الشعاعات

الشعاع الحادي عشر: رسالة الثمرة (2/2)

[هذا القسم من الشعاع الحادي عشر يتحدث عن مسائل إيمانية جليلة، أهمها: التعرف على الله من خلال العلوم الكونية، والتعرف على الآخرة من خلال الأسماء الحسنى، وثمرات الإيمان بالآخرة، وثمرات الإيمان بالملائكة، وأن أركان الإيمان كل لا يتجزأ]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

 ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

 

جاءَني فريقٌ من طلاب الثانوية في "قسطموني" قائلين: "عرِّفنا بخالقنا، فإن مُدرِّسينا لا يَذكرون اللّٰه لنا!".فقلت لهم: "إن كل علم من العلوم التي تقرؤونها يبحث عن اللّٰه دومًا، ويُعرِّف بالخالق الكريم بِلغته الخاصة، فأصغُوا إلى تلك العلوم دون المدرسين".
جاءَني فريقٌ من طلاب الثانوية في “قسطموني” قائلين: “عرِّفنا بخالقنا، فإن مُدرِّسينا لا يَذكرون اللّٰه لنا!”.
فقلت لهم: “إن كل علم من العلوم التي تقرؤونها يبحث عن اللّٰه دومًا، ويُعرِّف بالخالق الكريم بِلغته الخاصة، فأصغُوا إلى تلك العلوم دون المدرسين”.

 

القسم الأول من هذا الشعاع الحادي عشر: هنا.

المحتويات عرض

الشعاع الحادي عشر: رسالة الثمرة

 

الشعاع الحادي عشر

رسالة الثمرة

ثمرة من ثمار سجن دنيزلي

 

[المسألة الأولى: اغتنام رأسمال الحياة]

انتقل إليها عبر الرابط: [المسألة الأولى: اغتنام رأسمال الحياة]

[المسألة الثانية: الموت قادم وأمامنا خياران]

انتقل إليها عبر الرابط: [المسألة الثانية: الموت قادم وأمامنا خياران]

[المسألة الثالثة: الإنسان والزمان بمنظار الإيمان]

انتقل إليها عبر الرابط: [المسألة الثالثة: الإنسان والزمان بمنظار الإيمان]

[المسألة الرابعة: أهم الواجبات أَولى بالاشتغال]

انتقل إليها عبر الرابط: [المسألة الرابعة: أهم الواجبات أَولى بالاشتغال]

[المسألة الخامسة: الشباب موردٌ محدود.. كيف نجعله مستمرًّا؟]

انتقل إليها عبر الرابط: [المسألة الخامسة: الشباب موردٌ محدود.. كيف نجعله مستمرًّا؟]

 

[المسألة السادسة: عرِّفْنا على خالقنا]

المسألة السادسة

هذه المسألة إشارةٌ مختصرةٌ إلى برهانٍ واحدٍ فقـط من بين أُلوف البراهين الكلية حول “الإيمان باللّٰه”، والذي تَمَّ إيضاحُه مع حُجَجِهِ القاطعة في عِدّة مواضعَ من رسائل النور.

جاءَني فريقٌ من طلاب الثانوية في “قسطموني”1قسطموني: مدينة تقع شمالي تركيا، نفي إليها الأستاذ النورسي سنة ١٩٣٦م وظل فيها تحت الإقامة الجبرية إلى أن سيق منها سنة ١٩٤٣ موقوفًا لمحاكمته في محكمة الجزاء الكبرى في “دنيزلي”. قائلين: “عرِّفنا بخالقنا، فإن مُدرِّسينا لا يَذكرون اللّٰه لنا!”.

فقلت لهم: “إن كل علم من العلوم التي تقرؤونها يبحث عن اللّٰه دومًا، ويُعرِّف بالخالق الكريم بِلغته الخاصة، فأصغُوا إلى تلك العلوم دون المدرسين”.

[كلُّ العلوم تُعرِّف بالله]

[علم الطب]

فمثلًا: لو كانت هناك صيدلية ضخمة، في كل قنينةٍ من قنانيها أَدويةٌ ومستحضراتٌ حيوية، وُضِعتْ فيها بموازين حساسةٍ وبمقادير دقيقة؛ فكما أنها تُرينا أنّ وراءها صيدليًّا حكيمًا وكيميائيًّا ماهرًا، كذلك صيدلية الكرة الأرضية التي تضم أكثر من أَربعمائة ألفِ نوعٍ من الأَحياء نباتًا وحيوانًا، وكلُّ واحدٍ منها في الحقيقة بمثابة زجاجةِ مستحضراتٍ كيمياويةٍ دقيقة، وقنينةِ مخاليطَ حيويةٍ عجيبة، فهذه الصيدلية الكبرى تُري -حتى للعميان- صيدليَّها الحكيم ذا الجلال، وتُعرِّف خالقَها الكريم سبحانه بدرجةِ كمالها وانتظامها وعَظَمتها، قياسًا على تلك الصيدلية التي في السوق، وَفْقَ مقاييسِ “علم الطب” الذي تقرؤونه.

[علم الميكانيك]

ومثلًا: كما أنّ مصنعًا خارقًا عجيبًا ينسج أُلوفًا من أنواع المنسوجات المتنوعة، والأقمشة المختلفة، من مادةٍ بسيطةٍ جدًّا، يُرينا بلا شكٍّ أنّ وراءَه مهندسًا ميكانيكيًّا ماهرًا، ويعرِّفه لنا؛ كذلك هذه الماكنة الربانية السيارة المُسمَّاةُ بالكرة الأرضية، وهذا المصنع الإلهي الذي فيه مئات الآلاف من مصانعَ رئيسيةٍ، وفي كلٍّ منها مئاتُ الآلاف من المصانع المتقَنة، يُعرِّف لنا بلا شك صانعَه ومالكَه وَفْقَ مقاييسِ “علم المكائن” الذي تقرؤونه، يُعرِّفه بدرجةِ كمالِ هذا المصنع الإلهي وعظمته قياسًا على ذلك المصنع الإنساني.

[علوم التجارة والتوريد]

ومثلًا: كما أنّ حانوتًا أو مخزنًا للإعاشة والأَرزاق، ومحلًّا عظيمًا للأَغذية والمواد، أُحضِرَ فيه -من كل جانب- ألفُ نوعٍ من المواد الغذائية، ومُيِّزَ كلُّ نوعٍ عن الآخر، وصُفِّف في محلِّه الخاص به، يُرينا أَنّ له مالكًا ومدبِّرًا؛ كذلك هذا المخزن الرحماني للإعاشة الذي يسيح في كل سنة مسافةَ أربعةٍ وعشرين ألفَ سنة، في نظامٍ دقيقٍ متقَن، والذي يضم في ثناياه مئاتِ الآلاف من أصناف المخلوقات التي يَحتاج كلٌّ منها إلى نوعٍ خاص من الغذاء. والذي يمر على الفصول الأربعة فيأتي بالربيع كشاحنةٍ محمولةٍ بآلاف الأنواع من مختلف الأطعمة، فيأتي بها إلى الخلق المساكين الذين نَفَد قوتُهم في الشتاء. تلك هي الكرة الأرضية، والسفينةُ السُّبحانيةُ التي تضم آلافَ الأنواع من البضائع والأجهزة ومعلّبات الغذاء.

فهذا المخزن والحانوت الرباني، يُري -وَفْقَ مقاييس “علم الإعاشة والتجارة” الذي تقرأونه- صاحبَه ومالكَه ومتصرفَه بدرجة عظمة هذا المخزن، قياسًا على ذلك المخزن المصنوع من قبل الإنسان، ويعرّفه لنا، ويحبّبه إلينا.

[العلوم العسكرية]

ومثلًا: لو أن جيشًا عظيمًا يضم تحت لوائه أربعمائةَ ألفِ نوعٍ من الشعوب والأمم، لكل جنسٍ طعامُه المستقل عن الآخر، وما يستعمله من سلاحٍ يُغاير سلاحَ الآخر، وما يرتديه من ملابسَ تختلف عن ألبسة الآخر، ونمطُ تدريباته وتعليماته يُباين الآخر، ومدةُ عمله وفترةُ رُخَصِهِ هي غيرُ المدة للآخر.. فقائدُ هذا الجيش الذي يزوِّدهم وحدَه بالأرزاق المختلفة، والأسلحة المتباينة، والألبسة المتغايرة، دون نسيانِ أيٍّ منها ولا التباسٍ ولا حيرة، لهو قائدٌ ذو خوارق بلا ريب؛ فكما أنَّ هذا المعسكر العجيب يُرينا بداهةً ذلك القائدَ الخارق، بل يُحبِّبه إلينا بكل تقديرٍ وإعجاب؛ كذلك معسكرُ الأرض؛ ففي كل ربيع يجنِّد مجدَّدًا جيشًا سبحانيًّا عظيمًا مكوَّنًا من أربعمائة ألف نوعٍ من شعوب النبـاتات وأمم الحيوانات، ويمنح لكل نوعٍ ألبستَه وأرزاقَه وأسلحتَه وتدريبَه ورُخَصَه الخاصة به، من لدن قائدٍ عظيمٍ واحدٍ أحدٍ جلَّ وعلا، بلا نسيانٍ لأحدٍ ولا اختلاطٍ ولا تحيِّرٍ وفي منتهى الكمال وغاية الانتظام..

فهذا المعسكر الشاسع الواسع للربيع الممتد على سطح الأرض يُري -لأولي الألباب والبصائر- حاكمَ الأرض حسب “العلوم العسكرية” وربَّها ومدبرَها، وقائدَها الأقدس الأجلّ، ويُعرِّفه لهم، بدرجةِ كمال هذا المعسكر المهيب، ومدى عظمته، قياسًا إلى ذلك المعسكر المذكور، بل يحبب مَليكَه سبحانه بالتحميد والتقديس والتسبيح.

[علم الفلك وعلم الكهرباء]

ومثلًا: هَبْ أنّ ملايين المصابيح الكهربائية تتجول في مدينةٍ عجيبةٍ دون نَفَادٍ للوقود ولا انطفاء؛ ألا تُري -بإعجابٍ وتقدير- أَنّ هناك مهندسًا حاذقًا، وكهربائيًّا بارعًا لمصنع الكهرباء، ولتلك المصابيح؟!

فمصابيح النجوم المتدلية من سقف قصر الأرض وهي أكبر من الكرة الأرضية نفسِها بألوف المرات حَسْبَ علمِ الفلك وتسير أسرعَ من انطلاق القذيفة، من دون أن تُخِلَّ بنظامها، أو تتصادم مع بعضها مطلقًا ومن دون انطفاء، ولا نَفَادِ وقودٍ وَفْقَ ما تقرؤونه في “علم الفلك“.. هذه المصابيح تشير بأصابعَ من نورٍ إلى قدرة خالقها غير المحدودة.

فشمسُنا مثلًا وهي أكبرُ بمليون مرةٍ من كرتنا الأرضية، وأقدمُ منها بمليون سنة، ما هي إلّا مصباحٌ دائم، ومَوقدٌ مستمرٌّ لدار ضيافة الرحمن، فلأَجل إدامة اتّقادها واشتعالها وتسجيرها كل يوم يلزم وقودٌ بقدر بحار الأرض، وفحمٌ بقدر جبالها، وحطبٌ بقدرِ أضعافِ أضعافِ حجم الأرض، ولكن الذي يُشعلها -ويشعل جميع النجوم الأخرى أمثالها- بلا وقودٍ ولا فحمٍ ولا زيتٍ ودون انطفاء، ويُسيِّرها بسرعةٍ عظيمةٍ معًا دون اصطدام، إنما هي قدرةٌ لا نهاية لها وسلطنةٌ عظيمة لا حدود لها.

فهذا الكون العظيم وما فيه من مصابيحَ مضيئة، وقناديلَ متدليةٍ يبين بوضوح -وَفْقَ مقاييس “علم الكهرباء” الذي قرأتموه أو ستقرؤونه- سلطانَ هذا المعرض العظيم والمهرجان الكبير، ويُعرِّف مُنوِّرَه ومدبِّرَه البديعَ وصانعَه الجليل، بشهادةِ هذه النجوم المتلألئة، ويُحبِّبه إلى الجميع بالتحميد والتسبيح والتقديس، بل يسوقهم إلى عبادته سبحانه.

[علوم الحكمة وفنون القراءة]

ومثلًا: لو كان هناك كتابٌ كُتِبَ في كل سطرٍ منه كتابٌ بخطٍّ دقيق، وكُتِبَ في كل كلمة من كلماته سورةٌ قرآنية، وكانت جميعُ مسائله ذاتَ مغزى ومعنى عميق، وكلُّها يؤيِّد بعضُها البعض، فهـذا الكتاب العجيب يُبيِّنُ بلا شكٍّ مهارةَ كاتبه الفائقة، وقدرةَ مؤلّفه الكاملة.

أي إن مثل هذا الكتاب يُعرِّف كاتبَه ومصنِّفَه تعريفًا يضاهي وضوحَ النهار، ويُبيِّن كمـالَه وقـدرتَه، ويثير من الإعجاب والتقدير لدى الناظرين إليه ما لا يملكون معه إلّا ترديدَ: “تبارك اللّٰه، سبحان اللّٰه، ما شاء اللّٰه!” من كلمات الاستحسان والإعجاب.

كذلك هذا الكتاب الكبير للكون الذي يُكتَب في صحيفةٍ واحدةٍ منه، وهي سطح الأرض، ويُكتبُ في ملزمة واحدة منه، وهي الربيع: ثلاثُمائة ألفِ نوعٍ من الكتب المختلفة، وهي طوائف الحيوانات وأجناس النباتات، كل منها بمثابة كتاب.. يُكتب كلُّ ذلك معًا ومتداخلًا بعضُها ببعضٍ بلا اختلاطٍ ولا خطأ ولا نسيان، وفي منتهى الانتظام والكمال، بل يُكتَب في كل كلمةٍ منه كالشجرة قصيدةٌ كاملة رائعة، وفي كل نقطةٍ منه كالبذرة فهرسُ كتابٍ كامل.

فكما أَنّ هذا مُشاهَدٌ وماثلٌ أمامنا، ويُرينا بالتأكيد أن وراءه قلمًا سيَّالًا يُسَطِّر، فلكم إذن أن تُقَدِّروا مدى دلالةِ كتاب الكون الكبير العظيم الذي في كلِّ كلمةٍ منه معانٍ جمَّة وحِكَمٌ شتى، ومدى دلالة هذا القرآن الأكبر المجسَّم وهو العالَم: على بارئه سبحانه وعلى كاتبه جلَّ وعلا، قياسًا إلى ذلك الكتاب المذكور في المثال، وذلك بمقتضى ما تقرؤونه من “علم حكمة الأشياء” أو “فن القراءة والكتابة“، وتناولوه بمقياسٍ أكبر، وبالنظرة الواسعة إلى هذا الكون الكبير؛ وبذلك تفهمون كيف يُعرِّف الخالقَ العظيم بـ”اللّٰه أكبر”، وكيف يُعلِّم التقديسَ بـ”سبحان اللّٰه”، وكيف يُحبِّب اللّٰهَ سبحانه إلينا بثناء “الحمد للّٰه”.

وهكذا، فإن كل علمٍ من العلوم العديدة جدًّا يَدُلُّ على خالق الكون ذي الجلال -قياسًا على ما سبق- ويُعرِّفه لنا سبحانه بأسمائه الحسنى، ويُعلِّمه إيانا بصفاته الجليلة وكمالاته، وذلك بما يملك من مقاييس واسعةٍ ومرايا خاصةٍ وعيونٍ حادةٍ باصرةٍ ونظرات ذات عبرة.

فقلت لأولئك الطلبة الشباب: إن حكمة تكرار القرآن الكريم من: ﴿خَلَقَ السموات والأرض﴾، و: ﴿رب السموات والأرض﴾، إنما هي لأجل الإرشاد إلى هذه الحقيقة المذكورة، وتلقينِ هذا البرهان الباهر للتوحيد، ولأجل تعريفنا بخالقنا العظيم سبحانه.

فقالوا: شكرًا لربنا الخالق بغير حدٍّ على هذا الدرس الذي هو الحقيقة السامية عينُها، فجزاك اللّٰه عنا خير الجزاء ورضي عنك.

[شرف الانتساب إلى الله]

قلت:‌ إن الإنسان ماكنة حيوية، يتألم بآلاف الأنواع من الآلام، ويتلذذ بآلاف الأنواع من اللذائذ.

ومع أنه في منتهى العجز، فإن له من الأعداء ما لا يُحَد، سواءٌ الماديين أو المعنويين.

ومع أنه في غاية الفقر، فإن له رغباتٍ باطنةً وظاهرةً لا تُحصَر؛ فهو مخلوقٌ مسكينٌ يتجّرع آلامَ صفعاتِ الزوال والفراق باستمرار.

فرغم كل هذا فإنه يجد بانتسابه إلى السلطان ذي الجلال بالإيمان والعبودية مستندًا قويًّا، ومرتكزًا عظيمًا يحتمي إليه في دفع أعدائه كافة، ويجد فيه كذلك مدارَ استمدادٍ يستغيث به لقضاء حاجاته وتلبية رغباته وآماله كافة.

فكما ينتسب كلٌّ إلى سيّده، ويفخر بشرف انتسابه إليه، ويعتز بمكانة منـزلته لديه، كذلك فإن انتساب الإنسان -بالإيمان- إلى القدير الذي لا نهاية لقدرته، وإلى السلطان الرحيم ذي الرحمة الواسعة، ودخولَه في عبوديته بالطاعة والشكران، يُبدِّل الأجلَ والموتَ من الإعدام الأبديِّ إلى تذكرة مرورٍ ورخصةٍ إلى العالم الباقي!

فلكُم أنْ تقدِّروا كم يكون هذا الإنسان متلذذًا بحلاوة العبودية بين يدي سيده، وممتنًّا بالإيمان الذي يجده في قلبه، وسعيدًا بأنوار الإسلام، ومفتخرًا بسيّده القدير الرحيم شاكرًا له نعمة الإيمان والإسلام.

ومثلما قلتُ ذلك لإخواني الطلبة، أقول كذلك للمسجونين: إن مَن عرف اللّٰه وأطاعه سعيدٌ ولو كان في غياهب السجن، ومَن غَفَلَ عنه ونَسِيَه شقيٌ ولو كان في قصور مشيَّدة.

فلقد صرخ مظلوم ذاتَ يوم بوجه الظالمين وهو يعتلي منصة الإعدام فرِحًا جذلًا وقائلًا:

“إنني لا أنتهي إلى الفناء ولا أُعدمُ، بل أُسرَّحُ من سجن الدنيا طليقًا إلى السعادة الأبدية، ولكني أَراكم أنتم محكومين عليكم بالإعدام الأبدي لما ترون الموتَ فناءً وعدمًا، فأنا إذن قد ثأرت لنفسي منكم”.

فَسلَّم روحَه وهو قرير العين يردد: “لا إله إلّا اللّٰه”.

﴿سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلّا مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أنْتَ العَليمُ الحَكيمُ﴾

❀   ❀   ❀

 

[المسألة السابعة: علِّمْنا آخرتَنا]

المسألة السابعة

ثمرةٌ أينعتْ في يوم جمعةٍ من أيام سجن دنيزلي

 

﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾

﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾

﴿ما خلقكم ولا بعثُكم إلّا كنفسٍ واحدة﴾

﴿فانظر إلى آثار رحمتِ اللّٰه كيفَ يُحيي الأرضَ بعد موتها

إن ذلكَ لَمُحيي الموتى وهو على كل شيء قدير﴾

كنت قد ألقيتُ ذات يوم درسًا في “قسطموني” بلغة العلوم المدرسية على بعض طلبة الثانوية الذين جاؤوا يسألونني: “عَرِّفْنَا بخالقنا” كما جاء في “المسألة السادسة” المذكورة آنفًا، واطّلع عليها بعضُ من استطاع الاتصال معي من المسجونين في “دنيزلي” فحصل لديهم من الاطمئنان الإيماني والقناعة التامة ما جعلهم يستشعرون شوقًا غامرًا نحو الآخرة، فبادروا بالقول: “علِّمْنا آخرتَنا أيضًا علمًا كاملًا، لا تُضِلُّنا بعدَه أنفسُنا وشياطينُ العصر، فتلقي بنا إلى مثل هذه السجون!”.

ونـزولًا عند طلب هؤلاء، وإسعافًا لحاجة طلبة رسائل النور في سجن “دنيزلي”، وللرغبة المُلِحَّة من أولئك الذين طالعوا “المسألة السادسة”، فقد رأيت لزامًا عليَّ أن أُبين خلاصةً موجَزةً عن الركن الإيماني المهم: “الآخرة“.

[التعرف على الآخرة من خلال سبع مراتب]

فأقول ملخصًا من رسائل النور: كما أننا سألنا في “المسألة السادسة” الأرضَ والسماوات عن خالقنا سبحانه وتعالى، فأجابتنا بلسان العلوم الحاضرة بما عرَّفتنا بخالقنا الكريم معرفةً واضحةً وضوح الشمس، فسنسأل كذلك أولًا ربَّنا الذي عَرَفْناه يقينًا عن آخرتنا، ثم نسأل رسولَنا الأعظم ﷺ، ثم قرآنَنا الكريم، ثم سائرَ الأنبياء عليهم السلام والكتب المقدسة، ثم الملائكةَ، ثم الكائنات.

[الأسماء والكتب الإلهية تُخبِر بالآخرة]

فها نحن أولاء في أُولى المراتب.. نسأل اللّٰه سبحانه وتعالى عن “الآخرة” فيخاطبنا -جلّ وعلا- بجميع أوامره، وبجميع رسله الكرام، وبجميع أسمائه الحسنى، وبجميع صفاته الجليلة، قائلًا لنا: الآخرة لا ريب فيها، وأنتم مساقون إليها.

وحيث إن “الكلمة العاشرة” قد أثبتت الآخرةَ باثنتي عشرة حقيقةً قاطعةً ناصعة، وأوضحَتْها بدلالةِ قسمٍ من الأسماء الحسنى؛ لذا نشير هنا -إشارةً مختصرةً- إلى تلك الدلالات، مكتفين بذلك الإيضاح.

[اسم السلطان الدَّيَّان ورب العالمين]

نعم، إنه ليس هناك سلطانٌ عظيمٌ دون أن يكون له ثوابٌ للمطيعين وعقابٌ للعاصين، فلا بد من أن السلطان السرمدي -وهو في علياء الربوبية المطلقة- له ثوابٌ للمنتسبين إليه بالإيمان والمستسلمين لأوامره بالطاعة، وعقابٌ للذين أنكروا عظمتَه وعزته بالكفر والعصيان. ولا بد من أن ذلك الثواب سيكون لائقًا برحمته وجماله، وذلك العقاب سيكون ملائمًا لعزته وجلاله.

وبهذا يجيبنا اسم “السلطان الديّان” و”ربّ العالمين” عن سؤالنا حول الآخرة.

[اسم الرحمن والكريم]

ثم إننا نرى بأعيننا -رؤية واضحة وضوحَ الشمس- أن رحمةً عامةً ورأفةً محيطةً وكرمًا شاملًا سابغًا على وجه الأرض؛ فما أن يحُلَّ الربيعُ الزاهي حتى ترى الرحمةَ تُزيِّن الأشجار والنباتات المثمرة، وتُلبسها ثيابًا خُضرًا كأنها حور الجنة، وتُسلِّم إلى أيديها أنواعًا مختلفةً من ثمارٍ شتى، وتُقدِّمها إلينا قائلة: “هاكم كُلوا وتفكَّهوا…”، وتراها تطعمنا عسلًا مصفًّى شافيًا لذيذًا بأيدي حشرةٍ سامة! وتُلبسنا حريرًا ناعمًا تَنسجه حشرةٌ بلا يد! وتدَّخر في حفنةٍ من بُذيراتٍ وحبوبٍ آلافَ الأطنان من الغذاء وتُحوِّلها إلى كنوزٍ احتياطيةٍ لنا..

فالذي له هذه الرحمة الواسعة، وله هذه الرأفة العامة والكرم السابغ، لا ريب أنه لن يُفني ولن يُعدم عبادَه المؤمنين المحبوبين لديه، أولئك الذين ربَّاهم ومَنَّ عليهم، وكرَّمهم إلى هذه الدرجة من اللطف والرفق والعناية، بل سينهي وظيفتهم في الحياة الدنيا ليُهيأهم لرحماتٍ أوسعَ وأعظم.

وبهذا يجيبنا اسم اللّٰه “الرحمن” و”الكريم” من الأسماء الحسنى عن سؤالنا حول الآخرة، قائلَين لنا: “الجنة حق“.

[اسم الحكيم والحكَم والعادل والعدل]

ثم إننا نرى أن وظائف المخلوقات تُنسج على منوال الحكمة وتكال بميزان العدل، وهما من الدقة والحساسية بحيث لا يتصور الإنسان أفضل منهما..

فنَرى الحكمة الأزلية قد وهبت للإنسان قوةَ حافظةِ -كحبة الخردل حجمًا- وكَتبت فيها تفاصيلَ حياته وما يمسه من أحداثٍ لا تعد، وكأنها مكتبةٌ وثائقية مصغرة جدًّا، ووضعتْها في زاوية من دماغه، لتذكّره دومًا بيوم الحساب، يوم تُنشر ما فيها من صحائف الأعمال.

ونرى العدالة المطلقة تضع كلَّ عضوٍ من الكائن الحي في موضعه اللائق به، وتُنسقه بموازين دقيقةٍ حساسة، ابتداءً من ميكروبٍ صغير إلى كركدنٍ ضخم، ومن نحلٍ ضعيف إلى نَسرٍ مهيب، ومن زهرةٍ لطيفةٍ إلى ربيعٍ زاهٍ بملايين من الأزهار..

ونراها تمنح كل عضو تناسقًا لا عبث فيه، وموازنة لا نقص فيها، وانتظامًا لا ترى فيه إلّا الإبداع، كل ذلك ضمن جمالٍ زاهر وحُسنٍ باهر، حتى تغدو المخلوقات نماذج مجسَّمةً للإبداع والإتقان والجمال..

فضلًا عن أنها تَهَب لكل ذي حياة حقَّ الحياة؛ فتيسر له سبل الحياة، وتنصب له موازين عدالة فائقة؛ فجزاء الحسنة حسنة مثلها، وجزاء السيئة سيئة مثلها.. وفي الوقت نفسه تُشعر قوتها وسرمديتها، بما تنـزل من عذاب مدمر على الطغاة والظالمين منذ عهد آدم عليه السلام.

فكما لا تكون الشمسُ دون نهار، فتلك الحكمة الأزلية، وتلك العدالة السرمدية لن تتحققا تحققًا كليًّا إلّا بحياةٍ أخرى خالدة، لذا لن ترضيا أبدًا ولن تسمحا بحالٍ من الأحوال على نهايةٍ لا عدالة فيها ولا حكمة ولا إحقاقَ حق، تلك هي الموت الذي لا بعث بعده، والذي يتساوى فيه الظالمون العتاة مع المظلومين البائسين! فلا بد إذن أن تكون وراءه حياة أخرى خالدة كي تستكمل الحكمةُ والعدالة حقيقتهما.

وبهذا يجيبنا -إجابةً قاطعةً- اسمُ اللّٰه “الحكيم” و”الحكم” و”العدل” و”العادل” من الأسماء الحسنى عن سؤالنا حول الآخرة.

[اسم السميع والمجيب والرحيم]

ثم إننا نرى أن كلَّ كائنٍ حيٍّ تُوَفَّر له حاجاتُه التي ليس في طَوقه الحصولُ عليها، وتُستجاب جميعُ مطاليبه التي يَسألها –بنوعٍ من دعاء– سواءٌ بلسانِ حاجاته الضرورية، أو بلغة استعداداته الفطرية، وتُسلَّم إليه في أنسب وقتٍ وأفضلِه من لدن يدِ رحيمٍ واسع الرحمة، وسميعٍ مطلَق السمع، ورؤوفٍ شامل الرأفة..

وتُستجاب أيضًا أغلبُ دعوات الإنسان الإراديةُ، ولا سيما دعوات الأصفياء من الناس، وبخاصة دعوات الأنبياء عليهم السلام التي تُستجاب أغلبها استجابة خارقة للعادة.

فتلك الاستجابات تُفهِّمنا يقينًا أن وراء الحجاب “سميعًا مجيبًايَسمع آهاتِ كلِّ ذي مصيبةٍ وأنّاتِ كلِّ ذي داء، ويصغي إلى دعاء كلِّ محتاج، ويرى أدنى حاجةٍ لأصغر مخلوق، ويَسمع أخفى أنينٍ لأضعف كائن فيشمله برأفته ويسعفه فعلًا فيرضيه..

فما دام الأمر هكذا فإن دعاءً للسعادة الأخروية والبقاء والخلود -وهو أفضل دعاء وأعمُّه، ويَمَسُّ جميع الكائنات، ويرتبط بجميع الأسماء الحسنى وبجميع الصفات الجليلة- هذا الدعاء يسأله أفضل مخلوق وهو الإنسان.. ويَضمه ضمن أدعيته أعظمُ عبدٍ وأحبه إلى اللّٰه، ذلك الرسول الأعظم ﷺ، وهو إمام الأنبياء عليهم السلام الذين هم شموس البشرية وروّادها، فيؤَمِّنون على دعائه هذا، بل يؤَمِّن على دعائه بصلواته عليه يوميًّا كلُّ مؤمن من أمته عدة مرات في الأقل، بل تشترك جميعُ المخلوقات في دعائه قائلة: “استجب يا ربنا دعاءه فنحن نتوسل بك ونتضرع إليك مثله”.

فمثل هذا الدعاء الشامل للخلود والسعادة الأبدية، من مثل هذا الرسول الحبيب ﷺ وضمن هذه الشروط التي لا تردّ، لا شك مطلقًا أنه وحده مبرِّرٌ كافٍ وسببٌ وافٍ لإيجاد الجنة الخالدة وإحداث الآخرة من بين أسبابٍ لا تعد ولا تحصى موجبةٍ لإيجادها، فضلًا عن أن إيجادها سهل على قدرته سبحانه وهيّن عليها كإيجاد الربيع وخلقه.

وهكذا يجيبنا اسم اللّٰه “المجيب” و”السميع” و”الرحيم” من الأسماء الحسنى عن سؤالنا حول الآخرة.

[اسم المحيي المميت والحي القيوم والقدير العليم]

ثم إن ما في تبدل المواسم من مظاهر الموت ومشاهد البعث على الأرض كافة يدل دلالة واضحة -كدلالة النهار على الشمس- على أن وراء الحجاب ربًّا يدير الأرض الهائلة في غاية الانتظام وفي منتهى السهولة، كإدارة حديقة صغيرة، بل كإدارة شجرة واحدة وبانتظامها.. ويدير الربيع الشاسع ويزيِّنه بسهولةِ إدارةِ زهرةٍ واحدةٍ وبزينتها الموزونة، ويُسَطِّر على صحيفة الأرض ثلاثمائة ألفٍ من طوائف النباتات والحيوانات التي هي بمثابة ثلاثمائة ألف نوع من كتب تعرض نماذج الحشر وأمثلة النشور.

فهذا الربُّ القدير الذي يكتب هذه النماذج المتداخلة دون تحيرٍ ولا لبسٍ، ودون سهوٍ ولا خطأ، وبإتقانٍ وانتظام، وبمعانٍ بليغة، رغم تشابكها وتشابهها وتماثلها، يُظهر ضمن جلال العظمة قدرة فاعلة رحيمة حكيمة، فهو سبحانه يشمل الوجود برحمته وحكمته هذه، فيَهَب للإنسان مقامًا ساميًا ويسخر له الكون الضخم ويجعله مسكنًا ومهدًا له، ثم ينصِّبه خليفة في الأرض، ويحمّله الأمانة الكبرى التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها، ويفضّله على سائر المخلوقات، ويشرّفه بكلامه الرباني وبخطابه السبحاني وبموالاته إياه، فضلًا عن أنه قد قطع على نفسه عهدًا، ووعد هذا الإنسان وعدًا -في جميع كتبه المنـزلة- أنه سيخلّده بالسعادة الأبدية والبقاء الأخروي.. فلا ريب أنه سيفتح له أبواب سعادة دائمة، وسيُحدث الحشر والقيامة حتمًا، وهو أهون عليه من الربيع نفسه.

وبهذا يجيبنا اسم اللّٰه “المحيي” و”المميت” و”الحي” و”القيوم” و”القدير” و”العليم” عن سؤالنا حول الآخرة.

[اسم الرحمن والحكيم والعدل والكريم والحاكم]

حقًّا إن القدرة الإلهية التي تحيي أصول الأشجار والأعشاب كافة في كل ربيع، وتوجِد نماذج ثلاثمائة ألف نوعٍ من حشر ونشر في الحيوانات والنباتات كافة، بل تُظهر ألف مثالٍ للحشر والنشور وألفَ دليلٍ عليه في ألفَي ربيع2إن كل ربيع يُقبل هو بحكم حشر للربيع السابق الذي قامت قيامته وانتهت حياته. (المؤلف). عندما يُنظر خيالًا إلى ألف سنةٍ من السنين التي قضاها كل من أمة محمد وموسى عليهما السلام وقوبلا معا! فكيف يُستبعد بعثُ الأجساد والحشر الجسماني من هذه القدرة المطلقة؟ أليس استبعاده عمًى ما بعده عمًى؟!

ثم إن مائة وأربعة وعشرين ألفًا من أفضل بني آدم وهم الأنبياء عليهم السلام، قد أعلنوا السعادة الأبدية وخلود الآخرة، متفقين مستندين إلى آلاف الوعود والعهود التي قطعها اللّٰه سبحانه وتعالى على نفسه، وأثبتوا صدقهم بمعجزاتهم الباهرة، وأن ما لا يحصر له من الأولياء الصالحين يصدِّقون الحقيقة نفسها بالكشف والذوق.

فلا بد من أنَّ تلك الحقيقة ظاهرة ظهور الشمس في رابعة النهار فمَن شكّ فيها فقد حُرِم العقل.

لأن حكم متخصصٍ واحدٍ أو اثنين في علمٍ أو مهنةٍ في مسألةٍ ضمن اختصاصه، يُسقِط من الاعتبار قيمةَ آراءِ وأفكار ألف معارضٍ غيرِ متخصص في ذلك العلم أو المهنة ولو كانوا أولي اختصاص في علوم أخرى.

وأن حكم اثنين من شهود الإثبات في مسألةٍ يُرجَّح على آلافٍ من المنكِرين أو النافين للمسألة، كما هو في رؤية هلال رمضان في يوم الشك، أو ادعاء وجود مَزارع جوز الهند الشبيهة بعلب الحليب في الأرض؛ ذلك لأن المُثبِت يكسب القضية بمجرد الإشارة إليها أو إبراز جوز الهند أو بيانه لمكانه. أما النافي الذي ينكر وجوده فإنه لا يستطيع أن يثبت دعواه إلّا إذا جاس وجال في أنحاء العالم كله وتحرّى دعواه في الأمكنة كلها.

وهكذا الذي يخبر عن الجنة ودار السعادة والخلود فإنه يثبتها ويكسب القضية بمجرد إظهاره أثرًا من آثار الجنة، أو أمارةً من أماراتها، أو ظلًّا من ظلالها كشفًا؛ في حين لا يستطيع مَن ينفي وجودها وينكرها أن يجد لإنكاره مجالًا -مَهْما كَدَّ- إلّا إذا شاهد وأشهد الآخرين جميعَ الأكوان وجميع الأزمان من الأزل إلى الأبد، وأظهر عدم وجودها وأثبت نفيها!!

فلأجل هذه الحكمة ارتضى العلماء المحققون على قاعدةٍ أساسٍ هي: “لا يمكن إثبات النفي غير المحدّد مكانُه -كالحقائق الإيمانية الشاملة للكون قاطبة- ما لم يكن الأمر محالًا بذاته“.

فبناءً على هذه الحقيقة القاطعة لا ينبغي أن يَجلب إنكارُ آلاف الفلاسفة ومعارضتُهم أيةَ شبهةٍ ولا وسوسةٍ أمام مخبرٍ صادقٍ في مثل هذه المسائل الإيمانية.. فيا حماقةَ من يتلوث بشبهة -مهما كانت- في أركان الإيمان بمجرد إنكارِ قلةٍ من فلاسفةٍ ماديين تحدَّرت عقولُهم إلى عيونهم فلا يرون إلّا المادة، بل ماتت قلوبُهم فلا يشعرون بالمعنويات، بينما اتفق على تلك الأركان مائةٌ وعشرون ألفًا من المثبِتين أولي الاختصاص من الأنبياء الصادقين عليهم السلام، وممن لا يحصَون ولا يُعدّون من المثبِتين والمختصين من أهل الحقيقة الأولياء وأصحاب التحقيق العلماء.

ثم إننا نشاهد سواء في أنفسنا أو فيما حولنا رحمةً عامة وحكمة شاملة وعناية دائمة ناشرة نورَها كالنهار، ونرى كذلك آثارَ ربوبيةٍ مهيبة وأنوارَ عدالةٍ بصيرة، وتجلياتِ إجراءات جليلة عزيزة، بل نرى “حكمة” تُقلِّد الشجرةَ حِكَمًا بعدد أزهارها وأثمارها، ونرى “رحمة” تقيم على كل إنسان إحسانًا وعطايا بعدد حواسه وقواه وأجهزته. ونرى “عدالة” ذات عزة تُهلك بسوط عذابها أقوامًا عصاة أمثال قوم نوح وهود وصالح وقوم عاد وثمود وفرعون، وهي ذات عناية كذلك تحافظ على حقوقِ أصغرِ مخلوق وأضعفه، فالآية الكريمة الآتية تبين بإيجازٍ معجزٍ عظمةَ تلك الربوبية الجليلة وهيبتها المطلقة: ﴿ومن آياته أن تقوم السماءُ والأرض بأمره ثمّ إذا دَعاكم دَعوةً من الأرضِ اذا أنتم تخرجون﴾.

إذ تُبين أنَّ السماوات والأرض تمتثلان الأمر الإلهي كالجنود المرابطين والراقدين في معسكرين. فكما أنهم يُهرعون إلى أخذ مواقعهم وتسلُّم أسلحتهم بدعوةٍ من القائد وبنفخةٍ من بوق، كذلك السماوات والأرض كمعسكرَين حالما يُنادى بالأموات الراقدين فيهما بصور إسرافيل عليه السلام، إذا بهم يَخرجون من الأجداث سِراعًا لابسين ثياب الجسد.

بل نرى هذه العظَمة والطاعة في كل ربيع، إذ يُحشَر ما في معسكر الأرض من جنودٍ وينشَرون بنفخةٍ من بوقِ مَلَك الرعد.

فبناء على التحقيقات السابقة، لا بد أن تلك الرحمة والحكمة والعناية والعدالة والسلطنة السرمدية ستحقق أبعادها وغاياتها في دار أخرى، أي إنها تقتضي الحشر بالضرورة، كما أثبتتها “الكلمة العاشرة”.

إذ لا شك في مجيء الآخرة، بل إن عدم مجيئها مُحالٌ في ألف محال، حيث إن عدمها يعني: تبدلَ “الرحمة” التي هي في منتهى الجمال قسوة في منتهى البشاعة.. ويعني: تحول كمال “الحكمة” إلى نقص العبث القاصر وغاية الإسراف.. ويعني: انقلاب “العناية” التي هي في منتهى الحسن واللطف إلى إهانة في منتهى القبح والمرارة.. ويعني: تغير “العدالة” التي هي في منتهى الإنصاف والحق إلى ظلمات في أشد القسوة والبطلان.

زد على ذلك فإن عدم مجيء الآخرة يعني أيضًا سقوط هيبة السلطنة السرمدية العزيزة وبوارَ أُبَّهتها وقوتها، ويعني اتهام كمالَ الربوبية بالعجز والقصور.. فكل هذا باطل ومحال لا يقبله عقل أي إنسان مهما كان، وهو الممتنع والخارج عن دائرة الإمكان.

لأن كل ذي شعور يعلم أن اللّٰه سبحانه قد خلق هذا الإنسان في أحسن تقويم، ورباه أحسن تربية، وزوّده من الأجهزة والأعضاء -كالعقل والقلب- ما يتطلع به إلى السعادة الأبدية ويسوقه نحوها، ويدرك كذلك مدى الظلم والقسوة إذا ما انتهى مصير هذا الإنسان المكرم إلى العدم الأبدي!

ويفهم كذلك مدى البُعد عن الحكمة في عدم البعث الذي يجعل جميعَ الأجهزة والقوى الفطرية -التي لها آلاف المصالح والفوائد- دون جدوى ودون قيمة! في الوقت الذي أودع سبحانه مئاتٍ من الحِكَم والفوائد في دماغه فحسب.

ويفهم كذلك مدى العجز الظاهر والجهل التام المنافيَين كليًّا لعظمة تلك السلطنة وكمال الربوبية في عدم الإيفاء بآلاف الوعود والعهود؟ تعالى اللّٰه عن ذلك علوًّا كبيرًا.

قس على هذا كلًّا من “العناية” و”العدالة”.

وهكذا يجيبنا اسم اللّٰه “الرحمن” و”الحكيم” و”العدل” و”الكريم” و”الحاكم” من الأسماء الحسنى بتلك الحقيقة المذكورة عن سؤالنا الذي سألناه حول الآخرة ويثبتها لنا إثباتًا لا شبهة فيه بل واضحًا جليًّا كوضوح الشمس وجلائها.

[اسم الحفيظ والأول والآخر والظاهر والباطن]

ثم إننا نرى “حفيظية” مهيبة محيطة بادية للعيان، تحكم على كل شيء حي، وتهيمن على كل حادث، تحفظ صوره الكثيرة، تسجِّل أعمال وظيفته الفطرية، تدوّن تسبيحاته التي يؤديها -بلسان الحال- تجاه الأسماء الحسنى.. تدوّنها في لوحات مثالية، في بُذيراته ونواه، في قواه الحافظة -وهي نماذج مصغرة للّوح المحفوظ- ولا سيما في حافظة الإنسان التي هي مكتبة عظمى مصغرة جدًّا موضوعة في دماغه، وتسجلها في سائر المرايا والمعاكس المادية والمعنوية. وما إن يحل الربيع -تلك الزهرة المجسمة للقدرة الإلهية- حتى تُبرز لنا الحفيظية تلك الكتابات المعنوية ظاهرةً مشهودة مجسمة. وتعرض في تلك الزهرة العظمى حقيقةَ الحشر التي تتضمنها الآية الكريمة: ﴿وإذا الصُحُفُ نُشرت﴾ وتعلنها بألسنة ملايين الملايين من الأمثلة والدلائل، وتؤكد لنا يقينًا أن الأشياء جميعها -ولا سيما الأحياء- لم تُخلق لتنتهي إلى الفناء، ولا لتهوي إلى العدم ولا لتمحى إلى غير شيء -ولا سيما الإنسان- بل خُلقوا للمضي بسموهم إلى البقاء، وللدخول بتزكية أنفسهم إلى عالم الحياة الخالدة، وللولوج بالاستعداد الفطري إلى وظيفة سرمدية تنتظرهم في دار الخلود.

نعم، إن كل شجر وجذر وكل حبّة ونواة من النباتات غير المحدودة التي ماتت في قيامة الخريف، ما إن يحين حشر الربيع إلّا ويتلو الآية الكريمة: ﴿واذا الصُحُفُ نُشرت﴾ بلسانه الخاص ويفسر معنًى من معانيها، وذلك بقيام كل جزء من أجزائه بمثل الوظائف الفطرية التي قام بها في السنين السابقة، ويبيّن -في الوقت نفسه- عظمة الحفيظية في أوسع مداها كما تتضمنها الآية الكريمة: ﴿هُوَ الأولُ والآخرُ والظاهِرُ والبَاطِن﴾ وترشدنا إلى أربع حقائق جليلة في كل شيء وتقيم الحجة الدامغة على حتمية الحشر كحتمية مجيء الربيع ويسره.

نعم، إن أنوار هذه الأسماء الحسنى الأربعة وتجلياتها تسري وتنفذ من أصغر جزئي إلى أكبر كليّ.. ولنوضح هذا بمثال:

فالبذرة التي هي أصل الشجرة تبين عظمة الحفيظية بتعرضها لأنوار اسم اللّٰه “الأول” وذلك؛ بما تحوي من خطة الشجرة دقيقة كاملة، وبما تضم من أجهزة بديعة لإيجادها ونشوئها كاملة غير منقوصة، وبما تشتمل عليه من شرائط تكوين الشجرة رغم أنها علبة صغيرة جدًّا. والثمرة أيضًا تشهد شهادة صادقة على تلك الحفيظية بتعرضها لأنوار اسم اللّٰه “الآخر” وذلك؛ بما تحوي من فهرس جميع الوظائف الفطرية لتلك الشجرة، وبما تضم من صحائف أعمالها، وبما تنطوي عليه من قوانين حياتها الثانية، علمًا أنها صندوق صغير جدًّا.

أما ظاهر الشجرة المجسم فإنه يُظهر عظمة القدرة وكمال الحكمة وجمال الرحمة ضمن الحفيظية المطلقة، ويبرزها للعيان مشهودة بتعرضها لأنوار اسم اللّٰه “الظاهر” وذلك؛ بحُللها البهية المزدانة بالنقوش البديعة المتنوعة والأوسمة المرصعة كأنها ثياب الحور العين الملونة بسبعين لونًا.

أما الأجهزة الداخلية لتلك الشجرة التي أصبحت كأنها مرآة تعكس أنوار اسم اللّٰه “الباطن” فهي أيضًا تثبت -إثباتًا ساطعًا كالشمس- كمالَ القدرة والعدالة، وجمال الرحمة والحكمة، إذ إنها مصنع خارق كامل النظام، بل مختبر كيمياء عظيم، بل مستودعُ إعاشة وأرزاق لا يدع غصنًا ولا ثمرًا ولا ورقًا إلّا ويزوده بالغذاء الذي يحتاجه.

وكما يُظهر كل من البذرة والثمرة، وظاهر الشجرة وباطنها تجلياتِ الأسماء الحسنى الأربعة “الأول والآخر والظاهر والباطن” فالكرة الأرضية كذلك تظهرها وتبين بداهةً أن الحفيظ ذا الجلال والإكرام إنما يعمل بقدرة وعدالة وحكمة ورحمة مطلقة؛ إذ إنها (أي الكرة الأرضية) كالشجرة من حيث تبدل المواسم السنوية، فجميعُ النوى والحبوب التي أُودعت في الخريف -بتجلي اسم اللّٰه “الأول”- أمانةً إلى الحفيظية، ترسِلُ ما لا يعد من السيقان والأغصان، وتمدّها إلى شتى الجهات، وتَفتح ما لا يحصى من الأزهار البهيجة والأثمار الطيبة، فتُلبس الأرض وشاح الربيع البهيج.. ذلك لأن كلًّا منها تضم كراسات مصغرة سُطّرت فيها الأوامر الربانية، وتبطن صحائف مصغّرة دوّن فيها ما أنجز في السنة الماضية من أعمال، بل تستوعب تلك البذورُ والنوى جميعَ ما يعود إلى تركّب شجرة الأرض العظيمة.

أما آخر شجرة الأرض السنوية فهو ما يضعه في عُلب متناهية في الصغر من جميع الوظائف التي قامت بها الشجرة في الخريف، وجميع التسبيحات والأذكار الفطرية التي أدتها تجاه الأسماء الحسنى، وجميع ما يمكن نشره في حشر الربيع المقبل من صحائف الأعمال، ويسلّم هذا جميعًا إلى يد الحكمة للحفيظ ذي الجلال تاليًا بهذا اسم اللّٰه: “الآخر” بألسنة لا حدَّ لها على أسماع الكائنات وأنظارها. أما ظاهر هذه الشجرة فهو: تلك الأزهار الكلية المتنوعة المتباينة التي تفصح عن ثلاثمائة ألف نوع من أمثلة الحشر وأماراته، وهو تلك الموائد المنصوبة للرحمن الرحيم والرزاق الكريم، وهو تلك الضيافات المفتوحة لذوي الحياة كافة، فكل ما في ظاهر تلك الشجرة يذكر ويتلو اسم اللّٰه: “الظاهر” بألسنة ثمراتها وأزهارها وطعومها مُظهرًا حقيقةَ: ﴿واذا الصُحُفُ نُشرت﴾ ساطعة كالشمس في كبد السماء.

أما باطن هذه الشجرة العظيمة فهو معمل ومصنع يُحَرِّك ما لا يعد ولا يحصى من مكائن منتظمة ومعامل دقيقة حتى إنه يُعدّ طنًّا من الأطعمة وينضجها من درهم من المواد وتوصله إلى الجائعين، ويَنهض بأعماله في منتهى الدقة بما لا يدع مجالًا لتلعب به الصدفة، فيذكر الوجهُ الباطن للأرض اسم اللّٰه: “الباطن”، بل يثبته ويعلنه بمائة ألف من الأنماط والصور كما يعلنه قسم من الملائكة الذين يسبّحون بمائة ألف لسان.

وكما أن الأرض من حيث حياتها السنوية كالشجرة بينت “الحفيظيةَ” التي في تلك الأسماء الحسنى الأربعة بوضوح، وجعلتها مفتاحًا لباب الحشر، فهي كذلك كالشجرة المتناسقة جدًّا من حيث حياة العصور وحياة الدهور، إذ ترسل ثمراتها -على مدى العصور والدهور- إلى سوق الآخرة.

وهكذا تصبح الأرض بأسرها مرآةً واسعة جدًّا لتجليات تلك الأسماء الأربعة، وتفتح سبيلًا واسعًا جدًّا إلى الآخرة بحيث تظل عقولُنا ولغاتنا قاصرة وعاجزة عن الإحاطة بها. لذا نكتفي بالآتي ولا نـزيد:

إن عقارب الساعة التي تَعُدُّ الثواني والدقائق والساعات والأيام تتشابه فيما بينها، فالواحد يدل على الآخر ويذكّره، فمن يراقب حركة عقرب الثواني يضطر إلى تصديق حركة التروس الأخرى. كذلك الدنيا كساعة كبرى لخالق السماوات والأرض، حيث تتشابه الأيام التي تعد ثواني هذه الساعة الكبرى، والسنوات التي تحصي دقائقها، والعصور التي تظهر ساعاتها، والأحقاب التي تعرف أيامها فمع تشابه بعضها مع البعض الآخر فإن كلًّا منها يدل على الآخر ويثبته.

ومن هذه الزاوية نرى الأرض تخبر بأمارات لا حدّ لها عن مجيء ربيع خالد وصبح سرمدي بعد شتاء الدنيا الفانية المظلم.. تخبر عنه بحتميةِ مجيء الصبح لهذا الليل وبقطعية مجيء الربيع بعد هذا الشتاء. وبهذه الحقيقة يجيبنا اسم “الحفيظ” مع الأسماء الحسنى الأربعة: “الأول والآخر والظاهر والباطن” عن سؤالنا الذي سألناه حول الحشر.

[اسم الحق والحفيظ والحكيم والجميل والرحيم]

وما دمنا نرى بأعيننا ونفقه بعقولنا، أن الإنسان هو خاتمة ثمرات شجرة الكون وأجمع ما فيها من الصفات..

وهو بذرتها الأصلية من حيث الحقيقة المحمدية..

وهو الآية الكونية الكبرى لقرآن الكون.. بل هو الآية الحاملة لتجليات الاسم الأعظم في ذلك القرآن الكوني كآية الكرسي في القرآن الكريم..

وهو أكرم ضيفٍ في قصر الكون..

وهو أنشط موظف مأذون له بالتصرف في سكنة ذلك القصر..

وهو المأمور المكلف عن حرث مزرعة الأرض والناظر المسؤول عن وارداتها ومصاريفها، بما جُهز من مئات العلوم وألوف المؤهلات..

وهو خليفة الأرض، والمفتش الباحث في مملكة الأرض والمرسل من لدن سلطان الأزل والأبد والعامل تحت رقابته..

وهو المتصرف في شؤون الأرض مع تسجيل كامل لأعماله بجزئياتها وكلياتها..

وهو عبد كليّ، مكلف بعبادة واسعة شاملة..

والحامل للأمانة الكبرى التي أبتِ السماوات والأرض والجبال أن يحملنها، فانفرجت أمامه طريقان: إحداهما للأشقياء، والأخرى للسعداء..

وهو الذي يعكس كالمرآة جميع تجليات الأسماء الحسنى ويتجلى فيه اسم اللّٰه الأعظم..

وهو المخاطَب المقصود للخطاب السبحاني والأكثر فهمًا للكلام الرباني..

وهو الأكثر فاقة وعجزًا من بين أحياء الكون.. وهو الكائن الحي العاجز الفقير بلا حدود، مع أن له أعداء ومؤذيات بلا عدٍّ ومقاصد وآلامًا بلا حدٍّ.. وهو أغنى استعدادًا من بين ذوي الحياة..

وهو أشد إحساسًا وشعورًا بالألم -ضمن لذة الحياة- حيث تمتزج لذاته بآلام منغّصة..

وهو أشد شوقًا إلى البقاء وأكثر حاجة إلى الخلود، بل هو الأجدر به..

وهو الذي يتوسل لأجل البقاء والخلود بأدعية غير محدودة فلو أُعطي له ما في الدنيا من متع لما شفت غليله للخلود..

وهو الذي يحب الذي أنعم عليه حبًّا لحدّ العبادة، ويحببه للآخرين، وهو المحبوب أيضًا..

وهو أعظم معجزات القدرة الصمدانية، بل هو أعجوبة الخلق، لما انطوى فيه العالم الأكبر، ولما تشهد جميع أجهزته بأنه مخلوقٌ للسير قدُمًا نحو الأبدية والخلود.

فهذا الإنسان الذي يرتبط بمثل هذه الحقائق العشرين الكلية باسم اللّٰه “الحق” والذي هو وثيق العلاقة باسم اللّٰه “الحفيظ” الذي لا يعزب عنه شيء في السماوات والأرض، يرى أدنى حاجة لأصغرِ حيّ ويسمع نداء حاجته فيغيثه فيدوّن كتبتُه الكرام جميعَ أعمال هذا الإنسان وأفعاله المتعلقة بالكائنات..

فهذا الإنسان -بحكم هذه الحقائق العشرين- لا بد أن يكون له حشر ونشور، ولا ريب أنه سيكافأ -باسم اللّٰه “الحق“- على ما قَدَّم من خدمات وأعمال، وسيجازى على ما قصّر فيها، ولا شبهة أنه سيساق إلى المحاسبة والاستجواب عما دوَّن من أعماله -باسم “الحفيظ”- جُزئيِّها وكُليِّها، ولا شك أن ستفتح أمامه أبواب سعادة خالدة وضيافة أبدية، أو أبواب سجون رهيبة وشقاء مقيم؛ وأنه لا يمكن أن لا يحاسب ويتوارى عن الأنظار ضابط قاد أكثر مخلوقات هذا العالم وتدخّل في شؤونها، ولا يمكن أن لا ينبه من رقدته!

لأنه لا يُعقل قطُّ أن يُسمع دعاءٌ أخفت من طنين الذباب ويُغاث فعلًا بلوازم الحياة، ثم لا يُسمعَ أدعيةٌ لها من القوة ما يهز العرش والفرش والتي تنطلق من تلك الحقائق العشرين وتسأل البقاء والخلود.

ولا يعقل قطُّ -بل هو خارجٌ عن الإمكان- أن تُهدَر وتُضيَّع كليًّا تلك الحقوقُ الكثيرة، بل لا يمكن لحكمة لا عبث فيها قط -ولو بمقدار جناح ذبابة بشهادة انتظامها وإتقانها- أن تعبث كليًّا باستعدادات الإنسان المرتبطة بها تلك الحقائقُ، وتعبث بجميع آماله ورغباته الممتدة إلى الخلود، وتعبث بجميع تلك الروابط وحقائق الكائنات العديدة التي تنمي تلك الاستعدادات والرغبات، لأن هذا الاحتمال ظُلمٌ فظيع وقبح مشين تردّه جميع الموجودات وترفضه قائلة: إن ذلك محال في محال بمائة وجه وممتنع مستحيل بآلاف الوجوه. بل تردّه جميع الموجودات الشاهدة على الأسماء الحسنى: “الحق” و”الحفيظ” و”الحكيم” و”الجميل” و”الرحيم”.

وهكذا تجيبنا هذه الأسماء الحسنى: “الحق” و”الحفيظ” و”الحكيم” و”الجميل” و”الرحيم“، عن سؤالنا حول الآخرة، فتخاطبنا تلك الأسماء قائلة: “إن الحشر حق لا ريب فيه، وهو حقيقة راسخة لا مراء فيها، مثلما أننا حق ومثلما تشهد لنا حقيقةُ ثبوت الموجودات”.

ولولا أن المسألة أوضح من الشمس لزدتُ بيانًا، ولكني اختصرت مكتفيًا بالأمثلة المذكورة، وقياسًا على ما في الفقرات السابقة؛ فإن كل اسم من الأسماء الحسنى المائة بل الألف المتوجه إلى الكون، يثبت مسمّاه سبحانه بداهة بتجلياته وبمراياه التي هي الموجودات، كما يظهر الحشرَ والدار الآخرة ويثبته إثباتًا قاطعًا.

[الملائكة تخبر بالآخرة]

ومثلما يجيبنا ربنا سبحانه وتعالى جوابًا قدسيًّا وجازمًا بجميع أوامره في جميع ما أنزل من كتب، وبجميع أسمائه التي سمَّى بها نفسه، عن سؤالنا الذي سألناه حول الآخرة، كذلك يجيبنا سبحانه بألسنة ملائكته ويعرّفنا الآخرة بنمط آخر، إذ تقول الملائكة:

“هناك أمارات ودلالات لا حدّ لها على وجودنا والعالمِ الروحاني، وقد جرت لقاءاتٌ ومكالماتٌ وتعارُفٌ بينكم وبيننا وبين الروحانيين منذ زمن آدم عليه السلام، وهي حوادثُ يقينيةٌ متواترةٌ لا تقبل الريب، ولقد ذَكرنا ودومًا نذكر ما نراه خلال تجوالنا في منازلِ الآخرة وصالاتها إلى روادكم أثناء لقائنا معهم:

إننا نبشركم بشارة لا ريب فيها من أن هذه الأروقة الدائمة وما وراءها من قصور خالدة ومنازل مُعَدّة إنما أُعِدَّت لاستقبال ضيوفٍ كرام مكرمين، وهُيِّئت لقدومهم“.

وبهذا يجيبنا الملائكة الكرام عن سؤالنا حول الآخرة.

[النبي ﷺ والقرآن الكريم يخبران بالآخرة]

ثم إن خالقنا الكريم قد عيّن لنا أعظمَ معلم، وأكملَ أستاذ، وأصدق قدوة، وأقوم رائد.. ألا وهو محمد الهاشمي عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد أرسله خاتمًا للرسل الكرام عليهم السلام.

فعلينا إذن -وقبل كل شيء- أن نسأل أستاذَنا ما سألناه من خالقنا عزّ وجل حول الآخرة، لعلنا نتكامل في معرفتنا ونترقى من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين، وإلى حق اليقين.

لأن هذا النبي الحبيب الصادق المصدَّق من لدن الخالق العليم بألفٍ من المعجزات، مثلما أنه معجزةُ القرآن الكريم، فأثبت للعالم أجمع أنه كتاب رب العالمين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد أصبح القرآن الكريم أيضًا معجزةً من معجزاته ﷺ، ودليلًا على أنه الصادق المصدَّق، وأنه رسول رب العالمين.

فكلتا المعجزتين -إحداهما لسانُ عالم الشهادة ومعها تصديق جميع الأنبياء عليهم السلام والأولياء، والأخرى لسان عالم الغيب المتضمن جميعَ الكتب السماوية وجميع حقائق الكون- قد أقامتا الحجج على حقيقة الحشر والنشور راسخةً واضحة وضوحَ الشمس والنهار، بجميع حياة المعجزة الأولى، وآلافٍ من آيات المعجزة الثانية.

حقًّا إن “مسألة الحشر والآخرة” من المسائل التي هي فوق طاقة العقل وحدوده، ولا تُفهم إلّا بتعليم هذين الأستاذَين المعجزين: “القرآن الكريم والرسول الحبيب ﷺ” وإرشادهما.

[لماذا لم يفصِّل الأنبياء السابقون مسألة الحشر كما فصَّلها القرآن؟]

أما لِمَاذا لَمْ يُوضّح الأنبياء السابقون عليهم السلام مسألة الحشر لأممهم كما هو واضح في القرآن الكريم؟

فلأن عصورهم كانت عصور طفولة البشرية وبداوةِ الإنسانية، والإيضاح يكون وجيزًا في الدروس الابتدائية كما هو معلوم.

وصفوة القول: ما دام أكثر الأسماء الحسنى تقتضي الآخرة وتدلُّ عليها، فلا بد أن الحجج والدلائل الدالة على الأسماء الحسنى هي بدورها دلائل على ثبوت الآخرة وقيامها..

وما دام الملائكة يخبرون عما يشاهِدون من منازل الآخرة وعالَم البقاء فلا بد أن الدلائل الشاهدة على وجود الملائكة والعالم الروحاني وعباداتهم هي بدورها دلائلُ إثباتٍ على العالم الآخر.

وما دام أهم ما أعلنه محمد ﷺ خلال حياته المطهرة المباركة، وأساس ما دعا إليه -بعد التوحيد- هو الآخرة، فلا بد أن جميع المعجزات والحجج الدالة على نبوته وصدقه ﷺ هي بدورها شاهدة على حقيقة مجيء الآخرة.

وما دام ربع القرآن الكريم يبحث عن الحشر والآخرة، ويقيم الدلائل عليه بآلاف من آياته ويخبر عنه، فلا بد أن الشواهد والحجج والدلائل والبراهين الدالة كلها على أحقية القرآن هي بدورها شاهدة على تحقق الآخرة ودالة عليها.

وهكذا تأملوا في هذا الركن الإيماني العظيم لتقدّروا مدى قطعية “الإيمان بالآخرة” ومدى ثبوته ورسوخه.

❀   ❀   ❀

[المسألة الثامنة: ثمرات الإيمان بالآخرة]

خلاصة المسألة الثامنة

لقد أردنا في “المسألة السابعة” أن نستوضح مسألة الحشر من مقامات كثيرة، إلّا أن جواب خالقنا بأسمائه الحسنى كان شافيًا ووافيًا جدًّا؛ أورث اليقين الجازم والقناعة التامة، فأغنانا عن أي استفسار آخر. فاقتصرنا هناك على ذلك الإثبات.

أما في هذه المسألة فسنلخّص واحدة من مئات الثمرات والفوائد والنتائج التي يحققها “الإيمان بالآخرة”، منها ما يعود إلى سعادة الإنسان في الآخرة، ومنها ما يعود إلى سعادته في الدنيا.

أما ما يعود إلى السعادة الأخروية فليس بعد إيضاح القرآن الكريم إيضاح آخر، فليُرجعْ إليه، أما ما يعود إلى “السعادة الدنيوية” فتُوَضِّحه رسائلُ النور، وسنبين هنا -بيانًا موجزًا- بضعَ نتائج فقط من بين المئات من النتائج التي يحققها “الإيمان بالآخرة” لإسعاد الإنسان في حياته الشخصية والاجتماعية.

[الثمرة الأولى: تلبية المطلب الفطري بالخلود]

الثمرة الأولى: كما أن الإنسان -خلافًا للحيوان- ذو علاقة مع بيته، فهو أيضًا ذو ارتباط وثيق مع الدنيا؛ ومثلما أنه مرتبط بأقاربه بروابط ووشائج، فهو كذلك ذو نسب فطري بالجنس البشري؛ وكما أنه يحب البقاء في الدنيا الفانية فهو يتوق إلى بقائه في الدار الباقية؛ وكما أنه يسعى دائمًا لتأمين حاجات معدته إلى الغذاء، فهو مضطرٌّ بفطرته -بل يسعى- لتأمين الأغذية لعقله وقلبه وروحه وإنسانيته وتناولِها من الموائد الممتدة على سعة الدنيا، بل الممتدة إلى الأبد، لما له من آمال ومطالب لا يشبعها سوى السعادة الأبدية.

لقد حدّثتُ خيالي في عهد صباي: أيَّ الأمْرين تُفضِّل؟ قضاء عمر سعيد يدوم ألف ألف سنةٍ مع سلطنة الدنيا وأبهتها على أن ينتهي ذلك إلى العدم، أم وجودًا باقيًا مع حياة اعتيادية شاقة؟ فرأيته يرغب في الثانية ويضجر من الأولى، قائلًا: إنني لا أريد العدم بل البقاء ولو كان في جهنم!”.

فما دام جميع لذائذ الدنيا لا تُشبع الخيال الذي هو أحد خُدَّام الماهية الإنسانية، فلا بد أن حقيقة الماهية الإنسانية الجامعة الشاملة جدًّا مرتبطةٌ فطرةً بالخلود والبقاء.

فكم يكون “الإيمان بالآخرة” إذن كنـزًا عظيمًا كافيًا ووافيًا لهذا الإنسان الوثيق الصلة بهذه الرغبات والآمال التي لا تنتهي، وهو لا يملك سوى جزءٍ من الاختيار الجزئي، ويتقلب في الفقر المطلق!

وكم يكون هذا الإيمان محورًا للسعادة المطلوبة واللذة المبتغاة! وكم يكون مرجعًا ومدار استمدادٍ وسلوة له تجاه هموم الدنيا غير المحصورة؟

فلو ضحَّى هذا الإنسان بكل حياته الدنيا في سبيل الفوز بهذه الثمرات والفوائد لكانت إذن زهيدة!

[الثمرة الثانية: الخلاص من الفناء والعدم]

الثمرة الثانية المتوجهة لحياة الإنسان الشخصية:

إن ما يقلق الإنسان دومًا وينغّص حياته، هو تفكيرُه الدائم في مصيره، وكيفيةِ دخوله القبر، مثلما انتهى إليه مصير أحبته وأقاربه، فتوهُّم الإنسان المسكين -الذي يضحي بروحه لأجل صديق عزيز- وتصوُّرُه من أن آلافًا بل ملايين الملايين من إخوانه البشر ينتهون إلى العدم بالموت -ذلك الفراق الأبدي الذي لا لقاء وراءه- سيذيقه هذا التصورُ ألمًا شديدًا ينبئ بآلام جهنم.

وحينما يتلوى هذا الإنسان من ألم ذلك العذاب الأليم النابع من ذلك التفكير، يأتي “الإيمان بالآخرة” فاتحًا بصيرته، مزيلًا الغشاوة عن عينيه، قائلًا له: “انظر..” فينظر بنور الإيمان، فإذا به يكسب لذة روحية عميقة تنبئ بلذة الجنة، بما يشاهد من نجاة أحبته وخلاصهم جميعًا من الموت النهائي والفناء والبلى والاندثار، ومن بقائهم خالدين في عالم النور الأبدي منتظرين قدومه إليهم.

نقتصر على هذا حيث وضحتْ رسائلُ النور هذه النتيجة مع حججها.

[الثمرة الثالثة: القيم الأخلاقية الحقيقية الممتدة]

الثمرة الثالثة التي تعود لعلاقات الإنسان:

إن مقام الإنسان الراقي وتفوّقه على سائر الأحياء وامتيازه عليها إنما هو لسجاياه السامية، ولاستعداداته الفطرية الجامعة، ولعبوديته الكلية، ولسعة دوائر وجوده.

لذا فالإنسان المنحصرُ في الحاضر فقط، المنسلخُ من الماضي، المبتوتُ الصلة بالمستقبل -وهما معدومان ميتان مظلمان بالنسبة له- هذا الإنسان يكسِب سجايا المروءة والمحبة والأخوة والإنسانية على أساس حاضره الضيق، وتتحدد عنده على وَفق مقاييسه وموازينه المحدودة، فيولي المحبة لأبيه أو أخيه أو زوجته أو أمته، ويقوم بخدمتهم على وفق تلك المقاييس الضيقة وكأنه لا يعرفهم سابقًا ولن يراهم مستقبلًا فلا يرقى أبدًا إلى مرتبة الصدق في الوفاء، ولا إلى مكانة الإخلاص في الصداقة، ولا إلى درجة الودّ المصفى من الشوائب في المحبة، ولا إلى الاحترام المبرأ من الغرض في الخدمة؛ لأن سعة تلك السجايا والكمالات قد تضاءلت وصغرت بالنسبة نفسها، وحينها يتردى الإنسان إلى درك أدنى الحيوانات عقلًا.

ولكن ما إن يأتي “الإيمان بالآخرة” إلى هذا الإنسان لينقذه ويمدَّه ويغيثه، حتى يحوِّل ذلك الزمن الضيق -الشبيه بالقبر- إلى زمان فسيحٍ واسعٍ جدًّا بحيث يستوعب الماضي والمستقبل معًا، فيريه وجودًا واسعًا بسعة الدنيا، بل بسعة تمتد من الأزل إلى الأبد.

وعندئذٍ يقوم هذا الإنسان باحترام والده وتوقيره بمقتضى الأبوة الممتدة إلى دار السعادة وعالم الأرواح، ويساعد أخاه ويعاونه -بذلك التفكير- بالأخوة الممتدة إلى الأبد، ويحب زوجته ويرفق بها ويعاونها لأنها أجمل رفيقةِ حياةٍ له حتى في الجنة، ولا يجعل هذه الدائرة الحياتية الواسعة الفسيحة -وما فيها من علاقات وخدمات مهمة- وسيلة لأمور تافهة دنيوية ولا لأغراضها الجزئية ومنافعها الزهيدة.

لذا يظفر بالصداقة التامة، والوفاء الخالص، والإخلاص الأتم، في علاقاته وخدماته، فتبدأ كمالاته وخصاله بالسمو والرقي بالنسبة نفسها، وتتعالى إنسانيته، ولكلٍّ حسْب درجته.

فذلك الإنسان الذي ما كان له أن يرقى إلى مستوى عصفور في تذوّقه الحياة، أصبح الآن -بفضل الإيمان بالآخرة- ضيفًا مرموقًا في الدنيا، وكائنًا سعيدًا، ومخلوقًا ممتازًا فيها، يرقى فوق جميع الحيوانات، بل يصبح أحب مخلوق، وأكرمَ عبد عند رب الكون ومالكه.

اكتفينا بهذا القدر في بيان هذه النتيجة حيث بيّنتها رسائلُ النور بحجج وبراهين.

[الفائدة الرابعة: تهذيبٌ لشرائح المجتمع]

الفائدة الرابعة التي تتطلع إلى الحياة الاجتماعية:

وهي التي وضّحها “الشعاع التاسع”، وخلاصتها هي:

[شريحة الأطفال]

إنَّ “الأطفال” الذين يمثلون ربع البشرية، لا يمكنهم أن يعيشوا عيشة إنسانٍ سويٍّ ينطوي على نوازع إنسانية إلّا بالإيمان بالآخرة، إذ لولا هذا الإيمان لاضطروا أن يقضوا حياة ملؤها الوقاحة والاضطراب والهموم الأليمة، فلا يهنؤون بألعابهم ولا يتسلُّون بلُعَبهم، لأن الموت الذي يصيب مَن حولهم من الأطفال يؤثر بالغ التأثير في نفس كل طفل، وفي شعوره المرهف الرقيق، وفي قلبه الذي ينطوي على آمال مستقبلية ورغبات كثيرة، وفي روحه التي لا تستطيع الثبات فتصابُ بالقلق والحيرة، حتى تصبح حياته وعقله وسيلتَي عذابٍ له، فلا يُجدي ما يتستر به من لهو ولعب نفعًا قبل أن يجد لتساؤله وحيرته جوابًا.

إلّا أن إرشادَ “الإيمان بالآخرة” يجعله يحاور نفسه على النحو الآتي:

“إن صديقي -أو أخي- الذي توفي قد أصبح الآن طيرًا من طيور الجنة، فهو أكثر منا أُنسًا وانطلاقًا وتجوالًا.. وإن والدتي -وإن توفيت- إلّا أنها مضت إلى الرحمة الإلهية الواسعة، وستضمني أيضًا إلى صدرها الحنون في الجنة، فأرى تلك الوالدة الشفيقة”.. وبهذا يمكنه أن يعيش هادئًا مطمئنًّا عيشًا يليق بالإنسان.

[شريحة كبار السن]

وكذا “الشيوخ” الذين يمثلون ربع البشرية، فإنهم لا يرون السلوان حيال انطفاء حياتهم قريبًا، ودخولِهم تحت التراب، وقد أَوصَدت الدنيا الجميلةُ الحلوة أبوابَها في وجوههم إلّا بـ”الإيمان بالآخرة”. إذ لولا هذا الإيمان لتجرَّع أولئك الآباءُ المحترمون الرحماء، وتلك الأمهات الفدائيات الشفيقات الويلَ تلو الويل، ولباتوا في حالةٍ نفسيةٍ تعسةٍ جدًّا، وفي قلقٍ قلبيٍّ عنيف، ولأصبحت الدنيا تضيق عليهم كالسجن، ولغدت الحياة نفسها عذابًا مقيمًا لا يطاق.

بينما الإيمان بالآخرة يهتف بهم قائلًا: “لا تغتموا أيها الشيوخ ولا تبالوا كثيرًا، فإن لكم شبابًا خالدًا وهو أمامكم وسيأتي حتمًا.. وإن حياة ساطعة بهيجة، وعمرًا مديدًا أبديًّا في انتظاركم، وستلتقون أنتم وأولادكم وأقاربكم الذين فقدتموهم، وجميعُ حسناتكم محفوظة وستأخذون ثوابها..”.

وهكذا يَمنح “الإيمانُ بالآخرة” سلوانًا وانشراحًا لهم، بحيث لو حمل أحدهم أثقال مائة شيخوخة لتحملها صابرًا في انتظار ما سيعقبها من حياة أخروية سعيدة.

[شريحة الشباب]

وكذا “الشباب” الذين يمثلون ثلث البشرية، قد لا يصغون لصوت عقولهم الجريئة، فرغباتهم وهواهم في ثورة وجيشان، وهم مغلوبون على أمر حواسهم ونوازعهم، فإذا ما فقد هؤلاء الشباب “الإيمان بالآخرة” ولم يتذكروا عذاب جهنم، فإن أموال الناس وأعراضهم وراحة الضعفاء وكرامة الشيوخ تصبح مهددة بالخطر، إذ قد يدمر أحدهم سعادة بيت آمن هنيء لأجل لذة طارئة، ومن ثم يذوق وبال أمره عذابًا لسنين عديدة في مثل هذه السجون فيتحول إلى ما يشبه الحيوان الكاسر، ولكن إذا أمدّه “الإيمان بالآخرة” وأغاثه، فسرعان ما يسترجع صوابه ويسترشد بعقله، ويخاطب نفسه قائلًا:

“على الرغم من أن شرطة الحكومة وعيونها لا يمكنهم رؤيتي لكوني في خفاء عنهم، فإن ملائكة السلطان الأعظم ذي الجلال الذي يملك سجن جهنم ذلك السجن الأكبر الدائم يسجلون علىّ سيئاتي.. فأنا إذن لست طليقًا مفلت الزمام، بل أنا ضيف عابر ذو مهمة.. وسأكون -لا محالة- في يوم ما ضعيفًا وشيخًا مثلهم”.

فتترشح قطراتُ الرحمة والرأفة والشفقة -عندئذٍ- من أعماق قلبه، ويشعر بالاحترام لأولئك الذين كان يريد أن يتعدى على حقوقهم ظلمًا. وحيث إن رسائل النور قد وضّحتْ هذا المعنى، نقتصر على هذا القدر.

[شريحة المرضى والمظلومين وأهل المصائب]

وكذلك “المرضى والمظلومون وأمثالنا من ذوي المصائب والفقراء والمساجين” الذين حوكموا بعقوبات مشددة، كل هؤلاء يمثلون الجزء الأهم من البشرية.. فإن لم يُعِنْهم “الإيمان بالآخرة” وإن لم يتسلوا به فإن “الموت” الذي يجدونه أمامهم دائمًا بما عندهم من مرض، وإن “الإهانة التي يرونها من الظَلَمة -دون أن يتمكنوا من الاقتصاص منهم ولا من إنقاذ شرفهم وكرامتهم من بين مخالبهم- وإن اليأس الأليم النابع مما أصاب أموالهم وأولادهم من الضياع في الكوارث، وإن “الضيق الشديد الناشئ من آلام السجن وعذابه لسنوات عدة نتيجة لذة طارئة لا تستغرق دقائق أو ساعات.. كل ذلك يُصيّر الدنيا -بلا ريب- سجنًا كبيرًا لهؤلاء المنكوبين ويجعل الحياة نفسها عذابًا أليمًا لهم!

ولكن ما إن يُمِدَّهم الإيمانُ بالآخرة بالعزاء والسلوان إلّا وينشرحون فورًا، ويتنفسون الصعداء، لما يزيل عنهم من الضيق واليأس والقلق والاضطراب وسَورة الثأر إزالة كلية أو جزئية كلٌ حسب درجات إيمانه.

حتى يمكنني القول: إنه لولا الإيمان بالآخرة الذي أمدّني وإخواني في مصيبتنا الرهيبة ودخولنا السجن هذا -دون ذنب اقترفناه- لكان تحمّلُ مرارةِ يومٍ واحدٍ من أيام العذاب كالموت نفسه، ولساقتنا هذه المصيبة إلى ترك الحياة ونبذها.

ولكن شكرًا للّٰه -بلا عدٍّ ولا حدٍّ- أن جعلني أتحمل آلام كثير من إخواني الذين هم أحبُّ إليَّ من نفسي، وأتحمل ضياع آلاف من رسائل النور التي هي أعزّ من عيوني، وأتحمل فقدان كثير من مجلداتي الزاهية الثمينة جدًّا.. فأتحمل كل هذا الحزن والأسى بذلك “الإيمان بالآخرة”، رغم أنني ما كنت أتحمل أية إهانة وتحكّم من أحدٍ مهما كان.. فإني أقسم لكم -لتطمئنوا- أن نور الإيمان بالآخرة وقوته قد منحني صبرًا وجلدًا وعزاءً وتسليةً، وصلابةً وشوقًا للفوز بثوابِ جهاد عظيم في هذا الامتحان إلى حدّ بتُّ أَعدُّ نفسي في مدرسة كلها خير وجمال. وحق أن تطلق عليها “المدرسة اليوسفية” كما ذكرته في مستهل هذه الرسالة، فلولا المرض الذي كان ينتابني أحيانًا، ولولا الحدة الحاصلة من الكهولة لكنت أسعى بجدٍ أكثر لأتلقى دروسي في هذه المدرسة مع ما أحمله من اطمئنان وسكينة قلب.

على كل حال فقد خرجنا عن الصدد أرجو العفو عن هذا الاستطراد.

[عالَم الأسرة]

وكذلك فإن “بيت كل إنسان” هو دنياه الصغيرة بل جنته المصغرة، فإن لم يكن “الإيمان بالآخرة” حاكمًا ومهيمنًا في سعادة هذا البيت لوَجد كلُّ فرد من أفراد تلك العائلة اضطرابًا أليمًا، وعذابًا شديدًا في علاقة بعضهم ببعضٍ حسب درجات رأفته ومحبته لهم فتتحول تلك الجنة إلى جحيم لا يطاق، وقد يخدر عقله باللهو والسفه المؤقت فيكون مَثَلهُ في هذا كمثل النعامة إذا رأت الصياد تخفي رأسها في الرمل كيلا يراها الصياد وهي عاجزة عن الفرار والطيران، فهو كذلك يغمر رأسه في الغفلة، لئلا يراه الموت والزوال والفراق، ملغيًا شعوره مؤقتًا ببلاهة، وكأنه وَجد علاجًا لما يُعانيه!

فالوالدة مثلًا -التي تُضحي بنفسها لأجل ولدها- كلما رأت ابنها يتعرض للخطر ارتعشت هلعًا وخوفًا عليه.

والأولاد كذلك عندما لا يستطيعون إنقاذ آبائهم أو إخوانهم من المصائب التي لا تنقطع، يظلون في قلق دائم ويحسون خوفًا مستمرًّا.

فقياسًا على هذا فإن حياة تلك العائلة، التي يُظن أنها حياة سعيدة، تفقد سعادتها في هذه الدنيا المضطربة الزائلة حيث لا تعطي الرابطة بين الأفراد، ولا علاقة القربى فيما بينهم -ضمن حياة قصيرة جدًّا- الصداقة الحقيقية والوفاء الخالص والإخلاص الكامل، والخدمة والمحبة الصافيتَين، بل تتصاغر الأخلاق وتنكمش بنسبة قصر الحياة نفسها، وربما تسقط وتنعدم كليًّا.

ولكن ما إن يحل “الإيمان بالآخرة” في ذلك البيت حتى ينوِّر أرجاءَه مباشرة ويستضيء، لأن علاقة القربى والرأفة والمحبة التي تربطهم لا تقاس عندئذ ضمن زمن قصير جدًّا، بل تقاس على وفق علاقات تمتد إلى خلودهم وبقائهم في دار الآخرة والسعادة الأبدية، فيقوم -عندئذ- كلُّ فرد باحترام خالص تجاه الآخرين، ويوليهم محبة صافية، ويُظهر رأفة صادقة، ويبدي صداقة وفية، صارفًا النظرَ عن التقصيرات. فتتعالى الأخلاق وتسمو، وتبدأ السعادة الإنسانية الحقة بالتألق في ذلك البيت.

وقد بُيِّن هذا المضمون في رسائل النور. اكتفينا هنا بما سلف.

[المجتمع المحلي في المدينة]

وهكذا فإن كل “مدينة” هي بحد ذاتها بيت واسع لسكنتها. فإن لم يكن “الإيمان بالآخرة” مسيطرًا على أفراد هذه العائلة الكبيرة فسيستولى عليهم الحقد والمنافع الشخصية والاحتيال والأنانية والتكلف والرياء والرشوة والخداع، بدلًا من أسس الأخلاق الحميدة التي هي الإخلاص والمروءة والفضيلة والمحبة والتضحية ورضى اللّٰه والثواب الأخروي. وكانت معاني الإرهاب والفوضى والوحشية حاكمة ومسيطرة تحت اسم النظام والأمن والإنسانية التي يظهرونها، وحينئذٍ تتسمم حياة تلك المدينة، فيتصف الأطفال بالوقاحة والإهمال، والشبابُ بالسُكر والعربدة، والأقوياءُ بالظلم والتجاوز، والشيوخُ بالبكاء والأنين.

[المجتمع على مستوى البلد]

وقياسًا على هذا فإن “البلاد” بأكملها ما هي إلّا بيت واسع جدًّا. والوطن بيت عائلة الأمة. فإذا ما حَكم “الإيمانُ بالآخرة” هذه البيوتَ وسيطر، فإن الفضائل تتكشف وتنبسط وتتوضح فيها فتظهر الاحترام المتبادل والرحمة الجادة، والمحبة الخالصة بلا عوض، والمعاونة مع الخدمة الحقة بلا احتيال، والمعاشرة والإحسان بلا رياء، والفضيلة والتوقير بلا استكبار، وتشيع الفضائل الأخرى جميعا؛ حيث يهتف الإيمان بالآخرة بأولئك الأطفال قائلًا لهم: “دعوا الوقاحة والإهمال فقدامَكم جنة النعيم فلا تشغلوا أنفسكم عنها بالألاعيب”. فيمكّن الأخلاق عندهم بإرشاد القرآن الكريم.

ويخاطب الشباب: “إن أمامكم نارَ جهنم فانتهوا من السُكر والعربدة”. ويجعلهم يثوبون إلى رشدهم.. ويخاطب الظالم: “احذر فإن عذابًا شديدًا سيحلّ بك” فيردعه عن الظلم ويجعله يرضخ للعدالة.. ويخاطب الشيوخ: “أبشروا فإن أمامكم شبابًا خالدًا ذا نضارة، وفي انتظاركم سعادة أخروية دائمة باقية، هي أسمى مما فقدتموه من أنواع السعادة وأعلى منها فهلموا واسعوا للفوز بها”. فيحوِّل بكاءهم إلى بهجة وفرح.

وقياسًا على هذا، فإن “الإيمان بالآخرة” يبين تأثيره الطيب ويرسل شعاع نوره إلى كل طائفة، جزئيها وكليها عامها وخاصها قليلها وكثيرها. فلترنّ آذان الاجتماعيين والأخلاقيين من المعنيين بشؤون الإنسان!

وإذا قيس على ما ذكرناه آنفًا من فوائد الإيمان بالآخرة ما بقى من الفوائد فسيُفهم بوضوح وبشكل قاطع أن محور السعادة في الدارين وفي كلتا الحياتين إنما هو الإيمان وحده.

[رد شبهة نفي الجسمانية في البعث والنعيم والجحيم]

ولقد جاءت في “الكلمة الثامنة والعشرين” وفي رسائل النور الأخرى أجوبة قوية جدًّا ردًّا على شبهات تافهة حول: “الحشر الجسماني” (البعث الجسدي) نكتفي بها، إلا أننا نشير إليها هنا إشارة مختصرة وقصيرة جدًّا، فنقول:

[الدليل الشهودي على تحقق الجسمانية]

إن أكثر الأسماء الإلهية الحسنى تتجلّى في الجسمانية فهي أجمعُ مرآة لها..

وإن أقصى المقاصد الإلهية من خلق الكائنات تظهر في الجسمانية، فهي أغنى مركز لتلك المقاصد وأكثرها فعالية..

وإن أكثر أنواع الإحسانات الربانية المختلفة وآلاءها العميمة تتبين في الجسمانية..

وإن أغلب بذور الأدعية التي يرفعها الإنسان بلسان حاجاته، وأكثر أصول الشكر والحمد المقدّم منه إلى خالقه الرحيم نابعة من الجسمانية..

وإن أزْيَدَ النوى تنوعًا لعوالم المعنويات والروحانيات هي كذلك تكمن في الجسمانية.

فقياسًا على هذا: إن الجسمانية تتمركز فيها مئات من الحقائق الكلية، لذا فإن الخالق الكريم يُكثِّر من الجسمانية ويزيدها على سطح الأرض كي تتجلّى فيها تلك الحقائق المذكورة، فيَهَبُ للموجودات وجودًا بسرعة متناهية وبفعالية مدهشة، قافلة إثر قافلة مرسِلًا إياها إلى معرض العالم هذا، ثم يُنهي خدماتها ويبعث عقبها موجوداتٍ أخرى باستمرار.

وهكذا يجعل ماكنة الكائنات في عمل دائب وشغل دائم، ناسجًا محاصيل جسمانيةً على الأرض، جاعلًا الأرض مزرعة الآخرة ومشتلَ الجنة، حتى إنه سبحانه لأجل أن يُطمئن معدة الإنسان (الجسمانية) ويجعلَها في امتنان ورضى يَسمع دعاءها الذي ترفعه بلسان الحال، لأجل بقائها، ويستجيب له فعلًا، بما يَخلق ما لا يُحصر ولا يحصى من المطعومات اللذيذة المتقنة الصنع، وبإيجاده النعمَ النفيسة بمئات الآلاف من الأنماط والأنواع، مما يظهر بداهة وبلا ريب أن أغلب أنواع اللذائذ المادية المحسوسة في الجنة إنما هي جسمانية. وإن أهم نِعَم السعادة الأبدية التي يطلبها الجميع ويأنس بها إنما هي في الجسمانية أيضًا.

[الدليل العقلي على تحقق الجسمانية]

فيا تُرى هل يمكن وهل يُعقل وهل هناك احتمال قط أن يقبل القدير الرحيم والعليم الكريم دومًا دعاء لسان حال المعدة البسيطة لاستبقائها، ويستجيبَ لها قصدًا وفعلًا -دونما تدخّل للمصادفة- بما يخلق لها من أغذية مادية محسوسة في منتهى الإتقان والإعجاز، فيُرضيَ بها تلك المعدة، ثم لا يَقبلَ سبحانه أدعيةً عامة ودعواتٍ غيرَ نهائية ترفعها المعدةُ الإنسانية الكبرى وفطرتُها الأصيلة، ولا يغدقَ عليها لذائذ جسمانية في الآخرة، تلك التي تأنس بها وترجوها فطرةً بل تريدها في دار الخلود؟

وهل يمكن أن لا يلبي تلك الأدعية فعلًا ولا ينجز الحشر الجسماني؟! ولا يُرضيَ هذا الإنسان -الذي هو نتيجة الكائنات وخليفة الأرض والعبد المعزز المكرم- رضاءً أبديًا؟

كلا.. ثم كلا!.. فهذا محالٌ في مائةِ محال، بل باطلٌ كليًّا، إذ كيف يَسمع طنين الذباب ولا يسمع رعود السماء، وكيف يراعي عُدّة الجندي البسيط ولا يبالي بالجيش العظيم! فتعالى اللّٰه عن ذلك علوًّا كبيرًا.

[الدليل النقلي على تحقق الجسمانية]

نعم، إن الصراحة القاطعة للآية الكريمة: ﴿وفيها ما تَشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين﴾، تبين أن أكثر ما يأنس الإنسان به من اللذائذ المادية المحسوسة -والذي يتذوق نماذجها في الدنيا- سيراها ويتذوقها بصورتها اللائقة بالجنة؛ وأن ثواب ما يؤديه اللسان والعين والأذن وسائر الأعضاء والجوارح من الشكر الخالص والعبادات الخاصة سيُمنح لها بتلك اللذائذ الجسمانية المخصوصة بها، فبيان القرآن الكريم للذائذ الجسمانية صريح في غاية الصراحة، بحيث لا يمكن أن يتحمل أي تأويل يصرفه عن المعنى الظاهري، بل يمتنع عدم قبول المعنى الظاهري.

وهكذا تُظهر ثمراتُ الإيمان بالآخرة ونتائجُه أنه مثلما تدل حقيقة معدة الإنسان وحاجاتها دلالة قاطعة على وجود الأطعمة، فإن حقيقة الإنسان وكمالاته وحاجاته الفطرية وآماله الأبدية وحقائقه واستعداداته تتطلب النتائج والفوائد المذكورة للإيمان بالآخرة، وتدل قطعًا على الآخرة وعلى الجنة وعلى لذائذَ مادية محسوسة باقية، وتشهد على تحققها.

وإن حقيقة كمالات هذا الكون أيضًا وآياته التكوينية الحكيمة وجميع حقائقه المرتبطة بالحقائق الإنسانية تدل دلالة قاطعة أيضًا على وجود الآخرة وعلى تحققها، وتَشهد شهادة صادقة على مجيء الحشر وانفتاح أبواب الجنة والنار.

ولما كانت رسائل النور قد أثبتت هذه المسألة بصورة رائعة وبحجج قوية جدًّا دون أن تترك غبارًا للشبهة، ولا سيما “الكلمة العاشرة” و”الثامنة والعشرون” -بمقاميها- و”التاسعة والعشرون”، و”الشعاع التاسع”، و”رسالة المناجاة”، فإننا سنكتفي بها.

[رد شبهات بخصوص جهنم]

إن بيان القرآن الكريم فيما يخص جهنم واضح جلي لم يدع مجالًا لأي إيضاح آخر، إلّا أننا سنبين باختصار شديد ما يزيل بضع شبهات تافهة في نكتتين، محيلين تفاصيلها إلى رسائل النور:

[النكتة الأولى: الخوف من جهنم لا ينافي لذة الإيمان]

النكتة الأولى: إن التفكير في جهنم والخوف منها لا يزيل لذائذ ثمرات الإيمان المذكورة ولا يفوّتها، لأن الرحمة الربانية الواسعة تهتف بذلك الخائف: “تعالَ إليّ فدونك بابُ التوبة، ادخل منه”. فإن وجود جهنم ليس للتخويف، بل ليعرّفك لذائذ الجنة معرفة كاملة، وليذيقك إياها تذوقًا كاملًا، وليأخذ لك ولمخلوقاتٍ غير محدودة الثأرَ والانتقام ممن انتهك حقوق الجميع واعتدى عليها، وليفرحهم جميعا بهذا ويدخل السرور إليهم.

[وجود جهنم خيرٌ من العدم المحض]

فيا غارقًا في الضلالة -وليس بمستطيع أن يخرج منها- إن وجود جهنم لهو أفضل لك من العدم الأبدي، إذ في وجودها نوع من الرحمة حتى للكفار أنفسهم، لأنَّ الإنسان -والحيوانات الولودة- يستمتع بتمتع أقاربه وأولاده وأحبابه ويسعد -من جهةٍ- بسعادتهم.

فيا أيها الملحد! إما أنك ستسقط في هاوية العدم -باعتبار ضلالتك- أو ستدخل نار جهنم. ولما كان العدم شرًّا محضًا، فإن الإعدام النهائي لأحبابك جميعًا وممن تسعد بسعادتهم من أقاربك وآبائك ونسلك، سيحرق روحك ويعذب قلبك ويؤلم ماهيتك الإنسانية أكثر من عذاب جهنم بألف مرّة؛ لأنه لو لم تكن جهنمُ لما كانت هناك جنة أيضًا. فيسقط كل شيء إذن بكفرك إلى العدم.

ولكن إذا دخلتَ جهنم وبقيتَ ضمن دائرة الوجود، فإن أحبابك وأقاربك إما أنهم سيسعدون في الجنة أو أنهم يكونون ضمن دوائر وجود تحت رحمة اللّٰه سبحانه. فلا مناص لك إلّا أن تقبل بوجود جهنم، إذ العداء لوجودها -ورفضه- يعني الانحياز إلى العدم المحض، الذي هو إبادة سعادة جميع الأحبة والأصدقاء وإفناؤهم!

[وجود جهنم ضروري]

نعم، إن جهنم دارُ وجود تؤدي مهمة السجن بحكمة الحكيم الجليل وعدالته، وهي موضع مرعب ومهيب ضمن دائرة الوجود الذي هو الخير المحض، زِد على ذلك، لها وظائف أخرى وخدمات جليلة وحِكمٌ شتى تخص عالم البقاء. فهي مسكنٌ ذو جلال وهيبة لكثير من ذوي الحياة أمثال الزبانية.

[النكتة الثانية: جهنم لا تنافي الرحمة ولا الحكمة]

النكتة الثانية: إن وجود جهنم وعذابها الشديد لا ينافي -قطعًا- الرحمةَ غير المحدودة، ولا العدالة الحقيقية، ولا الحكمة الموزونة التي لا إسراف فيها.

بل إن الرحمة والعدالة والحكمة تتطلب وجود جهنم وتقتضيه، لأن قتل حيوان افترس مائة من الحيوانات أو إنزالَ عقاب بظالم هتكَ حُرماتِ ألفٍ من الأبرياء، هو رحمة بآلاف الأضعاف للمظلومين من خلال العدالة. وإن إعفاء ذلك الظالم من العقاب أو التجاوزَ عنه، وتَرْكَ ذلك الحيوان الوحشي طليقًا، فيه ظلم شنيع وعدم رحمةٍ لمئات المساكين بمئات الأضعاف، إزاء رحمة في غير موضعها.

[الكفر جريمةٌ عظيمة]

ومثل هذا أيضًا الكافر المطلق -الذي يدخل سجن جهنم- فإنه بكفره ينكر حقوق الأسماء الإلهية الحسنى، أي يتعدى على تلك الحقوق.. وبتكذيبه لشهادة الموجودات -الشاهدة على تلك الأسماء- يتعدى على حقوقها أيضًا.. وبإنكاره للوظائف السامية للمخلوقات -وهي تسبيحاتها تجاه الأسماء- يتجاوز على حقوقها.. وبجحوده لأنواع العبادات التي تؤديها المخلوقات تجاه تَظاهُر الربوبية والألوهية -وهي غاية خلقتها وسبب من أسباب وجودها وبقائها- يتعدى تعديًا صارخًا على حقوق جميع المخلوقات؛ لذا فالكفر جناية عظيمة وظلم شنيع تتجاوز بشاعته كل حدود العفو والمغفرة، فيحق عليه إذن تهديد الآية الكريمة: ﴿إن اللّٰه لا يَغفِرُ أن يُشرَكَ به..﴾.

بل إن عدم إلقاء مثل هذا الشخص في جهنم رحمةً به هو أمر ينافي الرحمة منافاة كلية في حق هذه الأعداد الهائلة من المخلوقات والكائنات التي اُنتُهِكت حقوقها.

[وجود جهنم من لوازم العزة والعَظَمة]

وهكذا مثلما يطالب أصحاب الدعاوى بوجود جهنم، فإن عزة جلال اللّٰه وعظمة كماله سبحانه تطلبانها قطعًا.

نعم، إذا قال سفيه أو شقي عاص لحاكمٍ عزيز للبلاد: “إنك لا تستطيع أن تقذفني في السجن ولن تقدر على ذلك أبدًا”، متجاوزًا حدَّه ومتعديًا على عزة ذلك الحاكم وعظمته، فلا بد أن ذلك الحاكم سينشئ سجنًا لذلك السفيه المتعدي حتى لو لم يكن هناك سجن في البلاد.

كذلك الأمر في الكافر المطلق، فإنه بكفره يتعدى بشدة على عزة جلاله سبحانه، وبإنكاره يتحدى عظمة قدرته، وبتجاوزه يمس كمال ربوبيته، فإن لم يكن هناك حتى تلك الأسبابُ الموجبة وتلك المبرراتُ الكثيرة والحِكَم العديدة والوظائف الكثيرة لجهنم ولوجودها؛ فإن خلق جهنم لمثل هؤلاء الكفار وإلقاءهم فيها هو من شأن تلك العزة وذلك الجلال.

[الكفر جحيمٌ مصغَّر، وهو نواة جهنم]

ثم إن ماهية الكفر نفسها توحي بجهنم..

إذ كما أن ماهية الإيمان إذا تجسمت يمكن أن تبني بلذائذها ونعيم جمالها جنةً خاصة في وجدان الإنسان وقلبه، هي جنة مصغرة تومئ وتخبر عن جنة الخلد التي تنتظره في الآخرة..

كذلك الكفر -ولا سيما الكفر المطلق- والنفاق والردة فيه من الآلام والأعذبة والظلمات المرعبة بحيث لو تجسمت وتأصلت في نفس صاحبها كونت له جهنمه الخاصة به تلك التي تشير إلى ما سيفضي إليه في آخرته من جهنم هي أشد هولًا وأشد عذابًا.

ولقد أثبتنا هذا بدلائل قاطعة في رسائل النور، وأُشيرَ إليه في مستهل المسائل السابقة أيضًا.

ولما كانت هذه الدنيا مزرعة الآخرة، فالحقائق الصغيرة التي فيها تثمر وتتسنبل في الآخرة، فهذه البذرة السامة (الكفر) تشير من هذه الزاوية إلى شجرة الزقوم تلك، وتقول: “أنا أصل تلك الشجرة وجوهرها.. فمن يحملني في قلبه من المنكوبين سأثمر له نموذجًا خاصًّا من تلك الشجرة الملعونة”.

وما دام الكفر تعديًا على حقوقٍ غير محدودة، وتجاوزًا فاضحًا، فهو إذن جناية غير محدودة، لذا يجعل صاحبه مستحقًّا لعذاب غير محدود. فلئن كان القتل الذي يحدث في دقيقة واحدة يذيق القاتل خمس عشرة سنة من العذاب (ما يقارب ثمانية ملايين دقيقة) ويعتبر ذلك موافقًا للعدالة البشرية، وعدّته موافقًا للمصلحة العامة وحقوقها، فلا جرم أن دقيقة واحدة من الكفر المطلق -على اعتبار الكفر ألفَ قتلٍ- تُقَابَل إذن بعذاب يقرب من ثمانية مليارات من الدقائق، على وفق تلك العدالة الإنسانية فالذي يقضي سنة كاملة من عمره في الكفر إذن يستحق عذاب ترليونين وثمانمائة وثمانين مليارًا من الدقائق، أي يكون أهلًا لـ: ﴿خالدين فيها أبدًا﴾.

هذا وإن الأسلوب المعجز للقرآن الكريم في بيانه الجنة والنار وما في “رسائل النور” -التي هي فيض منه وتفسيره- من حججٍ حول وجودهما، لم يتركا مجالًا لأي إيضاح آخر. فآيات كثيرة جدًّا أمثالُ:

﴿ويتفكّرونَ في خلقِ السّموات والأرض رَبَّنا ما خَلقتَ هذا باطلًا سُبحانكَ فقِنا عَذابَ النار﴾، ﴿والذين يقولون رَبَّنا اصرف عَنا عَذابَ جَهَنَّمَ ان عَذابَها كانَ غَرامًا ٭ انَّها سَاءت مُستَقرًا ومُقاما﴾.

وأغلبُ ما كان يردده الرسول الأكرم ﷺ في أدعيته في كل وقت، والأنبياءُ عليهم السلام وأهل الحقيقة من:‌ “أجرنا من النار”.. “نجنا من النار”.. “خلصنا من النار”.. الذي حاز عندهم قطعيةً تامة بناءً على الوحي والشهود.. كل ذلك يبين لنا أن أعظم قضية للبشرية على الأرض إنما هي النجاة من النار، وأن أعظم حقيقة وأدهشها من حقائق الكائنات، بل أكثرها أهمية إنما هي “جهنم” التي يشاهدها قسم من أولئك المحققين وأهل الشهود والكشف، ويرى آخرون ألسنة لهيبها وظلمة سوادها، ويسمع بعضُهم أزيز تضرمها وفورانها فيصرخون من هولها: “أجرنا من النار”.

[المتقابلات متداخلةٌ في الدنيا متمايزةٌ في الآخرة]

نعم، إن تَقابُل الخير والشر في هذا الكون، واللذة والألم، والنور والظلام، والحرارة والبرودة، والجمال والقبح، والهداية والضلالة، وتَداخُل بعضها ببعض، إنما هي لِحكمة كبرى، لأنه ما لم يكن هناك الشر فلا يفهم الخير، وما لم يكن هناك الألم فلا تُعرف اللذة، والضياء من دون ظلام إزاءه لا يَبِين جمالُه، ودرجات الحرارة تتحقق بوجود البرودة، وتصبح حقيقة واحدة من الجمال ألفًا من الحقائق بوجود القبح، بل يكتسب آلافًا من أنواع الجمال ومراتب الحسن. ويختفي الكثير من لذائذ الجنة بعدم وجود جهنم.

فقياسًا على هذا يمكن أن يُعرَف كلُّ شيء من جهةٍ بضده، وبوجود الضد يمكن أن تثمر حقيقةٌ واحدة حقائقَ عدة.

فما دامت هذه الموجودات المختلطة تسيل سيلًا من دار الفناء إلى دار البقاء، فلا بد أن الخير واللذة والنور والجمال والإيمان وأمثالها تسيل إلى الجنة، ويتساقط الشر والألم والظلام والقبح والكفر وأمثالها من الأمور المضرة إلى جهنم. فتسيل سيولُ هذه الكائنات المتلاطمة دائمًا إلى ذينك الحوضين وتهدأ ساكنة عندهما نهاية المطاف.

نكتفي بهذا القدر ونحيل إلى ما جاء في نهاية “الكلمة التاسعة والعشرين” من نكات رمزية.

[سبيل النجاة من السجن الأبدي]

يا زملاء الدراسة في هذه المدرسة اليوسفية! إن السبيل اليسيرة للنجاة من السجن الأبدي المرعب (جهنم) إنما هي في اغتنامنا فرصة بقائنا في السجن الدنيوي، هذا الذي قصّر أيديَنا عن كثير من الآثام فأنقذَنا منها.

فما علينا إذن إلّا الاستغفار والتوبة عما اقترفناه من ذنوب سابقة، مع أداء للفرائض، كي نحوِّل كل ساعة من ساعات هذا السجن بحكم يوم من العبادة، فهي إذن أفضل فرصة لنا للنجاة من السجن الأبدي ولدخولنا الجنة النورانية، فلئن فاتتنا هذه الفرصة فسنُغرق آخرتنا بالعَبَرات كما هي حال دنيانا، ويحق علينا قوله تعالى: ﴿خَسرَ الدنيا والآخرة﴾.

[مشهد تفكُّرٍ إيماني في أجواء تكبيرات العيد]

كانت أصوات تكبيرة عيد الأضحى المبارك تتعالى حينما كان هذا البحث يُكتب، فذهب بي الخيال إلى أن خُمس البشرية يرددون: “اللّٰه أكبر“، وأن أكثر من ثلاثمائة مليون مسلم يرددونه معًا، فكأن صوت “اللّٰه أكبر” يتعالى بكبر كرة الأرض وبسعتها فتُسمع الأرضُ أخواتِها الكواكبَ السيارة هذه الكلمةَ المقدسة في أرجاء السماوات. وهناك أكثر من عشرين ألفًا من الحجاج في عرفة والعيد يرددون معًا صدى ما قاله الرسول الأكرم ﷺ قبل ألف وثلاثمائة سنة مع الآل والأصحاب الكرام وأمر به. فأحسست إحساسًا كاملًا، بل اقتنعت قناعة تامة أن تلك الأصداء والأصوات والترديدات إنما هي عبودية واسعة كلية تقابِل تجليَ الربوبية الإلهية الكلية بعظمة “رب الأرض” “رب العالمين”.

[العلاقة بين “الله أكبر” والإيمان بالآخرة]

ثم سألت نفسي: تُرى ما وجه العلاقة بين الآخرة وهذه الكلمة المقدسة “اللّٰه أكبر”؟

فتذكرتُ فورًا أن هذه الكلمة مع الكلمات الطيبات الباقيات الصالحات: “سبحان اللّٰه، والحمد للّٰه، ولا إله إلّا اللّٰه” وأمثالَها من كلمات شعائر الإسلام تُذكِّر -بلا شك- بالآخرة سواءً بصورة جزئية أو كلية وتشير إلى تحققها.

إن أحد أوجه معاني “اللّٰه أكبر” هو: أن قدرة اللّٰه وعلمه هي فوق كل شيء وأكبر وأعظم من كل شيء، فلن يخرج أي شيء كان من دائرة علمه، ولن يهرب من تصرفه وقدرته، ولن يفلت منها قطعًا.

فهو سبحانه أكبر من كل كبير نخافه ونستعظمه، أي أكبر من إيجاد الحشر -الذي نستهوله- وأكبر من إنقاذنا من العدم، وأكبر من منحنا السعادة الأبدية، فهو أكبر من أي شيء نعجب به ومن أي شيء خارج نطاق عقلنا، إذ يقول سبحانه: ﴿ما خَلقُكم ولا بعثُكم إلّا كَنَفسٍ واحدة﴾.

فصراحةُ هذه الآية الكريمة تبين أن حشر البشرية ونشرَهم جميعًا سهل وهيّن على القدرة الإلهية كإيجادِ نفس واحدة، فلا عجب أن يجري مجرى الأمثال قولُ الإنسان: “اللّٰه أكبر، اللّٰه أكبر” كلما رأى شيئًا عظيمًا أو مصيبة كبرى أو غاية عظمى، مسلِّيًا بها نفسه جاعلًا من هذه الكلمة العظيمة قوة عظيمة يستند إليها.

[كلمات الباقيات الصالحات هي أصول جميع العبادات]

نعم، إن هذه الكلمة مع قرينتها: “سبحان اللّٰه والحمد للّٰه” فهرسُ جميع العبادات وبذور الصلاة وخلاصتها (كما جاءت في “الكلمة التاسعة”).

فتكرار هذه الكلمات -وهي حقائق عظمى ثلاث في الصلاة وفي أذكارها- إنما هو لتقوية معنى الصلاة وتعميقه وترسيخه.

وهي إجابة قاطعة للأسئلة التي تنشأ من التعجب واللذة والهيبة التي تأخذ بأقطار نفس الإنسان حينما يشاهد الكونَ ويرى ما يثيره ويحيره وما يسوقه إلى الشكران وما هو مدار العظمة والكبرياء من أمور عجيبة وجميلة وعظيمة ووفيرة وما هو فوق ما اعتاده.

نعم، إن الجندي يدخل إلى حضرة السلطان وديوانِه في العيد بمثل دخول القائد العام إليه، بينما في سائر الأيام يَعرف سلطانَه من رتبة الضابط ومن مقامه -كما جاء في ختام “الكلمة السادسة عشرة”- فكل شخص في الحج كذلك يبدأ بمعرفة مولاه الحق سبحانه وتعالى باسم “رب الأرض ورب العالمين” معرفةً أشبه ما يكون بمعرفة الأولياء الصالحين، فكلما تفتحت مراتب الكبرياء والعظمة الإلهية في حنايا قلبه، أجاب بـ”اللّٰه أكبر”، لِما تستولي على روحه من أسئلة مكررة ملحة محيرة؛ فـ”اللّٰه أكبر” هو الجواب القاطع لدابر أهم دسائس الشيطان، كما جاء في “اللمعة الثالثة عشرة”.

[“الحمد لله” تجيب عن سؤال الآخرة]

نعم، فكما أن هذه الكلمة: “اللّٰه أكبر” تجيب عن سؤالنا حول الآخرة إجابةً قصيرة وقوية في ذات الوقت، فإن جملة “الحمد للّٰه” هي الأخرى تذكّر بالحشر وتستدعيه. إذ تقول لنا:

“لا يتم معناي دون الآخرة” لأن معناي يفيد: “كل حمد أو شكر يصدر من أي حامد ويقع على أي محمود كان، ابتداءً من الأزل إلى الأبد، هو خاص به سبحانه”، ولأن السعادة الأبدية هي أصل جميع النعم وذروتها، وهي التي تحيل النعم نعمًا حقيقية لا تزول ولا تحول، وهي التي تنقذ جميع ذوي الشعور من مصائب العدم وتخلصهم منها، لذا فهي وحدها يمكن أن تقابل معناي الكلي.

[معنى الحمد عقب الصلوات]

نعم، إن ترديد كل مؤمن يوميًّا عقب الصلاة بما يأمر به الشرع بأكثر من مائة وخمسين مرة “الحمد للّٰه” في الأقل، والتي تفيد حمدًا وثناءً وشكرًا واسعًا جدًّا ممتدًّا من الأزل إلى الأبد، إنما هو ثمن يدفعه مقدمًا لنيل السعادة الأبدية في الجنة، إذ لا يمكن أن يحصر معنى الحمد على نِعم الدنيا القصيرة الفانية المنغصة بالآلام ولا يمكن أن يكون مقتصرًا عليها.

بل حتى لو تأملتَ في تلك النعم نفسها تراها ما هي إلّا وسائل لنعم أبدية خالدة تستحق الشكر عليها.

[“سبحان الله” تجيب عن سؤال الآخرة]

أما كلمة “سبحان اللّٰه” فإنها تعني: تنـزيه اللّٰه سبحانه وتقديسه من كل شريك وتقصير ونقص وظلم وعجز وقسوة وحاجة وحيلة، وكلِ ما يخالف كماله وجماله وجلاله.

وهذا المعنى يذكّر بالسعادة الأبدية ويدل على الآخرة التي هي محور عظمته سبحانه وجلاله وكماله، ويشير أيضًا إلى ما في تلك الدار من جنة نعيم ويدل عليها. وإلّا فلو لم تكن هناك سعادة أبدية فإن أصابع الاتهام تتوجه إلى عظمته سبحانه وكماله وجلاله وجماله ورحمته، فتشوبها بالتقصير والنقصان، تعالى اللّٰه عن ذلك علوًّا كبيرًا. أي إن الآخرة لا ريب فيها، إذ هي مقتضى سلطان اللّٰه وكماله وجلاله وجماله ورحمته سبحانه.

[جميع الكلمات القدسية بذورٌ وخلاصاتٌ إيمانية]

وهكذا فإن هذه الكلمات المقدسة الثلاث مع “بسم اللّٰه” و”لا إله إلّا اللّٰه” وسائر الكلمات المباركة، كل منها بذرة من بذور الأركان الإيمانية، وكل منها خلاصة لحقائق الأركان الإيمانية والحقائق القرآنية.

وكما أن هذه الكلمات الثلاث هي نوى الصلاة وبذورها، فهي نوى القرآن الكريم أيضًا، كما تشاهَد في بدء بعض السور الباهرة حيث تستفتح وكأنها جوهرة لامعة في مستهلها.

وهي كنوزٌ حقيقية وأسسٌ متينة لأجزاء من رسائل النور التي تستهل أكثر سانحاتها في أذكار الصلاة.

وهي أيضًا أوراد الطريقة المحمدية تُذكر عقب الصلاة ضمن دائرة واسعة جدًّا للولاية الأحمدية والعبودية المحمدية، بحيث إن هناك عند كل صلاة أكثر من مائة مليون مؤمن في تلك الحلقة الكبرى للذكر يرددون معًا ثلاثًا وثلاثين مرة “سبحان اللّٰه” وثلاثًا وثلاثين مرة “الحمد للّٰه” وثلاثًا وثلاثين مرة “اللّٰه أكبر”.

فلا بد أنك تدرك مدى أهمية قراءة تلك الكلمات المباركات الثلاث التي هي بذور القرآن والإيمان والصلاة وخلاصتها، ومدى ثواب ترديدها بثلاثٍ وثلاثين مرة عقب الصلاة ضمن تلك الحلقة الواسعة.

وهكذا فكما أن “المسألة الأولى” من هذه الرسالة كانت درسًا قيّمًا في الصلاة، فإن آخر الرسالة هذه أصبح -دون اختياري- درسًا مهمًّا حول أذكار الصلاة! والحمد للّٰه على نعمائه.

﴿سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلّا مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أنْتَ العَليمُ الحَكيمُ﴾

❀   ❀   ❀

 

[المسألة التاسعة: أركانُ الإيمان كلٌّ لا يتجزأ]

المسألة التاسعة

﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾

﴿آمَنَ الرَسولُ بمَا اُنزِلَ إليه من رَبّه والمؤمنون كلٌ آمنَ باللّٰه ومَلائكتِهِ وكُتُبِه ورُسُلهِ

لانُفَرّقُ بَينَ أحدٍ من رُسُلهِ..﴾

إن السبب الذي أدى إلى إيضاح هذه الآية الجامعة السامية العظيمة ودعا إلى بيانها، هو حالة خاصة معينة نتجت عن سؤال معنوي مثير، وعن انكشافِ نعمة إلهية عظيمة، كالآتي:

فقد ورد إلى الروح هذا السؤال: لِمَ يُعتبر كافرًا من يُنكرُ جزءًا من حقيقة إيمانية؟ و[لماذا] لا يُعدُّ مسلمًا مَن لم يَقبلها، مع أن نور الإيمان باللّٰه واليوم الآخر كالشمس ينبغي أن يبدد كل ظلام؟

ثم، لِمَ يصبح مرتدًّا مَن ينكر حقيقةً أو ركنًا إيمانيًّا ويرديه إلى الكفر المطلق، ومَن لم يقبلها يخرج من دائرة الإسلام، بينما ينبغي أن ينقذه إيمانه بالأركان الأخرى -إنْ وجِدَ- من ذلك الكفر المطلق؟

الجواب: إن الإيمان حقيقةٌ واحدةٌ نابعةٌ من ستةِ أركانٍ متحدةٍ وموحَّدةٍ لا تقبل التفريق، وهو كُليٌّ لا يتحمل التجزئة، وهو كلٌّ لا تقبل أركانُه الانقسام.. ذلك لأن كل ركن من تلك الأركان الإيمانية -مع حججها التي تثبته- يُثبت بقيةَ الأركان، فيصبح كل ركن حجة قاطعة عظمى لكل من الأركان الأخرى.

لذا فالذي لا يتمكن من جَرحِ جميع الأركان مع جميع أدلتها يَعجز كليًّا -من وجهة الحقيقة- عن نفي ركنٍ واحدٍ منها؛ وتفنيدِ حقيقةٍ واحدةٍ من حقائقها، إلا أن يغمض المنكر عينيه ويتشبث بعدم القبول أو الرفض، فيدخل عندئذٍ الكفرَ العنادي، ويسوقه ذلك بمرور الزمن إلى الكفر المطلق، فتنعدم إنسانيتُه ويولي إلى جحيمٍ ماديٍّ فضلًا عمّا هو فيه من جحيم معنوي.

وكما قد بينا باقتضاب في مسائل “الثمرة” دلالةَ الأركان الإيمانية على الحشر، كذلك سنبين هنا بإشاراتٍ مختصرةٍ جدًّا ومجملةٍ المغزى العميقَ العظيم لهذه الآية، معتمِدين على عنايته سبحانه؛ وذلك في ست نقاط:

[النقطة الأولى: الإيمان بالله يُثبِت باقي أركان الإيمان]

النقطة الأولى إن “الإيمان باللّٰه” بحججه القاطعة يثبت “الإيمان بالآخرة” مع إثباته سائر الأركان الإيمانية الأخرى. كما وُضّح في “المسألة السابعة”.

[الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالآخرة]

نعم، إن سلطنة الربوبية وقدرتها الأزلية وقوتها الباقية وغناها المطلق وحاكمية الألوهية الأبدية الدائمة.. التي تدير هذا الكون غير المحدود -مع جميع لوازمه وضرورياته- كإدارة قصر أو مدينة.. والتي تُصرِّف جميعَ شؤونه ضمن نظام وميزان، وتغيّره على وفق حِكَم كثيرة.. والتي تدير الذرات والكواكب، وتجهز الذباب والنجوم معًا كالجنود المطيعين للجيش المنسق.. والتي تَسوق الجميع -ضمن إرادتها وأمرها- إلى استعراضٍ هائل عام للعبودية الخالصة، من خلال مناورة سامية وابتلاء واختبار وتدريب على الوظائف وتعليم لها، بفعالية ونشاط دائم وسير وجولان مستمر.. هل يمكن، أم هل يُعقَل، لا بل هل هناك أي احتمال قط في أن لا يكون هناك مقر باقٍ، ومملكة دائمة، وظهورٌ خالدٌ وتجلٍّ سرمدي في دارٍ أبدية لمثل هذه السلطنة الأبدية ولمثل هذه الحاكمية الباقية الدائمة؟!

حاشا وكلا.. وألف مرة كلا.

فسلطنةُ ربوبية اللّٰه جل وعلا وعظمتها إذن، وأغلب أسماء اللّٰه الحسنى -كما جاء في “المسألة السابعة”- وجميع دلائلِ وحججِ وجوبِ وجوده سبحانه وتعالى، تشهد جميعًا وتدل على “الآخرة” وتقتضيها.

فما أعظمَ مرتكز هذا الركن الإيماني العظيم، وما أَمْتَنَ نقطة استناده! أَلَا فأدرِكْ ذلك، وصدِّق به كأنك تراه.

[الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالرسل]

ثم إن “الإيمان باللّٰه” كما لا يمكن أن يكون دون “الإيمان بالآخرة” كذلك لا يمكن ولا يُعقل، أن يكون “الإيمان باللّٰه” دون “الإيمان بالرسل” مثلما ذُكِر ملخَّصًا في “رسالة الحشر”.

وذلك أن اللّٰه تعالى الذي خلق هذا الكون إظهارًا لألوهيته ومعبوديته، على هيئةِ كتابٍ صمدانيٍّ مجسَّمٍ بحيث تُعبِّر كلُّ صحيفةٍ من صحائفه عن معاني كتاب، ويُظهِر كل سطر من أسطره معنَى صحيفةٍ.. وخَلَقَه على شكل قرآن سبحاني مجسم بحيث إن كل آيةٍ من آياته التكوينية، وكل كلمةٍ من كلماته، بل حتى كل حرف منه وكل نقطة بمثابة معجزة تقدسه وتسبّحه.. وخلقه على صورة مسجد رحماني مهيب وزيّنه بما لا يحد من الآيات والنقوش الحكيمة، بحيث إن في كل زاوية من زواياه طائفة منهمكة بنوع من العبادة الفطرية لخالقهم الرحمن..

فهل يمكن أن لا يرسِل هذا الخالق المعبود الحق أساتذةً ليُدرِّسوا معاني ما في ذلك الكتاب الكبير ويُعلِّموا ما فيه؟!

أم هل يمكن أن لا يَبعث مفسرين ليفسروا آياتِ ذلك القرآن المجسم الصمداني؟!

أم هل يمكن أن لا يعيّن أئمةً لذلك المسجد الأكبر ليَؤُمُّوا الذين يعبدونه بأنماط وأشكال مختلفة من العبادات؟!

أم هل يمكن أن لا يزوِّد أولئك الأساتذةَ والمفسرين والأئمة بالأوامر السلطانية؟!

حاشا للّٰه وكلا.. وألفَ مرة كلا.

[الإيمان بالله يستلزم الإيمان بكلام الله والكتب السماوية]

ثم إن الخالق الرحيم الكريم الذي خلق هذا الكون إظهارًا لجمال رحمته على ذوي الشعور وحسن رأفته بهم وكمال ربوبيته لهم، وليحثهم على الشكر والحمد، قد خلقه على هيئةِ دارِ ضيافةٍ فخمة، ومعرضٍ رائع واسع، ومتنـزهٍ جميل بديع، وأعدّ فيه ما لا يحد من النعم اللذيذة المتنوعة المختلفة، ونظّم فيه ما لا يعد من خوارق الصنعة وبدائعها الرائعة..

فهل يمكن أن لا يتكلم هذا الخالق الرحيم الكريم بواسطة رسله، مع ذوي الشعور من مخلوقاته في دار ضيافته الفاخرة هذه..

أم هل يُعقل أن لا يُعلِّمهم وظائفَ شكرهم وكيفية امتنانهم تجاه تلك النعم الجسيمة، ومهامَّ عبوديتهم تجاه رحمته السابغة وتودده الظاهر؟!

كلا.. ثم ألفَ ألفِ مرةٍ كلا.

ثم إن الخالق الذي يحب خلقَه وصنعته، ويريد جلب الإعجاب والتقدير إليه، بل يطلب استحسانه وإكباره، بدلالةِ إيداعِه الإحساسَ بآلافِ الأنواعِ من الأذواق في الأفواه، فيعرِّف نفسَه سبحانه بكل مخلوقٍ من مخلوقاته، ويُظهر به نوعًا من جماله المعنوي، ويجعله موضعَ حُبِّ مخلوقاته، فزيَّن هذا الكون ببدائع صنائعه ومخلوقاته.

فهل يُعقل أن لا يتكلم هذا الخالق البديع مع أفاضل الإنسان الذي هو سيد المخلوقات؟!

وهل يمكن أن لا يبعث مِن أولئك الأفاضل رسـلًا، فتظلَّ تلك الصنائع الجميلة دون تقدير، ويظل جمال تلك الأسماء الحسنى الخارقة دون استحسان ولا إعجاب، ويظل تعريفه وتحبيبه دون مقابل؟!

حاشا للّٰه وكلا.. ثم ألفَ مرة كلا!

ثم إن المتكلم العليم الذي يستجيب -في الوقت المناسب- لدعوات جميع ذوي الحياة، ملبيًا حاجاتها الفطرية، ومغيثًا تضرعاتها ورغباتها المرفوعة إليه بلسان الحال، فيتكلم صراحةً فعلًا وحالًا بإحساناته غير النهائية لهم وإنعاماته غير المحدودة عليهم، مُظهِرًا القصد والاختيار والإرادة.

فهل يمكن وهل يعقل أن يتكلم هذا المتكلم العليم مع أصغر كائن حي فعلًا وحالًا ويسعفَ داءه ويغيثَه بإحسانه ويسد حاجاته، ثم لا يقابلَ الرؤساء المعنويين للإنسان الذي هو سيد أغلب المخلوقات الأرضية، وهو خليفة اللّٰه في أرضه، وهو النتيجة المستخلصة من الكائنات؟!

أم هل يعقل أن لا يتكلم معهم قولًا وكلامًا مثلما يتكلم مع كل ذي حياة فعلًا وحالًا؟!

أم هل يمكن أن لا يرسل معهم أوامره، وصحفه وكتبه المقدسة؟

حاشَ للّٰه.. ثم ألف مرة كلا.!

وهكذا يُثبِت “الإيمانُ باللّٰه” مع حججه القاطعة الثابتة الإيمانَ “بكتبه” المقدسة “وبرسله” الكرام عليهم السلام.

[الإيمان بالله يستلزم الإيمان بمحمد ﷺ]

ثم إن الذي جعل الكون يُدوِّي بحقيقةِ القرآن ويترنم بها..

والذي عَرَفَ وعَرَّفَ بأكمل وجهٍ ذلك الخالقَ البديع، فأحبَّه وحَبَّبه، وأدى شكره له ودلّ الآخرين على القيام بشكره، بل جعل الأرض تردد: “سبحان اللّٰه والحمد للّٰه واللّٰه أكبر” حتى أسمعت السماوات العلى..

والذي قابل الربوبية الظاهرة للخالق بعبودية واسعة كلية، فقاد خُمس البشرية كمية ونصفها نوعية خلال ألف وثلاثمائة سنة قيادة أهاج بها البر والبحر وملأهما شوقًا ووجدًا..

والذي هتف بالقرآن الكريم في أذن الكون وعلى مدى جميع العصور إزاء المقاصد الإلهية، فألقى درسًا عظيمًا، ودعا بدعوة كريمة، مُظهِرًا وظيفةَ الإنسان وقيمته، ومبينًا مرتبته ومنـزلته.. ذلك هو محمد الأمين ﷺ الصادق المصدَّق بألف معجزةٍ ومعجزة.

فهل يمكن ألا يكون هذا العبد العزيز المصطفى المختار أكرمَ رسولٍ لذلك المعبود الحق؟!

وهل يمكن أن لا يكون أعظمَ نبي له؟!

حاشا وكلا.. ألفَ ألفِ مرةٍ كلا.!

فحقيقةُ “أشهد أن لا إله إلا اللّٰه” مع حججها إذن تُثبت حقيقةَ “أشهد أن محمدًا رسول اللّٰه“.

[الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالقرآن]

ثم إن الخالق الذي جعل مخلوقاته يتبادلون الكلام بمئات الآلاف من الألسنة واللغات وهو الذي يَسمع كلامَ الجميع ويَعرفه، فهل يمكن أن لا يتكلم هو؟.. كلا ثم كلا!

ثم هل يُعقل أن لا يُعلِّم مقاصدَه الإلهية بكتابٍ عظيمٍ كالقرآن الكريم الذي يجيب عن ثلاثة أسئلة تحار العقول أمامها: من أين تأتي هذه المخلوقات؟ والى أين المصير؟ ولماذا تتعاقب ثم لا تلبث أن تغيب؟… كلا.

فالقرآن الكريم الذي نوّر ثلاثة عشر قرنًا وأضاءَها..

والذي يتناقله في كل ساعة مائةُ مليون لسانٍ بكل إجلالٍ وتوقير..

والذي سُطِّر في صدور ملايين الحفاظ بكل سمو وقداسة..

والذي أدار بقوانينه القسمَ الأعظم من البشرية، وربّى نفوسهم، وزكّى أرواحَهم، وصفّى قلوبهم، وأرشد عقولهم..

والذي هو معجزة خالدة كما أثبتنا إعجازه بأربعين وجهًا في رسائل النور، فوضح أن له إعجازًا لكل طبقة من الطبقات الأربعين للناس (كما جاء في “المكتوب التاسع عشر” ذي الكرامة الخارقة)..

هذا القرآن العظيم استحق بحقٍّ أن يُطلَق عليه: “كلام اللّٰه” فأصبح محمدٌ ﷺ مع آلافٍ من معجزاته معجزةً باهرة له.

فهل يمكن أن لا يكون هذا القرآن الكريم كلامَ ذلك المتكلم الأزلي سبحانه؟!

وهل يمكن أن لا يكون أوامرَ ذلك الخالق السرمدي جل وعلا؟

حاشا للّٰه وكلا ألفَ ألفِ مرةٍ كلا!

فـ”الإيمان باللّٰه” مع جميع حججه إذن يُثبت أنَّ القرآن الكريم كلام اللّٰه عز وجل.

[الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالملائكة]

ثم إن السلطان ذا الجلال الذي يملأ سطح الأرض بذوي الحياة باستمرار ويفرغه، مُعمِّرًا دنيانا بذوي الشعور لأجل معرفته سبحانه وعبادته وتسبيحه.

هل يمكن لهذا السلطان ذي الجلال أن يترك السماوات والنجوم خالية فارغة، ولا يعمِّر تلك القصور السماوية بأهالي وسكنة تناسبها؟!

وهل يمكن أن يَترك هذا السلطانُ العظيم سلطنةَ ربوبيته في أوسع ممالكه بلا هيبةٍ وعظمة، وبلا موظفين مأمورين، وبلا سفراء رسل، وبلا ناظرين مشرفين، وبلا مشاهدين معجبين، وبلا عباد مكرمين، وبلا رعايا مطيعين؟!

حاشا للّٰه وكلا.. بعدد الملائكة.

[الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالقَدَر]

ثم إن الحاكم الحكيم والعليم الرحيم الذي كَتب هذا الكون بشكل كتاب، حتى سجَّلَ تاريخ حياةِ كل شجرةٍ في كل بذرٍ من بذورها.. ودوَّن وظائفَ حياةِ كلِ عشبٍ ومهامَّ كل زهرٍ في جميع نواها.. وكتَّب جميع حوادث الحياة لكل ذي شعور في قواه الحافظة الصغيرة كحبة الخردل.. واحتفظ بكل عملٍ في ملكه كافةً وبكلِّ حادثةٍ في دوائر سلطنته بالتقاط صورها المتعددة.. والذي خلق الجنة والنار والصراط والميزان الأكبر لأجل تجلياتِ وتحققِ العدالة والحكمة والرحمة التي هي أهم أساس للربوبية..

فهل يمكن لهذا الحاكم الحكيم ولهذا العليم الرحيم أن لا يسجِل أعمالَ الإنسان التي تتعلق بالكائنات؟!

وهل يمكن أن لا يدوِّن أفعالَه للثواب والعقاب ولا يكتبَ سيئاته وحسناته في ألواح القَدَر؟!

حاشا للّٰه وكلا بعدد حروف ما كتب في اللوح المحفوظ للقدر.

أي إن حقيقة “الإيمان باللّٰه” مع حججها تُثبت حقيقةَ “الإيمان بالملائكة” كما تثبت حقيقةَ “الإيمان بالقدر” أيضًا إثباتًا قاطعًا كالشمس التي تُظهر النهار، والنهار الذي يدل على الشمس.

وهكذا فالأركان الإيمانية يثبت بعضها البعض الآخر.

[النقطة الثانية: كل دليلٍ لركنٍ هو دليلٌ لكلِّ ركن]

النقطة الثانية إن جميع ما دعت إليه الكتب والصحف السماوية وفي مقدمتها القرآن الكريم، وجميعَ الدعوات التي قام بها الأنبياء عليهم السلام وفي مقدمتهم محمدٌ ﷺ، تدور على أُسسٍ ثابتةٍ وأركانٍ معينة.. ولقد سعى جميعُهم لإثباتِ الأسس وتلقينِها للآخرين.

لذا، فجميع الحجج والدلائل التي تَشهد على نبوتِهم وصدقِهم متوجهةٌ معًا إلى تلك الأُسس والأركان، مما يزيدها قوةً وأحقية.

وما تلك الأُسس إلّا الإيمان باللّٰه، وباليوم الآخر، وبملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره من اللّٰه تعالى.

فلا يمكن إذن التفريق بين أركان الإيمان الستة إطلاقًا، حيث إن كل ركن من الأركان يثبت الأركان عامة بل يستدعيها ويقتضيها، لذا فإن الأركان الستة كلٌّ لا يقبل التجزئة البتة، وكليٌّ لا يمكن أن ينقسم أبدًا.

فكما أن كل غصن من أغصان الشجرة المباركة (شجرة طوبى) الممتد جذرها في السماء، وكلَّ ثمرٍ من ثمارها وكل ورقة من أوراقها يستند على الحياة الخالدة لتلك الشجرة، فلا يمكن لأحد أن ينكر حياةَ ورقةٍ واحدةٍ متصلةٍ بتلك الشجرة ما لم يتمكن له إنكار حياة تلك الشجرة الظاهرة ظهورًا ساطعًا كالشمس؛ ولئن أنكر فإن تلك الشجرة تُكذِّبه بعدد أغصانها وثمارها وأوراقها وتسكته، كذلك الإيمان بأركانه الستة هو بالصورة نفسها.

هذا ولقد كانت النية معقودةً على بيان الأركان الإيمانية الستة في ست نقاط، وفي كل نقطةٍ خمس نكاتٍ ذات مغزى، وكانت الرغبة متوجهةً إلى إجابة السؤال المثير الوارد في المقدمة ببيانٍ أكثر وتوضيحٍ أوسع، إلّا أن عوائق وعوارض حالت دون ذلك.

بيد أنني أخال أن “النقطة الأولى” لم تدع سبيلًا لإيضاحٍ أكثر لأهل الدراية، حيث إنها مقياس كافٍ للموضوع.

وهكذا وُضِّح تمامًا أنه إذا ما أنكر المسلم أيةَ حقيقة إيمانية كانت فإنه يتردى إلى الكفر المطلق؛ إذ تسلسلت الأركان الإيمانية بعضُها ببعض، وفصَّل الإسلامُ ووضَّحَ ما أُجمِل في الأديان الأخرى.

فالمسلم الذي لا يعرف محمدًا ﷺ ولا يصدِّق به فلا يعرف اللّٰه سبحانه (بصفاته) ولا يعرف الآخرة كذلك.

فإيمان المسلم قوي ورصين إلى درجة لا يتزعزع أبدًا ولا يدع مجالًا للإنكار قطعًا، لاستناده إلى حجج كثيرة جدًّا، حتى كأن العقل يرضخ رضوخًا لقبول هذا الإيمان.

[النقطة الثالثة: الحمد لله على الإيمان]

النقطة الثالثة قلتُ ذات مرة: “الحمد للّٰه”، ثم بحثتُ عن نعمةٍ عظيمةٍ جدًّا تقابل معناها الواسعَ جدًّا، فخطر على القلب الجملة الآتية:

(الحمد للّٰه على الإيمان باللّٰه، وعلى وحدانيته، وعلى وجوب وجوده وعلى صفاته، وأسمائه، حمدًا بعدد تجليات أسمائه من الأزل إلى الأبد).

فتأملت فيها فوجدتها مطابِقة تمامًا للمعنى.. وهي كالآتي:

……………………………………………………………..

﴿[حاشية]: انتهى النص هنا وكأن الستار أسدل أمام الأستاذ فلم يستمر بالكتابة، أو لعل الظروف المحيطة به حالت دون ذلك، فاكتفى بالفقرات السابقة.﴾

❀   ❀   ❀

[المسألة العاشرة: مباحث قرآنية نفيسة]

انتقل إليها عبر الرابط: [المسألة العاشرة: مباحث قرآنية نفيسة]

❀   ❀   ❀

[المسألة الحادية عشرة: بعض ثمرات الإيمان بالملائكة]

المسألة الحادية عشرة

[ثلاث ثمراتٍ كليةٍ للإيمان]

إن الشجرة المقدسة للأركان الإيمانية الكلية لها ثمرات يانعة إحداها هي الجنة، والأخرى هي السعادة الأبدية، والثالثة هي رؤية اللّٰه جل جلاله.

[ثمرات جزئية]

ولما كانت رسائل النور قد أوضحت مئات من تلك الثمار -كُلِّيِّها وجزئيِّها- مع حُجَجها الدامغة، فنحيل إيضاحَها إلى “سراج النور”، ونشير هنا إلى بضعة نماذج فقط لثمرات جزئية، بل إلى جزء الجزئي والخاص من تلك الثمار الطيبة.

[ثمرة الإيمان بملك الموت]

إحداها: كنت ذات يوم أدعو دعاءً بهذا المضمون: “يا رب أتوسل إليك بحرمة جبرائيل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل وبشفاعتهم أن تحفظني من شرور شياطين الجن والإنس..”، وحَالَمَا ذكرتُ اسمَ عزرائيل -الذي يملأ ذكرُه الناسَ رعبًا وارتجافًا- شعرتُ بحالةٍ ذات طعمٍ في غاية الحلاوة والسُّلوان، فحمدت اللّٰه قائلًا: “الحمد للّٰه”، وبدأتُ أُحب عزرائيل حُبًّا خالصًا، على أنه واحد من الملائكة الذين يعتبر الإيمان بوجودهم ركنًا من أركان الإيمان.

وسنشير بإلمامةٍ قصيرةٍ إلى ثمرةٍ جزئيةٍ واحدةٍ من عديد الثمار للإيمان بهذا المَلَك.

منها: أن أثمنَ ما عند الإنسان، وأعظم ما يحرص عليه ويدافع عنه ويجهد في الحفاظ عليه، هو روحه بلا شك.. فلقد أحسستُ يقينًا بفرحٍ عميقٍ إزاء تسليم الإنسان لأعز ما يملكه في الوجود -وهو روحه- إلى يدٍ “قويٍّ أمين” ليحفظه من العبث والضياع والفناء.

[ثمرة الإيمان بالملائكة الكاتبين]

ثم تذكرت الملائكة الموكَّلين بتسجيل أعمال الإنسان، فرأيت أنَّ لهم ثمرات لذيذة جدًّا كهذه:

منها: أن كل إنسان لأجل أن تُخلَّد أعمالُه الطيبة وتبقى كلماتُه القيمة، يسعى للحفاظ عليها وصيانتها من الضياع، سواءٌ عن طريق الكتابة أو الشعر، أو حتى بالشريط السينمائي، وبخاصة إذا كان لتلك الأعمال ثمراتُها الباقية في الجنة، فيشتاقُ إلى حفظها أكثر.. والكرام الكاتبون واقفون على مَنكِبَي الإنسان ليُظهروه في مَشاهِدَ أبدية، وليصوروا أعمالَه في مناظرَ خالدة، ليُكافَأَ أصحابُها ولينالوا الجوائز الثمينة الدائمة.. ولقد تلذذتُ من طعوم هذه الثمرة بلذائذ حلوةٍ لا أستطيع أن أصفها.

[ثمرة الإيمان بالملائكة]

وعندما جردني أهلُ الضلالة من أسباب الحياة الاجتماعية، وأبعدوني عن كتبي وأحبتي وخدمي وكل ما كان يمنحني السلوان، وألقوني في ديار الغربة والوحشة، وكنت في ضيقٍ وضجر من حالي إلى درجةٍ كنت أشعر أن الدنيا الفارغة ستتهدم على رأسي.. فبينما أنا في هذه الحالة إذا بثمرةٍ من ثمرات الإيمان بالملائكة تأتي لإغاثتي، فتضئ أرجاء دنياي كلها، وتنور العالم من حولي، وتَعمُره بالملائكة، وتؤهله بالأرواح الطيبة، حتى دَبَّ السرور والبهجة في كل مكان3“أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع أربع أصابع إلّا عليه ملك واضع جبهته ساجدًا للّٰه تعالى”. (انظر: أحمد بن حنبل، المسند ٥/١٧٣؛ الترمذي، الزهد٩؛ ابن ماجه، الزهد ١٩). وأرَتْني كذلك كم كانت دنيا أهل الضلالة ملأى بصرخات الوحشة وحسرات العبث والظلام..

[ثمرة الإيمان بالرسل]

فبينما كان خيالي فرحًا جذلًا بالتمتع بلذة هذه الثمرة، إذا به يتسلم ثمرةً من الثمار الوفيرة -الشبيهة بهذه- من الإيمان بالرسل عليهم السلام، فذاقها فعلًا، وأحسست توًّا أنَّ إيماني قد تَوسَّعَ ونما وانبسط حتى أصبح كليًّا شاملًا، إذ أشرقتْ لديَّ تلك الأزمنة الغابرة كلُّها، واستضاءت بنور التصديق والإيمان بهم، حتى كنت أشعر كأنني أعيش معهم، وبات كلُّ نبي من الأنبياء يصدِّقُ بآلافِ التصديق على أركان الإيمان التي جاء بها ودعا إليها خاتمهم ﷺ، مما أخرس الشياطين وأسكتهم.

[لماذا يتغلب أهل الضلالة على أهل الإيمان أحيانًا؟]

ثم قفز إلى القلب السؤالُ ذو الجواب الشافي الواردُ في لمعةِ “حكمة الاستعاذة” وهو: أنَّ أهل الإيمان الذين لهم مثل هذه الثمرات للإيمان، ومثل هذه الفوائد والنتائج اللذيذة ذاتِ الطعوم غير المحدودة، ولهم النتائج الجميلة الطيبة للحسنات ومنافعها الكثيرة، ولهم العناية الدائمة من “أرحم الراحمين” وتوفيقه ورحمته.. كل ذلك يمنحهم القوة والإسناد، فلِمَ إذن يتغلب أهل الضلالة غالبًا عليهم، بل قد يتغلب عشرون من أهل الضلالة على مائة منهم، ويهلكونهم؟!

وفي ثنايا هذا التفكير خطر لي: لِمَ يُحشِّد القرآنُ الكريمُ هذا الحشد العظيم لأهل الإيمان بذكر إمداد اللّٰه إياهم بالملائكة وهم يواجهون دسائس شيطانية واهية ضعيفة؟

وبما أن رسائل النور قد وضَّحتْ حكمة ذلك بحججٍ قاطعة، فسنشير هنا إلى الجواب عن ذلك السؤال في غاية الإيجاز:

نعم، يتولى أحيانا مائةٌ من الأشخاص المحافَظةَ على قصر، عندما يحاول أحدُ الشريرِين أو أي شخص مخرِّب إلقاءَ النار فيه خفية لتدميره، بل قد يُلجأ إلى السلطان أو الدولة للحفاظ على القصر، ذلك لأن بقاء بناء القصر يتوقف على جميع الشروط والأركان والأسباب الداعية إلى البقاء، أما تخريبه وهدمه فيكون بانعدام شرطٍ واحدٍ فقط.

فعلى غرار هذا المثال نَفهم كيف أن شياطين الجن والإنس يقومون بتخريبٍ مدهشٍ وبحريقٍ معنويٍّ عظيمٍ بفعلٍ قليلٍ جدًّا، بمثل ما يقوم شريرٌ بتدمير بناءٍ فخمٍ بإلقاء عودِ كبريتٍ فيه.

نعم، إن أساسَ وخميرة الشرور والرذائل والخطايا كلها هو العدم والهدم، وما يبدو من وجودها الظاهرِ يخفي تحته الإفساد والتعطل والعدم.

واستنادًا إلى هذه النقطة فإن شياطين الجن والإنس والشريرِين يتمكنون بقوةٍ هزيلةٍ جدًّا، أن يصدُّوا قوةً لا حدَّ لها لأهل الحق والحقيقة، ويُلجئوهم إلى باب اللّٰه عز وجل والسعي إليه دائمًا؛ ولأجل هذا يضع القرآن الكريم تلك الحشود الهائلة لحمايتهم، ويسلِّم إلى أيديهم تسعةً وتسعين اسمًا من الأسماء الحسنى، ويُصدر أوامرَ مشددةً ليَثبتوا تجاه أولئك الأعداء.

[الجنة وجهنم قيد التحضير الآن]

ومن هذا الجواب ظهر فجأةً أساسُ مسألةٍ مدهشةٍ وبدايةُ حقيقةٍ عظيمة، وهو أنه:

كما أن الجنة تُخزِّن محاصيل جميع عوالم الوجود ونتائجها، وتستثمر النوى المزروعة في الدنيا، فتجعلها تؤتي أُكلها كل حين؛ فإن جهنم تُحمِّص محاصيل العدم وتعصف بها لأجل إظهار النتائج الأليمة جدًّا لعوالم العدم والفناء غير المحدودة، فمصنع جهنم الرهيب -فضلًا عن وظائفها العديدة- يطهِّر ما في عالم الوجود من أوساخ عالم العدم وأدرانه.

سنوضح هذه المسألة العظيمة فيما بعد إن شاء اللّٰه لأننا لا نريد فتح بابها هنا.

[ثمرة الإيمان بمنكر ونكير]

وكذا فإن جزءًا من ثمرات الإيمان بالملائكة هو الذي يعود إلى المنكر والنكير4انظر: الترمذي، الجنائز ٧٠؛ ابن ماجه، الجنائز ٦٥؛ أحمد بن حنبل، المسند ٣/١٢٦، ٤/٢٨٨.، وهو كالآتي:

قلت ذات يوم: “إنني لا بد -كأي فرد كان- داخلٌ لا محالة في القبر”.

فدخلتُ إليه خيالًا، وفيما كنت أستوحش يائسًا من سجن القبر الانفرادي، ومن تجريدي المطلق من كل شيء، وحيدًا دون مُعِين، في ذلك المكان الضيق المظلم البارد، إذا بصديقَين كريمَين من طائفةِ “المنكَر والنكير” قد برزا وجاءا إليّ وبدءا بالمناظرة معي.. وسَّعا كلًّا من قلبي وقبري، فاستضاءا وتدفئا، وفُتحت شبابيكُ نوافذَ مطلةٍ على عالَم الأرواح.. سُررت من أعماق روحي وشكرتُ اللّٰه كثيرًا على ما رأيتُ من الأوضاع التي ستتحقق حتمًا في المستقبل وإن كنت أراها الآن خيالًا.

فكما أنه عندما توفي طالب علم في أثناء تعلمه الصرف والنحو، سأله المنكر والنكير في القبر: “مَن ربك؟” أجاب: “مَن مبتدأ وربُك خبره.. اِسألوني سؤالًا صعبًا فهذا سهل!!” -يحسب نفسه أنه لا يزال في المدرسة يتلقى الدرس- كما أن هذا الجواب أَضحَك الملائكةَ والأرواحَ الحاضرة وذلك الوليَّ الصالح الذي انكشف له القبر فشاهَد الحادثةَ، بل جَعَل الرحمة الإلهية تبتسم؛ فأنقذه من العذاب..

كذلك فقد أجاب شهيد بطل من طلاب رسائل النور وهو “الحافظ علي” وقد توفي في السجن وهو لا يزال يقرأ ويكتب “رسالة الثمرة” بكمال الشوق، أجاب عن أسئلة المَلَكين في القبر -مثلما أجاب في المحكمة- بحقائقِ “رسالة الثمرة”.

وأنا كذلك وسائر طلبة رسائل النور سنجيب إن شاء اللّٰه عن تلك الأسئلة التي هي حقيقة في المستقبل، ومجاز في الوقت الحاضر.. سنجيب عنها بحجج رسائل النور الساطعة وبراهينها الدامغة ونسوقهم بها إلى التصديق والاستحسان والتقدير.

[الإيمان بالملائكة سلوان]

وكذا فإن نموذجًا جزئيًّا للإيمان بالملائكة محورًا لسعادة الدنيا هو أنه:

بينما كان طفل بريء يتلقى درسه الإيماني في مبادئ الفقه، إذ يأتيه طفل آخر باكيًا مُوَلْوِلًا لوفاة أخيه البريء، فيهدئه ويسليه، قائلًا: “لا تبكِ يا أخي، بل اشكر اللّٰه؛ لأن أخاك قد ذهب مع الملائكة، ومضى إلى الجنة، وسيتجول ويسرح هناك بحريةٍ كاملةٍ كالملائكة، وسيجد الفرحة والهناء أحسنَ منا، وسيطير كالملائكة ويشاهد كل مكان”.

فبدّل بكاءه وصراخه وعويله ابتسامة وسرورًا.

فأنا كذلك مثل هذا الطفل الباكي، فقد تلقيتُ مع ما أنا فيه من وضعٍ أليمٍ وفي هذا الشتاء الكئيب نبأ وفاة اثنين ونَعيَهما بأسى وألم بالغين.

أحدهما: هو ابن أخي المرحوم “فؤاد” الذي أحرز الدرجة الأولى في المدارس العليا وهو الناشر لحقائق رسائل النور.

الثاني: تلك التي حجت وطافت بالبيت وهي تعاني سكرات الموت وسلَّمتْ روحها في الطواف، وهي المرحومة أختي العالِمة: “خانم”.

فبينما أبكاني وفاة هذين القريبين كبكائي على “عبد الرحمن” المذكور في “رسالة الشيوخ”، رأيت بنور الإيمان -قلبًا ومعنًى- صداقةَ الملائكة ورفاقةَ الحُور العين لذلك الشاب الطيب: “فؤاد”، ولتلك السيدة الصالحة، عوضًا عن صداقة الناس، ورأيت نجاتَهما من مهالك الدنيا وخلاصَهما من خطاياها.

فبدأت أشكر اللّٰه -وهو أرحم الراحمين- ألف شكرٍ وشكر، بما حوَّلَ ذلك الحزنَ الشديدَ إلى الشعور بالبهجة، والإحساس بالسرور.. وبدأت أهنئهم وأهنئ أخي “عبد المجيد” (أبا فؤاد) وأهنئ نفسي كذلك.

ولقد كُتب هذا وسُجل هاهنا من أجل أن ينال هذان المرحومان بركة الدعاء.

[للإيمان ثمراتٌ ولذائذ دنيوية وأخروية]

إن جميع ما في رسائل النور من موازين ومقارنات إنما هو لبيان ثمار سعادة الإيمان ونتائجها التي تعود للحياة الدنيا والحياة الأخرى، فتلك الثمار الكلية الضخمة تُري في الدنيا سعادةَ الحياة، وتذيق لذائذها خلال العمر، كما تخبر أنَّ إيمان كل مؤمن سيُكسِبه في الآخرة سعادة أبدية، بل ستثمر وتتكشف وتنبسط بالصورة نفسها هناك.

فمِن نماذج تلك الثمار الكلية العديدة كتبت خمس ثمار منها على أنها لـ”لمعراج” في نهاية “الكلمة الحادية والثلاثين” وخمس ثمار في “الغصن الخامس من الكلمة الرابعة والعشرين”.

[ثلاث ثمراتٍ كُلية لمجموع أركان الإيمان]

فكما ذكرنا آنفًا أن لكل ركن من أركان الإيمان ثمارًا كثيرة جدًّا بلا حدود، فلمجموع أركان الإيمان معًا ثمرات لا حدّ لها أيضًا:

إحداها: الجنة العظيمة..

والأخرى: السعادة الأبدية..

والثالثة: هي ألذُّها وهي رؤية اللّٰه جل جلاله هناك.

وقد وُضِّح بجلاءٍ في المقارنة المعقودة في نهاية “الكلمة الثانية والثلاثين” بعضُ ثمار الإيمان الذي هو محور سعادة الدارين.

[ثمرات الإيمان بالقدَر]

هذا وإن الدليل على أن “الإيمان بالقدر” له ثماره النفيسة أيضًا في هذه الدنيا هو ما يدور على ألسنة الجميع، حتى غدا مضربًا للأمثال: “مَن آمن بالقدر أمِنَ من الكدر“.

وفي نهاية “رسالة القدر” بينتُ إحدى ثماره الكلية بمثالٍ هو: دخول رجلين حديقة قصر سلطانيّ.. حتى إنني شاهدت من خلال حياتي بآلاف من تجاربي وعرفتُ أن لا سعادة للحياة الدنيا دون الإيمان بالقدر، فلولا هذا الإيمان لمُحيت إذن تلك السعادة وفنيت.

بل كنت كلما نظرت إلى المصائب الأليمة من زاوية الإيمان بالقدر كانت تلك المصائب تخف ويقل وطؤها عليَّ، فكنت أسأل بحيرة: يا ترى كيف يستطيع العيشَ من لا يؤمن بالقدر؟

[الملائكة أستارُ يَد القدرة الإلهية]

وقد أشير إلى إحدى الثمار الكلية للركن الإيماني: “الإيمان بالملائكة” في “المقام الثاني للكلمة الثانية والعشرين” بما يأتي:

إن عزرائيل عليه السلام قال مناجيًا ربه عز وجل: إن عبادك سوف يشتكون مني ويسخطون عليَّ عند أدائي وظيفة قبض الأرواح.

فقيل له جوابًا: سأجعل الأمراض والمصائب ستائر لوظيفتك لتتوجه شكاواهم إلى تلك الأسباب لا إليك.

ووظيفة عزرائيل نفسها هي الأخرى سِتار من تلك الستائر كيلا تتوجه الشكاوى الباطلة إلى الحق سبحانه وتعالى، وذلك لأن الحكمة والرحمة والجمال والمصلحة الموجودة في الموت قد لا يراها كل أحد؛ إذ يَنظر إلى ظاهر الأمور ويبدأ بالاعتراض والشكوى. فلأجل هذه الحكمة -أي لئلا تتوجه الشكاوى الباطلة إلى الرحيم المطلق- فقد أصبح عزرائيل عليه السلام سِتارًا.

[حكمة الأسباب والسببية في هذا العالَم]

ومثل هذا تمامًا ما يقوم به جميع الملائكة وجميعُ الأسباب الظاهرة من واجبات ووظائف إنما هي ستائر لعزة الربوبية، لتبقى عزة القدرة الإلهية وقدسيتها ورحمة اللّٰه المحيطة الشاملة مصونةً في الأمور والأشياء التي لا تُرى فيها أوجه الجمال، ولا تُعلم فيها حقائق الحكمة، من دون أن تكون هدفًا للاعتراضات الباطلة، ولا يشاهَد عندئذ بالنظر الظاهري مباشرةُ يد القدرة في الأمور الجزئية والمنافيةِ للرحمة والأشياء التافهة.

[الأسباب ليس لها تأثير حقيقي]

هذا وإن رسائل النور قد أَثبتت بدلائلها الغزيرة جدًّا، أنه ليس لأي سببٍ من الأسباب تأثير حقيقي، وليس له قابليةُ الإيجاد أصلًا، وأنَّ سِكَك التوحيد وأختامَها غير المحدودة موضوعة على كل شيء وأن الخلق والإيجاد يخصه هو سبحانه وتعالى، فليست الأسباب إلّا مجرد ستائر، وليس للملائكة -وهم ذوو شعور- غير جزءٍ من الاختيار الجزئي الذي له الكسب دون الإيجاد، وهو نوع من الخدمة الفطرية ونمط من العبودية العملية لا غير.

أجل، إن العزة والعظمة تقتضيان وضع الأسباب الظاهرية ستائر أمام نظر العقل، إلّا أن التوحيد والجلال يرفعان أيدي الأسباب ويردّانها عن التأثير الحقيقي.

[الملائكة والشياطين: لكلٍّ وظيفةٌ وحكمة]

وهكذا، فكما أن الملائكة والأسباب الظاهرية المستخدَمة في أمور الخير والوجود، هي وسائل للتقديس الرباني وتسبيحه فيما لا يُرى ولا يعلم جماله من الأشياء، وذلك بتنـزيه القدرة الربانية وصيانتها عن التقصير والظلم..

كذلك فإنَّ استخدام شياطين الجن والإنس والعناصر المضرة في أمور الشر والعدم هو الآخرُ نوع من الخدمة للتسبيحات الربانية، ووسيلة للتقديس والتنـزيه والتبرئة من كل ما يُظَنُّ نقصًا وتقصيرًا في الكائنات، وذلك لصيانة القدرة السبحانية، كيلا تكون هدفًا لإلصاق الظلم بها وتوجيه الاعتراضات الباطلة إليها.

[الخير وجوديّ، والشر عَدَميّ]

ذلك لأن جميع التقصيرات تأتي من العدم ومن العجز ومن الهدم ومن إهمال الواجبات -الذي كلٌّ منه عدم- ومما ليس له وجود من الأفعال العدمية؛ فهذه الستائر الشيطانية والشريرة قد أضحت وسائل لتقديس الحق سبحانه وتعالى لِما حَملتْ على عاتقها -باستحقاقٍ- تلك الاعتراضاتِ والشكاوى، لكونها مرجعًا لتلك التقصيرات ومصدرًا لها.

إذ الأعمالُ الشريرةُ والعدميةُ والتخريبيةُ لا تتطلب -أصلًا- القوةَ والقدرة، فالفعل القليل أو القوة الجزئية، بل إهمالٌ لواجبٍ ما أحيانًا، يؤدي إلى أنواعٍ من العدم والفساد، لذا يُظَنُّ أن القائم بتلك الأفعال الشريرة هو ذو قدرة، بينما الأمر في الحقيقة أنه لا تأثير له إلّا العدم، ولا قوة له إلّا الكسب الجزئي.

ولما كانت تلك الشرور ناشئة من العدم، فإن أولئك الأشرار يُعَدُّون هم الفاعلين الحقيقيين لها؛ فإن كانوا من ذوي الشعور استحقوا أن يذوقوا وبالَ أمرهم، وهذا يعني أن أولئك الأشرار الفاسدين هم فاعلون للسيئات.

أما في الحسنات والخير والأعمال الصالحة فلأنها وجودية فإن الأخيار ليسوا هم الفاعلين الحقيقيين لها، وإنما هم أهلٌ لكي تجري الحسنات على أيديهم فيَقبلوا الكرم الإلهي؛ وما إثابتهم على أعمالهم إلا كرمٌ وفيضٌ إلهي محض، والقرآن الكريم يوضح هذا بأمره: ﴿ما أصابَكَ مِنْ حَسَنةٍ فَمِنَ اللّٰه وما أصابَكَ مِنْ سَيّئةٍ فَمِنْ نَفسِكَ﴾.

[التصادم بين عوالم الخير وعوالم الشر]

ومجمل القول: إن عوالم الوجود وعوالم العدم غير المحدودتين عندما تتصادمان معًا، وعندما تثمران الجنة والنار، وعندما تقول جميع عوالم الوجود: “الحمد للّٰه، الحمد للّٰه” وتردد جميع عوالم العدم: “سبحان اللّٰه، سبحان اللّٰه” وحتى عندما تتصارع الملائكة مع الشياطين، والخيراتُ مع الشرور، بل حتى عندما يدور الجدال حول القلب بين الإلهام والوسوسة.. عندما يحدث كل هذا بقانون المبارزة المحيط، تتجلى ثمرة من ثمار “الإيمان بالملائكة” فتحسم القضية وتَحُل المشكلة، منوِّرةً الكائناتِ المظلمةَ، مبديةً لنا نورًا من أنوار: ﴿اللّٰه نور السموات والأرض﴾ فتذيقنا من حلاوتها.. ما أحلاها! وما ألذها!!

[الملائكة منفِّذو إجراءات الربوبية]

هذا وإن كلًّا من الكلمة “الرابعة والعشرين” و”الكلمة التاسعة والعشرين” قد أشارتا إلى ثمرةٍ كلية أخرى وأثبتتا إثباتًا ساطعًا وجودَ الملائكة ووظائفهم.

نعم، إن ربوبية جليلة رحيمة واسعة التي عرّفت نفسها وحببتها، بما بثت من كل شيء في جنبات الكون سواء أكان كليًّا أَم جزئيًّا، يجب أن يقابَل ذلك الجلالُ وتلك الرحمةُ وذلك التعرّفُ والتحبب بعبودية واسعة محيطة شاملة شاكرة ضمن تقديس وحمد وثناء.

وحيث إن الجمادات والأركان العظيمة للكون التي ليس لها شعور لا يمكنها القيام بهذه العبودية العظيمة، فلا يقوم بها عنهم إلّا ما لا يحصى من الملائكة.. فهؤلاء هم الذين يمكنهم أن يمثلوا -بكل حكمةٍ وجلال- إجراءاتِ سلطنةِ الربوبية في كل ركنٍ من أركان الكون، وفي كل جزءٍ من أجزائه، من الثرى إلى الثريا، من أعماق الأرض إلى أعالي الفضاء.

[حديث الثور والحوت]

فمثلًا: إن ما تصوره القوانين الميتة للفلسفة من خلق الأرض ووظيفتها الفطرية بشكل موحش مظلم، تُحوِّلها هذه الثمرة الإيمانية صورةً مؤنسةً مضيئةً حيث المَلَكان المسمّيان بالثور والحوت، يحملان على كتفهما -أي تحت إشرافهما- الكرةَ الأرضية، حيث قد أُحضرت من الجنة وجُلبت منها تلك المادة الأخروية، وتلك الحقيقة الأخروية المسماة بـ”الصخرة” لتصبح الحجر الأساس الباقي لهذه الكرة الأرضية الفانية، إشارة إلى أن قسمًا من الأرض سيُفرغ ويحوّل إلى الجنة الباقية، فأصبحت الصخرة نقطة استناد للمَلكين: “الثور والحوت”..

هكذا رُويت هذه الرواية عن بعض أنبياء بني إسرائيل السابقين، وهي مروية كذلك عن ابن عباس رضي اللّٰه عنه، ولكن المؤسف جدًّا أن يتحول هذا التشبيه اللطيف وهذا المعنى السامي بمرور الزمن إلى حقيقةٍ ماديةٍ مجسَّمةٍ عند العوام، بحيث أصبحت خارجة عن نطاق العقل؛ إذ الملائكة يستطيعون أن يصولوا ويجولوا في التراب وفي الصخور وفي مركز الأرض كجولانهم في الهواء، فليسوا إذن بحاجة أبدًا -ولا الكرة الأرضية نفسها بحاجة- إلى صخرة مادية مجسمة ولا إلى ثور وحوت ماديين مجسمين! بمعنى أن تلك الرواية ليست إلّا للتشبيه.

[الملائكة المسبِّحون]

ومثلًا: لما كانت الكرة الأرضية تُسبِّح للّٰه بعددِ رؤوسِ الأنواع الموجودة فيها من حيوان ونبات وجماد. وبعدد ألسنة أفراد تلك الأنواع.. وبمقدار أعضاء تلك الأفراد.. وبعدد أوراقها وأثمارها.. فإن تقديم هذه العبودية الفطرية غير الشعورية العظيمة جدًّا، وتمثيلَها، وعرْضَها بعلمٍ وشعورٍ على الحضرة الإلهية المقدسة، يتطلب حتمًا مَلكًا موكَّلًا له أربعون ألف رأس، وفي كل رأسٍ أربعون ألف لسان، يُسبِّح بكلِّ لسانٍ أربعين ألف تسبيحة، مثلما أخبر المخبِر الصادق بهذه الحقيقة نفسها5انظر: الطبري، جامع البيان ١٥/١٥٦، أبو الشيخ، العظمة ٢/٥٤٧، ٧٤٠، ٧٤٢، ٧٤٧، ٣/٨٦٨؛ ابن كثير، تفسير القرآن ٣/٦٢..

[جبرائيل]

نعم، إنه من مقتضيات جلال الربوبية وعظمتها وسلطانها أن يكون جبرائيل عليه السلام على ماهيةٍ عجيبة، وهو المؤهل لتبليغ العلاقات الربانية للإنسان الذي هو أهم نتيجة لخلق الكون.

[إسرافيل وعزرائيل]

وأن يكون إسرافيل وعزرائيل عليهما السلام على ماهية عجيبة أيضًا، وهما يمثلان -مجرد تمثيل- الإجراءاتِ الإلهيةَ الخاصة للخالق سبحانه، ويُشْرِفان بعبوديةٍ خالصةٍ على أعظم شيء في عالم الأحياء، وهو البعث والموت.

[ميكائيل]

وأن يكون ميكائيل عليه السلام على ماهية عجيبة أيضًا، إذ يمثل بشعورٍ كاملٍ أنواعَ الشكر غير الشعورية على الإحسانات الرحمانية في الرزق الذي هو أجمع دائرة من دوائر الحياة وأوسعها للرحمة وأكثرها تذوقًا، فضلًا عن إشرافه عليها.

[الروح]

نعم، إنه من مقتضيات جلال الربوبية وأبهتها بقاءُ الروح ووجودُ أمثال هؤلاء الملائكة على ماهيةٍ عجيبةٍ جدًّا، إذ إن وجود هؤلاء ووجودَ كل طائفة خاصة منهم قطعيُّ الثبوت ولا ريب فيه مطلقًا، فهو ثابتٌ بدرجةٍ تليق بثبوتِ وجودِ الجلال والسلطنة الظاهرة في الكون كالشمس.

وليقَس على هذا الموادُّ الأخرى التي تخص الملائكة.

[الروحانيون عُمَّار الفضاء والقِفار]

نعم، إن الذي يخلق في الكرة الأرضية أربعمائة ألف نوعٍ من الأحياء، بل يخلق من أبسط المواد ومن العفونات، ذواتِ أرواحٍ بكثرةٍ هائلة، ويَعمُر بهم أرجاء الأرض ويجعلهم ينطقون بلسانهم إعجابًا: “ما شاء اللّٰه، بارك اللّٰه، سبحان اللّٰه” أمام معجزات صنعته سبحانه.. والذي جعل حتى الحيوانات الدقيقة تنطق بـ”الحمد للّٰه والشكر للّٰه واللّٰه أكبر” حيال إحسانات الرحمة الواسعة وآلائها.. إن هذا القدير ذا الجلال والجمال قد خَلق بلا ريبٍ ولا شبهةٍ سَكَنةً روحانيين تناسب السماوات الشاسعة، ممن لا يعصون أمره، ويعبدونه دومًا، فيَعمُر بهم السماواتِ دون أن يدعها خالية مقفرة. فأوجد أنواعًا كثيرة جدًّا من الملائكة هي أكثر بكثير من أنواع الأحياء وطوائفها، فقسمٌ منهم صغير جدًّا يمتطون قطرات الأمطار وبلورات الثلوج، ويباركون الصنعة الإلهية مهللين لرحمتها الواسعة بلسانهم الخاص، وقسم منهم يمتطون ظهور الكواكب السيارة فيسيحون في فضاء الكون معلِنين للعالم أجمعَ عبوديتَهم بالتكبير والتهليل أمام عظمة الربوبية وعزتها وجلالها6روى أبو داود بسند صحيح أن النبي ﷺ قال: أُذن لي أن أتحدث عن ملَك من حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنه العرش، ومن شحمة أذنه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام فيقول ذلك الملك: سبحانك حيث كنت..

نعم، إن اتفاق كل الكتب السماوية وجميعِ الأديان منذ زمن سيدنا آدم عليه السلام على وجود الملائكة وعلى عبوديتهم، وإن ما روي من الروايات الكثيرة المتواترة من التحدث مع الملائكة والمحاورة معهم خلال جميع العصور، أثبت إثباتًا قاطعًا وجود الملائكة وعلاقتهم معنا، بدرجةِ ثبوتِ وجود الناس الذين لم نرهم في أمريكا.

والآن انظر بنور الإيمان إلى هذه الثمرة الكلية الثانية وذقها لترى كيف أنها أبهجت الكائناتِ من أولها إلى آخرها وعَمَرَتْها وزيَّنَتْها وحوَّلتْها إلى مسجدٍ أكبرَ ومعبدٍ أعظمَ، فالكون المظلم البارد الذي ليس فيه حياة -كما تُصوِّره مادية العلم والفلسفة- يصبح بالإيمان كونًا ذا حياة وشعور، ومنوَّرًا ومؤنسًا ولذيذًا، فتذيق هذه الثمرةَ أهلَ الإيمان شعاعًا من لذة الحياة الباقية وهم لا يزالون في الدنيا كلٌ حسب درجته.

[تتمة]

تتمة:

كما أنه بسر الوحدة والأحدية، توجَد القُدرة نفسها والاسمُ نفسهُ والحكمةُ نفسها والإبداعُ نفسه، في كل جهةٍ من جهات الكون، فيعلِن كلُّ مصنوعٍ -كليًّا أم جزئيًا- بلسان حاله: وحدانيةَ الخالق سبحانه وتصرفه وإيجاده وربوبيته وخلّاقيته وقدسيته.

كذلك فإنه سبحانه يخلق ملائكة في أرجاء الكون كله ليقوموا -بألسنتهم الذاكرة الحامدة- بتسبيحات يؤديها كل مخلوق بلسان حاله بلا شعور منه، فالملائكة لا يعصون اللّٰه ما يأمرهم، وليس لهم إلّا العبودية الخالصة، وليس لهم أي إيجاد كان، ولا دخل لهم دون إذن، ولا تكون لهم شفاعة دون إذن منه سبحانه، لذا نالوا شرفَ: ﴿بل عبادٌ مكرَمون﴾، ﴿وَيفعلون ما يُؤمرون﴾.

❀   ❀   ❀

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى