الشعاع الرابع عشر [2/4]: تتمة دفاعات أفيون
[هذا الشعاع يتضمن الدفاعات التي أدلى بها الأستاذ النورسي في جلسات محاكمته بمحكمة أفيون، وكان ذلك في عامَي 1948 – 1949، كما يتضمن دفاعات طلاب النور كذلك، والرسائل التي بعث بها الأستاذ النورسي إليهم]
[هذا القسم هو جزء ثانٍ من أربعة أجزاء من الشعاع الرابع عشر، وهو يتضمن تتمة دفاعات النورسي في محكمة أفيون]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

[عريضة مرسلة إلى مجلس الوزراء]
عريضة مرسلة إلى مجلس الوزراء
لي رجاء مهم جدًّا:
[أعيدوا سراج النور]
في خاتمة المجموعة المسماة “سراج النور” والتي تزيد عن ثلاثمائة صفحة توجد خمسَ عشرة صحيفة -وهي “الشعاع الخامس”- كُتبت منذ زمن طويل، كانت سببًا لصدور قرار من مجلس الوزراء بمصادرة تلك المجموعة وجمعها.
إن من الممكن إخراجَ هذا القسم الذي تُوُهِّمَ ضررُه، من مجموعة “سراج النور” التي ثبتت وتحققت فائدتُها للجميع، ولا سيما لأصحاب المصائب والبلايا وللشيوخ وللذين لديهم شكوك في نواحي الإيمان، ثم السماح بما تبقى من الثلاثمائة صفحة للنشر.. فباسم جميع من استفادوا من هذه المجموعة وسُرّي عنهم من أصحاب المصائب والرزايا والشيوخ وباسم جميع المحتاجين إلى الحقائق الإيمانية نرجو من مجلس الوزراء السماحَ بنشرها.
[أعيدوا ذو الفقار]
وفي مجموعة “ذو الفقار” البالغة أربعمائة صفحة والتي كُتبت قبل ثلاثين سنة للرد على فلاسفة أوروبا، وردت صفحتان فقط من تفسير آيتين حول الإرث وحول تحجب النساء.
وورد سطر واحد حول المصارف في رسالةِ “إشارات الإعجاز” التي كتبت قبل ثلاثين سنة عند تناول آيةِ: ﴿وأحل اللّٰه البيع وحرم الربا﴾.
وقبل ثلاثين سنة عندما كنت عضوًا في “دار الحكمة” كتبتُ جوابًا لستة أسئلة تَقدَّم بها رئيسُ أساقفة الأنكليكان لإنكلترا إلى المشيخة الإسلامية، وهناك سطر واحد فقط في هذه الإجابة لا يسمح به القانون المدني الحالي.
إننا نرجو منكم إعادةَ مجموعةِ “ذو الفقار” إلينا والمصادَرةِ بحجةِ وجود صفحتين وسطر واحد فقط فيها قيل: إن القانون المدني الحالي لا يسمح به. مع أن هذه الرسالة قوبلت في العالم الإسلامي باستحسان كبير وأَثبتت عمليًّا فوائدها الكبيرة، لأنها برهنت بشكل رائع على ثلاثة أركان إيمانية، فطلَبُ إعادتها إلينا من حقنا، ذلك لأنه إنْ وجدت خمسُ كلمات ممنوعة في رسالة ما تُحذف تلك الكلمات ويُسمح بنشر باقي الرسالة؛ لذا فنحن نطلب ضمان هذا الحق القانوني المهم لنا. وباسم جميع من يخدم القرآن والإيمان ويسعى إلى تحقيق الأمن والنظام ويخدم هذا الوطن وهذه الأمة عن طريق رسائل النور نطالبكم بإنقاذنا من الظلم الواقع علينا من الذين يجعلون من الحبة قبة.
ثم إن رسالة “الهجمات الست” التي كتبتُها قبل ثمانية عشر عامًا في ساعةِ غضب وحدّةٍ لِتعرضي إلى ظلم شديد.. هذه الرسالة لم أرها منذ ذلك، الوقت أبقيتُها سِرّية خاصة ولم أسمح بنشرها، ومع أنها وقعت في أيدي ثلاث وأربع محاكم، إلّا أن هذه المحاكم أعادتها إلى أصحابها.
سعيد النورسي
❀ ❀ ❀
[رسالة شكر في ثلاث نقاط]
“رسالة شكر”
﴿باسمه سبحانه﴾
رسالة شكر أقدّمها إلى هيئة الخبراء في ديوان رئاسة الشؤون الدينية، أبين فيها “ثلاث نقط” لأُعِينَهم بها على تصحيح انتقادات جزئية وردت في تدقيقاتهم وأُجيب عنها بوضوح.
[نقطة1: شكر للعلماء]
النقطة الأولى إنني أُقدم شكري إلى أولئك العلماء الأفاضل بثلاث جهات، فأنا ممتنّ لهم بصفتي الشخصية:
أولاها: قيامهم بتلخيص ثلاث عشرة رسالة من مجموعة “سراج النور” -مما سوى رسالة “الشعاع الخامس“- تلخيصًا يبعث على التقدير والإعجاب.
ثانيتها: ردّهم لِما دار عليه اتهامنا، وهو: إنشاء طريقة صوفية، تشكيل جمعية، والإخلال بأمن البلاد.
ثالثتها: تصديقهم لدعواي في المحكمة، وهو ما قلته أمام المحكمة: إذا وجد شيء من الذنب فإنه يعود لي، فطلاب النور بريئون منه، ولقد سعوا في سبيل النور إنقاذًا لإيمانهم.
فأولئك الخبراء ينقذون أيضًا طلاب النور ويبرّئون ساحتهم ويسندون الذنوب إليّ.
وأنا بدوري أقول لهم: ليرضَ اللّٰه عنهم. إلّا أنهم جعلوا كلًّا من المرحوم “حسن فيضي” والمرحوم “الحافظ علي” وأشخاص من أمثال هذين الشهيدين ووارثيهم شركاء بذنوبي، لذا فقد أخطأوا في هذه الجهة، لأن أولئك الميامين سابقون في خدمة الإيمان وليسوا شركاء في الذنوب، وهم بريئون من أخطائي وذنوبي، وقد أرسلَتْهم العنايةُ الإلهية مُعينين لي رأفةً بضعفي.
[نقطة2: حول الشعاع الخامس]
النقطة الثانية لقد اعترض أولئك الخبراء على رواياتٍ في “الشعاع الخامس” فقالوا عن بعضها: ضعيفة. وعن أخرى: موضوعة. وخطّأوا تأويل قسم منها. وقد كتب الادعاءُ العام لمحكمة “أفيون” تقريره في ضوء ذلك، بينما أثبتنا واحدًا وثمانين خطأً من أخطائه في قائمةٍ تبلغ خمس عشرة صفحة. فليطلع الخبراء الأفاضل على تلك القائمة.
نقدم أدناه نموذجًا منها:
لقد قال المدعي: جميعُ تأويلاته مغلوطة، والروايات إما أنها موضوعة أو ضعيفة.
[حول تأويل أحاديث أشراط الساعة]
ونحن نقول:
إن التأويل يعني أن هذا المعنى ممكنٌ مرادُه من هذا الحديث، أي يحتمل هذا المعنى، أما ردّ إمكان واحتمالِ ذلك المعنى -حسب علم المنطق- فيكون بإثبات محاليته. بينما شُوهِد ذلك المعنى عيانًا، وتحقق فعلًا فردٌ من كلية الطبقة الإشارية لمعنى الحديث، لذا لا يُعترض على ذلك المعنى قطعًا، لأن الحديث قد أَظهر بلمعةِ إعجازٍ غيبي ذلك المعنى وأَشهدَ له هذا العصرَ.
علاوة على ذلك فقد أثبتنا في تلك القائمة أخطاءَ المدعي من ثلاثة وجوه:
أحدها: أنَّ الإمام أحمد بن حنبل الحافظ لمليون من الأحاديث الشريفة، وكذا الإمام البخاري الحافظ لخمسمائة ألف حديث، لم يَجرءا على نفي تلك الروايات على إطلاقها. علمًا أن إثبات نفيها غير ممكن منطقيًّا، وأن المدعي نفسه لم يطلع على جميع كتب الأحاديث النبوية، وأن الأكثرية العظمى لأمة الإسلام في كل عصر قد انتظروا رؤية معاني تلك الروايات، أو فردًا من كليةِ معانيها، بل إن تلك المعاني قريبة من تلقي الأمة بالقبول، وقد برز في الواقع أفراد منها بذاتهم وشُوهِدوا عيانًا..
لذا فإن إنكار تلك الروايات إنكارًا كليًّا خطأٌ من عشر جهات.
الوجه الثاني: أن الرواية الموضوعة تعنى أنها ليست حديثًا مسندًا عن فلان وعن فلان. ولا يعنى أن معناها خطأ. ولما كانت الأمة قد تلقتها بالقبول، ولا سيما أهل الحقيقة والكشف، وقسم من أهل الحديث وأهل الاجتهاد، بل انتظَروا تحقيق معانيها، فلا بد أن لتلك الروايات حقائق متوجهة إلى العموم كما هي في الأمثال المضروبة.
الوجه الثالث: أني أسأل: هل هناك مسألة أو رواية لم يُعترض عليها في كتاب لعلماء مختلفين في المشارب والمذاهب. فمثلًا: إن إحدى الروايات التي تذكر مجيء دجالين في الأمة هي هذا الحديث الشريف: “لن تزال الخلافة في ولد عمي -صِنْوِ أبي- العباس حتى يسلمّها إلى الدجال”1انظر: كنـز العمال ١٤/٢٧١ برقم ٣٣٤٣٦ـ؛ مسند الفردوس ٣/٤٤٧؛ مجمع الزوائد ٥/١٨٦؛ جمع الفوائد ١/٨٤٩؛ الديلمي، المسند ٣/٤٤٧؛ الطبراني، المعجم الكبير ٢٣/٤٢٠..
هذا الحديث الشريف يخبر عن فتنة “جنكيز خان” و”هولاكو”، وأن دجالًا سيظهر بعد خمسمائة سنة وسيهدم الخلافة.. وأمثالها من الروايات الكثيرة التي تخبر عن أشخاصِ آخر الزمان، وعلى الرغم من ذلك فقد رفض بعض أهل المذهب المباين أو ذوو الأفكار المفرطة هذه الرواياتِ. وقالوا: إنها رواية ضعيفة أو موضوعة..
وعلى كل حال، إن سبب اقتصاري على ما ذكرت مما ينبغي أن يطول هو حدوث زلزلتين هنا في الساعة التي كنت أكتب هذا الجواب، مثلما حدث أربع زلازل وقت شن الهجوم على رسائل النور وطلابها. والأمر على النحو الآتي:
هو توافق حدوث زلزلتين أثناء ما كنت أعاني من ألَم جراء عمليات جراحية أجراها تقرير الخبراء الذي سُلِّم لي مساءً، فضلًا عن الحزن الذي غشاني من الانفراد وعدم اللقاء مع الآخرين.
نعم، لقد تسلمتُ تقرير الخبراء لرئاسة الشؤون الدينية بعد بقائي ثمانية شهور في السجن الانفرادي ومقاساتي المضايقات الشديدة، وإذ أنا منتظر أن يكونوا لي معينين، إذا -في الصباح- أجد أنهم يعززون ادعاء المدعي، حيث ورد: “إن سعيدًا قال: إن الزلازل الأربع الماضية هي من كرامات رسائل النور”.
فمثلما كتبتُ في القائمة، أقول: إن رسائل النور من نوع الصدقة المقبولة التي تكون وسيلة لدفع المصائب، فمتى ما هوجمت تجد المصائبُ الفرصةَ سانحة أمامها فتنـزل، وأحيانًا تغضب الأرض بالزلزال.فما إن عزمتُ على كتابة هذا، وقع زلزالان هنا2حدث هذا الزلزال في ١٨/٩/١٩٤٨ ضحوة يوم الجمعة. باسم طلاب النور في سجن أفيون (خليل، مصطفى، محمد فيضي، خسرو) مما حملني على ترك كتابة ذلك البحث، لذا ننتقل إلى النقطة الثالثة.
[نقطة3: لا حرج في التقريظ]
النقطة الثالثة يا علماءنا المدققين المنصفين ذوى الحقيقة..
لقد دأب أهلُ العلم -منذ القديم- على عادة فيما بينهم، وهي وضعهم تقريظًا وثناءً -وأحيانًا مبالَغًا فيه- نهايةَ مؤلَّفٍ جيدٍ جديد.
وفي الوقت الذي يبدي المؤلِّف امتنانه لأولئك المقرّظين، لا يُتهم حتى من قبل منافسيه أنه يدّعي الإعجاب وحبَّ الظهور.
لذا فإن كتابة عدد من طلاب النور الخواص الخالصين -كالمرحوم حسن فيضي والشهيد الحافظ علي- تقاريظَ بناءً على عجزي وضعفي وغربتي وعدمِ وجود الأهل والأقارب، وإزاءَ هجوم أعداء كثيرين ظَلَمة، وحثًّا للمحتاجين إلى النور، وعدَّ تلك التقاريظ نوعًا من الغرور والإعجاب بالنفس، رغم إحالتي ما يخصني من المدح والثناء إلى رسائل النور، ورغم عدم ردّي له ردًا كليًّا.. أقول: إنني لم أستطع أن أوفق بين تلقيكم ذلك المدح أنه إعجاب بالنفس وبين ما تحملونه من دقة علمية وتعاون رؤوف وإنصاف.. لذا فأنا متألم من هذا. علمًا أن أصدقائي الخالصين أصحاب التقاريظ لم تخطر ببالهم السياسةُ وشؤونها.
ولا يقال لقولهم: إن رسائل النور في هذا الزمان يَصدُق عليها معنى فرد وجزئي من المعنى الإشاري الكلي، لأن الزمان يُصدّق ذلك.
ولنفرض أن هذا الكلام مبالَغ فيه كثيرًا أو خطأ، فهو خطأ علمي ليس إلّا. فكل شخص يستطيع أن يكتب قناعته الشخصية. وأنتم أدرى بالأفكار المتباينة والقناعات المختلفة في كتب الشريعة التي دوّنها أصحابُ المذاهب الاثني عشر، ولا سيما أصحابُ الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية، وما يقرب من السبعين من فِرَق دائرة علماء الكلام وأصول الدين.
والحال أنه لم يأت زمان نحن في أمس الحاجة فيه إلى اتفاق علماء الدين وعدم خوضهم في مجادلات فيما بينهم مثل هذا الزمان. فنحن مضطرون إلى نبذ الاختلاف في الأمور الفرعية وعدم جعلها مدار المناقشات.
[ثلاثة أسئلة موجهة إلى العلماء]
ثلاثة أسئلة أوجهها للعلماء المنصفين من الخبراء
الأول: شخص يُثني على آخرَ بنية خالصة، أيكون الشخص المثنى عليه مسؤولًا، وبخاصة إن كان المثنى عليه لا يرضى بالثناء بكل قوته ويحيله إلى غيره؟ إلّا أنه لم يوبِّخ ذلك الصديق الحميم لئلا ينفر منه، بل اكتفى بالقول: إن هذا الثناء فوق حدّي بمائة درجة. فهل يُعدّ سكوته هذا إعجابًا بالنفس وتحرّيًا للمصلحة الذاتية؟
السؤال الثاني: في غمرة الهجوم العنيف الذي يُشَن على الدين حاليًّا، إذا ما أبدى أحد طلاب النور العاشقين للحقيقة قناعته الشخصية الخاطئة، بخطأ علمي جزئي لا ضرر فيه، هل يستحق هذه الإهانة والاستخفاف؟ علمًا أن هناك مسائل دينية تُقدَّر بضخامة الشُّم الرواسي.
وبينما يَنتظر ذلك التلميذ الكاتب للتقريظ تذكيرًا شفيقًا من علماءَ وأساتذة من أمثالكم على ذلك الخطأ، أَوَيجوز عقابه من قبل العدلية؟
السؤال الثالث: إن رسائل النور التي تصدت منذ عشرين سنة لأعتى المعارضين الذين لا يحصيهم العد وأنقذت إيمانَ مئات الألوف من الناس وآزرت إيمانَهم.. أيليق انتقادكم لها في مسألة أو مسألتين فيها؟
إني أذكّر أولئك العلماء الأفاضل أنهم انتقدوا المقدمة التي يستهل بها بحث الثناء لأحمد فيضي، وكأنني قد أثنيتُ بها على نفسي، علمًا أن تلك المقدمة هي ردّي لذلك الثناء ورفعه.
وقد رفعتُ فعلًا قسمًا منه وصححتُ القسم الآخر، ولكن لضرورة الاستعجال لم أتمكن من إكماله، فأرسلت المقدمة كاملة إلى أحد إخوتي، وهم بدورهم وضعوها في موضعها من ذلك البحث الذي اتخذناه بحثًا خاصًّا جدًّا، ولكن أثناء إرسالهم لها إلى أخ آخر قَبضتْ عليها الحكومة.
فيا ترى إن تقريظًا علميًّا وخاصًّا جدًّا، وهو بحث نابع عن قناعة وجدانية ولا يتداول إلّا بين أصدقاء ليقوموا بتصحيحه تصحيحًا كاملًا هل يستحق هذا الاعتراض الشديد؟
ثم إن جمعَ رسائل خاصة للتهنئة والحث على العمل، والقيام بتجليدها حفاظًا عليها، في مجلد أو مجلدين، حصلت عليها الشرطة أثناء التحري، هل يمكن استخراج الأحكام من مثل هذه الرسائل، ثم تكون محورَ سؤال وجواب ومن ثم محاولة إلصاقها بالسياسة؟ أَوَ يحتاج الأمر إلى هذا؟ وما أشبه هذا الأمر بمن لا يرى ثعابين مَرَدة تهاجم القرآن لكنه في الوقت نفسه ينشغل بلسع البعوض! أليس الأمر هكذا؟
إنّ ترك “سراج أوغلو”3رئيس الوزراء في ذلك الوقت. الذي يَعدّ الدين والتربية المحمدية سمًا زعافًا، والانشغال بمجموعة “سراج النور” التي تبين الحقيقة واضحة كالشمس، وهي البلسم الشافي لجراحات الإنسانية جمعاء، ولا سيما الاحتجاج بوجود تأويلات لأحاديث ضعيفة في رسالة في ختامها، ألا يكون عونًا على مصادرتها؟
إننا مع عدم امتعاضنا من انتقاداتكم الجزئية ننتظر منكم أيها العلماء الأفاضل ضمادًا لجراحاتنا و[أن] تكونوا أعوانًا لنا بقوة فراستكم.
الموقوف
سعيد النورسي
❀ ❀ ❀
[فقرات من كلامنا أدانونا بها]
﴿باسمه سبحانه﴾
مقدمة
الفقرات المذكورة أدناه لغرض تقديم شيءٍ من المساعدة إلى محكمة التمييز الموقَّرة التي فسخَتْ لصالحنا قرارَ إدانتنا من قِبَل محكمة “أفيون” وأوردت دلائل صائبة ذات حقيقة؛ نشير -باختصار- إلى قسم من أخطاء وردت في القرار المذكور، فندرج أدناه تلك الفقرات المستلة من الرسائل الخاصة السرية، التي عدّتها المحكمةُ ذنبًا لإدانتنا، فنبين أخطاءهم ونضع الذين أدانونا في موضع المسؤولية.
[إلغاء الخلافة]
فمثلًا: لقد كتبوا في ختام القرار ما يشبه قائمة تضم جميع ذنوبي لأجل إنزالِ أشد العقوبات بي:
“نذكر مما رفضه سعيد النورسي من مواد: إلغاء السلطنة والخلافة”.
فهذا خطأ وسهو في الوقت نفسه، لأن ما كتبتُه في لمعة “الشيوخ” هو الآتي: “لقد أحزنتني وفاة سلطنة الخلافة” وقد أجبتُ عن استفسار محكمة أسكي شهر قبل خمس عشر سنة عن هذا جوابًا ألزمَهم الصمت. فالذي يَعدّ خاطرة لا أهمية لها ذنبًا، ومرت عليها هذه المدة المديدة، ونالت من قرار العفو والبراءة ما نالت.. أقول إن الذي يَعدّها ذنبًا هو الذي يكون مذنبًا.
ولأجل إسناد هذا الذنب الموهوم، ذَكَر القرار ما أوردتُه في إحدى اللمعات وفي رسالة “المعجزات الأحمدية” على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، الحديث الشريف الآتي: “الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون مُلكًا عَضوضًا وفسادًا وجبروتًا”4عن سفينة أن الرسول (ﷺ) قال: “الخلافة بعدي في أمتى ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك” (رواه أحمد والترمذي وأبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه. وانظر: ابن كثير، تفسير القرآن ٣/٣٠٢؛ ابن حجر، فتح الباري ٨/٧٧)..
وقد كتبتُ في رسالة قديمة أن هذا الحديث الشريف يبين ثلاث معجزات غيبية مستقبلية، ولكن جاء في القرار -كأنه ذنب اقترفته-: “إن سعيدًا قد قال في رسالة: سيكون فسادًا وجبروتًا بعد الخلافة”.
يا أعضاء هيئة الخبراء السطحيين..
إن الذي يعدّ بيان إعجاز حديث شريف يخبر بإشارة غيبية عن حادثة ستقع في زماننا هذا يسري دمارُها في الأرض كلها، وعن فساد عظيم مادي ومعنوي يدب في البشرية كافة.. أقول إن من يَعُدّ هذا ذنبًا هو المذنب مادة ومعنى.
[“المنجزات الثورية” بدعة]
وكتبوا أيضًا “ومن ذنوبه: أنه يعدّ المنجزات الثورية (حركات الانقلاب) بدعةً وضلالةً وإلحادًا، فيَعُدّ إغلاق التكايا والزوايا والمدارس الدينية، وإقرار العلمانية، ووضع أسس القومية بديلًا عن مبادئ الإسلام، وفَرْضَ لبس القبعة، ورفع الحجاب، وفرض كتابة الحروف اللاتينية بديلًا عن الحروف القرآنية، وأداء الأذان والإقامة باللغة التركية، وإلغاء دروس الدين في المدارس، ومنح المرأة حقوقًا في الميراث كالرجل، وإلغاء تعدد الزوجات، وأمثالها من الأعمال.. يعدّ كل ذلك بدعة وضلالة وإلحادًا.. فلا شك أنه متهم بالرجعية”.
يا أعضاء هيئة الخبراء العديمي الإنصاف..
إنْ كان بمقدوركم إنكار ما يأمر به القرآنُ الكريم الذي هو إمام سماوي مقدس لثلاثمائة مليون في كل عصر، ويضم مناهج سعاداتهم جميعًا، وهو الخزينة المقدسة الحاوية على أسرار الحياتين الدنيوية والأخروية، يأمر في كثير من آياته الكريمة بصراحة تامة بما لا يحتمل التأويل، بالحجاب وقواعد الميراث ويسمح بتعدد الزوجات، ويدعو إلى ذكر اللّٰه، ويحث على تدريس علوم الدين ونشرها والحفاظ على الشعائر الدينية..
وإن كان بمقدوركم إدانة جميعِ مجتهدي الإسلام والقضاة وشيوخ الإسلام..
وإن كان بمقدوركم إنكار تقادم الزمان على تلك الرسائل وقرار عدة محاكم لها بالبراءة وقوانين العفو الصادرة بحقها وإنكار وجه سريتها وخصوصيتها..
وإن كان بمقدوركم رفع حرية الضمير والمعتقد وحرية الفكر من البلاد ومن الحكومات.. وإنكار كون مخالفة تلك الرسائل مخالفة فكرية وعلمية فحسب..
أقول إنْ كان بمقدوركم هذا فاعتبروني مذنبًا بتلك الأمور. وإلّا تكونوا أنتم المذنبون الرهيبون في محكمة العدالة والحق والحقيقة.
سعيد النورسي
❀ ❀ ❀
[مَن يفسر القانون الإلهي؟]
(فقرة أدلينا بها وكتبتْها المحكمة بإعجاب وحيرة ضدنا مع أنها ضدهم)
“وأنا أقول لمحكمة وزارة العدل الموقرة..
إن إدانة مَن يفسّر أقدسَ دستور إلهي وهو الحق بعينه، ويحتكم إليه ثلاثمائة وخمسون مليونًا من المسلمين في كل عصر في حياتهم الاجتماعية، خلال ألف وثلاثمائة وخمسين عامًا. هذا المفسِّر استند في تفسيره إلى ما اتفق عليه وصدَّق به ثلاثمائة وخمسون ألف تفسير، واقتدى بالعقائد التي دان بها أجدادُنا السابقون في ألف وثلاثمائة وخمسين سنة..
أقول: إن إدانة هذا المفسر قرارٌ ظالم لا بد أن ترفضه العدالةُ، إن كانت هناك عدالة على وجه الأرض، ولا بد أن تردّ هذا الحكم الصادر بحقه وتنقضه”.
❀ ❀ ❀
[ثلاث شخصيات لي]
(فقرة كتبتها المحكمة في قرارها بإعجاب وتقدير وكأنها تكون مادة ضدنا، والحال أنها تدينهم.)
يبحث سعيد النورسي في “المكتوب السادس والعشرين “عن نفسه ويقول:
“إن في أخيكم هذا الفقير ثلاث شخصيات كُلّ منها بعيدة عن الأخرى كل البعد، بل بعدًا شاسعًا جدًّا.
أولاها: شخصية مؤقتة خاصة خالصة لخدمة القرآن وحده، بكوني دلّالًا لخزينة القرآن الحكيم السامية. فما تقتضيه وظيفةُ الدعوة إلى القرآن والدلالةِ عليه من أخلاق رفيعة سامية ليست لي، ولا أنا أملكها، وإنما هي سجايا رفيعة يقتضيها ذلك المقام الرفيع وتلك الوظيفة الجليلة. فكل ما ترونه من أخلاق وفضائل من هذا النوع فهي ليست لي، وإنما هي خاصة بذلك المقام، فلا تنظروا إليّ من خلالها.
الشخصية الثانية: حينما أتوجه إلى بابه تعالى وأتضرع إليه، يُنعم عليّ سبحانه بشخصية خاصة في أوقات العبادة بحيث إن لتلك الشخصية آثارًا ناشئة من أساس معنى العبودية، وذلك الأساس هو معرفة الإنسان تقصيرَه أمام اللّٰه وإدراكُ فقره نحوه وعجزِه أمامه والالتجاءُ إليه بذل وخشوع، فأرى نفسي بتلك الشخصية أشقى وأعجز وأفقر وأكثر تقصيرًا أمام اللّٰه من أي أحد كان من الناس، فلو اجتمعتْ في ذلك الوقت الدنيا برمّتها في مدحي والثناء عليّ لا تستطيع أن تقنعني بأنني صالحٌ وفاضل.
ثالثتها: هي شخصيتي الحقيقية، أي شخصيتي الممسوخة من “سعيد القديم”، وهي عروق ظلت من ميراث “سعيد القديم”. فتُبدي أحيانًا رغبةً في الرياء وحب الجاه، وتبدو فيّ أخلاقٌ وضيعة مع المبالغة في الاقتصاد إلى حدّ الخسة، حيث إنني لست سليل عائلة ذات جاه وحسب.
فيا أيها الإخوة.. لن أبوح بكثير من المساوئ الخفية لهذه الشخصية ومن أحوالها السيئة، لئلا أنفّركم عني كليًّا.
وقد أظهر سبحانه وتعالى عنايته الرحيمة فيّ بحيث يُسخّر شخصيتي هذه -التي هي كأدنى جندي- في خدمة أسرار القرآن التي هي بحكم أعلى منصب للمشيرية وأرفعها.. فله الحمد والمنة ألفَ ألفِ مرة.
فالنفس أدنى من الكل، والوظيفة أسمى من الكل.
﴿الحمد للّٰه.. هذا من فضل ربي﴾
❀ ❀ ❀
[إن كان لكم جرأة فتعرضوا لي وانتظروا عدالة القدَر]
(هذه جملة سجّلتها المحكمة في القرار بتخوف شديد ضدنا، والحال أن تلك الجملة الشديدة التي كُتبتْ قبل خمس عشرة سنة قد عدّلت إلى هذه الصيغة.)
“إخوتي.. مراعاةً لمشاعر الأبرياء والشيوخ، لا تثأروا لي ممن يقتلني ظلمًا، فحسبهم عذاب القبر والسَّقر”.
ينبغي أن تحملهم هذه الفقرة السابقة على الإنصاف:
“إنكم ترون أن لنا خلافًا ومعارضة كلية معكم، ومعاملاتُكم القاسية شاهدةٌ على ذلك، فأنتم تضحون بدينكم وآخرتكم في سبيل دنياكم؛ ونحن بدورنا مستعدون على الدوام للتضحية بدنيانا في سبيل ديننا، وفي سبيل آخرتنا، وهذا هو سر المعارضة التي بيننا حسب ظنكم.
ولا جرم أن التضحية ببضع سنين من حياتنا التي تمضي في ذل وهوان في ظل حُكمكم القاسي قساوةَ الوحوش لنكسِبَ بها شهادة خالصة في سبيل اللّٰه، تُعدّ ماءَ كوثر لنا، ولكن استنادًا إلى فيض القرآن الحكيم وإشاراته، أُخبركم يقينًا بالآتي لترتعدَ فرائصُكم:
إنكم لن تعيشوا بعد قتلي، فإن يدًا قاهرة ستأخذكم من دنياكم هذه التي هي جنتكم وأنتم مغرمون بها، وتطردكم عنها، وتقذف بكم فورًا إلى ظلمات أبدية، وسيُقتل بعدي رؤساءكم الذين تَنمرَدوا وطغَوا قِتلة الدواب، ويُرسَلون إليّ، وسأمسك بخناقهم أمام الحضرة الإلهية، وسآخذ حقي منهم بإلقاء العدالة الإلهية إياهم في أسفل سافلين.
أيها الشقاة الذين باعوا دينهم وآخرتهم بحطام الدنيا..
إن كنتم تريدون أن تعيشوا حقًّا فلا تتعرضوا لي ولا تمسّوني بسوء، وإن تعرضتم فاعلموا أن ثأري سيؤخذ منكم أضعافًا مضاعفة.. اعلموا هذا جيدًا ولترتعدْ فرائصكم!
وإني آمل من رحمة اللّٰه سبحانه أن موتي سيخدم الدين أكثر من حياتي، وأن وفاتي ستنفلق على رؤوسكم انفلاقَ القنبلة، وستشتت رؤوسَكم وتبعثرها.
فإن كانت لكم جرأة، فتعرّضوا لي، فلئن كان لكم ما تفعلونه بي، فلتَعلمُنّ أن لكم ما تنتظرونه وتلاقونه من عقاب.
❀ ❀ ❀
[رسائل النور يخشاها الجبابرة]
(هذه الفقرة أوردتها المحكمة لإدانتي والحال أنها تتهمهم بالإفراط)
يَرِد في الرسائل:
“دخل مصطفى كمال ديوان رئاسة الجمهورية بأنقرة وهو على أشد الغضب وقال له: “إننا دعوناك إلى هنا لِتُقدِّم لنا أفكارًا راقية وآراء قيمة، ولكنك ما إن أتيت كتبتَ أشياء حول الصلاة، فأوقعتَ فيما بيننا الاختلاف والتفرقة”.
وردّ عليه سعيد: “إن من لا يصلي خائن، وحكم الخائن مردود”.
ثم أبدى مصطفى كمال نوعًا من الاسترضاء له متراجعًا عن غضبه وحدّته.
وعلى الرغم من أنه (أي سعيد) قد جرحَ مشاعرَ مصطفى كمال وخرق مبادئه، إلّا أن مصطفى كمال لم يمسّه بسوء.
وإنها لكرامة ساطعة لرسائل النور وقوة عظيمة خارقة لشخصها المعنوي ولطلابها الروّاد والأبطال في المستقبل: أن يخشى منها قوادٌ جبابرة كما كانوا يخشون من “سعيد القديم”.”
❀ ❀ ❀
[نرفض تحويل آيا صوفيا إلى متحف]
(فقرة ألزمت المحكمةَ وجعلتْها مسؤولة مع أنها اتُّخِذت ضدنا في القرار)
يُذكر -في الرسائل- “إننا لسنا مع زعيم أصدر حسب هواه أوامر باسم القانون ونفذها بقوة لتحويل “جامع أياصوفيا” إلى دار للأصنام، وجعل مقر المشيخة الإسلامية العامة ثانوية للبنات، لسنا معه فكرًا ولا موضوعًا، ولا من حيث الدافع ولا من حيث النتيجة والغاية، ولا نجد أنفسنا ملزمين بقبول أمر كهذا”.
ويكتب في عريضته المؤرخة في ٢٩/٨/١٩٤٨:
“وَرَدَ هذا الفكرُ إلى قلبي: إنه ضروري جدًّا لصالح الأمة ولنفع البلاد أن تحافِظ الحكومة عليّ حفاظًا تامًا وتَمُدّ يد المعاونة إليّ.
إلّا أنها تُضيق الخناقَ عليّ، مما يومئ إلى أن الذين يحاربونني هم منظمة الزندقة السرية وقسم من منظمة الشيوعية الذين التحقوا بهم، هؤلاء قد قبضوا على زمام الأمر في عدد من المناصب الرسمية المهمة في الدولة، فيهاجمونني ويجابهونني، أما الحكومة فإما أنها لا تعرفهم أو تسمح لهم.
ويا ترى أي ذنب وأي جريرة في أن تَنتقدَ أو تُضمِر عدمَ المحبة لرجل حوَّل جامع أياصوفيا الذي هو مبعث الشرف الأبدي لأمة بطلة، والدرة الساطعة لخدماتها وجهادها في سبيل القرآن، وهدية تذكارية نفيسة من هدايا سيوف أجدادها البسلاء.. حوَّله إلى دار للأصنام وبيت للأوثان، وجعل مقر المشيخة الإسلامية العامة ثانوية للبنات؟!
❀ ❀ ❀
[التلاعب بالمفاهيم وتحريف المصطلحات]
(هذه الفقرة هي أقوى فقرة ظنت المحكمةُ أنها تنـزل العقاب بسعيد. وهو الكلام الذي أطلقه سعيد في محكمة دنيزلي تجاه أعدائه المتسترين، إلّا أن المحكمة قد فهمتها خطأ، بل خطأ كليًّا، أنها فقرة ضد الدولة والحكومة تمامًا، وأظهرتها سببًا لإنـزال العقاب بي.)
لقد أَطلق على قسم من القوانين الحديثة للدولة التي سنّت هذه القوانين الانقلابية ووضعتها موضع التنفيذ اسمَ “الاستبداد الكفري الاعتباطي”، وعلى الجمهورية اسم “الاستبداد المطلق”، وعلى النظام اسم “الارتداد المطلق” وعلى الشيوعية والمدنية اسم “السفاهة المطلقة”.
❀ ❀ ❀
[فوائد دنيوية وأخروية لرسائل النور]
(فقرة كتبت في قرار المحكمة بإعجاب وتقدير)
ويذكر: أن لكتابة رسائل النور فوائد دنيوية وأخروية كثيرة جدًا، منها:
١- الجهاد المعنوي تجاه أهل الضلالة.
٢- مساعدة الكاتب لأستاذه على نشر الحقائق.
٣- خدمة المسلمين من حيث الإيمان.
٤- كسب العلم بالقلم.
٥- القيام بعبادة فكرية التي تعدل ساعة منها أحيانًا سنة من العبادة.
٦- حُسن الخاتمة ودخول القبر بالإيمان.
وكذا لها خمس أنواع من الفوائد الدنيوية:
١ – البركة في الرزق.
٢- الانشراح والسرور في القلب.
٣- اليسر في العيش.
٤- التوفيق في الأعمال.
٥ – الاشتراك في أدعية طلاب النور جميعهم، لكسبه فضيلة طالب العلم.
وسيدرك شبابُ الجامعة هذه الأمور عن قريب وستحوّل الجامعة إلى مدرسة نورية.
❀ ❀ ❀
[رؤوسنا فداء للحقائق القدسية]
(إنه لمحير أن تعدّ هذه التضحية الخالصة جرمًا وذنبًا)
إن إحدى الخطتين اللتين حاكهما المنافقون المتسترون في جنح الظلام هي التهوين من شأني. وكأن قيمة الأنوار الرفيعة لرسائل النور تسقط بهذا من عليائها.
والثانية: هي بث القلق والاضطراب في صفوف طلاب النور، وكأنهم بهذا يعيقون انتشار رسائل النور.
لا تقلقوا يا إخوتي.. إن حقيقةً سامية افتدتها ملايين الرؤوس فداءٌ لها رؤوسُنا نحن الضعفاء أيضًا.
❀ ❀ ❀
[تسمية رسائل النور]
(لقد اعترضوا على واحد من الأسباب التسعة الداعية إلى تسمية رسائل النور بهذا الاسم. فقالوا: إننا لا نرى مَن تسمّى باسم “نور” من بين طلابه الممتازين.
وكما أجبنا عنه في الهامش فإن كلًا من “نوري بنلي ونوري الساعاتي” من الممتازين في خدمة النور حاليًّا، بمعنى أنهم لا يجدون ما ينتقدونه ولكنهم يضطرون إلى التشبث بحجج جزئية تافهة.)
إنه يذكر في “الكلمة السادسة والعشرين”:
إن سبب إطلاق اسم رسائل النور على مجموع الكلمات (وهي ثلاث وثلاثون كلمة) والمكتوبات (وهي ثلاثة وثلاثون مكتوبًا) واللمعات (وهي إحدى وثلاثون لمعة) والشعاعات (وهي ثلاثة عشر شعاعًا) هو أن كلمة النور قد جابهتني في كل مكان طوال حياتي، منها:
أن قريتي اسمها: نورس.
واسم والدتي المرحومة: نورية.
وأستاذي في الطريقة النقشبندية: سيد نور محمد.
وأستاذي في الطريقة القادرية: نور الدين.
وأستاذي في القرآن: نوري.
وأكثر من يلازمني من طلابي من يسمَّون باسم نور.
وأكثر ما يوضح كتبي وينورها هو التمثيلات النورية.
وأكثر ما حل مشكلاتي في الحقائق الإلهية هو: اسم “النور” من الأسماء الحسنى.
ولشدة شوقي نحو القرآن وانحصار خدمتي فيه فإن إمامي الخاص هو سيدنا عثمان ذو النورين رضي اللّٰه عنه.
❀ ❀ ❀
[رسالة الهجمات الست]
(إن رسالة “الهجمات الست” وذيلها قد كتبت قبل عشرين سنة لمجابهةِ تَعَدٍّ ظالمٍ شديد، وهي رسالة في غاية الخصوصية والسرية، وقد مرّت بين يدي محاكم كثيرة، وكُتبت في حالة سَورة غضب انتابتني، والحرب العالمية الثانية أظهرت أن تلك السَّورة كانت محقةً، إلّا أن مصادرتها -وكأنها قد كتبت حاليًّا- وعدَّها ذنبًا وجريرة: بُعدٌ عن العدالة عظيم.)
تُستهل مقدمة ذيل “الهجمات الست” بالآتي:
كُتب هذا الذيل (للتداول الخاص)، لتجنُّب ما يرد في المستقبل من كلمات الإهانة وشعور الكراهية، أي لئلا يصيب بصاقُ إهانتهم وجوهَنا، أو لمَسْحِه عنها عندما يُقال: تبًّا لرجال ذلك العصر العديمي الغيرة!
وكُتب تقريرًا ولائحة لترن آذانٌ صمّ، آذانُ رؤساءِ أوروبا المتوحشين المتسترين بقناع الإنسانية.. ولينغرز في العيون المطموسة، عيونِ أولئك العديمي الضمير الجائرين الذين سلّطوا علينا هؤلاء الظلمة الغدّارين.. وليُنـزِل صفعةً كالمطرقة على رؤوسِ عبيدِ المدنيةِ الدنيّة التي أذاقت البشرية في هذا العصر آلامًا جهنمية حتى صرخت في كل مكان: لتعش جهنم!
[أيها القيادات.. على أي نظام تعتمدون؟]
لقد حدثت في الفترة الأخيرة اعتداءات شنيعة كثيرة على حقوق المؤمنين الضعفاء، من الملحدين المتخفين وراء الأستار، وأخص بالذكر اعتداءهم عليّ تعديًا صارخًا، باقتحامهم مسجدي الخاص الذي عَمّرتُه بنفسي، وكنا فيه مع ثلّة من رفقائي الأعزاء، نؤدي العبادة، ونرفع الأذان والإقامة سرًّا، فقيل لنا: لِمَ تقيمون الصلاة باللغة العربية وترفعون الأذان سرًّا؟
نفد صبري في السكوت عليهم، وها أنذا لا أخاطب هؤلاء السفلة الدنيئين الذين حُرموا من الضمير، وليسوا أهلًا للخطاب، بل أخاطب أولئك الرؤساء المتفرعنين في القيادة الذين يلعبون بمقدرات الأمة حسب أهواء طغيانهم.
فأقول: يا أهل الإلحاد والبدعة.. إني أطالبكم بالإجابة عن ستة أسئلة:
السؤال الأول: إن لكل حكومة -مهما كانت- ولكل قوم، بل حتى أولئك الذين يأكلون لحم البشر، بل حتى رئيس أية عصابة شرسة، منهجًا وأصولًا ودساتير، يحكمون وفقها.
فعلى أيّ أساس من دساتيركم وأصولكم تتعدّون هذا التعدي الفاضح؟! أظهِروه لنا.. أم إنكم تحسبون أهواء عددٍ من الموظفين الحقراء قانونًا؟ إذ ليس هناك قانون في العالم يسمح بالتدخل في عبادة شخصية خاصة! ولا يُسنّ قانون في ذلك قطعًا.
❀ ❀ ❀
[لا يُتوقَّع من هؤلاء رقيٌّ ولا حضارة]
(إنه ليبعث على الأسف اتخاذُهم جملة أو جملتين من رسالة “الإشارات السبع” ذريعةً لمصادرتها وحُجةً علينا مع أنها رسالة قديمة وخاصة وسرية، وتتضمن حقيقة قوية ورصينة، بحيث تستحق أن تعلَن لصالح الحياة الاجتماعية على البشرية جمعاء والعالم أجمع.)
إن أحمق الحمقى في الدنيا هو من ينتظر من أمثال هؤلاء الملحدين السفهاء الرقيَّ وسعادةَ الحياة.
ولقد قال أحد هؤلاء الحمقى، وهو يشغل منصبًا مهما: “إننا تأخرنا لقولنا: اللّٰه.. اللّٰه.. بينما أوروبا تقدمت لقولها: المدفع.. البندقية!”.
إن جواب أمثال هؤلاء: السكوت حسب قاعدةِ: “جواب الأحمق السكوت”، ولكننا نقول قولًا لأولئك العقلاء الشقاة الذين يتبعهم هؤلاء الحمقى:
أيها البائسون.. هذه الدنيا إنما هي دار ضيافة..
فما دام الموتُ موجودًا، وأن المصير إلى القبر حتمًا، وأن هذه الحياة ماضية راحلة، وستأتي حياةٌ باقية خالدة، فإن قيل: المدفع.. البندقية مرة واحدة، فلا بد من القول ألف مرة: “اللّٰه.. اللّٰه”.
❀ ❀ ❀
[رؤوس الرؤساء مخمورة.. لا يقرؤون ولا يفقهون]
(إن ما يوجب الحيرة، أن جملة من “اللمعة السادسة عشرة” وهي لصالحنا، حوّلوها إلى جملة ضدنا، وأبدوا رغبة في مصادرة تلك الرسالة القيمة.)
من” اللمعة السادسة عشرة”:
إن مصيبة الحرب وبلاءها ضرر بالغ لخدمتنا القرآنية.. إن القدير ذا الجلال الذي يطهّر وجه السماء الملبّد بالغيوم ويبرز الشمس الساطعة في وجه السماء اللامع خلال دقيقة واحدة، هو القادر أيضًا على أن يزيل هذه الغيوم السوداء المظلمة الفاقدة للرحمة، ويُظهر حقائق الشريعة كالشمس المنيرة بكل يسر وسهولة وبغير خسارة.
إننا نرجو هذا من رحمته الواسعة، ونسأله سبحانه أن لا يكلِّفنا ذلك ثمنًا غاليًا، وأن يمنح رؤوس الرؤساء العقلَ ويهب لقلوبهم الإيمان. وهذا حسْبُنا، وحينها تتعدل الأمور بنفسها وتستقيم.
ما دام الذي في أيديكم نورًا، وليس هراوة وصولجانًا، فالنور لا يُعارَض ولا يُهرَب منه، ولا ينجم من إظهاره ضرر، فلِمَ إذن توصون أصدقاءكم بأخذ الحذر وتمنعونهم من إبراز رسائل نيّرة كثيرة للناس كافة؟
مضمون جواب هذا السؤال باختصار هو: أن رؤوس كثير من الرؤساء مخمورة، لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يفهمون، فيؤوّلونه إلى معنى خطأ، ويعترضون ويهاجمون.
لذا، وللحيلولة دون الهجوم ينبغي عدم إظهار النور لهم لحين إفاقتهم واسترجاع رشدهم.
ثم إن هناك غير منصفين كثيرين، ينكرون النور، أو يغمضون أعينهم دونَه، لأغراض شخصية خاصة، أو خوفًا أو طمعًا..
ولأجل هذا أوصي إخوتي أيضًا ليأخذوا حذرهم ويحتاطوا للأمر، وعليهم أن لا يعطوا الحقائق أحدًا من غير أهلها، أن لا يقوموا بعمل يثير أوهام أهل الدنيا وشبهاتهم عليهم.
❀ ❀ ❀
[حجاب المرأة شريعة إلهية]
(إن الحجاب أمر قرآني، و قد أُجيب عنه جوابًا شافيًا في الرسائل. علمًا أن هذه الرسالة قد كتبت سابقًا وقاسينا العقاب بسببها. ولكن رغم هذا اتخذوها ذنبًا اقترفناه واعتبروها حُجة علينا.
ثم إن بداية حقيقة جليلة وردت في رسالة “الشيوخ” و”مرشد الشباب”، تلك الحقيقة القيمة النافعة للناس كلهم، جعلوها جريرة لنا ومبررًا لمصادرة تلك الرسالة.. كل ذلك يدل على أنهم لا يجدون ما يتذرعون به للانتقاد والجرح.)
في “اللمعة الرابعة والعشرين”، بعد الإيضاح أن الحجاب أمر قرآني يقول: “ولقد طرق سمعَنا أن صباغَ أحذيةٍ قد تعرض لزوجةِ رجلٍ ذي منصب دنيوي كبير، كانت مكشوفة المفاتن، وراودها نهارًا جهارًا في قلب العاصمة “أنقرة”! أليس هذا الفعل الشنيع صفعةً قوية على وجوه أولئك الذين لا يعرفون معنى الحياء من أعداء العفة والحجاب؟”.
وفي “اللمعة السادسة والعشرين” الخاصة بالشيوخ:
“ففي ذات يوم من الأيام الأخيرة للخريف، صعدتُ إلى قمّة قلعة أنقرة، التي أصابها الكِبر والبلى أكثر مني، فتمثّلتْ تلك القلعةُ أمامي كأنها حوادث تاريخية متحجرة، واعتراني حزن شديد وأسى عميق من شيب السنة في موسم الخريف، ومن شيبي أنا، ومن هرم القلعة، ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية، ومن وفاة سلطنة الخلافة.. فاضطرتني تلك الحالة إلى النظر من ذروة تلك القلعة المرتفعة إلى أودية الماضي وشواهق المستقبل.
فالماضي أوحشني بدلًا من أن يسلّيني ويمنحني النور.
والمستقبل تراءى لي على صورة مقبرةٍ كبرى مُظلِمةٍ لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضًا من أن يؤنسني.
ثم نظرت إلى زمني الحاضر، فبدا ذلك اليوم لنظري الحسير ونظرتي التاريخية على شكلِ نعش لجنازة جسمي المضطرب كالمذبوح بين الموت والحياة.
❀ ❀ ❀
[كفتني بركة الاقتصاد]
(كان عليهم أن يقدّروا هذه الجملة حق قدرها إلّا أنهم انتقدوها واتخذوها حجة علينا.)
يَذكر: “لقد صرفتُ كثيرًا من مرتّبي الذي كنت قد قبضته وأنا في “دار الحكمة الإسلامية” وادّخرت قليلًا منه لأداء فريضة الحج. وقد كفَتني تلك النقود القليلة ببركة القناعة والاقتصاد، فلم يُرَق مني ماءُ الوجه. وما زالت بقية من تلك النقود المباركة موجودة”.
ثم في “اللمعة الثانية والعشرين” بعد أن يشير إلى أنها رسالة سرية خاصة لإخوته الصادقين الخالصين يقول:
“الإشارة الأولى: لِمَ يتدخل أهل الدنيا بأمور آخرتك كلما وجدوا لهم فرصة، مع أنك لا تتدخل في شؤون دنياهم؟
إن الذي يجيب عن هذا السؤال هو حكومة محافظة إسبارطة وأهاليها”.
❀ ❀ ❀
[بركة رسائل النور على أجيال المستقبل]
(إن الذين يتوهمون هذا الأمل الخالص والرغبة النـزيهة النابعة من الشفقة الإيمانية والذي يوجب الإعجاب.. يتوهمونه ذنبًا نقترفه، لا شك أنهم هم المذنبون.)
في رسالة موقَّعة باسم “سعيد” يُذكر: “تُرى ما حكمة تراكض الأطفال الأبرياء الذين تتراوح أعمارهم من السابعة إلى العاشرة لمجرد ملاحظتهم إياي وأنا أتجول في العربة الحصانية، ثم التفافهم حول يدي؟
كنت أحار أمام هذا المنظر، ولكن إذا بخاطر يخطر إلى قلبي فأدركت أن هؤلاء الأطفال الأبرياء يستشعرون بحسٍ قبل الوقوع أنهم سينالون السعادة برسائل النور وسينجون من مهالك معنوية ستحيط بهم”.
❀ ❀ ❀
[إنقاذ الإيمان من وظائف المجدد الأكبر]
(إن عدّ هذه الفقرة الآتية ذنبًا ظلمٌ وخارج عن الإنصاف تلك التي كانت في البداية دفاعًا لي وفي النهاية تمنيًا ورغبة.)
يذكر: “إن قسمًا من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة يشيران معًا إلى حقيقة نورانية في هذا العصر، ويُظهران المجدد الأكبر الذي سيأتي في آخر الزمان، وإن أهم وظيفة من وظائفه الثلاث الجليلة هي إنقاذ الإيمان.
ويذكر أن إحياء الشريعة وإقامة الخلافة وما شابهها من الوظائف العظيمة الشاملة لدائرة واسعة جدًا، لا ضرر من عدم ذكرهما، حيث إنه يكون وسيلة لانتقاد المعارضين وهجوم السياسيين، لذا يرفع بعض الجمل ويعدّلها وسيعيدها إلى إخوته المدققين.
وفي رسالة موقّعة باسم “سعيد النورسي” :
بينما سُترت الآيتان الكريمتان: ﴿انا فتحنا لك فتحًا مبينًا﴾ و﴿وينصرك اللّٰه نصرًا عزيزًا﴾ الموجودتان على الباب الخارجي لبناية الوزارة الحربية المتحولة إلى الجامعة بالرخام، فإن إبرازَهما مثال على السماح لاستعمال الخط القرآني، ووسيلة لما تقصده رسائل النور من استعمال الخط القرآني وإشارة إلى تحول الجامعة إلى مدرسة نورية.
❀ ❀ ❀
[مسألة المهدوية]
(إن ما بيّنوه من نقد حول إيضاحي للحقيقة الواردة في رسالة تكبيرات الحجاج، جوابُه المسكت المقنع هو الهامش الذي وضعه” خسرو”.)
يقول في رسالة موقعة باسم “سعيد النورسي”، ومعنونة بتكبيرات الحجاج:
إن قسمًا من طلاب النور الذين لهم أهمية، يظنون بك أنك الشخص الذي سيأتي في آخر الزمان من آل البيت، ويصرّون على ظنهم هذا، ولكنك ترفض بإصرارٍ أيضًا ما يدور في أذهانهم، وتتحرز منه وتتجنّبه، وهذا في ذاته تناقض وتضادٌّ نريد حلَّه.
ثم يُردف إزاء سؤالهم هذا قولَه:
“إن الشخص المعنوي الذي يمثل مهديَّ الرسول المنتظر له ثلاث وظائف، وأهم تلك الوظائف هي إنقاذ الإيمان، ثم إحياء الشعائر الإسلامية باسم الخلافة المحمدية، ويسعى ذلك الشخص لإنجاز هذه المهمة نظرًا لتعطّل كثير من أحكام القرآن وقوانين الشريعة المحمدية.
هذا وإن طلاب النور يرون أن الوظيفة الأولى كليًّا في عهدة رسائل النور. أما الوظيفتان التاليتان فهما بالنسبة للأولى ثانوية وثالثية، لذا يتلقون الشخص المعنوي لرسائل النور أنه نوع من المهدي حقًّا، ويعطَى ذلك الاسمُ أحيانًا إلى هذا الضعيف العاجز الذي يَعتقد قسمٌ منهم أنه يمثل ذلك الشخص المعنوي، حتى إن قسمًا من الأولياء يرون في كراماتهم الغيبية أن رسائل النور هي مهدي آخر الزمان ومرشده. وهم يقولون: إن هذا الأمر يُفهم بالتحقيق والتأويل، ولكن هناك التباس في نقطتين، لا بد من التأويل.
الأولى: أن الوظيفتين الأخيرتين، رغم أنهما ليستا بأهمية الوظيفة الأولى من زاوية الحقيقة، إلّا أن الخلافة المحمدية والاتحاد الإسلامي هما لدى عامة الناس وأهل السياسة ولا سيما في أفكار هذا العصر: أهم من الوظيفة الأولى بألف مرة.
وعلى الرغم من أن اللّٰه يبعث في كل عصر مهديًّا ومرشدًا -وقد بعث فعلا- إلّا أنهم لم يحرزوا لقب المهدي الأكبر لآخر الزمان، حيث إنهم أدَّوا في جهة من الجهات وظيفة واحدة من تلك الوظائف الثلاث.
الثانية: أن ذلك الشخص العظيم الذي سيظهر في آخر الزمان هو من آل البيت، وإني وإن كنت بمثابة ولد معنوي لسيدنا علي رضي اللّٰه عنه حيث تلقيت منه درسَ الحقيقة، وأن آل محمد شامل لطلاب النور الحقيقيين في معنًى من معانيه، وأُعَدّ من هذه الجهة من آل البيت، إلّا أنه ليس في مسلك النور إظهارُ الشخصيات وإبراز الأنانية، ولا الرغبة في نيل مقامات شخصية رفيعة، ولا الحصول على السمعة والصيت، بل حتى لو أُعطيتُ مقامات أخروية فإني أرى نفسي مضطرًّا للتخلي عنها لكيلا أخلّ بالإخلاص في النور.
وهذا يعني أنه يجيب بما يُشَمُّ منه موافقته الجزئية للموضوع إذ ليس فيه ردّ حاسم ورفض جاد لهذه المسألة: المهدية.
﴿(٭): أيتها الهيئة غير المنصفة: كيف يكون إذن الردّ الحاسم؟ باسم طلاب النور.. خسرو.﴾
❀ ❀ ❀
[رسائل النور وسيلة لدفع البلايا والآفات]
(إن الحوادث المذكورة في هذه الفقرة واقعة فعلًا وبصورة عجيبة محيرة، فإن حدوث الزلزلة عقب ثلاث دقائق من قولي: “لا تُحزنوني إن الأرض تغضب عليكم”، كان المفروض عليهم أن يأخذوا المسألة بجدّ ويستحسنوا الموقف، وذلك بمقتضى الشفقة، حيث إنها ليست موضع انتقاد واعتراض.)
“بعد مرور عشر ساعات على أخذ إفادته التي دامت أربع ساعات وهو يعاني الضيق، دبّ الحريق في دائرة المعارف، حتى كأنها في الوقت نفسه، مما أَظهر أن رسائل النور وسيلة لدفع البلايا بحيث لو هوجمت وجدت البلايا لها منفذًا فتنـزل”.
وفي الرسالة المرقمة مائة وواحدًا وأربعين:
بعد أخذ إفادته التي دامت أربع ساعات ونصف الساعة، يَذكر حوادث الحريق التي نشبت في دائرة المعارف في “أنقرة” وفي كراج السيارات وفي معمل في” إزمير “وفي عمارة كبيرة في “أطنه”.. ثم يذكر قوله: “لا تحرموني من الرسائل، وإلّا تكن خسارة جسيمة لي ولهذا الوطن، فالأرض تحتد وتغضب بالزلزلة“.
وبعد قولته هذه بثلاث دقائق وقعت الزلزلة ودامت ثلاث ثوانٍ، وأظهرت غضبَ الأرض، وشبت النار في دائرة المعارف، في وقت الهجوم على رسائل النور وطلابها، وقد ثبت هذا فعلًا لدى المحكمة أن حدوث الزلازل ونشوب الحريق تلازم وقت الهجوم على رسائل النور، فهذه الحوادث لا يمكن أن تكون مصادفة.
لقد أصبحت رسائل النور وسيلة لدفع كثير من البلايا في هذه البلاد، فهناك وقائع كثيرة جدًّا على هذا.
وفي الرسالة المرقمة مائة وسبعًا وأربعين يذكر أن الشتاء قد غضب غضبًا شديدًا، في الوقت الذي شُنّ الهجوم علينا وقد أظهر غضبُ الهواء وحدّتُه بالعواصف والبرد الشديد أنه متى ما توقفت الهجمات على الرسائل وطلابها، فإن ابتهاج طلاب النور يبدّل تلك العواصف القاسية إلى أيام ربيع بهيجة.
إن الحريق الذي دبّ في دائرة المعارف صفعة قوية.
❀ ❀ ❀
[بِمَ تعيش؟!]
(إن الحالة التي يجب أن تُبارَك، لا يُنظر إليها نظر الاعتراض.)
سألوني في هذه المرة في المحكمة ضمن أسئلة لا معنى لها، قائلين: بِمَ تعيش؟
فقلت: ببركة الاقتصاد.. إن من كان في “إسبارطة” ويعيش في شهر رمضان على رغيف واحد، وكيلو من اللبن وكيلو من الرز، لا يتنازل للدنيا كلها لأجل العيش، ولا يضطر إلى قبول الهدايا.
❀ ❀ ❀
[شبابنا يطلب العلم والفضيلة]
(قد ساق الثناءُ الساطع لـ”زبير ” ودفاعُه الذي قرأه أمام المحكمة إلى التقدير والاستحسان بإذن اللّٰه بحيث أدرجوه بإعجاب في القرار.)
إن ما كتبه” زبير” في إحدى الملازم المطبوعة بالآلة الطابعة والمعنونة بـ(شبابنا يطلب علمًا وأخلاقًا راقية تعلّم الحق والحقيق) جاء في صفحتها العاشرة”: إن رسائل النور التي تنقذ مسلمي القرن العشرين والبشرية عامة من ظلمات الأفكار الباطلة القاتمة ليست من بنات أفكار المؤلف نفسه بل إلهام قذفه رب العالمين إلى قلب المؤلف، فهي رسائل راقية قيمة نفيسة”.
وجاء في الصفحة الثانية عشرة:
“إذا ما قيل لطالب يخدم في مجال رسائل النور: استنسخْ هذه الكتبَ بدلًا عن رسائل النور، أعطيك ثروة “فورد” وغناه. لأجابهم قبل أن يَرفع طرفَ قلمِه من كتابة رسائل النور: لا أقبل حتى لو أَعطيتم لي ثروةَ الدنيا كلها وسلطنتَها”.
وفي الصفحة الخامسة عشرة:
“إن كانت درجة ارتباطنا لنـزيهي الفكر من المؤلفين مائة درجة، فإن درجة ارتباطنا لشخصية عظيمة كبديع الزمان الذي يرشدنا إلى سعادة الدنيا والآخرة بلايين البلايين، بل بغير نهاية”.
وفي الصفحة الثانية عشرة:
“إن الشخص المعنوي لرسائل النور قد شخَّص أمراض هذا العصر الاجتماعية والروحية والدينية، وعرض لإنسان هذا العصر بعناية اللّٰه ما يداويه من العِلل الاجتماعية المزمنة بأدوية نابعة من حقائق القرآن”.
وفي الصفحة الرابعة والأربعين:
“قال بديع الزمان: من يقرأ هذه الرسائل لسنة كاملة يمكن أن يكون عالمًا جليلًا في هذا الزمان. نعم، إنه كذلك.”.
وفي الصفحة الرابعة والخمسين:
“إن الحكام الذين قرؤوا رسائل النور لا يُتوقع صدور قرارات غير صائبة منهم”.
❀ ❀ ❀
[عشر نقاط إلى رئاسة محكمة التمييز]
إلى رئاسة محكمة التمييز
في جلسة محكمة التمييز التي راجعْناها لإبطال القرار الجائر الذي أصدرتْه محكمة “أفيون” في حقنا لم يَدَعوا لي فرصة للكلام، بل تَلَوا علينا اتهامًا ثالثًا شديد اللهجة، ولم يسمحوا لأحد أن يساعدني في الكتابة، وفضلًا عن رداءة خطي في الكتابة فقد كنت مريضًا، وهذه الشكوى التي كتبتها وأنا مريض أقدمها إلى مقامكم “الذي أنصفني مرتين إنصافًا تاما” كلائحة تمييز.
﴿باسمه سبحانه﴾
هذه عريضة إلى محكمة الحشر الكبرى، وشكوى إلى المقام الإلهي، ولتسمعها محكمة التمييز في الوقت الحالي والأجيال الآتية في المستقبل وليسمعها أساتذة دار الفنون “الجامعة” وطلابها المثقفون، فمن مئات المصائب والبلايا التي واجهتها طوال ثلاث وعشرين سنة اخترت عشرًا منها لعرضها على عدالة المقام الإلهي ذي الجلال الحاكم المطلق مشتكيًا إليه:
[1: لم نقترف جرمًا]
الأولى: مع أنني شخص مقصر، فقد نذرت كل حياتي في سبيل سعادة هذه الأمة وفي سبيل إنقاذ إيمانها، ولقد سعيت بكل جهدي للعمل برسائل النور لكي أضحى بنفسي في سبيل حقيقة افتدتها ألوف الأنفس، وهي الحقيقة القرآنية، واستطعتُ بتوفيق من اللّٰه تعالى وفضل منه أن أتحمل شتى ضروب التعذيب، فلم أتقهقر ولم أنسحب.
أسوق مثالًا واحدًا من التصرفات الغادرة والظالمة التي واجهتها في سجن أفيون وفي محكمتها:
مع أنهم أسمعوني وأسمعوا طلابَ النور الأبرياء الذين كانوا ينتظرون السلوان من عدالة المحكمة ثلاث مرات لائحة الاتهام المليئة بالافتراءات، وكانت قراءة اللائحة تستغرق كل مرة ساعتين في الأقل، إلّا أنهم لم يسمحوا لي بالكلام وبالرد إلّا لمدة دقيقة واحدة أو دقيقتين، مع أنني رجوت منهم أن يسمحوا لي بالدفاع عن حقوقنا لمدة خمس أو عشر دقائق.
ومع أنني أبقيت معزولًا لمدة عشرين شهرًا في سجن انفرادي، إلّا أنهم لم يأذنوا لأحد بزيارتي ورؤيتي إلّا لصديقين أو ثلاثة ولمدة ثلاث أو أربع ساعات فقط، وقد ساعدتني هذه الزيارة مساعدة جزئية جدًّا في كتابة دفاعي.
ثم منعوا هؤلاء أيضًا، وعاملوهم معاملة قاسية وعاقبوهم، وأجبرونا على سماع لائحة الاتهام للمدعي العام البالغة خمس عشرة صحيفة والتي ملأها بالأكاذيب المغرضة وبالافتراءات وبسوء الفهم، حتى إنني أحصيت فيها واحدًا وثمانين خطأً، ولم يسمحوا لي بالكلام وبالرد، ولو سمحوا لي بذلك لقلت لهم:
بينما لا تتعرضون لليهود ولا للنصارى ولا للمجوس الذين ينكرون دينكم ويهينون أجدادكم -بوصفهم بأنهم كانوا على ضلالة- وينكرون نبيكم (ﷺ) ولا يقبلون بقوانينِ قرآنكم الكريم، ولا للمنافقين المرتدين من الفوضويين من أنصار البلشفية، وذلك تحت شعار حرية الفكر وحرية الوجدان، وإن الحكومة البريطانية التي نعلم مدى تعصبها للنصرانية ومدى جبروتها، تسمح للملايين من المسلمين الموجودين تحت حكمها بقراءة القرآن في كل وقت وأخذِ دروس منه، هذه الدروس التي تَرُدّ كل العقائد الباطلة وكل الدساتير الكافرة للإنكليز.
ثم إن المعارضين لكل حكومة يستطيعون إبداء آرائهم علنًا ويستطيعون نشر هذه الأفكار، ولا تتعرض لهم محاكم هذه الحكومات، أما أنا فقد تم تدقيق أربعين سنة من حياتي وتدقيق مائة وثلاثين كتابًا من كتبي وجميع مكاتيبي ورسائلي حتى السرية منها في محكمة “إسبارطة” وفي محكمة “دنيزلي” وفي محكمة جزاءِ “أنقرة” وكذلك في رئاسة الشؤون الدينية، كما قامت محكمة التمييز بهذا التدقيق مرتين -وربما ثلاث مرات- وبقيت رسائل النور بكل نسخها الخاصة منها وغير الخاصة في يدها مدة حوالي ثلاث سنوات، ومع ذلك لم يجدوا فيها أي شيء يستوجب عقوبة مهما كانت صغيرة.
وأنا أتساءل ما هو الذنب الذي اقترفناه لكي تقوموا بإصدار عقوبة قاسية في حقنا وسجننا سجنًا انفراديًّا وأنا بهذه الدرجة من الضعف وفي هذا الوضع القاسي من الظلم والقهر؟! وأي قانون أو مصلحة أو وجدان يرضى بهذا؟
مع أن رسائل النور -التي تجدون مجموعتها كاملة بين أيديكم- أصبحت مرشدًا قويًّا وقويمًا لأكثر من مائتي ألف طالب من طلاب النور الحقيقيين المستعدين للتضحية، فخدمت بذلك أمن البلد واستقراره.
ثم إن دفاعي الذي قدمته والذي بلغ أربعمائة صفحة أثبت براءتنا بشكل قاطع لا يقبل الشك، لذا ستُسألون هذه الأسئلة أمام المحكمة الكبرى يوم الحشر دون ريب.
[2: رفض التشريعات الغربية]
الثانية: لقد عدّوا تفسيري للآيات القرآنية الصريحة حول الحجاب والإرث وذكر اللّٰه وتعدد الزوجات، وقيامي برد الاعتراضات المثارة ضدها من قِبَلِ المدنية الغربية الحالية ردًّا مفحمًا.. عدّوا ذلك إحدى التهم الموجهة إليّ.
وأكرر هنا الفقرة التي أوردتُها قبل خمسة عشر عامًا في محكمة “أسكي شهر” ثم في محكمة التمييز في أنقرة، وستكون هذه الفقرة شكواي في محكمة الحشر الكبرى وتنبيهًا وإيقاظًا للجماعات المثقفة للأجيال القادمة، وستكون هي مع “رسالة الحجة الزهراء” بمثابة لائحة تمييز، كما أنني أكرر هذه الفقرة للمدعي العام الذي لم يترك لي فرصة للكلام والذي أثبتُّ ثمانين خطأ ورد في لائحته الاتهامية التي ملأها بالمغالطات، وأعرضها مرة أخرى على هيئة المحكمة التي أصدرت حكمًا عليّ بسنتين من الحبس الانفرادي الشديد وبسنتين من النفي والإقامة الجبرية:
إنني أقول لمحكمة وزارة العدل: إن إدانة من يفسر أقدس دستور إلهيّ وهو الحق بعينه، ويحتكم إليه ثلاثمائة وخمسون مليونًا من المسلمين في كل عصر في حياتهم الاجتماعية، خلال ألف وثلاثمائة وخمسين عامًا.. هذا المفسر استند في تفسيره إلى ما اتفق عليه وصدق به ثلاثمائة وخمسون ألف مفسر، واقتدى بالعقائد التي دان بها أجدادنا السابقون في ألف وثلاثمائة وخمسين سنة.. أقول: إن إدانة هذا المفسر قرار ظالم لا بد أن ترفضه العدالة إن كانت هناك عدالة على وجه الأرض، ولا بد أن ترد ذلك الحكم الصادر بحقه وتنقضه؛ ولتسمع هذا الآذان الصماء لعصرنا الحالي.
ألا يعني إدانة شخص ترك السياسة واعتزل الحياة الاجتماعية ولا يؤمن من الناحية الفكرية العلمية ببعض القوانين الأجنبية التي قُبِلت في هذا البلد بمقتضى ظروف معينة، لقيامه بتفسير هذه الآيات إنكارًا منهم للإسلام وإهانة لمليار من أجدادنا الأبطال المتدينين واتهامًا لملايين التفاسير القرآنية؟!
[3: الإخلال بالأمن]
الثالثة: من الأسباب التي ذكروها لتبرير الحكم عليّ هي القيام بالإخلال بالأمن والاستقرار؛ وعلة هذا أنهم قاموا بتفسير خاطئ لمعنى بعضِ الجمل الواردة في خطاباتٍ شخصية ورسائلَ خاصة لا تتجاوز الخمسين جملة، مع أن رسائل النور تحوي أكثر من مائةِ ألفِ كلمة وجملةٍ، ونظروا إلى احتمالٍ واهٍ وبعيدٍ جدًّا لا يتجاوز واحدًا في المائة بل واحدًا من ألف، وعدوا هذا الاحتمال البعيد واقعًا ويريدون به عقابنا.
وأنا أُشهد الذين يعرفون الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة من حياتي والآلافَ من طلبة النور الأصفياء فأقول:
عندما بدأ القائد العام للجيش الإنكليزي الذي احتل إسطنبول ببذر بذور الخلاف بين المسلمين، حتى خدع شيخَ الإسلام وبعضَ العلماء الآخرين وجعل أحدَهم يهاجم الآخر، ووسَّع الخلاف بين جماعة الاتحاديين وجماعة “الائتلاف”5جماعة الاتحاديين: هم جماعة الاتحاد والترقي الذين هرب قادتهم إلى الخارج بعد اندحار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى أمام قوات الحلفاء. أما جماعة “الائتلاف” فهم جماعة سياسية ظهرت بعد انتهاء الحرب وكانوا خصومًا للاتحاديين. لكي يهيئ الجو لانتصار اليونانييـن واندحار الحركة المـلية الوطنية، قمـت آنذاك بتأليف كتـابي “الخطوات السـت” ضد الإنكلـيز وضد اليونانييـن، وقام السـيد “أشرف أديب” بطبعه ونشره، مما ساعد على إبطال مفعول الخطة الجهنمية لذلك القائد.
فالذي لم يحفل بتهديد القائد الإنكليزي بإعدامه، ولم يهرب إلى أنقرة مع أن حكومة أنقرة استدعته تقديرًا منهم لنضاله، وفي روسيا لم يحفل بقرار الإعدام الذي أصدره القائد الروسي، واستطاع في حوادثِ ٣١ مارت بخطبة واحدة تهدئةَ ثماني كتائبَ هائجةٍ من الجيش وإعادتَها إلى الطاعة، وعندما قال له باشوات المحكمة العسكرية العرفية6وهي المحكمة العسكرية العرفية التي عقدت برئاسة خورشيد باشا المعروف بقسوته، والتي انعقدت بعد حوادث ٣١ مارت المذكورة أعلاه وأصدرت قرارات عديدة بالإعدام، وكان الأستاذ النورسي ضمن المتهمين المقدمين إلى المحكمة.:
“أنت أيضًا رجعي فقد طالبتَ بحكم الشريعة” لم يحفل بتهديدهم أدنى احتفاء، بل أجابهم: “إذا كانت المشروطية عندكم تعني استبدادَ فئةٍ معيّنة، فليَشهد الثقلان أنني رجعي، وأنا مستعد للتضحية بروحي في سبيل مسألة واحدة فقط من مسائل الشريعة”، مما أذهل الضباطَ الكبار. وبينما كان يَتوقع حكمَ الإعدام أصدروا قرارهم بتبرئته وتخلية سبيله، ولم يشكرهم على قرارهم هذا، بل هتف وهو في طريقه للخروج: “لتعش جهنم للظالمين”.
وفي ديوان الرئاسة في أنقرة -كما أُدرج في قرار لمحكمة أفيون- عندما قال له مصطفى كمال في غضب: “لقد دعوناك هنا لكي نستأنس بآرائك السديدة، فإذا بك تكتب أمورًا حول الصلاة فبذرتَ الخلاف فيما بيننا”!
فأجابه أمام ما يقرب من خمسين نائبًا: “إن أكبر مسألة بعد مسألة الإيمان هي الصلاة، ومن لا يصلي يعدّ خائنًا، وحكم الخائن مردود”. فاضطر ذلك القائد الصارم إلى كظم غيظه وإلى إرضائه بعض الترضية.
ثم إنه لم يسجِّل رجال أمن الحكومة في ست ولايات أيةَ حادثة تخل بالأمن لطلبة النور، مع أنهم يعدّون بمئات الآلاف، سوى حادثة صغيرة تتعلق بقيام أحد الطلبة الصغار بدفاع شرعي.
ولم يَسمع أحد أن طالبًا من طلاب النور دخل السجن بسبب جرم أو جناية، وما دخل السجن إلّا وأصلح المسجونين.
ومع أن مئات الآلاف من نُسخ رسائل النور منتشرة في أرجاء البلد فلم يشاهِد أحد ضررًا لها، بل لم يجدوا منها سوى النفع طوال ثلاث وعشرين سنة، وأصدرت ثلاثُ محاكم لثلاث حكومات أحكامها بالبراءة، كما أن مئات الآلاف من الطلبة يشهدون ويصدقون بأقوالهم وبأفعالهم على قيمة رسائل النور.
ثم هل يجوز أن يُتَّهم شخصٌ منـزوٍ ومنعزلٌ وكبيرُ السن وفقيرٌ ويرى نفسه على حافة القبر وتَرَكَ بكل قوته وقناعته الأشياءَ الفانية، فلا يهتم بأية رتبة دنيوية، بل هو في شغل شاغل بما يكفّر عن تقصيراته السابقة وبأمور تنفع حياته الخالدة، وهو لشدة شفقته ولرغبته في تجنيب الأبرياء والشيوخ أيةَ أضرار تلحق بهم فإنه يتجنب الدعاء على ظالمِيه ومعذبيه.. هل يجوز أن يُتهَم مثل هذا الشخص ويقالَ بحقه: إن هذا الشيخ المنـزوي يحاول الإخلال بالأمن ويفسد الاستقرار، وغايته هي المؤامرات الدنيوية وهي القصد من اتصالاته ومكاتيبه، لذا فهو مذنب؟!
إن من يقول هذا بحقه ويحكمون عليه في ظلِّ ظروف قاسية لا شك أنهم مذنبون، ومذنبون جدًّا، وسيدفعون ثمن هذا في المحكمة الكبرى يوم الحشر.
مثل هذا الرجل الذي هدّأ ثماني كتائب عسكرية وأجبرها على الانقياد للنظام بخطبة واحدة، واستطاع قبل أربعين سنة بمقالة واحدة أن يجعل الآلاف من الناس ينحازون إليه ويكونون أنصاره، ولم يُحنِ رأسه أمام ثلاثة قواد جبارين -المذكورين سابقًا- ولم يخش منهم ولم يتملق لهم، وقال أمام المحاكم: “ألا فلتعلموا جيدًا بأنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من شعر وفُصِل كل يوم واحدٌ منها عن جسدي فلن أحني هذا الرأس الذي نذرته للحقائق القرآنية أمام الزندقة والكفر المطلق، فلن أخون الوطن والأمة والإسلام”.
فهل يجوز بعد هذا أن يقال لمثل هذا الشخص الذي لم يكن له علاقة مع أحد في مدينة “أميرداغ” إلا مع بضعة من أصدقاء الآخرة إضافة إلى ثلاث من الذين كانوا يقومون بشؤون خدمته.. هل يجوز أن يقال: “إن سعيدًا هذا عمل سرًّا في أميرداغ كي يخل بالأمن، فقد سمم أفكار بعض أفراد الشعب هناك، فقام عشرون شخصًا هناك بمدحه وكتابة مكاتيب خاصة له، مما يبرهن على أنه يعمل سرًّا ضد النظام الثوري للحكومة”؟!
واستنادًا إلى هذه التهمة فقد اتُّبِعتْ سياسة عدائية ضده وحكم عليه بالحبس الشديد لمدة سنتين، حيث وضع في سجن انفراديّ وفي عزلة تامة، ولم يسمحوا له بالكلام والدفاع عن نفسه في المحكمة.
لأجل كل هذا فإنني أحيل هؤلاء الذين عذبوني وابتعدوا هذا الابتعاد عن العدالة وعن الإنصاف إلى ضمائرهم.
وهل يُعقَل وهل من الممكن أن يقوم مثل هذا الشخص الذي نال توجُّه الناس إليه أكثر مما يستحقه، والذي حَمَل الألوفَ على الطاعة والانقياد بخطبة واحدة، وجَعَل الآلاف من الناس ينضمون إلى جمعية الاتحاد المحمدي بمقالةٍ واحدةٍ منه، واستمع إلى خطبته خمسون ألف شخص في جامع أياصوفيا بكل تقدير.. هل يعقل وهل يمكن أن يقوم مثل هذا الشخص بعمل سري طوال ثلاث سنوات في مدينة أميرداغ ثم لا يوفق إلّا في إقناع بضعة أشخاص ويترك أمور الآخرة وينغمس في مؤامرات السياسة فيملأ قبره -القريب منه- بالظلمات بدلًا من النور؟! أيمكن هذا؟! إن الشيطان نفسه لا يمكن أن يقنع بهذا أحدًا.
[4: القبعة الإفرنجية]
الرابعة: لقد أبرزوا عدم قيامي بلبس القبعة كسبب مهم لإدانتي ولم يسمحوا لي بالكلام، وقد كنت ناويًا أن أقول لهم:
لقد بقيت في مدينة “قسطموني” مدة ثلاثة أشهر ضيفًا في مركز الشرطة هناك ولم يقل لي أحد: “عليك أن تضع القبعة على رأسك”.
وفي ثلاث محاكم لم أضع قبعة على رأسي ولم أحسر عن رأسي في جلسات هذه المحاكم، ولم يتعرض أحد لي.
صحيح أن بعض الظالمين الذين لم يكن لديهم نصيب من الدين اتخذوها حجة وتعرضوا لي بشكل غير رسمي بالأذى طوال ثلاث وعشرين سنة، وضيقوا عليّ كثيرًا وآذوني؛ وأن الأطفال والنساء وأكثر القرويين والموظفين في الدوائر الرسمية والذين يلبسون غطاء الرأس، غير مضطرين إلى لبس القبعة، إذ لا فائدة أو مصلحة مادية في ذلك، إذن فإن شخصًا منـزويًا مثلي قاسى عشرين عامًا بسبب عدم لبس القبعة والافتراءات، علمًا بأن جميع المجتهدين وجميع شيوخ الإسلام منعوا لبسها، والآن يعودون إلى إيذائي وعقوبتي دون أي وجه حق، فكما لا يتعرض أحد إلى الذين يشربون الخمر جهارًا نهارًا في شهر رمضان ولا يصلون، وذلك باسم الحرية الشخصية، لذا فإن الذين يتهمونني من أجل زيي مرارًا وتكرارًا بهذا العناد وبهذه الشدة سوف يُسأَلون عن هذا عندما يُشاهِدون الحبس الانفرادي الأبدي في القبر ويحضرون إلى المحكمة الكبرى.
[5: مصادرة رسائل النور]
الخامسة: إن رسائل النور التي حازت قبول مائة ألف من أهل الإيمان، والتي قَدمت طوال عشرين عامًا منافعَ عديدة -خالصةً من أية شائبة من الضرر- للأمة وللوطن تُصادَر لأتفه الأسباب.
فمثلًا صودرت مجموعةُ “ذو الفقار-المعجزات الأحمدية” -التي أَنقذت إيمانَ مائة ألف شخص- لورود تفسير صحيح ومحقّ لآيتين كريمتين في صفحتين فقط من مجموع صفحاتها البالغة أربعمائة صفحة، مع أن هذه المجموعة تعرضت لمرور الوقت، وصدرت خلاله قوانين عفو عديدة، فهل يجوز مصادرة تلك المجموعة القيمة النافعة من أجل صفحتين فقط؟
والآن تتم مصادرة رسائل أخرى قيمة بسبب كلمة أو كلمتين -يفسرونها تفسيرًا خاطئا- ضمن ألف كلمة، وكل من سمع لائحة الادعاء الثالثة هذه والقرارَ الذي نشرناه يتأكد مما نقول.
أما نحن فإننا نقول لكل مصيبة نراها: ﴿إنا للّٰه وإنا إليه راجعون﴾ و﴿حَسْبُنا اللّٰه وَنِعْمَ الوَكيلُ﴾.
[6: مديح الناس وثناؤهم]
السادسة: أنني أقول للذين يتهمون المترجم المسكين لرسائل النور (يعني نفسه) بسبب قيام بعض طلبة النور بثناء مبالَغ فيه وحسن ظن مفرط، بإرسال رسائلِ تشجيع وتهنئة وتقدير وشكر بعد أن استفادوا استفادة كبرى من البراهين الإيمانية التي لا تتزعزع، واكتسابهم العلوم الإيمانية بدرجة علم اليقين… أقول لهم:
إنني شخص ضعيف وعاجز ومنفي ونصف أمي، وعندما كانوا يثيرون الناس ضدي بدعاياتهم ويخوفونهم مني، كنت كلما أجد دواء لأدوائي من أدوية القرآن الكريم ومن حقائقه الإيمانية الرفيعة كتبت تلك الحقائق القيمة إيمانًا منى بأنها ستكون علاجًا شافيًا لأبناء الأمة والوطن، ولما كان خطي رديئًا جدًّا فقد كنت بحاجة ماسة إلى معاونين، فيسّرت العناية الإلهية لي معاونين خاصين وصادقين وثابتين.
ومن الطبيعي أنني لا أستطيع أن أرد بشكل قاطع حسنَ ظنهم ومدحهم المخلص، أو أن أوبخهم على هذا فأجرح مشاعرهم، فمثل هذا التصرف يخالف الأنوار المستلهمة من خزينة القرآن الكريم ويعاديها ويهوّن منها.
لذا، فلكي لا يبتعد عني هؤلاء المعاونون من ذوي الأقلام الألماسية والقلوب الشجاعة، فإنني كنت أحول مديحهم لشخصي العاجز المفلس إلى رسائل النور التي هي صاحبة الحق في هذا المديح، لأنها تعكس المعجزة المعنوية للقرآن الكريم، أحيلها إلى الشخصية المعنوية لطلاب النور.
وعندما كنت أقول لهم: “إنكم تعطون لي حصة تزيد على حصتي بمائة مرة” كنت أوذي مشاعرهم إلى حدّ ما، فهل هناك مادة قانونية تضع شخصًا في موقع الاتهام واللوم لأن أفرادًا آخرين يمدحونه بالرغم من أنه كاره لهذا المديح؟ أتوجد مثل هذه المادة القانونية لكي يمكن تبرير قيام موظف رسمي اتهامي باسم القانون؟
هذا مع العلم أنه قد ذكر في الصفحة رقم (٥٤) من القرار المنشور للائحة الاتهام ضدنا قولي: “إن ذلك الشخص العظيم الذي سيظهر في آخر الزمان سيكون من نسل آل البيت، أما نحن معشر طلاب النور فيمكن أن نُعَدّ من آل البيت من الناحية المعنوية فقط. ثم إنه لا يوجد في مسلك النور مكان للأنانية أو لتبجيل شخص أو الرغبة في مقامات دنيوية، أو التطلع نحو الجاه والشهرة أبدًا، بل إنني أرى نفسي مضطرًّا حتى لترك المقامات الأخروية -إن أُعطيتْ لي- كي لا أخل بالإخلاص الموجود في المسلك النوري”.
كما ورد في الصفحة (٢٢) وفي الصفحة (٢٣) من قرار اللائحة هذه العبارات: “معرفة الإنسان تقصيره أمام اللّٰه وإدراك فقره نحوه وعجزه أمامه والالتجاء إليه بذل وخشوع.. فأرى نفسي بتلك الشخصية أشقى وأعجز أفقر وأكثر تقصيرًا أمام اللّٰه من أي أحد كان من الناس، فلو اجتمعت الدنيا في مدحي والثناء عليّ لا تستطيع أن تقنعني بأنني صالح وفاضل.. لن أبوح بكثير من مساوئ شخصيتي الثالثة ومن أحوالها السيئة لئلا أنفركم عني كليًّا، فالفضل الإلهي هو الذي يسخر شخصيتي التي هي كأدنى جندي، في خدمة أسرار القرآن التي هي بحكم أعلى منصب للمشيرية وأرفعها، فالنفس أدنى من الكل والوظيفة أسمى من الكل، فألف شكر وشكر للّٰه سبحانه”.
ومع أن اللائحة اقتبست العبارات أعلاه من كلامنا وأدرجتها في متنها، إلّا أن الذين يريدون وضعي في موضع المذنب لمجرد قيام بعض الأشخاص بمدحي ووصفي بأنني مرشد عظيم ومهدي -بأنني هديتهم بالمعنى الوارد في رسائل النور- لا شك أنهم يستحقون نيل جزاءهم على ما اقترفوه من ذنوب كبيرة.
[7: إعادة اتهامنا بعد تبرئتنا]
السابعة: قامت محكمة دنيزلي ومحكمة الجنايات الكبرى في “أنقرة”، ومحاكم التمييز بإصدار قراراتها بالإجماع على تبرئتنا وعلى تبرئة رسائل النور بأجمعها، حيث أعادت هذه الرسائلَ وكذلك جميعَ خطاباتنا إلينا، ومع أنهم قالوا إنه “حتى على فرض وقوع خطأ في قرار التبرئة لمحكمة دنيزلي، فما دامت محكمة التمييز قامت بتبرئتكم، فإنّ قرار التبرئة أصبح قطعيًّا وثابتًا ولا يمكن سَوقُكم إلى المحكمة مرة أخرى”.
ومع أنني قضيت ثلاث سنوات في مدينة “أميرداغ” منـزويًا لا أتصل إلا مع بضعة أشخاص ممن يقومون بشؤون خدمتي بشكل متناوب، وكانوا يعملون كمساعدِي خياط، ولا أتحدث مع أحد إلّا مع بعض المتدينين في حالات نادرة وضرورية ولمدة بضع دقائق فقط، وسوى إرسال رسالة واحدة فقط في الأسبوع من أجل التشجيع على قراءة رسائل النور، حتى إنني لم أرسل إلى شقيقي المفتي إلّا ثلاث رسائل طوال ثلاث سنوات، بل تركت التأليف الذي كنت عاكفًا عليه منذ ثلاثين سنة سوى تأليف نكتتين اثنتين بعشرين صفحة تناولتْ موضوعين مهمَّين ومفيدَين جدًّا لأهل الإيمان ولأهل القرآن، وهما “حكمة التكرار في القرآن”، و”بعض المسائل حول الملائكة”.. لم أؤلف عداهما، ولكني وافقت على ضمّ الرسائل التي برأتْها المحاكم وجعْلِها بشكل مجلدات.
وعندما قامت المحكمة بإرجاع خمسمائة نسخة من “رسالة الآية الكبرى” التي كانت مطبوعة بالأحرف القديمة، فقد أعطيتُ موافقتي لإخواني باستنساخها بوساطة جهاز الاستنساخ -لعلمي بأن القانون لا يمنع ذلك بصورة رسمية- وذلك لكي يستفيد العالم الإسلامي منها، وانشغلتُ فقط بتصحيحها ولم أنشغل أبدًا بالسياسة، حتى إنني فضلتُ البقاء في غربة أليمة ولم أرجع إلى بلدتي -كما فعل جميع المنفيين الآخرين- رغم صدور الإذن الرسمي بذلك، لكي لا أنشغل بالدنيا وبالسياسة.
إذن فإن القيام بتوجيه هذا الاتهام الثالث المحتوي على أمور باطلة وكاذبة وعلى تفسيرات خاطئة ومحاوَلة إدانةَ مثل هذا الرجل يحتوي على معنَيَيْن مذهلَين -لن أقولهما الآن- وقد أثبتتْ المدةُ الأخيرة البالغة عشرين شهرًا هذا الأمر.
وأنا أقول: حسبهم القبر وسقر، وأحيل أمري إلى المحكمة الكبرى يوم القيامة.
[8: رسالة الشعاع الخامس]
الثامنة: بعد أن بقيتْ رسالة “الشعاع الخامس” سنتين لدى محكمة دنيزلي ومحكمة أنقرة أعيدت إلينا، وبعد أن صدر القرار بتبرئتها سمحتُ بنشرها -مع دفاعي في تلك المحكمة- في آخر مجموعة “سراج النور”.
صحيح أنني كنت أحتفظ بها كرسالة خاصة ليست معروضة على الناس، ولكن ما دامت المحكمة شَهَّرت بها وأعلنتها ثم أعادتها إلينا بعد براءتها، فقلت بأنه لا ضرر إذن من نشرها، لذا أذنتُ لهم بنشرها.
وكان أصل هذه الرسالة قد كتب قبل حوالي أربعين سنة حول تأويلاتِ أحاديثَ متشابهة كانت قد انتشرت بين الناس منذ القديم، ومع أن عددًا من علماء الحديث ضعّفوا قسمًا من هذه الأحاديث، إلّا أنني قمت بكتابة هذه الرسالة إنقاذًا لأهل الإيمان من الشبهات، لأن المعاني الظاهرة لهذه الأحاديث كانت تتسبب في اعتراضات كثيرة عليها.
إلّا أن قسمًا من تأويلاتها الخارقة ظهرت أمام الأعين، لذا اضطررنا إلى إخفاء هذه الرسالة وجَعْلِها رسالة سرية خاصة لكي لا تُفسَّر تفسيرًا خاطئًا، وبعد أن قامت عدة محاكم بتدقيقها وتشهيرها ثم إعادتها إلينا، إلّا أنها عادت مرة أخرى إلى اتخاذها سببًا في إدانتنا.
لذا فإننا نحيل مدى ابتعاد هذا العمل عن العدالة وعن الحق وعن الإنصاف إلى ضمائر هؤلاء الذين يريدون إدانتنا بسبب من قناعاتنا الوجدانية، كما نحيل شكوانا هذه إلى المحكمة الإلهية الكبرى ونقول: ﴿حَسْبُنا اللّٰه وَنِعْمَ الوَكيلُ﴾.
[9: ؟]
التاسعة: وهذه نقطة مهمة جدًّا، ولكننا نمسك عن ذكرها لئلا نُغضِب الذين حكموا علينا، وذلك لأجل قيامهم بقراءة رسائل النور.
[10: ؟]
العاشرة: وهذه نقطة قوية ومهمة، ولكننا نمسك أيضًا عن ذكرها حاليًّا لكي لا تدفعهم إلى الاستياء والامتعاض.
سعيد النورسي
الموقوف في السجن الانفرادي
❀ ❀ ❀
[عريضة إلى مجلس الوزراء]
عريضة مقدمة إلى مجلس الوزراء
هذا قسم من العريضة المقدمة إلى مجلس الوزراء
قبل خمسة عشر عامًا وأثناء محكمة “أسكي شهر”:
يا أهل الحل والعقد..
لقد تعرضتُ لظلم يندر وجوده في الدنيا، ولما كان السكوت على هذا الظلم يعدّ استهانة بالحق وعدمَ احترام له، فقد اضطررتُ إلى إفشاء حقيقة مهمة جدًا، فأقول:
إما قوموا بإعدامي وببيان ذنبي الذي استلزم حكمًا مقداره مائة سنة وسنة ضمن دائرة القانون وإطاره، أو برهِنوا على أنني مجنون وفاقد للعقل، أو أعطوا لرسائلنا ولنا ولأصدقائنا الحرية الكاملة وحاسِبوا الذين تسببوا في إيقاع الأذى بنا.
أجل، لا بد أن يكون لكل حكومة قانون واحد، وأصول واحدة، حيث تُعطى العقوبات على أساس ذلك القانون، فإذا لم يكن في قوانين الحكومة الجمهورية ما يبرر إيقاع الأذى الشديد بي وبأصدقائي، فإن من المفروض ومن الواجب تقديمَ الترضية الضرورية والتقدير والمكافأة لنا مع إعطائنا كاملَ الحرية.
ذلك لأنه لو كانت خدمتي القرآنية تعدّ عملًا عدائيًّا موجهًا ضد الحكومة، فإنه يلزم إصدارُ حكم عليّ بالسجن لمدة مائة سنة وسنة أو بالإعدام، وكذلك إصدار عقوبات قاسية على الذين ارتبطوا معي في هذه الخدمة بشكل جديٍّ بدلًا من الحكم عليّ بسنة واحدة وعلى أصدقائي بستة أشهر.
فإن لم تكن خدماتنا هذه موجهة ضد الحكومة، فعليها أن تقابلنا بالتقدير والمكافأة بدلًا من العقاب والسجن والأذى والاتهام، ذلك لأن مائة وعشرين رسالة، أصبحت ترجمانًا لهذه الخدمة، واستطاعت أن تتحدى فلاسفة أوروبا وأن تهدم كل أسسهم الفكرية وتجعلها أثرًا بعد عين.
لا شك أن هذه الخدمة الفعالة والمؤثرة ستؤدي إما إلى نتيجة مخيفة، أو إلى ثمرة علمية راقية ونافعة جدًا، لذا لا يمكن إصدار قرار بحبسي سنة واحدة وكأننا نلعب لعب الأطفال من أجل ذر الرماد على العيون واستغفال العامة والتستر على مؤامرات الظالمين ضدنا، ذلك لأن أمثالي إما أن يصعدوا على المشنقة بكل فخر ويُعدَموا، وإما أن يكونوا أحرارًا في الموقع الذي يستحقونه.
أجل، إن اللص الماهر الذي يستطيع أن يسرق ألماسات بقيمة آلاف الليرات، إن قام بسرقة قطع زجاجية بقيمة عدة قروش وتم الحكم عليه بنفس الحكم من سرقة ألماسات ثمينة، فإنه ما من لص أو ذي عقل وشعور يفعل ذلك، لأن أمثال هذا اللص يكون ذكيًّا وحاذقًا ولا يتورط في عمل في غاية الحمق والبلاهة.
أيها السادة..
لنفرض أنني كنت مثل ذلك اللص حسب ما تتوهمون، فلماذا أختار ناحية بائسة من نواحي مدينة “إسبارطة” حيث بقيتُ منـزويًا فيها مدة تسع سنوات؟!
إذن فبدلًا من توجيه أفكارِ بضعةٍ من الأفراد المخلصين “الذين تم الحكم عليهم بأحكام خفيفة”، نحو معاداة الحكومة وإلقاءِ نفسي ورسائلِ النور -التي هي غاية حياتي وهدفها- في الخطر، فقد كان من الأفضل لي البقاءُ في موقع كبير في “أنقرة” أو في “إسطنبول” كما كنت في السابق، وتوجيهُ الآلاف من الناس نحو الغاية التي ابتغيها، عند ذلك كنت أستطيع أن أتدخل وأن أشارك في أمور الدنيا بعزة تليق بمسلكي بدلًا من التعرض لمثل هذه العقوبة التافهة والذليلة.
ولأجل أن أبين مدى الخطأ الذي يقع فيه الذين يريدون دفعي إلى رتبة واطئة لا نفع فيها ولا أهمية لها، فإنني أقول مضطرًّا مذكِّرًا ببعض أنانيتي وريائي السابقين وليس من أجل الفخر والمدح:
إن الذين تيسرتْ لهم رؤية دفاعي الذي طبع تحت عنوانِ “شهادة مدرستين للمصيبة”، يشهدون أنه استطاع بخطبة واحدة جَلْبَ ثماني كتائب من الجنود إلى الطاعة في أحداثِ ٣١ مارت، وكما كتبتْ الجرائد آنذاك: استطاع بمقالة واحدة في زمن حرب الاستقلال باسم “الخطوات الست” أن يحوّل رأيُ العلماء في إسطنبول ضد الإنكليز، مما كان له أثر إيجابي كبير في الحركة الملية “الوطنية”.
وفي جامع أيا صوفيا استمع الآلاف إلى خطبته.
وفي مجلس المبعوثان (المجلس النيابي) في أنقرة استُقبل بتصفيق حار، وقام مائة وثلاث وستون نائبًا بالموافقة على تخصيصِ مائة وخمسين ألف ليرة لمدرسة دار الفنون (الجامعة)، وعندما دعا إلى الصلاة قابَل حدةَ رئيس الجمهورية في ديوان الرئاسة وردَّ عليه دون خوف أو وجل.
وعندما كان في “دار الحكمة الإسلامية” رأت حكومة الاتحاد والترقي بالإجماع أنه أوفق شخص لتبليغ الحكمة الإسلامية إلى حكماء أوروبا بشكل مؤثر.
أما كتابه “إشارات الإعجاز” الذي ألّفه في جبهات القتال -والذي تمت مصادرته الآن- فقد أعجب به القائد العام أنور باشا إعجابًا كبيرًا، إلى درجة أنه هرع إلى استقباله بكل احترام -وهذا ما لم يفعله مع أحد- وقرر إعطاء الورق اللازم لطبع هذا الكتاب لكي تكون له حصة من شرف تلك الهدية ومن ثوابها، هدية الحرب، كما ذَكر جهاد مؤلف الكتاب في الحرب بكل خير وبكل تقدير.
فمثل هذا الرجل لا يستطيع أن يسكت على معاملته بهذه الصورة وكأنه تورط في جرائم تافهة كسرقة بغلة أو خطف بنت أو نشل جيب، لأنه لو سكت لكان هذا وصمة له ولعزته العلمية القدسية ولخدماته وللألوف المؤلفة من أصدقائه الغالين، لأنكم عندما تعاقبونه بحبسه سنة واحدة فكأنكم تعاملونه معاملة سارقِ نعجة أو خروف.
فبعد قيامكم بوضعه دون أي سبب تحت الإقامة الجبرية وتحت المراقبة مدة عشر سنوات مليئة بالمضايقات وبالآلام، وبعد هذا التعذيب تقومون الآن بحبسه سنة واحدة وبإبقائه تحت الإقامة الجبرية سنة أخرى، وبدلًا من معاناته من تحكم وتجبر شرطي عادي أو رجل بوليس سري عادي -وهو الذي لم يتحمل تحكم السلطان- فإنه من الأفضل والأولى له أن يُشنق.
ولو أن مثل هذا الرجل أراد التدخل في أمور الدنيا ورغب في ذلك، وكانت وظيفته ومهمته المقدسة تسمح له بذلك، إذن لاستطاع أن يقود أمرًا أعظم بعشرات المرات من حادثةِ “مَنَمَنْ” ومن ثورة “الشيخ سعيد”، أي لأسمعكم صوتًا راعدًا كدوي المَدافع وليس طنينًا كطنين أجنحة الذباب!
أجل، إنني أعرِض أمام أنظار حكومة الجمهورية بأن ما أتعرض له حاليًّا من مصائب ومن بلايا هو نتيجة لمؤامراتِ ودعاياتِ منظمة بلشفية سرية، فهناك جو من الدعايات العامة الشاملة التي لم يشاهَد لها مثيل في السابق، وجو من الخوف ومن الإرهاب، والدليل على هذا هو أنه ما من أحد من أصدقائي -الذين يبلغ عددهم مائة ألف- استطاع أن يبعث لي رسالة واحدة منذ ستة أشهر، ولم يستطع أن يرسل لي تحية أو سلامًا. وأصحاب المؤامرات هذه الذين يحاولون خداع الحكومة واستغفالها استطاعوا بتقاريرهم السرية ترتيبَ تحقيقات واستجوابات وتحريات في كل مكان، بدءًا من الولايات الشرقية للبلد إلى الولايات الغربية.
إن الخطة التي كان المتآمرون يحيكونها رُتبت وكأن هناك حادثةً مهمةً أُعاقَب عليها -مع الآلاف من الأشخاص مثلي- عقابًا قاسيًا، ولكنها انتهت في الأخير إلى عقوبة تافهة جدًّا يمكن أن تفرض على أي شخص اعتيادي قام بحادثة سرقة تافهة؛ إذ عوقب خمسة عشر شخصًا بريئًا من بين مائة وخمسة عشر بالسجن لمدة ستة أشهر!
فهل هناك شخص يملك شعورًا وعقلًا يقوم بوخز أسد كبير في ذيله وخزة خفيفة بسيف قاطع حاد يحمله في يده فيثيره ضده؟ ذلك، لأنه لو كان يريد حفظ نفسه من ذلك الأسد، أو لو كان يريد قتله لاستعمل ذلك السيف القاطع في موضع آخر من ذلك الوحش.
إن قيامكم بإصدار عقوبة خفيفة ضدي يدل على أنكم تتوهمون أنني مثل هذا الرجل، ولو أنني كنت شخصًا يتصرف مثل هذا التصرف البعيد عن العقل وعن الشعور فلماذا ملأتم هذا البلد بطوله وعرضه بجو من الخوف؟ وما الداعي لكل هذه الدعايات التي تستهدف جلب عداء الرأي العام ضدي؟
لقد كان من المفروض أن تتعاملوا معي كتعاملكم مع مجنون عادي فترسلوني إلى مستشفى المجاذيب.
أما لو كنت شخصًا مهمًّا كأهمية التدابير التي تتخذونها ضدي، فليس من العقل ومن المنطق وخز ذلك الأسد أو ذلك الوحش في ذيله وإثارته للهجوم عليه، بل عليه أن يحافظ قدر الإمكان على نفسه منه.
وهكذا فإنني فضلتُ حياةَ الانزواء منذ عشر سنوات باختياري وتحملت من الآلام والمضايقات مالا يتحمله إنسان، ولم أتدخل في أي شأن من شؤون الحكومة ولم أرغب في ذلك أصلًا، ذلك لأن مهمتي المقدسة تمنعني من هذا.
يا أهل الحل والعقد..
هل من الممكن لمن استطاع قبل خمس وعشرين سنة -بشهادة جرائد ذلك الوقت- أن يكسب إلى جانب أفكاره ثلاثين ألف شخص بمقالة واحدة كتبها، وجَلَبَ نحوه أنظارَ واهتمامَ جيشِ الحركة7جيش الحركة: هو الجيش الذي وجهه الاتحاديون من مدينة “سلانيك” حيث كانت مركز قوتهم بقيادة “محمود شوكت باشا” لقمع العصيان الذي حدث في ٣١ مارت وإعادة سلطة الاتحاديين.، وأجاب بست كلمات على أسئلةِ كبيرِ قساوسةِ إنكلترة الذي طلب الإجابة عليها بستمائة كلمة، والذي كان يخطب في بداية عهد الحرية كأي سياسي متمرس.. هل من الممكن أن لا يوجد في مائة وعشرين رسالة من رسائل هذا الشخص سوى خمس عشرة كلمة تتعلق بالسياسة وبأمور الدنيا؟ أيمكن لأي عقل أن يقتنع بأن مثل هذا الرجل يسلك طريق السياسة وله أهداف دنيوية؟
لأنه لو كان يهتم بالسياسة وبالتعرض للحكومة لظَهَر ذلك صراحةً أو إيماءً في مائة موضع من كتاب واحد فقط، ولو كانت غايته توجيه النقد السياسي أَمَا كان بإمكانه أن يجد ما ينقده غير موضوع الحجاب وغير موضوع الميراث وهما من المواضيع ومن الدساتير الموجودة منذ السابق؟
إن أي شخص يملك فكرًا سياسيًّا معينًا يستطيع أن يجد مئات الآلاف من المواضيع التي ينتقدها لنظام هذه الحكومة التي قامت بانقلاب كبير، ولا يقتصرَ على موضوعين معلومين فقط. فهل يمكن حصر الانقلاب الذي قامت به حكومة الجمهورية على مسألتين صغيرتين فقط؟
ومع أنني لم أقصد توجيه أي انتقاد لها فقد التقطوا كلمتين أو ثلاثًا وردت في كتاب أو كتابين كتبتهما سابقًا وادّعَوا بأنني أهاجم نظام الحكومة وأهاجم انقلابها. وأنا أسألكم الآن: هل يعقل إشغال البلد بطوله وعرضه ونشر جو من الخوف فيه لمجرد تناولي لمسألة علمية لا تتطلب إصدار أية عقوبة من جرائها مهما كانت صغيرة؟
إن القيام بإصدار عقوبة خفيفة وتافهة في حقي وفي حق بضعة أشخاص من أصدقائي ونشر دعايات مكثفة وشديدة ضدنا في عموم البلد، وإشاعة جو من الخوف والإرهاب بين الناس لكي ينفّروهم منا ويبغّضونا في أعينهم، وجَلْب وزير الداخلية “شكري قايا” قوةً كبيرة إلى مدينة إسبارطة لتقوم بمهمةٍ يستطيع القيام بها جندي واحد -وهي القيام بإلقاء القبض عليّ وسجني- وقيامَ رئيس الوزراء “عصمت إينونو” بزيارة الولايات الشرقية بهذه المناسبة، وكذلك منعي من الحديث والتكلم شهرين كاملين في السجن، وعدم السماح لأي أحد بالسؤال عن حالي أو إرسال تحية لي وأنا وحيد في هذه الغربة.. كل هذا يشير إلى وضع غريب جدًّا لا معنى له ولا حكمة فيه لا تليق بأية حكومة في الدنيا -علمًا بأن مصدر كلمة “الحكومة” هو تناول الأمور بالحكمة- وليس فقط بحكومة الجمهورية التي من المفروض أنها تراعي القوانين وتحترمها.
إنني أريد حفظَ حقوقي في إطار القانون، كما أتهم كل من يخالف القانون ويدوس عليه باسم القانون بأنه يرتكب جناية، ولا شك أن قوانين حكومة الجمهورية ترفض أعمال هؤلاء الجناة، وآمل أن تعاد لي حقوقي.
سعيد النورسي
ملاحظة: المكتوب السادس عشر (من المكتوبات) مع ذيله يعدّ دفاعًا عن الأستاذ النورسي وعن رسائل النور، ولهذا أدرجَه الأستاذ النورسي هنا ضمن الشعاع الرابع عشر هذا، فمن شاء فليراجعه في موضعه من “المكتوبات”. (المترجم)
❀ ❀ ❀