مختصر ملحق قسطموني 1/3
[المَلاحق: رسائل متبادلة بين الأستاذ النورسي وطلابه تلامذة رسائل النور، وهي رسائل زاخرة بأحاديث إيمانية ومشاعر صادقة وإرشادات حكيمة]

أما الخواطر الحسنة فإن تخيُّلها وتصوُّرها حسنة أيضًا، لأنها نورانية، ذلك لأن مثال النوراني وصورتَه في المرآة يبعث النور والضياء، فلها خاصيته، بينما مثال الكثيف ميّت لا حياة فيه، فلا تأثير له أيضًا.
في الصورة رسم زيتي للدار التي أقام بها الأستاذ النورسي إقامة جبرية في قسطمونو.
[مختصر ملحق قسطموني 1/3]
تأليف
بديع الزمان سعيد النّورسي
ترجمة
إحسان قاسم الصّالحي
❀ ❀ ❀
﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾
(صحبة أهل الحقيقة)
باسم من تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلّا يسبّح بحمده
السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته، بعدد حروف رسائل النور المكتوبة والمقروءة والمتمثلة في الهواء إلى يوم القيامة.. آمين.
إخوتي الأعزاء الأوفياء الميامين.. ويا رفقائي الأقوياء المخلصين في خدمة القرآن والإيمان..
حمدًا للّٰه بما لا يتناهى من الحمد والشكر، إذ حقق بكم أملي في رسالة “الشيوخ” وادعائي في رسالة “الدفاعات”.
نعم، للّٰه الحمد والمنة بعدد الذرات من الأزل إلى الأبد، بما أنعم بكم على رسائل النور بثلاثين من أمثال عبد الرحمن، بل مائة وثلاثين، بل ألفٍ ومائة وثلاثين من أمثاله، كل منهم يقابل ألفًا.
وحيث إنني أرى إخوتي الذين يلازمونني في الخدمة دائمًا ولا يغادرون بالي أبدًا، يَسْعَون للعمل لرسائل النور، ويتبنّونها بجديةٍ تامة، ويحافظون عليها ويتوارثونها مثلكم ناشدين الحقيقة، مقدِّرين كل شيء حق قدره.. أراهم في موضعي وهم أكثر إخلاصًا مني وأصلب عودًا وأنشط في خدمة القرآن والإيمان.. لذا أنتظر أجلي وقبري وموتي بفرح تام وسرور خالص واطمئنان قلبي كامل.
إنني يا إخوتي أراكم عدة مرات في اليوم، في رسائلكم وفي خدماتكم الجليلة التي لا تغادر ذهني، فأُشبع شوقي وأطمئنه بهذا الأمر؛ وأنتم كذلك يمكنكم أن تحاوروا وتجالسوا أخاكم هذا الضعيف في الرسائل، حيث الزمانُ والمكان لا يحولان دون محاورات أهل الحقيقة ومحادثاتهم، حتى لو كان أحدهم في الشرق والآخر في الغرب وآخر في الدنيا وآخر في البرزخ، لأن الرابطة القرآنية والإيمانية -التي هي بمثابة راديو معنوي- تجعلهم يتحاورون فيما بينهم.
هناك سؤال وارد ممن يملكون الأقلام الألماسية.. إنني الآن لا أملك الجواب، فمتى ما أملكه سيأتيكم بإذن اللّٰه.
إن رشدي ورأفت وسليمان و….. ممن لا أستطيع ذكر أسمائهم من إخوتي الأفاضل أرجو ألّا يمتعضوا من عدم محاورتهم محاورة خاصة بالرسالة.
إننا مضطرون إلى اتخاذ الحيطة والحذر بنسبة عظمة خدماتنا وأهميتها، وبنسبةِ قوةِ المعارضين لها ودسائسهم الشيطانية.
الراجي دعواتكم
سعيد النورسي
❀ ❀ ❀
(زمان الجماعة)
باسمه سبحانه
وإن من شيءٍ إلّا يسبح بحمده
السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته، بعدد عاشرات دقائق أيام الفراق.
إخوتي الأعزاء الأوفياء.. ويا رفقائي الأقوياء الفطنين في خدمة القرآن والإيمان..
إن هذا الزمان زمان الجماعة، فالأهمية والقيمة تكونان حسب الشخصية المعنوية للجماعة، ولا ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار ماهيةُ الفرد المادية الفردية الفانية، ولا سيما شخص ضعيف مثلي الذي لا حول له ولا قوة، ومنحه أهمية تفوق قيمته ألف درجة، وتحميل كاهله ألوف الأرطال -وهو الذي لا يتحملَ رطلًا واحدًا- سينسحق بلا شك تحت هذا الحمل.
وللّٰه الحمد فإن رسائل النور قد أظهرت -حتى للعميان- بتجارب كثيرة وحوادث عديدة أنها معجزة قرآنية تستطيع أن تنوِّر هذا العصر، بل الأعصار المقبلة، فمهما بالَغتم في مدحها والثناء عليها فهي أهلٌ لها وحقيقٌ بها، إلّا أن ما تُولُونَه لي من اهتمامٍ وحظٍّ في هذا الأمر لا أجد نفسي أهلًا له، ولو واحدًا من الألف، بل أجدني فخورًا إلى الأبد باسم رسائل النور التي أَوْلاها المنعم الكريم نعمةً عظمى بسعيكم الحثيث إلى الأعمال الجليلة، واشتراككم الجاد مع طلابها النجباء.
لقد صدَّق الشيخ الكيلاني والإمام الغزالي والإمام الرباني وأمثالهم من الأفذاذ، بشخصياتهم القوية وبخدماتهم الجليلة الحديثَ الوارد “علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل”1المناوي، فيض القدير ٤/٣٨٤؛ علي القاري، المصنوع ١٢٣؛ العجلوني، كشف الخفاء ٢/٨٣.، وبإرشاداتهم السديدة وبآثارهم القيِّمة، ولكون أن تلك العصور كانت -من جانبٍ- عصور الجهابذة الفريدين، فقد بعث الرب الحكيم أمثالَ أولئك الأشخاص الفريدين النادرين والدهاة السامين، لإسعاف الأمة.
أما الآن فقد بعث المولى الكريم “رسائل النور” التي هي بحكم شخص معنوي، وبعث طلابها الذين هم -بسر التساند والترابط- بحكم الفرد الفريد، إلى هذا العصر، عصر الجماعة، المحاط بالظروف المعقدة والأوضاع الرهيبة، لأجل القيام بتلك المهمة الجليلة.
وبناء على هذا السر الدقيق فإن جنديًّا مثلي، لا وظيفة له إلّا وظيفة الطليعة لدى مقام المشيرية المثقلة بالمهام الجسيمة.
تحياتي إلى إخوتي جميعًا، ولا سيما الخواص، فأحييهم فردًا فردًا، ولأجلهم -وهم الأعزاء الميامين- أضم أقاربهم ومَن في قراهم ضمن دعواتي لأقاربي وأهل قريتي، هكذا أدعو لهم وأشركهم في مغانمي المعنوية.
❀ ❀ ❀
(علاج الوساوس وحكمتها)
إخوتي الأعزاء الأوفياء المضحين..
إن سبب عدم استطاعتي المراسلة معكم هو بقائي تحت ضغط التضييق الشديد والمراقبة المستديمة والعزلة التامة عن الناس، فشكرًا للّٰه خالقي الرحيم بما لا يتناهى من الشكر، لما أنعم به عليّ من صبرٍ جميلٍ وتحمّلٍ عظيمٍ حتى فشل قصدهم الخبيث.
إن كل شهر يمر عليّ هنا من شهور فراقي عنكم يعادل سنة من السجن الانفرادي، ولكن بركات دعواتكم الطيبة حولت -بعناية إلهية- كلَّ يوم من أيامي إلى ما يعادل شهرًا من العمر السعيد.. فلا تقلقوا على راحتي، إن ألطاف الرحمة الإلهية مستمرة.
أخي صبري.. كن صابرًا، لا تهتم بمرضك الناشئ من توتر الأعصاب والوهم، واعلم أنه لا ضرر فيه ولا خطورة من ورائه، ومع ذلك أدعو لكم بالشفاء؛ ذلك لأن الخواطر إن كانت سيئة فاسدة فلا ضرر منها، لأنه كما أن صورةَ النجاسة في المرآة ليست نجسة، وصورةَ الحية لا تلدغ، وصورة النار لا تُحرق، كذلك لا ضرر من الخواطر النجسة والقبيحة والكفرية التي تَرِدُ دون رضًى من المرء، وتتمثل في مرايا القلب والخيال دون اختيار منه، فقد تقرر في علم الأصول: أن تصوُّر الكفر ليس كفرًا، وتخيُّل الشتم ليس شتمًا.
أما الخواطر الحسنة فإن تخيُّلها وتصوُّرها حسنة أيضًا، لأنها نورانية، ذلك لأن مثال النوراني وصورتَه في المرآة يبعث النور والضياء، فلها خاصيته، بينما مثال الكثيف ميّت لا حياة فيه، فلا تأثير له أيضًا.
أما الآلام والأوجاع الروحية، فهي أسواطٌ ربانية تحث على المجاهدة والصبر، إذ تقتضي الحكمةُ الحيلولةَ دون الوقوع في اليأس، وكذلك دون البقاء في الاطمئنان والأمان، وذلك بالموازنة بين الخوف والرجاء، مع التجمّل بالصبر والتحلي بالشكر.
لذا فإنه دستور مشهور لدى أهل الحقيقة أن مدار الترقي هو ورودُ حالة القبض والبسط إلى المنتبهين اليقظين، بتجليات الجلالية والجمالية.
أخي صبري..
إنه ما من ضرر يصيب رسائل النور من جراء أداء وظيفة الإمامة في المسجد، بل أدِّها بنيّة الرخصة، ولا تتورع منها حاليًّا.
إخوتي..
الحذرَ الحذر.. إن المنافقين كثيرون، فلا تبوحوا بورود الرسائل من هنا، لئلا تُصاب خدمةُ رسائل النور بضرر.
إن كثيرًا من الحقائق المهمة قد وردت ولم نتمكن من تدوينها، فعادت كما أتت مع الأسف، إنني هنا وحيد ومنعزل كليًّا.
❀ ❀ ❀
(أيُّ رسالة أفضل؟)
إخوتي الأعزاء الأوفياء المضحين.. ويا رفقائي الجادين الثابتين الصامدين في خدمة القرآن والإيمان..
إنكم مدار سُلواني وعزائي في هذه الدنيا، فلقد حققتم آمالي وأمانيَّ الكبيرة في حقكم، لِيَرضَ اللّٰه عنكم أبدًا.. آمين.
لقد أثمرتْ إرسالياتُكم فوائدَ جمّة هنا، ولا سيما “الكلمة العاشرة”، فلو كنتُ قادرًا لدفعتُ مقابل كل ورقة منها هديةً ثمينة.
ولما كنت لم ألتَق هذه الرسائل منذ مدة، فأيّما رسالة أقرؤها أقول: هذه أُولاها وأفضلُها. ثم أطالع الأخرى وأقول: هذه أحسنها.. وهكذا الرسالة تلو الأخرى حتى اقتنعت قناعة تامة -وتغمرني الحيرة- أن أجزاء رسائل النور لا تفضل إحداها الأخرى، فلكل منها رئاسة في مقامها؛ ولا غَرْو.. فإنها معجزة قرآنية تُنوِّر هذا العصر.
إن للمجموعة الكاملة لرسائل النور -التي هي مرشد علمي معنوي مهم لهذا العصر- كراماتٍ مثل كرامات الأشخاص الأفذاذ، فهي كراماتٌ تلائمها وتجانس الحقيقة العلمية، فكراماتُها تَرِدُ في أنواعٍ كثيرة، ولا سيما في إظهار الحقائق الإيمانية، وفي انتشارها، كالكرامات الثلاث الظاهرة لرسالة المعجزات الأحمدية، وككرامة الكلمة العاشرة، والكلمة التاسعة والعشرين والآية الكبرى وأمثالها الكثيرة من الرسائل؛ فكل منها لها كرامات خاصة بها، تَظهر بأماراتٍ كثيرة وحوادثَ كثيرة، حتى إن وقائعَ عديدةً أورثتْني قناعة تامة لا يداخلها الشك من أن المجموعة الكاملة لرسائل النور بمثابة مرشد معنوي لإنقاذ إيمان طلابها عند سكرات الموت.
لقد شاهدت فاقتنعت أن “الحزب الأكبر النوري”2تأملات فكرية باللغة العربية للأستاذ النورسي. مثال واحد لما ورد في الحديث الشريف: “تفكر ساعة خير من عبادة سنة”3انظر: الغزالي، إحياء علوم الدين ٤/٤٢٣؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن ٤/٣١٤؛ علي القاري، المصنوع ٨٢؛ العجلوني، كشف الخفاء ١/٣٧٠.، فعزمتُ على أن أرسله إليكم مرفقًا بـ”الحزب الأعظم القرآني”4مجموعة آيات كريمة مختارة، والتي تعمق التفكر الإيماني بالتأمل في الأنفس والآفاق. ولكن لطول الأخير لم أتمكن من استكتابه؛ ولما حاولت ترجمة “الحزب الأكبر” فكرت في أن أمثالكم من الإخوة ليسوا بحاجة إلى الترجمة، لذا سأرسله لكم بصورته العربية.
وإن ما أرسلته إليكم من خلاصة “المقام الأول للآية الكبرى” هي أساس هذا “الحزب الأكبر”، إذ عندما أُضيفَ بعضُ الفقرات الصغيرة وبعض القيود -من دون اختيار- إذا بتلك الخلاصة تأخذ شكلًا آخر، فانبسطتْ وتوسعتْ وسطعَتْ براهينُ التوحيد فيها -كما في الآية الكبرى- وزادت معانيها وأورثت انشراحًا عظيمًا لروحي وقلبي وفكري، بحيث إنني كلما قرأت ذلك “الحزب الأكبر” متفكرًا ومتأملًا -أثناء التعب والسأم- شعرت بذوق لطيف وشوق عظيم.
❀ ❀ ❀
(العقل والقلب معًا في رسائل النور)
هذه الفقرة كتبتُها جوابًا عن سؤال، لعل في بيانها فائدة لكم.
سأل مطالعون بكثرة لدواوين الأولياء وكتب العلماء هذا السؤالَ:
لماذا يجد قارئ رسائل النور إيمانًا وإذعانًا في قلبه، ويَشعر بشوقٍ دائمٍ ولذةٍ جديدةٍ أكثر بكثير مما يجده في تلك الكتب؟
الجواب: إن قسمًا من مصنفات العلماء السابقين وأغلب الكتب القديمة للأولياء الصالحين تبحث في ثمار الإيمان و نتائجه وفيوضات معرفة اللّٰه سبحانه، ذلك لأنه لم يكن في عصرهم تحدٍّ واضحٌ ولا هجومٌ سافرٌ يقتلع جذور الإيمان وأسسَه، إذ كانت تلك الأسس متينةً ورصينة.
أما الآن فإن هناك هجومًا عنيفًا جماعيًّا منظمًا على أركان الإيمان وأسسه، لا تستطيع أغلبُ تلك الكتب والرسائل التي كانت تخاطب الأفراد وخواصَّ المؤمنين فقط أن تصدّ التيار الرهيب القوي لهذا الزمان، ولا أن تقاومه.
أما رسائل النور، فلكونها معجزة معنوية للقرآن الكريم، فهي تنقذ أسس الإيمان وأركانه، لا بالاستفادة من الإيمان الراسخ الموجود، وإنما بإثبات الإيمان وتحقيقه وحفظه في القلوب وإنقاذه من الشبهات والأوهام بدلائلَ كثيرة وبراهين ساطعة؛ حتى حكَم كلُّ من يُنعِم النظر فيها بأنها أصبحت ضروريةً في هذا العصر كضرورة الخبز والدواء.
إن الدواوين والمؤلفات السابقة تقول: كن وليًّا وشاهِد وَارْقَ في المقامات والدرجات، وأبصرْ وتناول الأنوار والفيوضات.
بينما رسائل النور تقول: كن مَن شئتَ وأبصر.. وافتح عينيك فحسب، وشاهد الحقيقةَ، وأنقذ إيمانك الذي هو مفتاح السعادة الأبدية.
ثم إن رسائل النور تحاول أولًا إقناعَ نفس مؤلّفها ثم تخاطب الآخرين؛ لذا فالدرس الذي أقنع نفسَ المؤلف الأمارةَ بالسوء إقناعًا كافيًا وتمكَّنَ من إزالة وساوسها وشبهاتها إزالةً تامةً لهو درس قوي بلا شك، وخالصٌ أيضًا، بحيث يتمكن وحدَه من أن يصد تيار الضلالة الحاضرة التي اتخذت شخصية معنوية رهيبة -بتشكيلاتها الجماعية المنظمة- بل أن يجابهها و يتغلب عليها.
ثم إن الرسائل ليست كبقية مصنفات العلماء تسير على وفق خطى العقل وأدلته ونظراته، ولا تتحرك كما هو الشأن لدى الأولياء المتصوفين بمجرد أذواق القلب وكشوفاته، وإنما تتحرك بخطى اتحاد العقل والقلب معًا وامتزاجهما، وتعاون الروح واللطائف الأخرى، فتحلّق إلى أَوج العلا، وتصل إلى مراقٍ لا يصل إليها نظرُ الفلسفة المهاجمة فضلًا عن أقدامها وخطواتها، فتُبيِّن أنوارَ الحقائق الإيمانية وتوصلها إلى عيونها المطموسة.
❀ ❀ ❀
(حكمة التكرار)
إخوتي الأعزاء الأوفياء حق الوفاء..
لأنتم مدار سُلواني وسروري في هذه الدنيا؛ فلولاكم لما تحملت العذاب طوال أربع سنوات، فثباتُكم وصمودُكم منَحاني صبرًا قويًّا وجلَدًا أمام العذاب.. فلقد وردتْ إلى الخاطر دفعةً واحدة النقاطُ الآتية:
أولاها: إخوتي.. إن هذه الزلزلة معجزة قرآنية جلية كانشقاق القمر -حسب اعتقادي-؛ فلقد اضطر أعتى المتمردين إلى الدخول في حالة التصديق.
ثانيتها: منذ القدم لا توجد جماعةٌ كطلاب النور، سَعَوا سعيًا جادًّا وقدّموا خدمات جليلة في طريق الحق والحقيقة ثم نجَوا من البلايا والمصائب بأتعابٍ قليلة، علمًا أن الذين أدَّوا عُشْر ما قدمناه من خدماتٍ للإيمان والقرآن قد قاسَوا أضعافَ أضعافِ ما قاسيناه. بمعنى أننا في حالة تدفعنا إلى الشكر والحمد دومًا.
ثالثتها: لقد طالعتُ الرسائل المرسلة إلينا، فرأيت أن عددًا من الحقائق قد تكررت لمناسبة المقام؛ إذ تكررتْ تلك المسائل دون إرادتي، بل خلاف رغبتي واختياري، فتضايقتُ من النسيان الذي اعترى ذاكرتي، وفجأة ورد إلى القلب هذا التنبيه: “انظر إلى ختام الكلمة التاسعة عشرة”.
فنظرت إليه وهو يتناول بيان الحِكَم الجميلة للتكرارات الواردة في القرآن الكريم، فهذه الحِكم تَظهر أيضًا في رسائل النور التي هي تفسير حقيقي للقرآن الكريم، فرأيت أن تلك التكرارات منسجمة تمامًا مع تلك الحِكم، بل هي ضرورية أيضًا.
ثم إن كلًّا من لطفي وعبد الرحمن وعلي الصغير قد طلبوا مني -باسمكم جميعًا- شرح “اللمعة التاسعة والعشرين العربية” وترجمتَها إلى التركية، إلّا أنه لا يتسع وقتي لأنشغل بها، ولا تسمح حالي حاليًّا بذلك؛ وسيؤدي تلك الوظيفةَ -إن شاء اللّٰه في المستقبل- طالبٌ آخر من طلاب النور.
سؤال: لِمَ لا تصيب زلزلةُ الأرض روسيا، بل تصيب فقط…؟
الجواب: لأن الاستخفاف والكفر بدينٍ منسوخٍ محرَّف يختلف عن الاستخفاف بدينٍ أبديٍّ حق؛ فهذه الإهانة تثير غضب الأرض وتُزلزلها.
❀ ❀ ❀
(الرسائل تنتشر بذاتها)
﴿باسمه سبحانه﴾
﴿وإن من شيءٍ إلّا يسبح بحمده﴾
﴿السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته﴾
إخوتي الأعزاء الثابتين المضحِّين الأوفياء..
أولًا: أهنئ عيدكم المقبل، راجيًا من رحمة الرحمن سبحانه وتعالى أن يجعل دعوات إخواني الميامين في جوف الليالي المباركة وفي أسحارها مباركةً منورةً لي ولأهل الإيمان، ولا سيما تلك التي تُرفع من قِبَلهم في الليالي الثابتة قيمتُها بالقَسَم القرآني: ﴿والفجر * وليالٍ عشرٍ﴾.
…….
ثالثًا: إنني أشعر بأن “لخلوصي” ما يقلقه، فعليه ألّا يقلق، لأن طلاب رسائل النور تحت حماية رحمة اللّٰه ونَظَارةِ عنايته.
ولما كانت مشقات الدنيا تورث الثوابَ والأجر الأخروي، وأنها عابرةٌ زائلة كذلك، ينبغي أن تقابَل تلك المصائبُ بالثبات والصمود، مع التحلي بالصبر الجميل ضمن الشكر.
إنكم جميعًا -وكذا “خلوصي”- داخلون ضمن دعواتي.. فأنتم معي في كل مغانمي ومكاسبي المعنوية.
رابعًا: إن رسائل النور تنتشر بذاتها تحت حماية القرآن الكريم والحفظ الرباني.. وهي تتفيض وتتنور أكثر في السر، وإنني على أمل أنكم يا إخواني ستصدّون حادثات الزمان المزلزِلة -كما هو دأبكم إلى الآن- وليكن دستورنا دومًا “مَن آمَن بالقدر أمِن من الكدر”.
❀ ❀ ❀
(الدواء المقدس)
إخوتي الأعزاء..
إنني بالمقابل أهنئكم أيضًا بالعيد السعيد.
تسألون عن صحتي وراحتي.. إنني أحمد خالقي الكريم حمدًا لا يتناهى، إذ أسعفني بالإيمان الذي هو دواء مقدس لكل داء، وأغاثني بدواء «الرضا بالقضاء» النابع من الإيمان بالقدر، مما دفعني إلى الشكر ضمن الصبر، على الرغم من شدة برودة الشتاء هنا، ولا سيما في غرفتي، على الرغم من وحشة الغربة من جهات ثلاث، وضيق الأمراض العصبية الثلاثة، على الرغم من الانفراد التام والعزلة الكاملة، وتعرضي لما لا يُتحمل من المشقات والمضايقات.
❀ ❀ ❀
(ناشرو الرسائل)
إخوتي الأعزاء الأوفياء الخالصين..
إنني أحمد ربي الرحيم حمدًا لا نهاية له، إذ خَلَق من أمثالكم ناشرين لرسائل النور ومحافظين عليها ومالكين لها، وخففَ العبء الثقيل الذي أرهق كاهلَ شخصٍ ضعيفٍ عاجزٍ مثلي.
❀ ❀ ❀
(رفض الإفراط)
…..
إنه لا يمكن قبولُ حسنِ الظن المفرط نحوي ومَنحي مقامًا وأهمية تفوق حدي ألف درجة، إلّا إذا كان باسمِ رسائل النور وخدمتها، وكونها داعيةً ودلّالةً إلى جواهر القرآن الكريم.
نعم، ليس لي حقٌّ قطُّ في قبول مثل هذا الظن الحسن باعتباري الشخصي الذي لا أهمية له إطلاقًا.
❀ ❀ ❀
(الصدقة تدفع البلاء)
إخوتي الأعزاء الصادقين الثابتين الموقرين..
إن توديعكم كتابة “الفهرس” إلى الشخص المعنوي الناشئ من هيئتكم المتساندة، وعلى صورةِ توزيع الأعمال فيما بينكم: عملٌ جميل جدًّا. فلقد وجدتم أستاذًا حقيقيًّا ودائميًّا لكم، فذلك الأستاذ المعنويُّ أفضل بكثير من أخيكم هذا العاجز، بل لا يَدع حاجة إليه.
إخوتي..
عندما قلقتُ من أجلكم بسبب أخذكم إلى الخدمة العسكرية، ونظرت إلى حادثات الزمان خطر على قلبي ما يأتي:
إن الحضارة الأوروبية المؤسّسة على أسس فاسدة، والتي تدّعي أن كل ما أتاها هو من عندها كادّعاء قارون: ﴿قال إنما أوتيته على علم﴾، فلا تشكرُ ربّها الذي أحسن إليها بفضله وكرمه تعالى، والتي رَجَحَت كفةُ سيئاتها على حسناتها حيث سقطت في الشرك بفكرها المادي الملوث.. إن هذه الحضارة تلقَّت صفعةً سماوية قوية بحيث أبادت محاصيل مئات السنين من رقيِّها وتقدمها، ودمّرتها تدميرًا، وجعلتها طُعمة للنار؛ إذ قد نزلت بالحكومات الأوروبية الظالمة -لإهانتها العالمَ الإسلامي ومركزَ الخلافة، وإقرارِها معاهدة سيـفر5معاهدة جائرة بحق الدولة العثمانية عُقدت في سنة ١٩٢٠ بينها وبين الحلفاء، وهي شبه استسلام لتلك الدول؛ حيث المضايقُ تحت إشراف لجنة دولية، واقتصادياتُها تُسيّرها الحلفاء، وغيرها من البنود المجحفة.– خسارةٌ فادحةٌ وانهزامٌ كلّي، بحيث لا تستطيع الخروج من عذابٍ في الدنيا كعذاب جهنم، بل تضطرب وتصطرخ فيها.. أجل إن هذا الانهزام إنما هو عقاب تلك الإهانة.
هذا، ويقضي أشخاص محترمون هنا حكمًا قاطعًا بأن ولايتَي “إسبارطة” و”قسطموني” -وهما مركزا انتشار رسائل النور- محفوظتان من الآفات السماوية بالنسبة لسائر الولايات، وأن السبب في ذلك هو ما تُورثه رسائلُ النور من إيمانٍ تحقيقيٍّ وقوةٍ في العقيدة والدين، إذ إن أمثال هذه الآفات السماوية تنـزل نتيجةَ سيئاتٍ تنشأ من ضعف الإيمان، فلقد ثبت في الحديث الشريف: “الصدقة تدفع البلاء”6انظر: المناوي، فيض القدير ٤/٢٣٦؛ العجلوني، كشف الخفاء ٢/٣٠.، فتلك القوة الإيمانية أيضًا تدفع تلك الآفاتِ حسب درجتها.
❀ ❀ ❀
(سعيد صعيد)
يا سعيد.. كن صعيدًا، في نكرانٍ تامٍّ للذات، وتركٍ كليٍّ للأنانية، وتواضعٍ مطلق، كالتراب، لئلا تُعكِّر صفو رسائل النور وتقلل من تأثيرها في النفوس.
❀ ❀ ❀
(مسألتان)
إخوتي..
لقد أُخطِرتْ إلى قلبي في هذه الأيام مسألتان: إحداهما تخص طلاب النور، والأخرى تخص أهل الدنيا؛ فأكتبهما لكم لأهميتهما.
المسألة الأولى:
(أمارتان على حسن الخاتمة)
إن هناك بشارات سامية وقوية -في الشعاع الأول- حول دخول طلاب النور الصادقين الأوفياء القبرَ بحسن الخاتمة، وأنهم سيكونون من أهل الجنة.
كنت أنتظر منذ مدة، دليلًا قويًّا يُسنِد هذه المسألة العظيمة جدًّا، وهذه البشارة الكبرى، فللّٰه الحمد والمنة خَطَرت أمارتان دفعةً واحدةً على القلب.
الأمارة الأولى: لقد قضى أهل الكشف والتحقيق أن الإيمان التحقيقي كلما ارتقى من علم اليقين إلى حق اليقين يستعصي على السلب، فلا يُسلَب.
وقالوا: إن الشيطان لا يستطيع أن يورث أحدًا في سكرات الموت إلّا إلقاء الشبهات بوساوسه إلى العقل فحسب؛ أما هذا النوع من الإيمان التحقيقي، فلا يتوقف في حدود العقل فحسب، بل يسرى إلى القلب وإلى الروح وإلى السر وإلى لطائف أخرى، فيترسخ فيها رسوخًا قويًّا بحيث لا تصل يد الشيطان إليها أبدًا، فإيمان أمثال هؤلاء مَصونٌ من الزوال بإذن اللّٰه.
إن إحدى طرق الوصول إلى هذا الإيمان التحقيقي هو بلوغ الحقيقة بالولاية الكاملة بالكشف والشهود، وهذا الطريق إيمانٌ شهوديٌّ يَخُص أخصّ الخواص.
أما الطريق الثاني فهو تصديق الحقائق الإيمانية بعلمِ اليقينِ البالغِ درجة البداهة والضرورة، وبقوةٍ تَبلغ درجةَ حق اليقين، وذلك بفيضِ سرٍّ من أسرار الوحي الإلهي من جهة الإيمان بالغيب، وبطراز برهاني وقرآني يمتزج فيه العقل والقلب معًا.
فهذا الطريق الثاني هو أساسُ رسائل النور، وخميرتُها، وروحُها وحقيقتها.
نعم، إن طلابها الخواص يشاهدون ذلك، بل إذا ما نظر الآخرون أيضًا بإنصاف فإنهم يرون أن رسائل النور تبين استحالة الطرق المخالفة للحقائق الإيمانية، وأنها غير ممكنة وممتنعة.
الأمارة الثانية: إن دعوات خالصة كثيرة جدًّا ومقبولة تُرفع دومًا ليُرزَق طلاب النور الصادقون حُسْن الخاتمة واكتساب الإيمان الكامل. فهي دعواتٌ كثيرةٌ إلى درجةٍ لا يجد العقلُ مجالًا لعدم قبول أيٍّ من في تلك الأدعية.
فمثلًا: إن خادمًا لرسائل النور وطالبًا من طلابها يدعو خلال أربع وعشرين ساعة مائة مرة لطلاب النور، ويدعو خلال تلك الأدعية ما يقرب من ثلاثين مرة على الأقل في اليوم الواحد، لسلامة إيمانهم وحسن عقباهم ودخولهم القبر بإيمان. فهو يدعو بتلك الأدعية ضمن أكثر الشروط استجابة وقبولًا للدعاء.
ثم إن مجموعة الأدعية المرفوعة من قبل الطلاب أنفسهم، وهم يتعرضون لهجماتٍ على الإيمان أكثر من جميع الجهات، تلك الأدعية التي يدعو بها كلٌّ لإخوته الآخرين، والتي يلهجون بها بألسنتهم البريئة لسلامة إيمانهم وإيمان إخوتهم.. أقول: إن مجموع تلك الأدعية قويةٌ إلى درجةٍ لا تردُّها رحمةُ الرحمن العظيمة وحكمتُه الواسعة، فلو افتُرِض ردُّ جميع تلك الأدعية وقبول دعاءٍ واحد منها، لكفاه قبولًا لدخول كلِّ طالب من الطلاب القبرَ بسلامة الإيمان، ذلك لأن كل دعاءٍ يُرفع من قِبَلهم هو دعاء متوجه إلى الجميع.
المسألة الثانية:
(حكمة انهزام الدولة العثمانية)
لقد ظهر في الوقت الحاضر جزء من جواب سعيد القديم الناطقِ باسم هذا العصر عن السؤال الذي أورده مجلسٌ مثاليٌّ روحاني يتشاورون فيما بينهم مصيرَ العالم الإسلامي، وذلك في “حوار في رؤيا” المنشور في كتاب “السانحات”7المنشور ضمن مجموعة “صيقل الإسلام”.، والمطبوع قبل عشرين سنة. فقد قال ذلك المجلس المعنوي في ذلك الوقت: ما الحكمة في انهزام الدولة العثمانية في هذه الحرب التي انتهت باندحار الألمان؟
وقال سعيد القديم جوابًا: لو كنا منتصرين لكنّا نضحي بكثير من المقدسات الدينية في سبيل الحضارة الأوروبية -كما ضُحِّيَت بها بعد سبع سنوات- ولكانت تُطبَّق بالقوة والإكراه وبسهولة تامة النظامُ المطبَّق في الأناضول في العالم الإسلامي، ولا سيما في الحرمين الشريفين، ويعمم باسم المدنية الأوروبية. ولهذا سمح القدرُ الإلهي بانهزامنا في الحرب بفضل العناية الإلهية حفاظًا على تلك الأماكن المباركة.
وبعد مرور عشرين سنة على هذا الجواب تمامًا سُئلت أيضًا في الليل، كالذي في الحوار؛ في الوقت الذي هناك منبع عظيم لنصر سياسي في الأوساط الدولية، وهو البقاء على الحياد واسترجاع المُلك الضائع، وإنقاذ مصر والهند وجلبهما إلى الاتحاد معنا، فما الحكمة من اختفاء هذا المنبع العظيم عن أنظار هؤلاء الأذكياء بل الدهاة، حتى سلكوا طريقًا ضارًّا فانحازوا إلى عدو مشكوك في أمره (الإنكليز) مضطربٍ لا يوثَق به ولا فائدة ولا جدوى من الانحياز إليه8كانت الحكومة التركية آنذاك منحازة إلى الإنكليز تحت غطاء الموقف الحيادي من الحرب، وانحازت إلى جانبها فعلًا قبل انتهائها بقليل حيث أعلنت الحرب على الألمان.؟!
سئِلْتُ هذا السؤال، وكان الجواب الوارد من جانبٍ معنوي هو أن الجواب الذي أجبته عن سؤال معنوي قبل عشرين سنة، هو جواب هذا السؤال بالذات، أي:
إذا ما التُزم جانب الغالب المنتصر، لكان النظام المطبق هنا يُطبَّق في العالم الإسلامي والأماكن المقدسة، ويُنفَّذ هناك باسم المدنية الدنية، ضمن نشوة الانتصار، دونما مقاومة تُذكر. فلأجل سلامة ثلاثمائة وخمسين مليونًا من المسلمين، لم يروا هذا الخطأ الظاهر فتصرفوا تصرف العميان.
❀ ❀ ❀
(نتائج دنيوية في العمل للنور)
إخوتي الأعزاء الصادقين..
أهنئكم بالعيد السعيد، وأثمّن خدماتكم الجليلة، وأدعوه تعالى أن يوفقكم فيها، وأشكر خالقي الرحيم شكرًا لا يتناهى إذ جعل من إخوة ثابتين مضحين من أمثالكم مالكين لرسائل النور وناشرين لها.. فكلما تذكرتُكم امتلأتْ روحي انشراحًا وقلبي فرحًا، فلا تكون مغادرتي الدنيا موضعَ أسف، بل أنظر إلى الموت كصديق، لدوام حياتي ببقائكم أنتم، فأنتظر أجَلي دون قلق واضطراب. ليرضَ اللّٰه عنكم أبدًا… آمين. آمين.
مثلما يَشعر أغلب العاملين من طلاب رسائل النور نوعًا من الكرامة والإكرام الإلهيين، يَشعر أخوكم هذا العاجز بأغلب أنواعها وأنماطها، وذلك لشدة حاجته إليها.
وطلابُ النور الموجودون في هذه المناطق يعترفون مُقسمين باللّٰه: أننا كلما انشغلنا في خدمة النور وجدنا السعة في المعيشة، والانشراح في القلب، وفرحًا غامرًا يملأ كياننا.
إنني كذلك أشعر بهذا في كياني كله شعورًا تامًّا، بحيث تَسكت نفسي الأمارة وشيطاني أيضًا بِحَيرةٍ أمام تلك البداهة.
❀ ❀ ❀
(الدعاء الشامل)
اعلموا أنني منذ أكثر من سنة أضم في دعائي كلَّ أقرباء طلاب النور المنشغلين برسائل النور من أزواج وأولاد ووالدين، وإن سبب ذلك هو انخراط بعض الأشخاص في دائرة النور مع عوائلهم وأولادهم ومتعلقاتهم.
❀ ❀ ❀
(أجدى عمل في الوقت الحاضر)
لقد أنزلت العدالةُ الإلهية بالمدنية الدنيّة التي أهانت الإسلام عذابًا أليمًا ومعنويًّا أرداها إلى درك الوحوش الجاهلين، فلقد أزالت تلك المخاوفُ المستمرةُ ملذاتِ وأذواقَ مدنية أوروبا والإنكليز مائة سنة، وطيّرت منهم نشوتَهم من الرقي والتسلط على رقاب الآخرين ونشوة الاستيلاء عليهم.. فلقد أذاقتهم العدالة الإلهية ذلك الخوفَ الرهيب، وقذفت على رؤوسهم قنابل الرعب والرهبة والقلق والاضطراب.
إن ألزمَ شيءٍ في مثل هذا الوقت وأجدى عملٍ وأجدر وظيفة هو إنقاذ الإيمان..
نعم، إن إيمان شخص واحد إنما هو مفتاحٌ ونورٌ لعالم أبدي خالد أوسع من هذه الدنيا، ولهذا فإن رسائل النور تُكسِب المتعرضَ إيمانُه للهلاك مُلكًا أعظم من هذه الكرة الأرضية، وتورثه سلطنةً أجدى منها، وتمنحه فتوحات أعظم منها.
❀ ❀ ❀
(وظيفة المنتسب إلى رسائل النور)
حادثة تبين كرامة من كرامات رسائل النور لدى استنساخها حوالينا
طالب للنور، وهو شيخ وقور جادّ في عمله، كان يكتب رسالة “الشيوخ”، ولما بلغ أواخر الرجاء الحادي عشر، ولدى ذكر وفاة المرحوم “عبد الرحمن”، كتب قلمه: “لا اله إلّا هو”، ونطق لسانه “لا إله إلّا اللّٰه”، فختم صحيفةَ حياته بالحسنى، مصدِّقًا البشارة الإشارية القرآنية بأن طلاب النور تُختم حياتهم بالحسنى، ويدخلون القبر بالإيمان. رحمة اللّٰه عليه رحمة واسعة.
تنبيه مهم لإخوتي في الآخرة
يضم هذا التنبيه مادتين:
أولاها: أن أهم وظيفة للمنتسب إلى رسائل النور، كتابتها، ودعوة الآخرين إلى كتابتها، وتعزيز انتشارها؛ فالذي يكتبها أو يستكتبها، يكسب عنوان “طالب رسائل النور”، فيغنم بهذا العنوان حظًّا من مكتسباتي المعنوية، ومن دعواتي الخيرة وتضرعاتي التي أدعوها كل أربع وعشرين ساعة بمائة مرة، بل تزيد أحيانًا.
فضلًا عن ذلك يكسب حظًّا من مكتسبات معنوية لألوف من إخواني البررة ومن دعواتهم الطيبة التي يدعون اللّٰه بها.
وعلاوةً على ذلك فإنه بكتابته الرسائل التي هي بمثابة أربعة أنواع من عبادة مقبولة يكسبها بأربعة وجوه.. إذ يقوّي إيمانَه.. ويسعى لإنقاذ إيمان غيره من المهالك.. وينال التفكر الإيماني الذي يكون بمثابة عبادةِ سنةٍ أحيانًا كما ورد في الأثر.. ويدفع غيره إلى هذا التفكر.. ويشترك في حسنات أستاذه الذي لا يجيد الخط ويقاسي من الأوضاع الشديدة ما يقاسي بمعاونته له.. نعم، يستطيع أن يكسب أمثال هذه الفوائد الجليلة.
إني أقسم باللّٰه أن الذي يكتب رسالة صغيرة لنفسه عن فهمٍ، فكأنما يقدم هدية عظيمة لي، بل كل صحيفة منها تجعلني في امتنان، كما لو تهدى إليّ أوقيةٌ من السكر.
المادة الثانية: وا أسفًا، إن أعداء رسائل النور من الجن والإنس المارقين الذين لا يؤمِنون ولا يؤمَنون يحاولون أن ينـزلوا ضرباتهم الخبيثة الشيطانية بدسائس خفيةٍ جدًّا ووسائل متسترة، لعجزهم عن صدِّ قلاع رسائل النور المتينة كالفولاذ وحججها القوية قوةَ السيوف الألماسية، وذلك لتثبيط همم الكُتّاب والمستنسخين من حيث لا يشعرون، وبثِّ الفتور في هممهم، وحملِهم على التخلي عن الكتابة. والكتّاب قليلون جدًّا -ولا سيما هنا- مع شدة الحاجة إليهم، وشدة مراقبة الأعداء المتربصين. وحيث أن قسمًا من الطلاب لا يستطيعون الصمود، فإنهم يَحرِمون -إلى حدّ ما- هذه البلدة من تلك الأنوار.
فمن يرغب في محاورتي ومجالستي ومقابلتي في مشرب الحقيقة ما إن يفتح أية رسالة كانت، فإنه لا يقابلني بل يقابل أستاذه الخادم للقرآن.. ويستطيع أن يتلقى بذوقٍ خالصٍ درسًا في حقائق الإيمان.
❀ ❀ ❀
(مسألتان دقيقتان)
أكتب إليكم مسألتين دقيقتين وردتا بتنبيه معنوي
المسألة الأولى:
(ما تُوَلِّده سذاجة المسلمين)
لقد ورد في التنبيه سببان خاصان في عدم استجابة الدعوات الكثيرة -المرفوعة في شهر رمضان الفائتِ لسلامة أهل السنة والجماعة ونجاتهم- استجابةً جليةً في الوقت الحاضر.
السبب الأول: أن خاصية هذا العصر العجيبة هي غلو المسلمين في السذاجة، وتسامحهم وتجاوزهم عن خطيئات جناة رهيبين، إذ لو رأى أحدُهم حسنةً واحدةً من شخصٍ ارتكب ألوف السيئات وتعدّى على حقوق ألوف العباد، سواء على حقوقهم المعنوية أو المادية، ينحاز إلى ذلك الظالم لأجل تلك الحسنة الواحدة!! وبهذه الصورة يشكّل أهلُ الضلالة والطغيان الأكثرية العظمى من الناس رغم أنهم قلة قليلة جدًّا، وذلك لموالاة أولئك السذج لهم، ولأجله يُنـزل القدرُ الإلهي المصيبةَ العامة التي تترتب وتنبني على خطأ الأكثرية.
بل إن عملهم هذا يُعين على دوام المصيبة واستمرارها، بل على شدّتها، حتى يقولوا هم بأنفسهم: نعم، نحن نستحق هذه المصيبة.
نعم، إن مَن يعرف قيمة الألماس -كالإيمان والآخرة- ثم يرجِّح عليه قِطَعًا من الزجاج -كالدنيا والمال- لضرورة قطعية، فله رخصة شرعية، إلّا أن تفضيله هذا إن كان ناشئًا من حاجةٍ بسيطةٍ جدًّا، أو من خوف جزئي، أو من هوى متَّبع، أو من طمع، فهو خسران بجهالة وبلاهة يستحق لطمة تأديب عليها.
ثم إن التجاوز عن السيئات والعفو والصفح إنما يكون عن حقوق الشخص نفسه؛ أي له أن يعفو ويصفح عمن تعدّى على حقوقه، وليس له العفو والسماح عن الذي يهضم حقوق الآخرين من الجناة والطغاة، إذ يكون شريكًا معهم في ظلمهم.
السبب الثاني: لم يؤذن لكتابته.
المسألة الثانية:
(تأويل بشرى)
إخوتي..
إن تأويلات الروايات الواردة حول أحداث الساعة المدوّنة في سجن “أسكي شهر” على الرغم من ظهور صدقها وتطابقها، فإن عدم معرفة أهل العلم وأهل الإيمان لتلك التأويلات وعدم مشاهدتهم لها دفعني إلى مباشرةِ كتابةِ إيضاحٍ بشأنها وبيانِ الحكمة فيها، وعزمتُ على ذلك، وكتبتُ ما يقرب من صحيفتين فعلًا، ثم أُسدل الستار أمامي، فتأخر البحث.
ففي غضون هذه السنين الخمس توجهتُ إليها ست مرات، وكلما توجهت لكتابتها لم أوفّق، إلّا أنه أُخطر على قلبي بيان حادثة تخصُّني تُعدّ من فرعيات تلك المسألة، وهي: أنني كنت أبشِّر الناس بأملٍ قويٍّ وعقيدةٍ جازمةٍ بأنني أرى نورًا في المستقبل، وأرى ضياءً في الأيام المقبلة، أبشرهم بهذه البشرى لأجل إزالة اليأس المخيّم على أهل الإيمان في بداية عهد الحرية، وقبل ظهور رسائل النور بمدة مديدة، حتى كنت أبشر بها طلابي قبل عهد الحرية، وكنت أصمد أمام الحادثات الرهيبة ببوارق تلك البشرى، كما في رسالة “السانحات”، مثلما ذكره “عبد الرحمن” فيما كتبه من تاريخ الحياة، وكنت أتصور ذلك النور-كالآخرين- في محيط واسع وفي دائرة عظمى في عالم السياسة وفي الحياة الاجتماعية الإسلامية، ولكن أحداث العالم كانت تكذّبني وتخيّب أملي الحَسَن في تلك البشرى السارة عن المستقبل.
وعلى حين غرة وردت خاطرةٌ على قلبي أورثت الطمأنينة التامة والقناعة الكاملة وبقطعية تامة، فقد قيل لي: “إن تأويل بشاراتك وإخبارِك منذ مدةٍ برؤيةِ نور -والتي كنتَ ترتبط بها بعلاقة جادة وتكررها- وتفسيرها وتعبيرها بحقكم بل بحق عالم الإسلام من حيث الإيمان هو رسائل النور، فهي ضياء، حيث أخذتْ جُلَّ اهتمامك، بل هي نور ومقدمة وبشرى لما كنتَ تتخيله وتظنه في دائرة واسعة وفي عالم السياسة ولما سيأتي من حالات سعيدة متّسمة بالدين، هذا النور المعجَّل تصورتَه تلك السعادةَ المؤجلة، فكنتَ تبحث عنه لدى باب السياسة”.
نعم، لقد شعرتَ بهذا قبل ثلاثين سنة بحسٍّ مسبق، فقد كنتَ كمن ينظر إلى موضع أسود من خلال ستار أحمر فكنتَ ترى اللون أحمر، إذن فما شاهدتَه من نورٍ صدقٌ وصواب، ولكن طبّقتَه بشكل خطأ، فقد خدعَتك فتنةُ السياسة.
❀ ❀ ❀
(مهمة رسائل النور)
إن رسائل النور لا تعمّر تخريبات جزئية، ولا ترمم بيتًا صغيرًا مهدمًا وحده، بل تعمّر أيضًا تخريبات عامة كلية، وترمِّم قلعة عظيمة -صخورها كالجبال- تحتضن الإسلام وتحيط به.
وهي لا تسعى لإصلاح قلب خاص ووجدان معيَّن وحده، بل تسعى أيضًا -وبيدها إعجاز القرآن- لمداواة القلب العام المجروح، وضماد الأفكار العامة المكلومة بالوسائل المفسدة التي هُيئت لها ورُكّمت منذ ألف سنة، وتنشط لمداواة الوجدان العام الذي توجّه نحو الفساد نتيجةَ تحطُّم الأسس الإسلامية وتياراته وشعائره التي هي المستند العظيم للجميع ولا سيما عوام المؤمنين. نعم، إنها تسعى لمداواة تلك الجروح الواسعة الغائرة بأدويةِ إعجاز القرآن والإيمان.
فأمام هذه التخريبات الكلية الرهيبة، والشقوق الواسعة، والجروح الغائرة، ينبغي وجود حجج دامغة وأعتدة مجهّزة بدرجة حق اليقين وبقوة الجبال ورسوخها، ووجودُ أدوية مجرّبة لها من الخواص ما يفوق ألف ترياقٍ وترياق (مضاد للسموم) ولها من المزايا ما يضاهي علاجات لا حدّ لها.
فرسائل النور النابعة من الإعجاز المعنوي للقرآن الكريم، تؤدي هذه المهمة وفي هذا الوقت أتم أداء، وتحظى في الوقت نفسه بكونها مدارَ انكشافٍ لمراتبَ غير محدودة للإيمان، ومصدر رقي في مدارجه السامية غير المتناهية.
وعلى هذا المنوال جرت مكالمة طويلة، فسمعتُها كاملة، وشكرت اللّٰه كثيرًا. أجملتُها لكم.
ولمناسبة هذه الحادثة أُبيّن لكم حادثة وردت على خاطري في هذه الأيام:
عندما كنت أذكر كلمة التوحيد في ختام أذكار الصلاة ثلاثًا وثلاثين مرة وردت هذه الخاطرة على قلبي: إن ساعة التفكر المذكورة في الحديث الشريف: “تفكر ساعة خير من عبادة سنة” موجودة في رسائل النور، فاسْعَ للعثور عليها وامتلاكها.
❀ ❀ ❀
(نتائج الاهتمام بالأخبار السياسية)
جواب الأستاذ حول سؤال أورده كل من “أمين” و”فيضي”
سؤال: إنكم تذكرون في جوابكم: أن من يتابع بلهفةٍ الحوادثَ الجارية في الأوساط السياسية الواسعة يتضرر من حيث وظائفه في الدوائر الصغيرة الخاصة.. نرجو إيضاحًا لهذا؟
يقول أستاذنا:
الجواب: نعم، إن مَن يولي اهتمامًا بالغًا في هذا الوقت بالصراعات الدائرة في الكرة الأرضية، ويتابعها بلهفة وفضول بوساطة الراديو، تَلحقه أضرارٌ مادية ومعنوية كثيرة جدًّا؛ فإما أنه يشتت عقلَه ويصبح أبلهًا -روحًا ومعنى- وإما أنه يشتت قلبَه فيكون ملحدًا روحًا ومعنًى، وإما أنه يشتت فكره فيغدو أجنبيًّا روحًا ومعنى.
نعم، إني شاهدت رجلًا من العوام صاحب تقوى ودين -وآخَر ينتسب إلى العلم- قد حزن حزنًا شديدًا -لحدِّ البكاء- لانهزام كافرٍ عدوٍ للإسلام منذ القدم، وذلك لكثرة اهتمامه بما لا يعنيه، وفي الوقت نفسه سُرَّ سرورًا بالغًا من تقهقر جماعة السادة من أهل البيت تجاه كافر عنيد.
أليس هذا أعجب مثال للجنون وتشتت العقل، أن يفضّل رجل عامي باهتمامه بدائرة السياسة الواسعة التي لا تعنيه، كافرًا عدوًّا لدودًا للإسلام على مجاهد سيد من أهل البيت؟!
نعم، إن مسائل السياسة تتعلق -إلى حدٍّ ما- بوظيفة العاملين في الشؤون الخارجية وأركان الحرب في الجيش والقادة المسؤولين، أما دفع تلك المسائل إلى رجل عامي ساذج وإثارته بها، وصرفه عما يلزمه من وظائف تجاه شؤون روحه وأمور دينه، بل حتى تجاه شؤونه الشخصية بالذات ولوازم بيته وقريته، ومن ثم جَعْله بهذا التلهف والفضول سائبَ الروح، ثرثار العقل، فاقدًا لأذواق القلب نحو الحقائق الإيمانية والإسلامية، خائر الشوق إليها.. وكذا إثارة العوام بتلك الاهتمامات التافهة التي تقتل قلوبهم معنًى -بما يشبه تهيئة الجو الملائم للإلحاد- ودفعهم إلى استماع الراديو في شؤون سياسية لا تعنيهم في شيء.. أقول: إن كل ذلك لضرر بالغ للحياة الاجتماعية الإسلامية، بحيث إن الإنسان كلما فكر بنتائجها الوخيمة المترتبة عليها يقشعر من هولها جلده، ويقف شعره!
نعم، إن كل إنسان له علاقه بوطنه وقومه وحكومته، ولكن من الخطأ الجسيم جَعْل منافع الأمة ومصلحة الوطن والحكومة تابعةً لسياسةٍ مؤقتةٍ لبعض الأشخاص انجرافًا لتيارات مؤقتة، بل تَصوّرها نفسها.. فضلًا عن أن حصة كل شخص من تلك الروح الوطنية والقومية وما تترتب عليها من وظائف إن كانت واحدة فإن حصته تجاه وظائف قلبه ومهمات روحه وواجباته الشخصية والبيتية والدينية وغيرها عشرون بل مائة حصة.
لذا فإن تضحية هذه العلاقات الجادة والضرورية جدًّا لأجل تلك الحصة الواحدة من التيارات السياسية غير الضرورية مما لا يعنيه شيئًا… أقول: إن لم يكن هذا جنونًا فما هو إذن؟!
هذا هو جواب أستاذنا الذي ألقاه علينا بسرعة، ونحن بدورنا كتبناه باستعجال. فنرجو غض النظر عن التقصير.
نعم، ونحن بدورنا نصدّق ما يقوله الأستاذ، لأننا قد شاهدنا ما يقوله في أنفسنا وفي أصدقائنا فعلًا، حتى ترك بعضُهم صلاة الجماعة -وربما الصلاة نفسها- لأجل الاستماع إلى الراديو الذي يذيع الأخبار في أثناء وقت الصلاة بذاته.
حتى إنه باهتمامه الشديد وفضوله البالغ لمتابعة أخبار الحرب -التي هي صفعة قوية متلاحقة على المدنية الحاضرة ولسفاهتها وضلالها ولإهانتها الإسلام- وتلهّفه للشؤون السياسية الدائرة في أوساطها الواسعة تلهفًا شديدًا والاسترشاد في شؤونه -بالراديو- بآراء أناس تسممت نفوسُهم وحارت عقولُهم، مما أضرّ بعمله المقدس الجليل ضررًا جسيمًا.
من طلاب النور من طلاب النور
أمين فيضي
❀ ❀ ❀
(فساد الهواء المعنوي وعلاجه)
كنت أرى في نفسي وفي طلاب النور القريبين من هنا رهقًا، وفتورًا في الشوق، بعد انقضاء الأشهر الحرم، ولم أكن أفهم سبب ذلك بوضوح إلّا الآن، حيث رأيت أن ما قلته -ظنًّا- من سبب إنما هو حقيقة، وهي:
كما أن الهواء يؤثر تأثيرًا سيئًا إن كان فاسدًا -فسادًا ماديًّا- كذلك الهواء المعنوي إذا ما فسد -فسادًا معنويًّا- فإنه يؤثر تأثيرًا سيئًا في كل شخص وحسب استعداده.
إنّ توجّه المؤمنين عامة وإقبالهم الجاد في الشهور الثلاثة إلى كسب مغانم أخروية والفوزِ في تجارتها، يصفّي الهواء المعنوي للعالم الإسلامي عامة وينقيه ويجمّله، حتى يتمكن من الصمود تجاه الآفات المهلكة والبلايا الرهيبة، فكل مؤمن يستفيد من ذلك الهواء الصافي الجميل حسب درجته.
ولكن بعد مُضِيِّ الشهور المباركة تتبدل أوضاعُ السوق الأخروية، وتتفتح أبواب السوق الدنيوية، فيعتري الهممَ والتوجهاتِ شيءٌ من التغير والتبدل، إذ الأبخرة تسمّم الهواء المتصاعد من الأمور التافهة السخيفة، وتفسد ذلك الهواء الجميل، فيتضرر بدوره كلُّ مؤمن حسب درجته.
وعلاج هذا الداء والنجاة منه هو أنه ينبغي النظر إلى الأمور بمنظار رسائل النور، والسعي في الخدمة السامية بجد أكثر وشوق أعظم كلما ازدادت المشكلات، لأن فتور الآخرين وتخلّيهم عن الخدمة مدعاةٌ لإثارة غيرة أهل الهمة وتحفيز شوقهم، إذ يجد نفسه مضطرًّا إلى حمل شيء من أعبائهم ومهماتهم، بل ينبغي له ذلك.
❀ ❀ ❀
(الذنوب في آخر الزمان)
مسألة أُخطرت على القلب فجأة
هناك روايات حول التضخم الرهيب لذنوب المرء في آخر الزمان، فكنت أفكر:
هل يمكن أن يرتكب إنسان أضعاف ما يرتكبه شخص واحد من الخطايا والذنوب بألوف المرات؟
تُرى أي ذنوبٍ هذه -المجهولة لدينا- حتى تتعرّض للموجودات وتمس الكون فتثير غضبَه وتزيد حِدّته، بل تسبب قيام الساعة ودمار العالم عليهم؟!
وها قد رأينا أسبابها المتعددة في الوقت الحاضر:
فمثلًا: لقد فُهم من وجوهها المتعددة، بجهاز الراديو الموجود لدي، حيث إن شخصًا واحدًا يرتكب مليونًا من الكبائر دفعةً واحدةً بكلمةٍ واحدةٍ يتفوه بها في الراديو، فيُقحم ملايين المستمعين له في الذنوب.
نعم، إن جهاز الراديو ينطق بلسان واحد، إلّا أنه يدفع مئات الألوف من الكلمات في الهواء دفعة واحدة، فبينما ينبغي أن يَملأ هذا الجهاز -الذي هو نعمة إلهية عظمى- ذراتِ الهواء قاطبة، بالحمد والثناء والشكر للّٰه سبحانه وتعالى، إلّا أن سفاهة البشر المتولدة من الضلالة تستعمل هذا الجهاز بما يخالف الشكر والحمد للّٰه، فلا جرم أنه سيعاقِب عليها.
نعم، إن المدنية الدنيّة الظالمة قد عوقبت، بكفرانها بالنعمة الإلهية وعدم إيفائها الشكر للّٰه، تجاه ما أنعم عليها سبحانه من الخوارق الحضارية، لصرفها تلك الخوارق إلى الدمار، حتى سُلبت سعادة الحياة كليًّا، وأرْدَتِ الناسَ الذين يُعَدّون في ذروة الحضارة والمدنية إلى أدنى من دركات الوحوش الضالة، وأذَاقَتهم عذاب جهنم قبل الذهاب إليها.
نعم، إن كون جهاز الراديو نعمة إلهية كلية يقتضي شكرًا كليًّا، ولا يكون ذلك الشكر الكُلِّي إلّا بتلاوته القرآن الكريم باستمرار، كي يوصل إلى مخاطَبيه الحاليين دفعة واحدة ذلك الكلامَ الأزلي الصادر من خالق السماوات والأرض، فيصبح كمقرئ سماوي حافظ للقرآن الكريم يملك ألوف الألوف من الألسنة؛ وبهذا يكون قد أدّى ما عليه من مهمة الشكر والحمد للّٰه، فيديم في الوقت نفسه تلك النعمة المهداة.
❀ ❀ ❀
(هل حفظ القرآن أفضل أم استنساخ الرسائل؟)
إخوتي الأعزاء الأوفياء..
إن نشاطكم وجهودكم بما يفوق آمالي، ستجعلني في شكر وامتنان للّٰه تعالى إلى آخر رمق من حياتي..
وقد ورد سؤال في رسالتكم هذه المرة: هل حفظ القرآن الكريم أفضل أم استنساخ رسائل النور؟
إن جواب سؤالكم هذا بدهي، لأن أعظم مقامٍ في هذا الكون وفي كل عصر هو للقرآن الكريم، وإن تلاوته وحفظه يَفضُل أيَّ عملٍ آخر ويتقدّم عليه، حيث إن لكل حرف منه حسناتٍ تتراوح من العشرة إلى الألوف.
ولكن لأن رسائل النور براهينُ لحقائق القرآن العظيم الإيمانية وحججه، ولكونها وسيلة إلى حفظ القرآن الكريم وتلاوته، ومفسِّرة لحقائقه وموضّحة لها، ينبغي السعي لها أيضًا جنبًا إلى جنبِ حفظِ القرآن الكريم.
❀ ❀ ❀
(تعديل الشفقة المفرطة)
حقيقة تعيد الصواب للمنساقين إلى مسالك البدع والضلالة بشفقتهم المفرطة
لما كانت شفقة الإنسان تجليًّا من تجليات الرحمة الربانية، فلا ينبغي تجاوزُ درجة الرحمة الإلهيــة والمغالاةُ أكثر من رحمة من هو رحمة للعالمين (ﷺ)، فلو تجاوزها وغالى بها فإنها ليســت رحمة ولا رأفــة قط، بـل هي مرض روحي وسُقم قلبي يفضي إلى الضـلالـة والإلحاد.
فمثلًا: إن الانسياق إلى تأويل عذاب الكفار والمنافقين في جهنم، وما يترتب على الجهاد وأمثالها من الحوادث -من جراء ضيق شفقة المرء عن استيعابه وعدم تحملها له- إنكارٌ لقِسم عظيم من القرآن الكريم والأديان السماوية وتكذيب له، وهو ظلم عظيم وعدم رحمة في منتهى الجور في الوقت نفسه؛ لأن حماية الوحوش الكاسرة والعطفَ عليها، وهي التي تمزق الحيوانات البريئة، غدرٌ عظيمٌ تجاه تلك الحيوانات البريئة، ووحشية بالغة نابعة من فقدان الوجدان والضمير.
فالتعاطف إذن وموالاةُ أولئك الذين يبيدون حياة ألوف المسلمين الأبدية ويمحونها، ويسوقون مئات المؤمنين إلى سوء العاقبة بدفعهم إلى ارتكاب الذنوب والخطايا، والدعاءُ لأولئك الكفار والمنافقين، رحمةً بهم وعطفًا عليهم لينجوا من العقاب الشديد، لا شك أنه ظلم عظيم وغدر شنيع تجاه أولئك المؤمنين المظلومين.
وقد أثبتتْ رسائل النور إثباتًا قاطعًا أن الكفر والضلالة تحقير عظيم للكائنات، وظلم شنيع للموجودات، ووسيلة لرفع الرحمة الإلهية ونزول المصائب والبلايا، حتى وردت روايات من أن الأسماك التي في قعر البحر تشكو إلى اللّٰه ظلمَ الجناة، لسلبهم راحتها.
ولهذا فالذي يرأف ويعطف على تجرع الكافر صنوف العذاب في النار، يعني أنه لا يرأف ولا يعطف على أبرياء لا يحصيهم العد ممن هم أليق بالرأفة وأجدر بالعطف بل ولا يشفق عليهم، بل يظلمهم ظلمًا فاضحًا.
ولكن هناك أمر آخر وهو أن البلاء عندما ينـزل بالمستحقين له، يُبتلى به الأبرياء أيضًا، وعندها لا يمكن عدم الرأفة بهم، إلّا أن هناك رحمة خفية لأولئك الأبرياء المظلومين الذين تضرروا من ذلك البلاء النازل بالجناة.
ولقد كنت -في وقتٍ ما في الحرب العالمية الأولى- أتألم كثيرًا من المظالم والقتل الذي يرتكبه الأعداء تجاه المسلمين، ولا سيما تجاه أطفالهم وعوائلهم، وكنت أتعذّب عذابًا يفوق طاقتي -لما فيَّ من شفقةٍ مفرطة ورأفةٍ متزايدة- وحينها ورد على القلب فجأةً الآتي:
إن أولئك الأبرياء المقتولين يُستشهدون ويصبحون أولياء صالحين، وإن حياتهم الفانية تُبدل إلى حياة باقية، وإن أموالهم الضائعة تصبح بحكم الصدقة فتبدل أموالًا باقية. بل حتى لو كان أولئك المظلومون كفارًا فإن لهم من خزينة الرحمة الإلهية مكافآت كثيرة بالنسبة لهم -مقابل ما عانَوا من البلاء في الدنيا- بحيث لو رفع ستار الغيب فإن ما ينالونه من رحمة ظاهرة تدفعهم إلى أن يلهجوا بـ”الشكر للّٰه والحمد للّٰه”.
عرفتُ هذا، واقتنعت به قناعة تامة، ونجوت بفضل اللّٰه من الألم الشديد الناشئ من الشفقة المفرطة.
❀ ❀ ❀
(نظرة إلى رسالة “المناظرات”)
لقد ألقيتُ نظرة إلى رسالة “المناظرات”، وذلك بعد مرور خمس وثلاثين سنة على تأليفها، فرأيت فيها وفي أمثالها من مؤلفات “سعيد القديم” أخطاءً وهفوات، إذ ألّف تلك الآثارَ في حالة روحية ولّدها الانقلاب السياسي9المقصود إعلان المشروطية، وهي إدارة البلد على النمط الغربي من مجلس نيابي ودستور ووزارة مسؤولة أمام المجلس النيابي.(المترجم).، وأنشأتْها مؤثراتٌ خارجية وعوامل محيطة به.
إنني أستغفر اللّٰه بكل حولي وقوتي من تلك التقصيرات، راجيًا من رحمته تعالى أن يغفر تلك الخطايا التي ارتكبتُها بنيةٍ حسنةٍ وبقصد جميل، لدفع اليأس المخيِّم على المؤمنين.
إن أساسين مهمَّين يهيمنان على آثار “سعيد القديم” -كهذه الرسالة- والأساسان ذوا حقيقة ولكن، كما تحتاج كشفيات الأولياء إلى تأويل، والرؤى الصادقة إلى تعبير، فإن ما أحس به “سعيد القديم” بإحساسٍ مسبق -أي قبل وقوع الأمر- بحاجة كذلك إلى تعبير، بل إلى تعبير دقيق، إلّا أن إخباره عما توقع حدوثَه، وبيانَه تلكما الحقيقتين بلا تأويل ولا تعبير، أدّى إلى ظهور شيء من النقص والقصور وخلاف الواقع فيما أخبر عنه.
الأساس الأول: هو ما زفَّه من بشرى سارة للمؤمنين بظهور نورٍ في المستقبل.. زفّ هذه البشرى ليزيل بها يأسَهم ويرفع عنهم القنوط، فلقد أحسَّ بإحساسٍ مسبقٍ أن رسائل النور ستنقذ إيمان كثيرٍ من المؤمنين، وستشد أزرهم في زمان عصيب عاصف، إلّا أنه نظر إلى هذا النور، من خلال الأحداث السياسية التي واكَبت الانقلاب، وحاول تطبيق ما رآه من نور على واقع الحال من دون تعبير ولا تأويل، فوقع في ظنه أن ذلك النور سيَظهر في عالم السياسة وفي مجال القوة وفي ميدان فسيح؛ فقد أحسَّ إحساسًا صادقًا، إلّا أنه لم يوفَّق في التعبير عن بُشراه توفيقًا كاملًا.
الأساس الثاني: لقد أحس “سعيد القديم” ما أحسّ به عددٌ من دهاة السياسة وفطاحل الأدباء، بأن استبدادًا مريعًا مقبلٌ على الأمة، فتصدَّوا له، ولكن هذا الإحساس المسبَق كان بحاجة إلى تأويل وتعبير، إذ هاجموا ما رأوه من ظلٍّ ضعيفٍ لاستبدادات تأتي بعد مدة مديدة وألقت في نفوسهم الرعب، فحسِبوا ظل استبدادٍ ليس له إلّا الاسم استبدادًا أصيلًا، فهاجموه. فالغاية صحيحة إلّا أن الهدف خطأ.
وهكذا فلقد أحسّ “سعيد القديم” أيضًا بمثل هذا الاستبداد المخيف فيما مضى، وفي بعض آثاره توضيحات بالهجوم عليه، وكان يرى أن المشروطية الشرعية وسيلة نجاةٍ من تلك الاستبدادات المرعبة، لذا سعى في تأييدها بالحرية الشرعية والشورى ضمن نطاق أحكام القرآن، آمِلًا أن تدفعا تلك المصيبة.
نعم، لقد أظهر الزمانُ أن دولة تسمى داعيةَ الحرية قد كبَّلت بثلاثمائةٍ من موظفيها المستبدين ثلاثمائة مليونٍ من الهنود، منذ ثلاثمائة سنة، وسيطرت عليهم كأنهم ثلاثمائة رجل لا غير، حتى لم تتركهم يحرّكون ساكنًا! ونفذّت قانونها الجائر عليهم بأقسى صورة من صور الظلم، آخذةً آلاف الأبرياء بجريرةِ مجرم واحد، وأعطت لقانونها الجائر هذا اسمَ العدالة والانضباط. فخَدَعت العالَم ودفعتْه إلى نار الظلم.. هذه الدولة غدت مقتدى ذلك الاستبداد القادم في المستقبل.
وفي رسالة “المناظرات” هوامش قصيرة، وملاحظات وردت على صورة طُرَفٍ ولطائف، فهي من قبيل الملاطفة مع قسم من طلابه الظرفاء في تأليفه القديم ذاك، إذ قد وضّح لهم الأمور بأسلوب الدرس والإرشاد.
ثم إن زبدةَ هذه الرسالة “المناظرات” وروحَها وأساسها، هي ما في خاتمتها من حقيقةِ إقامةِ “مدرسة الزهراء”، وما هي إلّا المهد الذي سيشهد ظهور “رسائل النور” في المستقبل، فكان يُساق إلى تأسيسها دون إرادة منه، ويتحرى -بحسٍّ مسبق- عن تلك الحقيقة النورانية في صورة مادية حتى بدت جهتُها المادية أيضًا، إذ مَنَح السلطان رشاد تسع عشرة ألف ليرة ذهبية لتأسيس تلك المدرسة، وأُرسيت قواعدُها فعلًا، إلّا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى حال دون إكمال المشروع.
ثم بعد حوالي ست سنوات ذهبتُ إلى أنقرة، وسعيت في إنجاز تلك الحقيقة، وفعلًا وافق مائةٌ وثلاثةٌ وستون نائبًا في مجلس الأمة من بين مائتي عضو على تخصيص خمسةَ عشر ألف ليرة ورقية لبناء مدرستنا، ولكن يا للأسف -ألف ألف مرة- سُدّت جميع المدارس الدينية، ولم أستطع أن أنسجم معهم فتأخر المشروع أيضًا.
بَيد أن المولى القدير أسس برحمته الواسعة الخصائص المعنوية لتلك المدرسة وهويتها في “إسبارطة”، فأظهر “رسائل النور” للوجود، وسيوفَّق -إن شاء اللّٰه- طلاب النور إلى تأسيس الجهة المادية لتلك الحقيقة أيضًا.
إن سعيدًا القديم على الرغم من معارضته الشديدة لمنظمة “الاتحاد والترقي” فإنه مال إلى حكومتها ولا سيما إلى الجيش، حيث وقف منهم موقف تقدير وإعجاب والتزام وطاعة، وما ذاك إلّا بما كان يحس به من إحساسٍ مسبَق من أن تلك الجماعات العسكرية والجمعية الملية سيظهر منهم بعد سبع سنوات مليون من الشهداء الذين هم بمرتبة الأولياء، فمال إليهم طوال أربع سنوات دون اختيار منه، وبما يخالف مشرَبَه.
ولكن بحلول الحرب العالمية وخضّها لهم أُفرز الدهن المبارك من اللبن فتحول إلى مخيض لا قيمة له، فعاد “سعيد الجديد” إلى الاستمرار في جهاده وخالف سعيدًا القديم.
❀ ❀ ❀
(حول المؤلفات الأخرى)
إلى إخوتي “الخواص” من طلاب رسائل النور، وهم أصحابها و وارثوها.. وإلى “الأركان”، وهم ركائز رسائل النور وخواصُّ الخواص.. أبيّن ما يأتي لمناسبة حادثةٍ وقعتْ في هذه الأيام:
إن رسائل النور تَسُدُّ الحاجة التي تخص الحقائق الإسلامية، فلا تدع حاجةً إلى مراجعة مؤلفات أخرى.
ولقد عُلم بتجارب كثيرة قاطعة؛ أن أقصرَ طريقٍ وأسهلَه لإنقاذ الإيمان وتقويته وجعله تحقيقيًّا هو في رسائل النور.
نعم، إن رسائل النور تقطع ذلك الطريق في خمسة عشر أسبوعًا بدلًا من خمس عشرة سنة، فتبلغ بالمرء الإيمانَ الحقيقي.
وبينما كان أخوكم هذا الفقير شغوفًا بالمطالعة قبل عشرين سنة، حتى كان يطالع -بفهم- كتابًا مجلدًا أحيانًا في يوم واحد، فقد كفاه -منذ ما يقرب من عشرين سنة- القرآنُ الكريم ورسائلُ النور المفاضة منه، فلم أحتج حتى إلى كتاب واحد، ولم أحتفظ بأي كتاب عندي.
وعلى الرغم من أن أبحاث رسائل النور تدور حول حقائق متنوعة جدًّا، فإنني لم أجد حاجة إلى مراجعة أي كتاب كان في أثناء تأليفها منذ عشرين سنة، فلا شك أنكم لا تحتاجون كذلك إلى مؤلفات أخرى، وتستغنون عنها أكثر مني بعشرين درجة.
ثم إنني لما كنت قد اعتمدت عليكم وما زلت معتمدًا، فلا ألتفت إلى غيركم، ولا أنشغل بسواكم، فينبغي لكم أيضًا أن تثقوا برسائل النور وتطمئنوا بها، بل هذا هو الألزم في هذا الوقت.
ثم إنه لمباينة المسلك والمشرب في مؤلفات بعض المؤلفين الجدد في الوقت الحاضر ومسايرتها البدع، فإن إحدى مهمات رسائل النور هي الحفاظ على الحروف والخط القرآني، فضلًا عن حفاظها على الحقائق الإيمانية تجاه الزندقة، ولقد اشترى أحد الخواص مؤلفات يستعملها بعض العلماء -تحت ستار العلوم الدينية- في إنـزال الضربات القوية على الحروف والخط القرآني، اشتراه لهوى مجهول مع أنه يدرِّس الحروف القرآنية!! فشعرتُ -دون علمي به- امتعاضًا نحو أولئك الطلاب الخواص وأنا في الجبل، ثم نبهتهم فانتبهوا بفضل اللّٰه.. نسأله تعالى نجاتهم نجاة تامةً.
إخوتي..
إن مسلكنا دفاعٌ لا اعتداء، ترميم لا تخريب، ونحن محكومون لا حكام. فالذين يتعدّون علينا كثيرون لا يُحصون، ولا شك أن في مسلكهم حقائقَ مهمة هي بضاعتُنا نحن، فلا حاجة لهم إلينا في انتشار تلك الحقائق، فلهم الألوف ممن يقرؤونها وينشرونها، فنحن بسعينا لمعاونتهم تتزعزع كثير من الوظائف التي وُضعت على كاهلنا ونكون وسيلة إلى ضياع ما يجب محافظته من أسس وحقائق رفيعة تخص الطوائف، كلًّا على حدة.
فمثلًا: لقد أُلّفت مؤلفات تهيئ لنوع من العداء للأولياء متخذةً بعض الرخص الشرعية ستارًا، وأحداثَ الزمان حجةً، فإن الوظيفة الأساس لرسائل النور -من دون أن تشملها العموم- هي الحفاظ على أساس الولاية الجارية ضمن الحقائق الإسلامية، وأساسِ التقوى، وأساسِ الأخذ بالعزيمة، وأسسِ السنة النبوية الشريفة، وأمثالها من الأسس الدقيقة المهمة، فلا يمكن ترك تلك الأسس بحجة الضرورة وحادثات الزمان.
❀ ❀ ❀
(تأويل حديث متشابه)
لعدم وضوح المعاني الحقيقية لأحاديث صحيحة تخص نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وقتله الدجال، فإن قسمًا من العلماء الظاهريين -أخذًا بظاهر تلك الروايات والأحاديث- قد وقعوا في الشبهات أو أنكروا صحتها، أو ألبسوها معنى خرافيًّا بما يشبه انتظار صورة محالة، فيضرون عوام المسلمين.
أما الملحدون فينشرون أمثال هذه الأحاديث البعيدة عن العقل ظاهرًا، فيشنون هجومًا على الحقائق الإسلامية مستخِفّين بها.
أما رسائل النور فقد أظهرت -بفيض القرآن- التأويلاتِ الحقيقية لأمثال هذه الأحاديث المتشابهة.
والآن نقدم مثالًا واحدًا كأنموذج وهو الآتي: هناك رواية تفيد أن عيسى عليه السلام عند جهاده الدجال وأثناء قتله له يقفز بمقدار عشرة أذرع ليتمكن من ضرب ركبة الدجال بسيفه.
بمعنى أن جسم الدجال أضخم من عيسى عليه السلام بهذه الدرجة، وعلى هذا المعنى يلزم أن يكون طول الدجال عشرة أمثال طول عيسى عليه السلام بل عشرين مثلًا.
فالمعنى الظاهري لهذه الرواية مناف لحكمة التكليف الإلهي وحكمة الامتحان، مثلما لا يوافق عادة اللّٰه الجارية في البشرية.
والحال أنه ظهر معنى من المعاني الكثيرة لهذه الرواية ولهذا الحديث حتى في هذا الزمان، بما يُسكت الزنادقة الذين يظنونها خرافة -حاش للّٰه- وينبه العلماء الظاهريين المعتقدين الظاهرَ عينَ الحقيقة، والذين مازالوا منتظرين تحقُّق الحديث رغم مشاهدتهم لقسم من حقائقه.
نعم، لقد ظهر حتى في هذا الزمان معنى من معانيه الكثيرة، تلك المعاني التي هي عين الحقيقة والانسجام التام مع الواقع.
والمعنى هو الآتي: إن حكومةً تسعى لنشر الدين العيسوي وتحاول الحفاظ على عاداته المستمرة، تحاربها حكومةٌ تعلن مساعدتها رسميًّا للإلحاد وللبلشفية، لأجل منافعها الخسيسة، بل تسعى للدعاية لها. وحكومة أخرى تنحاز إلى بث الإلحاد بين أوساط المسلمين وفي آسيا عامة لأجل منافعها الخسيسة الفاسدة وتُحالِف حكومات دساسة جبارة.
فلو تَمثّل الشخصُ المعنوي للحكومة الأولى، وتجسّم الشخص المعنوي للمتحالفين المنحازين للإلحاد، لظهر معنًى من المعاني العديدة لهذا الحديث في هذا الزمان بجهات ثلاث. فإن أحرزت تلك الحكومة الغالبةُ النصرَ نتيجة الحرب ارتفع هذا المعنى الإشاري إلى درجة المعنى الصريح، وإن لم تُحرز النصر تمامًا فهذا المعنى أيضًا هو معنى إشاري موافق.
الجهة الأولى: جماعة الروحانيين المتمسكين بالدين العيسوي الحقيقي، وفي مقابلهم الجماعة التي بدأت تروّج للإلحاد، فإذا ما تجسمت تلكما الجماعتان بصورة إنسان، فإن الجماعة الأولى لا تصبح حتى بقدر طفل أمام إنسان بارتفاع منارة.
الجهة الثانية: حكومة تُعد أفرادها مائة مليون نسمة تعلن رسميًا: إنني سأزيل الإلحاد وأحمي الإسلام والمسلمين، تحارب حكومة تحكم أربعمائة مليون ومتحالفة مع الصين وأمريكا -أي بأربعمائة مليون نسمة- هذه الحكومات متحالفة علنا مع البلاشفة. فلو تجسم المحاربون في الحكومة الأولى الذين يُنـزلون ضرباتهم القاصمة بأولئك المتحالفين، وتَجَسَّمَ الملحدون والمتحالفون معهم في شخص معنوي آخر، لظهرت صورةُ إنسان صغير تجاه إنسان بارتفاع منارة.
هذا وقد ورد في رواية أن الدجال يحكم الدنيا، فهذه الرواية تعني أن الغالبية العظمى تميل إليه. كما هو واقع الآن.
الجهة الثالثة: أن حكومة لا تساوي مساحتها ربع مساحة أوروبا -وهي أصغر القارات الأربع- تحارب منتصرةً حكومةً تسيطر على أغلب بقاع العالم من آسيا وإفريقيا وأمريكا وأستراليا، وإن الحكومة الأولى تستند إلى الدين وفي حلف مع دولة تدّعي الوكالة عن سيدنا عيسى عليه السلام، تجاه التيارات الإلحادية المستبدة، وتُنـزل الأولى عليهم بالمظلات، فلو تجسمت الأولى والأخريات وصُوِّرت بصورة إنسان -كما كانت الجرائد تَرسم الصور “الكاريكاتيرية” لإظهار قوة الدول ومكانة الحكومات- فإن معنى من المعاني العديدة لما يخبر به الحديث الشريف سيَظهر مطابقًا تمامًا في جريدة الأرض وفي صحيفة هذا العصر.
حتى إن معنًى إشاريًّا لما يشير إليه الحديث من نزول شخص عيسى عليه السلام من السماوات هو أن طائفة ممثِّلة لسيدنا عيسى عليه السلام وسالكة سلوكه تنـزل بمظلات من الطائرات كبلاء سماوي -بما لم يُسمع به لحدّ الآن ولم يُشاهَد قط- خلف الأعداء مما يظهر المعنى المادي لنـزول عيسى عليه السلام.
نعم، إن ما يفيده الحديث الشريف من نزول عيسى عليه السلام ثابت قطعًا، إلّا أن المعنى الإشاري كما يشير بإعجازٍ إلى هذه الحقيقة فهو يشير إلى معاني أخرى أيضًا.
عندما شرعتُ في كتابة بضعة أسطر حول هذه المسألة -بناء على سؤالِ “فيضي وأمين” وإصرارهما- إنقاذًا لإيمان بعض العوام الضعفاء كُتبتْ مطولةً خارج إرادتي، ولم ندرك حكمتها، فتركناها كما هي، لعل فيها حكمة ما.. نرجو عفوكم وسماحكم إذ لم نجد متسعًا من الوقت لتصحيح هذا البحث وتدقيقه فظل مشوشًا.
❀ ❀ ❀
(صداقة الأبطال)
باسمه سبحانه
وإن من شيءٍ إلّا يسبح بحمده
السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته بعدد حروفات القرآن..
بارك اللّٰه فيكم، وجعلكم سعداء.. إن سعيكم الجاد ونشاطكم المستمر يبث الشوق ويثير الهمم هنا وفي أماكن أخرى أيضًا، فحمدًا للّٰه بما لا يتناهى من الحمد.. إن فتوحاتِ رسائل النور تتزايد يومًا بعد يوم، فإن أهل الإيمان يشعرون بجروحهم ويضمدونها برسائل النور.
للّٰه الحمد، إن طلاب النور في هذا الزمان الذين حظوا بالإيمان الكامل ضمن السُّنة الشريفة، قد أخذوا وضعًا يَلفِت إليهم أنظار الأولياء والمرشدين، لذا فإن المرشدين الحقيقيين الذين يَظهرون في كل عصر سيحاولون بلا شك كسب طلاب النور إلى صفهم، إذ لو كسبَ أحدُهم طالبًا لرسائل النور فإنه يُنـزله منـزلة عشرين مريد.
أُرسِلُ الحقيقة التي بيّنتُها لـ”فيضي” حول المشقات الحاصلة من خدمة رسائل النور وما فيها من مجاهدة وبذل، تجاه الأذواق والجاذبية المترشحة من الولاية، أُرسِلها لكم لعل فيها فائدة في تلك المناطق.
بلغوا سلامي إلى إخواني عامة فردًا فردًا.
– – –
أخي فيضي.. إن كنت ترغب أن تكون مثيل أبطال ولاية إسبارطة، فعليك أن تُشبههم وتكون مثلهم تمامًا. فلقد كان معنا في السجن10المقصود سجن أسكي شهر. شيخ عظيم ومرشد مرموق ذو جاذبية من أولياء الطريقة النقشبندية -رحمه اللّٰه- جالَسَ ما يقرب من ستين من طلاب النور طوال أربعة أشهر، وحاورهم محاورات مغرية لجلبهم إلى الطريقة، إلّا أنه لم يتمكن إلّا من ضم واحدٍ منهم إلى صفه، وبصورة مؤقتة، أما الباقون فقد ظلوا مستغنين عنه وهو الولي الصالح، إذ كَفَتْهم الخدمةُ الإيمانية الرفيعة التي تقدمها رسائل النور، واطمأنوا بها.
ولقد فَقِه أولئك الأبطال بقلوبهم الواعية ورأوا ببصيرتهم النافذة الحقيقةَ الآتية: إن خدمة رسائل النور هي إنقاذ الإيمان، أما الطريقة والمشيخة فهي تُكسِب المرء مراتب الولاية، وإن إنقاذ إيمان شخصٍ من الضلال أهم بكثير وأجزل ثوابًا من رفع عشرة من المؤمنين إلى مرتبة الولاية؛ حيث إن الإيمان بمنحه للإنسان السعادة الأبدية يضمن له ملكًا أوسع من الأرض كلها. أما الولاية فإنها توسِّع من جنة المؤمن وتجعلها أسطع وأبهر.
وكما أن رفع مرتبةِ إنسانٍ اعتياديٍّ إلى [مرتبة] سلطان، أعظمُ من رفع عشرة من الجنود إلى مرتبة القائد، كذلك الثواب في إنقاذ إيمان إنسان من الضلالة أعظمُ وأجزل من رفع عشرة من الناس إلى مرتبة أولياء صالحين؛ فهذا السر الدقيق هو الذي أبصرته القلوب النفاذّة لإخوانك في إسبارطة، وإن لم تَرَه عقول قسم منهم، ولهذا فضّلوا صداقة شخص ضعيف مذنب مثلي، على صداقةِ أولياء عظام، بل على مجتهدين إن وُجدوا.
فبناء على هذه الحقيقة لو أن قطبًا من أقطاب الأولياء أو شيخًا جليلًا كالكيلاني، أتى إلى هذه المدينة وقال لك: “سأرفع مرتبتك إلى مرتبة الولاية في عشرة أيام”، وذهبتَ إليه تاركًا رسائل النور، فلا تستطيع أن تصادق أبطال إسبارطة.
❀ ❀ ❀
(ميزان دقيق في محاورة)
محاورة خطرت على الـقلب، كتبتُها لتقويم الإفراط لدى قسم من إخوتي طلاب النور، لتعديل حسن ظنهم بي بما يفوق حدي بكثير
قبل حوالي خمسين سنة جرت بيني وبين أخي الكبير “الملا عبد اللّٰه” رحمه اللّٰه هذه المحاورة، سأوردها لكم:
كان أخي المرحوم من خواص مريدي الشيخ ضياء الدين قدس سره -وهو من الأولياء الصالحين- وأهلُ الطرق الصوفية لا يرون بأسًا في الإفراط في حب مرشدهم والمبالغة في حسن الظن بهم، بل يرضون بهذا الإفراط والمبالغة، لذا قال لي أخي ذات يوم:
“إن الشيخ ضياء الدين على علم واسع جدًّا واطلاع على ما يجري في الكون، بمثل اطلاع القطب الأعظم”.
ثم سَرَد الكثير من الأمثلة على خوارق أعماله وعلو مقامه.. كل ذلك ليغريني بالانتساب إليه والارتباط به.
ولكني قلت له: “يا أخي الكريم.. أنت تغالي، فلو قابلتُ الشيخ ضياء الدين نفسَه لألزمتُه الحجة في كثير من المسائل، وإنك لا تحبه حبًّا حقيقيًّا مثلي، لأنك يا أخي الكريم تحب ضياء الدين الذي تتخيله في ذهنك على صورة قطب أعظم له علم بما في الكون، فأنت مرتبط معه بهذا العنوان، وتحبه لأجل هذه الصفة، فلو رُفِع الحجاب وبانت حقيقته، لزالت محبتك له أو قَلَّت كثيرًا.
أما أنا -يا أخي- فأُحب ذلك الشخص الصالح والولي المبارك حبًّا شديدًا بمثل حبك له، بل أوقره توقيرًا يليق به وأُجِلُّه وأحترمه كثيرًا، لأنه مرشد عظيم لأهل الإيمان في طريق الحقيقة المستهدية بالسنة النبوية الشريفة؛ فليكن مقامه الحقيقي ما يكون، فأنا مستعد لأن أضحي بروحي لأجل خدمته هذه.
فلو أُميط اللثامُ عن مقامه الحقيقي فلا أتراجع ولا أتخلى عنه ولا أقلل من محبتي له، بل أوثق الارتباط به أكثر، وأُوليه محبة أعظم وأبالغ في توقيره.
فأنا إذن يا أخي الكريم أُحب ضياء الدين كما هو وعلى حقيقته؛ أما أنت فتحب ضياء الدين الذي في خيالك”11لأنك تطلب لمحبتك ثمنًا غاليًا جدًّا، إذ تفكر أن يقابل محبتك بما يفوق ثمنها مائة ضعف، والحال أن أعظم محبة لمقامه الحقيقي تظل زهيدة جدًّا. (المؤلف).
ولما كان أخي المرحوم عالمًا منصفًا حقًّا، فقد رضي بوجهة نظري وقبلها وقدرها.
فيا إخوتي، أيها السعداء المحظوظون الذين يضحون بأنفسهم في سبيل اللّٰه.. إن مبالغتكم في حسن الظن بشخصي وإن كان لا يضركم بالذات، إلا أن أمثالكم ممن يَنشُدون الحق ويَرَون الحقيقة، ينبغي لهم أن ينظروا إلى الشخص من زاوية خدمته للقرآن الكريم ومدى إنجازه لمهامِّه نحوه.
فلو كُشِف النقاب وظهرتْ أمامكم هويتي الملطخة بالتقصيرات من قمة رأسي إلى أخمص قدمي لأشفقتم عليّ ولتألمتم لحالي، ولكن لئلا أُنَفِّركم من محبة الأخوّة التي تربطنا، ولئلا تندموا عليها فلا تربطوا أنفسكم بما تتصورونه من مقامات تُضفونها عليّ، وهي فوق حدي بكثير.
فأنا لست سوى أخٍ لكم لا غير، وليس في طوقي ادعاء الإرشاد والتوجيه ولا الأستاذية عليكم.. وكل ما في الأمر هو أني زميلكم في تلقي درس الإيمان. فلا تنتظروا مني همّة ومددًا بل أنا المحتاج إلى معاونتكم وهممكم، وأرجو دعواتكم المشفقة على تقصيراتي.
ولقد أنعم اللّٰه علينا جميعًا -بفضله وكرمه- واستخدَمنا في أقدس خدمة وأجَلِّها وأنفعها لأهل الإيمان.. تلك هي خدمة القرآن؛ وندَبنا للقيام بها على وفق تقسيم الأعمال فيما بيننا، فحَسْبُنا أستاذيةُ وإرشادُ الشخص المعنوي النابع من سر أُخُوَّتكم واتحادكم.
فما دامت خدمة الإيمان والقرآن أسمى من أية خدمة في هذا العصر، وأن النوعية تفضل الكمية، وأن التيارات السياسية المتحولة المتغيرة وأحداثها المؤقتة الزائلة لا أهمية لها أمام خدمات الإيمان الثابتة الدائمة، بل لا تَرقَى لمقارنتها ولا يمكن أن تكون محورًا لها، فينبغي الاطمئنان بما منَحَنا ربُنا سبحانه وتعالى من مرتبة نورانية مفاضة علينا من نور القرآن المبين.
فيا إخوتي الأحبة.. الثباتَ الثباتَ، الوفاءَ الوفاءَ… إن طريقنا هو الغلو في الارتباط والتساند فيما بيننا، والسعي لنيل الإخلاص والأخوة الحقة، بدلًا من الغلو في حسن الظن والتطلع إلى مقامات أعلى من حدنا.
❀ ❀ ❀