الشعاع التاسع: حول ضرورة الآخرة
[هذا الشعاع يتحدث عن أثر الإيمان بالآخرة في صلاح الإنسان واستقراره النفسي والمجتمعي، كما يتحدث عن علاقة الإيمان بالآخرة بباقي أركان الإيمان]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

الشعاع التاسع
الشعاع التاسع
القطعة الأولى من لاحقة “الكلمة العاشرة” وذيلها المهم
﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾
﴿فسُبحَانَ اللّٰه حينَ تُمسونَ وحينَ تُصبِحُونَ ولهُ الحَمدُ في السّمواتِ والأرضِ وعَشيًا وحينَ تُظهِرونَ ٭ يُخرجُ الحيَّ من الميتِ ويُخرِجُ الميّتَ من الحيّ ويُحيي الأرضَ بعدَ موتِها وكذَلِكَ تُخرَجُونَ ٭ ومنْ آياتِهِ أنْ خَلَقكُم من تُرابٍ ثُم إذا أنتُم بَشَرٌ تنتَشِرونَ ٭ ومنْ آياتهِ أن خَلَق لكُم من أنفُسِكُم أزواجًا لِتَسكُنوا إليها وجَعَلَ بَينَكُم مَوَدةً ورحمةً إنَ في ذلِكَ لآياتٍ لِقَومٍ يَتفَكّرونَ ٭ ومنْ آياتِهِ خَلقُ السّمواتِ والارضِ واختِلافُ ألسِنتِكُمْ وَألوانِكُمْ انّ في ذلِكَ لآياتٍ للعالمين ٭ ومن آياتِهِ مَنامُكم بالّيلِ والنّهارِ وإبتِغاؤكُم من فضلِهِ ان في ذلكَ لآياتٍ لِقَومٍ يسمَعُونَ ٭ ومن آياتِهِ يُريكُمُ البَرقَ خوفًا وطمعًا ويُنزّلُ من السَماءِ ماءً فيُحيي به الأرضَ بعد موتها انّ في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يعقِلونَ ٭ ومن آياتِهِ انّ تَقومَ السّماءُ والأرضُ بأمرهِ ثمّ إذا دَعاكُم دعوةً من الأرضِ إذا أنتُم تَخرُجونَ ٭ ولهُ مَن في السّمواتِ والأرضِ كلٌ لهُ قانِتُونَ ٭ وهوَ الذي يَبدؤا الخلقَ ثُمّ يُعيدُهُ وهوَ أهونُ عليهِ ولهُ المثلُ الأعلى في السّمواتِ والأرضِ وهوَ العَزيزُ الحكيمُ﴾
سنُبيّن في هذا “الشعاع التاسع” برهانًا قويًّا، وحجةً كبرى، لما تبينه هذه الآيات الكريمة من محور الإيمان وقطبه، وهو الحشر، ومن البراهين السامية المقدسة الدالة عليه.
وإنه لعناية ربانية لطيفة أَنْ كَتَبَ “سعيد القديم” قبل ثلاثين سنة في ختام مؤلَّفه “محاكمات” الذي كتبه مقدمة لتفسير “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز” ما يأتي:
«المقصد الثاني: سوف يفسر آيتين تبيّنان الحشر وتشيران إليه».
ولكنه ابتدأ بـ: «نخو1نخو: كلمة كردية باللهجة الكرمانجية الشمالية، تعني: فإذن... بِسْمِ اللّٰه الرَّحْمنِ الرَّحيم». وتوقف، ولم تتح له الكتابة.
فألف شكرٍ وشكرٍ للخالق الكريم وبعدد دلائل الحشر وأماراته أن وفّقني لبيان ذلك التفسير بعد ثلاثين سنة، فأنعَمَ سبحانه وتعالى عليَّ بتفسير الآية الأولى: ﴿فانظر إلى آثار رحمتِ اللّٰه كيفَ يحيي الأرضَ بعدَ موتِها إن ذلكَ لمُحيي الموتى وهو على كل شيء قدير﴾، وذلك قبل نحو عشر سنوات، فأصبحت “الكلمة العاشرة” و”الكلمة التاسعة والعشرين”، وهما حجتان ساطعتان قويتان أخرَسَتا المنكرين الجاحدين.
وبعد حوالي عشر سنوات من بيان ذَينِك الحصنَين الحَصينَين للحشر، أفاض عليَّ سبحانه وتعالى وأنعم بتفسير الآيات المتصدرة لهذا الشعاع، فكان هذه الرسالة.
فهذا “الشعاع التاسع” عبارة عن تسعة مقامات سامية مما أشارت إليها الآيات الكريمة مع مقدمة مهمة2لم يتيسر للمؤلف كتابة شيء من المقامات المذكورة، واقتصر هذا الشعاع التاسع على هذه المقدمة المهمة..
❀ ❀ ❀
[مقدمة في بيان فوائد ونتائج الإيمان بالآخرة]
المقدمة
هذه المقدمة نقطتان:
سنذكر أولًا وباختصار نتيجةً واحدةً جامعةً من بين النتائج الحياتية والفوائد الروحية لعقيدة الحشر، مبينين مدى ضرورة هذه العقيدة للحياة الإنسانية ولا سيما الاجتماعية.
ونورد كذلك حجةً كليةً واحدةً -من بين الحجج العديدة لعقيدة الإيمان بالحشر- مبينين أيضًا مدى بداهتها ووضوحها حيث لا يداخلها ريب ولا شبهة.
[النقطة الأولى: الإيمان بالآخرة أساسُ حياة الإنسان وكمالاته]
النقطة الأولى
سنشير إلى أربعة أدلةٍ -على سبيل المثال وكنموذج قياسي من بين مئات الأدلة- على أن عقيدة الآخرة هي أُسُّ الأساس لحياة الإنسان الاجتماعية والفردية، وأساس جميع كمالاته ومُثله وسعادته.
[الدليل الأول: الإيمان بالآخرة سلوانٌ للأطفال]
الدليل الأول: إن الأطفال الذين يمثلون نصف البشرية، لا يمكنهم أن يتحمّلوا تلك الحالات التي تبدو مؤلمةً ومفجعة أمامَهم من حالات الموت والوفاة إلّا بما يجدونه في أنفسهم وكيانهم الرقيق اللطيف من القوة المعنوية الناشئة من “الإيمان بالجنة”، ذلك الإيمانِ الذي يفتح باب الأمل المشرق أمام طبائعهم الرقيقة التي لا تتمكن من المقاومة والصمود وتبكي لأدنى سبب، فيتمكنون به من العيش بهناء وفرح وسرور.
فيحاور الطفلُ المؤمنُ بالجنة نفسَه: “إنَّ أخي الصغير أو صديقي الحبيب الذي توفي، أصبح الآن طيرًا من طيور الجنة، فهو إذن يسرح من الجنة حيث يشاء، ويعيش أفضل وأهنأ منَّا”.
وإلّا فلولا هذا الإيمان بالجنة لهَدم الموتُ الذي يصيب أطفالًا أمثاله -وكذلك الكبار- تلك القوةَ المعنوية لهؤلاء الذين لا حيلة لهم ولا قوة، ولحَطَّم نفسياتهم، ولدمّر حياتهم ونغَّصها، فتبكي عندئذٍ جميع جوارحهم ولطائفهم من روحٍ وقلبٍ وعقلٍ مع بكاء عيونهم، فإما أن تموت أحاسيسُهم وتَغلُظ مشاعرُهم، أو يصبحوا كالحيوانات الضالة التعسة.
[الدليل الثاني: الإيمان بالآخرة عزاءٌ للشيوخ]
الدليل الثاني: إن الشيوخ الذين هم نصف البشرية، إنما يتحملون ويصبرون وهم على شفير القبر بـ”الإيمان بالآخرة”، ولا يجدون الصبر والسلوان من قرب انطفاء شعلة حياتهم العزيزة عليهم، ولا من انغلاق باب دنياهم الحلوة الجميلة في وجوههم، إلّا في ذلك الإيمان.
فهؤلاء الشيوخ الذين عادوا كالأطفال وأصبحوا مرهفي الحس في أرواحهم وطبائعهم، إنما يقابِلون ذلك اليأس القاتل الأليم الناشئ من الموت والزوال، ويصبرون عليه بالأمل في الحياة الآخرة.
وإلّا فلولا هذا الإيمان بالآخرة لشعر هؤلاء الآباءُ والأمهاتُ -الذين هم أجدر بالشفقة والرأفة، والذين هم في أشد الحاجة إلى الاطمئنان والسكينة والحياة الهادئة- ضِرامًا روحيًّا واضطرابًا نفسيًّا وقلقًا قلبيًّا، ولضاقت عليهم الدنيا بما رَحُبتْ، ولتحولتْ سجنًا مظلمًا رهيبًا، ولانقلبتْ الحياة إلى عذابٍ أليمٍ قاسٍ.
[الدليل الثالث: الإيمان بالآخرة رادعٌ من نزوة الشباب]
الدليل الثالث: إن الشباب والمراهقين الذين يمثلون محور الحياة الاجتماعية لا يهدّئ فورةَ مشاعرهم، ولا يمنعهم من تجاوز الحدود إلى الظلم والتخريب، ولا يمنع طيش أنفسهم ونزواتها، ولا يؤَمِّن السيرَ الأفضل في علاقاتهم الاجتماعية: إلّا الخوفُ من نار جهنم.
فلولا هذا الخوف من عذاب جهنم لقلَب هؤلاء المراهقون الطائشون الثِّمِلون بأهوائهم الدنيا إلى جحيم تتأجج على الضعفاء والعجائز، حيث “الحُكم للغالب”، ولَحوَّلوا الحياة الإنسانية السامية إلى حياةٍ حيوانيةٍ سافلة.
[الدليل الرابع: الإيمان بالآخرة حصنٌ للحياة العائلية]
الدليل الرابع: إن الحياة العائلية هي مركزٌ جامعٌ للحياة الدنيوية ولَولبُها، وهي جنةُ سعادتها وقلعتُها الحصينة وملجأها الأمين، وإن بيت كل فرد هو عالمُه ودنياه الخاصة، فلا سعادة لروح الحياة العائلية إلّا بالاحترام المتبادل الجاد، والوفاء الخالص بين الجميع، والرأفة الصادقة، والرحمة التي تصل إلى حدِّ التضحية والإيثار.
ولا يحصُل هذا الاحترام الخالص والرحمة المتبادَلة الوفية إلّا بالإيمان بوجودِ علاقاتِ صداقةٍ أبدية، ورفقةٍ دائمة، ومعيّةٍ سرمدية، في زمنٍ لا نهاية له، وتحت ظلِّ حياةٍ لا حدود لها، تَربطُها علاقاتُ أبوّةٍ محترمة مرموقة، وأُخوّةٍ خالصة نقية، وصداقةٍ وفيّة نزيهة، حيث يحدّث الزوجُ نفسه:
“إن زوجتي هذه رفيقةُ حياتي وصاحبتي في عالم الأبد والحياة الخالدة، فلا ضَير إن أصبحتِ الآن دميمةً أو عجوزًا، إذ إن لها جمالًا أبديًّا سيأتي، لذا فأنا مستعد لتقديم أقصى ما يستوجبه الوفاء والرأفة، وأُضحِّي بكلِّ ما تتطلبه تلك الصداقة الدائمة”.
وهكذا يمكن أن يُكِنّ هذا الرجل حبًّا ورحمة لزوجته العجوز كما يُكِنُّه للحور العين، وإلّا فإنَّ صحبةً وصداقةً صوريةً تستغرق ساعة أو ساعتين، ومن ثم يعقبها فراقٌ أبديٌّ ومفارقةٌ دائمةٌ لَهِيَ صحبةٌ وصداقةٌ ظاهرية لا أساس لها ولا سند، ولا يمكنها أن تعطي إلّا رحمةً مجازية، واحترامًا مصطنعًا، وعطفًا حيوانيَّ المشاعرِ، فضلًا عن تَدَخُّل المصالح والشهوات النفسانية وسيطرتِها على تلك الرحمة والاحترام، فتنقلب عندئذٍ تلك الجنة الدنيوية إلى جحيم لا يطاق.
[الإيمان بالآخرة ضرورةٌ إنسانية واجتماعية]
وهكذا فإن نتيجةً واحدةً للإيمان بالحشر -من بين مئات النتائج- تتعلق بالحياة الاجتماعية للإنسان وتعود إليها، والتي لها مئات الأوجه والفوائد، إذا ما قيست على تلك الدلائل الأربعة المذكورة آنفًا، يُدرَك أن وقوع حقيقة الحشر وتحقُّقَها قطعيٌّ كقطعية ثبوت حقيقة الإنسان السامية وحاجاته الكلية، بل هي أظهر دلالةً من حاجة المعدة إلى الأطعمة والأغذية، وأوضح شهادةً منها.
ويمكن أن يُقدَّر مدى تحقُّقها تحققًا أعمق وأكثر إذا ما سُلبت الإنسانية من هذه الحقيقة (الحشر) ،حيث تصبح ماهيتها التي هي ساميةٌ ومهمةٌ وحيويةٌ بمثابة جيفة نتنة ومأوى الميكروبات والجراثيم.
فلْيُلْقِ السمعَ علماءُ الاجتماع والسياسة والأخلاق من المَعْنيين بشؤون الإنسان وأخلاقه واجتماعه، وليأتوا ويبينوا بماذا سيملأون هذا الفراغ؟ وبماذا سيُداوون ويضمدون هذه الجروح الغائرة العميقة؟!
[النقطة الثانية: شهادة أركان الإيمان على الآخرة]
النقطة الثانية
تُبيِّن هذه النقطة بإيجازٍ شديدٍ برهانًا واحدًا -من بين البراهين التي لا حصر لها- على حقيقة الحشر، وهو ناشئ من خلاصةِ شهادةِ سائر الأركان الإيمانية، وعلى النحو الآتي:
[شهادة معجزات الأنبياء على وجود الآخرة]
إن جميع المعجزات الدالة على رسالة سيدنا محمد ﷺ مع جميعِ دلائل نبوته وجميعِ البراهين الدالة على صدقه، تَشهد بمجموعها معًا على حقيقة الحشر، وتدل عليها وتثبتها، لأن دعوته ﷺ طوال حياته المباركة قد انصبَّت بعد التوحيد على الحشر.
وإن جميع معجزات الأنبياء عليهم السلام وحججهم الدالة على صدقهم -وتَحمِل الآخرين على تصديقهم- تشهد على الحقيقة نفسها، وهي الحشر.
[شهادة الكتب السماوية على وجود الآخرة]
وكذا شهادة “الكتب المنـزلة” التي رقّت الشهادةَ الصادرةَ من “الرسل الكرام” إلى درجة البداهة، تشهدان على الحقيقة نفسها، وعلى النحو الآتي:
فالقرآن الكريم -ذو البيان المعجز- يشهد بجميع معجزاته وحُججه وحقائقه -التي تُثبت أحقِّيتَه- على حدوث الحشر ويثبته، حيث إن ثُلث القرآن بأكمله، وأوائلَ أغلبِ السور القصار، آياتٌ جليةٌ على الحشر.
أي إن القرآن الكريم ينبئ عن الحقيقة نفسِها بآلافٍ من آياته الكريمة -صراحةً أو إشارةً- ويُثبتها بوضوحٍ ويُظهرها بجلاء.. فمثلًا: ﴿إذا الشمسُ كُوّرتْ﴾، ﴿يا أيها الناسُ اتقوا رَبّكم إن زَلزَلةَ السّاعَةِ شيء عظيم﴾، ﴿إذا زلزلت الأرضُ زلزالها﴾، ﴿إذا السّماءُ انفطَرت﴾، ﴿إذا السّماءُ انشقتْ﴾، ﴿عمّ يتساءلون﴾، ﴿هل أتاكَ حديثُ الغاشية﴾.
فيثبت القرآن الكريم بهذه الآيات وأمثالِها في مفتتح ما يقارب أربعين سورة أن الحشر لا ريب فيه، وأنه حَدثٌ في غاية الأهمية في الكون، وأن حدوثه ضروريٌّ جدًّا ولا بد منه، ويبين بالآيات الأخرى دلائل مختلفة مقنعة على تلك الحقيقة.
تُرى إنْ كان كتابٌ تثمر إشارةٌ واحدةٌ لآيةٍ من آياتِه تلك الحقائقَ العلمية والكونية المعروفة بالعلوم الإسلامية، فكيف إذن بشهادةِ آلافٍ من آياته ودلائله التي تبين الإيمان بالحشر كالشمس ساطعة؟ ألا يكون الجحود بهذا الإيمان كإنكار الشمس بل كإنكار الكائنات قاطبة؟! ألا يكون ذلك باطلًا ومحالًا في مائة محال؟!
تُرى هل يمكن أن يوصَم آلاف الوعد والوعيد لكلامِ سلطانٍ عزيزٍ عظيمٍ بالكذب أو أنها بلا حقيقة، في حين قد يخوض الجيش غمار الحرب لئلا تُكذَّب إشارةٌ صادرة من سلطان.. فكيف بالسلطان المعنوي العظيم الذي دام حكمه وهيمنته ثلاثة عشر قرنًا دون انقطاع، فربّى ما لا تعد من الأرواح والعقول والقلوب والنفوس، وزكَّاها وأدارها على الحق والحقيقة، ألا تكفي إشارة واحدة منه لإثبات حقيقة الحشر؟! علمًا أن فيه آلافَ أوجه الصراحة الواضحة المثبتة.. أليس الذي لا يدرك هذه الحقيقة الواضحة أحمقَ جاهلًا؟! ألا يكون من العدالة المحضة أن تكون النار مثواه؟!
ثم إن الصحف السماوية والكتب المقدسة جميعها التي حكَمت كلٌّ منها لفترة من العصور والأزمنة، قد صَدّقتْ بآلافٍ من الدلائل دعوى القرآن الكريم في حقيقة الحشر مع أن بيانها لها مختصر وموجز، وذلك بمقتضى زمانها وعصرها، تلك الحقيقة القاطعة التي بيَّنها القرآن الكريم الذي ساد حكمُه على العصور جميعها، وهيمن على المستقبل كله، بيّنها بجلاء وأفاض في إيضاحها.
[فقرة من “رسالة المناجاة”]
يُدرج هنا نصُّ ما جاء في آخر رسالةِ “المناجاة” انسجامًا مع البحث، تلك الحجة القاطعة الملخَّصة للحشر، والناشئة من شهادة سائر الأركان الإيمانية ودلائلها على الإيمان باليوم الآخر، ولا سيما الإيمان بالرسل والكتب، والتي تُبدد الأوهام والشكوك، حيث جاءت بأسلوبٍ موجز، وعلى صورةِ مناجاة:
«يا ربي الرحيم.. لقد أدركتُ بتعليم الرسول ﷺ وفهمتُ من تدريس القرآن الحكيم، أن الكتبَ المقدسة جميعها، وفي مقدمتها القرآن الكريم، والأنبياءَ عليهم السلام جميعَهم، وفي مقدمتهم الرسول الأكرم ﷺ: يَدُلُّون ويَشهدون ويشيرون بالإجماع والاتفاق إلى أن تجليات الأسماء الحسنى -ذات الجلال والجمال- الظاهرةَ آثارُها في هذه الدنيا، وفي العوالم كافة، ستدوم دوامًا أسطعَ وأبهرَ في أبد الآباد..
وأن تجلياتها -ذات الرحمة- وآلاءها المشاهدةَ نمـاذجُها في هذا العـالم الفاني، ستثمر بأبهى نور وأعظم تألق، وستبقى دومًا في دار السعادة..
وأن أولئك المشتاقين الذين يتملَّونها -في هـذه الحيـاة الدنيا القصيرة- بلهفةٍ وشوق سيرافـقـونـها بالمحبة والودّ، ويصحبونها إلى الأبد، ويَظلون معها خالدين..
وأن جميع الأنبياء، وهم ذوو الأرواح النيرة وفي مقدمتهم الرسول الأكرم ﷺ، وجميع الأولياء، وهم أقطابُ ذوي القلوب المنوَّرة، وجميع الصِّدِّيقين وهم منابع العقول النافذة النيّرة، كلُّ أولئك يؤمنون إيمانًا راسخًا عميقًا بالحشر ويشهدون عليه ويبشِّرون البشريةَ بالسعادة الأبدية، وينذرون أهل الضلالة بأن مصيرهم النار، ويبشرون أهل الهداية بأن عاقبتهم الجنة؛ مستندين إلى مئات المعجزات الباهرة والآيات القاطعة؛ وإلى ما ذكرتَه أنت يا ربي مرارًا وتكرارًا في الصحف السماوية والكتب المقدسة كلِّها من آلاف الوعد والوعيد؛ ومعتمدين على عزة جلالك وسلطان ربوبيتك، وشؤونك الجليلة، وصفاتك المقدسة كالقدرة والرحمة والعناية والحكمة والجلال والجمال؛ وبناءً على مشاهداتهم وكشفياتهم غيرِ المعدودة التي تنبئ عن آثار الآخرة ورشحاتها؛ وبناءً على إيمانهم واعتقادهم الجازم الذي هو بدرجةِ علم اليقين وعين اليقين.
فيا قدير ويا حكيم.. ويا رحمن ويا رحيم.. ويا صادق الوعد الكريم.. ويا ذا العزة والعظمة والجلال.. ويا قهار ذا الجلال.. أنت مقدَّسٌ ومنـزّهٌ وأنت متعالٍ عن أن تَصِمَ بالكذب كلَّ أوليائِك وكلَّ وعودك وصفاتك الجليلة وشؤونك المقدسة فتكذِّبَهم.. وأن تَحجُب ما يقتضيه قطعًا سلطانُ ربوبيتك بعدم استجابتك لتلك الأدعية الصادرة من عبادك الصالحين الذين أحببتهم وأحبّوك، وحبّبوا أنفسَهم إليك بالإيمان والتصديق والطاعة.. فأنت منـزَّهٌ ومتعالٍ مطلقٌ عن أن تُصدِّق أهلَ الضلالة والكفر في إنكارهم الحشر، أولئك الذين يتجاوزون على عظمتك وكبريائك بكفرهم وعصيانهم وتكذيبهم لك ولوعودك، والذين يستخِفّون بعزة جلالك وعظَمة ألوهيتك ورأفة ربوبيتك.
فنحن نقدِّس بلا حدٍّ ولا نهايةٍ عدالتَك وجمالَك المطلقَين ورحمتَك الواسعة وننـزِّهها من هذا الظلم والقبح غير المتناهي.. ونعتقد ونؤمن بكل ما أوتينا من قوة بأن الآلاف من الرسل والأنبياء الكرام، وبما لا يعدّ ولا يحصى من الأصفياء والأولياء الذين هم المنادون إليك: هم شاهدون بحق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين على خزائن رحمتك الأخروية وكنوز إحساناتك في عالم البقاء، وتجليات أسمائك الحسنى التي تنكشف كليًّا في دار السعادة.. ونؤمن أن هذه الشهادة حق وحقيقة، وأن إشاراتهم صدق وواقع، وأن بشاراتهم صادقة وواقعة.. فهؤلاء جميعًا يؤمنون بأن هذه الحقيقة الكبرى (أي الحشر) شعاع عظيم من اسم “الحق” الذي هو مرجع جميع الحقائق وشمسُها، فيرشدون عبادك -بإذنٍ منك- ضمن دائرة الحق، ويُعلِّمونهم بعين الحقيقة.
فيا ربي.. بحق دروس هؤلاء، وبحرمة إرشاداتهم، آتنا إيمانًا كاملًا، وارزقنا حسن الخاتمة، لنا ولطلاب النور، واجعلنا أهلًا لشفاعتهم.. آمين».
وهكذا فـإن الدلائل والحجج التي تُثبت صـدق القرآن الكريم بـل جميعِ الكتب السماوية، وإن المعجزات والبراهين التي تثبت نبوة حبيب اللّٰه بل الأنبياءِ جميعهم، تثبت بدورها أهم ما يدعون إليه، وهو تحقق الآخرة وتدل عليها.
[شهادة وجود الله على وجود الآخرة]
كما أن أغلب الأدلة والحجج الشاهدة على وجوب واجب الوجود ووحدته سبحانه، هي بدورها شاهدة على دار السعادة وعالَم البقاء التي هي مدار الربوبية والألوهية وأعظم مظهر لهما، وهي شاهدة على وجود تلك الدار وانفتاح أبوابها -كما سيُبيَّن في المقامات الآتية- لأن وجوده سبحانه وتعالى، وصفاته الجليلة، وأغلب أسمائه الحسنى، وشؤونه الحكيمة، وأوصافه المقدسة أمثال الربوبية والألوهية والرحمة والعناية والحكمة والعدالة تقتضي جميعها الآخرة وتلازمها، بل تستلزم وجود عالم البقاء بدرجة الوجوب، وتطلب الحشر والنشور للثواب والعقاب بدرجة الضرورة أيضًا.
نعم..
ما دام اللّٰه موجودًا، وهو واحد أزلي أبدي، فلا بد أن محور سلطان ألوهيته وهو الآخرة، موجود أيضًا..
وما دامت الربوبية المطلقة -وهي ذات جلال وعظَمة وحكمة ورأفة- تتجلى في هذه الكائنات ولا سيما في الأحياء ظاهرةً واضحة، فلا بد أن هناك سعادة أبدية تنفي عن الربوبية المطلقة أيَّ ظنٍّ بكونها تترك الخلق هَمَلًا دون ثواب، وتُبَرِّئ الحكمة من العبث، وتصون الرأفة من الغدر. أي إن تلك الدار موجودة قطعًا ولا بد من الدخول فيها.
وما دامت هذه الأنواع من الإنعام والإحسان واللطف والكرم والعناية والرحمة مشاهَدة وظاهرة أمام العقول التي لم تنطفئ، وأمام القلوب الـتي لم تمت، وتدلّنا على وجوب وجودِ رب رحمن رحيم وراء الحجاب، فلا بد من حياة باقية خالدة، لتُنقذ الإنعامَ من الاستهزاء، أي يأخذ الإنعام مداه، وتَصون الإحسان من الخداع ليستوفي حقيقته، وتُنقذ العناية من العبث لتستكمل تحققها، وتُنجي الرحمة من النقمة فيتم وجوهها، وتبرئ اللطف والكرم من الإهانة ليفيضا على العباد.
نعم، إن الذي يجعل الإحسان إحسانًا حقًّا، والنعمة نعمةً حقًّا، هو وجود حياةٍ باقيةٍ خالدةٍ في عالم البقاء والخلود.. نعم، لا بد أن يتحقق هذا.
وما دام قلم القدرة الذي يَكتب في فصل الربيع وفي صحيفة ضيقة صغيرة، مائةَ ألف كتاب، كتابةً متداخلة بلا خطأ ولا نصب ولا تعب، كما هو واضح جليٌّ أمام أعيننا.. وأن صاحب ذلك القلم قد تعهّد ووعد مائة ألف مرةٍ لأكتبنّ كتابًا أسهل من كتاب الربيع المكتوب أمامكم، ولأكتبنّه كتابةً خالدة، في مكانٍ أوسع وأرحبَ وأجملَ من هذا المكان الضيق المختلط المتداخل.. فهو كتاب لا يفنى أبدًا، ولأجعلنَّكم تقرؤونه بحيرة وإعجاب.. وأنه سبحانه يَذكر ذلك الكتاب في جميع أوامره، أي إن أصول ذلك الكتاب قد كُتبت بلا ريب، وستُكتب حواشيه وهوامشه بالحشر والنشور، وستُدَوَّن فيه صحائف أعمال الجميع.
وما دامت هذه الأرض قد أصبحت ذات أهمية عظمى من حيث احتواؤها على كثرة المخلوقات، ومئات الألوف من أنواع ذوي الحياة والأرواح المختلفة المتبدلة، حتى صارت قلبَ الكون وخلاصتَه، ومركزَه وزبدتَه ونتيجتَه وسببَ خلقه، فذُكرت دائمًا صِنْوًا للسماوات كما في: ﴿رب السموات والأرض﴾ في جميع الأوامر السماوية.
وما دام ابنُ آدم يَحكم في شتى جهات هذه الأرض -التي لها هذه الماهيات والخواص- ويتصرف في أغلب مخلوقاتها مسخِّرًا أكثر الأحياء له، جاعلًا أكثر المصنوعات تحوم حوله وفق مقاييس هواه، وحسب حاجاته الفطرية، وينظِّمها ويعرضها ويزيّنها، وينسِّق الأنواع العجيبة منها في كل مكان بحيث لا يلفت نظرَ الإنس والجن وحدهم، بل يلفت أيضًا نظرَ أهل السماوات والكون قاطبة، بل حتى نظر مالك الكون، فنال الإعجاب والتقدير والاستحسان، وأصبحت له -من هذه الجهة- أهميةٌ عظيمة، وقيمةٌ عالية، فأظهر بما أوتي من علم ومهارة أنه هو المقصود من حكمة خلق الكائنات، وأنه هو نتيجتُها العظمى وثمرتُها النفيسة، ولا غرو فهو خليفةُ الأرض.. وحيث إنه يعرض صنائع الخالق البديعة، وينظِّمها بشكل جميل جذاب في هذه الدنيا، فقد أُجِّل عذابُه رغم عصيانه وكفره، وسُـمح له بالعيش في الدنيا وأمهل ليقوم بهذه المهمة بنجاح.
وما دام لابن آدم -الذي له هذه الماهية والمزايا خلقةً وطبعًا، وله حاجات لا تُحدّ مع ضعفه الشديد، وآلام لا تُعدّ مع عجزه الكامل- ربٌ قدير، له القدرة والرأفة المطلقة مما يجعل هذه الأرض الهائلة العظيمة مخزنًا عظيمًا لأنواع المعادن التي يحتاجها الإنسان، ومستودعًا لأنواع الأطعمة الضرورية له، وحانوتًا للأموال المختلفة التي يرغبها، وأنه سبحانه ينظر إليه بعين العناية والرأفة ويربيه ويزوده بما يريد.
وما دام الرب سبحانه -كما في هذه الحقيقة- يحبّ الإنسان، ويحبّب نفسه إليه، وهو باقٍ، وله عوالم باقية، ويُجري الأمور وفق عدالته، ويعمل كل شيء وفق حكمته، وأن عظمة سلطان هذا الخالق الأزلي وسرمدية حاكميته لا تحصرهما هذه الدنيا القصيرة، ولا يكفيهما عمر الإنسان القصير جدًّا، ولا عمر هذه الأرض المؤقتة الفانية، حيث يظل الإنسان دون جزاء في هذه الدنيا لما يرتكبه من وقائع الظلم، وما يقترفه من إنكار وكفر وعصيان، تجاه مولاه الذي أنعم عليه ورباه برأفة كاملة وشفقة تامة، مما ينافي نظام الكون المنسَّق، ويخالف العدالة والموازنة الكاملة التي فيها، ويخالف جماله وحُسنه، إذ يقضي الظالم القاسي حياته براحة، بينما المظلوم البائس يقضيها بشظف من العيش.. فلا شك أن ماهية تلك العدالة المطلقة -التي يشاهَد آثارها في الكائنات- لا تقبل أبدًا ولا ترضى مطلقًا عدمَ بعث الظالمين العتاة مع المظلومين البائسين الذين يتساوون معًا أمام الموت.
وما دام مالك الملك قد اختار الأرض من الكون، واختار الإنسان من الأرض، ووهب له مكانة سامية، وأولاه الاهتمام والعناية، واختار الأنبياء والأولياء والأصفياء من بين الناس، وهم الذين انسجموا مع المقاصد الربانية، وحبَّبوا أنفسهم إليه بالإيمان والتسليم، وجعلهم أولياءه المحبوبين المخاطبين له، وأكرمهم بالمعجزات والتوفيق في الأعمال وأدّب أعداءهم بالصفعات السماوية، واصطفى من بين هؤلاء المحبوبين إمامَهم ورمْزَ فخرهم واعتزازهم، ألا وهو محمد ﷺ، فنوَّر بنوره نصفَ الكرة الأرضية ذات الأهمية، وخُمس البشرية ذوي الأهمية، طَوالَ قرونٍ عدة، حتى كأن الكائنات قد خُلِقتْ لأجله، لبروز غاياتها جميعًا به، وظهورِها بالدين الـذي بُعث به، وانجلائها بالقرآن الـذي أُنزل عليه.
فبينما يستحق أن يكافَأ على خدماته الجليلة غير المحدودة بعمرٍ مديدٍ غيـر محدودٍ، وهو أهـلٌ له، إلّا أنه قضى عمرًا قصيرًا وهو ثلاث وستون سنة في مجاهدة ونصَب وتعب! فهل يمكن، وهل يعقل مطلقًا، وهل هناك أي احتمال أن لا يُبـعَث هو وأمثاله وأحبـاؤه معًا؟! وأن لا يكون الآن حيًّا بروحه؟! وأن يفنى نهائيًّا ويصير إلى العدم؟ كلا.. ثم كلا.. وحاشاه ألف ألف مرة.
نعم، إن الكون وجميع حقائق العالم يدعو إلى بعثه ويريده ويطلب من رب الكون حياتَه.
[شهادة وحدانية الله على وجود الآخرة]
ولقد بَيّنتْ رسالة “الآية الكبرى” وهي “الشعاع السابع” وأَثبتت بثلاثة وثلاثين إجماعًا عظيمًا، كلٌّ منه كالجبل الأشم في قوة حجّته، بأن هذا الكون لم يَصدر إلّا من يدِ واحدٍ أحد، وليس مُلكًا إلّا لواحدٍ أحد. فأظهرت التوحيدَ -بتلك البراهين والمراتب بداهةً- أنه محور الكمال الإلهي وقطبه.
وبيّنتْ أنه بالوحدة والأحدية يتحول جميعُ الكون بمثابة جنودٍ مستنفرين لذلك الواحد الأحد، وموظفين مسخّرين له.
وبمجيء الآخرة ووجودها تتحقق كمالاته وتُصان من السقوط؛ وتَسود عدالتُه المطلقة وتنجو من الظلم؛ وتُنـزَّه حكمتُه العامة وتُبرَّأ من العبث والسفاهة؛ وتأخذ رحمتُه الواسعة مداها، وتُنقَذ من التعذيب المشين؛ وتبدو عزتُه وقدرتُه المطلقتان وتُنقَذان من العجز الذليل؛ وتتقدّس كل صفةٍ من صفاته سبحانه وتتجلى منـزّهة جليلة.
فلا بد ولا ريب مطلقًا أن القيامة ستقوم، وأن الحشر والنشور سيحدث، وأن أبواب دار الثواب والعقاب ستُفتح، بمقتضى ما في حقائق هذه الفقرات الثمانية المذكورة المبتدئة بـ”ما دام” التي هي مسألة دقيقة ونكتة ذات مغزى لطيف من بين مئات النكات الدقيقة للإيمان باللّٰه؛ وذلك:
كي تتحقق أهمية الأرض ومركزيتها، وأهمية الإنسانية ومكانتها..
ولكي تتقرر عدالةُ رب الأرض والإنسان وحكمته ورحمته وسلطانه..
ولكي ينجو الأولياء والأحبَّاء الحقيقيون والمشتاقون إلى الرب الباقي من الفناء والإعدام الأبدي..
ولكي يرى أعظمُهم وأحبُّهم وأعزُّهم ثوابَ عمله، ونتائجَ خدماته الجليلة التي جعلت الكائنات في امتنان ورضى دائمين..
ولكي يتقدس كمالُ السلطان السرمدي من النقص والتقصير، وتتنـزّه قدرتُه من العجز، وتبرأ حكمتُه من السفاهة، وتتعالى عدالته عن الظلم.
والخلاصة: ما دام اللّٰه جل جلاله موجودًا فإن الآخرة لا ريب فيها قطعًا.
[شهادة الإيمان بالملائكة على وجود الآخرة]
وكما تُثبِت الأركان الإيمانية الثلاثة -المذكورة آنفا- الحشرَ بجميع دلائلها وتَشهد عليه، كذلك يستلزم الركنان الإيمانيان “وبملائكته، وبالقدر خيره وشره من اللّٰه تعالى” أيضًا الحشرَ، ويشهدان شهادةً قوية على العالم الباقي ويدلان عليه على النحو الآتي:
إن جميع الدلائل والمشاهدات والمكالمات الدالة على وجود الملائكة ووظائفِ عبوديتهم، هي بدورها دلائلُ على وجود: عالَم الأرواح، وعالم الغيب، وعالم البقاء، وعالم الآخرة، ودار السعادة، والجنة والنار اللتين ستُعمران بالجن والإنس.
لأن الملائكة يمكنهم -بإذنٍ إلهيٍّ- أن يشاهدوا هذه العوالم ويدخلوها، لذا فالملائكة المقربون يخبرون بالاتفاق -كجبريل عليه السلام الذي قابل البشر- بوجود تلك العوالم المذكورة وتجوالهم فيها.
فكما أننا نعلم بديهة وجود قارة أمريكا -التي لم نرها- من كلام القادمين منها، كذلك يكون الإيمان بديهةً بما أخبرت به الملائكة -وهو بقوةِ مائةِ تواتر- عن وجود عالم البقاء ودار الآخرة والجنة والنار… وهكذا نؤمن ونصدق.
[شهادة الإيمان بالقَدَر على وجود الآخرة]
وكذلك الدلائل التي تثبت “الإيمان بالقدر” -كما جاءت في رسالة القدر (الكلمة السادسة والعشرين)- هي بدورها دلائلُ على الحشر ونشر الصحف وموازنة الأعمال عند الميزان الأكبر.
ذلك لأن ما نراه أمام أعيننا من تدوينِ مقدّرات كل شيء على ألواح النظام والميزان؛ وكتابةِ أحداث الحياة ووقائعها لكل ذي حياةٍ في قُواه الحافظة، وفي حبوبه ونواه، وفي سائر الألواح المثالية؛ وتثبيتِ دفاتر الأعمال لكل ذي روح ولا سيما الإنسان، وإقرارها في ألواح محفوظة.. كل هذا القدر من القَدَر المحيط، ومن التقدير الحكيم، ومن التدوين الدقيق، ومن الكتابة الأمينة، لا يمكن أن يكون إلّا لأجل محكمةٍ كبرى، ولنيل ثوابٍ وعقابٍ دائمَين. وإلّا فلا يبقى مغزى ولا فائدةٌ أبدًا لذلك التدوين المحيط والكتابة التي تسجل وتحفظ أدق الأمور. فيقع إذن ما هو خلاف الحكمة والحقيقة.
وأيضًا إن لم يحدث الحشر فإن جميع معاني كتاب الكون الحقة التي كُتبت بقلم القَدَر سوف تمسخ وتفسد! وهذا لا يمكن أن يكون مطلقًا، وليس له احتمال أبدًا، بل هو مُحالٌ في محال، كإنكار هذا الكون، بل هو هذيانٌ ليس إلّا.
[خلاصة شهادة أركان الإيمان على وجود الآخرة]
نُحصِّل مما تقدم أن جميع دلائل أركان الإيمان الخمسة هي بدورها دلائل على الحشر ووجوده، وعلى النشور وحدوثه، وعلى وجود الدار الآخرة وانفتاح أبوابها، بل تستدعيه وتشهد عليه، لذا فإنه من الوفاق الكامل والانسجام التام أن يبحث ثلث القرآن الكريم المعجز البيان بكامله عن الحشر لما له من الأسس والبراهين التي لا تتزعزع، ويجعلَه أساسًا وركيزة لجميع حقائقه التي يرفعها على ذلك الحجر الأساس.
(انتهت المقدمة)3لم يتيسر للمؤلف كتابة شيء من المقامات المذكورة، واقتصر هذا الشعاع التاسع على هذه المقدمة المهمة.
❀ ❀ ❀