الشعاعات

الشعاع الحادي عشر: رسالة الثمرة (1/2)

[هذا القسم من الشعاع الحادي عشر فيه توجيهاتٌ مهمةٌ باغتنام رأسمال العمر واستثمار الشباب، والاستعداد للموت، وأهم الواجبات في حياة الإنسان، كما يتحدث عن مسائل قرآنية مهمة منها: خطاب القرآن لكل إنسان في كل زمان، ووجوه إعجازه ومقاصده وحكمة تكراراته]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

 ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

إن رأس مال العمر قليل، ورحلة العمر هنا قصيرة، بينما الواجبات الضرورية والمهمات التي كُلّفنا القيام بها كثيرة، وهذه الواجبات هي كالدوائر المتداخلة المتحدة المركز حول الإنسان..فابتداءً من دائرة القلب والمعدة والجسد، والبيت والمحلة والمدينة، والبلاد والكرة الأرضية والبشرية، وانتهاءً إلى دائرة الأحياء قاطبة والعالم أجمع، كلها دوائر متداخلة بعضُها في البعض الآخر، فكل إنسانٍ له نوعٌ من الوظيفة في كل دائرةٍ من تلك الدوائر؛ ولكنَّ أعظم الواجبات وأهمها، بل أدومها بالنسبة له، هي في أصغر تلك الدوائر وأقربها إليه، بينما أصغر الواجبات وأقلها شأنًا ودوامًا هي في أعظم تلك الدوائر وأبعدها عنه. فأعظم قضيةٍ مصيريةٍ للإنسان هي: أنْ يكسب الإنسانُ بالإيمان أو يخسر دونه مُلكًا عظيمًا خالدًا ومساكنَ طيبة في جناتِ عدنٍ عرضُها السماوات والأرض.. فمن لم يَفُزْ بشهادة الإيمان ولم يَرْعَها حقَّ رعايتها فسوف يُضيِّع حتمًا تلك القضية ويخسرها، وذلك هو الخسران المبين.
إن رأس مال العمر قليل، ورحلة العمر هنا قصيرة، بينما الواجبات الضرورية والمهمات التي كُلّفنا القيام بها كثيرة، وهذه الواجبات هي كالدوائر المتداخلة المتحدة المركز حول الإنسان..
فابتداءً من دائرة القلب والمعدة والجسد، والبيت والمحلة والمدينة، والبلاد والكرة الأرضية والبشرية، وانتهاءً إلى دائرة الأحياء قاطبة والعالم أجمع، كلها دوائر متداخلة بعضُها في البعض الآخر، فكل إنسانٍ له نوعٌ من الوظيفة في كل دائرةٍ من تلك الدوائر؛ ولكنَّ أعظم الواجبات وأهمها، بل أدومها بالنسبة له، هي في أصغر تلك الدوائر وأقربها إليه، بينما أصغر الواجبات وأقلها شأنًا ودوامًا هي في أعظم تلك الدوائر وأبعدها عنه.
فأعظم قضيةٍ مصيريةٍ للإنسان هي:
أنْ يكسب الإنسانُ بالإيمان أو يخسر دونه مُلكًا عظيمًا خالدًا ومساكنَ طيبة في جناتِ عدنٍ عرضُها السماوات والأرض.. فمن لم يَفُزْ بشهادة الإيمان ولم يَرْعَها حقَّ رعايتها فسوف يُضيِّع حتمًا تلك القضية ويخسرها، وذلك هو الخسران المبين.

 

المحتويات عرض

الشعاع الحادي عشر: رسالة الثمرة

 

الشعاع الحادي عشر

رسالة الثمرة

ثمرة من ثمار سجن دنيزلي

[تمهيد]

هذه الرسالة دفاع الإيمان ترفعه رسائل النور لصدّ الزندقة والكفر المطلق، فليس لنا دفاعٌ حقيقي عن قضيتنا -في سجننا هذا- إلّا هذا الدفاع، فنحن لا نسعى إلّا للإيمان.‌

وهي خاطرةُ ثمرةٍ أثمرها سجنُ “دنيزلي” في يومين من أيام الجُمَع المباركة.‌

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

 

رسالة الثمرة

﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾

﴿فَلِبثَ في السجن بضع سِنِينَ﴾

نفهم من أسرار هذه الآية الكريمة أن يوسف عليه السلام هو قدوة المسجونين ورائدُهم، فيصبح السجن إذن نوعًا من “مدرسة يوسفية”.

وحيث إن عددًا غفيرًا من طلاب النور قد دخلوا هذه المدرسة مرتين، لذا ينبغي لهم أن يتدارسوا ويُدرِّسوا قسمًا من خلاصة المسائل الإيمانية التي أثبتتها رسائل النور ولها مساسٌ بالسجن، للاسترشاد بها ولتقويم الأخلاق والسلوك في هذه المدرسة المفتوحة لتلقي التربية.

وها نحن أُولاء نبيِّن بضعًا من تلك الخلاصات.‌

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

 

[المسألة الأولى: اغتنام رأسمال الحياة]

المسألة الأولى

يمكن تلخيص هذه المسألة التي تم إيضاحُها في “الكلمة الرابعة” كما يأتي:

إن رأس مال حياتنا هو هذه الساعات الأربع والعشرون التي يَحملها إلينا اليومُ نعمةً خالصةً من نِعَم خالقنا الكريم جل جلاله، لنكسب بكل ساعةٍ من هذه الساعات ما يلزمنا، وما هو ضروريٌّ في حياتَينا كلتَيهما الدنيوية والأخروية.

[ساعة كل يوم تجعل حياتنا القصيرة خالدةً زاهرة]

وما لم نصرِف ساعةً واحدة -وهي كافية لأداء الصلوات المفروضة- لحياتنا الأخروية الخالدة، بينما نصرف ثلاثًا وعشرين ساعة في سبيل هذه الحياة الدنيا القصيرة، نكون قد ارتكبنا خطأً جسيمًا لا يستصوبُه عقلٌ سليم، فلا جَرَم أننا نعاني نتيجةَ هذا الخطأ الفادح غلظةَ القلب وقسوتَه، وانقباضَ الروح وظلمتَها، المؤدية بمجموعها إلى تعكير صفو الأخلاق، وتلّوث نقاوة الروح.. وفوق هذا تمضي حياتُنا رتيبة مملّة يائسة خاوية المعنى، فيصيبنا الضجَرُ، فلا نكاد نفيد من دروس هذه المدرسة اليوسفية، ومن محنة الامتحان والابتلاء ما يربينا ويرقى بنا، فنخسر بهذا خسرانًا مبينًا.

أما إذا صرفنا ساعةً واحدة في أداء الصلوات الخمس، فكل ساعة من ساعات الابتلاء وأوقات المحن تتحول إلى يومٍ من العبادة، فكأن الساعات الفانية قد اكتسبت -ببركة هذه الساعة- صفةَ الخلود، وأصبحت في حكم ساعاتٍ أبديةٍ باقية، فتنـزاح عن القلب سحُبُ اليأس، ويتبدد عن الروح ظلامُ القنوط، وتصبح هذه الساعة من العبادة كفّارةً لبعض ما ارتُكِب من أخطاء وذنوب، ربما كانت السببَ في الدخول إلى السجن؛ وبذلك نكتشف حكمةَ ابتلائنا، بالسجن ويغدو السجنُ مدرسةً نتلقى فيها الدروس النافعة، ونجد فيه مع إخوتنا في المصيبة والبلاء العزاءَ والسلوان.

وقد ذُكر في “الكلمة الرابعة” أيضًا مثالٌ يبين فداحةَ الخسارة التي تصيب مَن يلهث وراء حظِّه من الدنيا ويَعزِف عن الآخرة وهو: هناك من يدفع خمسًا أو عشرًا من أربع وعشرين ليرة يملكها في شراء بطاقة قمار اليانصيب -ربما يكون احتمال الفوز بها واحدًا من ألف، لوجود ألفٍٍ من المشتركين معه- بينما لا يصرف واحدًا من أربع وعشرين ساعة يملكها في شراء بطاقة تربّحه كنـزًا خالدًا أخرويًّا. علمًا أنَّ احتمال الفوز بها -للمؤمنين الذين خُتمت أعمالُهم بالحسنى- هو بيقينِ تسعٍ وتسعين وتسعمائة من ألف، كما أكد ذلك جميعُ الأنبياء والرسل الكرام عليهم السلام، وصدّقهم -كشفًا وتحقيقًا- الأولياءُ والأصفياء الذين لا يحصرهم العد.

فهذا الدرس البليغ من رسائل النور ينبغي أن يرتاح إليه مسؤولو السجن وكلُّ مَن يعنيه أمر البلاد وشؤونها، لأنه قد ثبت بالتجربة أن إدارة ألفٍ من المؤمنين المشفقين من عذابِ سجنِ جهنم والمستجيرين باللّٰه منها، هي أسهل بكثير من إدارة عشرةٍ من تاركي الصلاة، ومن فاسدي العقيدة والأخلاق، الذين لا يرتدعون إلّا بعقاب الدنيا وسجنها، ولا يميزون الحلال عن الحرام.

❀   ❀   ❀

 

[المسألة الثانية: الموت قادم وأمامنا خياران]

خلاصة المسألة الثانية

مثلما بينَتْ رسالةُ “مرشد الشباب” ووضّحتْها إيضاحًا جميلًا من أن الموت لا مفرّ منه أبدًا، بل إن مجيئه أيقنُ من مجيء الليل لهذا النهار، ومن تعاقب الشتاء لهذا الخريف. وكما أن هذا السجن مَضيفٌ مؤقت لا يكاد يفرغ حتى يُملأ من جديد، فالدنيا كذلك كالفندق، وكمنـزلِ حِلٍّ وتَرحالٍ مُقامٍ على طريق القوافل المسرعة.

فالموت الذي يفرغ كلَ مدينة من سكانها مائةَ مرة، ويدفع بهم إلى المقابر لا بد أنه يطلب شيئًا أكثر مما تطلبه هذه الحياة الفانية.

ولقد حلَّتْ رسائل النور لغز هذه الحقيقة المدهشة، وكشفَتها، وخلاصتها هي:

ما دام الموت لا يُقتل، وبابُ القبر لا يُغلق، فإن أعظم ما سيَشغل بالَ الإنسان ويُشكِّل أكبرَ معضلةٍ له هو النجاة من يد جلاد الموت هذا، والخلاص من سجن القبر المنفرد.

[حقيقة الموت والقبر]

ولقد أثبتت رسائل النور إثباتًا جازمًا -بفيضٍ من نور القرآن الكريم- أنَّ لهذه المعضلة علاجًا، وخلاصته هي أن الموت إما هو إعدام أبدي، وفناءٌ تام يصيب المرءَ وأحبته، وذوي قرباه جميعًا؛ أو هو تسريحٌ من العمل للذهاب إلى عالَم آخر أفضل، وجوازُ سفرٍ للدخول إلى قصور السعادة بشهادة الإيمان ووثيقته..

أما القبر فهو إما سجن انفرادي مُظلم وبئر سحيقة، أو هو بابٌ إلى روضاتٍ خالدةٍ ومَضيفٍ منوّرٍ بعد السراح من سجن الدنيا.

وقد أثبتت رسالة “مرشد الشباب” هذه الحقيقةَ بمثال، وهو أنه نُصبت في فناء هذا السجن أعوادُ مشانقَ تستند على جدار، خلفه دائرةٌ عظيمة تَمنح جوائزَ سخيةً يشترك فيها الناس كلُّهم، ونحن المساجين الخمسمائة ننتظر دورَنا لنُدعى إلى ذلك الميدان، فسنُدعى إليه فردًا فردًا شئنا أم أبينا، فلا نجاة!

فإما إنه سيُقال لكل منَّا: “تعال تسلَّمْ أمر إعدامك واصعد المشنقة”.

أو: “تسلّم أمر السجن الانفرادي الأبدي وادخله من هذا الباب المفتوح”.

أو يُقال: “بشراك! فقد فزتَ ببطاقةٍ تربّحك ملايين الليرات الذهبية، هيا خذها”.

فها نحن أولاء نشاهد إعلانات هذه الدعوة منتشرةً هنا وهناك، ونرى أناسًا يَصعدون المشانق بالتعاقب، ومنهم مَن يتدلى، ومنهم مَن يتخذها دَرَجًا وسُلَّمًا للبلوغ إلى دائرة الجوائز الواقعة خلفَها، وقد أصبحنا على يقينٍ جازمٍ بما يدور في تلك الدائرة -كأننا نراه رأيَ العين- استنادًا إلى ما يرويه كبارُ موظفي تلك الدائرة من رواياتٍ صادقةٍ لا تقبل الشك.

[فريقان لا ثالث لهما]

دخلَتْ سجنَنا -في هذه الأثناء- طائفتان، تحمل إحداهما آلات الطرب وقناني الخمر مع حلويات، ظاهرها العسل وباطنها السموم، دسّتها شياطينُ الإنس، وهم يقدمونها إلينا ويرغّبوننا في تناولها.

أما الجماعة الثانية ففي أيديهم كتب تربوية ومنشورات أخلاقية مع مأكولات طيبة ومشروبات مباركة، يقدمونها هدايا لنا، ويذكرون لنا بالاتفاق والاطمئنان الكامل واليقين التام:

أنَّ ما تقدمه الطائفةُ الأولى لكم من مأكولات ما هي إلّا للامتحان والاختبار، فإذا ما قبلتموها ورضيتم بها فسيكون مصيرُكم كما هو ماثل أمامكم في المشانق، أما إذا رضيتم بهدايانا -التي نقدّمها إليكم باسم حاكم هذه البلاد وبأمره- وتلوتُم ما في تلك الكتب من تعليمات وأذكار، فستنجون من الإعدام وتستلمون بطاقة الجائزة من تلك الدائرة، لتفوزوا بالربح العظيم، هديةً من السلطان وكرمًا منه وفضلًا.. صدِّقوا بما نقوله لكم واعتقِدوا به اعتقادًا راسخًا كأنكم ترونه في وضح النهار.. ولكن حذارِ من تلك الحلوى المعسّلة -المحرّمة أو المُريبة- فلو أكلتم منها تلوّت بطونُكم بمغصٍ شديدٍ من أثر السموم، فتقاسون منها الآلام لحين صعودكم المشانق.

وهكذا على غرار هذا المثال، سَيَهَب القدرُ الإلهي للمؤمنين الذين قضوا حياتهم بالطاعة، وخُتمت أعمالُهم بالحسنى: خزائنَ أبدية لا تنضُب بعد أن ينتهي أجلُهم في الدنيا.

أما أولئك المتمادون في الضلالة والفسق من دون أن يثوبوا إلى ربهم، فسيُعدَمون إعدامًا نهائيًّا (لمن لا يؤمن بالآخرة)، أو يزَجُّون في سجن انفرادي مظلم أبدي (لمن يتمادى في غيّه وسفهه مع إيمانه ببقاء الروح)، فهؤلاء يتسلمون قرار شقائهم الأبدي بيقين يبلغ تسعًا وتسعين بالمائة.

نعم، يخبر بهذا الخبر الصادق مائةٌ وأربعة وعشرون ألفًا من الأنبياء عليهم السلام1قال أبو ذر رضي اللّٰه عنه: “قلت: يا رسول اللّٰه كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًّا غفيرا”. (أحمد بن حنبل، المسند ٥/٢٦٥؛ ابن حبان، الصحيح ٢/٧٧؛ الطبراني، المعجم الكبير ٨/٢١٧؛ الحاكم، المستدرك ٢/٦٥٢؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى ١/٢٣، ٥٤).، وبين أيديهم معجزاتٌ تصدقهم، ويخبر أكثر من مائة وأربعة وعشرين مليونًا من الأولياء قدس اللّٰه أسرارهم، المقتفين آثار الأنبياء والمصدّقين بما أُخبروا به كشفًا وذوقًا، ويُخبِر به كذلك مَن لا يحصيهم العدُّ من العلماء المحققين2إن أحد أولئك العلماء المحققين هو: رسائل النور التي ألجمت أعتى الفلاسفة الماديين، وأفحمت أشد الزنادقة تمردًا، طوال العشرين سنة التي خلت، وما تزال قائمة على قدم وساق في ميدان التحدي والمبارزة، وهي في متناول الجميع، فبوسع أي واحد قراءتها دون تفنيدها. (المؤلف). والمجتهدين والصديقين الذين أثبتوا دعواهم وتصديقهم عقلًا وفكرًا بالبراهين الدامغة والحجج القاطعة، فأخبروا يقينًا ما أخبر به أولئك الأفذاذُ من تلكما الطائفتين.

فهؤلاء الطوائف الثلاث العظيمة والجماعات الغفيرة من أهل الحق والحقيقة -وهم روّاد الإنسانية وشموسُ البشرية وأقمارها- يخبرون جميعًا بتلك الحقيقة إجماعًا وتواترًا.. فيا خسارة من لا يهتم بأوامرهم، ولا يسلك الصراط السوي المؤدي إلى السعادة الأبدية بإرشاداتهم، ولا يكترث بمصيره المؤلم -وهو بيقينٍ يبلغ تسعًا وتسعين بالمائة- في حين أنه لا يسلك طريقًا فيه احتمالٌ واحدٌ من الخطورة واستنادًا على قول مخبر واحد، بل يستبدل به طريقًا آخر ولو كان أطول.

فهؤلاء أشبه بسِكِّيرٍ أو معتوهٍ شقي يلتهي بلَسع الذباب عن انقضاض وحوش كاسرة عليه، إذ قد فَقَد عقلَه وأضاع قلبه وأفسد روحه ودمّر إنسانيته؛ لأنه رغم التبليغات الصادقة الصادرة من أولئك المخبرين الذين لا يحصرهم العدّ فقد ترك الطريق الأقصر والأسهل المؤدي إلى الفوز المحقق بالجنة والسعادة الأبدية، واختار طريقًا أطول منه وأوعر وأضيق، والذي يؤدي به إلى سجنِ جهنم والشقاء الأبدي حتمًا.

بينما الإنسان -كما قلنا- لا يلِج طريقًا قصيرًا في الدنيا فيه احتمالُ واحدٍ بالمائة من الخطورة، أو فيه سجنُ شهرٍ واحد وبناءً على كلامِ مُخبِرٍ واحد، وقد يكون كاذبًا، بل يفضِّل عليه طريقًا آخر ولو كان طويلًا، أو من دون نفع، وذلك لمجرد خلوِّه من الضرر.

فما دامت حقيقة الأمر هذه، فينبغي لنا نحن معاشر المبتلين بالسجن أن نَقبل بكل رضى وسرور هدايا الطائفة الثانية لنثأر لأنفسنا من مصيبة السجن؛ إذ كما أن لذةَ دقيقة في الانتقام، ومتعةَ بضع دقائق أو ساعات في السفاهة قد زَجّت بنا إلى السجن، فيقضي فيه بعضُنا خمس عشرة سنة، والبعض الآخر عشر سنوات، وآخرون خمس سنوات، أو سَنةً أو سنتين أو ثلاثًا من الأحكام.. فعلينا إذن -وأنفُ السجن راغم- أن نحوِّل بقبولنا هدايا القافلة الثانية، هذه الساعاتِ القليلةَ إلى أيامٍ من العبادة مثلها، ونحوِّل سنتين أو ثلاثًا من عقابنا إلى عشرين وثلاثين سنة من العمر الخالد، ونبدِّل بعشرين سنةً أو ثلاثين سنةً من مكوثنا في السجن ملايين السنوات الخالدة، فتكون الأحكام الصادرة علينا وسيلةَ نجاةٍ من سجن جهنم؛ وحينها تبتسم حياتنا الأخرى وتُسَرُّ إزاء بكاء دنيانا وحزنِها، ونكون بذلك قد ثأرنا لأنفسنا من تلك المحنة وأظهرنا حقًّا أن السجن مدرسة تربوية لتقويم الأخلاق.

فليشاهد مسؤولو السجن ومن يتولَّون أمره، أن من ظنّوهم مجرمين قتلَة، وحسِبوهم سفهاء مخلّين بالنظام، قد أصبحوا طلابَ مدرسةٍ تربويةٍ مباركةٍ يتعلمون فيها الأدب الجميل والخلق القويم، وغدَوا أعضاءً نافعين للبلاد والعباد.. فليشكروا ربهم أجزل شكر.

❀   ❀   ❀

 

[المسألة الثالثة: الإنسان والزمان بمنظار الإيمان]

المسألة الثالثة

[مشهد حزين في حادثة ذات عبرة]

وهي حادثة ذات عبرة، سبق ذكرها في “مرشد الشباب” مفصلًا، وخلاصتها هي:

كنت في أحد أيام عيد الجمهورية جالسًا أمام شباك سجن “أسكي شهر” الذي يُطِل على مدرسةٍ ثانوية، وكانت طالباتها اليافعات يلعبن ويرقصن في ساحة المدرسة وفِنائها ببهجة وسرور، فتراءتْ لي فجأةً على شاشةٍ معنويةٍ ما يَؤول إليه حالهن بعد خمسين سنة، فرأيت أن نحوًا من خمسين من مجموع ما يقارب الستين طالبة يتحولن إلى تراب ويعذَّبن في القبر، وأن عشرة منهن قد تحولن إلى عجائز دميمات بلغن السبعين والثمانين من العمر، شاهت وجوههن وتشوه حسنهن، يقاسين الآلام من نظرات التقزز والاستهجان من الذين كنَّ يتوقعن منهم الإعجاب والحب، حيث لم يَصُنَّ عفتهن أيام شبابهن!

نعم، رأيت هذا بيقين قاطع، فبكيت على حالهن المؤلمة بكاء ساخنًا، أثار انتباه البعض من زملاء السجن، فأسرعوا إليّ مستفسرين.

فقلت لهم: “دعوني الآن وحالي.. انصرِفوا عني..”.

أجل، إن ما رأيتُه حقيقةٌ وليس بخيال، إذ كما سيَؤول هذا الصيف والخريف إلى الشتاء، فإن ما خلف صيف الشباب ووراء خريف الشيب، شتاءَ القبر والبرزخ.

فلو أمكن إظهار حوادث ما بعد خمسين سنةً من المستقبل مثلما يمكن ذلك لحوادث الخمسين سنة الفائتة -بجهازٍ كجهاز السينما- وعُرِضت حوادثُ أهل الضلالة وأحوالُهم في المستقبل، إذن لتقززوا ولتألموا ولبَكَوا بكاءً مرًّا على ما يفرحون منه الآن ويتلذذون به من المحرّمات في الوقت الحاضر.

[خطة الشيطان للإغراق في الشهوات]

وبينما كنت غارقًا في التأمل، ومنصرفًا إلى مشاهد الشاشة المعنوية المعروضة أمامي في سجن “أسكي شهر”، إذ انتصب أمامي شخصٌ معنويٌّ كأنه يمثل الشيطان الإنسي، يدعو إلى السفاهة، ويروّج للضلالة قائلًا لي: “نحن نريد أن نستمتع بجميع لذائذ الحياة ونمتّع الآخرين.. بها دعنا وشأننا، وإليك عنا”.

[الماضي والمستقبل بمنظار الضلال]

فأجبته قائلًا: “ما دمتَ ترمي بنفسك في أحضان الضلالة والسفاهة حصولًا على لذة جزئية وذوق ضئيل متناسيًا الموت غير آبهٍ به، إذن فاعلم أنَّ “الماضي” كله -حسب ضلالتك- قد مات واندثر وانتهى إلى العدم، فهو مقبرةٌ عظيمةٌ موحشةٌ مرعبة، قد رَمَّتْ فيها الجثثُ، وبَلِيَتْ فيها الآثار، لذا إن كانت لك مُسكةٌ من عقل أو كنت تملك قلبًا ينبض بالحياة فإن الآلام المتولدة -بمقتضى ضلالتك- من الموت الأبدي، ومن أنواع الفراق غير المحدود لأقاربك وأحبابك غير المعدودين تزيل تلك اللذة الجزئية المسكرة التي تتذوقها في فترة قصيرة جدًّا.

وكما أنَّ “الماضي” معدوم بالنسبة لك، فـ”المستقبل” معدوم لك كذلك، وذلك بسبب انعدام إيمانك، بل هو ساحةٌ موحشةٌ رهيبةٌ مظلمةٌ ميتة.. فما من أحدٍ من الموجودات المسكينة يأتي ويبرز إلى الوجود -مارًّا بالحاضر- إلّا ويَقبضه جلادُ الموت ويقذِفه إلى العدم، وأنت لكونك مرتبطًا بتلك العوالم -بحكم عقلك- فإن المستقبل يَصُب على رأسك الملحد مطرَ السَّوء من الآلام الموجعة والقلق الشديد والاضطرابات العنيفة، حتى يجعل جميع لذائذك الجزئية السفيهة أثرًا بعد عين.

[الماضي والمستقبل بمنظار الإيمان]

ولكن ما إن تنبذ طريق الضلالة وتترك سلوك السفاهة داخلًا حظيرة الإيمان التحقيقي، مستقيمًا عليه، حتى ترى بنور الإيمان أنَّ ذلك الماضي السحيق ليس بمعدوم وليس بمقبرة تُبلي كلَ شيء وتفنيه، بل هو عالم نوراني موجود فعلًا، الذي ينقلب إلى المستقبل، وهو ساحة انتظار الأرواح الباقية المترقبة للبعث، دخولًا إلى فردوس السعادة الأبدية المعدّة لهم؛ لذا يذيقك -وأنت ما زلت في الدنيا- لذةَ الجنة المعنوية حسب درجة إيمانك.

كما أن المستقبل ليس مؤلمًا ولا مقلِقًا، وليس محلًّا للوحشة، ولا واديًا مظلمًا مخيفًا، بل هو بنور الإيمان منازلُ سعادة أبدية للرحمن الرحيم ذي الجلال والإكرام الذي وسعت رحمته كل شيء وأحاط كرمه بكل شيء؛ فكما فرشَ سبحانه الربيعَ والصيفَ مائدتَين مملوءتَين بأنواعِ النِّعم والمطعومات، فقد بَسَط سبحانه موائد ضيافته الفاخرة في تلك القصور العوالي وفتح معارض إحسانه وآلائه العميمة هناك، والناس يُشَوَّقون إليها بل يساقون.

نعم، هكذا يراها المؤمن بالشاشة الإيمانية -كلٌّ حسب درجته- وبوسعه أن يشعر شيئًا من لذائذ ذلك النعيم المقيم.

فإذن: اللذة الحقيقية الصافية التي لا يكدرها ألَم، إنما هي في الإيمان، وبالإيمان وحده يمكن الفوز بها.

[الإيمان شفاء معنوي ولذةٌ خالصة]

وهناك ألوفٌ من الثمرات اللذيذة للإيمان في هذه الدنيا، وألوفٌ من الفوائد والنتائج، إلّا أننا سنبين واحدة منها بمثال:

تصور -أيها الأخ- أن ابنك الوحيد الذي تُحبُّه كثيرًا جدًّا طريحُ الفراش يعاني من سكرات الموت، وأنت تغوص في تفكير يائس مرير وتتألم ألمًا موجعًا شديدًا من فراقه الأبدي المؤلم.. تصوَّر -وأنت في هذه الحالة اليائسة- إذا بطبيب حاذق -كالخضر أو لقمان عليهما السلام- يأتي ويسقي الطفل دواءً مضادًّا للسموم، وإذا به يفتح عينيه فرحًا جذلًا ببهجة الحياة، وقد نجا من قبضة الموت.. كم يكون يا ترى فرحُك وسرورك اللذان يغمرانك؟

كذلك الحال في أولئك الملايين المدفونين في مقبرة الماضي الذين تحبهم -كهذا الطفل- حبًّا كثيرًا وترتبط معهم بوشائج، فبينما هم على وشك أن يُبادوا ويَفنَوا من الوجود في مقبرة الماضي -في نظرك- إذا بحقيقة الإيمان تَبعث من شُبَّاك القلب نورًا -كما فعل لقمان الحكيم مع ذلك الطفل- إلى تلك المقبرة الواسعة التي يُظَن أنها مقر الإعدام، وإذا الأموات قيامٌ أحياءٌ بذلك النور -في عالم البرزخ- ينادون بلسان الحال” : لسنا أمواتًا.. ولن نموت أبدًا.. وسنلتقي عما قريب”.

نعم، مثلما يَبعث شفاءُ الطفل فرحًا وبهجة لا حدَّ لهما بعد اليأس والقنوط، كذلك الأمر هنا، مما يجعلنا نتيقن أن الإيمان -ببثه هذا الفرح والسرور في دنيانا هذه- يُثبت أن حقيقته بذرةٌ تحمل من الحيوية ما لو تجسَّمتْ لنبتت عليها جنةٌ خاصةٌ لكل مؤمن، ولأصبحتْ له شجرةَ طوبى.

[لا يمكنك أن تتلذذ بالحياة كما يتلذذ الحيوان]

هكذا قلت لذلك الشيطان الإنسي العنيد؛ إلّا أنه انبرى لي قائلًا: “دعنا نحيا ولو كالحيوان، غافلين عما يدور حولنا من هذه الأمور الدقيقة، ولنُمْضِ حياتَنا بلذةِ اللهو ونشوةِ اللعب”.

فأجبته: إنك لا تقاس بالحيوان، ولن تكون مثلَه؛ إذ ليس للحيوان ما يفكِّر به من ماضٍ ومستقبل، فلا يجد الحيوان مما مضى ألمًا ولا أسفًا، ولا يأتيه قلقٌ ولا خوفٌ من المستقبل، لذا يَجد لَذته كاملةً فيشكر خالقه الكريم. بل حتى الحيوانُ المعَدُّ للذبح لا يحس إلّا بألم السكين وهي تمر على حلقومه، وسرعان ما يزول هذا الإحساس، فينجو من ذلك الألم.. فيا للرحمة الإلهية والشفقة الربانية ما أعظمَها تجليًا في إخفاء الغيب وسَتر المصائب والبلايا.. ولا سيما في الحيوانات والبهائم.

ولكن أيها الإنسان.. لقد خرج شيء من ماضيك ومستقبلك من الغيب بحُكمِ ما تحمله من عقل، فأنت محرومٌ كليًّا مما تتنعم به الحيوانات من راحة واطمئنان بانسدال ستار الغيب أمامها، فالحسرات والآهات الناشئة مما مضى، وأنواع الفراق الأليم والمخاوف الناجمة من المستقبل تزيل لذتك الجزئية وتُبيدها وتهوي بك في درجة أدنى بكثيرٍ من الحيوان من حيث اللذة.

فما دامت الحقيقة هكذا فما عليك إذن إلّا أن تتبرأ من عقلك وترميه خارجًا وتَعُدَّ نفسك حيوانًا فتنجو، أو تُنوِّر عقلَك بنور الإيمان، وتنصت إلى الصوت العذب للقرآن الكريم، فتكونَ أرقى من الحيوان وأرفع، مغتنِمًا لذائذَ نقيةً صافيةً طاهرةً وأنت ما زلت في هذه الدنيا الفانية.

فألزمتُه بهذه الحجة.

[لا يمكنك أن تعيش كملاحدةِ الأجانب]

ولكنه اعترض قائلًا: “سنعيش في الأقل مثل ملاحدة الأجانب”.

فقلت له جوابًا: “لن تكون حتى مثل أولئك الملاحدة الأجانب، لأنهم إن أنكروا نبيًّا واحدًا فإنهم يؤمنون بسائر الأنبياء. وحتى إذا لم يعرفوا أحدًا من الأنبياء، فقد يكون لهم إيمانٌ باللّٰه.. وإن لم يكن لهم هذا الإيمان أيضًا، فلربما لهم ما يوصلهم إلى الكمال من سجايا حميدة وخصال إنسانية.

أما إذا أنكر المسلمُ خاتمَ النبيين ﷺ، وجحد بالدين الذي لا دين غيرَه في الحق والشمول، وفسَقَ عن دائرة هدايته، وحلَّ رقبته منها، فلا يرضى بنبي آخر، بل لا يقبل الإيمان باللّٰه، لأنه ما عرف سائرَ الأنبياء ولا اهتدى إلى الإيمان باللّٰه إلّا عن طريقه ﷺ وبتبليغه وإرشاده وهديه.. لذا لا يبقى في قلبه شيء من أولئك دون الإيمان به ﷺ.

ومن هنا كان الناس من سائر الأديان منذ زمن سحيق يدخلون دين الإسلام أفواجًا، بينما لم يحدث أن أصبح مسلم واحد قط يهوديًّا حقيقيًّا ولا مجوسيًّا ولا نصرانيًّا، وربما يصبح ملحدًا فاسد الأخلاق والسجايا مضرًّا بالبلاد والعباد”.

هكذا أقمتُ الحجة على ذلك العنيد من أنه لا يستطيع التشبه حتى بملاحدة الأجانب.. ولمّا لم يجد ما يستند إليه، خَنَس وولى إلى جهنم وبئس المصير.

فيا زملائي المجتمعين في هذه المدرسة اليوسفية.. ما دامت الحقيقة هي هذه، ورسائل النور قد نشرت نورَها -ولا تزال- منذ عشرين سنة وهي تكسر عناد المتمردين وترغمهم على الإيمان، فعلينا إذن التمسك بالإيمان والصراط المستقيم السهل النافع السليم لدنيانا ومستقبلنا وآخرتنا وبلادنا وأمتنا، وذلك بأن لا نقتل أوقاتنا فيما لا يعني من ترهات الخيال وسفساف الآمال، بل نحييها بتلاوة ما نعلمه من سور القرآن الكريم آناء الليل وأطراف النهار، وبتعلم معانيها من إخواننا العالمين بها، وبقضاء ما فاتنا من الصلوات المكتوبة، وبكسب الأخلاق الحميدة من بعضنا البعض، فلعل اللّٰه سبحانه يجعلنا ممن يغرسون في هذا السجن الغراسَ لتخرج منه أشجارٌ مثمرة نافعة. ونسعى جاهدين ليكون مسؤولو السجن أساتذة مرشدين يهيئون في هذه المدرسة اليوسفية رجالًا إلى الجنة، ومشرفين طيبين يتولون حسن توجيههم، وليسوا زبانية عذابٍ على جناة قتلة.

❀   ❀   ❀

 

[المسألة الرابعة: أهم الواجبات أَولى بالاشتغال]

المسألة الرابعة

سألني يومًا إخواني الذين يتولون خدمتي قائلين:

لقد أخذت الحربُ العالميةُ باهتمام الناس، وشغلتِ الكرةَ الأرضيةَ وأوقعتْها في اضطرابٍ وقلق، وهي ذاتُ علاقةٍ بمقدَّرات العالم الإسلامي، إلَّا أننا نراك لا تسأل عنها رغم مرور خمسين يومًا على نشوبها -بل سبع سنين3هذه الجملة المعترضة تعود إلى سنة ١٩٤٦م.– في الوقت الذي نرى متدينين وعلماء يدَعون الجامع والجماعة مهرعين إلى استماع الراديو، فهل هناك قضية أعظم منها تشغل بالك؟ أم أن الانشغال بها فيه خسارة وضرر؟

[دائرة الوظيفة ودائرة الاهتمامات]

فأجبتهم: إن رأس مال العمر قليل، ورحلة العمر هنا قصيرة، بينما الواجبات الضرورية والمهمات التي كُلّفنا القيام بها كثيرة، وهذه الواجبات هي كالدوائر المتداخلة المتحدة المركز حول الإنسان..

فابتداءً من دائرة القلب والمعدة والجسد، والبيت والمحلة والمدينة، والبلاد والكرة الأرضية والبشرية، وانتهاءً إلى دائرة الأحياء قاطبة والعالم أجمع، كلها دوائر متداخلة بعضُها في البعض الآخر، فكل إنسانٍ له نوعٌ من الوظيفة في كل دائرةٍ من تلك الدوائر؛ ولكنَّ أعظم الواجبات وأهمها، بل أدومها بالنسبة له، هي في أصغر تلك الدوائر وأقربها إليه، بينما أصغر الواجبات وأقلها شأنًا ودوامًا هي في أعظم تلك الدوائر وأبعدها عنه.

فقياسًا على هذا: يمكن أن تتناسب الوظائف والواجبات تناسبًا عكسيًّا مع سعة الدائرة، أي كلما صغرت الدائرة وقربت عظُمت الوظيفة، وكلما كبُرت الدائرة وبَعُدت قلّت أهميةُ الوظيفة.

ولكن لمّا كانت الدائرة العظمى فاتنةً جذابة، فهي تشغل الإنسان بأمور غير ضرورية له، وتَصرف فكرَه إلى أعمال لا تَعنيه بشيء، حتى تجعله يهمل واجباته الضرورية في الدائرة الصغيرة القريبة منه، فيُهدر -عندئذٍ- رأسَ مال عمره، ويضيّع حياته سُدًى.

زِد على ذلك قد يميل قلبُه وينحاز إلى إحدى الجهتين المتخاصمتين لتَـتَـبُّعه بلهفةٍ أخبارَ الحرب الطاحنة بينهما، فلا يجد في نفسه إنكارًا لمظالم تلك الجهة، بل يرتاح إليها، ويكون شريكًا لها في ظلمها.

[أهم قضيةٍ يجب على كل إنسانٍ أن يشتغل بها أولًا]

أما الجواب عن النقطة الأولى فهو أنَّ أمام كل إنسان -ولا سيما المسلم- مسألةً مهمة وحادثة خطيرة، هي أعظم من الصراع الدائر بين الدول الكبرى لأجل السيطرة على الكرة الأرضية، تلك المسألة هي من الأهمية والخطورة ما لو امتلك الإنسان العاقل قوةَ الألمان والإنكليز وثروتَهما معًا، لَما تردد في أن يضعها كلَّها لأجل كسب تلك القضية المبتغاة.

تلك القضية هي التي أَعلنها مائةُ ألفٍ من المُصطَفَين الأخيار، ورفع رايتَها ما لا يحد من نجوم البشرية ومرشديها المستندين إلى آلاف من مواثيق رب العالمين ومن وعوده وعهوده، بل لقد شاهدها قسمٌ منهم عِيانًا، تلك القضية قضيةٌ مصيريةٌ للإنسان وهي:

أنْ يكسب الإنسانُ بالإيمان أو يخسر دونه مُلكًا عظيمًا خالدًا ومساكنَ طيبة في جناتِ عدنٍ عرضُها السماوات والأرض.. فمن لم يَفُزْ بشهادة الإيمان ولم يَرْعَها حقَّ رعايتها فسوف يُضيِّع حتمًا تلك القضية ويخسرها، وذلك هو الخسران المبين.

[خسارةٌ كبرى]

ولقد ضيَّع الكثيرون في عصرنا هذا -ممن ابتُلوا بطاعون المادية- قضيتَهم هذه، حتى كشف أحدُهم -وهو من أهل العلم والكشف- وشاهد أنَّ أفرادًا قلائل فقط من كل أربعين شخصًا -في مكان ما- هم الذين نجَوا بإيمانهم في سكرات الموت وخُتمت حياتهم بالحسنى، أما الباقون فهلكوا!

تُرى لو عُوِّض أحدُ هؤلاء سلطانَ الدنيا ومُلكَها وزينتَها بديلًا عن تلك القضية العظمى، أفيكون هذا البديل كفوًا لما فاته؟ أو يَسدُّ مَسَدَّه بحالٍ من الأحوال؟ كلا!

ولهذا فنحن معاشرَ طلبة النور نعلم يقينًا أنّ ترْكَ خدماتٍ عظيمةٍ تُكسِب لنا تلك القضية، وإهمالَ مهماتِ وكيلها الذي يصونها لتسعين بالمائة، والانشغالَ عنها بما لا يعني من أمورٍ خارجيةٍ واهتماماتٍ تافهة كأنَّ الدنيا خالدة، ما هو إلّا من سخافة العقل وجنونه.

فنحن على يقينٍ تامٍّ واطمئنانٍ كاملٍ من هذا، لذا لو ملَكَ أحدُنا عقلًا وإدراكًا للأمور أضعافَ أضعافِ ما يملكه الآن لبذَله كله فيما يَلزم تلك القضية وفي سبيلها.

[رسائل النور طوق النجاة]

فيا إخوتي الحديثي العهد بمصيبة السجن.. إنكم لم تطَّلعوا بعدُ على رسائل النور كما اطَّلع عليها إخواني السابقون الذين دخلوا السجن معنا، فإني أُسمعكم قولًا وأُشهِد عليه أولئك الإخوة جميعًا أُلوفًا من أمثالهم، وقد قلته مرارًا، وأثبتُّه تكرارًا:

إن رسائل النور قد أكسبَتْ تسعين بالمائة منهم تلك القضية العظمى، وهي التي سلَّمتْ وثيقةَ الفوز وشهادتَه -وهي الإيمان التحقيقي- لعشرين ألفًا من الناس خلال عشرين سنة خلت.

فلا غرو.. فقد نبعَتْ من المعجزة المعنوية للقرآن الكريم، وأصبحتْ في مقدمةِ وكلاءِ القضيةِ العظيمةِ والمدافعين عنها في هذا الزمان، فرغم انقضاء ثماني عشرة سنة والأعداءُ والزنادقة والماديون يحيكون أنواعًا من الدسائس والمكر الخبيث، وما زالوا يحرّضون قسمًا من الموظفين علينا مستغفلين إياهم في سبيل إبادتنا حتى زجَّونا في غياهب السجون مثل هذه المرة، إلّا أنهم لم يفعلوا شيئًا يُذكر، ولن يفعلوا بإذن اللّٰه، ذلك لأنهم لم يتمكنوا من أن يتعرضوا لقلعةِ رسائلِ النورِ الفولاذية، ولا أن يمسوا أعتدتَها البالغةَ مائةً وثلاثين عتادًا (رسالة) سوى رسالتين أو ثلاث منها.

لذا فمن أراد أن يُوكِّل محاميًا يدافع عن قضيته يكفي أن يتحصن بها ويقتبس من نورها.

فيا أيها الإخوة.. لا تخافوا، إن رسائل النور لن تُمنَع عن الأنظار، ولن تُحجَب عن الرؤية، ولن تُرفع من الأوساط بإذن اللّٰه، إذ يتداول أجزاءَها المهمة -ما عدا رسالتين أو ثلاثة- نوابُ البرلمان وأركان الدولة بحرية تامة.

وسيأتي ذلك اليوم الذي يوزِّع فيه الموظفون والمدراء المحظوظون إن شاء اللّٰه رسائلَ النور على المسجونين كما يوزِّعون عليهم الخبز والعلاج، وسيحوِّلون السجون إلى مدارس إرشادٍ وتربيةٍ وإصلاح.

❀   ❀   ❀

 

[المسألة الخامسة: الشباب موردٌ محدود.. كيف نجعله مستمرًّا؟]

المسألة الخامسة

كما فُصّل في رسالة “مرشد الشباب”: إن الشباب ذاهب وآفل، وسيزول لا محالة؛ إذ كما أن الصيف يَخْلُفه الخريفُ والشتاء، والنهارَ يعقبه المساءُ والليل، فالشباب كذلك سيتحول إلى مشيبٍ وإلى الموت، بمثل هذه الحقيقة المحتمة.

فإذا ما بذل الشاب ما يملك من طاقةٍ مؤقتةٍ في سبيل الخير والصلاح، ضِمن دائرة الطُّهر والعفة والاستقامة، فإن الأوامر السماوية كلَّها تبشِّره بأنه سيَغْنم به شبابًا باقيًا لا زوال له.

[بعض أخطاء الشباب قد تكون مدمِّرة]

و كما أن غضبَ دقيقةٍ واحدةٍ قد يدفع الإنسان إلى ارتكاب جريمةِ قتلٍ فيقضي مقاساة ملايين من الدقائق في مقاساة من عذاب السجن، كذلك نشوةُ الشباب وسفاهته، وأذواقه العابرة -في غير ما أحلّ اللّٰه- تسبب له آلامًا أكثر وأعمق في ذات اللذة نفسها، فضلًا عن العقاب الرهيب في الآخرة، والعذابِ المرير في القبر، وعلاوةً على معاناة الحسرات العميقة المنبعثة من زوال اللذة، والعقاب في الدنيا المترتب على الذنوب والآثام. يشهد بصدق وجود هذه الآلام في اللذة نفسها كلُّ شاب حصيف، بما مر عليه من تجارب.

فمثلًا: إن الحُب المحرّم، أو العشق لغير وجه الحق، فيه من الآلام ما ينغّص اللذةَ الجزئية فيه؛ منها الشعور بألم الغيرة والحسد، ومنها ألم الفراق عن المعشوق، ومنها ألم عدم مقابلة المحبة بالمثل.. وغيرها كثير من المنغصات التي تجعل تلك اللذة الجزئية بحكم عسل مسموم.

[حسرات الشباب وآهاته]

فإن كنت تريد أن تفهم أنَّ سوء تصرّف الشباب وإسرافَهم في أمرهم يسبب فيهم من الأمراض ما يسوقهم إلى المستشفيات أو المقابر..

وإن كنت تريد أن تفهم أن غرور الشباب وطيشهم يدفعهم إلى السجون..

وإن كنت تريد أن تفهم أن ما يصيبهم من آلام معنوية وهموم نفسية -من الخواء الروحي والجوع القلبي والفراغ- يسوقهم إلى أبواب الحانات والملاهي..

نعم، إنْ كنت تريد أنْ تتحقق من هذا، فاسأل المستشفيات والسجون والخمَّارات والمقابر، فستسمع حتمًا أنات وآهات، وبكاءً مريرًا، وحسرات الندم، وأصوات الأسى والأسف، يُطلقها -على الأغلب- شبابٌ أشقياء، تلَقَّوا الصفعات الموجِعة والضربات الأليمة لخروجهم عمّا أباح اللّٰه لهم من الطيبات بدافعِ نـزواتهم وإسرافهم وسيِّءِ أعمالهم، وارتكابهم المحرمات، وانسياقهم وراء اللذات المشؤومة.

[سرور الشباب وبشائره]

بينما إذا ما قضى الشاب عهد شبابه بما أمره اللّٰه به واتّبع الصراط السوي واستقام عليه، فإنه يجعله أحلى نعمة إلهية وأجمل هبة رحمانية، ويتخذه سبيلًا قويمًا ممهدًا إلى الصالحات من الأعمال، ولأثمر له كذلك شبابًا ناضرًا، وفتوة خالدة دائمة في الآخرة بدلًا من هذا الشباب الفاني الزائل.. ذلك ما تبشّرنا به الكتب السماوية والصحف المنـزلة جميعها، وفي مقدمتها القرآن الكريم بآياته المحكمة الكريمة.

فما دامت هذه هي الحقيقة.. وما دام ميدانُ الحلال كافيًا ووافيًا للأُنس والمتعة والنشوة.. وما دامت اللذة الواحدة -ضمن المحرمات- تذيق صاحبَها ألمًا يدوم سنة واحدة من عذاب السجن وأحيانًا عشر سنوات.. فيلزم إذن قضاء عهد الشباب بالعفة والطهر والاستقامة على الصراط السوي أداءً لشكر تلك النعمة اللذيذة المهداة، بل هذا هو الألزم.

❀   ❀   ❀

[المسألة السادسة: عرِّفْنا على خالقنا]

انتقل إليها عبر الرابط: [المسألة السادسة: عرِّفْنا على خالقنا]

❀   ❀   ❀

[المسألة السابعة: علِّمْنا آخرتَنا]

انتقل إليها عبر الرابط: [المسألة السابعة: علِّمْنا آخرتَنا]

❀   ❀   ❀

[المسألة الثامنة: ثمرات الإيمان بالآخرة]

انتقل إليها عبر الرابط: [المسألة الثامنة: ثمرات الإيمان بالآخرة]

❀   ❀   ❀

[المسألة التاسعة: أركانُ الإيمان كلٌّ لا يتجزأ]

انتقل إليها عبر الرابط: [المسألة التاسعة: أركانُ الإيمان كلٌّ لا يتجزأ]

❀   ❀   ❀

[المسألة العاشرة: مباحث قرآنية نفيسة]

المسألة العاشرة

زهرة أميرداغ

(ردٌّ شافٍ ومقنعٌ على اعتراضاتٍ تَرِدُ حول التَّكرار في القرآن الكريم)

[تمهيد]

إخواني الأعزاء الأوفياء.. كنت أعاني من حالةٍ مضطربةٍ بائسةٍ حينما تناولت هذه المسألة بالكتابة، لذا اكتنفها شيءٌ من الغموض لكونها بقيت كما جاءت عفو الخاطر.

ولكني أدركتُ أن تلك العبارات المشوشة تنطوي على إعجاز رائع، فيا أسفى إذ لم أستطع أن أوفي حقَّ هذا الإعجاز من الأداء والتعبير.

فعباراتُ الرسالة مهما كانت خافتةَ الأنوار إلّا أنها تُعَدُّ -من حيث تعلقُها بالقرآن الكريم- “عبادة فكرية” و”صَدَفَة” تضم لآلئ نفيسة سامية، فالرجاء أن تصرفوا النظر عن قشرتها، وتنعمـوا النظر بما فيها من لآلئ ساطعة، فإن وجدتموها جديرة حقًّا فاجعلوها “المسألة العاشرة” لرسالة الثمرة، وإلا فاقبلوها رسالة جوابية عن تهانيكم.

ولقد اضطررتُ إلى كتابتها في غاية الإجمال والاقتضاب، لِما كنت أكابد من سوء التغذية وأوجاع الأمراض، حتى إنني أدرجتُ في جملةٍ واحدةٍ منها حقائقَ وحُججًا غزيرة، وأتممتها -بفضل اللّٰه- في يومين من أيام شهر رمضان المبارك، فأرجو المعذرة عما بَدَر مني من تقصير4هذه المسألة زهيرة لطيفة وضاءة لهذا الشهر الكريم ولمدينة “أميرداغ” ألحقت بـ”ثمرة” سجن دنيزلي على أنها “المسألة العاشرة”. فهي تزيل بإذن اللّٰه ما ينفثه أهلُ الضلالة من سموم الأوهام العفنة حول ظاهرة التكرار في القرآن. وذلك ببيانها حكمةً من حكمها الكثيرة. (المؤلف)..

[آياتُ القرآن لا تتقيد بقيد زمانٍ ولا مكان]

إخوتي الأوفياء الصادقين..

حينما كنت أتلو القرآن -المعجز البيان- في الشهر المبارك (رمضان)، تدبّرت في معاني الآيات الثلاث والثلاثين -التي وردت إشاراتُها إلى رسائل النور في “الشعاع الأول”- فرأيتُ أن كل آية منها -بل آيات تلك الصفحة في المصحف وموضوعها- كأنها تطل على رسائل النور وطلابها من جهةِ نَيلهم غيضًا من فيضها وحظًّا من معانيها.

لا سيما آية النور في سورة النور، فهي تشير بالأصابع العشر إلى رسائل النور، كما أن الآيات التي تعقبها -وهي آية الظلمات- تطل على معارضي الرسائل وأعدائها، بل تعطيهم حصة كبرى.

إذ لا يَخفى أن مقام تلك الآيات وأبعادها ومراميها غيرُ قاصرةٍ على زمانٍ ومكانٍ معيَّنَين، بل تَشمل الأزمنةَ والأمكنةَ جميعَها، أي تَخرج من جزئيةِ الأمكنة والأزمنة إلى كلِّيتهما الشاملة.

لذا شعرتُ أن رسائل النور وطلابها إنما يمثلون في عصرنا هذا -حق التمثيل- فردًا واحدًا من أفراد تلك الكلية الشاملة.

[خطاب القرآن كُلِّيٌّ واسعٌ محيطٌ شامل.. لماذا؟]

إنّ خطاب القرآن الكريم قد اكتسب الصفة الكلية والسعة المطلقة والرفعة السامية والإحاطة الشاملة؛ لصدوره مباشرة من المقام الواسع المطلق للربوبية العامة الشاملة للمتكلم الأزلي سبحانه..

ويكتسبها من المقام الواسع العظيم لمن أنـزل عليه هذا الكتاب، ذلكم النبي الكريم ﷺ الممثِّل للنوع البشري والمخاطَب باسم الإنسانية قاطبة، بل باسـم الكائنات جميعًا..

ويكتسبها أيضًا من توجُّه الخطاب إلى المقام الواسع الفسيح لطبقات البشرية كافة وللعصور كافة..

ويكتسبها أيضًا من المقام الرفيع المحيط النابع من البيان الشافي لقوانين اللّٰه سبحانه المتعلقة بالدنيا والآخرة، بالأرض والسماء، بالأزل والأبد، تلك القوانين التي تخص ربوبيته وتشمل أمور المخلوقات كافة.

[وجوهٌ من الإعجاز المعنوي للقرآن]

[إعجاز القرآن في مخاطبته جميع الطبقات في جميع الأزمنة]

فهذا الخطاب الجليل الذي اكتسب من السعة والسمو والإحاطة والشمول ما اكتسب، يُبرز إعجازًا رائعًا وإحاطة شاملة، بحيث إنَّ مراتبه الفطرية والظاهرية التي تلاطف أفهام العوام البسيطة -وهم معظم المخاطَبين- تَمنح في الوقت نفسه حصةً وافرةً لأعلى المستويات الفكرية ولأرقى الطبقات العقلية، فلا يهب لمخاطبيه شيئًا من إرشاداته وحدها، ولا يَخصُّهم بعبرةٍ من حكايةٍ تاريخيةٍ فقط، بل يخاطِب مع ذلك كلَّ طبقة في كل عصر -لكونها فردًا من أفراد دستور كلّي- خطابًا نَدِيًّا طريًّا جديدًا كأنه الآن ينـزل عليهم.

ولا سيما كثرة تكراره: ﴿الظالمين.. الظالمين﴾ وزجره العنيف لهم وإنذاره الرهيب من نـزول مصائب سماوية وأرضية بذنوبهم ومظالمهم، فيلفت الأنظار -بهذا التكرار- إلى مظالم لا نظير لها في هذا العصر، بعرضه أنواعًا من العذاب والمصائب النازلة على قوم عاد وثمود وفرعون.

وفي الوقت نفسه يبعث السلوانَ والطمأنينة إلى قلوب المؤمنين المظلومين، بذكره نجاةَ رسل كرام أمثال إبراهيم وموسى عليهما السلام.

[إعجاز القرآن في بعثه الحياة في الوجود]

[بعث القرآن الحياة في الأزمنة]

ثم إن هذا القرآن العظيم يرشد كل طبقة من كل عصر إرشادًا واضحًا بإعجاز رائع مبينًا أنّ “الأزمنة الغابرة” والعصور المندثرة التي هي في نظر الغافلين الضالين وادٍ من عدم سحيق موحش رهيب، ومقبرةٌ مندرسةٌ أليمةٌ كئيبة، يَعرضها صحيفةً حيّةً تطفح عِبَرًا ودروسًا، وعالَمًا عجيبًا ينبض بالحياة ويتدفق بالحيوية من أقصاه إلى أقصاه، ومملكة ربانية ترتبط معنا بوشائج وأواصر فيبينها -بإعجازه البديع- واضحة جلية كأنها مشهودةٌ تُعرَض أمامنا على شاشة، فتارة يأتي بتلك العصور ماثلةً شاخصةً أمامنا، وتارة يأخذنا إلى تلك العصور.

[بعث القرآن الحياة في الكون]

ويبين بالإعجاز نفسه “الكونَ” الذي يراه الغافلون فضاءً موحشًا بلا نهاية، وجماداتٍ مضطربةً بلا روح، تتدحرج في دوامة الفراق والآلام، يُبيِّنه القرآن كتابًا بليغًا، كتبه الأحدُ الصمد، ومدينةً منسقة عَمَّرها الرحمن الرحيم، ومَعرضًا بديعًا أقامه الرب الكريم لإشهار مصنوعاته.

فيبعث بهذا البيان حياةً في تلك الجمادات، ويجعل بعضها يسعى لإمداد الآخر، وكل جزء يغيث الآخر ويعينه كأنه يحاوره محاورة ودّية صميمة، فكل شيء مسخَّرٌ، وكل شيء أنيط به وظيفة وواجب.. وهكذا يلقي القرآن دروسَ الحكمة الحقيقية والعلم المنور إلى الإنس والجن والملائكة كافة.

[مزايا اختص بها القرآن لشرفه]

فلا ريب أن هذا القرآن العظيم -الذي له هذا الإعجاز في البيان- قَمِينٌ بأن يحوز خواص راقية عالية، وميزات مقدسة سامية، أمثال:

في كل حرف منه عشرُ حسنات، بل ألفُ حسنةٍ أحيانًا، بل ألوف الحسنات في أحيان أخرى..

وعجز الجن والإنس عن الإتيان بمثله ولو اجتمعوا له..

ومخاطبتُه بني آدم جميعَهم بل الكائنات برمتها مخاطبة بليغة حكيمة..

وحرصُ الملايين من الناس في كل عصر على حفظه عن ظهر قلب بشوق ومتعة..

وعدم السأم من تلاوته الكثيرة رغم تكراراته..

واستقرارُه التام في أذهان الصغار اللطيفة البسيطة مع كثرة ما فيه من جُمل ومواضع تلتبس عليهم..

وتلذذُ المرضى والمحتضرين -الذين يتألمون حتى من أدنى كلام- بسماعه، وجريانُه في أسماعهم عذبًا طيبًا..

وغيرها من الخواص السامية والمزايا المقدسة التي يحوزها القرآن الكريم، فيمنح قرّاءه وتلاميذه أنواعًا من سعادة الدارين.

[إعجاز القرآن في أسلوب إرشاده]

ويُظهر إعجازه الجميل أيضًا في “أسلوب إرشاده البليغ” حيث راعى أحسن الرعاية أميةَ مبلّغه الكريم ﷺ باحتفاظه التام على سلاسته الفطرية، فهو أجلّ من أن يدنو منه تكلف أو تصنع أو رياء -مهما كان نوعه- فجاء أسلوبُه مستساغًا لدى العوام الذين هم أكثرية المخاطبين ملاطِفًا بساطةَ أذهانهم بتنـزلاته الكلامية القريبة من أفهامهم.. باسطًا أمامهم صحائف ظاهرة ظهورًا بديهيًّا كالسماوات والأرض.. موجِّهًا الأنظار إلى معجزات القدرة الإلهية وسطور حكمته البالغة المضمرتين تحت العاديات من الأمور والأشياء.

[إعجاز القرآن في تكراراته]

ثم إنّ القرآن الكريم يُظهر نوعًا من إعجازه البديع أيضًا في “تكراره البليغ” لجملة واحدة، أو لقصة واحدة، وذلك عند إرشاده طبقاتٍ متباينةً من المخاطبين إلى معانٍ عدةٍ وعِبَرٍ كثيرةٍ في تلك الآية أو القصة، فاقتضى التكرارَ، حيث إنه كتابُ دعاءٍ ودعوة، كما أنه كتابُ ذكرٍ وتوحيد، وكلٌّ من هذا يقتضي التَّكرار.

فكل ما كُرِّر في القرآن الكريم إذن من آيةٍ أو قصةٍ إنما تشتمل على معنى جديد وعبرة جديدة.

[إعجاز القرآن في ذكر الحوادث الجزئية]

ويظهر إعجازه أيضًا عند تناوله “حوادث جزئية” وقعت في حياة الصحابة الكرام أثناء نـزوله وإرسائه بناء الإسلام وقواعد الشريعة، فتراه يأخذ تلك الحوادث بنظر الاهتمام البالغ، مبينًا بها أن أدق الأمور لأصغر الحوادث جزئيةً، إنما هي تحت نظر رحمته سبحانه، وضمن دائرة تدبيره وإرادته، فضلًا عن أنه يُظهر بها سننًا إلهية جارية في الكون ودساتير كلية شاملة.

زد على ذلك أن تلك الحوادث -التي هي بمثابة النَّوَيَات عند تأسيس الإسلام والشريعة- ستثمر فيما يأتي من الأزمان ثمارًا يانعة من الأحكام والفوائد.

[حكمة التكرار في القرآن]

[قاعدة: تكرُّر الحاجة يستلزم تكرار الخطاب]

إنّ تكرُّر الحاجة يستلزم التكرار، هذه قاعدة ثابتة.

لذا فقد أجاب القرآن الكريم عن أسئلة مكررة كثيرة خلال عشرين سنة فأرشدَ بإجاباته المكررة طبقاتٍ كثيرةً متباينة من المخاطبين.

فهو يكرر جملًا تملك ألوفَ النتائج، ويكرر إرشادات هي نتيجة لأدلة لا حدّ لها، وذلك عند ترسيخه في الأذهان وتقريره في القلوب ما سيحدث من انقلاب عظيم وتبدّل رهيب في العالم وما سيصيبه من دمار وتفتت الأجزاء، وما سيعقبه من بناء الآخرة الخالدة الرائعة بدلًا من هذا العالم الفاني.

ثم إنه يكرر تلك الجمل والآيات أيضًا عند إثباته أن جميع الجزئيات والكليات ابتداء من الذرات إلى النجوم إنما هي في قبضةِ واحدٍ أحدٍ سبحانه وضمن تصرفه جلّ شأنه.

ويكررها أيضًا عند بيانه الغضب الإلهي والسخط الرباني على الإنسان المرتكب للمظالم عند خرقه الغايةَ من الخلق، تلك المظالم التي تثير هيجان الكائنات والأرض والسماء والعناصر وتؤجّج غضبَها على مقترفيها.

[التكرار نوعٌ من الإعجاز]

لذا فإن تكرار تلك الجمل والآيات عند بيان أمثال هذه الأمور العظيمة الهائلة لا يعد نقصًا في البلاغة قط، بل هو إعجاز في غاية الروعة والإبداع، وبلاغة في غاية العلو والرفعة، وجزالة -بل فصاحة- مطابِقة تطابقًا تامًا لمقتضى الحال.

[تكرار البسملة]

فعلى سبيل المثال: إن جملةَ: ﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾ هي آية واحدة تتكرر مائةً وأربعَ عشرة مرة في القرآن الكريم، ذلك لأنها حقيقة كبرى تملأ الكون نورًا وضياء، وتشد الفرش بالعرش برباط وثيق -كما بيناها في اللمعة الرابعة عشرة- فما من أحد إلّا وهو بحاجة مسيسة إلى هذه الحقيقة في كل حين، فلو تكررت هذه الحقيقة العظمى ملايين المرات، فالحاجة ما زالت قائمةً باقيةً لا ترتوي. إذ ليست هي حاجةً يوميةً كالخبز، بل هي أيضًا كالهواء والضياء الذي يُضطر إليه ويُشتاق كل دقيقة.

[تكرار: ﴿وإن ربك لهو العزيز الرحيم﴾]

وإن الآية الكريمة: ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهوَ العزيزُ الرّحيم﴾ تتكرر ثماني مرات في سورة “الشعراء”، فتَكرار هذه الآية العظيمة التي تنطوي على ألوف الحقائق في سورةٍ تَذكُر نجاة الأنبياء عليهم السلام وعذاب أقوامهم، إنما هو لبيان أنّ مظالم أقوامهم تمس الغاية من الخلق، وتتعرض إلى عظمة الربوبية المطلقة، فتقتضي العزةُ الربانية عذابَ تلك الأقوام الظالمة مثلما تقتضي الرحمة الإلهية نجاة الأنبياء عليهم السلام.

فلو تكررت هذه الآية ألوف المرات لما انقضت الحاجة والشوق إليها، فالتكرار هنا بلاغة راقية ذات إعجاز وإيجاز.

[تكرار: ﴿فبأي آلاء ربكما تكذِّبان﴾ و ﴿ويل يومئذٍ للمكذبين﴾]

وكذلك الآية الكريمة: ﴿فبِأيّ آلاءِ رَبّكما تُكذّبان﴾ المكررة في سورة “الرحمن”، والآيةُ الكريمة: ﴿ويلٌ يَومئذٍ للمُكذبينَ﴾ المكررة في سورة “المرسلات”.. تَصرُخ كلُّ منهما في وجه العصور قاطبة وتعلن إعلانًا صريحًا في أقطار السماوات والأرض أن كفرَ الجن والإنس وجحودَهم بالنعم الإلهية، ومظالمَهم الشنيعة: يثير غضب الكائنات ويجعل الأرض والسماوات في حنق وغيظ عليهم.. ويُخِلُّ بحكمة خلق العالم والقصد منه.. ويتجاوز حقوق المخلوقات كافة ويتعدى عليها.. ويستخف بعظمة الألوهية وينكرها.

لذا فهاتان الآيتان ترتبطان بألوف من أمثال هذه الحقائق، ولهما من الأهمية ما لألوف المسائل وقوتها، لو تكررتا ألوف المرات في خطاب عام موجّه إلى الجن والإنس لكانت الضرورة قائمة بعد، والحاجة إليها ما زالت موجودة باقية.

فالتكرار هنا بلاغة موجزة جليلة ومعجزة جميلة.

[تكرارٌ في الحديث النبوي]

ومثال آخر نسوقه حول حكمة التكرار في الحديث النبوي ﷺ فالمناجاة النبوية المسماة بـ”الجوشن الكبير” مناجاة رائعة مطابِقة لحقيقة القرآن الكريم ونموذج مستخلص منه.

نرى فيها جملةَ: “سبحانك يا لا إله إلّا أنت الأمان الأمان خلصنا من النار.. أجرنا من النار.. نجّنا من النار”.

هذه الجملُ تتكرر مائة مرة، فلو تكررت ألوف المرات لما ولَّدت السأَم، إذ إنها تنطوي على أجلّ حقيقة في الكون وهي التوحيد. وأجلِّ وظيفة للمخلوقات تجاه ربهم الجليل وهي التسبيح والتحميد والتقديس.. وأعظمِ قضية مصيرية للبشرية وهي النجاة من النار والخلاص من الشقاء الخالد. وألزمِ غاية للعبودية وللعجز البشري وهي الدعاء.

وهكذا نرى أمثال هذه الأسس فيما تشتمل عليه أنواع التكرار في القرآن الكريم، حتى نرى أنه يُعبِّر أكثر من عشرين مرةً عن حقيقةِ التوحيد -صراحةً أو ضمنًا- في صحيفةٍ واحدةٍ من المصحف، وذلك حسب اقتضاء المقام، ولزوم الحاجة إلى الإفهام، وبلاغة البيان، فيهيّج بالتكرار الشوقَ إلى تكرار التلاوة، ويمد به البلاغة قوةً وسموًّا من دون أن يورث سأَمًا أو مللًا.

ولقد أوضحتْ أجزاءُ رسائل النور حكمةَ التكرار في القرآن الكريم، وبيّنتْ حُجَجَها، وأَثبتت مدى ملاءمة التكرار وانسجامه مع البلاغة، ومدى حسنه وجماله الرائع.

[حكمة اختلاف السور المكية عن المدنية من حيث البلاغة]

أما حكمة اختلاف السور المكية عن المدنية من حيث البلاغة، ومن جهة الإعجاز ومن حيث التفصيل والإجمال فهي كما يأتي:

[إعجاز أسلوب القرآن في مخاطبة الصف الأول من مخاطَبيه]

إنّ الصف الأول من المخاطبين والمعارضين في مكة كانوا مشركي قريش، وهم أميون لا كتاب لهم، فاقتضت البلاغة أسلوبًا عاليًا قويًّا وإجمالًا معجزًا مقنعًا، وتكرارًا يستلزمه التثبيت في الأفهام؛ لذا تناولت أغلبُ السور المكية أركانَ الإيمان ومراتبَ التوحيد بأسلوبٍ في غاية القوة والعلو، وبإيجازٍ في غاية الإعجاز، وكررت الإيمانَ باللّٰه والآخرة والمبدأ والمعاد كثيرًا، بل قد عبّرت عن تلك الأركان الإيمانية في كل صحيفةٍ أو آية، أو في جملةٍ واحدة، أو كلمةٍ واحدة، بل ربما عبَّرت عنها في حرف واحد، في تقديمٍ وتأخير، في تعريفٍ وتنكير، في حذفٍ وذكر.. فأثبتت أركان الإيمان في أمثال تلك الحالات والهيئات البلاغية إثباتًا جعل علماءَ البلاغة وأئمتها يقفون حيارى مبهوتين أمام هذا الأسلوب المعجز.

ولقد وضّحت رسائلُ النور ولا سيما “الكلمة الخامسة والعشرون: المعجزات القرآنية” -مع ذيولها- إعجازَ القرآن في أربعين وجهًا من وجوهها، وكذلك تفسيرُ “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز” باللغة العربية الذي يُبيِّن بيانًا رائعًا إعجازَ القرآن من حيث وجه النظم بين الآيات الكريمة، فأثبتت كلتا الرسالتين فعلًا علوَّ الأسلوب البلاغي الفذ، وسموَّ الإيجاز المعجز في الآيات المكية وسوَرها.

[آيات القرآن المدني]

أما الآيات المدنية وسوَرُها فالصف الأول من مخاطبيها ومعارضيها كانوا من اليهود والنصارى، وهم أهلُ كتابٍ مؤمنون باللّٰه، فاقتضت قواعد البلاغة وأساليب الإرشاد وأسس التبليغ أن يكون الخطاب الموجه لأهل الكتاب مطابقًا لواقع حالهم، فجاء بأسلوبٍ سهلٍ واضحٍ سلس، مع بيانٍ وتوضيحٍ في الجزئيات -دون الأصول والأركان (الإيمانية)- لأن تلك الجزئيات هي منشأ الأحكام الفرعية والقوانين الكلية، ومدار الاختلافات في الشرائع والأحكام.

لذا فغالبًا ما نجد الآيات المدنية واضحة سلسة بأسلوبٍ بيانيٍّ معجزٍ خاصٍّ بالقرآن الكريم.

ولكنَّ ذِكْرَ القرآن فذلكةً قويةً أو نتيجةً ملخصةً أو خاتمةً رصينةً أو حجةً دامغةً تعقيبًا على حادثةٍ جزئيةٍ فرعية، يَجعل تلك الحادثةَ الجزئية قاعدةً كلية عامة، ومن بعدِ ذلك يَضمن الامتثالَ بها، بترسيخ الإيمان باللّٰه الذي يحققه ذكر تلك الفواصل الختامية الملخّصة للتوحيد والإيمان والآخرة، فترى أن ذلك المقام الواضح السلس يتنور ويسمو بتلك الفواصل الختامية.

ولقد بيَّنتْ رسائلُ النور وأَثبتتْ حتى للمعاندين مدى البلاغة العالية والميزات الراقية وأنواع الجزالة السامية الدقيقة الرفيعة في تلك الفذلكات والفواصل، وذلك في عشر مميزات ونُكَتٍ في النور الثاني من الشعلة الثانية للكلمة الخامسة والعشرين الخاصة بإعجاز القرآن.

فإن شئتَ فانظر إلى: ﴿إن اللّٰه على كلِّ شيءٍ قدير﴾، ﴿إن اللّٰه بكل شيءٍ عليم﴾، ﴿وهو العزيز الحكيم﴾، ﴿وهو العزيز الرحيم﴾، وأمثالِها من الآيات التي تفيد التوحيدَ وتُذكِّر بالآخرة، والتي تنتهي بها أغلب الآيات الكريمة، ترَ أن القرآن الكريم عند بيانه الأحكام الشرعية الفرعية والقوانين الاجتماعية يَرفع نظرَ المخاطَب إلى آفاقٍ كليةٍ سامية، فيُبدِّل -بهذه الفواصل الختامية- ذلك الأسلوب السهل الواضح السلس أسلوبًا عاليًا رفيعًا، كأنه ينقل القارئ من درس الشريعة إلى درس التوحيد، فيُثبت أن القرآن كتابُ شريعة وأحكام وحكمة كما هو كتاب عقيدة وإيمان، وهو كتاب ذكر وفكر كما هو كتاب دعاء ودعوة.

وهكذا تَرى أن هناك نمطًا من جزالةِ معجزةٍ ساطعةٍ في الآيات المدنية هو غير بلاغة الآيات المكية، حسب اختلاف المقام وتنوع مقاصد الإرشاد والتبليغ.

فقد ترى هذا النمط في كلمتين فقط: ﴿ربك﴾ و﴿رب العالمين﴾، إذ يعلِّم الأحدية بتعبير ﴿ربك﴾، ويعلِّم الواحدية بـ ﴿رب العالمين﴾، فيفيد الواحدية ضمن الأحدية.

بل قد ترى ذلك النمط من البلاغة في جملة واحدة، فيريك في آيةٍ واحدةٍ مثلًا نفوذَ علمه إلى موضع الذرة في بؤبؤ العين وموقعَ الشمس في كبد السماء، وإحاطةَ قدرته التي تضع بالآلة الواحدة كلًّا في مكانه، جاعلةً من الشمس كأنها عينُ السماء، فيعقب: ﴿وهو عَليمٌ بذاتِ الصُدور﴾، بعد آيةِ: ﴿يُولج الليلَ في النهارِ ويُولجُ النّهار في الليل﴾.

أي يُعقِّب نفوذَ علمه سبحانه إلى خفايا الصدور بعد ذكره عظمةَ الخلق في السماوات والأرض وبَسْطها أمام الأنظار، فيقرُّ في الأذهان أنه يعلم خواطر القلوب وخوافي شؤونها ضمن جلال خلّاقيته للسماوات والأرض وتدبيره لشؤونها.

فهذا التعقيب: ﴿وهو عَليمٌ بذاتِ الصُدور﴾، لونٌ من البيان يحوِّل ذلك الأسلوب السهل الواضح الفطري -القريب إلى أفهام العوام- إلى إرشادٍ سامٍ وتبليغٍ عامٍّ جذاب.

[المقاصد القرآنية الأربعة وما يتبعها]

سؤال: إن النظرة السطحية العابرة لا تستطيع أن ترى ما يورده القرآن الكريم من حقائق ذات أهمية، فلا تعرف نوع المناسبة والعلاقة بين فذلكةٍ ساميةٍ تُعبِّر عن التوحيد أو تفيد دستورًا كليًّا، وبين حادثة جزئية معتادة؛ لذا يتوهم البعضُ أن هناك شيئًا من قصورٍ في البلاغة.. فمثلًا لا تَظهر المناسبةُ البلاغيةُ في ذكر الدستور العظيم: ﴿وفَوقَ كل ذي عِلم عَليم﴾ تعقيبًا على حادثةٍ جزئيةٍ وهي إيواء يوسف عليه السلام أخاه إليه بتدبيرٍ ذكي، فيرجى بيان السر في ذلك وكشف الحجاب عن حكمته؟

الجواب: إنّ أغلب السور المطولة والمتوسطة -التي كلٌّ منها كأنها قرآن على حدة- لا تكتفي بمقصَدين أو ثلاثةٍ من مقاصد القرآن الأربعة -وهي: التوحيد، النبوة، الحشر، العدل مع العبودية- بل كلٌّ منها يتضمن ماهيةَ القرآن كلَّها، والمقاصدَ الأربعة معًا، أي كل منها: كتابُ ذكر وإيمان وفكر، كما أنه كتاب شريعة وحكمة وهداية.

فكل سورةٍ من تلك السُّوَر تتضمن كُتبًا عدة، وترشد إلى دروس مختلفة متنوعة. فتجد أن كل مقام -بل حتى الصحيفة الواحدة- يفتح أمامَ الإنسان أبوابًا للإيمان يحقق بها إقرارَ مقاصد أخرى، حيث إن القرآن يذكر ما هو مسطور في كتاب الكون الكبير ويبينه بوضوح، فيرسّخ في أعماق المؤمن إحاطةَ ربوبيتِه سبحانه بكل شيء، ويريه تجلياتِها المهيبة في الآفاق والأنفس.

لذا فإن ما يبدو من مناسبة ضعيفة، يُبنى عليها مقاصدُ كلية، فتتلاحق مناسباتٌ وثيقةٌ وعلاقاتٌ قويةٌ بتلك المناسبة الضعيفة ظاهرًا، فيكون الأسلوب مطابِقًا تمامًا لمقتضى ذلك المقام، فتتعالى مرتبته البلاغية.

[ما الحكمة من إكثار القرآن الحديث عن الآخرة؟]

سؤال آخر: ما حكمة سَوق القرآن ألوفَ الدلائل لإثبات أمور الآخرة وتلقين التوحيد وإثابة البشر؟ وما السر في لفته الأنظارَ إلى تلك الأمور صراحةً وضمنًا وإشارةً في كل سورةٍ، بل في كل صحيفةٍ من المصحف وفي كل مقام؟

الجواب: لأن القرآن الكريم ينبِّه الإنسانَ إلى أعظم انقلابٍ يَحدُث ضمن المخلوقات ودائرة الممكنات في تاريخ العالم.. وهو الآخرة.

ويرشده إلى أعظم مسألةٍ تَخصُّه وهو الحامل للأمانة الكبرى وخلافة الأرض.. تلك هي مسألة التوحيد الذي تدور عليه سعادتُه وشقاوتُه الأبديتان.

وفي الوقت نفسه يزيل القرآنُ سَيْلَ الشبهات الواردة دون انقطاع، ويحطم أشدّ أنواع الجحود والإنكار المقيت.

لذا لو قام القرآنُ بتوجيه الأنظار إلى الإيمان بتلك الانقلابات المدهشة وحملِ الآخرين على تصديق تلك المسألة العظيمة الضرورية للبشر.. نعم، لو قام به آلافَ المرات وكرر تلك المسائل ملايين المرات، لا يُعدُّ ذلك منه إسرافًا في البلاغة قط، كما أنه لا يولد سأَمًا ولا مللًا البتة، بل لا تنقطع الحاجة إلى تكرار تلاوتها في القرآن الكريم، حيث ليس هناك أهم ولا أعظم مسألة في الوجود من التوحيد والآخرة.

[تكرار آيات الوعد بالجنة]

فمثلًا: إن حقيقة الآية الكريمة: ﴿انّ الذينَ آمنوا وعَملوا الصّالحات لَهُم جَناتٌ تجري من تحتها الانهارُ ذلك الفوز الكبير﴾ هي بشرى السعادة الخالدة تزفّها هذه الآية الكريمة إلى الإنسان المسكين الذي يلاقي حقيقةَ الموت كل حين، فتنقذه هذه البشرى من تصوِّرِ الموت إعدامًا أبديًّا، وتنجيه -وعالَمَه وجميعَ أحبته- من قبضة الفناء، بل تمنحه سلطنة أبدية، وتكسبه سعادة دائمة.. فلو تكررت هذه الآية الكريمة مليارًا من المرات لا يعد تكرارُها من الإسراف قط، ولا يمس بلاغتَها شيء.

وهكذا ترى أن القرآن الكريم الذي يعالج أمثال هذه المسائل القيمة ويسعى لإقناع المخاطبين بها بإقامة الحجج الدامغة، يعمّق في الأذهان والقلوب تلك التحولات العظيمة والتبدلات الضخمة في الكون، ويجعلها أمامهم سهلة واضحة كتبدل المنـزل وتغير شكله، فلا بد أن لفت الأنظار إلى أمثال هذه المسائل -صراحةً وضمنًا وإشارةً- بألوف المرات ضروري جدًّا، بل هو كضرورة الإنسان إلى نعمة الخبز والهواء والضياء التي تتكرر حاجته إليها دائمًا.

[تكرار آيات الوعيد]

ومثلًا: إن حكمة تكرار القرآن الكريم: ﴿والذين كَفروا لهُم نار جهنم﴾، ﴿والذين كَفروا لهُم نار جهنم﴾ وأمثالها من آيات الإنذار والتهديد.. وسَوْقِها بأسلوب في غاية الشدة والعنف، هي -مثلما أثبتناها في رسائل النور إثباتًا قاطعًا-: أنّ كفرَ الإنسان إنما هو تجاوز -أيُّ تجاوزٍ- على حقوق الكائنات وأغلب المخلوقات، مما يثير غضبَ السماوات والأرض، ويملأ صدورَ العناصر حَنَقًا وغيظًا على الكافرين، حتى تقومُ تلك العناصر بصفع أولئك الظالمين بالطوفان وغيره. بل حتى الجحيمُ تغضب عليهم غضبًا تكاد تتفجر من شدته كما هو صريح الآية الكريمة: ﴿إذا أُلقوا فيها سمِعوا لها شهيقًا وهي تفور ٭ تكاد تميَّزُ من الغيظِ﴾.

فلو كَرَّرَ سلطانُ الكون في أوامره تلك الجنايةَ العظمى “الكفر” وعقوبتَها بأسلوب في غاية الزجر والشدة ألوف المرات، بل ملايين المرات، بل مليارات المرات لما عُدّ ذلك إسرافًا مطلقًا ولا نقصًا في البلاغة، نظرًا لضخامة تلك الجناية العامة والتجاوز غير المحدود على الحقوق، وبناءً على حكمةِ إظهار أهمية حقوق رعيته سبحانه وإبراز القبح غير المتناهي في كفر المنكرين وظلمهم الشنيع، إذ لا يكرر ذلك لضآلة الإنسان وحقارته، بل لهَولِ تجاوزِ الكافر وعِظَم ظلمه.

[تكرار قراءة القرآن كتكرار ذكر: “لا إله إلا الله”]

ثم إننا نرى أن مئات الملايين من الناس منذ ألف ومئات من السنين يَتْلون القرآن الكريم بلهفةٍ وشوقٍ وبحاجةٍ ماسَّةٍ إليه دون مللٍ ولا سأَم.

نعم، إن كل وقتٍ وكل يومٍ إنما هو عالَمٌ يمضي وبابٌ ينفتح لعالم جديد، لذا فإن تكرار: “لا إله إلّا اللّٰه” بشوقِ الحاجةِ إليها ألوفَ المرات لأجل إضاءة تلك العوالم السيارة كلها وإنارتِها بنور الإيمان، يجعل تلك الجملة التوحيدية كأنها سراج منير في سماء تلك العوالم والأيام.

فكما أن الأمر هكذا في: “لا إله إلّا اللّٰه”، كذلك تلاوة القرآن الكريم، فهي تبدد الظلام المخيم على تلك الكثرة الكاثرة من المَشاهِد السارية، وعلى تلك العوالم السيارة المتجددة، وتزيل التشوه والقبح عن صورها المنعكسة في مرآة الحياة، وتجعل تلك الأوضاع الزائلة شهودًا له يوم القيامة لا شهودًا عليه، وتُرَقِّيه إلى مرتبةِ معرفةِ عِظَمِ جزاء الجنايات، وتجعله يدرك قيمة النُّذُرِ المخيفة لسلطان الأزل والأبد التي تشتت عناد الظالمين الطغاة، وتشوّقه إلى الخلاص من طغيان النفس الأمارة بالسوء.

فلأجل هذه الحِكَم كلِّها يكرر القرآن الكريم ما يكرر في غاية الحكمة، مظهرًا أن النذر القرآنية الكثيرة إلى هذا القدر، وبهذه القوة والشدة والتكرار حقيقة عظمى، ينهزم الشيطانُ من توهمها باطلًا، ويهرب من تخيلها عبثًا.

نعم، إنّ عذاب جهنم لهو عينُ العدالة لأولئك الكفار الذين لا يعيرون للنذر سمعًا.

[تكرار قصص الأنبياء]

ومن المكررات القرآنية “قصص الأنبياء” عليهم السلام، فالحكمة في تكرار قصة موسى عليه السلام -مثلًا- التي لها من الحِكم والفوائد ما لعصا موسى، وكذا الحكمةُ في تكرار قصص الأنبياء إنما هي لإثبات الرسالة الأحمدية، وذلك بإظهار نبوة الأنبياء جميعهم حجةً على أحقية الرسالة الأحمدية وصدقها؛ حيث لا يمكن أن ينكرها إلّا من ينكر نبوتهم جميعًا، فذكرُها إذن دليل على الرسالة.

[كل سورةٍ قرآنٌ مصغَّر]

ثم إن كثيرًا من الناس لا يستطيعون كل حين ولا يوفّقون إلى تلاوة القرآن الكريم كله، بل يكتفون بما يتيسر لهم منه، ومن هنا تبدو الحكمة واضحة في جعل كل سورة مطولة ومتوسطة بمثابة قرآن مصغر، ومن ثم تكرار القصص فيها بمثل تكرار أركان الإيمان الضرورية.

أي إن تكرار هذه القصص هو مقتضى البلاغة وليس فيه إسراف قط.

[ظهور محمد ﷺ أعظم حادثةٍ للبشرية]

زد على ذلك فإن فيه تعليمًا بأن حادثةَ ظهورِ محمد ﷺ أعظم حادثة للبشرية وأجلّ مسألة من مسائل الكون.

نعم، إنّ مَنْحَ ذات الرسول الكريم ﷺ أعظمَ مقام وأسماه في القرآن الكريم، وجَعْل “محمدٌ رسولُ اللّٰه” -الذي يتضمن أربعةَ من أركان الإيمان- مقرونًا بـ”لا إله إلّا اللّٰه” دليلٌ -وأيُّ دليلٍ- على أن الرسالة المحمدية هي أكبرُ حقيقةٍ في الكون، وأن محمدًا ﷺ لهو أشرف المخلوقات طُرًّا، وأن الحقيقة المحمدية التي تمثل الشخصية المعنوية الكلية لمحمد ﷺ هي السراج المنير للعالمَين كليهما، وأنه ﷺ أهل لهذا المقام الخارق، كما قد أُثبت ذلك في أجزاء رسائل النور بحججٍ وبراهين عديدة إثباتًا قاطعًا، نورد هنا واحدًا من ألف منها. كما يأتي:

إنّ كل ما قام به جميعُ أمة محمد ﷺ من حسنات في الأزمنة قاطبة يُكتب مثلها في صحيفة حسناته ﷺ، وذلك حسب قاعدةِ: “السبب كالفاعل”..

وإنّ تنويره لجميع حقائق الكائنات بالنور الذي أتى به لا يجعل الجنّ والإنس والملائكة وذوي الحياة في امتنان ورضى وحدهم، بل يجعل الكونَ برمّته والسماوات والأرض جميعًا راضية عنه محدّثةً بفضائله..

وإنّ ما يبعثه صالحو الأمة يوميًّا من ملايين الأدعية ومع الروحانيين من مليارات الأدعية الفطرية المستجابة التي لا تُرد -بدلالة القبول الفعلي المُشاهَد لأدعية النباتات بلسان الاستعداد، وأدعية الحيوانات بلسان حاجة الفطرة- ومن أدعية الرحمة بالصلاة والسلام عليه، وما يرسلونه بما ظفروا من مكاسب معنوية وحسنات هدايا، إنما تقدم إليه أولًا، فضلًا عما يدخل في دفتر حسناته ﷺ من أنوارٍ لا حدود لها بما تتلوه أمتُه -بمجرد التلاوة- من القرآن الكريم الذي في كل حرف من حروفه -التي تزيد على ثلاثمائة ألف حرف- عشرُ حسنات وعشر ثمار أخروية، بل مائة بل ألف من الحسنات..

نعم، إنّ علام الغيوب سبحانه قد سبق علمه وشاهد أن الحقيقة المحمدية التي هي الشخصية المعنوية لتلك الذات المباركة ﷺ ستكون كمثال شجرة طوبى الجنة، لذا أولاه في قرآنه تلك الأهمية العظمى حيث هو المستحِق لذلك المقام الرفيع. وبيّن في أوامره بأن نيل شفاعته إنما هو باتباعه والاقتداء بسنته الشريفة وهو أعظم مسألة من مسائل الإنسان، بل أَخَذَ بنظر الاعتبار -بين حين وآخر- أوضاعه الإنسانية البشرية التي هي بمثابة بذرة شجرة طوبى الجنة.

وهكذا فلأن حقائق القرآن المكررة تملك هذه القيمة الراقية وفيها من الحِكَم ما فيها، فالفطرة السليمة تشهد أن في تكراره معجزةً معنويةً قوية وواسعة، إلّا مَن مَرِض قلبُه وسَقم وجدانُه بطاعون المادية، فتشمله القاعدة المشهورة:

قد ينكر المرءُ ضوءَ الشمس من رَمدٍ   *   وينكر الفمُ طعمَ الماءِ من سَقَم5البيت للشاعر شرف الدين البوصيري(٭) في قصيدة البردة:

قد تُنكِرُ العيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ من رَمَدٍ ويُنكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماءِ من سَقَمٍ

[خاتمة]

خاتمة هذه المسألة العاشرة في حاشيتين‌.

[حاشية أولى: لا يمكن ترجمة القرآن]

الحاشية الأولى: طَرَق سمعي قبل اثنتي عشرة سنة، أن زنديقًا عنيدًا، قد فَضَحَ سوءَ طَوِيَّتِه وخُبثَ قصده بإقدامه على ترجمة القرآن الكريم، فحاك خطةً رهيبة، للتهوين من شأنه بمحاولة ترجمته، وصرح قائلًا: ليُترجَم القرآن لتظهر قيمته! أي ليرى الناس تكراراته غير الضرورية! ولتُتلى ترجمتُه بدلًا منه! إلى آخره من الأفكار السامة.

إلّا أن رسائل النور -بفضل اللّٰه- قد شَلّت تلك الفكرةَ وأجهضت تلك الخطة بحججها الدامغة وبانتشارها الواسع في كل مكان، فأثبتت إثباتًا قاطعًا أنه لا يمكن قطعًا ترجمةُ القرآن الكريم ترجمةً حقيقية..

وأن أية لغة غير اللغة العربية الفصحى عاجزة عن الحفاظ على مزايا القرآن الكريم ونُكته البلاغية اللطيفة..

وأن الترجمات العادية الجزئية التي يقوم بها البشر لن تَحُل -بأي حال- محلَّ التعابير الجامعة المعجزة للكلمات القرآنية التي في كل حرف من حروفها حسنات تتصاعد من العشرة إلى الألف، لذا لا يمكن مطلقًا تلاوة الترجمة بدلًا منه.

بيد أن المنافقين الذين تتلمذوا على يد ذلك الزنديق، سعَوا بمحاولاتٍ هوجاء في سبيل الشيطان ليطفئوا نورَ القرآن الكريم بأفواههم، ولكن لَمَّا كنتُ لا ألتقي أحدًا، فلا علم لي بحقيقة ما يدور من أوضاع، إلّا أن أغلب ظني أن ما أوردتُه آنفًا هو السبب الذي دعا إلى إملاء هذه “المسألة العاشرة” عليّ، رغم ما يحيط بي من ضيق.

[حاشية ثانية: سلوانٌّ محمديٌّ عن آلام الفراق]

الحاشية الثانية: كنت جالسًا ذات يوم في الطابق العلوي من فندق “شهر” عقب إطلاق سراحنا من سجن “دنيزلي” أتأمل فيما حوالي من أشجار الحَوَر (الصفصاف) الكثيرة في الحدائق الغنّاء والبساتين الجميلة، رأيتُها جَذْلى بحركاتها الراقصة الجذابة، تتمايل بجذوعها وأغصانها، وتهتز أوراقها بأدنى لمسة من نسيم، فبدت أمامي بأبهى صورة وأحلاها، وكأنها تسبّح للّٰه في حلقات ذكر وتهليل.

مسَّتْ هذه الحركات اللطيفة أوتارَ قلبي المحزون من فراق إخواني، وأنا مغمومٌ لانفرادي وبقائي وحيدًا.. فخطر على البـال -فجأةً- موسـمَا الخريف والشتاء، وانتابتني غفلة، إذ ستتناثر الأوراق وسيذهب الرواء والجمال.. وبدأتُ أتألم على تلك الحَوَر الجميلة، وأتحسر على سائر الأحياء التي تتجلى فيها تلك النشوة الفائقة تألمًا شديدًا، حتى اغرورقت عيناي واحتشدت على رأسي أحزانٌ تدفقت من الزوال والفراق تملأ هذا الستار المزركش البهيج للكائنات!

وبينما أنا في هذه الحالة المحزنة إذا بالنور الذي أتت به الحقيقةُ المحمدية ﷺ يغيثني -مثلما يغيث كل مؤمن ويسعفه- فبدّل تلك الأحزانَ والغموم التي لا حدود لها مسراتٍ وأفراحًا لا حدّ لها، فبتُّ في امتنان أبديّ ورضى دائم من الحقيقة المحمدية التي أنقذني فيضٌ واحدٌ من فيوضات أنوارها غير المحدودة، فنشر ذلك الفيض السلوان في أرجاء نفسي وأعماق وجداني، وكان ذلك كالآتي:

إن تلك النظرة الغافلة أظهرت تلك الأوراق الرقيقة والأشجار الفارعة الهيفاء من دون وظيفة ولا مهمة، لا نفعَ لها ولا جدوى، وأنها لا تهتز اهتزازها اللطيف من شدة الشوق والنشوة بل ترتعد من هول العدم والفراق.. فتبًّا لها من نظرة غافلة أصابت صميمَ ما هو مغروزٌ فيَّ -كما هو عند غيري- من عشق للبقاء، وحب الحياة، والافتتان بالمحاسن، والشفقة على بني الجنس.. فحولت الدنيا إلى جهنم معنوية، والعقلَ إلى عضو للشقاء والتعذيب.

فبينما كنتُ أقاسي هذا الوضع المؤلم، إذا بالنور الذي أنار به محمد ﷺ البشريةَ جمعاء يرفع الغطاء ويزيل الغشاوة ويبرز حِكَما ومعاني ووظائف ومهمات غزيرة جدًّا تبلغ عدد أوراق الحَوَر، وقد أَثبتت رسائلُ النور أن تلك الوظائف والحِكَم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: وهو المتوجّه إلى الأسماء الحسنى للصانع الجليل.

فكما أن صانعًا ماهرًا إذا ما قام بصنع ماكنة بديعة، يثني عليه الجميعُ ويقدرون صنعته ويباركون إبداعه، فإن تلك الماكنة هي بدورها كذلك تبارك صانعَها وتثني عليه بلسان حالها، وذلك بإراءتها النتائج المقصودة منها إراءة تامة.

أما القسم الثاني: فهو المتوجه إلى أنظار ذوي الحياة وذوي الشعـور من المخلوقات.

أي يكون موضعَ مطالعةٍ حلوةٍ وتأملٍ لذيذ، فيكون كلُّ شيء كأنه كتاب معرفةٍ وعلم، ولا يغادر هذا العالَمَ -عالمَ الشهادة- إلّا بعد وضع معانيه في أذهان ذوي الشعور، وطبْعِ صوَرِه في حافظتهم، وانطباعِ صورته في الألواح المثالية لسجلات علم الغيب.

أي لا ينسحب من عالَم الشهادة إلى عالم الغيب إلّا بعد دخوله ضمن دوائرِ وجودٍ كثيرة، ويكسب أنواعًا من الوجود المعنوي والغيبي والعِلْمي بدلًا عن وجود صُوْري ظاهري.

نعم ما دام اللّٰه موجودًا، وعلمُه يحيط بكل شيء، فلا بد أن لا يكون هناك في عالَم المؤمن عدمٌ وإعدامٌ وانعدام وعبث ومحو وفناء من زاوية الحقيقة.. بينما دنيا الكفار زاخرة بالعدم والفراق والانعدام ومليئة بالعبث والفناء.

ومما يوضح هذه الحقيقة ما يدور على الألسنة من قولٍ مشهور هو: “مَن كان له اللّٰه، كان له كل شيء، ومَن لم يكن له اللّٰه لم يكن له شيء“.

الخلاصة: إنّ الإيمان مثلما ينقذ الإنسان من الإعدام الأبدي أثناء الموت، فهو ينقذ دنيا كل شخص أيضًا من ظلمات العدم والانعدام والعبث؛ بينما الكفر -ولا سيما الكفر المطلق- فإنه يُعدِم ذلك الإنسان، ويُعدِم دنياه الخاصة به بالموت، ويلقيه في ظلماتِ جهنمَ معنويةٍ محوِّلًا لذائذَ حياته آلامًا وغُصَصًا.

فلْترُنَّ آذانُ الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، وليأتوا بعلاجٍ لهذا الأمر إن كانوا صادقين، أو ليَدخلوا حظيرةَ الإيمان ويُخلِّصوا أنفسَهم من هذه الخسارة الفادحة.

﴿سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلّا مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أنْتَ العَليمُ الحَكيمُ﴾

أخوكم الراجي دعواتِكم والمشتاق إليكم

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

[المسألة الحادية عشرة: بعض ثمرات الإيمان بالملائكة]

انتقل إليها عبر الرابط: [المسألة الحادية عشرة: بعض ثمرات الإيمان بالملائكة]

❀   ❀   ❀

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى