الشعاع السابع: رسالة الآية الكبرى (1)
[في هذا الشعاع يقوم النورسي برحلةٍ تفكريةٍ شاملة يطالع فيها موجودات الكون بكافة طبقاتها، ويتلقى من كلِّ مرتبةٍ دلائلَ وجود الله ووحدانيته.. إنها متنٌ في العقيدة بطرازٍ فريد]
[هذا الجزء الأول من الرسالة يتحدث عن براهين وجود الله تعالى]
[الجزء الثاني من الرسالة يتحدث عن براهين وحدانية الله تعالى]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

كما أن وظيفة فطرته، وفريضة ذمَّته، هي معرفةُ اللّٰه، والإيمانُ به، والتصديق بوجوده وبوحدانيته إذعانًا ويقينًا.
نعم، إن الإنسان الضعيف الذي يَنشد -فطرةً- الحياةَ الدائمة الخالدة والعيشَ الأبدي الرغيد، والذي له آمالٌ بلا حدود، وآلامٌ بلا نهاية، لا بد أن تكون جميعُ الأشياء والكمالات هابطةً تافهة بالنسبة إليه، بل ليس لأكثرها أيةُ قيمة تُذكر، ما عدا الإيمان باللّٰه ومعرفته، وما عدا الوسائل التي تأخذ بيده إلى ذلك الإيمان الذي هو أس الأساس لتلك الحياة الأبدية ومفتاحُها.
الشعاع السابع: الآية الكبرى
الشعاع السابع
الآية الكبرى
[تعريف بهذه الرسالة]
تنبيه مهم وإيضاح:
على الرغم من أهمية هذه الرسالة وعظيم شأنها، لا يفهم كلُّ شخص، كلَّ مسألة من مسائلها، ولكن لا يبقى دون حظٍ منها؛ فالذي يدخل بستانا عظيما ولا تصل يدُه إلى جميع ثماره، فحسبُه ما نالَه منها؛ إذ البستان لم يخصّص له وحده، بل لذوي الأيدي الطويلة حصتُهم وحظُّهم كذلك.
وهناك خمسة أسباب تعيق فهم هذه الرسالة:
أولها: أنني كتبت مشاهداتي كما تراءت لي وفق فهمي، كتبتُها لنفسي، فهي لم تكتب شأن الرسائل الأخرى بمستوى فهم الآخرين ومدى تلقيهم.
ثانيها: أن التوحيد الحقيقي قد كُتب في صورته العظمى، بفيض تجلي “الاسم الأعظم”، فأصبحت مسائلُه واسعةً جدًّا، وعميقةً جدًّا، وطويلة جدًّا؛ لذا لا يتمكن كل شخص أن يحيط بها مباشرة ولأول وهلة.
ثالثها: أن كل مسألة من مسائلها بحدّ ذاتها حقيقةٌ كبرى طويلة -وحفاظا على وحدة الحقيقة وعدم تجزئتها- قد تصبح الصحيفةُ الواحدة جملةً مطولة واحدة، فهناك مقدمات كثيرة تورَد بمثابة دليل واحد فقط.
رابعها: أن كل مسألة -من أغلب المسائل التي تعالجها هذه الرسالة- لها أدلتها الكثيرة، وحُججها الوفيرة، فعند القيام بضم عشرة أدلة أو عشرين أحيانا لسَوقها برهانا واحدًا تكون المسألة طويلة، لا تسعها المداركُ القصيرة.
خامسها: لقد تعرّضتُ لأنوار هذه الرسالة بفيوضاتِ شهر رمضان المبارك ونفحاته، إلّا أنها كُتبت على عجل، واكتفيت بالمسودة الأولى؛ لِمَا كنت أعانيه من الأسقام ومتاعبِ المضايقات من مختلف الجهات، وكنت أشعر عند كتابتها أنها تَرِد إلى القلب دون اختيار مني ولا إرادة، فلم أرَ من اللائق أن أمسها بشيء من التنظيم أو التشذيب حسب تفكيري؛ لذا أَخَذَتْ الرسالةُ هذا الشكل الذي يستشكل على الفهم. فضلًا عما أُدرج فيها من فقرات عربية كثيرة، بل إن المقام الأول أُخرِج منها وكتب مستقلًا لكونه باللغة العربية كاملًا1وضعنا الفقرات الواردة باللغة العربية في النص محصورة بين قوسين مركنين..
ولكن رغم هذه الأسباب الخمسة التي هي مدارُ القصور والإشكال فالرسالة ذات أهمية عظيمة.
فهذه الرسالة التي هي حقيقةٌ من حقائق “الآية الكبرى” وتفسيرٌ لها، هي الشعاع السابع والحجة الإيمانية الأولى من “مجموعة عصا موسى”.
يتكون هذا الشعاع من مقامين، مع مقدمة توضح أربع مسائل مهمة:
المقام الأول: يبين باللغة العربية تفسير الآية الكبرى.
والمقام الثاني: يبين براهين المقام الأول ويوضحها ويثبتها.
إن طول المقدمة الآتية، وتوضيحَها المسهب، كان بدون اختيار مني، فهناك إذن حاجة أن أُملي عليّ هكذا، وقد يرى البعض طولَها قصرًا.
سعيد النورسي
❀ ❀ ❀
[المقدمة]
المقدمة
﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾
﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالاِنسَ إلّا لِيَعْبُدون﴾
[حكمة مجيء الإنسان إلى الدنيا]
يُفهم من أسرار هذه الآية الجليلة: أن حكمة مجيء الإنسان إلى هذه الدنيا والغايةَ منه، هي معرفةُ خالق الكون سبحانه، والإيمانُ به، والقيامُ بعبادته.
كما أن وظيفة فطرته، وفريضة ذمَّته، هي معرفةُ اللّٰه، والإيمانُ به، والتصديق بوجوده وبوحدانيته إذعانًا ويقينًا.
نعم، إن الإنسان الضعيف الذي يَنشد -فطرةً- الحياةَ الدائمة الخالدة والعيشَ الأبدي الرغيد، والذي له آمالٌ بلا حدود، وآلامٌ بلا نهاية، لا بد أن تكون جميعُ الأشياء والكمالات هابطةً تافهة بالنسبة إليه، بل ليس لأكثرها أيةُ قيمة تُذكر، ما عدا الإيمان باللّٰه ومعرفته، وما عدا الوسائل التي تأخذ بيده إلى ذلك الإيمان الذي هو أس الأساس لتلك الحياة الأبدية ومفتاحُها.
[ورطتان تزعزعان اليقين في هذا الزمان]
ولما كانت رسائل النور قد أَثبتت هذه الحقيقةَ بوضوح تام وببراهين قاطعة، نحيل إليها، مبينين هنا ورطتين تزعزعان ذلك اليقينَ الإيماني في هذا العصر، وتؤديان إلى الحيرة والتردد، وذلك ضمن “مسائل أربع”:
[الورطة الأولى: معضلة النفي والإثبات]
الورطة الأولى وسبيل النجاة منها مسألتان:
[المسألة الأولى: لا قيمة للنفي إزاء الإثبات في المسائل العامة]
المسألة الأولى: مثلما أُثبت في “اللمعة الثالثة عشرة” من “المكتوب الحادي والثلاثين” بالتفصيل أنه: “لا قيمة للنفي في المسائل العامة أمام الإثبات، فحكمُه ضعيف وهزيل“.
مثال ذلك: إذا أثبت شاهدان من عامة الناس رؤيةَ الهلال في أول شهر رمضان، ونَفَى الرؤيةَ آلافٌ من الوجهاء والعلماء قائلين: “إننا لم نرَ الهلال”. فإن نفْيَهم هذا يبقى غيرَ ذي قيمة أو أهمية؛ ذلك لأن في “الإثبات” يؤازر الواحدُ الآخرَ ويقويه، ففيه تساند واجتماع. بينما “النفي” لا فرق فيه أن يكون صادرا من شخص واحد أو من ألف شخص؛ إذ النافي منفردٌ باعتبار أنه وحده الذي ينفي.
ذلك لأن المُثبِت ينظر إلى الأمر نفسه ثم يُصدِر حكمَه، كما هو الحال في مثالنا، إذا قال أحدهم: هو ذا الهلال في السماء؛ فإن الآخر يصدّقه ويؤيده مشيرا إلى المكان نفسه، فيشتركان في النظر إلى المكان نفسه، فيتساندان، ويَقوَى حكمُهما ويرسخ. أما في النفي والإنكار فالنافي لا ينظر إلى الأمر نفسه ولا يسعه ذلك، لذا أصبحت القاعدةُ: “لا يمكن إثبات النفي غيرِ الخاص وغيرِ المحددِ مكانُه” قاعدةً مشهورة.
مثال ذلك: إذا أثبتُّ لك وجود شيء معين في الدنيا، وأنكرتَ أنت وجوده في الدنيا. فينبغي لك أن تقوم بالبحث والتحري عنه في أرجاء الدنيا كافة لتُثبت عدمَ وجود ذلك الشيء الذي أتمكن بنفسي من أن أُثبته بمنتهى السهولة وبإيماءة بسيطة مني إليه، بل عليك أن تغوص أيضًا في أعماق الأزمنة الغابرة، حتى تستطيع أن تقول: “لا يوجد فعلًا… لم تحدث حادثة كهذه!”.
ولما كان النافون والمنكِرون لا ينظرون إلى الأمر بذاته، وإنما يُصدرون أحكامهم حسب أنفسهم، ووفق عقولهم ونظراتهم؛ لذا لا يمكن أن يساند أحدُهم الآخرَ وأن يكون ظهيرا له؛ ذلك لأن حُجُب الرؤية مختلفة لديهم، والأسبابَ المانعة للمعرفة متنوعة عندهم. إذ يستطيع كل شخص أن يقول: “إنني لا أرى الشيء الفلاني”.. “وعندي أنه غير موجود”.. “وباعتقادي أنه لا يوجد”.. ولكنه لا يمكنه أن يقول: “إنه فعلا لا يوجد”. وإذا قال بهذا النفي -وبخاصة في المسائل الإيمانية التي تشمل الكون كله- فإن كلامه يكون إفكا عظيما وكذبا كبيرًا بكبر الدنيا، ولن يكون صدقا قط ولا يمكن أن يُستصوب أو يقوّم أبدًا.
نخلص مما تقدم: أنَّ النتيجة في الإثبات واحدة، وأن فيه تساندا، أما في النفي فالنتيجةُ ليست واحدة بل متعددة، إذ القيود: “عندي”.. “في نظري”.. “وباعتقادي”.. وأمثالها من الأسباب التي تحجب الرؤيةَ الصحيحة تتعدد وتختلف باختلاف الأشخاص؛ لذا تأتي النتائج متعددة أيضًا، ومتفرقة، فلا يحصل التساند مطلقًا.
وهكذا، انطلاقًا من هذه الحقيقة: لا قيمة أو أهمية للكثرة الظاهرة للكفار والمنكرين الذين يصدّون عن الإيمان.
ولكن، في الوقت الذي لا ينبغي أن يتأثر يقينُ المؤمن ولا يُشاب إيمانُه بأي نوع من أنواع الشك والتردد، نرى أن ما يثيره فلاسفة أوروبا من شبهات وجحود في هذا العصر قد جلب الحيرة إلى بعض المنكوبين المفتونين بهم، فأزال يقينَهم وأباد سعادتهم الأبدية وأوقعهم في شقاء وتعاسة؛ ذلك لأن إنكارهم هذا حوّل معنى “الموت” الذي يصيب يوميا ثلاثين ألفًا من الناس من معناه الحقيقي الذي هو إنهاء وظيفة الإنسان على الأرض، إلى صورة الإعدام الأبدي والفناء النهائي والنهاية المرعبة المخيفة. وأصبح القبر -الذي لا ينغلق بابُه- يسمِّم لذائذَ حياةِ ذلك المنكِر وينغّص عليه عيشَه بآلام مبرحة ملوّحا له بالعدم الرهيب دائما وبإعدامه الأبدي. فافهم من هذا: ما أعظمَ الإيمان وما أعظم نعمته! وافهم كيف أنه “حياة” للحياة!
[المسألة الثانية: لا عبرة بقول غير أهل الاختصاص]
المسألة الثانية: لا يؤخَذ بكلامِ مَـن هـم خارج إطــار علم أو صنعة في مســألة من مســائلهما، دارت حولها المناقشة، حتى لو كانوا عظماء وعلماء وصنّاعا مهَرة في اختصاصاتهم. ولا يؤخذ حُكمهم حجةً في تلك المسألة، ولا يدخلون ضمن إجماع علماء ذلك الضرب من العلم.
فمثلًا: لا يسري حكمُ مهندس عظيم كواحد من الأطباء في تشخيص مرض ما أو علاجه. لذا لا تؤخذ الأقوال المنكِرة الصادرة من أعظم فيلسوف بنظر الاعتبار فيما يخص المعنويات، ولا يُقام لها وزن، وبخاصة مَن توغل منهم كثيرًا في الماديات فطمس على بصيرته وتعامى عن النور، فتبلّد ذهنُه عن المعنويات وانحدر عقلُه إلى عينيه وتردى حتى أصبح لا يرى غيرَ المادة ولا يعقل شيئا دونها.
فيا تُرى، ما قيمة أقوال فلاسفة ذهلوا أمام تفرعات أصغر الأجزاء، وتاهوا أمام أكثرها تشتتا وغرقوا فيها، وكم يساوي كلامُهم وأقوالهم في مسائل التوحيد والإيمان والمعنويات السامية التي اتفقت عليها مئات الآلاف من أهل العلم والحقيقة أمثال الشيخ الكيلاني قدس اللّٰه سره ذي الدهاء القدسي والبصيرة الخارقة الذي كان يعاين العرش الأعظم وهو بَعدُ على الأرض، والذي سعى مرتقيا مراتب المعنويات زهاء تسعين سنة، حتى كشف الحقائق الإيمانية بعلم اليقين وعين اليقين بل حتى بحق اليقين؟ ألا يكون إنكارهم واعتراضُهم خافتا واهيا أشبه بطنين البعوضة أمام هدير السماء ودويّ رعودها؟!
[ماهية الكفر والإيمان]
إن ماهية الكفر الذي يُظهر العداء للحقائق الإسلامية ويبارزها إنما هي إنكار وجهل ونفي. وحتى لو بدت -ظاهريا- إثباتًا ووجوديا، إلّا أن معناها عدمٌ ونفيٌ؛ أما الإيمان: فهو علمٌ ووجودي وإثبات وحُكم. وحتى مسائله السلبية فهي ستار لحقيقة إيجابية وعنوان لها.
ولو أن أهلَ الكفر الذين يصدّون عن الإيمان سعوا ليثبتوا -بمشكلات عويصة- اعتقاداتِهم المنكرة السلبية ويجعلوها مقبولةً بصورة “قبول العدم” و”تصديق العدم”، فإن ذلك الكفر يمكن أن يعدّ -من جهة- علما خطأً وحكما غير صائب. وإلّا فإن ما هو سهلٌ ارتكابه من مجرد “عدم القبول” و”الإنكار” و”عدمِ التصديق” ليس إلّا جهلا مطلقًا، و”عدمَ حكم”.
[الكفر قِسمان]
والخلاصة: الاعتقاد بالكفر قسمان:
أولهما: ما ليس له علاقة بالحقائق الإسلامية. فهو تصديقٌ خطأ، واعتقاد باطل، وقبولٌ خطأ، وحكم ظالم خاصٌ به. فهذا القسم من الكفر خارج إطار بحثنا، لا شأن لنا به ولا شأن له بنا.
ثانيهما: ما يبارز الحقائق الإيمانية ويعارضها، وهذا أيضًا قسمان:
الأول: هو رفضٌ، وعدمُ قبولٍ، وهو مجرد عدم تصديق الإثبات، وليس هذا الكفر إلّا جهلا، وإلّا عَدَمَ حُكمٍ، وهو سهلٌ ارتكابُه، وهو خارج نطاق بحثنا أيضًا.
الثاني: هو قبول للعدم، وتصديق قلبيٌّ للعدم، فهذا القسم من الكفر هو حكم، وهو اعتقاد يفضي بصاحبه إلى الالتزام. فيضطر إلى إثبات نفيه وإنكاره.
والنفي بدوره قسمان:
أولهما: أن يقول النافي: إنه لا يوجد في موقع خاص وفي جهة معينة الشيءُ الفلاني. وهذا القسم من النفي المعيَّن يمكن إثباته، وهو أيضًا خارج بحثنا.
القسم الثاني: هو نفي وإنكار المسائل الإيمانية والقدسية والعامة والمحيطة التي تتوجّه إلى الدنيا، وتشمل الكون، وتتطلع إلى الآخرة، وتضم العصور. وهذا النفي -كما أثبتنا في المسألة الأولى- لا يمكن إثباته مطلقًا، لأنه يلزم أن يكون هناك نظرٌ محيط بالكون، ورؤية شاملة للآخرة ومشاهدة نافذة في الزمان غير المحدود بجميع جهاته، ليثبت مثل هذا النفي.
[الورطة الثانية: الجهل بمقام الألوهية]
الورطة الثانية وسبيل النجاة منها: وهي مسألتان أيضًا:
[المسألة الأولى: تقاصُر العقل المادي عن معنى العظَمة]
الأولى: أن العقول التي ضاقت أمام “العظمة” و”الكبرياء” و”المطلق غير المتناهي” وقصُرت عن إدراكها نتيجةَ الغفلة أو المعصية أو الانغماس في الماديات والانسياق وراءها قد أخذت -هذه العقول- تزلّ إلى الإنكار وتنفي -بغرورٍ علميّ- المسائلَ الهائلة العظمى لعجزها عن الإحاطة بها.
نعم، إن الذين عجزوا عن استيعاب المسائل الإيمانية المحيطة الواسعة جدًّا والعميقة جدًّا، في عقولهم الصلدة الضيقة معنًى، وعن أن يقروها في قلوبهم الفاسدة الميتة -تجاه المعنويات- يقذفون بأنفسهم إلى أحضان الكفر والضلال، فيغرقون.
ولكن إذا ما تمكن هؤلاء من إنعام النظر في كُنه كفرهم وفي ماهية ضلالهم، لرأوا أن ما يوجد في الإيمان من العظمة المعقولة واللائقة واللازمة، يقابله المحال تلو المحال وغير الممكن والممتنع طي ذلك الكفر وضمنه.
وقد أثبتت رسائل النور هذه الحقيقة بمئات الموازين والموازنات، وبقطعية تامة كقطعية حاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعًا.
فمثلًا: إن الذي يعجز أن يقبل الإيمان بوجوب وجوده سبحانه وتعالى وبأزليته وبصفاته المحيطة، لعظمته سبحانه ولعظمة صفاته الجليلة، سيحيل وجوبَ الوجود، وأزليتَه سبحانه، وصفاتِ الألوهية إلى جميع الموجودات غير المحدودة، بل إلى الذرات غير المتناهية، ليتمكن من الاعتقاد بكفره. أو عليه أن يتخلى عن العقل كالسوفسطائيين الحمقى بإنكاره وجودَ نفسه، ونفيه وجود الكون.
وهكذا تستقر الحقائقُ الإيمانية والإسلامية كلُها باستنادها إلى “العظمة” -التي هي من شأن تلك الحقائق ومن مقتضاها- وتثبت في القلوب الصافية والعقول السليمة، بكمال الإذعان والتسليم المطمئن، منقذةً أصحابَها مما يجابهها من الكفر ومحالاته المدهشة وخرافاته الموحشة وجهالاته المظلمة. نعم، إن العظمة والكبرياء ستاران ضروريان لا بد منهما؛ ويتبين ذلك من إعلان تلك العظمة والكبرياء في كل وقت: في الأذان، في الصلاة، وفي أغلب الشعائر الإسلامية بترديدِ:
﴿اللّٰه أكبر.. اللّٰه أكبر.. اللّٰه أكبر.. اللّٰه أكبر﴾
ويتضح ذلك أيضًا في الحديث القدسي: “العظمة إزاري والكبرياء ردائي“2انظر: أبو داود، اللباس، ٢٥؛ ابن ماجه، الزهد ١٦؛ أحمد بن حنبل، المسند ٢/٣٧٦..
ويظهر أيضًا في العقدة السادسة والثمانين من المناجاة الأحمدية البليغة في “الجوشن الكبير”:
﴿يا مَنْ لَا مُلكَ اِلّا مُلكهُ * يا مَنْ لَا يُحصِى العِبَادُ ثَناءَهُ﴾
﴿يا مَنْ لَا تَصِفُ الخَلائِقُ جَلالَهُ * يا مَنْ لا ينال الأوهامُ كنهَه﴾
﴿يا مَنْ لا يدرك الأبصارُ كمالَه * يا مَنْ لا يَبلــغ الأفهامُ صفاته﴾
﴿يا مَنْ لا ينال الأفكار كبرياءه * يا مَنْ لا يحسن الإنسان نعوته﴾
﴿يا مَنْ لا يردُّ العبادُ قضاءَه * يا مَنْ ظهر في كل شيء آياته﴾
﴿سُبحَانَكَ يَا لَا إلَهَ إلّا أَنتَ.. اَلأَمانَ الأَمانَ نَجِّنَا مِنَ النَّارِ﴾
❀ ❀ ❀
[الباب الأول: براهين الوجود]
الآية الكبرى
مشاهدات سائح يسأل الكون عن خالقه
﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمواتُ السَبْعُ وَالاَرضُ وَمَنْ فيهِنَّ وإنْ مِنْ شَيءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ وَلكِنْ لا تَفقَهونَ تَسبيحَهُمْ إنَّهُ كانَ حَليمًا غَفُورًا﴾
هذا المقام الثاني في الوقت الذي يفسِّرُ هذه “الآية الكبرى” يُبيِّنُ كذلك براهين المقام الأول الذي لم يدرج هنا والذي جاء باللغة العربية ويوضح حُججه.
إن آيات كثيرة في القرآن الكريم -أمثال هذه الآية العظمى- تذكر في مقدمة تعريفها لخالق هذا الكون “السماوات” التي هي أسطع صحيفة للتوحيد، بحيث ما يتأمل فيها متأملٌ إلّا وتغمره الحيرة ويغشاه الإعجاب، فيستمتع بمطالعتها بكل ذوق ولذة؛ فالأَولى إذن أن يُستهل بها.
نعم، إن كل من يأتي ضيفًا إلى مملكة هذه الدنيا ويحل في دار ضيافتها، كلما فتح عينيه ونظر رأى مضيفًا في غاية الكرم، ومعرضا في غاية الإبداع، ومعسكرَ تدريبٍ في غاية الهيبة، ومتنـزّها جميلا في غاية الروعة، ومشهَرا في غاية الإثارة للشوق والبهجة، وكتابًا مفتوحًا ذا معان في غاية البلاغة والحكمة.
[مشهد النجوم في السماوات]
وبينما يولَع الضيف السائح أن يعلم ويتعرف على صاحب هذه الضيافة الكريمة، وعلى مؤلِّف هذا الكتاب الكبير، وعلى سلطان هذه المملكة المهيبة، إذا بوجه السماوات الجميل المتلألئ بالنجوم النيّرة يطل عليه مناديًا: “انظر إليّ، فأنا أعرّفك بالذي تبحث عنه”.
[حقيقة التسيير والتدوير]
فينظر السائح ويرى أن ربوبيةً ظاهرةً تتجلّى في رفعها مئاتِ الألوف من الأجرام السماوية بلا عمَد ولا سنَد، منها ما هو أكبر من أرضنا ألف مرة، وما هو أسرع انطلاقًا من القذيفة بسبعين مرة.. وفي تسييرها وجَريها تلك الأجرامَ معًا بسرعة فائقة بلا مزاحمة ولا مصادمة.. وفي إيقادها تلك القناديلَ المتدلية التي لا تعد، بلا زيت ولا انطفاء.. وفي إدارتها تلك الكتلَ الهائلة التي لا حدّ لها، بلا ضوضاء ولا صخب ولا اختلال.
[حقيقة التدبير والتسخير]
ويرى تجليها كذلك في تسخيرها تلك المخلوقاتِ العظيمةَ في مهامَّ معينة كاستسلام الشمس والقمر لأداء وظائفهما دون إحجام أو تلكؤ.. وفي تصريفها هذا العددَ الهائل الذي لا تحده الأرقام ضمن ذلك البعد الشاسع غيرِ المتناهي ما بين دائرة القطبين تصريفا يجري في الوقت نفسه، وبالقوة نفسها، وبالطراز نفسه، وبسكة الفطرة نفسها، وبالصورة نفسها، ومجتمعة، دون أن تصاب بـأدنى نقص أو خلل.
[حقيقة التوظيف والتنظيف]
وهالَه ما يرى من تجلي الربوبية في إخضاعها تلك السياراتِ الضخمةَ التي تملك قوى هائلة ومتجاوزة لحدودها، منقادةً مطيعةً لقانونها أن تتجاوز أو تنحرف.. وفي جعلها وجه السماء صافيا نقيا يتنظف طاهرا مما تلوثه أنقاضُ تلك الأجرام المزدحمة دون أن يُرى عليه قذًى ولا أذًى.. وفي سَوقها تلك الأجرامَ كأنها مناورة عسكرية منسَّقة، وعرضِها أمام المخلوقات المشاهدين كأنها مَشَاهِد فيلم سينمائي، بتدوير الأرض بالليل والنهار، وتجديدها أنماط المناظر الحقيقية الخلابة المثيرة للخيال لتلك المناورة الرائعة وإبرازها في كل ليلة وفي كل سنة.
فهذه الربوبية الجليلة الظاهرة وما تظهر ضمن فعاليتها من حقيقة جلية مركبة من “التسخير، والتدبير، والإدارة، والتنظيم، والتنظيف، والتوظيف” تشهد على وجوب وجود خالق تلك السماوات وعلى وحدته، بعظمتها المهيبة هذه وبإحاطتها الكلية هذه، وتشهد -كما هو مُشاهَد- بأن وجوده جلّ وعلا أجلى من وجود هاتيك السماوات.
وقد ذكر هذا المعنى في المرتبة الأولى من المقام الأول كالآتي:
(لا إله إلّا اللّٰه الواجبُ الوجودُ الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: السماواتُ بجميع ما فيها، بشهادةِ عظمةِ إحاطةِ حقيقةِ: التسخير والتدبير والتدوير والتنظيم والتنظيف والتوظيف الواسعة المكملة بالمشاهدة)
❀ ❀ ❀
[مشهد جو السماء]
ثم إن الفضاء الذي هو محشَر العجائب ومَعرض الخوارق والمسمى بـ”الجو” نادى بصوتٍ هادرٍ ذلك القادمَ إلى الدنيا.. ذلك الضيف السائح: “انظر إليّ لأرشدك إلى مَن تبحث عنه بشوق ولهفة، وأعرّفك بذاك الذي أرسلك إلى هنا”.
[السحاب]
فينظر إلى وجه الفضاء المكفهر وهو يتقطَّر رحمةً! ويستمع إلى دويّه المخيف المرهب وهو يحمل رحيق البشرى! فيرى أن: “السحاب” الذي عُلّق بين السماء والأرض يسقي روضةَ الأرض سقيا يتفجّرُ حكمةً ورحمة، ويُمد سكنتَها بالماء الباعث للحياة، ملطِّفا به شدة الحرارة -أي شدة ضرام العيش- ويدرك توا أينما كانت الحاجة. ومع أن ذلك السحاب الثقيل الضخم يقوم بوظائف كثيرة أمثال هذه، فإنه يختفي ويتبدد فورا بعد أن ملأ أرجاء الجو. فتنسحب جميع أجزائه لتخلد إلى الراحة، فيتوارى عن الأنظار دون أن يترك أثرا بمثل ظهورِ واختفاءِ الجيش المنظم طبقا لأوامرَ فورية. ولكن ما إن يتسلّم أمرَ “هيا لإنزال المطر” إلّا ويجتمع ويملأ الجو في ساعة بل يغمره في دقائق، ويتهيأ متأهبا كالجندي المنتظر أمر القائد!
[الرياح]
ثم ينظر ذلك السائح إلى “الرياح” التي تجول في الجو فيرى أن الهواء يُستخدم في وظائف كثيرة، في منتهى الحكمة والكرم استخداما كأن كل ذرة من ذرات ذلك الهواء الجامد -وهي لا تملك شعورا- تسمع وتعي ما يُلقَى إليها من الأوامر الصادرة من سلطان هذا الكون. فتؤدي خدماتها بقوةِ ذلك الآمر وهيمنته وتنفّذها بكل انتظام ودقة دون أن تتوانى في شيء منها فتدخل هذه الذرات في استنشاق جميع أحياء الأرض للهواء، أو نقل الأصوات أو المواد الضرورية لذوي الحياة كالحرارة والضوء والكهرباء، أو التوسط لتلقيح النباتات أو ما شابهها من الوظائف الكثيرة، فهي تُستخدم بجميع هذه الخدمات من قِبَل يدٍ غيبية استخداما في منتهى الشعور، والعلم، والحيوية.
[المطر]
ثم ينظر إلى “المطر” فيرى أن تلك القطرات اللطيفة البراقة العذبة التي أُرسلت وأُغدقت من خزينة الرحمة الغيبية، تزخر بهدايا رحمانية ووظائف غزيرة حتى كأن الرحمة المهداة قد تجسّدت منصبّةً من عيون الخزينة الربانية على صورة تلك القطرات المتهاطلة.. ولهذا أُطلق على المطر اسم “الغيث“.. و”الرحمة“.
[البرق والرعد]
ثم ينظر إلى “البرق” ويصغي إلى “الرعد“، فيرى أنهما يستخدمان في أمور بالغة الإعجاب والغرابة.
[تفكُّرٌ في آيات جو السماء]
[في السحاب]
فيرجع بَصَرهُ إلى عقله، ويحاور نفسه قائلًا: إن هذا السحاب الجامد الخالي من الشعور، والمنفوش كالعهن، لا شك أنه يجهلنا ولا يعرفنا، ولا يمكن أن يسعى بنفسه لإمدادنا رأفةً بنا ورقةً لحالنا، ولا يمكن أن يَظهر باديا في السماء ويختفي منقشعا بدون أمر، بل لا بد أنه يسعى في وظيفته وفق أمرٍ صادر من آمرٍ قدير مطلق القدرة، ورحيم مطلقِ الرحمة. حيث يختفي دون أن يعقّب، ثم يظهر فجأةً، متسلما مهامَّ عمله، فيملأ عالَم الجو ويفرغه بين الفينة والفينة تنفيذا لأمر سلطان جليل متعال فعّال، فيخط على لوحة السماء دومًا بحكمة، ويمحو بالإعفاء، محوِّلا إياها إلى “لوحة المحو والإثبات” وإلى صورة مصغّرة للحشر والقيامة.
إذ يركب السحابُ متونَ الرياح بأمر من حاكم مدبّر ذي ألطاف وإحسان وذي إكرام وعناية، حاملا خزائن أمطار واسعةً سعة الجبال وضخامتها مسعفا بها مواضع من الأرض محتاجة إليها، وكأنه يرقّ لحالها فيبكي عليها بدموعه ويطلقها ضاحكة بالأزاهير والرياحين، ويخفف من شدة لفحة الشمس ويسقي بساتين الأرض ومُرُوجها ويغسل وجهها وأديمها ويطهرها من الأقذار ليشرق بالصفاء والرواء.
[في الرياح]
ثم يحاور ذلك المسافر الشغوف عقله قائلًا: إن هذا الهواء الجامد الذي لا حياة له ولا شعور ولا ثبات له ولا هدف، وهو في اضطراب دائم، وهيجان لا يسكن، وذو عواصف وأعاصير لا تهدأ، تأتي إلى الوجود وتبرز بسببه -وبصورته الظاهرة- مئاتُ الألوف من الأعمال والوظائف والنِعم والإمدادات العامرة بالحكمة والرحمة والإتقان، مما يُثبت بداهة: أنه ليست لهذه الرياح الدائبة حركةٌ ذاتية، فلا تتحرك بذاتها أبدًا وإنما يحرّكها أمرٌ صادر من آمرٍ قدير عليم مطلق وحكيم كريم مطلق، وكأن كلَ ذرة من ذراتها تَفهم وتسمع -كالجندي المطيع- كلَّ أمر صادر من لدن ذلك الآمر وتدركه فتنقاد إليه، وتجعل الأحياء جميعَها تتنفسها لتسهم في إدامة حياتها، وتشارك في تلقيح النباتات ونموها، وتعاون في سوق المواد الضرورية لحياتها، وسوق السحب وإدارتها وتسيير السفن التي لا وقود لها وجعلِها تمخر البحار وتسيح فيها، وتتوسط خاصة في إيصال الأصوات والمكالمات والاتصالات عبر أمواج اللاسلكي والبرق والراديو، وأمثال هذه الخدمات العامة الكلية، فضلًا عن أن ذرات الهواء مركبة من مواد بسيطة كالآزوت ومولد الحموضة (الأوكسجين).
ومع تماثل بعضها لبعض فلا أراها إلّا أنها تُستخدم بيدٍ حكيمة وبانتظام كامل في مئات الألوف من أنماط المصنوعات الربانية. لذا حكم السائح قائلًا: حقًّا مثلما صرّحت به الآية الكريمة: ﴿وتصريف الرياح والسحاب المسخّرِ بين السّماء والأرض﴾.
فإن الذي يُجري أمرَه على الهواء ويستعمله في خدمات ووظائف ربانية غير محدودة، بتصريف الرياح، وفي أعمال رحمانية غير محدودة، بتسخير السحاب، ويوجِد الهواء على تلك الصورة، ليس إلّا ربا واجبَ الوجود، قادرا على كل شيء، وعالما بكل شيء ذا جلال وإكرام.
[في المطر]
ثم يرجع بنظره إلى “الغيث” فيرى أنه مثقل بمنافع بعدد شآبيبه ويحمل تجليات رحمانية بعدد زخاته، ويُظهر حِكمًا بقدر رشحاته، ويرى أن تلك القطرات العذبة اللطيفة المباركة تُخلق في غاية الانتظام وفي منتهى الجمال والبهاء وبخاصة البَرَد الذي يُرسَل -وينـزل حتى صيفا- بانتظام وميزان، بحيث إن العواصف والرياح العاتية -التي تضطرب من هولها الكتلُ الضخمة الكثيفة- لا تُخل في موازنة ذلك البَرَد ولا انتظامه، ولا تجعله كُتلا مضرة جمعًا بين حبّاته!
فهذا الماء الذي هو جماد بسيط لا يملك شعورا، يُستخدم في أمثال هذه الأعمال الحكيمة، وبخاصة استخدامه في الإحياء والتروية، وهو المركب من مادتين بسيطتين جامدتين خاليتين من الشعور؛ هما مولد الماء ومولد الحموضة -الهيدروجين والأوكسجين- إلّا أنه يُستخدم في مئات الآلاف من الخدمات والصنائع المختلفة المشحونة بالحكمة والشعور.
فهذا الغيث إذن ما هو إلّا رحمةٌ متجسمة بعينها، ولا يتمّ صنعه إلّا في خزينة الغيب لرحمةِ “الرحمن الرحيم”، وهو بنـزوله وانصبابه على الأرض يفسِّر عمليًّا وبوضوحٍ الآيةَ الكريمة: ﴿وهو الذي يُنزّلُ الغيثَ من بعدِما قَنَطوا وينشُرُ رَحْمَتَه﴾.
[في الرعد والبرق]
ثم يصغي ذاهلًا إلى “الرعد” وينظر مندهشا إلى “البرق” فيرى أن هاتين الظاهرتين الجويتين العجيبتين تفسران تماما الآيتين الجليلتين: ﴿ويُسَبّح الرّعدُ بحمده﴾، ﴿يكاد سنا برقه يَذهَب بالأبصار﴾؛ فإنهما تخبِران كذلك عن قدوم الغيث فتبشران المعوزين الملهوفين.
نعم، إن إنطاق الجو المظلم بغتة بصيحة هائلة تزمجر وتجلجل، ومَلء الظلام الدامس بنور يكاد يذهب بالأبصار، وبنار ترعب كل موجود، وإشعالَ السحب العظيمة كالجبال، والمنفوشة كالعهن، المحمّلة بالبَرَد والثلج والماء.. وما شابهها من هذه الأوضاع الحكيمة الغريبة؛ لَتنبِّه الإنسانَ الغافل وتوقظه، وتلوّح بالدِّرَةِ على رأسه المخفوض قائلة: يا هذا! اِرفع رأسك وانظر إلى غرائب الصنعة وبدائع الخلقة للفعال القدير الذي يريد أن يُعرّف نفسه لعباده. فكما أنك لست طليقا سائبا مفلت الزمام في هذا الوجود، فلن تكون هذه الحوادث سدًى ولا عبثا، بل كل منها تُساق إلى وظائف حكيمة بخضوع واستسلام وكل منها يستخدم من لدن ربٍ مدبّر حكيم.
وهكذا يسمع هذا السائح الولوع شهادةً سامية جليّة لحقيقةٍ مركبة من تسخير السحاب، وتصريف الرياح، وإنزال الغيث، وتدبير الظواهر الجوية فيقول: آمنت باللّٰه..
وقد أفادت3تنبيه: كنت أريد أن أوضح المراتب الثلاث والثلاثين من مراتب التوحيد المذكورة في “المقام الأول” إلا أن عدم سماح وضعي في الوقت الحاضر جعلني مضطرًّا إلى الاكتفاء ببراهينها المختصرة جدًّا وترجمة معانيها فحسب. وحيث إن ثلاثين رسالة من رسائل النور بل مائة رسالة منها قد بيّنت -كل منها- قسما من تلك المراتب الثلاث والثلاثين مع دلائلها بأساليب مختلفة؛ لذا أحيلت التفاصيل إليها. (المؤلف). المرتبة الثانية من المقام الأول مشاهداتِ هذا السائح في الجو كالآتي:
(لا إله إلّا اللّٰه الواجب الوجود الذي دلّ على وجوب وجوده: الجوُّ بجميع ما فيه، بشهادة عظمةِ إحاطةِ حقيقةِ: التسخير والتصريف والتنـزيل والتدبير، الواسعة المكملة بالمشاهدة).
❀ ❀ ❀
[مشهد كرة الأرض]
ثم إن ذلك السائح المتفكر، المتعود على السياحة الفكرية، هتفت به “كرة الأرض” بلسان حالها، قائلة: “لِمَ تجول في الهواء وتدور في أرجاء السماء والفضاء؟ هلمّ إليّ لأعرّفك بالذي تبحث عنه. تأمل فيما أزاول من وظائف، واقرأ ما هو مكتوب في صحائفي”.
فأخذ السائح ينظر، فيرى أن الأرض -كالمولوي العاشق- تخط بحركتيها في أطراف ميدان الحشر الأعظم دائرة تحصل بها الأيام والسنون والفصول..
وهي كسفينة ربانية عظيمة حاملة لأكثر من مائة ألف نوع من أنواع ذوي الحياة مع جميع أرزاقها ومتطلباتها المعاشية، فتمخر عباب الفضاء وتطوف في رحلة سياحية وتجوال حول الشمس بكمال الموازنة والانتظام الأتم.
ثم ينظر إلى صحائفها فيرى أن كل صحيفة منها تعرّف ربَّها بآلاف آياتها.. ولكن لمّا لم يجد متسعا من الوقت لمطالعة الصحائف كلها، فقد اقتصر بالنظر إلى صحيفة واحدة منها فقط، وهي صحيفة إيجاد ذوي الحياة وإدارتها في فصل الربيع. فشاهَدَ أن أفرادا غير محدودين لمائة ألف من الأنواع تنفتح صورُها وتنبسط من مادة بسيطة بمنتهى الانتظام، وتُربّى بمنتهى الرحمة، وتُنشر في الأرجاء بمنتهى السعة وتُمنح بذور قسم منها جُنيحات رقيقة للطيران في غاية الإعجاز.. وأنها تدار بمنتهى التدبير، وتعيّش وتغذّى بمنتهى الشفقة والرأفة، وتُؤمَّن أرزاقُها الوفيرة المتنوعة اللذيذة الطيبة بمنتهى الرحمة والإرزاق، فتُوافى من غير شيء، ومن تراب يابس، ومن جذور صلبة كالعظام ومن بذور متماثلة، ومن قطراتِ ماء متشابهة، وتُبعث من خزينة الغيب إلى ذوي الحياة كلَّ ربيع -كحمولة قطار مشحون- مائةُ ألف نوع ونوع من الأطعمة واللوازم بكمال الانتظام والاتساق. وبخاصة إرسال اللبن الخالص اللذيذ الدفاق من ينابيع أثداء الوالدات الرؤومات الملفعات بالشفقة والرحمة والحكمة هدايا للصغار والأطفال.. كل ذلك يثبت بداهة أنه تجلٍ في منتهى التربية والرأفة من تجليات رحمة الرحمن الرحيم وإحسانه العميم.
والخلاصة: لقد فهم السائح بمشاهدة هذه الصحيفة الحياتية للربيع الجميل، أنها صورةٌ من صور الحشر والنشور بمئات الآلاف من النماذج والنظائر، فهي تفسّر عمليًّا تفسيرا محسوسا رائعًا الآيةَ الكريمة: ﴿فانظر الى آثار رحمتِ اللّٰه كيف يُحيي الأرض بعدَ موتها إن ذلك لمُحيي الموتى وهو على كل شيء قدير﴾.
والآية نفسها تفيد بإعجاز جميل المعانيَ الواردة في هذه الصحيفة.. وفَهِم ما تردده كرةُ الأرض بجميع صحائفها وبنسبة جسامتها وقوتها من: “لا إلهَ إلّا هو”.
وهكذا لأجل بيان شهادة مختصرة، لوجه واحد فقط من عشرين وجها من وجوهِ صحيفة واحدة من الصحائف الواسعة لكرة الأرض، التي تربو على عشرين صحيفة، ولأجل بيان ما أفادته مشاهدات ذلك السائح في سائر الوجوه والصحائف.. ذُكر في المرتبة الثالثة من المقام الأول:
(لا إله إلّا اللّٰه الواجب الوجود الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: الأرضُ بجميع ما فيها وما عليها، بشهادةِ عظمةِ إحاطةِ حقيقةِ: التسخير والتدبير والتربية والفتاحية وتوزيع البذور والمحافظة والإدارة والإعاشة لجميع ذوي الحياة، والرحمانية والرحيمية العامة الشاملة المكملة بالمشاهدة)
❀ ❀ ❀
[مشهد البحار والأنهار]
ثم أصبح ذلك المسافر المتفكر كلما قرأ صحيفةً قويَ إيمانُه الذي هو مفتاح السعادة، وزادت معرفتُه باللّٰه التي هي مفتاح المدارج المعنوية، وانكشفت لبصيرته درجة أخرى من حقيقة الإيمان باللّٰه الذي هو الأساس القويم لجميع الكمالات ومنبعها الثرّ العذب.
ومع أنه قد وعى دروسا بليغة وتامة من السماء والجو والأرض، بات يطلب المزيد؛ كلما منحته تلك الصحائف أذواقا معنوية لطيفة، ولذائذ روحية كثيرة، مثيرةً شغفَه، منبهةً ولَعَه بشدة قائلًا: هل من مزيد؟
وإذا به يسمع صدى أذكار “البحار والأنهار العظيمة” التي تتدفق خشوعا وشوقا، فينصت إلى همس أصواتها الحزينة اللذيذة، وهي تقول بلسان الحال والمقال: “ألا تنظر إلينا؟ ألا تطالعنا؟”
[البحار]
فينظر بلهفة حائرة ويرى: أن البحار التي تتماوج بحيوية وتتلاطم بشدة دومًا، والتي من شأنها التشتت والانسكاب والإغراق، قد أحاطت بكرة الأرض، فهما تُسيَّران معًا في منتهى السرعة وتجريان في سنة واحدة ضمن دائرة مقدارها خمس وعشرون ألف سنة. وعلى الرغم من كل هذا فهي لا تتفرق أبدًا ولا تنسكب مطلقًا ولا تستولي على جارتها اليابسة، فلا بد من أنها تسكن وتسيّر وتحفظ بأمرِ مَن له القدرة المطلقة، والعظمة المطلقة.
ثم ينظر إلى جوف البحر فيرى -علاوة على لآلئه المشعة التي هي في غاية الجمال والزينة والانتظام- أن إعاشة آلاف الحيوانات المتنوعة وإدارتها وتعيين مواليدها ووفياتها تجري في منتهى الانتظام والإتقان، وأن مجيء أرزاقها ونشوء أقواتها من رمل بسيط ومن ماء أجاج، ميسورٌ وكامل بحيث يثبت بداهة أنه لا يتم إلّا بإدارة القدير ذي الجلال، وإعاشة الرحيم ذي الجمال.
[الأنهار]
ثم ينظر ذلك المسافر إلى الأنهار فيرى أن فيها من المنافع والمصالح ولها من الخدمات والوظائف وما تنتجه من مصاريف وما ترده من موارد محسوبٌ بحكمة واسعة، وبرحمة عظيمة بحيث تثبت بداهة أن جميع الجداول والترع والينابيع والسيول والأنهار العظيمة تنبع وتجري من خزينة الرحمن ذي الجلال والإكرام. بل إنها تُخزَن وتدّخَر ادخارا خارقًا للمألوف، فتصرف وتجري جريا فوق المعتاد، حتى ورد في الحديث الشريف ما معناه: أن أنهارا أربعة تجري من الجنة4عن أبى هريرة قال: قال رسول اللّٰه ﷺ: “سَيْحان وجَيحان والفرات والنيل كلٌّ من أنهار الجنة”. وانظر: البخاري، بدء الخلق ٦، مناقب الأنصار ٤٢، الأشربة ١٢؛ مسلم، الإيمان ٢٦٤، الجنة ٢٦؛ أحمد بن حنبل، المسند ٢/٢٦٠، ٢٨٩، ٤٤٠، ٣/١٦٤، ٤/٢٠٨، ٢٠٩..
بمعنى أن جريان هذه الأنهار؛ هو فوق حسابات الأسباب الظاهرة بكثير، لذا فهي لا تجري إلا من خزينةِ جنة معنوية لا ينضب ومن فيضِ منبع غيبي لا ينفد.
[مثالٌ تفكريٌّ في نهر النيل]
فمثلًا: هذا نهر النيل الذي حوّل صحراء مصر القاحلة إلى جنة الدنيا، يجري كبحر صغير دون نفاد، وينبع من جبل واقع في الجنوب يدعى “جبل القمر”.
فلو جُمّعت صرفياتُه لستة أشهر وجُمّدت، لحصل ما هو أعظم من ذلك الجبل! والحال أن ما خُصّص له من مكان للخزن لا يبلغ سُدس ذلك الجبل.
أما وارداته فقليلة ضئيلة، حيث إن شحّة الأمطار وشدة حرارة المنطقة وتعطّش الأرض، كل ذلك مجتمعًا لا يفسح مجالًا للخزن إلّا للقليل، ولا يسمح للمحافظة على ميزان وارداته وصرفياته؛ لذا قد روي أنه يجري من “جنة” غيبية هي فوق القوانين الأرضية المعتادة. فأفادت تلك الرواية حقيقة لطيفة ذات مغزى عميق جدًّا.
وهكذا رأى السائح شهادةً واحدة وحقيقة واحدة، من آلاف الشهادات والحقائق التي هي واسعة سعة البحار نفسها، وفهِم أن جميعها تردد معًا بالإجماع، وبقوةِ عظمة البحار: “لا إله إلّا هو”، وبرز أمامه شهودٌ بعدد مخلوقات البحار على صدق هذه الشهادة.
ولبيان شهادات البحار والأنهار جميعها، أفادت المرتبة الرابعة من المقام الأول ما يأتي:
(لا إله إلا اللّٰه الواجب الوجود الذي دل على وجوبِ وجوده في وحدته: جميعُ البحار، والأنهار، بجميع ما فيها، بشهادة عظمةِ إحاطةِ حقيقة: التسخير والمحافظة والإدارة الواسعة المنتظمة بالمشاهدة)
❀ ❀ ❀
[مشهد الجبال والصحارى]
ثم تدعو الجبالُ والصحارى ذلك المسافرَ المستغرِق في السياحة الفكرية قائلةً: “ألا تقرأ صحيفتَنا أيضًا؟”.
فهو بدوره يحدق النظر، ويرى أن وظائف الجبال الكلية، وفوائدها العامة هي من العظمة والحكمة مما تُحيّر العقول.
[وظيفة التنفيس]
فمثلًا: بروز الجبال واندفاعها من الأرض بأمرٍ رباني يهدّئ هيجانَ الأرض ويخفف من غضبها وسخطها وحدّتها الناجمة من تقلباتها الباطنية، ويدعها تتنفس مستريحة بفوران تلك الجبال ومن خلال منافذها، فتتخلص بذلك من الزلازل المهلكة والتصدّعات المدمّرة، فلا تعود تسلب راحة الآمنين من سكنتها.
[وظيفة التثبيت]
وكما يُنصَب على السفن الأعمدة والأوتاد حفاظا على توازنها ووقايتها من التزعزع والغرق، كذلك الجبال هي أوتادٌ ذات خزائن لسفينة الأرض، تقيها من الزلزال وتُثبتها وتحفظ توازنها. وقد بيَّن القرآن الكريم هذا المعنى في آيات كثيرة، منها: ﴿والجبال اوتادًا﴾، ﴿وألقينا فيها رواسي﴾، ﴿والجبال أرساها﴾.
[وظيفة التخزين]
ومثلًا: إن ما في جوف الجبال من أنواع الينابيع والمياه والمعادن والمواد والأدوية التي يحتاج إلى كل منها ذوو الحياة، قد ادُّخرت بحكمة، وأُحضرت بكرم، وخزِّنت بتدبير، بحيث تثبت بداهة أن هذه الجبال هي خزائنُ ومستودعاتُ ادّخارٍ تحت أمر القدير الذي لا نهاية لقدرته، والحكيمِ الذي لا نهاية لحكمته.
فيدرك السائح هذا، ويقيس على هاتين الجوهرتين ما يليهما من وظائفِ الجبال والصحارى وحِكَمهما -التي هي بضخامة الجبال وسعة الصحارى- فيرى أن الجبال والصحارى تشهدان وتوحِّدان بـ”لا إله إلّا هو” بلسان جميع حِكَمهما وبلغة جميع وظائفهما وبخاصة ادخارهما الاحتياطي من المواد، وأن تلك الشهادة والتوحيد هما من القوة والرسوخ ما للشُّمّ العوالي، وهما من الشمول والسعة ما للقفار والصحارى، فيردد اللسان بخشوعٍ: آمنت باللّٰه.
وهكذا ذكر في المرتبة الخامسة من المقام الأول لبيان هذا المعنى ما يأتي:
(لا إله إلّا اللّٰه الواجب الوجـود الذي دلّ على وجـوب وجوده: جميعُ الجبال والصحارى، بجميع ما فيها وما عليها، بشهادةِ عظمةِ إحاطةِ حقيقةِ: الادخار، والإدارة، ونشر البذور، والمحافظة، والتدبير الاحتياطية الربانية الواسعة العامة المنتظمة المكمَّلة بالمشاهدة)
❀ ❀ ❀
[مشهد الأشجار والنباتات]
وبينما كان ذلك المسافر يجول بفكره في الجبال والصحارى، انفتح أمام فكره باب عالم “الأشجار والنباتات” يدعوه قائلًا: “هلمَّ إلينا وجُلْ في رياضنا واقرأ سطورنا”.
فدخل ورأى أن الأشجار والنباتات قد عَقدت مجلسا فخما رائعًا للتهليل والتوحيد، وشكَّلت حلقة مهيبة للذكر والشكر.
ففهم من ألسنة أحوالِها كأنها تلهج معًا، وتردد بالإجماع: “لا إله إلّا اللّٰه” لما رأى من ثلاث حقائق كبرى كليّة تدل على أن جميع الأشجار المثمرة وجميع النباتات المزهرة تؤدي شهادتها مسبّحة وتقول معًا بالألسنة الفصيحة لأوراقها الموزونة، وبالكلام الجزيل لأزهارها الجميلة، وبالكلمات البليغة لأثمارها المنتظمة “لا إله إلّا هو”:
[حقيقة الإنعام والإكرام]
أولاها: حقيقةُ الإنعام والإكرام المقصودَين، والإحسان والامتنان الإراديين التي يحس معناها إحساسا ظاهرا في كل نبات وشجر. مثلما هي حقيقة واضحة وضوح ضوء الشمس في الكل.
[حقيقة التمييز والتفريق]
ثانيتها: حقيقةُ التمييز والتفريق المقصودَين بحكمة، والتزيينِ والتصوير الإراديين برحمة، وهي واضحة وضوح النهار -حقيقةً ومعنًى- فالتمييز بين تلك الأنواع والأفراد غيرِ المحدودة غرضٌ مقصود، والاختلافُ والتباين بينها حكمة مطلوبة، ولمسات التجميل والتحسين رحمة مرادة، وهذه الحقيقة واضحة وضوحا لا يدع مجالًا قط لنسبتها إلى المصادفة، مما يُظهر عيانا أنها آثارُ الصانع الحكيم ونقوشه البديعة.
[حقيقة فتحُ صورٍ مختلفة من أصولٍ متشابهة]
ثالثتها: حقيقةُ فتح صور المصنوعات غير المحدودة، بمئات الآلاف من الأنماط المختلفة والأشكال المتنوعة فتحا من حبوب معدودة متشابهة، ومن نوى محدودة متماثلة، واستنباتها في غاية الانتظام والميزان وبمنتهى الزينة والجمال، رغم أنها بسيطة جامدة ومختلطة بعضها ببعض. ففتح صور كل فرد من أفراد تلك الأنواع المتباينة -التي تربو على مائتي ألف نوع- كلٌ على انفرادٍ بانتظام كامل وبموازنة تامة وبحيوية وحكمة وبدون خطأ، لهو حقيقة ساطعة جلية أسطع من الشمس.
ففهمَ السائح أنَّ هناك شهودًا ودلائلَ إثباتٍ على تلك الحقيقة بعدد أزهار الربيع، وبعدد أثماره وبعدد أوراقه وموجوداته، فعبّر عمّا جاش في قلبه من معان كريمة فقال: “الحمد للّٰه على نعمة الإيمان”.
ولبيان هذه الحقائق والشهادات ذُكر في المرتبة السادسة من المقام الأول الآتي:
(لا إله إلّا اللّٰه الواجب الوجود الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: إجماعُ جميع أنواع الأشجار والنباتات، المسبحات الناطقات بكلمات أوراقها الموزونات الفصيحات، وأزهارها المزينات الجزيلات، وأثمارها المنتظمات البليغات، بشهادةِ عظمةِ إحاطةِ حقيقةِ الإنعام والإكرام والإحسان بقصـدٍ ورحمةٍ. وحقيقة التمييز والتزيين والتصوير بإرادة وحكمةٍ، مع قطعية دلالةِ حقيقةِ فتحِ جميع صورها الموزونات المزيّنات المتباينة المتنوعة غير المحدودة، من نَويات وحبّات متماثلة متشابهة محصورة معدودة)
❀ ❀ ❀
[مشهد عالَم الحيوان]
وبينما كان السائح الشغوف -الذي ازداد بالسمو ذوقا وشوقا- عائدا من تلك السياحة الفكرية مبتهجا بلذةِ وقوفِه على الحقيقة وعثوره على جنات الإيمان، راجعا من بستان الربيع، حاملا باقة كبيرة واسعة -من أزهار المعرفة والإيمان- سعةَ الربيع نفسه، إذا بباب عالم الطيور والحيوانات ينفتح إزاء عقله التوّاق للحقيقة وفكره المشتاق للمعرفة، تدعوه تلك الطيورُ والحيوانات بمئات الألوف من الأصوات المتباينة والألسنة المختلفة، للدخول إلى ذلك العالم الفسيح، وترحب بمقدمه إلى عالمها.
فدخله ورأى أن جميع الطيور وجميع الحيوانات بأنواعها وطوائفها وأممها كافة تذكر متفقة: “لا إله إلا هو” بلسان حالها ومقالها، حتى لكأنَّ سطحَ الأرض مجلس ذكر مهيب، ومجمعُ تهليل عظيم.. ورأى أن كلًّا منها بحد ذاته بمثابة قصيدةٍ ربانية تترنم بآلاء الربوبية، وكلمةٍ سبحانية ناطقة بالتقديس لبارئها، وحرفٍ رحماني ذي مغزى ينم عن الرحمة الإلهية؛ فالجميعُ يُثنون على خالقهم ويصفونه بالحمد والثناء، وكأن حواسَّ تلك الطيور والحيوانات ومشاعرها وأعضاءها وآلاتها وأجهزتها وقواها، كلماتٌ موزونة منظومة، وكلام فصيح بليغ.
فشاهدَ السائح في ذلك ثلاثَ حقائقَ عظيمةٍ محيطة تدل دلالة صادقة على أن تلك الطيور والحيوانات تؤدي شكرَها تجاه خلّاقها ورزاقها بتلك الكلمات، وتشهد على وحدانيته سبحانه بذلك الكلام:
[حقيقة الإيجاد والإبداع]
أولاها: حقيقةُ الإيجاد والصنع والإبداع، أي حقيقة الإحياء ومنح الروح، التي لا يمكن نسبتها مطلقًا إلى المصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء؛ إذ هي إيجادٌ مِن عدم يقع بحكمة، وإبداعٌ مقرون بإتقان، وخلقٌ مصحوب بإرادة، وإنشاءٌ مبنيٌّ على علم.
وهي تُظهر بجلاء تجليَ “العلم والحكمة والإرادة” بعشرين وجها، وهي برهان باهر على وجوب وجود “الحي القيوم” وشاهدُ حق على صفاته السبعة الجليلة وآيةُ صدق على وحدانيته جل وعلا. أي إن حقيقة الإحياء تدفع إلى الوجود شهودَ إثبات بعدد ذوي الأرواح كلها.
[حقيقة التمييز والتزيين]
ثانيتها: حقيقةُ التمييز والتزيين والتصوير التي تتضح من خلال تلك المصنوعات غيرِ المحدودة التي يختلف بعضُها عن بعض بعلامات فارقة متميزة في الوجوه، وبأشكال مزيّنة جميلة متباينة، وبمقادير موزونة دقيقة مختلفة، وبصور منتظمة منسّقة.
فهي حقيقةٌ قوية عظمى بحيث لا يمكن أن يمتلك هذا الفعلَ المحيط الذي يُبرِز -عيانا- ألفًا من الحِكَم والخوارق سوى القادرِ على كل شيء والعالمِ بكل شيء، وليس هناك إمكان أو احتمال آخر قط.
[حقيقة فتح صورٍ متباينة من أصولٍ متشابهة]
ثالثتها: حقيقةُ فتح صور تلك الحيوانات غير المحدودة بمئات الآلاف من الأشكال والأنماط، من بيوض وبويضات متماثلة معدودة، ومن قطرات محدودة، متشابهة أو مختلفة بفارق طفيف.
ففتحُ تلك الصور -التي هي بحد ذاتها معجزةُ الحكمة- بانتظام كامل وموازنةٍ تامة دونما خطأ ولا زيادة أو نقصان، إنما هو حقيقةٌ ساطعة باهرة تستقى نورها من دلائلَ وأسانيد بعدد الحيوانات جميعها.
وهكذا شاهَد السائحُ عالَم الطيور والحيوانات وتَلقَّى درسا كاملا من دلالة هذه “الحقائق الثلاث” المتفقة، دلالةً واضحة على أن جميع أنواع الحيوانات تشهد قائلة معًا: “لا إله إلا هو”، حتى غدت الأرض كأنها إنسان ضخم جدًّا، تذكر “لا إله إلا هو” بنسبة كبرها وضخامتها فتملأ -من شدتها وقوتها- قبةَ السماء حتى يسمعها أهلُ السماوات.
وقد ذُكر في المرتبة السابعة من المقام الأول لبيان هذه الحقائق ما يأتي:
(لا إله إلّا اللّٰه الواجبُ الوجود الذي دل على وجوب وجوده في وحدته اتفاقُ جميع أنواع الحيوانات والطيور الحامدات الشاهدات بكلمات حَواسِّها وقواها وحسياتها ولطائفها الموزونات المنتظمات الفصيحات، وبكلمات أجهزتها وجوارحها وأعضائها وآلاتها المكملة البليغات، بشهادة عظمةِ إحاطةِ حقيقةِ الإيجاد والصنع والإبداع بالإرادة، وحقيقةِ التمييز والتزيين بالقصد، وحقيقة التقدير والتصوير بالحكمة، مع قطعيةِ دلالةِ حقيقةِ فتحِ جميع صورها المنتظمة المتخالفة المتنوعة غير المحصورة من بيضاتٍ وقطراتٍ متماثلة متشابهة محصورة محدودة)
❀ ❀ ❀
[مشهد عالَم الإنسان: طبقة الأنبياء]
ثم أراد هذا السائح المتأمل أن يدخل عالَمَ الإنسان ودنيا البشر كي يمضي صعدا في مراتبَ غيرِ محدودة للمعرفة الإلهية، ويرقى درجةً أعلى في أذواقها، ومنـزلةً أسمى في أنوارها غير المتناهية.
[سيرة الأنبياء وثمراتهم]
وعندها دعته إلى الدخول صفوةُ البشر أولًا وهم “الأنبياء عليهم السلام“، فدخل ومضى يسبر غور الأزمان قبل كل شيء..
فرأى أن جميع “الأنبياء عليهم السلام” -وهم خيرةُ نوع البشر وأكملُهم قاطبة- يَذكرون بلسان واحد ويرددون معًا بالإجماع: “لا إله إلّا هو”.
وهم جميعًا يدعون إلى التوحيد الخالص بقوةِ ما لا يحد من معجزاتهم الباهرة المصدِّقة لهم ولدعواهم.
ورأى أنهم جميعًا يدْعون البشرية إلى الإيمان باللّٰه لإخراجها من مرتبة الحيوانية ورفعِها إلى درجة المَلَك..
لذا فقد جثا السائح على ركبتيه بأدب جمّ وتوقير عظيم في أروقة تلك المدرسة النورانية، ورأى أن بين يدَي كل من أولئك الأئمة الهداة الأعلام للبشرية معجزاتٍ وخوارقَ هي علائمُ تصديقٍ لهم من لدن رب العالمين سبحانه.
وأنه قد تكونت طائفة عظيمة وأمة غفيرة مصدِّقة من البشر دخلت حظيرة الإيمان بتبليغِ كلٍ منهم.
لذا تمكّن السائح من قياس مدى قوة التوحيد ورصانته، تلك الحقيقة التي اتفق عليها أولئك الصادقون الذين يربون على مائة ألف.
وفَهِم كذلك مدى الخطأ الجسيم والجناية الكبرى التي يرتكبها أهلُ الضلالة المنكرون لتلك الحقيقة الراسخة التي تملك هذه القوةَ والتي صدّقها وأيّدها هذا العددُ من المخبِرين الصادقين وأثبتوها بمعجزاتهم التي لا تُحد.. وأدرك كذلك مدى ما يستحقونه من عذاب أليم خالد..
وعرف أيضًا مدى صوابِ وأحقية الذين صدقوهم وآمنوا بهم فدخلوا حظيرة الإيمان. فبدت أمامه بذلك مرتبةٌ عظمى هائلة لقدسية الإيمان وسمو التوحيد.
[دلائل نبوة الأنبياء]
نعم، إن المعجزات التي لا حصر لها تصديقٌ فعلي من لدن الحق سبحانه وتعالى للأنبياء عليهم السلام.
والصفعات السماوية التي نزلت بالمنكِرين المعارضين لهم أظهرت أحقيتَهم وتأييد اللّٰه لهم.
وكمالاتهم الشخصية، وإرشاداتهم السديدة دالةٌ على أنهم على حق أبلج.
وقوة إيمانهم، وغاية جديتهم، ونهاية تجردهم تشهد كلها على صدقهم وصواب دعوتهم.
وما في أيديهم من الكتب والصحف المقدسة، وتلاميذهم غير المحدودين الذين بلغوا الحقيقة وارتقوا إلى الكمال واهتدوا إلى النور باتباعهم لهم، تشهد كلها على أحقية سبيلهم وصواب طريقهم.
وعلاوة على كل هذا فإن إجماع أولئك المبلِّغين الصادقين في المسائل المثبَتة لهو حجة قاطعة على صدق الإيمان وقوةٌ عظيمة تعزز حقيقته، بحيث لا تستطيع قطعًا أيةُ قوة في العالم أن تصارعها، فهي حقيقة دامغة تنحسر أمامَها كلُ شبهة أو ريب.
فعلِم السائح حكمةَ كون تصديق الرسل كافةً ركنا من أركان الإيمان، وكيف أنه ينبوع دفاق ومصدرُ قوة عظيمة لإيمانه، فسرعان ما انكب يغترف من هذا الينبوع الثر.
وقد ذُكر في المرتبة الثامنة من المقام الأول ما يفيد معنى الدرس المذكور لهذا السائح:
(لا إله إلّا اللّٰه الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته إجماعُ جميع الأنبياء بـقوة معجزاتهم الباهرة المُصّدِّقّةِ المُصَدَّقَة)
❀ ❀ ❀
[مشهد عالَم الإنسان: طبقة العلماء المحققين]
وحينما كان السائح الطالب الذي تذوّق مذاقات سامية من قوة الإيمان وتنسّم أنسام الحياة صافيةً خالصة، يرجع من مجلس “الأنبياء عليهم السلام”، دعوه أولئك الذين أثبتوا دعاوى الأنبياء بعلم اليقين وأقاموا الحجج الدامغة على صدقها من العلماء المحققين والمجتهدين المتبحرين الذين يُطلَق عليهم جميعًا: “الأصفياء والصديقون“.. دعوه أولئك إلى مدارسهم فدخل ورأى مجمعًا حافلا يضم ألوفا من العباقرة الأفذاذ، ومئاتِ الألوف من المدققين من أهل العلم والتحقيق وهم يقيمون الدلائلَ وينصبون البراهين ويثبتون -بتدقيقاتهم العميقة التي لا تدع أدنى شبهة- المسائلَ الإيمانية المثبتة، وفي مقدمتها وجوبُ وجود الخالق سبحانه ووحدانيته.
نعم، إن اتفاق أولئك العلماء الفطاحل -مع تفاوت استعداداتهم وتباين مواهبهم الفطرية واختلاف مسالكهم- على أصول الإيمان وأركانه، مستندا كلٌ منهم على قوة براهينه ويقينها، لهو حجة قاطعة لا يمكن لأحدٍ معارضتُها أو دحضها أو المماراة فيها، إلّا إذا كان يملك ذكاءً أحدَّ وأرقى من ذكاءِ أولئك الفحول، وكان برهانُه أقوى من براهين الجميع وحجتُه أبلغ من حجتهم جميعًا! وهذا محال. لذا لا يمكن مجابهتها إلّا بالجهل والتجاهل والإنكار فيما لا يمكن إثباته من المسائل المنفية، أو بالعناد وإغماض العين إزاء ذلك النور. والحال أن من يغمض عينيه فقد جعل نهاره ليلا.
ففهم السائح أن الأنوار التي نشرها هؤلاء الأساتذة المتبحرون لهذه المدرسة السامية الشاسعة قد أضاءت نصف الكرة الأرضية خلال ألف من السنين. ووجد من هذا قوةً معنوية هائلة تنصبّ في كيانه، وتملأ جوانحه بحيث لو اجتمع أهلُ الإنكار وأربابُ العناد جميعًا لن يقدروا على زعزعتها ولو قيدَ شَعرةٍ.
وهكذا ذُكرت إشارة مختصرة في المرتبة التاسعة من المقام الأول لما اقتبسه السائح في هذه المدرسة من دروس وعبر كما يأتي:
(لا إله إلّا اللّٰه الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته اتفاقُ جميع الأصفياء بقوة براهينهم الظاهرة المحققة المتفقة)
❀ ❀ ❀
[مشهد عالَم الإنسان: طبقة الأولياء الصالحين]
وحينما كان يؤوب ذلك المسافر المتأمل من مدرسة العلماء ألحف عليه شوق ملح إلى زيادة الإيمان وانكشافه، واستولت عليه رغبةٌ عنيفة إلى رؤية الأنوار والأذواق التي هي في طريق الارتقاء من درجة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين.
فدعاه ألوفُ وملايينُ “الأولياء الصالحين” المرشدين السامين الذين سعوا إلى الحقيقة وبلَغوا الحق ووصلوا مرتبة عين اليقين بسموّهم وعروجهم تحت ظل المعراج الأحمدي وعلى أثر الرسول ﷺ في الجادة المحمدية الكبرى. دعاه هؤلاء إلى محلِ ذكرٍ عظيم بهيج، ومقامِ إرشاد قويم كريم، يشع فيضا ونورًا يملأ الأرجاء كلها ويتدفق نابعا من تلاحقِ ما لا يحد من تكاياهم وزواياهم ومرابطهم.
فدخل ورأى أن أهل الكشف والكرامات هؤلاء يرددون بالاتفاق والإجماع: “لا إله إلّا هو” معلنين به وجوبَ وجود الرب سبحانه وتعالى ووحدانيتَه، مستندين إلى كشفياتهم وكراماتهم ومشاهداتهم.
نعم، كما يُستَدل على الشمس بألوان ضيائها السبعة؛ فإن حقيقة التوحيد كذلك يصدقها هؤلاء الأفذاذ العارفون والجهابذة المنورون بالإجماع والاتفاق، وهم يمثلون أهلَ الطرق المتنوعة الصادقة وأصحابَ المسالك المختلفة الصائبة وذوي المشارب العديدة الحقة الذين اصطبغوا بسبعين لونا، بل بعدد أسماء اللّٰه الحسنى، من الألوان المنوّرة المتباينة والأنوار الملونة المختلفة المتجلية على القلوب والآفاق من نور منوِّر الأزلي سبحانه.
وقد شاهد السائحُ تجليَ تلك الحقيقة الباهرة؛ بعين اليقين. لذا رأى أن حقيقةً يُجمِع عليها “الأنبياء عليهم السلام“، ويتفق على صدقها “العلماء الأصفياء“، ويتوافق معها “الأولياء الصالحون” لهي حقيقةٌ أسطعُ من ضوء النهار الدال على الشمس.
وهكذا ذُكرت في المرتبة العاشرة من المقام الأول إشارةٌ مختصرة إلى ما أخذه هذا المسافر من فيض في المرابط الصوفية وزواياهم:
(لا إله إلّا اللّٰه الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته إجماعُ الأولياء بكشفياتهم وكراماتهم الظـاهرة المحققة المصدّقة)
❀ ❀ ❀
[مشهد عالَم الملائكة والروحانيين]
ثم إن ذلك السائح أراد بكل لطائفه وقواه أن يزداد رقيًّا وسموًا في قوة الإيمان وانكشاف معرفته للّٰه، لعلمِه بأن محبةَ اللّٰه الناشئةَ من الإيمان باللّٰه، والمتفجّرةَ من معرفته، هي أعظم كمالٍ إنساني وأهمُّه وأوسعه، بل هي منبع جميع الكمالات وأساسها؛ لذا رَفَع رأسَه ناظرًا في السماوات وخاطب عقلَه:
ما دامت الحياة هي أغلى شيء في الكون، والموجوداتُ كلها مسخرةً للحياة، وأن أثمن ذوي الحياة هم ذوو الروح، وأرقى ذوي الأرواح هم ذوو الشعور.. وما دامت الكرةُ الأرضية -لأجل هذه المنـزلة الرفيعة- تُخلى في كل عصر وفي كل سنة، وتُملَأ باستمرار، تكثيرًا لذوي الحياة. فلا بد -ولا محالة- أن تكون لهذه السماوات العُلى المزيّنةِ، سكنتُها وأهلوها المتلائمون معها من ذوي الحياة وذوي الأرواح وذوي المشاعر. حتى نُقلت رواياتٌ متواترة تؤكد رؤية “الملائكة” والتكلمَ معهم منذ القديم، كتمثل جبرائيل عليه السلام في صورة إنسان وظهورِه أمام الصحابة في مجلس الرسـول ﷺ.
فقال السائح: ليتني أصل إلى شرفِ رؤيةِ أهل السماوات، وليتني أقف على ما عندَهم حول حقيقة الإيمان والتوحيد. لأن أهم شهادة في حق خالق الكون هي شهادتهم.
ولم يكد يتم حديثه حتى سمع فجأة كأن هاتفًا سماويًّا يقول:
“ما دمتَ تريد أن تلتقي معنا وتستمعَ إلى درسنا، فاعلم أن المسائل الإيمانية التي أُنزلت بوساطتنا إلى جميع الأنبياء وفي مقدمتهم محمد ﷺ بالقرآن الكريم، قد آمنا بها نحن أولًا. واعلمْ كذلك أن جميع الأرواح الطيبة منا والمتمثلة للإنسان قد شهدت كلها بلا استثناء وبالاتفاق على وجوب وجود خالق الكون وعلى وحدانيته وعلى صفاته القدسية. وأن ما أخبرتْ به من أخبار كثيرة يوافق بعضه بعضا ويطابقه مطابقة تامة. فتَوافُق هذه الأخبار غير المحدودة وتطابقُها دليل لك كالشمس”.
فوعَى السائح ما يقصدونه، وتألق نورُ إيمانه وسطع حتى عرج صاعدًا إلى السماوات.
وهكذا ذكرت إشارة قصيرة لما أخذه هذا السائح من درس الملائكة في المرتبة الحادية عشرة من المقام الأول:
(لا إله إلّا اللّٰه الواجب الوجود الذي دل على وجوب وجوده في وحدته اتفاقُ الملائكة المتمثلين لأنظار الناس، والمتكلمين مع خواص البشر، بأخبارهم المتطابقة المتوافقة)
❀ ❀ ❀
[مشهد عالَمَي العقول والقلوب]
ثم إن ذلك المسافر المتلهف المشتاق، بالدرس الذي تلقاه من ألسنة طوائفَ معينة ومن أحوالها، في عالم الشهادة والجانب الجسماني والمادي منه، اشتاق إلى القيام بمزيد من السياحة والأسفار والتحري والبحث عن الحقيقة فتقدم إلى مطالعة ما في عالم الغيب وعالم البرزخ أيضًا.
فانفتح أمامه باب “العقول المستقيمة المنورة والقلوب السليمة النورانية” اللتين لا تخلو منهما طائفة من طوائف البشر، فالعقل والقلب هما بحكم نواة الإنسان ولبّه، وبفضلهما استطاع أن يصبح ثمرة الكون، ويملكان من القدرة على الانبساط والاتساع ما يمكنهما أن يطويا العالم كله رغم صغرهما.
فرأى السائح أن القلوب والعقول برازخ إنسانية بين عالمي الغيب والشهادة، فالعلاقات والعلامات بين ذينك العالَمين -بالنسبة للإنسان- تجري في تلك النقاط؛ لذا خاطب عقلَه وقلبه معًا قائلًا: “أقبلا، فإن أقصر الطرق الموصلة إلى الحقيقة هي من بابـكما، فهيا لنستفد بمطالعتنا العقول والقلوب المتصفة بالإيمان ودراستنا كيفياتهما وألوانهما، فهذا درس لا يؤخذ من الألسنة كما هو الحال في الطرق الأخرى”.
فباشر يقلب صفحات العقول وينشر صفحات القلوب ممعنا النظرَ مطيلًا الفكرَ، فرأى أن جميع العقول المستقيمة المنوّرة تتفق في العقيدة الراسخة الواضحة في الإيمان والتوحيد، وتتطابق في اليقين الجازم والاقتناع المطمئن، رغم التباين الواسع في استعداداتها والبعد والمخالفة بين مذاهبها.
أي إنها استندت وارتبطت بعقيدة لا تتبدل، ودخلت في حقيقة عريقة لا تنفصم؛ لذا فإن إجماع هذه العقول في الإيمان والوجوب والتوحيد إنما هو سلسلة نورانية لا تنقطع، ونافذة واسعة وضّاءة مطلة على الحقيقة.
ورأى كذلك أن جميع القلوب السليمة النورانية تتوافق فيما بينها في كشفياتها ومشاهداتها -التي هي ذات اتفاق واطمئنان وانجذاب- في أركان الإيمان، وتتطابق في التوحيد رغم تباعد مسالكها وتباين مشاربها.
أي إن كل قلب من هذه القلوب النورانية عرش صغير جدًّا تستوي عليه المعرفةُ الربانية، وهي مرآة جامعة لأنوار التجليات الصمدانية، بما يقابل الحقيقة ويوصل إليها ويتمثل بها. فهي إذن نوافذ مفتوحة تجاه شمس الحقيقة. أي إن مجموع هذه القلوب يشكل معًا مرآةً عظمى واسعة كالبحر أمام تلك الشمس.
وأن اتفاق هذه القلوب والعقول وإجماعَها في وجوب وجوده سبحانه، وفي وحدانيته لهو دليل أكمل ومرشد أكبر لا يتحير ولا يحيّر؛ إذ ليس هناك إمكان قط ولا احتمال قطعًا -في أية جهة كانت- أن يَخدع وهمٌ لا حقيقة له وفكرٌ لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة وصفةٌ لا أصل لها جميعَ هذه العيون البصيرة النافذة الحادة لهذه الكثرة الكاثرة من ذوي القلوب الصافية والعقول الرزينة، وأنْ يستمر هذا الخداع عبر قرون وبرسوخ تام، أو أن يوقعهم جميعًا في شباك التمويه والغفلة. فهل هناك من يجد احتمالا كهذا غير من يحمل عقلا فاسدا عفنا؟ بل حتى السوفسطائيون الحمقى الذين ينكرون الكون يردّونه ولا يرضون به!
هكذا فهم السائح، فقال منسجما مع عقله وقلبه: “آمنت باللّٰه”.
وإشارةً إلى المعرفة الإيمانية مما استفاد هذا السائح من العقول المستقيمة والقلوب المنوَّرة ذكر في المرتبة الثالثة عشرة من المقام الأول ما يأتي:
(لا إله إلّا اللّٰه الواجب الوجود الذي دل على وجوب وجوده في وحدته إجماعُ العقول المستقيمة المنوّرة، باعتقاداتها المتوافقة وبقناعاتها، ويقيناتها المتطابقة، مع تخالف الاستعدادات والمذاهب، وكذا دل على وجوب وجوده في وحدته اتفاقُ القلوب السليمة النورانية، بكشفياتها المتطابقة وبمشاهداتها المتوافقة، مع تباين المسالك والمشارب)
❀ ❀ ❀
[مشهد الوحي والإلهام من عالَم الغيب]
ثم إن ذلك السائح الذي نظر إلى عالم الغيب من قريب وتجوّل في عالمَي العقل والقلب، أخذ يطرق باب ذلك العالم بهذا النمط من التفكير: “يا ترى ماذا يقول عالَم الغيب؟“.
إذ ما دمنا نرى في عالم الشهادة الجسماني هذا أنَّ المحتجب وراء ستار الغيب سبحانه يعرّف نفسه لنا بهذا القدر الهائل من مصنوعاته المزينة المتقنة، ويسوقنا إلى محبته بهذا القدر الذي لا يحصى من نعمه اللذيذة الطيبة، ويخبرنا عن كمالاته الخفية بهذا القدر الزاخر من آثاره الخارقة البديعة..
نعم، إن الذي يعرّف نفسه ويحببها فعلًا وبلسان الحال الذي هو أبيَنُ من الكلام والتكلم؛ لا بد أنه سيتكلم قولًا وتكلُّما مثلما يتكلم فعلًا وحالا، معرّفا نفسه ومحببا ذاته.
لذا خاطب السائح نفسه قائلًا: “علينا أن نَعرفه سبحانه من مظاهر ألوهيته وربوبيته في عالم الغيب”.
[حقيقة الوحي]
فغاص قلبُه في الأعماق ورأى بعين عقله أن حقيقة “الوحي الإلهي” مهيمنة كل حين -بظواهر في غاية القوة والوضوح- على أرجاء عالم الغيب كافة. فتأتي الشهادة لوجوده وتوحيده سبحانه من لدن علام الغيوب. وهي شهادة الوحي والإلهام وهي أقوى بكثير من شهادة الكائنات والمخلوقات؛ إذ لا يَدَع سبحانه تعريف ذاته ولا دلائل وجوده ووحدانيته، محصورا في شهادة مخلوقاته وحدها، بل يتكلم كلاما أزليًّا يليق بذاته، فلا حدّ ولا نهاية لكلامِ مَن هو حاضر وناظر بقدرته وعلمه في كل مكان. ومثلما يعرّفه معنًى كلامُه، فإن تكلمَه أيضًا يعرّفه بصفته.
نعم، إن تواتر مائةِ ألف من “الأنبياء عليهم السلام” واتفاقَهم في جميع إخباراتهم الصادرة من الوحي الإلهي، ودلائل ومعجزات الكتب المقدسة والصحف السماوية التي هي الوحي المشهود وثماره، والتي صدّقتْها الأكثريةُ المطلقة للبشرية واقتدت بها، واهتدت بهديِها.. جعل السائحَ يفهم بداهةً أن الوحي حقيقة ثابتة لا مراء فيها.
[خمس حقائق تقتضي الوحي]
وفَهِم كذلك أن حقيقة الوحي تفيد خمسَ حقائق قدسية وتؤكدها وتنورها:
أولاها: أنَّ التكلم وفق مفاهيم البشر وبمستوى عقليتهم هو الذي يُطلَق عليه “التنـزلات الإلهية إلى عقول البشر“.. نعم، إن الذي أنطق جميعَ ذوي الأرواح من مخلوقاته ويعلَم ما يتكلمونه، تقتضي ربوبيتُه أن يصبّ معاني كلامه الأزلي في كلمات يتيسر للبشر أن يتلوها بين كلامهم.
ثانيتها: أن الذي برأ الوجود معجزةً، وملأه بمعجزاته الباهرة لتُفصح عنه، وجعلها ألسنةً ناطقة بكمالاته، لا بد أنه سيعرّف ذاتَه أيضًا بكلامه هو.
ثالثتها: أنَّ الذي يقابل فعلًا مناجاةَ الناس الحقيقيين وشكرَهم، وهم خلاصة الموجودات وزبدتها وأكثرهم حاجة وأشدهم شوقا وأرقهم لطفا، فإن مقابلة تلك المناجاة والشكر بكلامه سبحانه هي من شأن الخلاقية.
رابعتها: أن صفة المكالمة التي هي ضرورية لازمة وظاهرة مضيئة لصفتَي “العلم” و”الحياة” لا بد أنها توجد بصورة محيطة وبسرمدية خالدة عند مَن له علم محيط وحياة سرمدية.
خامستها: أنَّ الذي فطر مخلوقاته على العجز والشوق، والفقر والحاجة، والقلق من العاقبة، ومنحَهم المحبةَ والعبودية حتى أصبحوا يحسون حبا شديدًا وشوقا غامرا نحو معرفة مولاهم الحق ومالكِ أمرهم، ويشعرون بحاجتهم الماسة إلى قوة يستندون إليها ويأوون إلى كنفها -وهم يتقلبون في فقر وعجز وتوجس من العقبى- فمن مقتضى ألوهيته أن يُشعرَهم بوجودِه بتكلمه سبحانه.
وهكذا فهِم السائح أن الدلائل التي تدل بالإجماع على وجود واجب الوجود، ووحدانيته سبحانه في الوحي السماوي العام المتضمن لحقائق “التنـزلات الإلهية” و”التعرف الرباني” و”المقابلة الرحمانية” و”المكالمة السبحانية” و”الإشعار الصمداني” هي حجة كبرى، بل هي أقوى من شهادة الشمس على نفسها في رابعة النهار.
[حقيقة الإلهام]
ثم نظر إلى حيث “الإلهامات” فرأى أن الإلهامات الصادقة مع أنها تتشابه -من جهة- مع الوحي، من حيث إنها نوع من المكالمة الربانية، إلّا أن هناك فرقين:
[الفرق بين الوحي والإلهام]
[الإلهام بلا واسطة]
أولهما: أن معظم الوحي الذي هو أسمى وأعلى من الإلهام بكثير إنما يتم بوساطة الملائكة، بينما أغلب الإلهام يتم دون وساطة. ولإيضاح ذلك نورد المثال الآتي:
من المعلوم أن هناك شكلين من صور التخاطب وإصدار الأوامر للسلطان:
الأول: باسم الدولة وعظمتها وحاكميتها وسيادتها على الجميع. فيرسل أحد مبعوثيه إلى أحد ولاته، ويجتمع -أحيانا- معه، ومن ثم يبلّغ الأمر، وذلك إظهارا لعظمة تلك الحاكمية وأهمية ذلك الأمر.
الثاني: باسمه الشخصي، وليس باسم السلطنة ولا بعنوان السلطان، فيتكلم كلاما خاصا، بهاتفه الخاص، في أمر خاص، وفي معاملة جزئية، مع خادمه الخاص أو مع أحد رعيته من العوام.
وكذلك كلام سلطان الأزل سبحانه وتعالى؛ فله كلام بالوحي والإلهام الشامل -الذي يقوم بوظائفِ الوحي- يتكلم باسم رب العالمين، وبعنوان خالق الكون. وله أيضًا طراز آخر من الكلام، وبشكل خاص، ومن وراء حُجب وأستار، مع كل فرد، ومع كل ذي حياة، حسب قابلياتهم، وذلك لكونه ربَّهم وخالقَهم.
[الإلهام ظليّ]
الفرق الثاني: أنَّ الوحي صاف، ودون ظل، خاص للخواص. أما الإلهام ففيه ظل واختلاط ألوان.
وهو عام وله أشكال متنوعة ومتفاوتة جدًّا؛ كإلهامات الملائكة وإلهامات الإنسان وإلهامات الحيوانات. وهي بأنواعها المختلفة وأشكالها المتباينة جدًّا تبين مدى سعة الكلمات الربانية وكثرتها التي تزيد على عدد قطرات البحار.. ففهمَ السائحُ من هذا وجها من تفسير الآية الكريمة: ﴿قل لو كان البحرُ مدادًا لكلمات ربّي لَنَفِدَ البحرُ قبلَ أن تنفَدَ كلماتُ ربي﴾.
[أربعة أنوار تقتضي الإلهام]
ثم نظر إلى ماهية الإلهام يستبطن سرَّه ويتعرف على حكمته وشهادته، فرأى أن ماهيته وحكمته ونتيجته تتركب من أربعة أنوار:
النور الأول: أنه مثلما يتودد اللّٰه سبحانه إلى مخلوقاته عن طريق أفعاله فيهم، الذي يُعرف “بالتودد الإلهي“، فإن من مقتضيات الودودية والرحمانية (أي كونه ودودا ورحمان) أن يتحبب إليهم ويتودد قولًا وحضورا وصحبة أيضًا.
النور الثاني: أنه مثلما يستجيب سبحانه لدعاء عباده بأفعاله، فإن من شأن الرحيمية إجابته لهم قولًا أيضًا من وراء الحجب.
النور الثالث: أنه مثلما يُمِدّ سبحانه بالأفعال استمدادَ مخلوقاته المصابين بالبلايا العسيرة والنوائب الشديدة واستغاثتَهم وتضرعهم، فإن من لازم الربوبية أن يؤنسهم ويبدّد وحشتهم، فيمدّهم بأقوالٍ إلهامية هي في حكم نوع من كلامه.
النور الرابع: أنه مثلما يُشعر سبحانه فعلًا بوجوده وحضوره وحمايته لأرباب الشعور من خلقه -الذين هم في عجز وضعف شديدين، وفي فقر واضطرار كبيرين، وفي أشد الحاجة والشوق لمعرفة مالكهم وحاميهم ومدبّرهم وحفيظهم- فإنه من مقتضى رأفة الألوهية ورحمة الربانية، وضرورة لازمة لهما، أن يُشعر كذلك بحضوره ومعيّته ووجوده، لمخلوقٍ معين، بوجه خاص، حسب قابليته، بوساطة قسم من الإلهامات الصادقة، قولًا إلى هاتف قلبه، مما يعدّ في حكم نوع من المكالمة الربانية.
[شهادة الإلهام على وجود الله ووحدانيته]
ثم نظر إلى شهادة الإلهام فرأى أنه لو كانت للشمس حياة وشعور -فرضًا- وكانت الألوان السبعة التي في ضيائها -فرضًا- سبعَ صفات لها، لكان لها إذن نمطٌ من التكلم بأشعتها وتجلياتها التي في ضيائها. ففي هذه الحالة: فإن وجود صورتِها وانعكاسها في الأشياء الشفافة؛ أي تكلمها مع كل مرآة عاكسة، ومع كل شيء لماع، ومع قِطع الزجاج وحباب البحر وقطراته، حتى مع الذرات الشفافة حسب قابلية كل منها.. واستجابتها لحاجات كل منها.. كل ذلك سيكون شاهدَ صدقٍ على وجود الشمس، وعلى عدم ممانعة فعل عن فعل ولا مزاحمة كلام من كلامها لآخر..
فمثلما يشاهَد هذا بوضوح، كذلك الأمر في مكالمة سلطان الأزل والأبد ذي الجلال، وخالق جميع الموجودات ذي الجمال، النور الأزلي، هي مكالمةٌ كليّة ومحيطة، كعلمِه سبحانه وقدرته. لذا يُدرك بداهة تجلّيها الواسع حسب قابلية كل شيء، من دون أن يزاحِم سؤالٌ سؤالا، ولا يمنعَ فعل فعلًا، ولا يختلطَ خطاب بخطاب.
فعلم السائح بعلم يقيني أقربَ ما يكون إلى عين اليقين أن جميع تلك التجليات والمكالمات والإلهامات كل منها وبمجموعها تدل وتشهد بالاتفاق على وجوب ذلك المنوِّر الأزلي سبحانه وعلى حضوره سبحانه وعلى وحدته وعلى أحديته.
وهكذا ذُكرت إشارة مختصرة إلى ما تلقاه هذا السائح المتلهف من درس المعرفة من عالم الغيب في المرتبة الرابعة عشرة والخامسة عشرة من المقام الأول:
(لا إله إلّا اللّٰه الواجب الوجود الواحد الأحد الذي دلّ على وجوب وجوده فـي وحدته إجماعُ جميع الوحيات الحقة المتضمنة للتنـزلات الإلهية، وللمكالمات السـبحانية، وللتعرفات الربانية، وللمقابلات الرحمانية، عند مناجاة عباده، وللإشعارات الصمدانية لوجوده لمخلوقاته.. وكذا دلّ علـى وجوب وجوده في وحدته اتفاقُ الإلهامات الصادقة المتضمنة للتوددات الإلهية، وللإجابات الرحمانية لدعوات مخلوقاته، وللإمدادات الربانية لاسـتغاثات عباده، وللإحساسات السبحانية لوجوده لمصنوعاته)
❀ ❀ ❀
[مشهد عصر السعادة: شهادة خاتم النبيين ﷺ]
ثم خاطب ذلك السائحُ في الدنيا عقلَه قائلًا: ما دمتُ أبحث عن مالكي وخالقي باستنطاق موجودات الكون هذا، فمن الأولى لي أن أزور مَن هو أكملُ إنسان في الوجود، وأعظمُ من يقود إلى الخير -حتى بتصديق أعدائه- وأعلاهم صيتًا وأصدقُهم حديثًا وأسماهم منـزلةً وأنورُهم عقلا، ألا وهو محمد ﷺ الذي أضاء بفضائله وبقرآنه أربعةَ عشر قرنًا من الزمان.. ولأجل أن أحظى بزيارته الكريمة وأستفسرَ منه عما أبحثُ عنه، ينبغي أن نذهب معًا إلى خير القرون إلى عصر السعادة.. عصر النبوة.
فدخل بعَقله إلى ذلك العصر فرأى أن ذلك العصر قد صار به ﷺ عصرَ سعادةٍ للبشرية حقًّا. لأنه ﷺ قد حوّل في زمن يسير بالنور الذي أتى به قومًا غارقين في أشدِّ أمّية، وأعرقِ بداوةٍ حوّلَهم إلى أساتذةِ العالَم وسادتِه.
وكذا خاطب عقلَه قائلًا: “علينا قبل كل شيء أن نعرف شيئًا عن عظمة هذه الذات المعجزة وعن أحقية أحاديثه، وصِدق إخباره. ثم نستفسر منه عن خالقنا سبحانه”.
[تسعة دلائل لنبوته ﷺ]
فباشر بالبحث، فوجَد على صِدق نبوته من الأدلة القاطعة الثابتة ما لا يُعد ولا يحصى، ولكنه خلُص إلى تسع منها:
[خصاله المجيدة ومعجزاته الكثيرة]
أولها: هو اتّصافُه ﷺ بجميع السجايا الفاضلة والخصال الحميدة، حتى شهد بذلك غرماؤه..
وظهورُ مئات المعجزات منه؛ كانشقاق القمر الذي انشقّ إلى نصفين بإشارة من إصبعه كما نصَّ عليه القرآن: ﴿وانشق القمر﴾، وانهزامُ جيش الأعداء بما دخل أعيُنَهم جميعًا من التراب القليل الذي رماه عليهم بقبضته، كما نصت عليه الآية الكريمة: ﴿وما رميت إذ رميت ولكن اللّٰه رمى﴾، وارتواءُ أصحابه من الماء النابع كالكوثر من بين أصابعه الخمسة المباركة عندما اشتدّ بهم العطشُ.. وغيرُها من مئات المعجزات التي ظهرت بين يديه، والمنقولة إلينا نقلًا صحيحًا قاطعًا أو متواترًا، فاستطلَعها السائحُ إلى “المكتوب التاسع عشر” أي رسالة “المعجزات الأحمدية” تلك الرسالة الخارقة ذات الكرامة المتضمنة لأكثر من ثلاثمائة معجزة من معجزاته ﷺ بدلائلها القاطعة وأسانيدها الموثوقة.
ثم حدّث نفسَه قائلًا: “إنَّ مَن كان ذا “أخلاق حسنة” بهذا القدر، و”فضائل” إلى هذا الحد، و”معجزات” باهرة بهذه الكثرة، فلا جرم أنه صاحبُ أصدق حديث ومن ثم لا يمكن أبدًا -وحاشاه- أن يتنازل إلى الحيلة والكذب والتَمويه التي هي دأب الفاسدين”.
[القرآن الكريم المعجِز]
ثانيها: كونُ القرآن الذي بيده ﷺ معجِزًا من سبعة أوجه، ذلك الأمر الصادر من مالك الكون الذي يسلّم به ويصدّقُه أكثرُ من ثلاثمائة مليونٍ من البشر في كل عصر.
ولما كانت “الكلمة الخامسة والعشرون” أي رسالة “المعجزات القرآنية” وهي شمس “رسائل النور” قد أثبتت بدلائل قوية أنَّ هذا القرآن الكريم معجِزٌ من أربعين وجهًا، وأنه كلام رب العالمين، لذا أحال السائحُ ذلك إلى تلك الرسالة المشهورة لبيانها المفصل للإعجاز.
ثم قال: إنَّ الأمين على كلام اللّٰه، والمترجِم الفعلي له، والمبلِّغ لهذا النبأ العظيم إلى الناس كافة، وهو الحق بعينه والحقيقة بذاتِها، لا يمكن أنْ يصدر منه كذبٌ قط، ولن يكون موضعَ شبهة أبدًا.
[دينه وشريعته ودعوته ودعاؤه]
ثالثها: إنه ﷺ قد بعث بشريعةٍ مطهَّرة، وبدِينٍ فطري، وبعبودية خالصة، وبدعاء خاشع، وبدعوة شاملة، وبإيمان راسخ، لا مثيلَ لِمَا بُعثَ به ولن يكون، -وما وُجِد- أكملُ منه ولن يوجد.
لأن “الشريعة” التي تجلّت من أمّيّ ﷺ وأدارت خمسَ البشرية على اختلافها منذ أربعة عشر قرنًا إدارةً قائمة على الحق والعدل بقوانينها الدقيقة الغزيرة، لا تَقبل مثيلًا أبدًا.
وكذا “الإسلام” الذي صدر من أفعال أمّيٍ ﷺ ومن أقواله ومن أحواله، هو رائدُ ومصدرُ ثلاثِمائة مليون من البشر ومرجعُهم في كل عصر، ومعلِّمٌ لعقولهم ومرشدٌ لها، ومنوِّرٌ لقلوبهم ومهذِّبٌ لها، ومربٍّ لنفوسهم ومزكٍّ لها، ومَدارٌ لانكشاف أرواحهم ومعدِنٌ لسموها، لم يأت ولن يأتيَ له مثيل.
وكذا تفوُّقُه ﷺ في جميع أنواع “العبادات” التي يتضمنها دينُه، وتقواه العظيمة أكثر من أي أحدٍ كان، وخشيتُه الشديدة من اللّٰه ومجاهدتُه المتواصلة ورعايتُه الفائقة لأدقّ أسرار العبودية حتى في أشدّ الأحوال والظروف، وقيامُه ﷺ بتلك العبودية الخالصة، دون أن يقلّد أحدًا وبكل معانيها مبتدئًا، وبأكملِ صورة، موحِّدًا الابتداء والانتهاء، لا شك لم يُرَ ولن يُرَى له مثيل.
وكذا فإنه يصف، “بالجوشن الكبير” -الذي هو واحدٌ من آلاف أدعيته ومناجاته- يصف ربَّه بمعرفةٍ ربانية سامية لم يبلُغ العارفون والأولياء جميعًا تلك المرتبة من المعرفة، ولا درجةَ ذلك الوصف منذ القِدَم مع تلاحق الأفكار.. مما يُظهِر أنه لا مثيلَ له في “الدعاء“. ومن ينظر إلى الإيضاح المختصر لفقرة واحدة من بين تسع وتسعين فقرة للجوشن الكبير -وذلك في مستهل رسالة “المناجاة”- لا يسَعُه إلّا القول أنه لا مثيل لهذا الدعاء الرائع (الجوشن) الذي يمثّل قمة المعرفة الربانية.
وكذا فإن إظهاره في “تبليغ الرسالة” وفي دعوته الناسَ إلى الحق من الصلابة والثبات والشجاعة ما لا يقاربُها أحدٌ، فلم يُداخله -ولو بمقدار ذرة- أيُّ أثرٍ للتردد ولا ساوَرَه القلقُ قط، ولم ينَل الخوفُ منه شيئًا، رغم معاداة الدول الكبرى والأديان العظمى له -وحتى قومه وقبيلته وعمه ناصَبوه العداء الشديد- فتحدّى وحده الدنيا بأسرها، ونصره اللّٰه وأعزّه فكلل هامة الدنيا بتاج الإسلام، فمَن مِثلُ محمد ﷺ في تبليغ رسالات اللّٰه؟..
وكذا حملُه “إيمانًا قويًّا راسخًا، ويقينًا جازمًا خارقًا، وانكشافًا للفطرة معجِزًا، واعتقادًا ساميًا ملأ العالَم نورًا” فلم تتمكن أن تؤثر فيه جميعُ الأفكار والعقائد وحكمةُ الحكماء وعلومُ الرؤساء الروحانيين السائدة في ذلك العصر، ولو بشبهةٍ، أو بتردد، أو بضعف، أو بوسوسة.
نعم، لم تتمكن أن تؤثرَ لا في يقينه، ولا في اعتقاده ولا في اعتماده على اللّٰه، ولا في اطمئنانه إليه، مع معارضتِها له ومخالفتها إياه، وإنكارِها عليه.
زد على هذا استلهامَ جميعِ الذين ترقّوا في المعنويات والمراتب الإيمانية من أهل الولاية والصلاح، وفي مقدّمتهم الصحابة الكرام، واستفاضتهم دومًا من مرتبته الإيمانية، ورؤيتهم له أنه في أسمى الدرجات والمراتب.. كل ذلك يُظهر -بداهة- أن إيمانَه ﷺ لا مثيل له أيضًا.
ففهم السائح وصدق عقلُه أيضًا أن مَن كان صاحبَ هذه الشريعة السمحاء التي لا مثيل لها، والإسلامِ الحنيف الذي لا شبيه له، والعبوديةِ الخالصة التي لا نظير لها، والدعاءِ البديع الرائع، والدعوى الكونية الشاملة، والإيمانِ المعجِز، لن يكونَ عنده كذبٌ قط، ولن يكون خادعًا أبدًا.
[إجماع الأنبياء على ما جاء به]
الدليل الرابع: إجماعُ الأنبياء عليهم السلام واتفاقُهم على الحقائق الإيمانية نفسِها كما أنه دليلٌ قاطع على وجود اللّٰه سبحانه وعلى وحدانيته، فهو شهادةٌ صادقة أيضًا على صدقِ هذا النبي ﷺ وعلى رسالته، ذلك لأن كلَّ ما يدلّ على صدق نبوة أولئك الأنبياء عليهم السلام، وكلَّ ما هو مدارٌ لنبوتهم من الصفات القدسية، والمعجزاتِ، والمهامِّ التي اضطلعوا بها يوجد مثلُها وبأكملَ منها فيه ﷺ، كما هو مصدَّق تاريخًا.
فأولئك الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا بلسان المقال -أي بالتوراة والإنجيل والزبور والصحف التي بين أيديهم- بمجيء هذه الذات المباركة وبشّروا الناس بقدومه ﷺ (حتى إن أكثر من عشرين إشارة واضحة ظاهرة من الإشارات المبشِّرة لتلك الكتب المقدسة قد بُيّنت بيانًا جليًا وأُثبتت في رسالة المعجزات الأحمدية).
فكما أنهم قد بشّروا بمجيئه ﷺ فإنهم يصدّقونه ﷺ بلسان حالهم -أي بنبوتهم وبمعجزاتهم- ويختمون بالتأييد على صدق دعوتِه إذ هو السابقُ الأكملُ في مهمة النبوة والدعوة إلى اللّٰه. فأدرك السائحُ أنهم مثلما يدلّون -أي أولئك الأنبياءُ- بلسان المقال والإجماع على الوحدانية، فإنهم يشهدون -بلسان الحال وبالاتفاق كذلك- على صدق هذا النبي الكريم ﷺ.
[إجماع الأولياء على تصديقه]
الدليل الخامس: إن وصولَ آلاف الأولياء إلى الحق والحقيقة، وما نالوا من الكمالات والكرامات وما فازوا من الكشفيات والمشاهدات ليس إلّا بالاقتداء بهَدي دساتير هذا النبي ﷺ، وبتربيته، وباتّباعه، وتعقّب أثَره، فمثلما أنهم يدلّون جميعًا على الوحدانية فهم يشهدون بالإجماع والاتفاق على صدق هذا النبي الكريم ﷺ -أستاذهم وإمامهم- وعلى أحقّية رسالته.
فرأى السائحُ أن مشاهدة هؤلاء قسمًا مما أخبرَ به ﷺ من عالم الغيب بنور الولاية واعتقادهم به وتصديقهم لجميع ما أخبر به بنور الإيمان له -إما بعلم اليقين أو بعين اليقين أو بحق اليقين- إنما تُظهر ظهورًا كالشمس: ما أصدقَ مرشدَهم الأعظم وما أحقَّ رائدَهم الأكبر ﷺ.
[تصديق العلماء المحققين به]
الدليل السادس: إن ملايينَ العلماء المُدققين الأصفياء، والمحَققين الصديقين، ودهاةَ الحكماء المؤمنين، ممن بلغوا أعلى المراتب بفضل ما درسوا وتتلمذوا على ما جاء به هذا النبيُّ الكريم ﷺ -مع كونه أميًا- من الحقائق القدسية، وما أبدعه من العلوم العالية، وما كشفه من المعرفة الإلهية.. إن هؤلاء جميعًا مثلما يُثبتون الوحدانية التي هي الأساس لدعوته ﷺ ويصدقّونها متفقين ببراهينهم القاطعة فإنهم يتفقون كذلك ويشهدون على صدق هذا المعلِّم الأكبر وصوابِ هذا الأستاذ الأعظم وعلى أحقيةِ كلامه ﷺ.
فشهادتُهم هذه حجةٌ واضحة كالنهار على صدقه وصواب رسالته، وما “رسائل النور” بأجزائها التي تزيد على المائة مثلًا إلّا برهانٌ واحد فقط على صدق وصواب هذا النبي الحبيب ﷺ.
[شهادة الآل والأصحاب]
الدليل السابع: إن الجمعَ العظيم الذين يُطلق عليهم (الآل والأصحاب) الذين هم أشهرُ بني البشر بعد الأنبياء فراسةً وأكثرُهم درايةً، وأسماهم كمالاتٍ وأفضلُهم منـزلة، وأعلاهم صيتًا، وأشدُّهم اعتصامًا بالدين، وأحدُّهم نظرًا… إن تحريّ هؤلاء وتفتيشَهم وتدقيقهم لجميع ما خفيَ وما ظهرَ من أحوال هذا النبي الكريم ﷺ وأفكارِه وتصرفاتِه بحثًا بكمال اللهفة والشوق، وبغاية الدقة، وبمنتهى الجدّية، ثم تصديقهم بالاتفاق والإجماع أنه ﷺ هو أصدقُ مَن في الدنيا حديثًا، وأسماهم مكانةً وأشدُّهم اعتصامًا بالحق والحقيقة. فتصديقُهم هذا الذي لا يتزعزع مع ما يملكون من إيمان عميق، إنما هو دليلٌ باهر كدلالة النهار على ضياء الشمس.
[حاجة الكون إلى المعرِّف]
الدليل الثامن: إنَّ هذا الكون مثلما يدل على صانعِه، وكاتبِه، ومصوِّره الذي أوجده، والذي يديره، ويرتّبه، ويتصرف فيه بالتصوير والتقدير والتدبير كأنه قصرٌ باذخ، أو كأنه كتابٌ كبير، أو كأنه مَعرِضٌ بديع، أو كأنه مشهر عظيم، فهو كذلك يستدعي لا محالة وجودَ مَن يعبّر عما في هذا الكتاب الكبير من معانٍ، ويعلَم ويُعلِّم المقاصد الإلهية من وراء خلق الكون، ويعلِّم الحكم الربانية في تحولاته وتبدلاته، ويدرِّس نتائج حركاته الوظيفية، ويعلن قيمةَ ماهيته وكمالات ما فيه من الموجودات.
أي يقتضي داعيًا عظيمًا، ومناديًا صادقًا، وأستاذًا محققًا، ومعلِّمًا بارعًا.
فأدرك السائحُ أن الكون -من حيث هذا الاقتضاء- يدل ويشهد على صدق هذا النبي الكريم ﷺ وصوابِه الذي هو أفضلُ من أتمّ هذه الوظائف والمهمات، وعلى كونه أفضلَ وأصدقَ مبعوث لرب العالمين.
[استلزام الشؤون الإلهية إرسال مبعوثٍ من قِبَلها]
الدليل التاسع: ما دام هناك وراء الحجاب مَن يشهر كمالات إبداعه، بمصنوعاته هذه؛ ذات الإتقان والحكمة.. ويعرِّف نفسَه ويودِّدُها، بمخلوقاته غير المحدودة ذات الزينة والجمال.. ويُوجِب الشكرَ والحمد له، بنِعَمه التي لا تُحصى ذات اللذة والنفاسة.. ويشوّق الخلقَ إلى العبادة نحو ربوبيته بعبودية تتّسم بالحب والامتنان والشكر إزاء هذه التربية، والإعاشة العامة، ذات الشفقة والحماية (حتى إنه يهيئ أطعمة وضيافات ربانية تُطَمئِن أدقَّ أذواق الأفواه وجميع أنواع الاشتهاء)… ويُدين الخلقَ إلى الإيمان والتسليم والانقياد والطاعة نحو ألوهيته التي يُظهرها بتبديل المواسم، وتكوير الليل على النهار، واختلافهما، وأمثالها من التصرفات العظيمة، والإجراءات الجليلة، والفعالية المدهشة والخلاقية الحكيمة… ويُظهر عدالتَه وانتصافه بحمايته دومًا البرَّ والأبرار وإزالته الشر والأشرار ومَحقِه الظالمين والكذابين وإهلاكِهم بنوازل سماوية.
فلا جرم، أنَّ أحب مخلوقٍ لدى ذلك المستتر بالغيب، وأصدقَ عبدٍ له هو مَن كان عاملًا خالصًا لمقاصده المذكورة آنفًا، ومَن يحُلّ السر الأعظم في خلق الكون ويكشف لَغزَه، ومن يسعى دومًا باسم خالقه ويستمد القوة منه ويستعين به وحده في كل شيء فينال المَدَد والتوفيق منه سبحانه. ومن ذا يكون هذا غيرَ محمد القرشي عليه الصلاة والسلام.
[خلاصة الدلائل التسعة]
ثم خاطب السائح عقلَه: “لَمّا كانت هذه الحقائق التسع شاهدةَ إثبات على صدق هذا النبي الكريم ﷺ. فلا ريب إذن: أنه قُطبُ شرَف البشرية، ومدارُ افتخار العالم، وأنه حَريّ ولائق تسميتُه شرفُ بني آدم، وتلقيبُه بفَخر العالمين.
وأن ما في يده من أمر الرحمن وهو القرآن الكريم المهيمنُ جلالُ سلطانه المعنوي على نصف الأرض مع ما يملك من كمالاته الشخصية وخصاله السامية يظهران أن أعظم إنسان في الوجود هو هذا النبي العظيم، فالقول الفصلُ إذن بحق خالقنا سبحانه هو قولُه ﷺ”.
[ثلاثة إجماعات تصدق دعوته ﷺ]
فتعال يا عقلي وتأمل: إنَّ أساس جميع دعاوى هذا النبي الكريم ﷺ، وغايةَ حياته كلِّها، إنما هي الشهادة على وجود واجب الوجود، والدلالة على وحدانيته، وبيان صفاته الجليلة، وإظهار أسمائه الحسنى، وإثبات كل ذلك، وإعلانه، وإعلامه؛ استنادًا إلى ما في دينه من ألوف الحقائق الراسخة الأساس وإلى قوة ما أظهره اللّٰه على يده من مئاتٍ من معجزاته القاطعة الباهرة.
أي إنَّ الشمس المعنوية التي تضيء هذا الكون والبرهانَ النيّر على وجود خالقنا سبحانه ووحدانيته، إنما هو هذا النبي الكريم الملقّب بـ”حبيب اللّٰه” ﷺ. فهنالك ثلاثة أنواع من الإجماع عظيمة لا تخدع ولا تنخدع، تؤيد شهادته وتصدّقها:
[إجماع الآل الأطهار]
الإجماع الأول: إجماعُ الذين اشتهروا، وتميزوا في العالم باسم (آل محمد ﷺ) تلك الجماعة النورانية التي يتقدمها الإمامُ علي رضي اللّٰه عنه الذي قال: “لو رُفع الحجاب ما ازددتُ يقينًا”، وخلفَه آلاف الأولياء العظام من ذوي البصائر الحادة والنظر الأنيس للغيب من أمثال الشيخ الكيلاني (قُدس سرُّه) الذي كان ينظر ببصيرته النافذة إلى العرش الأعظم وإسرافيلَ بعظمته وهو بعدُ على الأرض.
[إجماع الصحب الأخيار]
الإجماع الثاني: إجماع تلك الجماعة المعروفة بالصحابة الكرام المشهورين في العالم رضوان اللّٰه تعالى عليهم أجمعين وتصديقُهم بالاتفاق وبإيمان راسخ قوي لهذا النبي الكريم، حتى ساقهم ذلك إلى التضحية والفداء بأرواحهم وأموالهم وآبائهم وعشيرتهم.
وهم الذين كانوا قومًا بدوًا يقطنون في محيط أمّيٍ خالٍ من مظاهر الحياة الاجتماعية والأفكار السياسية، ليس لهم هدى ولا كتابٌ منير، وكانوا مغمورين في ظلمة عصر “الفترة”، فصاروا في زمن يسير أساتذةً مرشدين وسياسيين وحكامًا عادلين لأرقى الأمم حضارة وعلمًا واجتماعًا وسياسةً، فحكموا العالم شرقًا وغربًا ورفرفت راياتُ عدالتهم برًا وبحرًا.
[إجماع العلماء النُّظّار]
الإجماع الثالث: هو تصديق الجماعة العظيمة من العلماء الأجلاء الذين لا يُعدون ولا يُحصَون، المتبحرين في علومهم والمحققين المدققين الذين نشأوا في أمته وسلكوا مسالك شتى، ولهم في كل عصر آلافٌ من الحائزين على قصب السبق -بدهائهم- في كل علم. فتصديقُ هؤلاء جميعًا له بالاتفاق وبدرجة علم اليقين إجماعٌ أيُّ إجماع!
فحَكَم السائح بأن شهادة هذا النبي الأمي ﷺ على الوحدانية ليست شهادةً شخصية وجزئية، وإنما هي شهادةٌ عامة وكلّيةٌ راسخة لا تتزعزع، ولن تستطيع أن تجابهها الشياطينُ كافة في أية جهة ولو اجتمعوا عليها.
وهكذا ذُكرتْ إشارةٌ مختصرة لما تلقّاه ذلك السائح الذي جال بعقله في عصر السعادة جوانبَ الحياة من تلك المدرسة النورانية في “المرتبة السادسة عشرة من المقام الأول” كالآتي:
(لا إله إلّا اللّٰه الواجب الوجود الواحدُ الأحدُ الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: فخر العالم وشرف نوع بني آدم، بعظمة سلطنةِ قرآنه، وحشمةِ وسعةِ دينهِ، وكثرةِ كمالاته، وعلويّة أخلاقه، حتى بتصديق أعدائهِ.
وكذا شَهد وبرهن بقوةِ مئات المعجزات الظاهرات الباهرات المصدَّقةِ، وبقوة آلاف حقائق دينه الساطعة القاطعة، بإجماع آله ذوي الأنوار، وباتفاق أصحابه ذوي الأبصار، وبتوافق مُحَقِقي أمتهِ ذوي البراهين والبصائر النّوّارة)
❀ ❀ ❀
[مشهد القرآن الكريم]
ثم إن السائح الذي لا يناله تعب ولا شبع، والذي علم أن غاية الحياة في هذه الدنيا بل حياة الحياة إنما هو الإيمان، حاور هذا السائح قلبه قائلًا:
إنّ كلام مَن نبحث عنه الذي هو أشهر كلام في هذا الوجود وأصدقه وأحكمه، وقد تحدى في كل عصر مَن لا ينقاد إليه، ذلك القرآن الكريم ذو البيان المعجز.. فلنراجع إذن هذا الكتاب الكريم، ولنفهم ماذا يقول.. ولكن لنقف لحظة قبل دخولنا هذا العالَم الجميل لنبحث عما يجعلنا نستيقن أنه كتابُ خالقنا نحن.. وهكذا باشر بالتدقيق والبحث.
وحيث إن هذا السائح من المعاصرين، فقد نظر أولًا إلى رسائل النور التي هي لمعاتُ الإعجاز المعنوي للقرآن الكريم، فرأى أن هذه الرسائل البالغة مائة وثلاثين رسالة هي بذاتها تفسير قيّم للآيات الفرقانية، إذ إنها تكشف عن نكاتها الدقيقة وأنوارها الزاهية.
ورغم أن رسائل النور قد نَشرت الحقائقَ القرآنية بجهادٍ متواصلٍ إلى الآفاق كافة، في هذا العصر العنيد الملحد، لم يستطع أحد أن يعارضها أو ينقدها، مما يثبت أن القرآن الكريم الذي هو رائدها ومنبعها ومرجعها وشمسها إنما هو سماوي من كلام اللّٰه رب العالمين، وليس بكلام بشر؛ حتى إن “الكلمة الخامسة والعشرين” وختام “المكتوب التاسع عشر” -وهما حجة واحدة من بين مئات الحجج- تقيمها رسائلُ النور لبيان إعجاز القرآن، فتثبته بأربعين وجهًا، إثباتًا حيَّرَ كلَّ من نظر إليها، فقدّرها وأعجب بها، ناهيك عن أنهم لم ينقدوها ولم يعترضوا عليها قط، بل أثنوا عليها كثيرًا.
هذا وقد أحال السائح إثبات وجه الإعجاز للقرآن الكريم، وأنه كلام اللّٰه سبحانه حقًّا إلى رسائل النور، إلّا أنه أنعم النظر في بضع نقاط تبين بإشارة مختصرة عظمة القرآن الكريم:
[حول عَظَمة القرآن في بضع نقاط]
[نقطة1: القرآن معجزة للنبي ﷺ، والنبي معجزةٌ للقرآن]
النقطة الأولى: مثلما أن القرآن الكريم بكل معجزاته وحقائقه الدالة على أحقيته هو معجزة لمحمد ﷺ، فإن محمدًا بكل معجزاته ودلائل نبوته وكمالاته العلمية معجزة أيضًا للقرآن الكريم وحجة قاطعة على أن القرآن الكريم كلام اللّٰه رب العالمين.
[نقطة2: القرآن قام بأعظم تغيير]
النقطة الثانية: إن القرآن الكريم قد بدّل الحياة الاجتماعية تبديلا هائلا نوّر الآفاق وملأها بالسعادة والحقائق، وأحدث انقلابا عظيما سواء في نفوس البشر وقلوبهم، أو في أرواحهم وعقولهم، أو في حياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية، وأدام هذا الانقلاب وأداره، بحيث إن آياته البالغة ستة آلاف وستمائة وستًّا وستين آية5ألف آية أمر، كقوله تعالى (وأقيموا الصلاة) (البقرة:٤٣). وألف آية نهى، كقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنى) (الإسراء:٣٢). وألف آية وعد، كقوله تعالى (ومن يطع اللّٰه ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا) (الأحزاب:٧١). وألفٌ وعيد، كقوله تعالى (ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم) (النساء:٩٣) الآية. وألفٌ خبر، كقوله تعالى (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد ءامنًا) (إبراهيم:٣٥) الآية. وألفٌ قصص، كقصة يوسف عليه السلام مع إخوته. و(ستمائة) فيها أحكام من حلال وحرام. و(ست وستون) ناسخ ومنسوخ.
من تفسير أبدع البيان لجميع آي القرآن للشيخ محمد بدرالدين التلوي ص ٣، دار النيل، إزمير ١٩٩٢. ورواه ابن خزيمة في كتابه: “الناسخ والمنسوخ” تُتلى منذ أربعة عشر قرنا في كل آن بألسنة أكثر من مائة مليون شخص في الأقل بكل إجلال واحترام، فيربي الناس ويزكي نفوسهم، ويصفى قلوبهم، ويمنح الأرواح انكشافا ورقيا، والعقول استقامة ونورًا، والحياة حياةً وسعادة. فلا شك أنه لا نظير لمثل هذا الكتاب ولا شبيه له ولا مثيل. فهو خارق، وهو معجزة.
[نقطة3: بلاغة القرآن لا تُضاهى]
النقطة الثالثة: إن القرآن الكريم قد أظهر بلاغة أيما بلاغة، منذ ذلك العصر إلى زماننا هذا، حتى إنه حطّ من قيمة “المعلقات السبع” المشهورة وهي قصائد أبلغِ الشعراء، كُتبت بالذهب وعُلّقت على جدران الكعبة، حتى إن ابنة “لبيد” أَنزلت قصيدة أبيها مِن على جدار الكعبة قائلة: “أما وقد جاءت الآيات فليس لمثلك هنا مقام”.
وكذا عندما سمع أعرابيّ أديبٌ الآيةَ الكريمة: ﴿فاصْدَع بما تُؤمَر﴾ (الحجر:٩٤) خرّ ساجدا فقيل له: أأسلمتَ؟ قال: لا، بل سجدت لبلاغة هذه الآية.
وكذا، فإن آلافا من أئمة البلاغة وفحول الأدب أمثال عبد القاهر الجرجاني والسكاكي والزمخشري قد أقرّوا بالإجماع والاتفاق أن بلاغة القرآن فوق طاقة البشر ولا يمكن أن تُدرك.
وكذا، فان القرآن الكريم منذ نزوله -وما زال- يتحدى كل مغرور ومتعنت من الأدباء والبلغاء، وينال من عتوهم وتعاليهم، تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله.. أو أن يَرضَوا بالهلاك والذل في الدنيا والآخرة.
وبينما يعلن القرآن تحدّيه هذا، إذا ببلغاء ذلك العصر العنيدين قد تركوا السبيل القصيرة وهي المضاهاة والمعارضة والإتيان بسورة من مثله، سالكين السبيل الطويلة، سبيلَ الحرب التي تأتي بالويل والدمار على الأرواح والأموال، مما يُثبت اختيارُهم هذا أنه لا يمكن المسير في تلك السبيل القصيرة.
وكذا، ففي متناول الأيدي ملايين الكتب العربية التي كتبها أولياء القرآن بشغف اقتباس أسلوبه وتقليده، أو كتبها أعداؤه لأجل معارضته ونقده، فكل ما كُتِب ويُكتب، مع التقدم والرقي في الأسلوب الناشئ من تلاحق الأفكار -ومنذ ذلك الوقت وإلى الآن- لا يمكن أن يضاهي أو يداني أيٌّ منها أسلوبَ القرآن، حتى لو استمع رجل عامي لما يُتلى من القرآن الكريم لاضطر إلى القول: إن هذا القرآن لا يشبه أيا من هذه الكتب؛ فإما أن يكون أسفل الجميع وإما أن يكون فوق الجميع. ولن يستطيع إنسان كائنا من كان، ولا كافر ولا أحمق أن يقول: إنه أسفل الجميع، فلا بد إذن أن مرتبة بلاغته فوق الجميع.
حتى قد تلا أحدهم الآية الكريمة: ﴿سَبَّحَ للّٰه ما في الَّسمواتِ والأرض﴾.
ثم قال: “إني لا أرى الوجه المعجز الذي ترونه في بلاغة هذه الآية الكريمة”. فقيل له: “عُدْ بخيالك -كهذا السائح- إلى ذلك العصر واستمع إليها هناك”. وبينما هو يتخيل نفسه هناك فيما قبل نزول القرآن الكريم، إذا به يرى أن موجودات العالم ملقاة في فضاء خالٍ شاسع دون حدود، في دنيا فانية زائلة، وهي في حالة يائسة مضطربة تتخبط في ظلمة قاتمة، وهي جامدة دون حياة وشعور، وعاطلة دون وظيفة ومهام. ولكن حالما أنصت إلى هذه الآية الكريمة وتدبر فيها إذا به يرى أن هذه الآية قد كَشفت حجابا مُسدلا عن وجه الكون وعن وجه العالم كله حتى بان ذلك الوجه مشرقا ساطعا، فألقى هذا الكلام الأزلي والأمر السرمدي درسا على جميع أرباب المشاعر المصطفين حسب العصور كلها ومظهرا لهم أن هذا الكون بحكمِ مسجد كبير، وأن جميع المخلوقات -ولا سيما السماوات والأرض- منهمكة في ذكر وتهليل وتسبيح ينبض بالحيوية. وقد تسنم الكلُّ وظائفَهم بكل شوق ونشوة، وهم ينجزونها بكل سعادة وامتنان.
هكذا شاهد السائح سريان مفعول هذه الآية الكريمة في الكون، فتذوق مدى سمو بلاغتها، وقاس عليها سائر الآيات الكريمة، فأدرَك السر في هيمنة بلاغة القرآن الفريدة لنصف الأرض وخمس البشرية، وعَلِم حكمةً واحدة من آلاف الحِكم لديمومة جلال سلطان القرآن الكريم بكل توقير وتعظيم على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان دون انقطاع.
[نقطة4: حلاوة القرآن لا تُمَلّ]
النقطة الرابعة: إن القرآن الكريم قد أظهر عذوبة وحلاوة ذات أصالة وحقيقة بحيث إن التكرار الكثير -المسبب للسآمة حتى من أطيب الأشياء- لا يورث الملال عند من لم يفسد قلبه ويبلد ذوقه، بل يزيد تكرار تلاوته من عذوبته وحلاوته. وهذا أمر مسلّم به عند الجميع منذ ذلك العصر، حتى غدا مضرب الأمثال.
وكذا فقد أظهر القرآن الكريم من الطراوة والفتوة والنضارة والجدّة بحيث يحتفظ بها وكأنه قد نزل الآن، رغم مرور أربعة عشر قرنا من الزمان عليه، ورغم تيسر الحصول عليه للجميع. فكل عصر قد تلقاه شابا نضرا وكأنه يخاطبه. وكل طائفة علمية مع أنهم يجدونه في متناول أيديهم وينهلون منه كل حين ويقتفون أثر أسلوب بيانه، يرونه محافظا دائما على الجدة نفسها في أسلوبه والفتوة عينها في طرز بيانه.
[نقطة5: للقرآن جناحان يصدِّقانه]
النقطة الخامسة: إن القرآن الكريم قد بسط أحد جناحيه نحو الماضي والآخرَ نحو المستقبل، فالحقيقة التي اتفق عليها الأنبياء السابقون هي جذر القرآن وأحد جناحيه، فهو يصدّقهم ويؤيدهم، وهم بدورهم يؤيدونه ويصدقونه بلسان حال التوافق.
وكذلك فإن الأولياء الصالحين والعلماء الأصفياء هم ثمار استمدت الحياة من شجرة القرآن الكريم. فتكاملُهم الحيوي يدل على أن شجرتهم المباركة هي ذات حياة وعطاء وذات فيض دائم وذات حقيقة وأصالة. فالذين انضووا تحت حماية جناحه الثاني، وعاشوا في ظلاله من أصحاب جميع الطرق الحقة للولاية وأربابِ جميع العلوم الحقة للإسلام يشهدون أن القرآن هو عين الحق ومجمع الحقائق، ولا مثيل له في جامعيته وشموليته، فهو معجزة باهرة.
[نقطة6: الجهات الست للقرآن كلها منورة]
النقطة السادسة: إن الجهات الست للقرآن الكريم منورة مضيئة، مما يُبيّن صدقه وعدله.
نعم، فمِن تحته أعمدة الحجج والبراهين..
وعليه تتألق سكة الإعجاز..
وبين يديه (هدفه) هدايا سعادة الدارين..
ومن خلفه (أي نقطة استناده) حقائق الوحي السماوي..
وعن يمينه تصديقُ ما لا يحد من أدلة العقول المستقيمة..
وعن يساره الاطمئنان الجاد والانجذاب الخالص والاستسلام التام للقلوب السليمة والضمائر الطاهرة.
[ستة مقامات تبرهن على صدق القرآن]
وإذ تثبت -تلك الجهات الست- أن القرآن الكريم حصن حصين سماوي في الأرض لا يقوى على خرقه خارق ولا ينفذ من جداره نافذ، هناك أيضًا ستة “مقامات” تؤكد أنه الصدق بذاته والحق بعينه وأنه ليس بكلام بشر قط وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
[مقام1: تأييد مدبر الكون]
وأول تلك المقامات تأييدُ مصرّف هذا الكون ومدبره، الذي اتخذ إظهار الجميل وحماية البرّ والصدق ومحق الخداعين وإزالة المفترين سنّةً جارية لفعاليته سبحانه، فأيَّد سبحانه وصدَّقَ هذا القرآن بما منحه من مقام احترام وتعظيم وأولاه من مرتبة توفيق وفلاح هو أكثر قبولا وأعلى مرتبة وأعظم هيمنة في العالم.
[مقام2: أحوال مبلِّغ القرآن ﷺ]
وكذا فإن الاعتقاد الراسخ والتوقير اللائق من الذات المباركة ﷺ نحو القرآن الكريم يفوق الجميع وهو منبع الإسلام وترجمان القرآن، وكونه بين اليقظة والنوم حينما يتنـزل عليه الوحي فيتنـزل عليه دون إرادته، وعدم بلوغ سائر كلامه شأوه، بل عدم مشابهته له رغم أنه أفصح الناس، وبيانه -بهذا القرآن- بيانًا غيبيًّا لِما مضى من الحوادث الكونية الواقعة ولِما ستأتي منها مع أميته من دون تردد وبكل اطمئنان، وعدم ظهور أية حيلة أو خطأ أو ما شابهها من الأوضاع منه مهما صغرت رغم أنه بين أنظار أشد الناس إنعاما لتصرفاته..
فإيمان هذا الترجمان الكريم والمبلغ العظيم ﷺ، وتصديقه بكل قوته لكل حكمٍ من أحكام القرآن الكريم، وعدم زعزعة أي شيءٍ له مهما عظم، يؤيد ويؤكد أنَّ القرآن سماوي وكله صدق وعدل وكلام مبارك للرب الرحيم.
[مقام3: انجذاب أصناف الخلق إليه وارتباطهم به]
وكذا فإن ارتباط خمس البشرية، بل الشطر الأعظم منهم بذلك القرآن الكريم المشاهَد أمامهم ارتباطَ انجذابٍ وتدينٍ، واستماعَهم إليه بجد وشوق ولهفة، وتوافدَ الجن والملك والروحانيين إليه والتفافهم حوله عند تلاوته التفافَ الفراشة العاشقة للنور بشهادة أمارات ووقائع وكشفيات صادقة كثيرة.. كل ذلك تصديق بأن هذا القرآن هو محل رضى الكون وإعجابه، وأن له فيه أسمى مقام وأعلاه.
[مقام4: تلقي جميع الطبقات العلمَ منه]
وكذا فإن أخذ كل طبقة من طبقات البشر -ابتداءً من الغبي الشديد الغباء والعامي إلى الذكي الحاد الذكاء والعالم- نصيبَها كاملة من الدروس التي يلقيها القرآن الكريم، وتفهّمَهم منه أعمق الحقائق، واستنباط جميع الطوائف من علماء مئات العلوم والفنون الإسلامية، وبخاصة مجتهدي الشريعة السمحة ومحققي أصول الدين وعباقرة علم الكلام وأمثالهم، واستخراجهم الأجوبة الشافية لما يحتاجونه من المسائل التي تخص علومهم من القرآن الكريم.. إنما هو تصديق بأن القرآن الكريم هو منبع الحق ومعدن الحقيقة.
[مقام5: العجز عن معارضته برغم التحدي]
وكذا فإن عدم معارضة أدباء العرب الذين هم في المقدمة في الأدب ولا سيما الذين لم يدخلوا الإسلام -مع رغبتهم الملحة في المعارضة- وعجزَهم عجزا تاما أمام وجه واحد -وهو الوجه البلاغي- من بين وجوه إعجاز القرآن السبعة الكبرى، وعجزهم عن الإتيان بسورة واحدة فقط من مثله، وصدودهم عن ذلك، وعدم معارضته ممن أتى من مشاهير البلغاء وعباقرة العلماء لحدّ الآن لأي وجه من وجوه الإعجاز -مع رغبتهم في ذيوع صيتهم بالمعارضة- وسكوتهم عاجزين عن ذلك، لهو حجة قاطعة على أن القرآن الكريم معجزة وفوق طاقة البشر.
نعم، إن قيمة الكلام وعلوه وبلاغته تتوضح في بيان: “مَن قاله؟ ولمن قاله؟ ولِمَ قاله؟”.
وبناءً على هذا فإن القرآن الكريم لم يأت -ولن يأتي- مثلُه ولن يدانيه شيء قط؛ ذلك لأن القرآن الكريم إنما هو خطاب من رب العوالم جميعًا وكلام من خالقها، وهو مكالمة لا يمكن تقليدها -بأي جانب من الجوانب- وليس فيه أمارة تومئ بالتصنع.
ثم إن المخاطب هو مبعوث باسم البشرية قاطبة، بل باسم المخلوقات جميعًا، وهو أكرم من أصبح مخاطبا وأرفعهم ذكرا، وهو الذي ترشح الإسلامُ العظيم من قوة إيمانه وسعته، حتى عرج به إلى قاب قوسين أو أدنى فنـزل مكللا بالمخاطبة الصمدانية.
ثم إن القرآن الكريم المعجز البيان قد بيّن سبيل سعادة الدارين، ووضح غايات خلق الكون، وما فيه من المقاصد الربانية موضحا ما يحمله ذلك المخاطب الكريم من الإيمان السامي الواسع الذي يضم الحقائق الإسلامية كلها عارضا كل ناحية من نواحي هذا الكون الهائل ومقلبا إياه كمن يقلب خارطة أو ساعة أمامه. معلّما الإنسانَ صانعَه الخالقَ سبحانه من خلال أطوار الكون وتقلباته. فلا ريب ولا بد أنه لا يمكن الإتيان بمثل هذا القرآن أبدًا، ولا يمكن مطلقًا أن تُنال درجةُ إعجازه.
[مقام6: بيان المفسرين لأسراره ومزاياه]
وكذا فإن الآلاف من العلماء الأفذاذ الذين قام كل منهم بكتابة تفسير للقرآن الكريم في مجلدات بلغ قسم منها ثلاثين أو أربعين مجلدا بل سبعين مجلدا، وبيانهم بأسانيدهم ودلائلهم لما في القرآن الكريم مما لا يحد من المزايا السامية والنكات البليغة والخواص الدقيقة والأسرار اللطيفة والمعاني الرفيعة والإخبارات الغيبية الكثيرة بأنواعها المختلفة، وإظهار كل هؤلاء لتلك المزايا وإثباتهم لها.. دليل قاطع على أن القرآن الكريم معجزة إلهية خارقة.
وبخاصة إثبات كل كتاب من كتب رسائل النور البالغة مائة وثلاثين كتابًا لمزية من مزايا القرآن الكريم ولنكتة من نكاته البديعة إثباتًا قاطعا بالبراهين الدامغة، ولا سيما رسالة “المعجزات القرآنية” و”المقام الثاني من الكلمة العشرين” الذي يستخرج كثيرًا من خوارق الحضارة من القرآن الكريم أمثال القطار والطائرة. و”الشعاع الأول” المسمى بـ”الإشارات القرآنية” الذي يبين إشاراتِ آياتٍ إلى رسائل النور وإلى الكهرباء، والرسائل الصغيرة الثمانية المسماة بـ”الرموز الثمانية” التي تبين مدى الانتظام الدقيق في حروف القرآن الكريم وكم هي ذات أسرار ومعان غزيرة، والرسالة الصغيرة التي تبين خواتيم سورة الفتح وتثبت إعجازها بخمسة وجوه من حيث الإخبار الغيبي، وأمثالها من الرسائل.. فإن إظهار كل جزء من أجزاء رسائل النور لحقيقة من حقائق القرآن الكريم ولنور من أنواره كل ذلك تصديق وتأكيد بأن القرآن الكريم ليس له مثيل، وأنه معجزة وخارقة، وأنه لسان الغيب في عالم الشهادة هذا، وأنه كلام علام الغيوب.
وهكذا، لأجل هذه المزايا والخواص للقرآن الكريم التي أشير إليها في ست نقاط، وفي ست جهات، وفي ستة مقامات، دامت حاكميته النورانية الجليلة وسلطانه المقدس المعظم، بكمال الوقار والاحترام مضيئةً وجوهَ العصور ومنوِّرة وجهَ الأرض أيضًا، طوال ألف وثلاثمائة سنة.
ولأجل تلك الخواص أيضًا نال القرآن الكريم ميزات قدسية حيث إن لكل حرف من حروفه عشرة أثوبة وعشر حسنات في الأقل، وعشر ثمار خالدة، بل إن كل حرف من حروف قسم من الآيات والسور يثمر مائة أو ألفًا أو أكثر، من ثمار الآخرة، ويتصاعد نور كل حرف وثوابه وقيمته في الأوقات المباركة من عشرة إلى المئات.. وأمثالها من المزايا القدسية قد فهمها سائح العالم، فخاطب قلبه قائلًا:
حقًّا إن هذا القرآن الكريم المعجز في كل ناحية من نواحيه قد شهد بإجماع سوره وباتفاق آياته، وبتوافق أسراره وأنواره، وبتطابق ثماره وآثاره، شهادةً ثابتة بالدلائل على وجود واجب الوجود، وعلى وحدانيته سبحانه، وعلى صفاته الجليلة، وعلى أسمائه الحسنى، حتى ترشحت الشهادات غير المحدودة لجميع أهل الإيمان من تلك الشهادة.
وهكذا، فقد ذُكرت في المرتبة السابعة عشرة من المقام الأول إشارةٌ قصيرة لما تلقاه السائح، من درس التوحيد والإيمان من القرآن الكريم:
(لا إله إلّا اللّٰه الواجب الوجود الواحد الأحد الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدتهِ القرآنُ المعجز البيانِ، المقبولُ المرغوبُ لأجناس المَلَك والإنس والجان، المقروءُ كلُّ آياته في كل دقيقة بكمال الاحترام، بألسنة مئات الملايين من نوع الإنسان، الدائمُ سلطنتُه القدسية على أقطار الأرض والأكوان، وعلى وجوه الأعصار والزمان، والجاري حاكميته المعنوية النورانية على نصف الأرض وخُمس البشر في أربعة عشر عصرا بكمال الاحتشام.. وكذا شَهدَ وبرهن بإجماع سورهِ القدسية السماوية، وباتفاق آياته النورانية الإلهية، وبتوافق أسراره وأنواره وبتطابق حقائقه وثمراته وآثاره بالمشاهدة والعيان)
❀ ❀ ❀
[مشهد حقائق الإمكان والوجوب والتعاون]
ثم إن السائح والمسافر المذكور قد علم يقينًا أن الإيمان هو أعظمُ رأس مال الإنسان؛ إذ لا يُمَلِّكه -وهو الفقير- مزرعةً فانية ومسكنًا مؤقتًا، بل يُملّكه الكونَ العظيم، ويجعله لائقًا ليظفر بمُلْكٍ واسعٍ باقٍ أوسعَ من الدنيا، ويوجِد له -وهو الإنسان الفاني- لوازم حياة أبدية خالدة؛ فينقذه -وهو المسكين المنتظر لمشنقة الأجَل- من النهاية المرعبة والإعدام الأبدي، فاتحًا له خزائن السعادة السرمدية.
لذا خاطب السائح نفسه قائلًا: “هيا، تقدمي، لنفز بمرتبةٍ أخرى من مراتب الإيمان التي لا يحصرها حدّ.. فلنطّلع على مجموع الكون، ولننصتْ إليه لنرى ماذا يقول هو أيضًا، كي نضفي نورًا على تلك الدروس التي تلقيناها من أركان الكون وأجزائه“.
[مشهَد الكون بكُلِّيَّته]
فنظر السائح إلى مجموع الكون بمنظارٍ واسعٍ محيطٍ قد استعاره من القرآن الكريم، فرأى أن هذا الكون منظَّمٌ تنظيمًا بديعًا، ومنطوٍ على معاني جمّة وفيرة، بحيث يبدو على صورة كتاب سبحاني مجسم، أو قرآن رباني جسماني، أو قصر مزين صمداني، أو بلد منتظم رحماني؛ إذ إن جميع سُوَر ذلك الكتاب وآياته وكلماته، بل حروفه وأبوابه وفصوله، وصحائفه وسطوره، وما يجري على الجميع من “المحو والإثبات” ذي المعنى اللطيف، ومن التحويل والتغيير ذي الحكمة والإبداع.. كل ذلك بالإجماع يفيد بداهة وجودَ عليم بكل شيء، قدير على كل شيء. ويعبّر عن وجود بارئٍ ذي جلال، ومصوّر ذي كمال، يرى كل شيء في كل شيء، ويَعلم علاقة كل شيء بكل شيء، فيراعيه.
وهكذا، فإن جميع ما في الكون بأركانه، وأنواعه، وأجزائه، وجزئياته، وساكنيه، ومشتملاته، ووارداته، ومصاريفه، وتبديلاته ذاتِ المصلحة، وتجديداته ذات الحكمة، يفيد ويفهِّم بالاتفاق وجودَ ووحدانيةَ خالقٍ رفيع الدرجات، وصانعٍ ليس كمثله شيء، يعمل بقدرة لا حدَّ لها، وبحكمةٍ لا نهاية لها.
[حقيقتان عظيمتان تثبتان وجود الخالق ووحدتَه]
وتُثبِت شهادةَ الكون العظيمة هذه على وجود الخالق ووحدانيته حقيقتان عظيمتان واسعتان متناسبتان مع سعة الكون وعظمته، وهما:
[حقيقة الحدوث والإمكان]
الحقيقة الأولى: وهي “حقيقة الحدوث والإمكان” التي رآها حكماء الإسلام والعلماءُ الدهاة لأصول الدين وعلم الكلام، وأثبتوها ببراهين دامغة.
فقد قالوا: “لما كان في العالم وفي كل شيء تغيّرٌ وتبدل، فإنه فانٍ وحادث ولا يكون قديما. ولأنه حادثٌ فلا بد له من صانع مُحدِث. ولما كان كل شيء على السواء إن لم يكن في ذاته سبب وجودي وعدمي فلن يكون واجبًا ولا أزليًّا..”.
وقد أُثبت أيضًا ببراهين قاطعة أنه لا يمكن إيجاد الأشياء بعضها للبعض الآخر بالدور والتسلسل الذي هو باطل ومحال.
فيلزم إذن وجودُ واجبٍ للوجود، يمتنع نظيرُه، ومحال مثيلُه، كلُ ما عداه ممكنٌ، وكل ما سواه مخلوقه.
[الحدوث]
نعم، إن “حقيقة الحدوث” قد استولت على الكون، فالعين ترى أكثرها، والعقل يرى القسم الآخر منها.
ذلك لأننا نشاهد أنه مع حلول الخريف في كل سنة يموت عالَم عظيم جدًّا، فتموت معه أفراد غير محدودة لمائة ألف نوع من النباتات والحيوانات الصغيرة، كل نوع منه بحكم كونٍ ذي حياة. ولكن ذلك الموت يجري في غاية الانتظام، بحيث تُودِع تلك الأفرادُ بذورَها ونواها وبويضاتها -التي تصبح مدارًا لحشرها ونشورها، والتي هي بذاتها معجزات الرحمة والحكمة وخوارق القدرة والعلم- تُودعها أمانةً لدى حكمة الحفيظ ذي الجلال، وتحت رعايته وحمايته، مسلمةً إلى أيديها صحُف أعمالها، وبرامج ما قدمت من وظائف، وبعد ذلك تموت.. وبحلول موسم الربيع تُبعث بأعيانها تلك التي توفيت من الأشجار والأصول والحيوانات الصغيرة. وتُحيا وتخلق أمثالُ ومشابهات قسم آخر منها في أماكنها. فتمثل بذلك مائة ألف مثال ونموذج للحشر الأعظم ومائة ألف دليل عليه.
فموجودات الربيع الماضي بنَشرها لصحائف ما قامت به من أعمال، وما أدت من وظائف، وإعلانها تلك الصحائف في هذا الربيع، تظهر بوضوح مثالًا للآية الكريمة: ﴿واِذا الصُحُفُ نُشِرَت﴾.
وكذا من جانب الكون ككل؛ ففي كل خريفٍ وفي كل ربيعٍ يموت عالَم كبير، ويأتي إلى الوجود عالَمٌ جديد، وما فيهما من الوفيات والمواليد لأنواع لا تحصى من الأحياء تجري في غاية الانتظام والميزان، حتى كأن الدنيا مَحَطٌّ ومنـزل، يُستضاف فيه الكائنات الحية، فتأتيها عوالم سيّاحة ودُنًى سيارة تؤدي فيها وظائفَها، ثم ترحل عنها وتغادرها.
وهكذا فإن إحداث عوالمَ ذاتِ حياة، وإيجادَ كائناتٍ موظفة في هذه الدنيا، إحداثًا وإيجادًا بكل علم وحكمة، وميزانٍ وموازنة، وانتظامٍ ونظام، واستعمالَها بقدرة، واستخدامَها برحمة في المقاصد الربانية، وفي الغايات الإلهية، وفي الخدمات الرحمانية، يدل بالبداهة على وجوب وجودِ ذاتٍ مقدسة جليلة لا حدّ لقدرتها، ولا نهاية لحكمتها، ويظهرها للعقول واضحة كالشمس.
نغلق باب “مسائل الحدوث” ونحيلها إلى رسائل النور وكتبِ علماء الكلام.
[الإمكان]
أما جهة “الإمكان” فهو الآخر قد استولى على الكون وأحاط به، إذ نشاهد أن كل شيء سواء أكان كليًّا أم جزئيًّا كبيرًا أم صغيرًا، وكلَّ موجود -من العرش إلى الفرش ومن الذرات إلى السيارات- إنما يُرسَل إلى الدنيا بذاتيةٍ خاصة وبصورة معينة وبشخصية متميزة وبصفات خاصة وبكيفيات حكيمة وبأجهزة ذات مصالح وفوائد.
والحال أن إعطاء تلك الخصوصية، لتلك الذات الخاصة ولتلك الماهية، من بين إمكانات غير محدودة..
وكذا إكساءُ تلك الصورة المعينة ذات النقوش والعلامات الفارقة المتناسبة، من بين إمكانات واحتمالات عديدة بعدد الصور..
وكذا تخصيصُ تلك الشخصية اللائقة بانتقاء متميز لذلك الموجود المضطرب بين إمكانات بقدر أشخاص بني جنسه..
وكذا تمكينُ صفات خاصة ملائمة ذات مصالح في ذلك المصنوع الذي ليس له شكل والمتردد ضمن إمكانات واحتمالات بعدد أنواع الصفات ومراتبها..
وكذا تجهيزُ ذلك المخلوق بتلك الكيفيات ذات الحكمة، وتقليدُه بتلك الأجهزة ذات العناية التي من الممكن أن تكون في طرق شتى وطرز غير محدودة، وهو المتحير السائب بلا هدف، ضمن ما لا يحد من الإمكانات والاحتمالات..
إن جميع هذه الإشارات والدلالات والشهادات، الصادرة من حقيقة “الإمكان” تشكّل بلا شك أحد جناحي هذه الشهادة العظمى للكون؛ لأنه بعدد جميع الممكنات الكلية والجزئية، وبعدد إمكانات كل ممكن -مما ذُكر- من ماهية وهوية، وما له من هيئة وصورة، وما يتميز به من صفة ووضعية، هناك إشاراتٌ ودلالات وشهادات على وجود واجب الوجود سبحانه، الذي يخصّص ويُرجّح ويعيّن ويُحدِث، ولا حدَّ لقدرته ولا نهاية لحكمته ولا يخفى عليه شيء ولا شأن ولا يعجزه شيء ولا يعزب عنه شيء. فأكبرُ شيء عنده يسيرٌ كأصغره، وهو القادر على إيجاد ربيع بيُسرِ إيجادِ شجرة، وعلى إيجاد شجرة بسهولةِ إيجاد بذرة.
ولما كانت أجزاء رسائل النور -وبخاصة الكلمة الثانية والعشرون، والثانية والثلاثون، والمكتوب العشرون والثالث والثلاثون- قد أثبتت إثباتًا كاملًا، وأوضحت إيضاحا تاما شهادةَ الكون بكلا جناحيها وبكلتا حقيقتيها، لذا نختم هذه المسألة الطويلة جدًّا بإحالتها إلى تلك الرسائل.
[حقيقة التعاون]
أما الجناح الثاني للشهادة الكبرى الكلية الصادرة من مجموع الكون فهو:
الحقيقة الثانية: حقيقة “التعاون“.
إن حقيقة التعاون تشاهَد فيما هو خارجٌ عن طوق المخلوقات الساعية لحفظ وجودِها ومهامها، وصيانةِ حياتها -إن كانت ذات حياة- وإيفاءِ وظيفتها ضمن هذه الانقلابات المضطربة المستمرة والتحولات المتلاطمة الدائمة.
فمثلًا: إن سعي العناصر لإمداد الأحياء، وبخاصة مدّ السحاب للنباتات، ومساعدة النباتات بدورها للحيوانات، ومعاونة الحيوانات للإنسان، واللبن السائغ في الأثداء والمتدفق لإطعام الصغار، وتسليم حاجات الأحياء وأرزاقها الكثيرة جدًّا والخارجة عن طاقتها وطوقها إلى أيديها من حيث لا تحتسب، وجري الذرات الغذائية لبناء خلايا البدن.. وما شابهها من الأمثلة الغزيرة لحقيقة التعاون الجارية بالتسخير الرباني وبالاستخدام الرحماني، تُظهِر بجلاء ربوبيةَ رب العالمين العامة المحيطة ورحيميته الواسعة الشاملة والذي يدير الكون الواسع برمته بسهولة إدارة قصر بسيط.
نعم، إن إظهار الأشياء المتعاونة -وهي جامدة وبلا شعور ولا شفقة- أوضاعًا تنم عن الشفقة وتتسم بالشعور فيما بينها دليل وأيّ دليل على أنها تُدفَع دفعًا للإمداد والمعاونة، فتجري بقوةِ ربٍّ ذي جلال، وبرحمةِ رحيمٍ مطلقِ الرحمة، وبأمرِ حكيمٍ مطلق الحكمة.
[حقائق أخرى متصلة بحقيقة التعاون]
وهكذا فإن “التعاون” العام الجاري في الكون، و”الموازنةَ” العامة السارية بكمال الانتظام، و”المحافظةَ” الشاملة، ابتداءً من المجرات والسيارات إلى أجهزة الكائن الحي وأعضائه الدقيقة بل إلى ذرات جسمه، و”التزيين” الجاري قلمُه من وجه السماوات المتلألئ إلى وجه الأرض البهيج، بل إلى وجه الأزهار الجميلة، و”التنظيمَ” الحاكم ابتداءً من درب التبانة إلى المنظومة الشمسية، وإلى ثمار الذُرة والرمان وأمثالهما، و”التوظيف” القائم ابتداءً من الشمس والقمر والعناصر والسحب إلى النحل والنمل.. وأمثالَها من الحقائق العظيمة جدًّا، والشاهدة شهادة متناسبة مع عظمتها، تشكّل الجناح الثاني لشهادة الكون على وجوده سبحانه ووحدانيته وتثبتها.
فما دامت رسائل النور قد أثبتت هذه الشهادة العظمى وبيّنتها، لذا نكتفي هنا بهذه الإشارة القصيرة جدًّا.
وهكذا ذُكرت في المرتبة الثامنة عشرة من المقام الأول إشارة قصيرة لما تلقاه سائح الدنيا من درس الإيمان من الكون:
(لا إله إلّا اللّٰه الواجب الوجود، الممتنعُ نظيرُه، الممكنُ كل ما سـواه، الواحد الأحد، الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته هذه الكائناتُ، الكتاب الكبير المجسم، والقرآن الجسماني المعظّم، والقصر المزين المنظم، والبلد المحتشم المنتظم، بإجماع سـورهِ وآياته وكلماتهِ وحروفهِ وأبوابه وفصولهِ وصحفهِ وسطورهِ، واتفاقِ أركانه وأنواعه وأجزائهِ وجزئياتهِ وسكنتهِ ومشتملاتهِ ووارداتهِ ومصارفهِ، بشهادة عظمةِ إحاطةِ حقيقة الحدوث والتغير والإمكان، بإجماع جميع علماء علم الكلام، وبشهادة حقيقة تبديل صـورتـهِ ومشتملاته بالحكمة والانتظام، وتجديدِ حروفهِ وكلماتهِ بالنظام والميزان. وبشهادة عظمة إحاطةِ حقيقة: التعاون، والتجاوب، والتساند، والتداخل، والموازنة، والمحافظة، في موجوداته بالمشـاهدة والعيان)
❀ ❀ ❀
[مشهد الانتقال من الغَيبة إلى الحضور]
ثم إن السائح الذي أتى إلى الدنيا وبحث عن خالقها وصعد في ثماني عشرة مرتبة وبلغ عرش الحقيقة بمعراج إيماني، ارتقى من مقام المعرفة الغيابية إلى مقام الحضور والمخاطبة. فخاطب هذا الوَلوعُ المشتاق روحَه قائلًا:
إن الحمد والثناء الغيابيين من بدء سورة الفاتحة إلى كلمة “إيَّاكَ” يورثان طمأنينة تصعد بالإنسان وترقيه إلى مرتبة المخاطبة بـ”إيَّاكَ”، فعلينا إذن أن نسأل مَن نبحث عنه، منه مباشرة، ونَدَع البحث الغيابي عنه، إذ ينبغي السؤال عن الشمس -التي تنوّر كل شيء- من الشمس نفسها، لأنَّ الذي يُظهرُ كلَ شيء ويوضحه لاشك أنه يُظهر نفسه أكثر من كل شيء؛ لذا فكما يمكننا أن نرى الشمس ونتعرف عليها من أشعتها وضيائها، يمكننا أيضًا أن نسعى -حسب قابليتنا- في التعرف على خالقنا سبحانه وتعالى من تجليات أسمائه الحسنى ومن أنوار صفاته الجليلة.
وسنبين في هذه الرسالة بيانًا مجملًا ومختصرًا حقيقتين فقط من بين الحقائق الغزيرة والتفصيلات المسهبة لمرتبتين من المراتب غير المتناهية لطريقين من الطرق الكثيرة لهذا المقصد:
[حقيقة الفعالية المهيمنة على الكون]
الحقيقة الأولى: حقيقة الفعالية المستولية. تلك الفعالية المهيمنة على الكون، والمشاهَدة أمام أعيننا. وهي التي تدير، وتبدل، وتجدد، جميعَ الموجودات المحيطة والدائمة والمنتظمة والهائلة والسماوية والأرضية. والتي تفضي إلى الشعور بحقيقةِ تَظاهر الربوبية بداهة، ضمن حقيقة تلك الفعالية الحكيمة بجميع جهاتها. وهذا الشعور يسوق إلى إدراكِ تَبارُز الألوهية بالضرورة ضمن حقيقةِ تظاهُر الربوبية المشعة بالرحمة بجميع جهاتها.
أي يُستشعر -كأنه يُرى- أفعالُ فاعلٍ قدير وعليم، من هذه الفعالية الحكيمة المهيمنة الدائمة ومن وراء ستارها، ويُعلَم بداهةً -إلى درجة الإحساس- الأسماءُ الإلهية الحسنى المتجلية في كل شيء، من هذه الأفعال الربانية ذات التدبير والتربية ومن وراء ستارها.
ويُعرف بعلم اليقين، بل بعين اليقين، بل بحق اليقين وجودُ الصفات السبعة القدسية وتحقُّقها من هذه الأسماء الحسنى المتجلية بالجلال والجمال ومن وراء ستارها.
ويُعلم كذلك بعلم قاطع وبالبداهة والضرورة وبعلم اليقين وبشهادة جميع المصنوعات، من التجليات غير المتناهية لهذه الصفات السبعة القدسية، ذاتِ الحيوية والقدرة والعلم والسمع والبصر والإرادة والكلام، وجودُ موصوفٍ واجب الوجود، ومسمًّى واحد أحد، وفاعلٍ فرد صمد.
فيكون وجودُه سبحانه للبصيرة أظهرَ من الشمس للبصر وأسطعَ منها، فتُدركه حتى كأنها تراه.
[أفعال.. أسماء.. صفات.. ذات]
ذلك لأن الكتاب الجميل ذا المعنى اللطيف، والبناء المنتظم المتقن، يستدعيان بداهةً فِعْلَي الكتابة والبناء، وفعلا الكتابة الجميلة والبناء المنتظم يستدعيان أيضًا بداهةً اسمَي الكاتب والبنّاء، واسما الكاتب والبنّاء يستدعيان أيضًا بداهةً صنعةَ الكتابة والبناء وصفتيهما، وهذه الصنعة والصفات تستلزمان بداهة ذاتًا تكون موصوفة وصانعة، ومسمًّى، وفاعلة، إذ كما لا يمكن أن يكون هناك فعل دون فاعل، ولا اسم دون مسمى، كذلك لا يمكن أن تكون صفةٌ دون موصوف، ولا صنعة دون صانع.
وهكذا يتقرر بناءً على هذه الحقيقة والقاعدة أنّ هذا الكون -بموجوداته كافة- قد كُتب بقلم القدر، وبُني بمطرقة القدرة؛ فكُتب فيه ما لا يُحد مما هو بحكم الكتب والرسائل ذات المعاني اللطيفة، وبني فيه ما لا ينتهي مما هو بمثابة بنايات وقصور.
فيشير كل واحدة منها إشاراتٍ لا حدّ لها بآلاف الأوجه، وتشهد معًا بوجوه غير محدودة شهاداتٍ لا نهاية لها على وجوب وجودِ ووحدانية ذاتٍ جليلة أزلية أبدية، هي موصوفُ تلك الصفات السبعة المحيطة القدسية ومعدنها؛ بالأفعال الربانية والرحمانية غير المتناهية، وبجلواتٍ غير محدودة لألف اسم واسم من الأسماء الحسنى التي هي منشأ تلك الأفعال، وبالتجليات غير المتناهية للصفات السبعة السبحانية التي هي منبع تلك الأسماء الحسنى.
وكذا فإن ما في تلك الموجودات كلها من جميع أوجه الحسن والجمال وأنماط النفاسة والكمال، ومن جمال قدسي يليق بتلك الأفعال الربانية والأسماء الإلهية والصفات الصمدانية والشؤون السبحانية ويوافقها، كلٌ منه -بحد ذاته- يشهد وبمجموعه يشهد بداهة على الجمال المقدس والكمال المقدس لذاته سبحانه وتعالى.
[تجلي الربوبية]
وهكذا فإن حقيقةَ الربوبية المتظاهرة ضمن حقيقة الفعالية المستولية تُعرِّف نفسَها وتبيُّنها بشؤونها وتصرّفِها في الخلق والإيجاد والصنع والإبداع الذي يتم بالعلم والحكمة، وتُظهرها في التقدير والتصوير والتدبير والإدارة الذي يتسم بالنظام والميزان، وتَبرز في التحويل والتبديل والتنـزيل والتكميل الذي ينجَز بالقصد والإرادة، وتوضحها في الإطعام والإنعام والإكرام والإحسان الذي يعطى بالشفقة والرحمة.
[تجلي الألوهية]
وإن حقيقةَ تَبارُز الألوهية أيضًا التي تُحَسّ وتوجد بداهة ضمن حقيقةِ تَظاهُر الربوبية تعرّف نفسها وتفهّمها أيضًا بتجليات الأسماء الحسنى ذات الرحمة والكرم، وبالتجليات الجلالية والجمالية للصفات الثبوتية السبعة التي هي: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام.
نعم، فكما أن صفة “الكلام” تعرّف الذات الأقدس سبحانه وتعالى بالوحي والإلهامات، فإن صفة “القدرة” كذلك تُعرّف ذاته جل وعلا بآثارها البديعة التي هي بمثابة كلماتها المجسَّمة التي تصف قديرًا ذا جلال، وتعرّفه بإظهارها الكون من أقصاه إلى أقصاه بماهية فرقان جسماني. وأن صفة “العلم” أيضًا تعرّف ذات الواحد الأحد الموصوف، بقدر جميع المصنوعات الحكيمة المنتظمة الموزونة، وبعدد جميع المخلوقات التي تُدار وتُدبّر وتُزيّن وتمّيز بالعلم.
أما صفة “الحياة” فإن جميع الآثار الدالة على “القدرة” والصور والأحوال ذات الانتظام والحكمة والميزان والزينة، التي تنبئ عن وجود “العلم” وجميع الدلائل التي تخبر عن بقية الصفات الجليلة، مع دلائل صفات “الحياة” نفسها تدل على تحقق صفة “الحياة“. والحياة نفسها كذلك مع جميع أدلتها تلك تبرز جميع ذوي الحياة التي هي بحكم مراياها، وتحوّل الكون برمته إلى صورة مرآة كبيرة جدًّا متكونة من مرايا غير محدودة متبدلة دائما ومتجددة باستمرار لأجل إظهار التجليات البديعة والنقوش الرائعة المتنوعة جديدة فتية في كل حين.
وقياسًا على هذا فإن صفات “البصر” و”السمع” و”الإرادة” و”الكلام” كلٌ منها تعرّف الذات الأقدس تعريفا واسعا جدًّا بسعة الكون وتفهّمها. وإن تلك الصفات مثلما أنها تدل على وجود ذاته جل وعلا، فهي تدل كذلك بداهة على وجود الحياة وتحققها، وعلى أنه سبحانه وتعالى “حي“؛ ذلك لأن العلم علامةُ الحياة، والسمع أمارةُ الحيوية، والبصرَ يخصّ الأحياء، والإرادة تكون مع الحياة، والقدرة الاختيارية توجد في ذوي الحياة، أما التكلم فهو شأن الأحياء المُدرِكين.
وهكذا يُفهم من هذه النقاط: أن لصفة “الحياة” أدلة وبراهين تبلغ سبعة أضعاف سعة الكون، تعرّف وجودَها ووجود موصوفها “الحي” حتى أصبحت “الحياة” أساس جميع الصفات ومنبعها، ومصدر الاسم الأعظم ومداره.
وحيث إن رسائل النور قد أوضحت شيئا من هذه الحقيقة الأولى وأثبتتها ببراهين دامغة، نكتفي حاليا بهذه القطرة المذكورة من هذا البحر.
[حقيقة التكلم الإلهي]
الحقيقة الثانية: هي التكلم الإلهي الصادر من صفة الكلام.
إن الكلام الإلهي سبحانه لا نهاية له، وذلك بسر الآية الكريمة: ﴿قل لو كان البحرُ مِدادًا لكلماتِ ربي﴾.
فالكلام أظهرُ دليل على معرفة وجود المتكلم، أي إن هذه الحقيقة (التكلم الإلهي) تشهد شهادات غير متناهية على وجود المتكلم الأزلي سبحانه وعلى وحدانيته.
ولقد جاءت شهادتان قويتان لهذه الحقيقة بما بُيِّن في المرتبتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة من هذه الرسالة من حيث الوحي والإلهام. وجاءت شهادة أخرى واسعة في المرتبة العاشرة منها حيث أشير إلى الكتب المقدسة السماوية، وهناك شهادة أخرى ساطعة وباهرة وجامعة هي في المرتبة السابعة عشرة حيث القرآن الكريم المعجز. فنحيل بيان هذه الحقيقة وشهادتها إلى تلك المراتب.
وهكذا فقد كانت أنوارُ وأسرار الآية الكريمة: ﴿شَهد اللّٰه أنه لا إله إلّا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسطِ لا إله إلّا هو العزيزُ الحكيم﴾، التي أعلنت هذه الحقيقة إعلانًا معجزًا، وأفادت شهادتها مع شهادة بقية الحقائق، كانت كافية ووافية لصاحبنا السائح حتى إنه لم يستطع أن يتجاوزها.
فذُكرت في المرتبة التاسعة عشرة من المقام الأول إشارة لِمعانٍ مختصرة لما تلقاه هذا المسافر من درس في هذا المقام القدسي:
لا إله إلّا اللّٰه الواجب الوجود الواحد الأحد، له الأسماء الحسنى، وله الصفات العليا، وله المثل الأعلى، الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته الذاتُ الواجب الوجود، بإجماع جميع صفاتِهِ القدسيّةِ المحيطة، وجميع أسمائه الحسنى المتجلية، وباتفاق جميع شؤوناته وأفعاله المتصرفةِ، بشهادةِ عظمةِ حقيقةِ تَبارُزِ الألوهية في تظاهُر الربوبية، في دوام الفعالية المستولية، بفعل الإيجاد والخلق والصنع والإبداع بإرادة وقدرةٍ، وبفعلِ التقدير والتدبير والتدوير باختيار وحكمةٍ، وبفعل التصريف والتنظيم والمحافظة والإدارة والإعاشة بقصدٍ ورحمةٍ، وبكمال الانتظام والموازنةِ. وبشهادةِ عظمةِ إحاطةِ حقيقةِ أسرار: ﴿شَهد اللّٰه أنه لا إله إلّا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسطِ لا إله إلّا هو العزيزُ الحكيم﴾.
❀ ❀ ❀
[تنبيه]
تنبيه
إن كلَ حقيقة من الحقائق الشاهدة لتسع عشرة مرتبة من مراتب الباب الأول للمقام الثاني المذكور آنفا، كما تدل على وجوب الوجود بتحققها ووجودها، كذلك تدل بإحاطتها على الوحدة والأحدية، إلّا أنها عُدّت “دلائل وجوب الوجود” حيث أَثبتت -صراحةً- الوجودَ مقدما.
أما الباب الثاني للمقام الثاني فلقيامه بإثبات التوحيد -صراحة- أولًا، وإثبات الوجود ضمنه، فقد أُطلق عليه “براهين التوحيد“. وإلّا فكلاهما -أي الباب الأول والثاني- يثبتان الوجود والتوحيد معًا، ولكن لأجل التمييز بينهما يكرر في الباب الأول فقرة “بشهادة عظمة إحاطة حقيقة”، وفي الباب الثاني فقرة “بمشاهدة عظمة إحاطة حقيقة”، إشارة للوحدانية الظاهرة الجلية، وكأنها مشاهَدة.
ولقد عزمتُ على توضيح مراتب الباب الثاني القابل، كما هو في الباب الأول، ولكن موانعَ بعض الأحوال اضطرتني إلى الاختصار والإجمال؛ لذا نحيل إلى رسائل النور لاستيفاء حقّه من البيان والوضوح.
❀ ❀ ❀
[الباب الثاني: براهين التوحيد]
وفيه ثلاثة منازل:
[المنزل الأول: أربعة حقائق قدسية تستلزم التوحيد]
[المنزل الثاني: خمس حقائق مهيمنة تُثبت التوحيد]
[الحقيقة الأولى: العظَمة والكبرياء]
[الحقيقة الثانية: ظهور الأفعال الربانية ظهورًا مطلقًا]
[الحقيقة الثالثة: الإيجاد بكثرةٍ وسرعةٍ وانتظامٍ معًا]
[السر الأول للقدرة: الذاتي لا يَعرِض له ضدُّه]
[السر الثاني للقدرة: تَساوي القليل والكثير إزاء التنور والإطاعة والشفافية]
[الحقيقة الرابعة: كُلِّيَّة الموجودات وظهورها معًا]
[الحقيقة الخامسة: الانتظام الأكمل ووحدة المواد]
[المنزل الثالث: أربع حقائق عظيمة تدل على التوحيد]
[الحقيقة الأولى: الفتَّاحيّة]
[الحقيقة الثانية: الرحمانية]
[الحقيقة الثالثة: التدبير والإدارة]
[الحقيقة الرابعة: الرحيمية والرزاقية]