ❀ ❀
(الحاجة إلى رسائل النور)
إن مباشرة هؤلاء الشيوخ الطيبين الأميين بالكتابة بعد تجاوزهم الأربعين من العمر، وتفضيلَهم لها على أي شيء آخر لأجل خدمة رسائل النور، وكذا تلقّي أولئك الأطفال الأبرياء الدرس من رسائل النور، وما استنسخوه من رسائل.. إن سعي هؤلاء جميعًا سعيًا جادًّا في هذا الزمان لَيبين بوضوح أن رسائل النور فيها من الذوق المعنوي والنور الجاذب بحيث تعجز الوسائل المستعملة في المدارس لحث التلاميذ على القراءة والكتابة أمام هذا الذوق والانشراح والسرور الذي تمنحه رسائل النور، حتى تدفعُ أولئك الأطفال والشيوخ إلى هذا العمل الجاد.
وكذا تُبين هذه الحالة أن رسائل النور تترسخ، ولن يقتلعها أي شيء كان بفضله تعالى، بل ستدوم إلى الأجيال المقبلة بإذنه تعالى.
إن سعي هؤلاء الشيوخ الأميين ضمن دائرة رسائل النور كهؤلاء التلاميذ الأطفال الأبرياء وقسمٍ من الرعاة، وفي هذا الزمان بالذات وتحت هذه الظروف العصيبة، وتفضيلَهم ذلك السعي على أي شيء آخر، يبين أن الحاجة إلى رسائل النور في هذا الزمان أكثر من الحاجة إلى الخبز، بحيث إن الفلاحين والرعاة يرون الحاجة الضرورية في حقائق رسائل النور أكثر من الحاجات الدنيوية الضرورية.
❀ ❀ ❀
(ما تُكسبه رسائل النور طلابَها)
حقيقة كُتبت لإخواني في قسطموني، بعثتُها إليكم علّها تفيدكم:
إن الذي تطلبه رسائل النور ثمنًا لما تُكسِبه طلابَها الصادقين الثابتين من مغانم ومكاسب عظيمةٍ جدًّا ومن نتائج عظيمةٍ جليلة هو: الوفاء الخالص الكامل والثبات الدائم الذي لا يتزعزع.
نعم، إن الإيمان التحقيقي الذي يمكن أن يُكسَب خلال خمس عشرة سنة، تُكسبه رسائلُ النور في خمسة عشر أسبوعًا، وإلى بعضهم في خمسة عشر يومًا.. يَشهد على هذا عشرون ألفًا من الشهود بتجاربهم في غضون عشرين سنة.
وكذا تُكسِب رسائلُ النور كلَّ طالبٍ من طلابها ثوابَ ألوفِ الدعوات الخالصة المقبولة التي تَلهج بها ألسِنَةُ الطلاب كل يوم، وكذا الأعمال الصالحة التي أنجزها ألوفٌ من أهل الصلاح والتقوى، وذلك حسب دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية.
والدليل على أنها تجعل كلَّ طالبٍ حقيقيٍّ صادقٍ ثابتٍ -من حيث العمل- في حكم ألوف الأشخاص: ما ورد من الإخبارات الثلاثة ذاتِ الكرامة عن الإمام علي رضي اللّٰه عنه وكراماته الغيبية، وكذا بشاراتُ الشيخ الكيلاني (قُدس سره) وتقديرُه للعاملين، وإشاراتُ القرآن المبين من أن أولئك الطلاب الخالصين يكونون من أهل السعادة ومن أهل الجنة؛ فتلك الإشارات والبشارات دليل وأيّ دليل.
نعم، إن كسبًا كهذا يستحق ذلك الثمن بلا شك.
وما دامت الحقيقة هي هذه، فينبغي للقريبين من دائرة رسائل النور من أرباب العلم وأهل الطريقة وأصحاب المشارب الصوفية الانضمامُ إلى تيار النور، ليُمدّوه بما لديهم من رأسمال سابق، والسعيُ لتوسيع دائرتها، وحثُّ طلابها، وبثُّ الشوق في نفوسهم، وإذابةُ الأنانية وإلقائها كقطعة ثلج في حوض الماء السلسبيل للجماعة ليغنم ذلك الحوض الكوثري كاملًا؛ وإلّا فمن يفتح نهجًا جديدًا ويسلك طريقًا آخر، يضرّ هذه الجادة القرآنية المستقيمة القويمة من دون أن يشعر، ويتضرر هو بنفسه أيضًا، بل قد يكون عملُه نوعًا من العون للزندقة دون شعور منه.
حذار.. حذار.. أيها الإخوة من أن تقذفكم التيارات الدنيوية، ولا سيما السياسية منها، ولا سيما التيارات التي تلفت الأنظار نحو الخارج: إلى التفرقة، إذ تجعلكم بعد ذلك عاجزين ضعفاء أمام الفرق الضالة المتحدة.. فحذار أن يجري فيكم حُكم ذلك الدستور الشيطاني والعياذ باللّٰه: “الحب في السياسة والبغض في السياسة”، بدلًا من الدستور الرحماني: “الحب في اللّٰه والبغض في اللّٰه”3انظر: أبو داود، السنن ٢؛ أحمد بن حنبل، المسند ٥/١٤٦؛ البزار، المسند ٩/٤٦١؛ وانظر: الطيالسي، المسند ١٠١؛ ابن أبي شيبة، المصنف ٦/١٧٠،١٧٢، ٧/٨٠.، إذ عندها تعادون أخًا لكم هو في الحقيقة كالمَلاك، وتُولُون الحب لرفيقٍ في السياسة وهو كالخناس، وتُبدون الرضا لظلمه، وتشاركونه في جنايته ضمنًا. فحذار حذار من هذا.
نعم، إن السياسة الحاضرة تفسد القلوب، وتدع الأرواح الحساسة في عذاب، فالذي يَروم سلامة القلب وراحة الروح عليه أن يترك السياسة.
نعم، إن كل إنسان في الوقت الحاضر، على الكرة الأرضية قاطبة، له نصيبه من المصائب الجارية إما قلبًا أو روحًا أو عقلًا أو بدنًا، ويعاني من العذاب والرهق ما يعاني، ولا سيما أهل الضلالة والغافلين؛ حيث إنهم غافلون عن الرحمة الإلهية الشاملة والحكمة السبحانية الكاملة. فمن حيث إنسانيتُهم وعلاقتهم بالبشرية يتعذبون بالآلام الرهيبة المفجعة التي تعانيها البشرية في الوقت الحاضر، فضلًا عن آلامهم أنفسهم، ذلك لأنهم قد تركوا وظائفهم الحقيقية وأمورهم الضرورية وأعاروا سمعهم بلهفة إلى ما لا يَعنيهم من صراعات سياسية وشؤون آفاقية، وحوادثَ خارجة عن طوقهم، ويتدخلون فيها حتى جعلوا أرواحهم حائرة وعقولهم ثرثارة، وسَلبوا من أنفسهم لياقة الإشفاق والرثاء عليهم حسب قاعدةِ “الراضي بالضرر لا يُنظر له“، أي من يرضى لنفسه بالضرر لا يستحق النظر إليه برحمة، فلا يُرثى لهم ولا يُشفَق عليهم، فهم الذين قد سبّبوا نزول البلاء بهم.
إنني أخال أنه في خضم هذه الأهوال والحرائق التي نشبت في الكرة الأرضية: لا يَقدر على الحفاظ على سلامة قلبه وراحة روحه إلّا أهلُ الإيمان وأهل التوكل والرضى الحقيقي، ومنهم أولئك الذين انضموا إلى دائرة رسائل النور بوفاء تام، فهم مصانون من تلك الأهوال أكثرَ من غيرهم، وذلك لأنهم يرون أثر الرحمة الإلهية وزبدَتها ووَجهَها في كل حادثة وفي كل شيء، لمشاهدتهم الأمور بمنظار نور دروس الإيمان التحقيقي الذي تلقَّوه من رسائل النور. فهم يشاهدون في كل شيء كمال حكمة اللّٰه، وجمال عدالته، لذا يجابهون المصائب -التي هي من إجراءات الربوبية الإلهية بالبشر- بالتسليم التام لأمر اللّٰه، فيُبدون الرضى به، ولا يقدِّمون شفقتهم على الرحمة الإلهية كي يقاسوا العذاب والألم.
وهكذا بناء على هذا، فالذين يريدون تذوق السعادة واللذة حتى في الحياة الدنيوية -فضلًا عن الحياة الأخروية- يمكنهم أن يجدوها في دروس رسائل النور الإيمانية والقرآنية.
تنبيهان نابعان من خاطرتين وردتا في هذه الأيام:
الأول: لقد فكرت في السيدات اللائي انتسبن إلى رسائل النور في هذه المدينة، إنهن ثابتات لا يهزّهن شيء كغيرهن من الناس، وإذا بهذا الحديث “عليكم بدين العجائز”4الغزالي، إحياء علوم الدين ٣/٧٨؛ السخاوي، المقاصد الحسنة ٢٩٠؛ السيوطي، الدرر المنتثرة ١٤؛ علي القاري، الأسرار المرفوعة ١٤؛ العجلوني، كشف الخفاء ٢/٩٢. أُخطر على قلبي، أي: عليكم باتباع الدين الخالص والعقيدة الراسخة التي لدى العجائز في آخر الزمان.
نعم، إن العجائز من السيدات ضعيفاتٌ وذواتُ حسٍّ مرهف وعطف وحنان، لذا فهن أكثر حاجة من غيرهن إلى ما في الدين من سلوان ونور يفيض بالشفقة، وإلى التفاتة رحمانية تتقطر بالرحمة، وإلى نقطة استناد ونقطة استمداد، الموجودة كلها في الدين، فالثبات الكامل من مقتضى فطرتهن؛ لذا فإن رسائل النور التي تفي بتلك الحاجة إيفاءً تامًّا في الوقت الحاضر، تجد الانشراح في أرواحهن وتستقر في قلوبهن أكثر من أي شيء آخر.
التنبيه الثاني: لقد جاءني أشخاص مختلفون عديدون في هذه الأيام، حسِبتُهم قد أتوني لأمور الآخرة، ولكن فهمت أنهم قد أتوني للاستشارة والدعاء لهم بالتوفيق في أمور التجارة، أو يراجعونني لرفع الكساد وعدمِ التوفيق في أعمالهم، ولينجوا من الخسارة والأضرار.
ففكرت: ماذا أعمل مع هؤلاء وماذا أقول لهم؟
فخطر على القلب فجأة: لا تكن أبلَهَ، ولا تتكلم ببلاهة، فتَدَعهم في بلاهتهم؛ لأن الوحيد الذي أُلقيتْ عليه مهمةُ تحضيرِ مضاداتٍ لسموم الثعابين وهو منهمك بدفعها عن الناس، لو ترك مهمته وسعى لدفع الذباب ممن هو بين الثعابين ومعرَّض لهجمات الذباب – مع وجود معاوِنين له كثيرين لدفع الذباب – إنما هو أبله بلا شك، والذي يستنجد به أبله أيضًا، وتلك المحاورة أيضًا محاورة بلهاء.
نعم، إن الأضرار الطفيفة المؤقتة للحياة الدنيوية الفانية القصيرة بالنسبة للحياة الأخروية الخالدة إنما هي كلسع الذباب، بينما أضرار الحياة الأخروية هي كلدغ الثعابين.
❀ ❀ ❀
(مسائل ستة أشخاص)
باسمه سبحانه
وإن من شيءٍ إلّا يسبح بحمده
السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته بعدد كلمات القرآن وحروفه.
إخوتي الأعزاء الأوفياء الميامين.. ويا إخواني الأقوياء النشطين الثابتين في خدمة القرآن..
لقد أصبح ستة أشخاص -النجار أحمد في البدء وآخرهم أنا- مدارًا لمسائل، كلٌّ على حده بناء على إخطار معنوي.
الأول: في رسالة النجار أحمد، وهو الفعال والنشط جدًّا من طلاب رسائل النور ومدرستِها، يذكر أنه:
أتى صبي صغير بريء يبلغ العاشرة من العمر، من قرية على مسافة يومين، تاركًا قريته وماله، وَوُفِّق إلى كتابة رسائل النور في عشرة أيام، مع أنه لم يَسبق له الكتابة من قبل؛ فكما أن هذا كرامة لرسائل النور، فهو زهرة خارقة لطيفة للمدرسة النورية.
نعم، ونحن نقول أيضًا: كما أن انفتاح الأزهار الجميلة في شتاء مادي قارس، حادثة خارقة للقدرة الإلٰهية، فإنّ تفتُّح ألفِ زهرة لطيفة جميلة وثمارِ الجنة في شجرة ساو -أي قرية ساو- في الشتاء المعنوي الرهيب لهذا العصر، لا شك أنه معجزةُ رحمةٍ وكرامةُ عنايةٍ ربانيةٍ لهذه البلدة، وإكرامٌ إلهيّ خارق لطلاب النور. نحن نعتقد هكذا ونتضرع إليه تعالى ونتوجه له بالشكر العميم.
وجاء في رسالة النجار أحمد: إن الطلاب النشطين في القرية يُذكِّرون بالطلاب المضحين القدماء الناشئين في المدارس الشرعية القديمة، مما منحنا وطلاب النور سرورًا بالغًا.
إنه لجميل جدًّا تلك المعاونةُ المعنوية التي تقدمها سيدات المدرسة النورية وطالباتها بأورادهن القرآنية وأذكارهن وبدعواتهن لأصحاب الأقلام الساعية للاستنساخ، وفي هذا إرشاد للسيدات في هذه المناطق.
ليرضَ اللّٰه أبدًا عنهم وعنهن وعن جميع طلاب تلك المدرسة وعن أساتذتهم.
الشخص الثاني ومسألته: قال لي يومًا أحد طلبة النور من الشباب الحافظ للقرآن الكريم مثل ما يقوله الكثيرون: يزداد عندي مرض النسيان يومًا بعد يوم، فماذا أفعل؟
قلت: لا تنظر نظر الحرام ما استطعت، لأن “النظر الحرام يورث النسيان” كما يروى عن الإمام الشافعي رضي اللّٰه عنه5لعل المقصود: شكوتُ إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال: اعلم بأن العلمَ نورٌ ونورُ اللّٰه لا يؤتى لعاصي.
نعم، إن النظر الحرام كلما ازداد بين المسلمين ثارت شهواتُهم النفسانية، فيتولد منها الإسراف والإفراط، حتى قد يضطر المرء إلى الاغتسال عدّة مرات في الأسبوع الواحد، مما يَنجم عنه ضعفٌ في قوة الحفظ كما هو معلوم لدى الطب.
ومما جعل انتشار مرض النسيان هذا عامًّا شاملًا للجميع هو شيوع التبرج والتكشف في هذا العصر، ولا سيما في بلدان المناطق الحارة، مما سبّب كثرةَ النظر الحرام الذي يولد الإسراف والإفراط، حتى تجدُ الجميع يشكون من النسيان، كلٌّ على قدر إصابته به.
ولعل طرفًا من تأويل الحديث الشريف الذي أنذر عن نزع القرآن الكريم من الصدور في آخر الزمان، يتحقق بازدياد هذا المرض. بمعنى أن هذا المرض سيشتد وطؤه، ويحُول دون حفظ القرآن الكريم، فيتحقق عندئذ تأويل الحديث. ولا يعلم الغيب إلّا اللّٰه.
الشخص الثالث ومسألته: إنه شخص ذو علاقة وطيدة معنا، يشكو مُرَّ الشكوى في أغلب الأوقات طالبًا العون وقائلًا: لا أستطيع أن أصبح رجلًا بمعنى الكلمة، بل فسدتُ وتضعضعت كلما مرّ الزمان، فلا أستطيع أن أرى نتائج خدماتي المعنوية.
ونحن نقول له: إن هذه الدنيا دار عمل وليس موضع أخذ الأجرة، فثواب الأعمال الصالحة وثمراتُها وأنوارُها تُمنح في البرزخ والآخرة. وإن جلبَ تلك الثمرات الباقية إلى هذه الدنيا وطلبَها في هذه الدنيا يعني جعل الآخرة تابعة لهذه الدنيا، وعندها ينثلم إخلاص تلك الأعمال الصالحة ويَذهب نورُها.
نعم، إن الثمرات لا تُطلب ولا تُنوى قلبًا، بل يُشكر عليها إذا ما مُنحت للحث.
نعم، إن هذا العصر -كما ذكر في بضع رسائل- قد غرز حبَّ الحياة الدنيوية في الإنسان وأجراه في عروقه فجَرَحَه جروحًا بالغة، حتى إن شيخًا هرمًا وعالمًا وتقيًّا صالحًا يطلب أذواق الحياة الأخروية في الدنيا، لجريان حكم الأذواق الحياة الدنيوية فيه أولًا.
الرابع: شخصٌ له علاقة مَعَنا يشكو كالكثيرين، أنه فقد أذواقه وأشواقه التي كان يجدها في أوراده سابقًا عندما كان منتسبًا إلى الطرق الصوفية، والآن يغلب عليه النوم والضيق.
فقلنا له: كما أن الفساد الذي يعتري الهواء يُولِد ضيقًا في الإنسان، ولا سيما فيمن له حساسية في الصدر، كذلك يَفسُد الهواء المعنوي أحيانًا، ولا سيما في هذا العصر الذي ابتعد عن المعنويات، ولا سيما في البلدان التي شاعت فيها الأهواء النفسانية والشهوية، ولا سيما بعد انقضاء الشهور الثلاثة المحرمة والشهور الثلاثة المباركة التي يتصفى فيها الهواء المعنوي بصحوة العالم الإسلامي وتوجُّهِ عموم الناس إلى اللّٰه.
وبانقضاء تلك الشهور وتوقُّف ذلك التوجه العام تجد الضلالاتُ الفرصةَ سانحة، للتأثير على إفساد الهواء، وخاصة تحت رزح مضايقات وصعوبات فصل الشتاء -إلى حدٍّ ما- يقل تسلط النوازع النفسانية وهجوم الدوافع الشهوانية عند أهل الإسلام والإيمان، مما يسوقهم للعمل باشتياق للحياة الأخروية.
ولكن بمجيء الربيع وعند ظهور الدوافع النفسانية والشهوانية، يضمحل الاشتياق والعمل للحياة الأخروية، وبدلًا من اشتياق وتذوق هذه الأوراد القدسية، يخيم الخمول والفتور.
بَيد أن الأعمال الصالحة والأمور الأخروية التي ترافقها المشقات والمصائب والمضايقات -رغم فقدها للأذواق- هي أسمى وأجزل ثوابًا، حسب مضمونِ: “خير الأمور أَحمزُها”6أحمزها: (أقواها وأشدها). انظر: علي القاري، المصنوع ١/٥٧؛ العجلوني، كشف الخفاء ١/١٧٥. لذا ينبغي للإنسان الشكر مسرورًا ومتجملًا بالصبر، لأمله في زيادة الثواب من خلال ذلك الضيق والمشقات.
الخامس: يُبرر أحد طلاب النور عدمَ سعيه لرسائل النور لازدياد هموم العيش.
فقلنا له: لأنك لا تسعى لرسائل النور ازدادت عليك همومُ العيش، لأن كل طالب في هذه المناطق يعترف -وأنا كذلك أعترف- أنه كلما سعينا لرسائل النور وجدنا السهولة في الحياة، والانشراح في القلب، واليسر في المعيشة.
السادس: هو هذا السعيد الضعيف. إن ما ينشرح له كل الناس ويرغبون به ويطلبونه من الاحترام والتوقير والمحبة والمجالسة -خارج نطاق رسائل النور- ثقيلٌ عليّ وأتألم منه ويولِد فيَّ الإزعاج.
وأظن أن المزايا الرفيعة لرسائل النور والخصال الراقية جدًّا لشخص طلابها المعنوي لو وضعت -تلك المعاني الضخمة كالجبال- على كاهلِ شخصٍ ضعيفٍ عاجزٍ مثلي قد بالغ في سلوك طريق العجز، فإنه ينسحق تحتها وينقبض من تلك الأمور.. هكذا فهمتُ.
الراجي دعواتكم والمشتاق إليكم
أخوكم
سعيد النورسي
❀ ❀ ❀
(العلاج الوحيد: رسائل النور)
إخوتي الأعزاء الأوفياء..
لا تتألموا من حادثة التعرض لنا التي وقعت حديثًا، لأن رسائل النور تحت العناية الإلهية، وثبت بتجارب عديدة، أنه لم يحدث لحدّ الآن أن نَجَت طائفةٌ من الطوائف العاملة في خدمات جليلة بمشقات قليلة مثلنا.
اعلموا وليعلم أولئك أيضًا: كما أن الصدقة تدفع البلاء، فإن رسائل النور وسيلةٌ لدفع الآفات السماوية من الأناضول ورفعِها، ولا سيما من إسبارطة وقسطموني.
نعم، إن رسائل النور سبب من أسباب نجاة الأناضول من مهالك الكرة الأرضية وعقابها، وكأنها سفينة نوح عليه السلام، بحيث جعلت الأناضولَ في حكم “الجودي”، لأن الطغيان الناشئ من ضعف الإيمان يجلب المصيبة العامة على الأكثر.
فرسائل النور التي تقوّي الإيمان، أصبحت وسيلة من الرحمة الإلٰهية لدفع تلك المصيبة العامة خارج دائرتها؛ فهؤلاء، أهل الدنيا وأهل الأناضول، عليهم ألّا يتعرضوا لرسائل النور حتى ولو لم ينخرطوا فيها، فلو تعرضوا لها فعليهم أن يفكروا بنشوب الحرائق وحدوث الطوفان وانتشار الطاعون المنتظر قريبًا، وليعودوا إلى رشدهم.
ولما كنا لا نتعرض لدنياهم، فهناك احتمال قوي في نزول البلايا عند تعرضهم -إلى هذا الحد وبلا مبرر- لآخرتنا.
ألا فليعلم أهل السياسة علمًا قاطعًا رغم أننا لا علاقة لنا بهم: أن العلاج الوحيد لإنقاذ الأمة في هذه البلاد وفي هذا العصر من الفوضى والإرهاب ومن التردي المريع والتدني الرهيب هو أسس رسائل النور.
وليعلم أولئك الأبرياء -وأساتذتهم- الذين تعرضوا لمضايقات من جراء هذه الحادثة، أن الذي يرابط تحت ظروف صعبة، ينال ثواب عبادة سنة، وأنّ ساعةَ تفكّرٍ إيمانيّ حقيقي في حكم سنة من الطاعة.
فنسأله تعالى أن تنال مضايقاتهم مثل هذا الثواب، لذا عليهم أن يقابلوا أمثال هذه الحوادث بالفرح والسرور بدلًا من القلق والتألم.
❀ ❀ ❀
(خدمتنا تسعى لإنقاذ النظام والأمن)
جاءني موظف مسؤول له علاقة معنا ومع السياسة، ومنشغل بمراقبتنا كثيرًا.
فقلت له: إنني لم أراجعكم منذ ثماني عشرة سنة، ولم أقرأ صحيفة واحدة من الصحف، وها قد مرت ثمانية شهور لم أسأل ولو مرة واحدة عما يحدث في العالم، ولم أستمع إلى الراديو الذي يُسمَع هنا منذ ثلاث سنوات.. كل ذلك كي لا يَلحق ضرر معنوي بخدمتنا السامية.
والسبب في ذلك هو أن خدمة الإيمان وحقائقِ الإيمان هي أجَلّ من كل شيء في الكون، فلا تكون أداة لأي شيء كان؛ فإن خدمة القرآن الكريم قد منعتنا كليًّا من السياسة؛ حيث إن أهل الغفلة والضلالة في هذا الزمان الذين يبيعون دينهم للحصول على حطام الدنيا، ويستبدلون بالألماس القطعَ الزجاجية المتكسرة، يحاولون اتهام تلك الخدمة الإيمانية بأنها أداة لتيارات قوية خارج البلاد، وذلك للتهوين من شأنها الرفيع.
فأنتم يا أهل السياسة والحكومة.. لا تنشغلوا بنا بناءً على الظنون والأوهام، بل عليكم أن تذللوا المصاعب لنا وتسهّلوا الطريق أمامنا، لأن خدمتنا تؤسس الأمن والاحترام والرحمة، وتسعى لإنقاذ النظام والأمن والحياة الاجتماعية من الفوضى والإرهاب، فخدمتنا ترسي ركائز وظيفتكم الحقيقية وتقويها وتؤيدها.
❀ ❀ ❀
(حول آثار سعيد القديم والجديد)
لقد اطلعت في هذه الأيام على الرسائل التي أتى بها “صلاح الدين” من إسطنبول، وهي: “حَبة، قطرة، شمة، حباب” وأمثالها من الرسائل باللغة العربية، فرأيت أن الحقائق التي شاهَدها مباشرةً سعيدٌ الجديد في سيره القلبي هي بمثابة نَوًى لرسائل النور، علمًا أن هذه الرسائل -علاوةً على “شعلة” و”زهرة”- هي أجزاء عربية من رسائل النور، ولكن ذُكرتْ فيها الحقائق بعبارات موجزة وبالعربية، لأنها تخاطب نفسي بالذات، فلم يُتخذ غيرها بنظر الاعتبار.
وقد قدّرها بإعجاب واستحسان في ذلك الوقت كلٌّ من شيخ الإسلام وأعضاءِ دار الحكمة الإسلامية وكبارِ علماء إسطنبول.
فهذه الرسائل لأنها من آثار سعيد الجديد، فهي أجزاء من رسائل النور؛ أما من آثار سعيد القديم فإن كتاب “إشارات الإعجاز” فقط قد تبوأ موقعًا مهمًّا في رسائل النور.
ثم إن رسالة “اللوامع” التي اشترك السعيدان في تأليفها بين هلالَي شهر رمضان، والتي اتخذت شكلًا شبيهًا بالمنظوم -خارج إرادتي- هي الأخرى يمكن أن تدخل ضمن رسائل النور، إلّا أنني -مع الأسف- لم أتمكن من الحصول ولو على نسخة منها، حيث نفدت نسخها المطبوعة لكثرة الإقبال عليها.
وكذا فإن لسعيد القديم رسالة “قزل إيجاز” في المنطق، وهي مترشحة من رسالة “تعليقات” غير المطبوعة، وهي رسالةٌ بديعة في المنطق، حتى تَحَيَّر منها العلماء الفطاحل، فساقتهم إلى الإعجاب والاهتمام، فرأيت أنها جديرة بلفت أنظار العلماء من طلاب رسائل النور إليها وبيان مدى ارتباطها برسائل النور، إلّا أنها عميقة الغور جدًّا، وقد درَّستُ “فيضي” منها في هذه الأيام، ولربما سيكتب “فيضي” ذلك الدرس بالتركية في الأيام المقبلة لإفادة الآخرين.
❀ ❀ ❀
(دور الجوع في فتنة آخر الزمان)
إخوتي الأعزاء الأوفياء الثابتين ووارثيَّ الحقيقيين..
لقد أُخطر على قلبي في هذه الأيام -باسم طلاب رسائل النور- سؤال معنوي في غاية الأهمية والقلق، ثم أدركتُ أن ألسِنة أحوال أكثر طلاب رسائل النور تسأل السؤال نفسه وستسأله، وفجأةً ورد جوابٌ إلى الخاطر قلته لفيضي، فقال: في الأقل نسجله مجملًا.
والسؤال المقلق هو: يُفهَم من الروايات أن الجوع سيؤدي دورًا مهمًّا في فتنة آخر الزمان هذه، وأن أهل الضلالة يحاولون بهذا التجويع إغراقَ أهل الإيمان الضعفاء الجائعين في متطلبات هموم العيش، حتى يُنَسُّوهم مشاعرهم الدينية أو يجعلوها في المرتبة الثانية أو الثالثة.
ولما كان لأهل الإيمان وللأبرياء من حيث القدر الإلهي وجهُ رحمةٍ ووجهُ عدالة في كل شيء، حتى في عذاب القحط.. تُرى بأي طرزٍ تكون هذه الرحمة والعدالة في هذا الأمر؟ ومن أية جهة يستفيد أهلُ الإيمان ولا سيما طلاب رسائل النور من هذه المصيبة من حيث الإيمان والآخرة؟ وكيف يتصرفون معها ويقاومونها؟
الجواب: إن أهم سبب لهذه المصيبة هو العصيان النابع من كفران النعمة، وعدمِ الشكر، وعدم تقدير النعمة الإلهية حقَّ قدرها؛ لذا فإن العادل الحكيم لأجل إراءة اللذة الحقيقية لنِعَمه، ولا سيما الأغذية منها، ولا سيما ما يخص الحياة، ولا سيما النعمة الكبرى: الخبز.. ولبيان أهميته العظيمة ودرجته الفائقة من حيث النعمة، فإنه سبحانه يَسوق الناس إلى الشكر الحقيقي -وفقًا لحكمته تعالى- فتَنزِل هذه المصيبة بالذين لا يشكرون ربهم ولا يراعون الرياضة الدينية في شهر رمضان؛ فعدلُه سبحانه وتعالى محضُ الحكمة.
إن مهمة أهل الإيمان وأهل الحقيقة، ولا سيما طلاب رسائل النور، هي السعيُ لجعل بلاء الجوع هذا وسيلةَ الالتجاء إلى اللّٰه، والندمِ على الذنوب، والتسليمِ لأمر اللّٰه، كالجوع الذي يصيب المرءَ عند مزاولته الرياضة الدينية في شهر رمضان، والحيلولةُ دون فتح السبيل أمام التسول والسرقة والفوضى بحجة الضرورة.
وإن مهمة أهل المرتبات والأغنياء الذين لا يَرأف قسمٌ منهم لحال الفقراء الجائعين أن يستمعوا لرسائل النور فيسْعَوا لمعاونتهم بدفع الزكاة بشعورهم الرأفة على حالهم بهذا الجوع الاضطراري..
وجعْلُ الشباب تلك الحادثة لصالحهم بدلًا من أن تكون بلاءً عليهم، وذلك باسترشادهم برسائل النور، فيستفيدوا منها استفادة الغيارى، حيث تَحدّ المصيبةُ من طغيان نفوسهم وتَحول بينهم وبين نزواتها وأذواقها الدنيئة، حتى يدخلوا حظيرة الطاعة والخيرات، وينسحبوا -إلى حدٍّ ما- من الذنوب والفحش بعدما أطغوا نفوسَهم بالأطعمة اللذيذة فأفقدوها وعيَها وساقوها إلى الطغيان والهوى الدنيء..
وأن ينظر أهلُ العبادة والصلاح إلى هذا البلاء النازل بهم كرياضة شرعية في هذا الوقت الذي أصبح أغلبُ الناس جياعًا، واختلط المال الحرام بالحلال اختلاطًا شديدًا، حتى استحال تمييز أحده عن الآخر وأصبح بمثابة الأموال المشبوهة، فيَقنعوا بمقدار الضرورة من الإعاشة العامة -التي يشترك فيها الجميع ضمنًا- ليكون حلالًا، فيقابلوا القدر الإلهي بالرضا بدلًا من الشكوى.
تحياتي إلى الإخوة جميعًا والمبتلَين منهم خاصة وأدعو اللّٰه لهم بالسلامة.
❀ ❀ ❀
(الالتحاق برسائل النور)
لقد أتى واعظ مشهور من إسطنبول لزيارتي، إلّا أنه عاد دون أن يتمكن من المقابلة. فها هي صورة رسالة أُرسلت إلى أحدهم، لعل هناك أشخاصًا -كهذا الشخص- محتاجون إلى ذلك الخطاب.
إن طلاب رسائل النور الذين مرُّوا بإسطنبول أخبَرونا عن همتكم ونشاطكم ووعظكم المؤثر، فهم يرغبون في رؤيتكم ضمن دائرة رسائل النور وأنتم الشخص الثابت الخالص، وأنا كذلك أرغب بجدٍّ في أن أراكم ضمن دائرة رسائل النور.
تعلمون أن ألِفَينِ إذا ما كانتا متفرقتين لا تكون قيمتهما إلّا اثنتين، بينما إذا اتّحدتا على خط واحد متكاتفتين تكون قيمتهما إحدى عشرة؛ فالخدمة الإيمانية التي تهيئونها بنصائحكم السديدة المؤثرة إذا ظلت وحدها فمن الصعب أن تقاوِم الهجماتِ المتحدة في الوقت الحاضر، بينما إذا التحقت بخدمة رسائل النور فستكون -كتلكما الألفين- قيمتها إحدى عشرة، بل أَلفًا ومائة وإحدى عشرة وفي قوتها، وستقاوم الضلالات المتفقة المواجِهة لها.
إن هذا الزمان -لأهل الحقيقة- زمانُ الجماعة، وليس زمانَ الشخصية الفردية وإظهارِ الفردية والأنانية، فالشخص المعنوي الناشئ من الجماعة هو الذي يَنفُذ حكمُه ويصمد تجاه الأعاصير؛ فلأجل الحصول على حوض عظيم، ينبغي للفرد إلقاء شخصيته وأنانيته -التي هي كقطعة ثلج- في ذلك الحوض وإذابتُها فيه، وإلّا فستذوب حتمًا تلك القطعةُ من الثلج، وتذهب هباءً، وتفوت الفرصة من الاستفادة من ذلك الحوض أيضًا.
إنه لمن العجب وموضع الأسف أن يُضيِّع أهل الحق والحقيقة القوةَ العظمى في الاتفاق بالاختلاف فيما بينهم، بينما يتفق أهل النفاق والضلالة للحصول على القوة المهمة فيه -رغم اختلاف مشاربهم- فيَغلبون تسعين بالمائة من أهل الحقيقة، مع أنهم لا يتجاوزون العشرة بالمائة.
❀ ❀ ❀
(شجاعة المضحين)
إخوتي الأعزاء الأوفياء..
الآن وقبل عشر دقائق أتاني شخصان بشجاعة وغيرة، وهما أميّان، قد جلب أحدهما الآخر إلى دائرة رسائل النور.
فقلت لهما: إنه مقابل ما تَمنح هذه الدائرةُ من نتائج عظيمة لكم، يستدعي وفاءً لا يتزعزع، وصلابة لا تلين؛ فإن أساس خدمة النور التي يُظهرها أبطالُ إسبارطة هو وفاؤهم الخارق وصلابتهم الشديدة، وإن قوة الإيمان وخصلة الإخلاص هي سبب هذه الصلابة والمتانة. والسبب الثاني: الشجاعة الفطرية.
وقلت لهم: أنتم معروفون بالشجاعة والنُبل، وتُظهرون البسالة والتضحية لأمور دنيوية تافهة، فلا شك أنكم تحافظون على وفائكم في الخدمة السامية لرسائل النور، ومقابلَ النتائج الأخروية التي لا تثمَّن بإظهاركم صلابة الرجال الغيورين وشجاعةَ المضحين الفدائيين.
قلت لهم هذا، وقبلوه ورضوا به.
❀ ❀ ❀
(لِمَ ينظرون إليك كأنك سياسي؟)
جواب لسؤال طرحه طلاب النور الذين يلازمون “الأستاذ” ويعاونونه في شؤونه.
سؤال: نحن نقوم بمعاونتكم في شؤونكم منذ مدة طويلة، فلم نَرَ منكم اهتمامًا بالدنيا وتوجهًا إلى الحياة الاجتماعية والسياسة، فشُغلكم الشاغل دروس الإيمان والآخرة؛ ولقد أدركنا أنكم على هذا الوضع منذ ثماني عشرة سنة خَلَتْ، فلماذا إذن ساقوكم إلى المحكمة وأثاروا الناس في إسبارطة دون داعٍ؟!
ولم يجدوا في مائةٍ من رفقائكم أية علاقة تمس الدنيا والسياسة إلّا حجة واهية تُخجِلهم وتُخجِل محكمتهم إلى الأبد -بعد تحقيقاتٍ دامت أربعة أشهر- فحَكَموا على بضعة أشخاصٍ بين المائة ببضعة أشهر.
ثم إنكم لِسِتِّ سنواتٍ وأكثر تحت مراقبة المخفر وأمام نظره، فجميع أحوالكم ظاهرة دائمًا أمام المخفر من شبابيك غرفتكم، وإلى ما قبل شهرين أو ثلاثٍ يترصدونكم سرًّا وعلنًا، وتحرَّوا غرفتكم عدة مرات، لينفّروا عنكم الأصدقاء، فلماذا ينظرون إليكم نظرَ سياسي قدير مثير للقلاقل؟!
فنحن حائرون من هذه الحالة، فضلًا عن تألمنا منها، ولم تتيسر زيارتكم بحرّية إلا منذ شهور فقط، حيث كنا سابقًا نأتي خُفْية وبخوف. نرجو إيضاح هذه المسألة.
الجواب: وأنا في حيرة وعَجَب مثلُكم بل أكثر منكم، فالجواب الواضح لسؤالكم هذا موجود في “اللمعة السابعة والعشرين”، وهي لمعة الدفاع أمام المحكمة، وفي “المكتوب السادس عشر”.
والآن أُبين باختصار أساسين اثنين:
الأساس الأول: إن من مقتضى وظيفة المسؤولين عن النظام والإدارة وشرطة الأمن: حفاظَ مسلكنا والحث عليه، ناهيك عن الوقوع في الشكوك والريوب والأوهام، لأن الحجر الأساس لوظيفتهم: الاحترام والرحمة ومعرفة الحلال والحرام؛ ويمكن أن يسود الأمن والنظام في الحياة الاجتماعية بدساتير الطاعة والانقياد، فرسائل النور تحقق هذه الأسس لدى نظرها إلى الحياة الاجتماعية، وقد ظهرت نتيجتُها فعلًا.
وحيث إن أهم مركزين لرسائل النور هما إسبارطة وقسطموني، فإن ضباط الأمن إذا ما دققوا بإنصاف سيرون معاونة رسائل النور الواضحة لهم، وذلك قياسًا بسائر الولايات.
ثم إنه رغم كثرة طلاب رسائل النور، ورغم ما في أيديهم إلى هذا الحد من القوة والحق، لم يَمَسُّوا الأمن والنظام بشيء، بل لم يُخِلَّ ألف طالب منهم بالحياة الاجتماعية بقدر ما يُخِلُّ به عشرة أشخاص آخرين، وإن هذا الأمر مشاهَد لمن كان له قلب غير فاسد.
إن حكمة هذه المسألة هي أن الإيمان والشريعة والحياة ثلاث مسائل عظيمة في العالم الإسلامي والإنساني، وأعظم هذه الثلاثة هي الحقائق الإيمانية؛ ولأجل ألّا تكون هذه الحقائق الإيمانية القرآنية أداةً لتيارات أخرى ولقوًى أخرى، وللحيلولة دون التهوين من شأن الحقائق القرآنية -التي هي بقيمة الألماس- إلى قيمة قطع زجاجية متكسرة، ولأجل الإيفاء بالخدمة المقدسة التي هي إنقاذُ الإيمان إيفاءً تامًّا: يَنْفِر طلاب رسائل النور الخواص الصادقون نفورًا شديدًا من السياسة.
حتى إن أخاكم هذا -وأنتم تعلمون- ومنذ ثمانية عشر عامًا لم أُراجع الحكومة ولو لمرة واحدة، وذلك لئلا أمسّ السياسة والحياة الاجتماعية رغم حاجتي إليها؛ وهذه الشهور التسعة التي خلَتْ لم أسأل ولو لمرة واحدة عمّا يدور على الكرة الأرضية من اضطراباتٍ وقلاقل، ولم أهتم بها ولم أرغب في معرفتها، ولم أحاول أن أدير البحث حولها، حتى إنني لم أعرف لحدّ الآن هل انتهت الحرب أم لا؟ ومن هم المحارِبون عدا الإنكليز والألمان؟ وأنتم أعلم بهذا.
وأنتم المرافقون لي تعلمون كذلك أنني لم أستمع إلى الراديو الذي يُسمَع من غرفتي منذ ثلاث سنوات -عدا مرتين- ذلك الجهاز الذي حوَّل الناس إلى ثرثارين وحائرين غافلين، ولم أسأل عنه؛ فالذين يتعرضون لمسلك هذا الرجل الذي لا علاقة له بهذه الأوضاع إلى هذه الدرجة ولا يَنظر إليها قطعًا، ومِن ثم تساورهم الشكوك حوله ويترصدونه ويضايقونه: كم هم بعيدون عن الإنصاف! يُصدِّق ذلك حتى أبعدُهم عن الإنصاف.
المسألة الثانية: إخواني.. تعلمون أننا نهرب -في مسلكنا- من الأنانية والغرور وحب الذات والتطلع إلى نيل المقامات المتسترة بالشهرة، نهرب منها هروبَنا من السم القاتل، ونتجنب كثيرًا من كل ما يشعر بتلك الحالات.
فعلى سبيل المثال: لقد شاهدتم هنا بأم أعينكم طوال سبع سنوات وأدركتم بتحقيقاتكم وتتبعاتكم منذ عشرين سنة: أنني لا أريد إحراز احترامٍ ونيل مقامٍ لشخصي. ولقد نهرتُكم عن ذلك بشدة، وأستاء منكم إن منحتموني منزلةً تفوق حدّي، فلا أقبل إلا ارتباطكم برسائل النور -التي هي معجزة معنوية للقرآن الحكيم في هذا الوقت- ارتباطَ تسليمٍ لها وتصديقٍ بها.. أقبل هذا الارتباطَ شاكرًا للّٰه من حيث أنا طالبٌ من طلابها.
لذا فحتى البلهاءُ يدركون كم هو تافه ولا يعني شيئًا مساورةُ الشكوك والريوب أذهانَ أهل الحكومة والإدارة وأفراد الأمن، تجاه الذين اجتنبوا -إلى هذا الحد- الأنانيةَ والغرور والرياء المتستر تحت الصيت والشهرة، وجعلوا هذا التجنب دستورًا لحياتهم.
سعيد النورسي
❀ ❀ ❀
(انتصار رسائل النور)
إخوتي الأعزاء الأوفياء الثابتين..
إن انتصار المبتلين انتصارًا معنويًّا ببراءتهم في المحكمة، لم يُدخل السرور والفرح في قلوبنا نحن وحدنا، بل أبهج أيضًا جميعَ أهل الإيمان في البلاد، لأن هذه البراءة فتحت المجالَ لإطلاق نشر رسائل النور. فلقد اضطررنا إلى اتخاذ الحيطة والحذر لحدّ الآن، وذلك خشية المصادرة، فكنت أعاني من الصعوبات الجمّة في إخفاء الرسائل في غضون السنوات الثماني عشرة التي مرت، ولا سيما في هذه السنوات الست هنا، وكنا نعاني جميعًا من القلق والاضطراب على الرسائل.
فشكرًا للّٰه تعالى وحمدًا وثناءً له بعدد حروف رسائل النور، فإن ظهورها المعنوي وتَغَلُّبها في هذه المرة وهتْكَها لأستار الظلم والظلمات هيأ الأوساط لفتوحات واسعة وأجر عظيم بتعب قليل، فلقد أصبح هذان الشهران لفترة التوقف وسيلةً لانتشار رسائل النور بطراز آخر في أوسع محيط كما حدث في السجن.
نهنئكم يا إخوتي، ولا سيما المبتَلين، وبخاصةٍ “الحافظ محمد”، ونقول لهم: حمدًا للّٰه على السلامة؛ إن المحكمة التي زجت مائة من الأشخاص في الحبس ولمائة يوم لأجل رسالةٍ واحدة -وهي رسالة “الحجاب”- لم تستطع أن تزج في السجن شخصًا واحدًا ليومٍ واحدٍ ومعه مئات من الرسائل أمثالِ تلك الرسالة، وما ذلك إلّا من إخلاصكم الخارق وصلابتكم التي لا تتزعزع وترابطكم الوثيق.
فقد ثَبَت لنا هذا قطعًا، ولم تَبق لدينا أي شبهة فيه، ليرضَ اللّٰه عنكم أبدًا. آمين.
❀ ❀ ❀
(الحلول بين طلاب النور)
إخوتي الأعزاء الأوفياء..
نهنئكم بحلول الشهور الثلاثة المباركة التي تُكسبكم أكثر من ثمانين سنة من العمر المعنوي ولا سيما ليلة الرغائب -ليلة الجمعة الأولى من رجب- فإن لبراءتكم من المحكمة وظهوركم عليهم معنًى قد أوقع الظالمين في حيرة.
ولقد غيّروا خطتهم هنا؛ إذ بدأوا -باسم الصداقة- بالحلول بين طلاب رسائل النور الخواص تاركين الهجوم العدائي، ليَحملوهم على التخلف عن خدمة رسائل النور، فيوجِدون لهم مشاغل الوظائف، أو يرفعون من مرتَّبهم، ويحوّلونهم إلى وظائف أخرى أو أية مشغلة أخرى.
فهناك وقائع كثيرة أمثال هذه هنا، يبدو أن هذا التعرض أكثر ضررًا من ناحية.
❀ ❀ ❀
(الرسائل بالحروف اللاتينية)
لقد دخلتْ رسالةٌ مؤثِّرة من رسائل النور إلى المدرسة الإعدادية هنا، إذ سمحنا -بإذنٍ معنوي- أن تكون بالحروف اللاتينية وبالآلة الطابعة، والرسالة تتضمن: الموقف الأول من الكلمة الثانية والثلاثين، واسمَي “العدل والحكم” من اللمعة الثلاثين، ورسالة الطبيعة -إلى الخاتمة- والآية الكبرى من المقام الأول إلى المرتبة الثامنة عشرة -مما سوى مرتبتَي الوحي والإلهام-.
واجعلوا كذلك من هذه القِطَع الأربع من الرسائل مجلدًا واحدًا وبالحروف الجديدة، واقذفوها قنبلةً عظيمةً على رؤوس أهل الإلحاد.
ولما كنتُ في هذه السنة في شدة العجز والضعف والشيخوخة، أرجو من إخوتي الشباب أن يعينوني معنويًّا بدعواتهم في هذه الشهور الثلاثة المباركة.
تحياتي إلى الإخوة جميعًا فردًا فردًا، وندعو لسلامتهم في الدارين.
سعيد النورسي
❀ ❀ ❀
(التقوى والعمل الصالح)
إخوتي الأعزاء الأوفياء..
لقد فكرت -في هذه الأيام- في أسس التقوى والعمل الصالح، اللذَين هما أعظم أساسين في نظر القرآن الكريم بعد الإيمان، فالتقوى هي ترك المحظور والاجتناب عن الذنوب والسيئات؛ والعمل الصالح هو فعل المأمور لكسب الخيرات.
ففي هذا الوقت الذي يتسم بالدمار -الأخلاقي والروحي- وبإثارةِ هوى النفس الأمّارة، وبإطلاق الشهوات من عقالها.. تصبح التقوى أساسًا عظيمًا جدًّا، بل ركيزةَ الأسس، وتكسب أفضليةً عظيمةً حيث إنها دفع للمفاسد وترك للكبائر، إذ إن “درء المفاسد أولى من جلب المنافع” قاعدة مطردة في كل وقت.
وحيث إن التيارات المدمرة أخذت تتفاقم في هذا الوقت، فقد أصبحت التقوى أعظمَ أساس وأكبر سد لصد هذا الدمار الرهيب، فالذي يؤدي الفرائض ولا يرتكب الكبائر ينجو بإذن اللّٰه، إذ التوفيق إلى عمل خالص مع هذه الكبائر المحيطة أمر نادر جدًّا، وإن عملًا صالحًا ولو كان قليلًا يغدو في حكم الكثير ضمن هذه الشرائط الثقيلة والظروف العصيبة.
ثم إن هناك نوعًا من عمل صالح ضمن التقوى نفسها، لأن ترك الحرام واجب، والقيام بالواجب ثوابه أكثر من كثير من السنن والنوافل، ففي مثل هذه الأزمان التي تهاجِم الذنوب والسيئات الإنسانَ من كل جانب، يكون الاجتناب الذي حصل بجهدٍ قليلٍ تركًا لمئات من الآثام، فيكون بمثابة القيام بمئات من الواجبات.
هذه النقطة جديرة بالاهتمام، ولا تحصل إلّا بالنية الخالصة وبالتقوى وقصد الفرار من الآثام والذنوب، ويغنم المرء بها ثواب أعمال صالحة نشأت من عبادة لم يَصرِف فيها جهدًا.
إن أهم وظيفة تقع على عاتق طلاب النور خدامِ القرآن الكريم، في هذا الوقت هي اتخاذُ التقوى أساسًا في الأعمال كلها، ثم التحركُ وَفْقَها أمام تيار الدمار الرهيب المهاجم والآثام المحيطة بهم، إذ يواجه الإنسانُ ضمن أنماط الحياة الاجتماعية الحاضرة مئاتٍ من الخطايا في كل دقيقة، فالتقوى هي التي تجعل -دون ريب- الإنسانَ كأنه يقوم بمئاتٍ من الأعمال الصالحة، وذلك باجتنابه تلك المحرمات.
من المعلوم أن عشرين شخصًا في عشرين يومًا لا يستطيعون بناء عمارة واحدة، في حين يستطيع أن يهدمها شخص واحد في يوم واحد؛ لذا فالذي يقوم بالهدم والدمار ينبغي أن يقابَل بعشرين ممن يبنون ويعمِّرون تلك النواحي، بيد أننا نرى العكس، فالألوف من الهدامين لا يقابلهم إلا معمِّر واحد وهو رسائل النور، فمقاومة رسائل النور وحدها تلك التخريباتِ المريعةَ إنما هي عمل خارق جدًّا، فلو كانت هاتان القوتان المتقابلتان على مستوى واحد من القوة، لكنت ترى في التعمير والبناء -الروحي والأخلاقي- خوارقَ وفتوحات عظيمة جدًّا.
ولنضرب مثلًا واحدًا فقط: إن أعظم ركيزة في الحياة الاجتماعية هي توقير الصغير للكبير ورحمة الكبير للصغير، إلا أننا نرى أن هذا الأساس قد تصدع كثيرًا، حتى إننا نسمع أخبارًا مؤلمة جدًّا، وحوادث مفجعة جدًّا تجاه الآباء والأمهات، تقع من جراء خراب هذا الأساس الراسخ.
ولكن بفضل اللّٰه فإن رسائل النور أينما حَلَّتْ قاومتْ الدمار، وحالت دون تهدم هذا الأساس الاجتماعي المتين، بل حاولت تعميره.
فكما يعيث يأجوج ومأجوج في الأرض الفساد بخراب سد ذي القرنين، فإن فسادًا أبشع من فساد يأجوج ومأجوج قد دبَّ في العالم وأحاطه بظلماتِ الإرهاب والفوضى، وعمت الحياةَ والأخلاقَ مظالمُ شنيعةٌ وإلحادٌ شنيع.. فظهر الفساد في البر والبحر، نتيجةَ تزلزل السد القرآني العظيم، وهو الشريعة المحمدية الغراء.
لذا فإن الجهاد المعنوي لطلاب النور ضد هذا التيار الجارف يُعَدّ -بإذن اللّٰه- جهادًا عظيم الثواب، إذ فيه قبس من جهاد الصحابة الكرام رضوان اللّٰه عليهم الذين يثابون بعملٍ قليل ثوابًا عظيمًا.
فيا إخوتي الأعزاء.. في مثل هذه الأوقات العصيبة، وأمام هذه الأحداث الجسام، فإن أعظم قوة لدينا -بعد قوة الإخلاص- هي قوة “الاشتراك في الأعمال الأخروية”، إذ يَكتب كلٌ منكم في دفتر أعمال إخوته حسناتٍ كثيرة مثلما يُرسل بلسانه الإمدادَ والعون إلى قلعة التقوى وخنادقها.
وإن أخاكم الفقير والعاجز هذا “السعيد” الذي اشتدت عليه غارات الهجوم من كل جهة، هو أحوج ما يكون إلى مساعدتكم في هذه الأشهر الثلاثة المباركة، وفي هذه الأيام المشهودة؛ ولا أستبعد هذا منكم قط، فأنتم أهل لهذا السعي، وأنتم الأبطال الأوفياء المشفقون على حال أخيكم، وأنا أطلب منكم هذا الإمداد المعنوي بكل جوارحي ومن صميم روحي. وبدوري سأشرك الطلاب في دعواتي وحسناتي المعنوية، بل ربما أدعو لكم في اليوم أكثر من مائة مرة باسم طلاب النور، بشرط الالتزام بالإيمان والوفاء، وذلك دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية.
❀ ❀ ❀
(ترك فضول النفس)
إخوتي الأعزاء الأوفياء..
لمناسبة مجيء فرقة من الجيش إلى هذه الجهات أمس قال لي أمين: إن صلة روسيا قد انقطعت عن القفقاس. علمًا أنني لم أكن أعرف استمرار الروس في الحرب ولم أرغب في معرفته، فقطعتُ عليه الكلام، إلّا أن قلبي أظهر اهتمامًا بالموضوع.
وفي هذا اليوم عند ما كنتُ في الصلاة وفي الأذكار التي أعقبتْها، ورد إلى القلب معنًى، أن الصراع الدائر في الكرة الأرضية بين التيارات المتحاربة ستميل إحداها إلى الإسلام والقرآن ورسائل النور وإلى مسلكنا لا محالة، فينبغي النظر إليه من هذه الزاوية. وعلى الرغم من أن الأسباب الداعية إلى عدم النظر إليه -والتي كتبتُها في رسالتين سابقتين- كافية للقلب والعقل، إلّا أنها لا تُشبع النفس المتلهفة للحوادث.
وخطر على القلب في الأذكار نفسِها، أن سببه المهم هو تنبّهُ شعور الانحياز عند النظر إليه، حيث إن نظر المنحاز كليلٌ عن ذنوب من يميل إليه، فيرضى بظلمه، بل قد يبتهج ويفرح ويرحّب به. والحال “كما أن الرضا بالكفر كفر، كذلك الرضا بالظلم ظلم“. فلا شك أن في هذا الصراع القائم على الكرة الأرضية مظالمَ ودمارًا تبكي من هوله السماواتُ، إذ تَضيع وتفنى حقوقُ كثير من الأبرياء والمظلومين، لأن دستور المدنية الدنيّة الظالم هو: أنه يُضحَّى بالفرد لأجل الجماعة، ولا يُنظر إلى الحقوق الجزئية من أجل سلامة الأمة.
وقد فتح هذا الدستورُ ميدانَ مظالمَ شنيعةٍ لم يُرَ مثلها حتى في القرون الأولى، بينما العدالة الحقيقية للقرآن المبين أنه لا يُفدى بحق الفرد لأجل الحفاظ على الجماعة، فالحق حق، لا ينظر إلى كثيره وقليله.
فهذا هو القانون السماوي والعدالة الحقة، لذا فالذين ينشغلون بحقائق القرآن كطلاب رسائل النور، إن لم تكن هناك ضرورة فلا ينظرون إلى تلك الأمور لإشباع الفضول وحده، دون أن يجنوا فائدة ما. ولا يليق بهم الانشغال فكريًّا بمتابعة أعمال ذلك التيار على أمل أن يخدم الإسلام والقرآن في النتيجة، حيث إن النتيجة لم تحصل، فلا داعي إلى تشجيع تخريباتهم الظالمة.
وبهذا تَبِعَتْ النفسُ العقلَ والقلبَ وتركتْ فضولَها… نعم، هكذا فهمتُ.
المسألة الثانية: إن إحراز رسائل النور النصرَ في إسبارطة والغلبةَ فيها قد فاجأ الزنادقةَ وأذهلهم، لذا قام بعض هؤلاء الزنادقة المتمردين والمعاندين، ممن يحملون الروح الخبيثة وأفكارَ ذلك الشخص الذي ولّى ومات، -سترًا لهزيمتهم هذه- بالهجوم على القرآن وعلى الرسول (ﷺ) من طرَفٍ خفي، في مؤلَّفٍ نشَرَه واستعمل فيه هذا المتسمي بالإسلام كلماتٍ ممجوجة غير لائقة، كالتي وردت في المناظرة مع الشيطان وحزبه، إذ جمع ما قاله أمثاله من اليهود والفلاسفة الملحدين والمتمردين في أوروبا وزنادقتها منذ سالف العصور من افتراءات على القرآن والرسول الكريم (ﷺ).
ولأجل إسماع المسلمين الساذجين والذين لم يطّلعوا على رسائل النور مثلَ هذه الأمور وإراءتهم لها، فقد سلك هذا الزنديق بحذلقةٍ وخبثٍ مسلكًا أخفى زندقته إخفاءً دقيقًا بحيث سبق الشيطانَ في شيطنته، وتألمت كثيرًا جدًّا من هذا، وقد وردتْ في رسالة أخينا صبري: أن الخُدَعَ والشباكات التي ينصبها الملحدون العنيدون -تجاه تيار رسائل النور- واهية جدًّا، بل أوهن من بيت العنكبوت. فتلك الأستار الشيطانية التي يتسترون بها ضعيفة لا تقاوِم أبدًا، وستُهتَك أمام النور وتتمزق.
إن ما كتبه الزنديق العنيد المتمرد والروح الخبيثة للرجل الميت، هو لصالح القومية التركية في الظاهر، إلّا أنه في الحقيقة قد نشر كتابه هذا للتهوين من الشأن العظيم والمرتبة الرفيعة للقرآن الكريم والرسول الكريم (ﷺ)، ألا خابَ ظنُّه، فلا يمكنه أن يكون كبيت العنكبوت تجاه المعجزات القرآنية والمعجزات الأحمدية، بل يذوب ويتلاشى.
ولكن يا للأسف.. وألفَ أسف وأسف! إنه يضر ضررًا بالغًا بالذين لم يطلعوا على رسائل النور، كما أن الذين اطلعوا عليها قد يدفعهم الفضول فيقولون: تُرى ماذا فيه؟ فيعكرون صفو قلوبهم، وفي الأقل يورث الشكوك والأوهام. فعلى طلاب رسائل النور الأبطال أن يكونوا متيقظين تجاه هذه الأمور ويزيدوا من نشاطهم، إذ الانشغال بالأمور الفاسدة فسادٌ أيضًا، لذا أختصر هذه المسألة.
فحذار من الاهتمام به وإثارة الفضول لدى الناس، وليُعْلم أنه مؤلَّف تافه سوى ما فيه من الأسماء المباركة ومعاني بعض الآيات الكريمة. وافهموا مدى تجاوز هذا الشخص حدّه من المثال الآتي:
مثال: إنْ نَظَر أبله إلى مجلس بعيدٍ جدًّا، يحضره علماء مدققون متخصصون، يدققون كتابًا ويتلقون الدرس من أستاذ قدير، فإذا ما أصدر هذا الأبله حكمه منتقدًا هذا المجلس وهؤلاء العلماء، فإن عمله هذا هَذَيانٌ ليس إلّا.
﴿اللّٰهم احفظ أهل الإيمان وطلاب رسائل النور من أمثال هؤلاء. آمين﴾
سعيد النورسي
❀ ❀ ❀
(عاونونا بأدعيتكم)
إخوتي الأعزاء الأوفياء..
إنه بعد تغلُّب ثباتكم العظيم وإخلاصكم التام وبعد دفع تلك المصيبة، فقد غَيّر أهلُ الدنيا خططهم في المجابهة؛ إذ بدأوا -بمكايد الزنادقة- بتحشيد قواهم المادية والمعنوية في هذه المناطق تجاهنا خفية، فهم يتحركون بدقة متناهية، ويحاولون بشيطنةٍ خبيثةٍ للإخلال بالتساند والترابط الوثيق الذي هو القوة الحقيقية لطلاب رسائل النور.
ففي الوقت الذي أعادوا إليكم الرسائل، يحيكون مؤامرات خفية بخبث. وعلى الرغم من أننا نُعَدُّ شعبةً منكم فإنهم يحسبوننا كأننا الأصل والمركز، لذا يُجرون علينا دسائسهم بشكل مكثف، ولكن الحافظ الحقيقي هو رب العالمين، وبإذنه تعالى لن يقدروا على إلحاق أي ضرر كان.. ولكن عاوِنونا يا إخوتي بأدعيتكم الخالصة في أيام الشهور المباركة ولياليها المباركة.
ولا شيء يُذكر هنا.. ولكن عليكم بالحذر قدر المستطاع.
❀ ❀ ❀
(حوار مع فريق من الشباب)
جاءَني -ذات يوم- فريق من الشباب، يتدفقون نضارةً وذكاءً، طالبين تنبيهاتٍ قويةً وإرشاداتٍ قويمةً تقيهم من شرورٍ تتطاير من متطلبات الحياة ومن فتوّة الشباب ومن الأهواء المحيطة بهم.
فقلت لهم بمثل ما قلته لأولئك الذين طلبوا العون من رسائل النور:
اعلموا أن ما تتمتعون به من ربيعِ العمر ونضارةِ الحياة ذاهبٌ لا محالة، فإن لم تُلزِموا أنفسكم بالبقاء ضمن الحدود الشرعية، فسيضيع ذلك الشباب ويذهب هباءً منثورًا، ويَجرُّ عليكم في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة بلايا ومصائبَ وآلامًا تفوق كثيرًا ملذاتِ الدنيا التي أذاقكم إياها.. ولكن لو صرفتم ربيع عمركم في عِفّةِ النفس وفي صَوْنِ الشرف وفي طاعة ربكم بتربيته على الإسلام، أَداءً لشكر اللّٰه تعالى على ما أَنْعَمَ عليكم من نعمة الفتوة والشباب، فسيبقى ويدوم ذلك العهدُ معنًى، وسيكون لكم وسيلةً للفوز بشباب دائم خالد في الجنة الخالدة.
فالحياة، إن كانت خاليةً من الإيمان، أو فَقَدَ الإيمانُ تأثيرَه فيها لكثرة المعاصي، فإنها مع متاعها ولذتها الظاهرية القصيرة جدًّا تُذيق الآلامَ والأحزان والهموم أضعافَ أضعافِ تلك المتع والملذات، ذلك لأن الإنسان -بما مُنح من عقل وفكر- ذو علاقة فطرية وثيقة بالماضي والمستقبل، فضلًا عما هو عليه من زمان حاضر، حتى إنه يتمكنُ من أن يذوق لذائذ تلك الأزمنة ويَشعر بآلامها، خلافًا للحيوان الذي لا تعكر صَفْوَ لذتِه الحاضرةِ الأحزانُ الواردة من الماضي، ولا المخاوفُ المتوقعة في المستقبل، حيث لم يُمنح الفكرَ.
ومن هنا فالإنسان الذي تَردَّى في الضلالة وأَطبقتْ عليه الغفلةُ تَفسد متعتُه الحاضرة بما يَرِدُه من أحزان من الماضي، وما يرِدُه من اضطرابٍ من القلق على المستقبل، فتتكدر حياتُه الحاضرة بالآلام والأوهام، سيَّما الملذاتُ غير المشروعة، فهي في حكم العسل المسموم تمامًا.
أي إنّ الإنسان يسقط في دركة أدنى بمائة مرة من الحيوان من حيث التمتع بملذات الحياة، بل إن حياة أرباب الضلالة والغفلة، بل وجودهم وعالَمهم، ما هو إلّا يومُهم الحاضر، حيث إنّ الأَزمنة الماضية كلَّها وما فيها من الكائنات معدومة، ميتة، بسبب ضلالتهم، فترِدهم من هناك حوالكُ الظلمات.
أما الأزمنة المقبلة فهي أيضًا معدومة بالنسبة إليهم، وذلك لعدم إيمانهم بالغيب. فتملأُ الفراقاتُ الأَبدية -التي لا تنقطع- حياتَهم بظلمات قاتمة، ما داموا يملكون العقل جاحدين بالبعث والنشور.
ولكن إذا ما أصبح الإيمان حياةً للحياة، وشعّ فيها من نوره، استنارت الأزمنة الماضية، واستضاءت الأزمنة المقبلة، وتَجِدان البقاءَ وتُمِدّان روحَ المؤمن وقلبَه من زاوية الإيمان، بأَذواقٍ معنويةٍ سامية، وأَنوارٍ وجودية باقية، بمثل ما يُمدّهما الزمن الحاضر.
هذه الحقيقة موضحة توضيحًا وافيًا في “الرجاء السابع” من رسالة “الشيوخ”، فليُراجع.
هكذا الحياة.. فإن كنتم تريدون أَنْ تستمتعوا بالحياة وتلتذوا بها فأحيوا حياتَكم بالإيمان، وزيِّنوها بأداء الفرائض، وحافِظوا عليها باجتناب المعاصي.
أما حقيقة الموت التي تُطلِعنا على أهوالها الوفَيَاتُ التي نشاهدها كل يوم في كل مكان، فسأبينها لكم في مثال، مثلما بينتُها لشبان آخرين من أمثالكم:
تصوروا ههنا -مثلًا- أعوادًا نُصِبت أمامكم للمشنقة، وبجانبها دائرةٌ توزِّع جوائزَ سخيةً كبرى للمحظوظين.. ونحن الأشخاص العشرة هنا سنُدعى إلى هناك طوعًا أو كرهًا، ولكن لأَنَّ زمان الاستدعاء مخفي عنّا، فنحنُ في كل دقيقة بانتظار مَن يقول لكلٍ منا: تعالَ.. تَسلَّمْ قرار إعدامك، واصعد المشنقة. أو يقول: تعالَ خذ بطاقة تربحك ملايين الليراتِ الذهبيةِ.
وبينا نحن واقفون منتظرون، إذا بشخصين حضرا لدى الباب، أحدهما امرأة جميلة لعوب شبهُ عارية، تحمل في يدها قطعة من الحلوى، تُقدِّمها إلينا، تبدو أنها شهية، ولكنها مسمومة في حقيقتها.
أما الآخر فهو رجل وقور كَيِّس، ليس خِبًّا ولا غِرًّا، دخل على إثْرِ تلك المرأة وقال: لقد أتيتكم بِطلْسمٍ عجيب، وجئتكم بدرس بليغ، إذا قرأتم الدرس ولم تأكلوا من تلك الحلوى، تنجون من المشنقة، وتتسلَّمون -بهذا الطلسم- بطاقةَ تلك الجائزةِ الثمينة.. فها أنتم أُولاء ترون بأُم أَعينكم أَن مَن يأكل تلك الحلوى، يتلوّى من آلام البطن حتى يصعد المشنقة.
أما الفائزون ببطاقة الجائزة، فمع أنهم محجوبون عنّا، ويَبدون أنهم يصعدون منصّة المشنقة، إلّا أَنَّ أكثر من ملايين الشهود يخبرون بأَنهم لم يُشنَقوا، وإنما اتخذوا أَعواد المشنقة سُلّمًا للاجتياز بسهولة ويسر إلى دائرة الجوائز.
فهيا انظروا من النوافذ، لترَوا كيف أَنَّ كبار المسؤولين المُشرِفين على توزيع تلك الجوائز ينادون بأَعلى صوتهم قائلين:
“إنّ أَصحاب ذلك الطِّلْسم العجيب قد فازوا ببطاقة الجوائز.. اعلموا هذا يقينًا كما رأيتم بعين اليقين أُولئك الذاهبين إلى المشنقة، فلا يساوِرنَّكم الشكُّ في هذا، فهو واضح وضوحَ الشمس في رابعة النهار”.
وهكذا على غرار هذا المثال:
فإنَّ مُتَع الشباب وملذاته المحظورةَ شرعًا كالعسل المسموم.. وَغَدَا الموتُ لدى الذي فقَدَ بطاقةَ الإيمان التي تُربحه السعادةَ الأَبدية كأَنَّه مشنقة، فينتظر جَلّادُ الأَجل الذي يُمكن أَنْ يَحضر كلَّ لحظة -لخفاء وقته عنا- ليقطع الأعناق دون تمييز بين شاب وشيخ.. فيُرديه إلى حفرة القبر الذي هو بابٌ لظلماتٍ أَبدية كما هو في ظاهره.
ولكن إذا ما أَعرض الشابُّ عن تلك الملذات المحظورة الشبيهة بالعسل المسموم وضرب عنها صفحًا، وبادر إلى الحصول على ذلك الطلسم القرآني وهو الإيمان وأَداءُ الفرائض، فإنَّ مائةً وأربعةً وعشرينَ ألفًا من الأنبياء عليهم السلام، وما لا يُعدُّ ولا يُحصى من الأولياء الصالحين والعلماء العاملين يخبرون ويبشّرون بالاتفاق مظهرين آثارَ ما يخبرون عنه: بأَنَّ المؤمن سيفوز ببطاقةٍ تُكسبه كنوزَ السعادة الأَبدية.
حاصل الكلام: إن الشباب سيذهب حتمًا وسيزول لا محالة؛ فإن كان قد قضى في سبيل الملذات ونشوة الطيش والغرور، فسيورث آلاف البلايا والآلام والمصائب الموجعة سواء في الدنيا أو الآخرة.
وإن كنتم تَرومون أن تفهموا بأن أمثال هؤلاء الشباب سيَؤول حالُهم في غالب الأمر إلى المستشفيات، بسبب تصرفاتهم الطائشة وإسرافاتهم وتعرضهم لأمراض نفسية.. أو إلى السجون وأماكن الإهانة والتحقير، بسبب نزواتهم وغرورهم.. أو إلى الملاهي والخمّارات بسبب ضِيْقِ صدورهم من الآلام والاضطرابات المعنوية والنفسية التي تنتابهم.. نعم، إنْ شئتم أنْ تتيقنوا من هذه النتائج فاسأَلوا المستشفياتِ والسجونَ والمقابرَ..
فستسمعون بلا شكٍّ من لسان حال المستشفيات الأَنّات والآهات والحسرات المنبعثة من أمراض نَجَمَتْ من نزوات الشباب وإسرافهم في أمرهم..
وستسمعون أيضًا من السجون صيحات الأسى وأصوات الندم وزفرات الحسرات يطلقها أولئك الشبان الأَشقياء الذين انساقوا وراءَ طيشهم، وغرورهم فتلقّوا صفعة التأديب لخروجهم على الأَوامر الشرعية.
وستعلمون أيضًا أَنَّ أكثرَ ما يُعذَّب المرءُ في قبره -ذلك العالم البرزخي الذي لا تهدأ أبوابُه عن الانفتاح والانغلاق لكثرة الداخلين فيه- ما هو إلّا بما كسبت يداه من تصرفات سيئة في سِنِيِّ شبابه، كما هو ثابت بمشاهداتِ أهلِ كشفِ القبورِ، وشهادةِ جميع أهل الحقيقةِ والعلمِ وتصديقهم.
واسألوا -إنْ شئتم- الشيوخَ والمرضى الذين يمثلون غالبية البشرية، فستسمعون أنَّ أكثريتهم المطلقة يقولون:
“وا أَسَفَى على ما فات! لقد ضيّعنا ربيعَ شبابنا في أمور تافهة، بل في أمور ضارة! فإياكم إياكم أَنْ تُعيدوا سيرتَنا، وحَذارِ حَذارِ أن تفعلوا مثلَنا!”.
ذلك لأَنَّ الذي يُقاسي سنواتٍ من الغمِّ والهمِّ في الدنيا، والعذابَ في البرزخ، ونارَ سَقَرَ في الآخرة، لأجل تمتع لا يدوم خمسَ أو عَشْرَ سنوات من عمر الشباب بملذاتٍ محظورة.. غيرُ جدير بالإشفاق، مع أَنَّه في أَشدّ الحالات استدرارًا للشفقة والرثاء؛ لأَنَّ الذي يرضى بالضرر وينساق إليه طوعًا، لا يستحق الإشفاق عليه ولا النَظرَ إلى حاله بعين الرحمة، وِفْقَ القاعدة الحكيمة: “الراضي بالضرر لا يُنظر له“.
حفظنا اللّٰه وإياكم من فتنة هذا الزمان المغرية، ونجّانا من شرورها.. آمِينَ.
❀ ❀ ❀
(حقيقة تقطع دابر الاعتراضات)
إخوتي الأعزاء الأوفياء طلاب رسائل النور..
لقد اضطررت إلى بيان حقيقة تقطع دابر الاعتراضات التي تضر بالضعفاء من طلاب رسائل النور، بمثل اعتراض الشيخ الذي لا يخطر على بال.
أكرر مرة أخرى ما قلته لأحدهم: إنه لمن الأسف والعجب والحيرة أن يضيِّع أهلُ الحقيقة القوةَ الخارقة في الاتفاق، فيُغلَبون على أمرهم، بينما يتفق أهلُ النفاق والضلالة -رغم اختلاف مشاربهم- للحصول على قوة ذات أهمية في الاتفاق، ومع أنهم لا يتجاوزون عشرة بالمائة، إلّا أنهم يَغلِبون التسعين بالمائة من أهل الحقيقة.
وإن أكثر ما يثير العجب ويزيد الحيرة هو أننا بينما كنا ننتظر العون الكبير والحث العظيم منهم -وهم المكلفون بهذه المعاونة إسلاميًّا ومسلكًا وأداءً للواجب الديني- نجدهم لا يمدون يدَ المعاونة إلينا، بل بدأ الشيخ بالاعتراض بناءً على فهمٍ خطأ، بما يورث الفتور لدى طلاب رسائل النور، مستندًا إلى أهمية موقعه الاجتماعي، فاعترض على إيضاحات تخص حقيقة.
إنني لا أعرف أية مسألة قد اعتُرض عليها ولأية آية كريمة تخص.. ولعلها تخصّ مسألةً من رسالة الإشارات القرآنية المسماة بـ”الشعاع الأول” الذي اتخذناه رسالة خاصة جدًّا وسرية.
فأخوكم هذا العاجز يبين لذلك الصديق الفاضل القديم ولأهل العلم ولكم كذلك ما يأتي:
إن سعيدًا الجديد -بفيض القرآن المبين- يذكر من البراهين المنطقية والحقيقية الكثيرة التي تخص الحقائق الإيمانية، بحيث لا يلجئ علماءَ الإسلام إلى التسليم وحدَهم، بل حتى أعتى فلاسفة أوروبا العنيدين أيضًا.
إنه من شأن القرآن الكريم وإعجازه العظيم، ومن مقتضى البلاغة المعجزة للسان الغيب، أن تَرِد فيه رموزٌ وإيماءاتٌ لجلب الأنظار إلى رسائل النور -التي هي معجزته المعنوية في هذا الزمان- بمثل إخبارات الإمام علي رضي اللّٰه عنه والشيخ الكيلاني (قدس سرّه) الواردة بِطَرزٍ إشاريٍّ ورمزيٍّ حول أهمية رسائل النور وقيمتها.
نعم، ففي سجن “أسكي شهر”، وفي وقتٍ رهيب، حيث كنا أحوجَ ما نكون إلى سلوانٍ قدسي، خطر على القلب ما يأتي: إنك تبين شهودًا من كلام الأولياء السابقين على أحقية رسائل النور وقَبولها، بينما بمضمون الآية الكريمة: ﴿ولا رطب ولا يابسٍ الّا في كتاب مبين﴾، فإن صاحب الكلام في هذه المسألة هو القرآن الكريم، فهل يَقبل القرآن الكريم ويرضى برسائل النور؟ وكيف يَنظر إليها؟
واجهتُ هذا السؤال العجيب، واستمددتُ من القرآن الكريم، وإذا بي أشعر في ظرفِ ساعةٍ أن رسائل النور فردٌ داخلٌ ضمنِ كليّةِ المعنى الإشاري -الذي يمثل طبقة واحدة من طبقات التفرعات للمعنى الصريح- لثلاث وثلاثين آية كريمة، وعرفتُ قرينةً قويةً على دخولها في ذلك المعنى وتخصيصها، فشاهدتُ قسمًا منها بشيء من الوضوح وقسمًا آخر مجملًا، فلم تَبق في قناعتي أيّة شبهة وشك ووهم ووسوسة.
وأنا بدوري دوّنتُ قناعتي القاطعة تلك وأعطيتها إخوتي الخواص، على شرط سرّيّتها بنية الحفاظ على إيمان أهل الإيمان برسائل النور، فنحن لا نقول في تلك الرسالة: إن المعنى الصريح للآية الكريمة هو هذا، حتى يقول العلماء: فيه نظر! ولم نقل فيها: إن كلية المعنى الإشاري هي هذه. بل نقول: إن تحت المعنى الصريح للآية الكريمة طبقاتٍ متعددة من المعاني، إحدى هذه الطبقات هي المعنى الإشاري والرمزي؛ فهذا المعنى الإشاري أيضًا هو كُليّ له جزئيات في كل عصر؛ فرسائل النور فردٌ في هذا العصر من أفرادِ كليةِ طبقة المعنى الإشاري ذاك.
وقد جرى بين العلماء منذ القدم دستور حساب الجُمَّل والجفر -حساب الأبجدية- لإيجاد القرائن والحجج، فهذا الطرز من الحساب لا يَخدش الآية الكريمة ولا يجرح معناها الصريح، بل قد يكون وسيلة لبيان إعجاز القرآن وعظمة بلاغته.
فلا اعتراض على هذه الإشارات الغيبية، إذ الذي لا يستطيع إنكار ما لا يُعَدُّ ولا يحصى من استخراجات أهل الحقيقة من الإشارات القرآنية التي لا تحصى، لا ينبغي له أن ينكر هذا بل لا يمكنه ذلك.
أما استغرابُ ذلك المعترض واستبعادُه ظهورَ مثل هذا السِّفْر النفيس -رسائل النور- من رجل اعتيادي غير ذي بال، فإنه إذا ما فكّر بالدليل على عظمة القدرة الإلهية التي تخلق شجرةً ضخمة من بُذيرة الصنوبر، فلا شك أنه يضطر إلى قبول ظهور مثل هذا الأثر، ممن هو في العجز المطلق والفقر المطلق، وفي ظرف الحاجة الشديدة مثل هذا الوقت دليلًا على الرحمة الإلهية الواسعة.
إني أُطَمئنكم وأُطمئن المعترضين -بالشرف الرفيع لرسائل النور- أن هذه الإشارات وإخبارات ورموز الأولياء ذات الإيماءات قد ساقتني دائمًا إلى الشكر والحمد للّٰه، وإلى الاستغفار من ذنوبي، ولم يحصل أنْ أورثتْ ما يمكن أن يكون مدار فخر وغرور وأنانية للنفس الأمارة بالسوء في أي وقت كان، ولا في أية دقيقة كانت، وأثبتُّ ذلك بترشحات حياتي الماثلة أمامكم منذ عشرين سنة.
وفضلًا عن هذه الحقيقة فإن الإنسان لا يخلو من القصور والنسيان والسهو، فلي ذنوبٌ كثيرة أجهلها، وربما قد تَدَخَّل فكري وأوجد أخطاءً في الرسائل.
ولكن هذا المعترض لا يبالي بتغير الحروف القرآنية المقدسة إلى حروف أخرى ناقصة، وقيامِهم بوضع ترجمة بشرية ناقصة للقرآن الكريم ومحرّفة ومملوءة بالتأويلات الفاسدة لأهل الضلالة والتي خدشت معاني الآيات الصريحة للقرآن.. لا يبالي بهذا!! ولكنه يركّز نظرَه على شخصٍ ضعيفٍ مظلومٍ بَيّنَ نكتةً إعجازية ليقوّي بها إيمانَ إخوته، فيعترضُ عليه بما يورث الفتور لخدمة الإيمان؛ علمًا أن نقطة اعتراضه لا يمكن أن يَعترض عليها من كان يملك ذرة من الإنصاف.
وإنه لمن دواعي حيرتي وعجَبي أنّ ذلك المعترض الفاضل هو تلميذُ أستاذٍ من أساتذتي القديرين في السلسلة العلمية، وهو “الشيخ فهيم”، وهو أحد طلاب الإمام الرباني رضي اللّٰه عنه الذي أرتبطُ به أشد ارتباط، فكان عليه أن يسعى أكثر من غيره لمعاونتي بكل ما لديه من قوة، دون الالتفات إلى ذنوبي وحياتي الماضية المتداخلة المضطربة وإلى انفعالاتي، إلّا أن اعتراضه مع الأسف قد أورث -كما سمعنا- الفتورَ لدى بعض أصدقائنا الضعفاء، وسلّم بيد أهل الضلالة ما يشبه الحجة.
إننا ننتظر من ذلك الشيخ الفاضل تلافيَ سوء الفهم هذا والسعيَ لتعميره، ونأمل معاونته لنا بدعواته ونصائحه البليغة المؤثرة.
علاوة على ذلك أُبين ما يأتي:
في هذا الوقت الذي يبدو في الظاهر انحسارُ وتقهقر تلك المشارب والمسالك الحقة القوية جدًّا -والتي ينضوي تحت لوائها الملايينُ من المؤمنين المستعدين لكل تضحية- أمام الهجوم العنيف لهذه الضلالة، تحمّلتْ رسالة النور جميع تلك الهجمات، وحملت على عاتقها الأعباءَ كافة، فشقّت طريقَها سابقةً الجميعَ في طريق الإيمان.
لذا، لا يمكن أن تُسنَد هذه الرسائلُ إلى رجلٍ عاجزٍ نصف أمّي، قضى حياته بين المنفى والسجن وتحت رقابة سلطات الدولة وقيامِها بتنفير الناس من حوله بالدعايات المغرضة، فمثل هذا الرجل لا يمكن أن يكون مالكًا لها، ولا يمكن أن يفتخر بها أو يدّعيها، فهي ليست نابعةً من ذكائه ومهارته، بل هي معجزةٌ من معجزات القرآن الكريم لهذا الزمن، وهبَتها الرحمةُ الإلهية، وكل ما في الأمر أن هذا الرجل وآلافًا من أصدقائه قد مدّوا أيديهم إلى تلك الهدية الغالية النفيسة، فوقع الخيار عليه في بيانها.
والدليل على أن الرسائل ليست من بنات أفكاره أن هناك من الرسائل ما قد كُتبت في ست ساعات وأخرى في ساعتين، وبعضها في ساعة واحدة وأخرى في عشر دقائق.
فأنا أقسم أنه لو كان لي حدّة ذكاء سعيد القديم وقوة حافظته لَمَا تمكنتُ أن أكتب في عشر ساعاتٍ ما كُتب آنذاك في عشر دقائق، ولا يمكنني أن أكتب في يومين ما كُتب في ساعة.
فالرسالة التي تبحث في ماهية “أنا” (الذات الإنسانية) والتي كُتبت في ست ساعات لا يمكن أن تُكتب لا من قِبَلي ولا من قبل الفلاسفة والعباقرة الباحثين، في ستة أيام؛ وهكذا.
فنحن إذن مع أننا مفلسون ليس لنا شيء، إلّا أننا أصبحنا خدّامًا ودلالين في معرض أغلى المجوهرات.
نسأل المولى الكريم أن يوفقنا وجميع طلاب رسائل النور -بفضله وكرمه- في هذه الخدمة بإخلاص تام. آمين.
❀ ❀ ❀