الشعاعات

الشعاع السابع: رسالة الآية الكبرى (2)

[في هذا الشعاع يقوم النورسي برحلةٍ تفكريةٍ شاملة يطالع فيها موجودات الكون بكافة طبقاتها، ويتلقى من كلِّ مرتبةٍ دلائلَ وجود الله ووحدانيته.. إنها متنٌ في العقيدة بطرازٍ فريد]

[هذا الجزء الثاني من الرسالة يتحدث عن براهين وحدانية الله تعالى]

[الجزء الأول من الرسالة يتحدث عن براهين وجود الله تعالى]

إن تكرار أهل الإيمان "لا إله إلّا هو" باستمرارٍ وبخاصة المتصوفة منهم، وإعلانَهم نداء التوحيد، وتذكيرَهم به يبين لنا أن هناك مراتب كثيرة جدًّا للتوحيد، وأن التوحيد هو أهم وظيفة قدسية، وأحلى فريضة فطرية، وأسمى عبادة إيمانية. فما دام الأمر هكذا، فتعال يا قلبُ لنفتح بابًا لمنـزلٍ آخر من منازل دار العبرة والامتحان هذه، لنتعرّف من خلاله على مرتبة أخرى من مراتب التوحيد. لأنَّ التوحيدَ الحقيقي الذي ظللنا نبحث عنه ليس مقصورًا على معرفةٍ نابعة من تصوّر، بل هو أيضًا ما يقابل التصور في علم المنطق من التصديق الذي هو عِلم، وهو نتيجة نابعة من البرهان، وهو أسمى من مجرد المعرفة التصورية بكثير. فالتوحيد الحقيقي إنما هو حُكم وتصديق وإذعان وقبول، بحيث يمكّن المرء من أن يهتدي إلى ربه من خلال كل شيء، ويمكّنه من أن يرى في كل شيء السبيلَ المنوَّرة التي توصله إلى خالقه الكريم، فلا يمنعه شيء قط عن سكينة قلبه واطمئنانه واستحضاره لمراقبة ربّه.
إن تكرار أهل الإيمان “لا إله إلّا هو” باستمرارٍ وبخاصة المتصوفة منهم، وإعلانَهم نداء التوحيد، وتذكيرَهم به يبين لنا أن هناك مراتب كثيرة جدًّا للتوحيد، وأن التوحيد هو أهم وظيفة قدسية، وأحلى فريضة فطرية، وأسمى عبادة إيمانية.
فما دام الأمر هكذا، فتعال يا قلبُ لنفتح بابًا لمنـزلٍ آخر من منازل دار العبرة والامتحان هذه، لنتعرّف من خلاله على مرتبة أخرى من مراتب التوحيد.
لأنَّ التوحيدَ الحقيقي الذي ظللنا نبحث عنه ليس مقصورًا على معرفةٍ نابعة من تصوّر، بل هو أيضًا ما يقابل التصور في علم المنطق من التصديق الذي هو عِلم، وهو نتيجة نابعة من البرهان، وهو أسمى من مجرد المعرفة التصورية بكثير.
فالتوحيد الحقيقي إنما هو حُكم وتصديق وإذعان وقبول، بحيث يمكّن المرء من أن يهتدي إلى ربه من خلال كل شيء، ويمكّنه من أن يرى في كل شيء السبيلَ المنوَّرة التي توصله إلى خالقه الكريم، فلا يمنعه شيء قط عن سكينة قلبه واطمئنانه واستحضاره لمراقبة ربّه.

المحتويات عرض

[تعريف برسالة الآية الكبرى]

.

[المقدمة]

.

[الباب الأول: براهين وجود الله تعالى]

.

[الباب الثاني: براهين التوحيد]

 

الباب الثاني: براهين التوحيد

إن ذلك المسافر الذي أُرسل إلى الدنيا لأجل الإيمان، والذي قـام بسـياحة فكرية في عالم الكائنات للاسـتفسار عن خالقه من كل شيء، والتعرّفِ على ربِّه في كل مكان، وتَرسَّخ إيمانُه بـدرجة حق اليقين بوجوب وجود إلهه الذي يبحث عنه، خاطب هذا السائحُ عقله قائلًا:

هلمّ لنخرج معًا في سياحة أخرى جديدة لنَرى من خلالها براهيـنَ تقودنا إلى وحدانية خالقنا الجليل سبحانه وتعالى.

[المنزل الأول: أربعة حقائق قدسية تستلزم التوحيد]

وطفقا يبحثان معًا بشوق غامر عن “براهين التوحيد” هذه، فوجدا في أولى المنازل أن هناك أربع حقائق قدسية تستحوذ على الكائنات، وتستلزم التوحيدَ بدرجة البداهة.

[(1) الألوهية المطلقة]

الحقيقة الأولى: الألوهية المطلقة.

إن انهماك كلِّ طائفة من طوائف البشرية بنوع من أنواع العبادة وانشغالهم به انشغالًا كأنه فطري.. وقيامَ سائر ذوي الحياة -بل حتى الجمادات- بخدماتها ووظائفها الفطرية التي هي بحكم نوع من أنواع العبادة.. وكونَ كلٍّ من النعم والآلاء المادية والمعنوية التي تغمر الكائنات وسيلةَ عبادةٍ وشكرٍ لمعبوديةٍ تُمدِّهم بسبل العبادة والحمد.. وإعلانَ الوحي والإلهام ما تَرشَّح وما تجلى معنويًّا من الغيب بمعبودية الإله الواحد.. كل هذا يثبت بالبداهة تحقُّقَ الألوهية الواحدة المطلقة وهيمنتَها.

فما دامت حقيقة هذه الألوهية كائنةً وموجودة، فلن تَقبَل إذن المشاركةَ معها؛ لأنَّ الذين يقابِلون تلك الألوهيةَ (أي المعبودية) بالشكر والعبادة هم ثمراتٌ ذات مشاعر في قمة شجرة الكائنات، لذا فإن إمكان وجودِ آخرين يَشُدُّون انتباه أولئك الشاعرين، ويجذبونهم إليهم، ويجعلونهم ممتنّين لهم وشاكرين، محاولين تنسيتَهم معبودَهم الحق -الذي يمكن أن ينسى بسرعة لغيابه عن الرؤية ولاحتجابه عن الأنظار- مناقضٌ لماهية الألوهية ومناف لمقاصدها القدسية ولا يمكن قبوله إطلاقًا. ومن هنا أفاض القرآن الكريم في رفض الشرك بشدّة، وهدّد المشركين بعذاب جهنم.

[(2) الربوبية المطلقة]

الحقيقة الثانية: الربوبية المطلقة.

إن التصرف العام الشامل من لدن يدٍ غيبية في جميع الكائنات -وبخاصة الأحياء منها- بحكمة ورحمة، في تربيتها وفي إعاشتها اللتين تتمان معًا بالطريقة نفسها، في كل جهة من الجهات، وبصورة غير مأمولة ومتوقعة، مع اكتناف بعضها البعض الآخر، إنما هو رشحاتٌ وضياءٌ يدل على الربوبية الواحدة المطلقة؛ بل هو برهان قاطع على تحققها.

فما دامت هناك ربوبية واحدة مطلقة، فلن تَقبل إذن الشركَ، ولا المشاركة قطعًا؛ ذلك لأن أهم غايات تلك الربوبية وأقصى مقاصدها هو إظهارُ جمالها وإعلانُ كمالها وعرض صنائعها النفيسة وإبراز بدائعها القيّمة، وقد تجمعت هذه المقاصد جميعها في كل ذي روح بل حتى في الجزئيات؛ لذا لا يمكن أن تَقبل الربوبيةُ الواحدةُ المطلقةُ الشركَ ولا الشركاء إطلاقًا، إذ إن تدخلًا عشوائيًّا للشرك في أي موجود من الموجودات -مهما كان جزئيًّا- وفي أي كائن حي -مهما كان بسيطًا أو صغيرًا- يُفسد تلك الغايات ويبطل تلك المقاصد، ويصرف الأذهانَ عن تلك الغايات وعمن أرادها وقَصَدها إلى الأسباب، وهذا ما يخالف ماهيةَ الربوبية المطلقة تماما ويعاديها، فلا بد إذن أن تمنع هذه الربوبيةُ الواحدةُ المطلقةُ الشركَ وصوَرَه بأي شكل من الأشكال.

فإرشادات القرآن الكريم الغزيرةُ المستمرة إلى التوحيد وإلى التقديس والتنـزيه والتسبيح، في آياته الكريمة وفي كلماته، وحتى في حروفه وهيئاته: نابعةٌ من هذا السر الأعظم.

[(3) الكمالات المشهودة]

الحقيقة الثالثة: الكمالات.

نعم، إن جميع ما في الكون من حِكَم سامية، ومن جمالٍ خارق، ومن قوانينَ عادلةٍ، ومن غايات حكيمة، إنما تدل بالبداهة على وجودِ حقيقةِ الكمالات.

وهي شهادةٌ ظاهرة على كمال الخالق سبحانه الذي أوجد هذا الكونَ من العدم، ويدبّر أمرَه في كل جهة وناحية إدارةً معجزة جذابة جميلة، فضلًا عن أنها دلالة واضحة على كمال الإنسان الذي هو المرآة الشاعرة العاكسة لتجليات الخالق جل وعلا.

فما دامت هناك حقيقة الكمالات..

وما دام كمالُ الخالق الذي أوجد الكون في الكمال هو ثابت ومحقَّق..

وما دام كمال الإنسان الذي هو أفضل ثمرة للكون وخليفةُ اللّٰه في الأرض وأكرم مصنوع وأحب مخلوق للخالق سبحانه وتعالى حقيقةً ثابتة محققة أيضًا..

فلا بد أنَّ الشرك الذي يحوِّل صورةَ الكون -ذات الكمال والحكمة الظاهرة- إلى أُلعوبة بيد المصادفة، وإلى لهوٍ تعبث به الطبيعة، وإلى مجزرة ظالمة رهيبة لذوي الحياة، وإلى مأتم مظلم مخيف لذوي الشعور -حيث يهوي فيه كلُّ شيء إلى الفناء، وينحدر إلى الزوال ويمضي حثيثا بلا غاية ولا هدف- والذي يُردي الإنسانَ الواضحةَ كمالاتُه من آثاره إلى أسفلِ دَرَك من دركات الحيوان كأتعس مخلوق وأذله، والذي يسدل الستار على مرايا تجليات كمال الخالق سبحانه -وهي جميع الموجودات الشاهدة على الكمال المقدس المطلق للخالق الكريم- مُبطلا بذلك نتيجةَ فعاليته، وخلّاقيته سبحانه!!

فلا يمكن أن يستند هذا الشركُ على حقيقة ما مطلقًا، ولا يمكن أن يكون موجودًا في الكون أبدًا.

هذا وإن تصدي الشرك للكمالات الإلهية والإنسانية والكونية، ومعاداته لها وإفسادَه فيها، قد بُحِثَ وأُثبت مفصلا في “الشعاع الثاني” الذي يبين ثلاث ثمرات للتوحيد وبالأخص في المقام الأول منه مع دلائل قوية قاطعة، فنحيل إلى ذلك.

[(4) الحاكمية المهيمنة]

الحقيقة الرابعة: الحاكمية المطلقة.

نعم، إن من ينظر نظرة واسعة فاحصة إلى الكون، يرى أنه بمثابة مملكةٍ مهيبة جدًّا؛ في غاية الفعالية والعظمة، وتَظهر له كأنه مدينة عظيمة تتم إدارتها إدارةً حكيمة، وذات سلطنة وحاكمية في منتهى القوة والهيبة، ويجد أن كل شيء وكل نوع منهمكٌ ومسخَّرٌ لوظيفة معينة، فالآية الكريمة: ﴿وللّٰه جُنودُ السمواتِ والأرضِ﴾ تُشعر بمعاني الجندية في الموجودات التي تتمثل ابتداءً من جيوش الذرات وفِرَق النباتات وأفواج الحيوانات إلى جيوش النجوم. كل أولئك جنود ربانية مجنّدة للّٰه، فنجد في جميع أولئك الموظفين الصغارِ جدًّا وفي جميع هؤلاء الجنود المعظمة جدًّا سرَيانَ الأوامر التكوينية المهيمنة وجريانَ الأحكام النافذة وقوانينَ الملك القدوس، مما يدل دلالة عميقة بالبداهة على وجود الحاكمية الواحدة المطلقة، والآمرية الواحدة الكلية.

فما دامت الحاكمية الواحدة المطلقة حقيقةً كائنة، وهي موجودة، فلا بد أن الشرك لا حقيقة له. ذلك لأن الحقيقة الجازمة التي تصرح بها الآية الكريمة: ﴿لَو كانَ فيهِما آلهةٌ إلّا اللّٰه لَفَسدَتا﴾ تفيد بأنه لو تدخلت أيدٍ متعددة في مسألة معينة وكان لها النفوذ، لاختلطت المسألة نفسها؛ فلو كان في مملكة مّا حاكمان، أو حتى لو كان في ناحية ما مسؤولان، فإن النظام يفسد ويختل وتتحول الإدارة إلى هرج ومرج.

والحال أن هناك نظامًا رائعًا جدًّا، يسري ابتداء من جناح البعوضة إلى قناديل السماء، ومن الخلايا الجسمية إلى أبراج الكواكب والسيارات، مما لا يمكن أن يكون للشرك فيه أيّ تدخل ولو كان بمقدار ذرة.

وكذا الحاكمية نفسُها إنما هي مقام للعزة، فلن يقبل هذا المقامُ منافسا وخصيما، لما فيه من تجاوز لهيبته وكسرٍ لعزته.

نعم، إن إقدام الإنسان المحتاج دومًا إلى من يعاونه -لضعفه وعجزه- على قتل أخيه أو بنيه -ظلمًا- لأجل حاكمية ظاهرية مؤقتة جزئية؛ يدل على أن الحاكمية لا تَقبل المنافسة أبدًا.

فلئن كان الإنسان -وهو العاجز- يُقْدم على مثل هذا الفعل لأجل حاكمية جزئية، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يَرضى مَن هو القديرُ المطلق الذي يملك الكون كله تدخلًا أو شركًا من أحد في حاكميته الذاتية المقدسة التي هي محور ربوبيته المطلقة وألوهيته الحقيقية الكلية.

ونظرًا لإثبات هذه الحقيقة المشعة بدلائل قوية في “المقام الثاني من الشعاع الثاني” وفي مواضع عدة من رسائل النور فإننا نحيل إليها.

وهكذا فإن صاحبنا المسافر بعد أن شهد هذه الحقائق الأربع تحققت لديه وحدانية اللّٰه سبحانه بدرجة الشهود، فنما إيمانه وارتقى وبدأ يردد بقوة: “لا إله إلّا اللّٰه وحده لا شريك له“.

وإشارة لما تلقاه من درس في هذا المنـزل فقد ذُكر في المقام الأول من الباب الثاني:

(لا إلهَ إلّا اللّٰه الواحد الأحد الذي دل على وحدانيته ووجوب وجـوده مشاهدةُ عظمةِ حقيقةِ تَبارُز الألوهية المطلقة، وكذا مشاهدةُ عظمـة إحاطة حقيقة تظاهُر الربوبية المطلقة المقتضية للوحدة. وكذا مشاهدة عظمة إحاطة حقيقة الكمالات الناشئة من الوحدة وكذا مشاهدة عظمة إحاطة حقيقة الحاكمية المطلقة المانعة والمنافية للشركة)

❀   ❀   ❀

[المنزل الثاني: خمس حقائق مهيمنة تُثبت التوحيد]

ثم إن ذلك المسافر الذي لا يسكن ولا يهدأ خاطَب قلبَه قائلًا:

إن تكرار أهل الإيمان “لا إله إلّا هو” باستمرارٍ وبخاصة المتصوفة منهم، وإعلانَهم نداء التوحيد، وتذكيرَهم به يبين لنا أن هناك مراتب كثيرة جدًّا للتوحيد، وأن التوحيد هو أهم وظيفة قدسية، وأحلى فريضة فطرية، وأسمى عبادة إيمانية.

فما دام الأمر هكذا، فتعال يا قلبُ لنفتح بابًا لمنـزلٍ آخر من منازل دار العبرة والامتحان هذه، لنتعرّف من خلاله على مرتبة أخرى من مراتب التوحيد.

لأنَّ التوحيدَ الحقيقي الذي ظللنا نبحث عنه ليس مقصورًا على معرفةٍ نابعة من تصوّر، بل هو أيضًا ما يقابل التصور في علم المنطق من التصديق الذي هو عِلم، وهو نتيجة نابعة من البرهان، وهو أسمى من مجرد المعرفة التصورية بكثير.

فالتوحيد الحقيقي إنما هو حُكم وتصديق وإذعان وقبول، بحيث يمكّن المرء من أن يهتدي إلى ربه من خلال كل شيء، ويمكّنه من أن يرى في كل شيء السبيلَ المنوَّرة التي توصله إلى خالقه الكريم، فلا يمنعه شيء قط عن سكينة قلبه واطمئنانه واستحضاره لمراقبة ربّه.

فلو لم يكن الأمر هكذا، لاضطر المرءُ إلى أن يمزق حجاب الكائنات ويخرقه -كل مرة- كي يتمكن من التعرف على ربّه!

لذا نادى المسافر قائلًا: هيا بنا إذن لنطرق باب “الكبرياء والعظمة”، ولندخل منـزل “الآثار والأفعال”، وعالم “الإيجاد والإبداع”.. فما إن ولج هذا المنـزل حتى رأى أن هنالك “خمس حقائق محيطة” تستحوذ على الكون وتُثبت التوحيد وتستلزمه بالبداهة.

[الحقيقة الأولى: العظَمة والكبرياء]

الحقيقة الأولى: حقيقة العظَمة والكبرياء.

نظرًا لتوضيح هذه الحقيقة ببراهينَ في “المقام الثاني من الشعاع الثاني” وفي عدة مواضع من رسائل النور نكتفي هنا بما يأتي:

إن الذي أوجد النجوم التي يبعد بعضُها عن البعض الآخر آلاف السنين..

والذي يتصرّف فيها في آن واحد وعلى نمط واحد..

والذي يخلق أفرادًا غير معدودة لنوع واحد من زهرة نابتة في الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب من الأرض، ويصوّرها في وقت واحد وعلى هيئة واحدة وصورة واحدة..

والذي يخبرنا عن أعجب حادثة ماضية وغيبية في قوله تعالى: ﴿هو الذي خَلقَ السمواتِ والأرض في ستةِ أيامٍ﴾، مثبِتًا تلك الحادثة كأنها تحدث أمامنا، بما يَخلق من مثيلاتها ونظائرها على وجه الأرض، وبخاصة عند حلول موسم الربيع الذي نجد فيه عيانًا أكثر من مائة ألفِ مثالٍ على الحشر الأعظم لأكثر من مائتي ألف نوع من طوائف النباتات وأمم الحيوانات التي تخلق وتنشأ في بضعة أسابيع فقط..

فلا ريب أن مَن بيده إدارة هذا الحشد الهائل مجتمعًا، وتربيته وإعاشته، وتمييز بعضه عن البعض الآخر، وتزيينه بكمال الانتظام والميزان، دون لبس أو نقص أو خطأ ودون تأخير أو إهمال..

وهو الذي بيده دوران الأرض وحصول ظاهرة الليل والنهار بانتظام بديع كما صرحت به الآية الكريمة: ﴿يولج الَّيلَ في النَهار ويولجُ النهار في الَّيل﴾، مسجلًا وممحيًا -بهذا الدوران- الحوادثَ اليومية وتبدلاتها في صحيفة الليل والنهار..

وهو الذي يعلم -في الوقت نفسه وفي اللحظة نفسها- خبايا الصدور وخلجات القلوب، فيديرها بإرادته..

ينبغي أن يكون -فاعلُ هذه الأفعال التي كل منها فعلٌ واحد منفرد خاص- واحدًا أحدًا قادرًا صاحبَ جلال، له من العظمة والكبرياء بداهةً ما يقتلع كلَ جذور الشرك ويمحو جميع آثاره واحتمالاته مهما كان نوعها وبأية جهة كانت، وفي أي شيء كان، وفي أي مكان كان.

فما دامت هذه الكبرياء وهذه القدرة العظيمة موجودتين، وما دامت صفة الكبرياء هذه هي في منتهى الكمال والإحاطة التامة، فلا يمكن أن تسمحا مطلقًا لأي نوع من أنواع الشرك؛ لأنَّ الشرك يعني إسنادَ العجز والحاجة إلى تلك القدرة المطلقة، وإلصاقَ القصور بتلك الكبرياء، وعزوَ النقص بذلك الكمال، وتحديدَ تلك الإحاطة بالقيد، وإنهاءَ غير المتناهي المطلق. فلا يمكن أن يقبل ذلك كلُّ من له عقل وشعور، وكلُ من له فطرة سليمة لم تتفسخ.

وهكذا فالشرك من حيث هو تحدٍّ لتلك الكبرياء، وتطاولٌ على عزة ذي الجلال، ومشاركةٌ للعظمة، جريمةٌ نكراء لا تدع مجالًا للعفو والصفح والمغفرة.

وإن القرآن -ذا البيان المعجز- يعبّر عن هذا ويبيّنه ويشفعه بذلك التهديد الصارخ والوعيد الرهيب بقوله تعالى: ﴿إنَّ اللّٰه لا يَغفِرُ أنْ يُشرَكَ بهِ ويَغفِرُ ما دونَ ذَلكَ لمنْ يَشاء﴾.

[الحقيقة الثانية: ظهور الأفعال الربانية ظهورًا مطلقًا]

الحقيقة الثانية: ظهور الأفعال الربانية ظهورًا مطلقًا ومحيطًا.

وهي التي يشاهَد تصرّفُها في الكون قاطبة وتَظهر ظهورا مطلقًا محيطًا، ولا يحدد تلك الأفعالَ إلّا الحكمةُ الربانية والإرادة الإلهية وقابلياتُ المظاهر.

فالمصادفةُ العشواء والطبيعة الصماء والقوة العمياء والأسباب الجامدة والعناصر المبعثرة، لن تمتد يدُها أو تتدخل في تلك الأفعال التي هي في منتهى الدقة والميزان والحكمة، والتي تُنجَز بكل بصيرة وحيوية وانتظام وإحكام.

وليست الأسباب إلّا حجابًا ظاهريًّا فحسب، تستخدمها القدرةُ الفاعلة لذي الجلال والعزة وتسخّرها على وفق أمره وإرادته وقوته.

[ثلاثة أمثلة على الأفعال الربانية]

نودّ هنا بيان ثلاثة أمثلة عن الأفعال الربانية -من بين الآلاف منها- مما تشير إليها الآيات الثلاث المتصلة بعضها ببعض في سورة النحل، ومع أن كل فعل منها يحتوي على نكات لا حصر لها إلّا أننا نذكر منها هنا ثلاثا فقط.

[(1) عالَم النحل]

الآية الأولى:‌ ﴿وأوحى ربُّكَ الى النَّحلِ أن اتَّخِذي منَ الجبالِ بيوتًا﴾.

نعم، إن النحلة معجزةُ القدرة الربانية فطرةً ووظيفةً، ويا لها من معجزة عظيمة حتى سُمّيت باسمها سورةٌ جليلة في القرآن الكريم!

ذلك لأن تسجيلَ البرامج الكاملة لوظيفتها الجسيمة في رأسٍ صغير جدًّا لِماكنةِ عسلٍ صغيرة، ووضْعَ أطيب الأطعمة وألذّها في جوفها الصغير وطبخها فيه، واختيارَ المكان المناسب لوضع سمّ قاتل مهدم لأعضاء حية في رميحته دون أن يؤثر في الأعضاء الأخرى للجسم.. لا يمكن أن يتم -كل هذا- إلا بمنتهى الدقة والعلم وبمنتهى الحكمة والإرادة وغايةِ الموازنة والانتظام؛ لذا لن يتدخل مطلقًا ما لا شعورَ له ولا نظام ولا ميزان من أمثال الطبيعة الصماء أو المصادفة العمياء في مثل هذه الأفعال البديعة.

وهكذا نرى ثلاث معجزاتٍ في هذه الصنعة الإلهية، ونشاهد ظهور هذا الفعل الرباني أيضًا فيما لا يحد من النحل في أرجاء المعمورة كافة.

فبروز هذا الفعل الرباني وإحاطته بالجميع، وبالحكمة نفسها، والدقة نفسها، والميزان نفسه، وفي الوقت عينه، وبالنمط عينه، يدل على الوحدة بداهة ويثبت الوحدانية.

[(2) عالَم الأنعام]

الآية الثانية:‌ ﴿وإنَّ لكم في الانعَامِ لَعِبرَةً نُسقيكُم مِما في بُطونِهِ من بينِ فَرثٍ ودمٍ لبَنًا خالصًا سائغًا للشاربينَ﴾.

إن هذا الأمر الإلهي لَيتقطّر عِبَرًا ودروسًا.

نعم، إن إسقاء اللبن الأبيض الخالص، النظيف الصافي، المغذي اللذيذ، من مصانع الحليب المغروزة في أثداء الوالدات، وفي مقدمتها البقرة والناقة والمعز والنعجة، الذي يتدفق بسخاء من بين فرثٍ ودم دون أن يختلط بهما أو يتعكر..

وإنّ غرس ما هو ألذّ من اللبن وأحلى منه وأطيبُ وأثمن، في أفئدة تلك الوالدات وهو الحنان والشفقة التي تصل حدّ الفداء والإيثار..

لَيحتاج حتمًا إلى مرتبة من الرحمة والحكمة والعلم والقدرة والاختيار والدقة مما لا يكون قطعًا من فعل المصادفات العشوائية والعناصر التائهة والقوى العمياء.

لذا فإنّ تصرف هذه الصنعة الربانية، وإحاطةَ هذا الفعل الإلهي، وتجليَها في الحكمة نفسها والدقةِ نفسها والإعجاز نفسه وفي آن واحد وطراز واحد في أفئدة تلك الآلاف المؤلفة من أضراب الوالدات وفي أثدائها وعلى وجه الأرض كافة، يُثبت الوحدة بداهة ويدل على الوحدانية.

[(3) عالَم النخيل والأعناب]

الآية الثالثة:‌ ﴿ومن ثَمراتِ النَّخيلِ والأعنابِ تَتَّخذونَ منهُ سكرًا ورزقًا حسنًا إنَّ في ذلكَ لآيةً لقومٍ يعقلون﴾.

تَـلفـت هذه الآية الكريمة النظـرَ والانتباه إلى النخيل والأعناب، فتنبّه الإنسان إلى أن في هاتين الثمرتين آية عظيمة لأولي الألباب، وحجة باهرة على التوحيد.

نعم، إن الثمرتين المذكورتين تُعتَبَران غذاءً وقوتا، وثمرة وفاكهة في الوقت نفسه، وهما منشأ كثيرٍ من المواد الغذائية اللذيذة، رغم أنَّ شجرة كلٍ منهما تنمو في تراب جامد، وتترعرع في أرض قاحلة.

فكلٌّ منهما معجزة من معجزات القدرة الإلهية، وخارقةٌ من خوارق الحكمة الربانية.. وكلٌّ منهما مصانعُ سُكَّرٍ وحلويات، ومعامل شراب معسّل، وصنائعُ ذاتُ ميزانٍ دقيق حساس وانتظام كامل، ومهارة حكيمة، وإتقان تام، بحيث إن الذي يملك مقدار ذرة من عقل وبصيرة يضطر إلى القول: “إن الذي خلق هذه الأشياء هكذا، هو الذي أوجد الكائنات قاطبة“.

لأنَّ ما نراه أمام أعيننا -مثلًا- من تدلي ما يقارب عشرين عنقودًا من العنب، من هذا الغصن الصغير النحيف، كل عنقود منه يحمل ما يقارب المائة من الحبات اللطيفة واللباب المعسلة، وكل حبَّة من تلك الحبَّات مغلفةٌ بغلاف رقيق لطيف ملوّن زاهٍ، وتضم في جوفها الناعم نوى صلدةً حاملة لتواريخ الحياة ومنهاجها.. نعم، إن خلْق كل هذا وغيره في جميع العنب وأمثاله -وهي لا تعد ولا تحصى- على وجه البسيطة كافة، بالدقة نفسها، والحكمة عينها، وإيجاد تلك الصنعة الخارقة المعجزة بأعدادها الهائلة في وقت واحد، وعلى نمط واحد، لَيُثبِتُ بالبداهة أنَّ الذي يقوم بهذا الفعل إنْ هو إلّا خالق جميع الكائنات، وأنَّ هذا الفعل الذي اقتضى تلك القدرة المطلقة والحكمة البالغة، ليس إلّا من فعل ذلك الخالق الجليل.

نعم، إن القوى العمياء والطبيعة الصماء والأسباب التائهة المشتتة، لا يمكن لها أن تمدّ أيديها وتتدخل في ذلك الميزان الدقيق الحساس، بالمهارة البالغة، والانتظام الحكيم لتلك الصنعة، بل هي تُستخدم وتسخّر بأمر رباني في الأفعال الربانية، فهي ذات مفعولية وقبول، بل ليست إلّا ستائرَ وحجبًا مسخرةً بيده سبحانه.

وهكذا، فكما تشير هذه الآياتُ الثلاث إلى حقائق ثلاث، وتدلّ كل منها على التوحيد بثلاث نكات، فهناك ما لا يُحدّ من الأفعال الربانية وما لا يُحد من تجليات التصرفات الربانية، تدل متفقةً على الواحد الأحد وتشهد شهادة صادقة على ذات الواحد الأحد ذي الجلال والإكرام.

[الحقيقة الثالثة: الإيجاد بكثرةٍ وسرعةٍ وانتظامٍ معًا]

الحقيقة الثالثة: حقيقة الإيجاد والإبداع.

أي إيجاد الموجودات -وبخاصة النباتات والحيوانات- بكثرة مطلقة، في سرعة مطلقة، مع انتظام مطلق.. وخلقُ المخلوقات بسهولة مطلقة، في غاية الحسن والجمال مع المهارة المتقنة والانتظام الكامل.. وإبداعُ المصنوعات في غاية النفاسة والجودة والتمييز الواضح مع منتهى الوفرة وغاية الاختلاط والامتزاج.

نعم، إن إيجاد الأشياء في منتهى الكثرة، بمنتهى السرعة، وفي منتهى السهولة واليسر، بمنتهى الإتقان والمهارة، وبالدقة والانتظام، وفي منتهى الجودة وغلاء القيمة والتميز، مع منتهى الوفرة والمبذولية، دون خلط أو لبس أو اختلال رغم كثافة الفروق والتباينات.. لا يمكن أن يتم هذا الإيجاد -ولن يتم- إلّا بقدرةِ قادرٍ واحدٍ أحدٍ لا يَؤوده شيء ولا يصعب على قدرته شيء.

نعم، ولكي ندرك ما نراه ونشاهده بأعيننا ينبغي أن تكون النجوم والذرات على حدّ سواء أمام تلك القدرة، وأكبرُ الأشياء كأصغرها، والأفراد غير المحدودة للنوع كالفرد الواحد منه، والكل المحيط العظيم كالجزء الصغير الخاص، وإحياء الأرض الهائلة كإحياء شجرة واحدة، وإنشاء الشجرة الشاهقة كإيجاد بذرة متناهية في الصغر.

وبهذا السر المهم لكلمة التوحيد التي تتضمنه هذه المرتبة التوحيدية، وهذه الحقيقة الثالثة، أي كون أكبر “كلٍّ” كأصغر “جزءٍ” أمام القدرة الربانية دون أن يكون أدنى فرق بين الكثير والقليل، تنكشف الأسرارُ الدقيقة الخفية للقرآن الكريم.

وببيان وتوضيح هذه الحكمة المحيرة واللغز العظيم الذي هو خارج طور العقل -مع أنه أهم أساس للإسلام وأعمقُ مدار للإيمان واللبنة الكبرى للتوحيد- يُدرَك أخفى الأسرار المجهولة لحقيقة خلق الكون التي عجزت الفلسفة عن إدراكها.

فألف شكر وشكر، وألف حمدٍ وثناء لخالقِي الرحيم أرفعه بعدد حروف رسائل النور، أن تمكنتْ رسائل النور حلّ هذا السر العجيب، وكشفت هذا الذي يظنه الجاهل غموضا غريبا، بل أثبتته ببراهين قاطعة. وبخاصة في بحثِ “وهو على كل شيء قدير” الموجودِ في نهاية “المكتوب العشرين” وفي بحثِ: “الفاعل مقتدر” من “الكلمة التاسعة والعشرين” فأثبتت سعةَ القدرة الإلهية وطلاقتَها بالبراهين القاطعة بدرجة حاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعًا، وذلك في مراتب “اللّٰه أكبر” من “اللمعة التاسعة والعشرين” التي أُلّفت باللغة العربية.

فمع إحالة الإيضاح والتفصيل إلى هناك أردتُ أن أبين هنا بيانًا مجملًا، كفهرست مختصر تلك الأسسَ والأدلة التي تعالج هذا السر وتكشفه وتوضحه، ثم الإشارة إلى ثلاثة عشر سرًّا بثلاث عشرة مرتبة، وبدأتُ بكتابة السر الأول والثاني، ولكن مانعَين قويين ماديين ومعنويين حالا -مع الأسف- بيني وبين كتابة بقية الأسرار في الوقت الحاضر.

[السر الأول للقدرة: الذاتي لا يَعرِض له ضدُّه]

السر الأول: إذا كان الشيء ذاتيًّا، فلا يكون ضده عارضا له، لأنه اجتماع الضدين، وهو محال.

فبناءً على هذا السر:

ما دامت القدرةُ الإلهية ذاتية، وهي الضرورة اللازمة للذات المقدسة، فلا يمكن أن يكون العجزُ الذي هو ضد تلك القدرة عارضا للذات القادرة.

وما دام وجودُ المراتب في الشيء الواحد يكون بتداخل ضدِّه -مثلما تتكون مراتبُ قوة الضياء وضعفه بمداخلة الظلمة، ودرجاتُ ارتفاع الحرارة وهبوطها بتداخل البرودة، ومقادير شدة القوة وضعفها بمقابلة المقاومة وممانعتها لها- فلا يمكن أن تحتوى تلك القدرةُ الذاتية على مراتب.. فهي تَخلق الأشياءَ وتوجِدها كالشيء الواحد.

فما دامت تلك القدرة الذاتية متجردة من المراتب ومن الضعف ومن النقص، فلا جرم أن لا يقف أمامَها مانع ولا يصعب عليها إيجاد.

وما دامت لا يشق عليها شيء فلا بد أن يكون لديها إيجادُ الحشر الأعظم كسهولةِ إيجاد الربيع، وإيجادُ الربيع كبساطة إيجاد شجرة واحدة، وإيجاد الشجرة كيُسر إيجاد زهرة واحدة، وأنها تقوم بالإيجاد بهذه السهولة واليسر كما تقوم بها في أدق ما تكون الصنعة والإتقان. فنرى أنها تخلق الزهرة بإتقان الشجرة وبأهميتها وقيمتها، وتخلق الشجرة بإعجازِ صنعِ الربيع الهائل، وتخلق الربيع بشمولية الحشر وجامعيته وإعجازه، هكذا تخلق، وهكذا نشاهد خلقها أمام أعيننا.

وقد أثبتت رسائل النور ببراهين كثيرة قاطعة قوية أنه إن لم يُسنَد الخلقُ إلى الوحدة والوحدانية يصبح خلقُ زهرة واحدة صعبًا كصعوبة خلقِ شجرة بل أصعب، ويصبح خلقُ الشجرة أعقد من خلق الربيع. وفوق ذلك سيسقط جميعُها من حيث القيمة والإتقان في الصنعة، فالكائن الذي يُخلق في دقيقة واحدة سيُصنع في سنة، بل يستحيل صنعه بالمرة.

فبناءً على هذا السر: فإن جميع الأثمار والأزهار والأشجار والأحياء الدقيقة المرتبطة بها، تخرج إلى الوجود في غاية الوفرة والكثرة مع أنها في منتهى الجودة والنفاسة، وتظهر في منتهى السرعة واليسر مع أنها في غاية الإتقان والصنعة، فتخرج إلى الوجود بانتظام، مؤديةً وظائفَها وتسبيحاتها، وموكلة بذورَها بديلة عنها، ماضيةً هي في سبيلها.

[السر الثاني للقدرة: تَساوي القليل والكثير إزاء التنور والإطاعة والشفافية]

السر الثاني: كما أن شمسًا واحدة تشعّ ضياءً إلى مرآة واحدة، بتجلٍّ من القدرة الذاتية، واستنادًا إلى سر النورانية والشفافية والطاعة، فإنها تنعكس بسهولة بالصورة نفسها -ذات الضياء والحرارة- بالفعالية الواسعة لقدرتها غير المحددة بأمر إلهي، إلى ما لا يحد من المرايا والمواد اللماعة والقطرات.

وإذا نُطقتْ بكلمة واحدة، فإن هذه الكلمة تدخل بسهولة تامة إلى أذن شخص -استنادًا إلى السعة المطلقة للخلاقية- وتدخل أذهان ملايينِ الأشخاص وآذانَهم ببساطة ويسر بالأمر الرباني، فأمامها آلاف المستمعين والمستمعُ الواحد سواء ولا فرق بينهما.

ومثلما تنظر العين إلى مكان واحد وآلاف الأمكنة بسهولة كاملة، فإن نورًا أو نورانيًّا روحانيًّا -كجبريل عليه السلام- في الوقت الذي يشاهَد ويذهب ويحضر في مكان واحد بكل سهولة -استنادًا إلى كمال سعة الفعالية الربانية في تجلي الرحمة- فهو كذلك يشاهد ويذهب ويحضر -بالقدرة الإلهية- بالسهولة نفسها في آلاف الأماكن، فلا فرق هنا بين القلة والكثرة.

وهكذا القدرة الذاتية الأزلية -وللّٰه المثل الأعلى-:

فلكونها ألطفَ نورٍ وأخصَّه، بل هي نورُ الأنوار كلها..

ولكون ماهية الأشياء وحقائقها وأوجه الملكوتية فيها شفافة لمّاعة كالمرايا..

ولأن كل شيء -ابتداءً من الذرات إلى النباتات وإلى أنواع الأحياء قاطبة وإلى النجوم والشموس والأقمار- تابعٌ ومنقاد ومطيع على أتم وجه لحُكم تلك القدرة الذاتية ومسخّر ومجنّد وخاضع خضوعا مطلقًا لأوامر تلك القدرة الأزلية..

فلا ريب أنها تُنشئ الأشياءَ غير المحدودة وتخلقها كالشيء الواحد، وتَحضر عند كل شيء في كل آن وفي كل مكان. فلا يمنع شيء شيئا، فالكبير والصغير، والكثير والقليل، والجزء والكل، سواء عندها؛ لا تعجز عن شيء ولا يصعب عليها شيء.

واستنادًا إلى أسرار الانتظام والموازنة وامتثال الأوامر، والطاعة للأحكام -كما ذكرت في “الكلمة العاشرة” و”التاسعة والعشرين”-:

فإن سفينةً ضخمة جدًّا يمكن أن تُدار وتسيَّر بسهولةِ إدارةِ طفلٍ لدميته بإصبعه..

وإن قائدا مثلما يسوق جنديا واحدًا بأمره: “هجوم”، فإنه بالأمر نفسه يسوق جيشا منتظمًا مطيعا، إلى الحرب..

وإذا كان هناك جبلان في حالة موازنة على طرفي ميزان عظيم حساس جدًّا ثم أُوتي بميزان آخر ووُضع في كلٍ من كفتيه بيضةٌ في معادلة تامة، فمثلما يمكن لجوزة واحدة أن ترفع إحدى الكفتين إلى الأعلى والأخرى إلى الأسفل، كذلك تستطيع تلك الجوزة نفسها -بقانون الحكمة- أن ترفع إحدى كفتي الميزان العظيم الحاملِ للجبل إلى قمة جبل وتُنـزل الأخرى إلى قعر الوادي.

فكما أن الأمر هكذا، كذلك الأمر في القدرة الربانية حيث إنها مطلقة غير متناهية، وهي نورانية، وهي ذاتية، وهي سرمدية، وتوجد معها الحكمة المطلقة والعدالة التامة اللتان هما منشأ جميع الانتظام والأنظمة والموازنة ومنبعُها ومدارها ومصدرها، فالجزئي والكلي والكبير والصغير من أي شيء كان ومن كل شيء مسخر لحُكم تلك القدرة ومنقاد لتصرفها.

لذا فإن تلك القدرة تسيِّر النجومَ والسيارات بسهولةِ إدارةِ الذرات وتحريكها؛ وذلك بسر نظام الحكمة.

وكما أنها تحيي الذبابة في الربيع بسهولة، تسوق جميع طوائف الحشرات والنباتات والحيوانات إلى ميدان الحياة وتحييها بالسهولة نفسها وبالأمر نفسه، وبالحكمة المتضمنة فيها وبسر الميزان.

وكما أنها تنبت شجرة في الربيع بسرعة فائقة فتنفخ الحياة في جذورها وجذوعها التي هي كالعظام، فهي تحيي بتلك القدرة المطلقة الحكيمة العادلة وبالأمر نفسه هذه الأرضَ الهائلة التي هي كجنازة ضخمة، مثلما أحيت تلك الشجرةَ في الربيع ببساطة، موجِدةً مئاتِ الآلاف من أنواع الأمثلة والنماذج الدّالة على الحشر والنشور.

وكما أنه سبحانه يحيي الأرض بأمر تكويني فإنه بمضمون الآيات الجليلة الآتية: ﴿إن كانت اِلّا صيحةً واحدةً فاذا هم جميعٌ لدينا مُحضرون﴾، ﴿وَمَآ اَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ البَصَرِ اَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾، ﴿ما خلقكم ولا بعثُكم إلّا كنفسٍ واحدة﴾: يأتي بجميع الإنس والجن وما هو حيواني وروحاني وملائكي، يأتي بهم جميعًا بالأمر نفسه بالسهولة نفسها إلى ميدان الحشر الأكبر وأمام الميزان الأعظم، فلا يمنع فعل فعلًا قط.

هذا وقد أُجِّلتْ كتابة بقية الأسرار من السر الثالث إلى الثالث عشر خلافَ رغبتي إلى وقت آخر بمشيئة اللّٰه.

[الحقيقة الرابعة: كُلِّيَّة الموجودات وظهورها معًا]

الحقيقة الرابعة: كلّيّة الموجودات وظهورها معًا.

إن وجود الموجودات وظهورها معًا متداخلةً مشابهًا بعضُها البعضَ الآخر..

وكونَ بعضها مثالًا مصغرًا للآخر أو نموذجًا أكبر له..

وكونَ قسمٍ منها كلًّا وكليًّا وبقيةِ الأقسام أجزاءَه وأفراده، مع التشابه في ختم الفطرة وسكتها، والعلاقة الوثيقة في نقش الصنعة والإتقان، والتعاون فيما بينها، وإكمال كلٍ منها وظيفة الآخر الفطرية..

وأمثالَ هذه من النقاط العديدة لجهة الوحدة الكثيرة في الموجودات: تعلن التوحيدَ بداهة، وتثبت أن صانعها واحد أحد، وتُظهر -من جهة الربوبية المهيمنة- أن الكائنات قاطبة لا تقبل التجزئة والانقسام، فهي بحكم الكل والكلي.

مثال ذلك: أن إيجاد أفراد لا يحصرها العد لأربعمائة ألف نوع من أنواع النباتات والحيوانات في الربيع، وإدارتَها معًا في آن واحد، وعلى نمط واحد، رغم تداخل بعضها في البعض الآخر، من دون خطأ أو خلل، وإعاشتَها بكمال الحكمة وحسن الصنعة والإتقان..

وكذا خلقُ أفراد غير محدودة لأنواع الطيور ابتداءً من مثالها المصغر (الحشرات) إلى مثالها الأكبر (الصقور)، ومنحُها القدرةَ على السياحة والتجوال في الجو، وتجهيزُها بأجهزة تساعدها على المعيشة والحركة والتنـزّه ونثرِ البهجة في الجو، ووضعُ سكة الصنعة المعجزة وختمِها في وجوهها، وتركيبُ ختم الحكمة في أجسامها بكل تدبير، وإيداعُ طغراء الأحدية في ماهيتها بكل اعتناء وتربية..

وكذا إمدادُ خلايا الجسم بذرات الطعام، وإمداد الحيوانات بالنباتات، وإمداد الإنسان بالحيوانات، وإمداد الصغار العاجزين بحنان الوالدات ورعايتهن، وجعلُ هذا السعي والإمداد والمعاونة تتم في إطارِ حكمة تامة وضمنَ رحمة كاملة..

وكذا التصرفُ بالنظام نفسه والإبداعِ نفسه وبالفعل نفسه والحكمة نفسها، ابتداءً من مجرة درب التبانة -من الدوائر الكونية الهائلة- إلى المنظومة الشمسية، وإلى العناصر الأرضية بل حتى إلى حدقة العين وأوراق براعم الورد وأغلفة عرانيس الذُّرة والبذور الكامنة في البطيخ -مثلًا- كأنها دوائر متداخلة بعضها في البعض الآخر وبحكم الجزئي والكلي..

كل ذلك لَيُثبت بداهةً أنَّ الذي يقوم بهذه الأفعال إنما هو واحد أحد، وضعَ سكته وختمَه على ناصية كل شيء في الوجود.

وكما لا يحدّه مكان، فهو حاضر في كل مكان، وهو قريب إلى كل شيء رغم أن كل شيء بعيدٌ عنه، كالشمس.

وكما يَسهل عليه أصعب أمور الدوائر الكونية العظيمة والمنظومة الشمسية، لا تخفى عليه أيضًا أصغر أمور الكريات في الدم، وأدق الخواطر القلبية، فلا شيء يبقى خارجَ إدارته ودائرة تصرفه.

ومهما كان الشيء كبيرًا أو كثيرًا فهو سهل ويسير عليه كأصغر شيء وأقله، فيَخلق الحشرةَ الصغيرةَ في نظام الصقر وإتقانه، ويخلق الزهرةَ في ماهية الشجرة وانتظامها، ويخلق الشجرة في صورة الحديقة وإبداعها، ويخلق الحديقة في روعة الربيع وزهوه، ويخلق الربيع في عظمة الحشر وهيبته.

وهو يقدّم إلينا أكثر الأشياء إتقانًا وأغلاها ثمنًا بسعرٍ بخس زهيد، بل يُحسنه إلينا إحسانًا، ثم لا يطلب منا إلّا: “بسم اللّٰه” و”الحمد للّٰه”، أي إن الثمن المقدّر لتلك النعم، هو “بسم اللّٰه الرحمن الرحيم” ابتداءً، و”الحمد للّٰه” ختامًا.

نكتفي بهذا القدر نظرًا لقيام رسائل النور بإيضاح هذه الحقيقة الرابعة وإثباتها بتفصيل أكثر.

[الحقيقة الخامسة: الانتظام الأكمل ووحدة المواد]

ورأى صاحبنا السائح في المنـزل الثاني:

الحقيقة الخامسة: الانتظام الأكمل ووحدة المواد.

أي وحدة الانتظام الأكمل في مجموع الكون وأركانه وأجزائه بل في كل موجود فيه..

ووحدة موظفي ومواد الكـون الواسع التي هـي محور إدارته ومتعلقة بهيئته العامة..

وكون الأسماء والأفعال المصرِّفة لتلك المدينة العظيمة والمحشر العجيب محيطةً وشاملة كل شيء، فالاسم هو نفسه والفعل هو نفسه والماهية هي نفسها في كل مكان، رغم تداخل بعضه في البعض الآخر.

وكون العناصر والأنواع التي هي الأساس في بناء ذلك القصر الفخم وفي إدارته وفي إضفاء البهجة عليه، محيطةً بسطح الأرض بانتشارها في أكثر بقاعها، مع بقاء العنصر نفسه، والنوع نفسه واحدًا، وذا ماهية واحدة في كل مكان رغم تداخل بعضه في البعض الآخر..

كل ذلك يقتضي بداهةً، ويدل ضرورةً ويُشهد ويُري أن صانع هذا الكون ومدبّرَه، وأن سلطان هذه المملكة ومربيها، وأن صاحب هذا القصر وبانيه: واحدٌ أحد فرد، ليس كمثله شيء، لا وزير له ولامعين، لا شريك له ولا ندّ، منـزّهٌ عن العجز، متعالٍ عن القصور.

نعم، إن الانتظام التام إنما هو دليل بذاته على الوحدة؛ إذ يستدعى منظمًا واحدًا، فلا يسعه الشرك الذي هو محور المجادلة والمشاكسة.

فما دام هناك انتظام حكيم ودقيق في الكون كله -كليًّا كان الشيء أم جزئيًّا- ابتداءً من دوران الأرض اليومي والسنوي، إلى سيماء الإنسان، وإلى منظومة شعوره، وإلى دوران الكريات الحمر والبيض وجريانهما في الدم، فلا يمكن لشيء أن يمدّ يده ويتدخل قصدًا وإيجادًا سوى القادر المطلق والحكيم المطلق، بل يبقى كل شيء سواه منفعلًا ومتلقيًا ومَظهرًا للقبول ليس إلّا.

وما دام القيام بالتنظيم ومَنحُ النظام، وبخاصة تعقّب الغايات وتتبعها وتنظيمها بإبراز المصالح، لا يكون إلّا بالعلم والحكمة، وإلّا بالإرادة النافذة والاختيار، فلا بد أنَّ هذا الانتظام الذي يدور مع الحكمة، وهذه الأنواع المتنوعة من الانتظام في المخلوقات غير المحدودة التي تتراءى أمام أنظارنا والدائرة حول المصالح، يدل بداهة ويشهد بكل حال أن خالق هذه الموجودات ومدبّرها واحد، وهو الفاعل، وهو الذي بيده الاختيار، فكل شيء يخرج إلى الوجود إنما يخرج بقدرته هو، ويأخذ وضعًا خاصًّا بإرادته هو، ويتخذ صورة منتظمة باختياره هو.

وما دام السراجُ الوهاج لهذه الدنيا المَضيفِ واحدًا، وأن قنديلَها المتدلي لعدّ الأيام واحد، وأن مُعصراتها ذاتَ الرحمة واحدة، وأن مطبخها ذا الموقد واحد، وأن شرابها الذي يبعث على الحياة واحد، وأن مزرعتها المحمية واحدة.. واحد.. واحد.. واحد إلى ألفٍ وواحدٍ، فلا بد أن هذه الآحاد الواحدة تشهد بداهةً أن صانع هذا المَضيف وصاحبَه، واحد، وهو كريم لضيوفه في منتهى الكرم والسخاء، حتى إنه يُسخِّر كبارَ موظَّفيه هؤلاء ويجعلهم خدمًا طائعين لضمانِ راحة ضيوفه الأحياء.

وما دامت واحدةً تلك الأسماءُ الحسنى والشؤون الإلهية والأفعال الربانية التي تصرّف أمور الكون والتي تَظهر تجلياتُها ونقوشها وآثارها في كل أنحاء العالم.. فالأسماء الحسنى: “الحكيم، المصور، المدبر، المحيي، المربي” وأمثالُها هي نفسها في كل مكان.. وشؤون “الحكمة والرحمة والعناية” وأمثالها هي نفسها في كل مكان.. وأفعال “التصوير والإدارة والتربية” وأمثالها هي نفسها في كل مكان.. وكل منها متداخلٌ بعضُه في البعض الآخر، وكل منها في أسمى مرتبةٍ وأوسعِ إحاطة وهيمنة، كما أن كلًّا منها يكمل نقشَ الآخر حتى لكأنَّ تلك الأسماء والأفعال تتحد مع بعضها اتحادًا، فتُصبح القدرةُ عينَ الحكمة والرحمة، وتصبح الحكمةُ عينَ العناية والحياة. فعندما يظهر -مثلًا- تصرفُ اسمِ “المحيي” في شيء ما، يظهر تصرّف اسم “الخالق والمصور والرزاق” وأسماءٍ أخرى كثيرةٍ كذلك في الوقت نفسه، في كل مكان وبالنظام نفسه، فلا بد ولا محالة أن ذلك يشهد بداهة على أن مسمّى تلك الأسماء المحيطة، وفاعلَ تلك الأفعال الشاملة والظاهرة في كل مكان بالطراز نفسه، إنما هو فاعل واحد أحد فرد.. آمنـا وصدّقنا!

وما دامت العناصر التي هي مكوّنات المصنوعات وجواهرها وأسسها، تحيط سطح الأرض وتتوزع عليه، وكل نوع من أنواع المخلوقات -الحاملة لأختامٍ مختلفة تُظهر الوحدانية- قد انتشر على ظهر الأرض واستولى عليه، رغم كونه نوعًا واحدًا، فلا بد أن تلك العناصر بمشتملاتها، وتلك الأنواع بأفرادها، إنما هي ملك لواحد، ومصنوعاتٌ مأمورةٌ لدى ذلك الواحد القادر الذي يَستخدِم بقدرته المطلقة تلك العناصرَ الضخمة المستولية كأنها خَدَمة طائعات، ويسخِّر تلك الأنواعَ المتفرقة في كل جهة من الأرض كأنها جنود نظاميون.

وحيث إن رسائل النور قد أثبتت هذه الحقيقة وأوضحتْها، نقتصر عليها بهذه الإشارة القصيرة.

فلقد أحسّ صاحبُنا السائح المسافر بنشوة إيمانية بعد أن اكتسب الفيض الإيماني والتذوق التوحيدي من فهمه لهذه الحقائق الخمس، فأنشأ يترجم ملخصا انطباعاتِه ومشاهداته مخاطِبا قلبَه:

انظر إلى الصحيفة الملونة الزاهية لكتاب الكون الوسيع.‌

كيف جرى قلمُ القدرة وصوّر البديع..‌

لم تَبق نقطةٌ مظلمةٌ لأرباب الشعور..‌

لكأن الرب قد حرّر آياتِه بالنور.‌

واعلم أيضًا بأن:‌

هذه الأبعاد غير المحدودة: صحائفُ كتاب العالم‌

وهذه الآثار غير المعدودة: سطورُ حادثات الدهر‌

قد سُطّر في لوح الحقيقة المحفوظ:‌

كلُّ موجودٍ في العالم: لفظٌ مجسَّمٌ حكيم‌

وأنصت كذلك:

چُو لَٓا اِلٰهَ اِلَّا اللّٰهُ بَرَابَرْ مِى زَنَنْدْ هَرْشَىْ‌

دَمَادَمْ جُويَدَنْدْ يَا حَقْ سَرَاسَرْ گُويَدَنْدْ يَا حَي1يعني: كل شيء في الوجود ينطق ويردد معًا: لا إله إلّا اللّٰه، ويلهج دومًا كل آن: يا حق.. فالكل ينطق والجميع يهتف: يا حي.

نعم،..

وفي كل شيء له آية   *   تدل على أنه واحدٌ‌2لأبي العتاهية في ديوانه، وينسب إلى علي كرم اللّٰه وجهه، ونسبه ابن كثير في تفسيره إلى ابن المعتز.

وهكذا صدَّق قلبُ السائح نفسَه، وقالا معًا: نعم، نعم.

هذا وقد جاءت في المنـزل الثاني من الباب الثاني من المقام الأول إشارةٌ قصيرة إلى ما شاهده سائح الكون والضيف فيه من الحقائق التوحيدية الخمس، وهي:

(لا إله إلّا اللّٰه الواحد الأحد الذي دلّ على وحدته في وجوب وجوده مشاهدةُ حقيقةِ الكبرياء والعظمة في الكمال والإحاطة.

وكذا مشاهدةُ حقيقة ظهور الأفعال بالإطلاق وعدم النهاية، لا تقيدها إلّا الإرادة والحكمة.

وكذا مشـاهدةُ حقيقةِ إيجاد الموجودات بالكثرة المطلقة فـي السرعة المطلقة، وخلقِ المخلوقات بالسهولة المطلقة في الإتقان المطلق، وإبداعُ المصنوعات بالمبذولية المطلقة فـي غاية حسن الصنعة وغلو القيمة.

وكذا مشاهدة حقيقةِ وجود الموجودات على وجه الكل والكلية والمعية والجامعية والتداخل والمناسبة.

وكـذا مشاهدةُ حقيقة الانتظامات العامة المنافية للشركة.

وكذا مشاهدةُ وحدة مدارات تدابير الكائنات الدالة علـى وحدة صانعها بالبداهة.

وكذا وحدةُ الأسماء والأفعال المتصرفة المحيطة.

وكـذا وحدة العناصر والأنواع المنتشرة المستولية على وجه الأرض).

 ❀   ❀   ❀

[المنزل الثالث: أربع حقائق عظيمة تدل على التوحيد]

وحينما كان ذلك السائح في العالم يَجول في العصور صادَف مدرسةَ مجدّدِ الألف الثاني الإمامِ الرباني أحمد الفاروقي، فدخلها وبدأ يصغي إليه.

كان الإمام يقول في ثنايا درسه: “إن أهم نتيجة للطرق الصوفية كافة هي انكشاف الحقائق الإيمانية وانجلاؤها، وإن وضوح مسألة واحدة وانكشافَها لهو أرجح من ألفٍ من الكرامات3انظر: الإمام الرباني، المكتوبات، المكتوب ٢١٠..

وكان يقول أيضًا: “لقد قال بعض العظماء في السابق: إنه سيأتي أحد من المتكلمين ومن علماء علم الكلام وسيثبت بدلائل عقلية إثباتًا واضحًا جميعَ الحقائق الإيمانية والإسلامية، ويا ليتني أنا ذلك الشخص، بل ربما هو أنا4لقد أثبت الزمن أن ذلك الشخص ليس شخصا ولا رجلا وإنما هو رسائل النور. وربما شاهد أهل الكشف في كشفياتهم رسائلَ النور في شخصِ مترجمها ومبلّغها الذي لا قيمة له ولا أهمية، فقالوا: إنه شخص. (المؤلف).؛ حيث إن الإيمان والتوحيد هما أساسُ جميع الكمالات الإنسانية وجوهرُها ونورُها وحياتُها، وأن دستورَ: “تفكر ساعة خير من عبادة سنة”5انظر: الغزالي، إحياء علوم الدين ٤/٤٢٣؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن ٤/٣١٤؛ علي القاري، المصنوع ص ٨٢. يخص التفكر الإيماني، وما الذكر الخفي في الطريقة النقشبندية وأهميته إلّا نوعٌ من أنواع هذا التفكر السامي”.

هكذا كان الإمام يُعَلِّم، والسائح ينصت ويصغي بكل اهتمام.

ثم رجع إلى نفسه وخاطبها:

لما كان هذا الإمام الهمام يقول كذا، وأن ازدياد قوة الإيمان ولو بمقدار ذرة هو أثمن من أطنانٍ من كسب المعارف والكمالات، بل هو ألذ وأطيب مائةَ مرة من حلاوة الأذواق والوجد.

وحيث إن الاعتراضات والشبهات المتراكمة حول الإيمان والقرآن -التي تثيرها فلاسفة أوروبا منذ ألف سنة- قد وَجدتْ سبيلها إلى قلوب المؤمنين، فيهاجمون بها أهل الإيمان، ويحاولون بذلك زعزعة الأركان الإيمانية التي هي أساس السعادة الأبدية ومدار الحياة الباقية ومفتاح الجنة الخالدة، فلا بد إذن -وقبل كل شيء- أن نزيد إيماننا قوةً ونحوِّله من إيمانٍ تقليدي إلى إيمانٍ تحقيقي.

فهيا بنا أيتها النفس لِنَسِرْ قُدُمًا مع هذه المراتب الإيمانية التسع والعشرين التي وجدناها، والتي كل منها راسخة رسوخ الجبل الأشم، قاصدين إيصالها إلى عدد الأذكار والتسبيحات المباركات للصلاة وهي الثلاث والثلاثون.

فلنطرق باب الإدارة والإعاشة الربانية في عالم الأحياء الذي يترقرق عِبرًا وعظات، ونفتحه بمفتاحِ: ﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾ كي نرى المنـزل الثالث ونشاهد ما فيه.

فطرق السائح باب المنـزل الثالث الذي هو محشر العجائب ومجمع الغرائب، طرقَه بكل استرحام ورفق ولطف، ومن ثم فتحه بـ”بسم اللّٰه الفتّاح“، فبدا له المنـزل الثالث ودخل فيه، ووجد أن هناك أربع حقائق عظمى محيطة تنير ذلك المنـزل وتكشف التوحيد وتبينها كالشمس الساطعة.

[الحقيقة الأولى: الفتَّاحيّة]

الحقيقة الأولى: وهي حقيقة “الفتَّاحية”.

أي انفتاح ما لا يحد من الصور المنتظمة المتنوعة المختلفة بتجلي اسم “الفتاح”، من مادة بسيطة جدًّا، وانكشافها معًا في كل طرف من أنحاء العالم، وفي آن واحد، وبفعل واحد.

نعم، كما أن القدرة الفاطرة قد فتحت الموجوداتِ المختلفة غير المحدودة، في رياض الكائنات كتفتح الأزهار؛ فأعطت باسم “الفتاح” كلًّا منها طرزًا منتظمًا يناسبه، وشخصيةً منفردة تُميِّزه، فقد مَنحت كذلك -بشكل أكثر إعجازًا- صورةً موزونة، مزينة، ومتميزة، لكل ذي حياةٍ من أربعمائة ألف نوع من أنواع الأحياء في حديقة الأرض، وهي في غاية الإتقان والحكمة.

نعم، إن فتْحَ الصور هذا أقوى دليل على التوحيد، وأعجبُ معجزة للقدرة الإلهية، حسب ما تفيده الآيات الكريمة: ﴿يخلقكم في بطون أُمهاتِكم خَلقًا من بعدِ خلقٍ في ظُلمات ثلاث ذلكُم اللّٰه ربُّكم له المُلكُ لا إله إلّا هو فأنَّى تُصرفون﴾، ﴿إن اللّٰه لا يَخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء * هُو الذي يُصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلّا هُو العزيز الحَكيمُ﴾.

فبناءً على هذه الحكمة، ونظرًا لإفاضة رسائل النور في بيان حقيقة فتح الصور بصورة متنوعة (وبخاصة في المرتبة السادسة والسابعة من الباب الأول من هذه الرسالة). فنحن نحيل إليها ونكتفي هنا بالقول:

لقد ظهرت -نتيجةَ الدراسات المتواصلة والبحوث الدقيقة لعلمَي النبات والحيوان وبشهادتهما- أنَّ فتح الصور هذا له من الإحاطة والشمول والإتقان ما لا يمكن أن يملك هذا الفعل الجامع المحيط سوى الواحد الأحد القادر المطلق الذي يرى كل شيء، ويصنعه؛ ذلك لأنَّ فعل فتح الصور هذا يحتاج إلى وجود منتهى الحكمة، ومنتهى الدقة، ومنتهى الإحاطة ضمن قدرة مطلقة تهيمن في كل مكان وفي كل آن، فقدرةٌ كهذه لا يملكها إلّا الواحد الأحد الذي بيده مقاليد الأرض والسماوات.

نعم، فكما جاء في الآية الكريمة المذكورة: ﴿في ظُلمات ثلاث﴾ فإن خلْقَ الإنسان، وفتْحَ صوَرِه، واحدةً واحدةً، في أرحام الوالدات بميزان وزينة، وبانتظام وتميّز، دون خلط أو اختلاط، أو خطأ أو نقص، من مادة بسيطة: دليل قاطع على الوحدانية.

ومن ثم إحاطةُ هذه الحقيقة -فتحُ الصور- وشمولُها بالقدرة نفسها، والحكمة نفسها، والصنعة نفسها، للناس كافة، وللحيوانات كافة، وللنباتات كافة، على أرجاء الأرض كافة، لهي أقوى برهان على الوحدانية؛ ذلك لأن فعلَ الإحاطة هو بذاته وحدةٌ واحدة لا يترك مجالًا للشرك.

ومثلما إن الحقائق التسع عشرة في الباب الأول قد شهدت (بوجودها) على وجوبِ وجودِ الخالق سبحانه، فهي تشهد كذلك (بإحاطتها) على الوحدة والوحدانية.

[الحقيقة الثانية: الرحمانية]

والحقيقة التي رآها صاحبُنا السائح في المنـزل الثالث هي:

الحقيقة الثانية: وهي حقيقة “الرحمانية”.

وهي تعني أن هناك واحدًا جعل لنا الأرض -كما هي ظاهرةٌ أمام أعيننا- مضيفًا رائعًا، وغمر وجهَها بآلاف هدايا الرحمة، وفرش لنا بتلك الرحمة مأدبةً تحوي مئات الآلاف من مختلف الأطعمة اللذيذة المعدّة على تلك المائدة، وجعل لنا جوف الأرض -برحمته وحكمته- مخزنًا عظيمًا جامعًا لآلاف إحساناته وآلائه القيمة، ويقوم بتربيتنا تربيةً في منتهى الرحمة، بتحميله الأرضَ من عالم الغيب في دورتها السنوية -كأنها باخرة تجارية- بمئات الآلاف من أجود أنواع صنوف اللوازم الانسانية والحياتية وأجملها، ويرسلها كل سنة كأنها سفينة مشحونة أو قطار معبأ، فكل ربيع فيها بمثابة قطار تقلّ أرزاقَنا وملابسنا. ولأجل أن ننتفع من تلك الهدايا والنعم كلها فقد وهبنا المئات بل الآلاف من الاشتهاء والحاجات والرغبات والمشاعر، والحواس.

نعم، لقد وُضِّح في “الشعاع الرابع” الذي يشرح الآية الكريمة: ﴿حَسْبُنا اللّٰه وَنِعْمَ الوَكيلُ﴾.

وأُثبت هناك أنه سبحانه قد وهَبَنا معدةً بحيث نستطيع بها هضم أطعمة غير محدودة والتلذذ بها، وأحسن إلينا سبحانه حياةً بحيث نستفيد بحواسها نعمًا غير محدودة مبثوثة في أرجاء هذا العالم المشهود الكبير وكأنه سُفرة مفروشة للنعم، وأكرمَنا سبحانه بإنسانية بحيث نتذوق بآلاتها العديدة -كالعقل والقلب- من هدايا غير متناهية لعالم المادة ولعالم المعنى ما نتذوق، وعلَّمَنا إسلامًا بحيث يأخذ النورَ من خزائن غير متناهية لعالم الغيب ولعالم الشهادة، وهدانا إلى إيمانٍ بحيث نستفيد به ونتنور بما لا يُحصر من أنوار عوالم الدنيا والآخرة وهداياهما، فكأن هذه الكائنات قصر عامر منيف قد زيّن من لدن الرحمة الواسعة بأنفس الأشياء والموجودات، وسَلَّمت بيد الإنسان مفاتيح خزائنه ومنازله التي لا تعد ولا تحصى، وأودعت في فطرته جميع الاحتياجات والمشاعر اللازمة للاستفادة من كل ما في القصر.

فرحمةٌ كهذه التي تحيط بالدنيا وبالآخرة معًا، وبكل شيء، لا بد أنها تَجَلٍّ من تجليات “الأحدية” في تلك “الواحدية“.

أي كما أن إحاطةَ ضياء الشمس وشموله جميعَ الأشياء المقابلة لها مثالٌ بارز على “الواحدية“، فإنَّ أخْذ كلِّ شيءٍ شفافٍ ولماع حسب قابليته ضياءَ الشمس وحرارتها والألوان السبعة التي فيها وانعكاساتها، مثال على “الأحدية“.

لذا فإن الذي يرى ضياء الشمس المحيط للعالم يحكم بأن شمس الأرض واحدة، وأنه بمشاهدته انعكاس ضياء الشمس ذي الحرارة من كل شيء بَرَّاق، حتى من القطرات، يتمكن أن يقول بأحدية الشمس، أي أنها قريبة من كل شيء بصفاتها، فهي في مرآة قلب كل شيء.

فكما أن الأمر في المثال هكذا -وللّٰه المثل الأعلى- فإن إحاطة رحمة الرحمن ذي الجمال إحاطة شاملة، كالضياء، تُظهر واحديةَ ذلك الرحمن وعدمَ وجود شريك له في أية جهة من الجهات.

وإن وجود تجليات أنوار أكثر أسماء ذلك الرحمن، ونوعًا من تجلٍ لذاته المقدسة في كل شيء، ولا سيما في كل ذي حياة، وبخاصة في الإنسان -بما منحه الرحمن تحت ستار رحمته الواسعة الجامعة من حياة جامعة لكل فرد، بحيث تمكنه من أن يتوجه بها إلى الكائنات كافة وينسج علاقات وروابط معها- يثبت أحدية ذلك الرحمن سبحانه، وحضوره لدى كل شيء، وأنه “هو” الذي يعمل كل شيء لأي شيء كان.

نعم، كما أن ذلك الرحمن بواحدية تلك الرحمة وبإحاطتها يظهر هيبةَ جلاله وبهائه على الكون كله، على الأرض كلها، فإنه بتجلي أحديته في كل ذي حياة، وبخاصة في الإنسان، وبجمعه جميعَ نماذج تلك النعم وغرزها في أعضاء ذلك الكائن الحي، وفي أجهزته وتنظيمها، وبجعله ذلك الفرد الواحد يتخذ -من جهة- الكائنات كافة دون تشتت مسكنه ومأواه، كأنه يعلن رأفة جماله، ويُعرِّف تمركز أنواع إحسانه في الإنسان.

فلو أخذنا البطيخ مثالًا: فإن في كل بذرة من بذوره يوجد البطيخ نفسه، فخالق تلك البذرة الواحدة لا بد أنه هو خالق ذلك البطيخ، إذ يستدرُّ تلك النواة منه ويجمعها ويجعلها تتجسم بموازين علمه الخاصة وبقوانين حكمته التي تخصه، فليس هناك شيء قط يستطيع أن يصنع تلك النواة سوى البديع الواحد لذلك البطيخ، بل إن إيجاد غيره له محال أصلا.

وبناءً على هذا فقد أصبح الكون -بتجلي الرحمانية- بمثابة شجرة وبستان، وغدت الأرض كالثمرة وكالبطيخ، وصار ذوو الحياة والإنسان كالبذرة، لذا ينبغي أن يكون خالقُ أصغر الأحياء هو خالقَ الأرض قاطبة، وربُّ أدق الأحياء هو ربَّ الكون كله.

نُحصِّل مما سبق أن إيجادَ جميع الصور المنتظمة لجميع الموجودات وفتحَها من مادة بسيطة -بحقيقة الفتاحية التي هي محيطة- يُثبت الوحدة بداهة.. وأن تربية جميع الأحياء كذلك التي أتت إلى الوجود ودخلت الحياة الدنيا وبخاصة القادمين الجدد -بحقيقة الرحمانية التي تحيط بكل شيء- تربيةً في غاية الانتظام، وإيصالَ لوازم حياتها وتوفيرها لها دون نسيانِ أحدٍ، وشمولَ الرحمة نفسها ووصولها إلى كل فرد في كل مكان وفي كل آن، تُظهرُ الوحدة بداهة، وتُري الأحدية في تلك الوحدة كذلك.

وحيث إن رسائل النور هي من مظاهر اسمَي “الحكيم” و”الرحيم” من الأسماء الحسنى وأن إيضاح لطائف “حقيقة الرحمة” وتجلياتها مع إثباتها قد وردَ في مواضع عدة من الرسائل، لذا اقتصرنا هنا على الإشارة إليها بهذه القطرة من ذلك البحر الواسع.

[الحقيقة الثالثة: التدبير والإدارة]

وما رآه صاحبنا السائح وشاهده في المنـزل الثالث هو:

الحقيقة الثالثة: وهي حقيقة “التدبير والإدارة”.

أي حقيقة إدارة الأجرام السماوية وهي في منتهى السرعة والضخامة، وإدارةِ العناصر وهي في منتهى الاختلاط والتشابك، وإدارةِ المخلوقات الأرضية وهي في منتهى الحاجة والضعف، إدارةً تتسم بكمال الانتظام والموازنة ويسعى بعضُها لمعاونة البعض الآخر، رغم اختلاطها وامتزاجها ببعض. أي هي حقيقةُ النظر في إدارة أمورها جميعًا وجَعْلِ هذا العالم العظيم كأنه مملكة كاملة، ومدينة رائعة ضخمة، وقصر منيف مزين.

وسنأخذ هنا صورةً واحدة مقتضبة لجريان تلك الإدارة وسريانها على صفحة واحدة من سطح الأرض وفي صحيفة واحدة في الربيع، تاركين تلك الدوائر الجبارة والصحائف الواسعة التي تتقطر رحمةً، نظرًا لأنها قد وضحت وأُثبتت في رسائل مهمةٍ من رسائل النور كـ”الكلمة العاشرة” وسنبينها بمثال على النحو الآتي:

إذا قام شخص عظيم خارق بتشكيل جيش من أربعمائة ألف أمةٍ وطائفة مختلفة، ووفّر ما يخص كلَّ جندي من تلك الأمم والطوائف المختلفة من الملابس والأسلحة والأرزاق والتعليمات والإعفاءات والخدمات المختلفة المتنوعة جدًّا، وجهّزهم بالأجهزة المختلفة دون أدنى نقص أو قصور أو خطأ، وزوّدهم بها في أوانه دون أدنى تأخير أو خلط وبكمال الانتظام، فلا بد أن تلك الإدارة -وهي في منتهى السعة والاختلاط والدقة والموازنة والكثرة والعدالة- ليس إلّا مِن قدرةٍ خارقةٍ لذلك القائد الخارق، فلا يمكن لأي سبب أن يمدّ يدَه إليها، إذ لو مدّ لأفسد تلك الموازنة ولاختلط الأمر.

فكما أن الأمر في هذا المثال هكذا؛ فإننا نشاهد بأعيننا كذلك أن يدًا غيبية تُنشئ في كل ربيع وتدير جيشًا مهيبًا مركَّبًا من أربعمائة ألف من مختلف الأنواع من الأحياء؛ ثم في موسم الخريف -الذي هو نموذج القيامة- تُعفي ثلاثمائة ألف من مجموع الأربعمائة ألف نوع من وظائفها بصور الوفاة وباسم الموت؛ وفي الربيع -الذي هو مثال الحشر والنشور- تنشئ ثلاثَمائة ألف نموذج للحشر الأعظم في بضعة أسابيع بكمال الانتظام.

حتى إنه سبحانه بعد أن يرينا في الشجرة الواحدة أربعة أنواع من الحشر المصغر بنشره الشجرة نفسها وأوراقَها وأزهارها وأثمارها -كما هي في الربيع الماضي-، فإنه يُظهر لنا ويثبت وحدانيته وأحديته وفرديته واقتداره المطلق ورحمته الواسعة ضمن كمال الربوبية والحاكمية والحكمة، فيكتب سبحانه أمر التوحيد هذا بقلم القَدر في صحيفة كل ربيع على وجه الأرض، وذلك بمنحه كلَ نوع وكل طائفة من ذلك الجيش السبحاني البالغِ أنواعُه أربعمائة ألف نوع، ما يخصه من أرزاقه المختلفة، وما يحتاجه من أسلحته الدفاعية المتنوعة، وما يناسبه من ألبسته المتباينة، وما يلائمه من تعليماته المتفاوتة وإعفاءاته المختلفة، وما يوافقه من جميع مُعِدّاته ولوازمه. فيمنح سبحانه كل ذلك بكمال الانتظام والميزان دون أدنى سهو أو خطأ ودون خَلط أو نسيان، ويهبها له في وقته المحدّد المعين، من مصادر لا تخطر على بال.

وبعد أن طالع صاحبنا السائح صحيفة واحدة فقط في ربيع واحد فقط وشاهد فيها أمر التوحيد بجلاء ووضوح خاطب نفسه قائلًا:

إن الذي أنشأ هذه الأنواع من الحشر في كل ربيع، التي تربو على الألوف، وتَفوق غرابةً الحشرَ الأكبر، هو الذي وعَدَ أنبياءه كافة بآلاف الوعود والعهود أن سيأتي بالحشر والقيامة للثواب والعقاب، وهو أهون على قدرته من الربيع نفسه، وضمَّن آلاف الإشارات حول الحشر في القرآن الكريم، الذي يقرر صراحة في ألف من آياته الكريمة على وعوده سبحانه ووعيده.. فلا شك أنَّ عذاب جهنم لهو عينُ العدالة بحق من يرتكب جحود الحشر أمام ذلك القدير الجبار والقهار ذي الجلال.

هكذا حكَم صاحبنا السائح واطمأنت نفسه إليه، فرددتْ هي أيضًا: آمنّا.

[الحقيقة الرابعة: الرحيمية والرزاقية]

وما شاهده سائح العالم في المنـزل الثالث هو:

الحقيقة الرابعة: وهي المرتبة الثالثة والثلاثون، تلك هي حقيقة “الرحيمية والرزاقية”.

أي حقيقة إعطاء الرزق إلى جميع ذوي الحياة، وبخاصة ذوي الأرواح، وبخاصة العاجزين والضعفاء، وبخاصة الأطفال والصغار على وجه الأرض كافة وفي جوفها وفي جوها وفي بحرها، إعطاءهم أرزاقهم كافة -سواء المادية المَعِدية منها أو المعنوية القلبية- بكل شفقة ورأفة، وذلك من الأطعمة المعمولة من ترابٍ بسيطٍ يابسٍ ومن قِطَعِ خشبٍ جافةٍ جامدة كالعَظْم، وبخاصة إخراج ألطف تلك الأطعمة من بين فرث ودم وإخراج كميات هائلة من الأطعمة من بذرة واحدة صلدة كالعظم وهي لا تزن درهمًا.

فإخراج كل ذلك في وقته المناسب وأمام أنظارنا إخراجًا مقنَّنًا دون نسيان أحد أو التباس أو خطأ لهو حقيقة الإرزاق من لدن يد غيبية.

نعم، إن الآية الكريمة: ﴿إنَّ اللّٰه هو الرزّاقُ ذو القُوةِ المتين﴾، التي تخصص الإعاشة والإنفاق وتحصرها في الحق سبحانه وتعالى..

وكذا الآية الكريمة: ﴿وما من دابّةٍ في الأرض الّا على اللّٰه رِزقُها ويَعلَمُ مُستَقرّها ومستَودعَها كلٌ في كتابٍ مُبين﴾، التي تأخذ أرزاق الناس والحيوان جميعها تحت تعهد الرب سبحانه وكفالته..

وكذا الآية الكريمة: ﴿وكأيّن من دابّةٍ لا تحمِلُ رِزقَها اللّٰه يَرزُقُها وإيّاكُم وهو السميعُ العَليمُ﴾، التي تثبت وتعلن بأن اللّٰه سبحانه هو الذي يتكفل -كما هو مُشاهَد- بأرزاق المساكين والضعفاء والعاجزين وأمثالهم ممن لا يستطيعون أن يتداركوها، فيرسلها إليهم من حيث لم يحتسبوا، ومن مصادرَ لا تَخطر لهم على بال، بل من الغيب، بل من غير شيء، كأمثال الحشرات الموجودة في أعماق البحار التي تتغذى على غير شيء، وجميعِ الصغار التي يأتيها رزقها من حيث لا تحتسب، وجميعِ الحيوانات التي قد تكفل سبحانه بأرزاقها، وينفق عليها فعلًا من الغيب مباشرة -كما هو مشاهَد في كل ربيع- حتى إنه هو الذي يرسل أرزاق أولئك المفتونين بالأسباب تحت ستار الأسباب، فلا يرزقهم سواه.

فكما أن تلك الآيات الكريمة والظواهر المشاهَدة تُري الرزّاقية وتثبتها وتعلنها هكذا، كذلك تبين آياتٌ قرآنيةٌ كثيرة وشواهدُ كونية لا تُحدُّ متفقةً أن كل ذي حياة يُربَّى تحت كَنَفِ رحيميةِ رزاقٍ واحدٍ أحدٍ ذي جلال.

نعم، إن تَسارُع أرزاق الأشجار إليها -وهي المحتاجة للرزق- دون أن يكون لها اقتدار ولا اختيار ولا إرادة وهي ساكنة في أماكنها متوكلةً على اللّٰه.. وكذا سيلان الحليب المصفَى من تلك المضخات العجيبة إلى أفواه الصغار العاجزين، وانقطاعُ تلك النفقة مباشرةً عنهم بعد اكتسابهم جزءًا من الاقتدار وشيئًا من الاختيار والإرادة، مع استمرار تلك الشفقة الموهوبة للأمهات.. كلُّ ذلك لَيثبتُ بداهةً أن الرزق الحلال لا يأتي متناسبًا مع القدرة والإرادة، وإنما يأتي متناسبًا مع الضعف والعجز اللذين يمنحان التوكل.

ولقد ساق وجود قوة الاقتدار والاختيار والذكاء -المثير للحرص القائد إلى الحرمان على الأغلب- أولئك الأدباءَ الذين يستشعرون بها، إلى التذلل وإلى ما يشبه التسوّل، بينما أوصل عدمُ الاقتدار المكللُ بالتوكل أغلبَ العوامِّ البُلْه إلى الثراء والغنى، حتى سار مثلًا:

كم عالِمٍ عالمٍ أعْيَتْ مذاهبُه   *   وجاهلٍ جاهلٍ تلقاهُ مرزوقا6وفي طبقات الشعراء ١/١٣١ لابن المعتز: ينسب إلى ياقوت الحموي وأبي حيان التوحيدي مع شيء من الاختلاف: فَعاقِلٌ فَطِن أَعيَتْ مذاهبُه… وجاهلٌ خَرِقٌ تَلقاه مَرزوقا

مما يثبت أن الرزق الحلال لا يحصل عليه المخلوقُ ولا يجده بقوة الاقتدار والاختيار، وإنما يُعطَى له من لدن مرحمةٍ قد قَبِلت كدَّه وسعيَه، ويُحسَن إليه من عند شفقة ورأفة رقّت على احتياجه وافتقاره.

[الرزق نوعان]

غير أن الرزق نوعان:

الأول: الرزق الحقيقي والفطري للمعيشة، الذي هو تحت التعهد الرباني، وهو مقدَّر بحيث إن المدَّخَر منه في الجسم بصورة دهونٍ أو بصُوَرٍ أخرى يمكنه أن يعيّش الإنسانَ ويديم حياتَه أكثر من عشرين يوما دون أن يذوق طعامًا.

فالذين يموتون جوعًا في الظاهر قبل عشرين أو ثلاثين يومًا من دون أن ينفد رزقُهم الفطري لا ينشأ موتُهم من انعدام الرزق، بل من مرض ناشئ من سوء التعود ومن ترك العادة.

والقسم الثاني من الرزق: هو الرزق المجازي والاصطناعي الذي يكون بحكم الضروري بعد أن يدمن الإنسان عليه بالتعود والإسراف وسوء الاستعمال.

وهذا القسم ليس ضمن التعهد الرباني وتكفله بل هو تابع إلى إحسانه سبحانه، فإما إن يمنحه أو يمنعه.

فالسعيد -في هذا الرزق الثاني- والمحظوظ فيه، هو من يعلم أن السعي الحلال بالاقتصاد والقناعة -وهما مدارا السعادة واللذة- هو نوعٌ من العبادة، وهو دعاءٌ فعلي لكسب الرزق، لذا يَقبل هذا السعيد ذلك الإحسان شاكرًا ممتنًا ويقضي حياته بهناء.

والشقي التعس في هذا الرزق هو من يتخلى عن السعي الحلال بالإسراف والحرص -وهما سبب الشقاء والخسارة والألم- فيقضي حياته بل يُهلكها بطَرْقِ كلِّ بابٍ بالكسل والتظلم والتشكي.

فكما أن المعدة تطلب رزقًا، فالقلب والروح والعقل والعين والأذن والفم وأمثالُها من لطائف الإنسان ومشاعره هي الأخرى تطلب رزقها من الرزاق الرحيم، وتأخذه منه بكل شكر وامتنان، فيَهَب سبحانه لكلٍ منها من خزائن رحمته رزقَها الذي يناسبها وترضى به وتلتذ.

بل إن الرزاق الرحيم قد خَلق كلًّا من تلك اللطائف كالعين والأذن والقلب والخيال والعقل وأمثالها بمثابة مفتاح لخزينة رحمته كي يغمرها بالرزق الواسع، فمثلما العينُ مفتاحٌ لخزائن الجواهر القيمة من الحسن والجمال المنبسط على وجه الكائنات، فاللطائف الأخرى كذلك كل واحدة منها مفتاح لعالم معين، تستفيد منه بالإيمان.

وعلى كل حال فلنرجع إلى أصل الموضوع.

فكما أن الخالق القدير الحكيم قد خلق الحياة خلاصةً جامعةً مستخلَصةً من الكائنات يُحشِّد فيها مقاصدَه العامة وتجلياتِ أسمائه الحسنى؛ كذلك جعل الرزق في عالم الحياة مركزًا جامعًا للشؤون الربانية، خالقًا في ذوي الحياة غريزة الاشتهاء وتذوق الرزق، ليفسح بذلك المجال لأهمِ غايةٍ لخلق الكائنات وحكمتها، وهي جَعْلُ المقابل في شكر ورضى دائمين وكُليَّين يتمان بكل خضوع وعبودية تجاه ربوبيته وتودّده سبحانه.

فمثلًا: إنه سبحانه قد عَمَّر كل طرف من أطراف المملكة الربانية الواسعة جدًّا؛ فعمَّر السماوات بالملائكة والروحانيين، وعمَّر عالم الغيب بالأرواح، كما عمَّر العالم المادي -لحكمة بث الروح وإضفاء البهجة فيه وبخاصة عالم الهواء والأرض، بل كل جهة منه وفي كل وقت وأوان- بوجود الأحياء وبخاصة الطيور والطويرات والحشرات.

فغرز الاحتياج للرزق وتذوّقه في الحيوانات والإنسان؛ وجعلهم يسعَون دومًا وراء رزقهم. وكأن ذلك الاحتياج سوطُ تشويقٍ لهم يسوقهم ويحركهم ويُجريهم وراء الرزق منتشلًا إياهم من الكسل والعطالة، وما ذلك إلّا حكمة من حكم الشؤون الربانية.

ولولا أمثال هذه الحكمة من الحكم المهمة لكان سبحانه يجعل التعيينات المقننة للحيوانات تسعى إليها دون كدٍّ وعناء ولحاجة فطرية كما جعل أرزاق النباتات تسعى إليها هكذا.

ولو وُجدت عينٌ تستطيع رؤية أنواع الجمال لاسم “الرحيم“، وأوجهِ الحسن لاسم “الرزاق“، وشهادتِهما للوحدانية رؤيةً تامة بحيث تتمكن من الإحاطة كليًّا بسطح الأرض ومشاهدته في آن واحد، لكانت ترى مدى متعة الجمال ومدى لذة الحسن في تجلي شفقة “الرزاق الرحِيم” ورأفتهِ الذي يُمدّ إمدادًا غيبيًّا ويحسن إحسانًا رحمانيًّا قوافلَ الحيوانات التي كادت تنفد أرزاقُها في أواخر الشتاء، بأطعمة ونِعمٍ في منتهى اللذة ومنتهى الكثرة ومنتهى التنوع مودِعةً إياها في أيدي النباتات، وموضوعةً على هامات الأشجار، ومعلَّقةً في أثداء الوالدات، ومرسِلةً لها من خزائن رحمة غيبية صرفة.

وعند ذلك تدرك بأن الذي يصنع تفاحة واحدة -مثلًا- ويهبها رزقًا حقيقيًّا، مُنعمًا بها على شخص، لا يمكن أن يكون إلّا الذي يدير كل المواسم والليالي والأيام، ويجعل الكرة الأرضية كسفينة تجارية يبحر بها ويسيّرها مستحصلًا بها محاصيل المواسم، فيأتي بها إلى ضيوفه المعوزين في الأرض، ذلك لأن سكة الفطرة وختم الحكمة وطغراء الصمدية وختم الرحمة الموجودة على جبين تلك التفاحة الواحدة، موجودةٌ كذلك على جبين تفاح الأرض كلها وعلى سائر الأثمار والفواكه وعلى النباتات والحيوانات جميعها.

لذا فإن مالك تلك التفاحة الواحدة وصانعها الحقيقي هو مالكُ وصانعُ أمثالِها وأشباهِ جنسها من سكنة الأرض، وهو مالكُ وصانعُ الأرض الضخمة التي هي حديقتها، وهو بارئ شجرة الكائنات التي هي مصنعها. وهو موجِد موسمها الذي هو معملها، وهو باعث الربيع والصيف اللذين هما ميدان تربيتها ونموها، ذلكم المالك ذو الجلال والخالقُ ذو الجمال. لا شريك له ولا إله غيره.

فكل ثمرة إذن هي ختمٌ رائعٌ واضحٌ للوحدة، بحيث يُعرِّف كاتبَ وصانعَ شجرتِها وهي الأرض، ويُعرِّف كاتبَ وخالق حديقتها وهي كتاب الكون، ويبرز وحدته سبحانه، ويشير إلى أن أمر الوحدانية قد خُتم بأختامِ تصديقٍ عديدة بعدد الأثمار.

ولكون رسائل النور مَظهرا لأسمَي “الرحيم والحكيم” من الأسماء الحسنى، ولبيان وإثبات لمعاتٍ كثيرة لحقيقة الرحيمية وأسرارها الغزيرة في عدة أجزاء من أجزاء رسائل النور، نحيل إليها؛ وقد اكتُفيَ بهذه الإشارة القصيرة إلى تلك الخزينة الغنية الكبيرة نظرًا لحالتي غير الملائمة.

وهكذا فصاحبنا السائح يقول: الحمد للّٰه الذي وفقني لأسمعَ الحقائقَ الثلاث والثلاثين التي تشهد على وجوب وجود خالقي ومالكي وعلى وحدته، والذي ظللتُ أبحث عنه في كل مكان وأسأل عنه كلَّ شيء. تلك الحقائق التي كل منها عبارة عن شمس مشرقة تبدد كل ظلام، وكل منها بقوة الجبل الراسخ المستقر، وكل منها بتحقيقاتها تشهد في غاية القطعية على وجوده سبحانه وتدل بإحاطتها في غاية الجلاء على وحدته، وتُثبت خلالها سائر الأركان الإيمانية إثباتًا قويًّا. وأن إجماع مجموع الحقائق واتفاقها قد حَوَّلت إيماننا من التقليد إلى التحقيق، ومن التحقيق إلى علم اليقين، ومن علم اليقين إلى عين اليقين، ومن عين اليقين إلى حق اليقين، فالحمد للّٰه.. هذا من فضل ربي.

﴿الحمد للّٰه الذي هَدانا لهذا وما كُنا لِنَهتَديَّ لولا أن هدانا اللّٰه

لقَدْ جاءت رُسُلُ رَبِّنا بالحق﴾

هذا وقد جاءت في الباب الثاني من المقام الأول إشارة قصيرة جدًّا إلى الأنوار الإيمانية التي اكتسبها هذا السائح الباحث المشتاق في مشاهداته في المنـزل الثالث من الحقائق الأربعة المعظمة:

(لا إله إلّا اللّٰه الواحد الأحد الذي دلّ على وحدته فـي وجوب وجوده مشاهدةُ عظمةِ إحاطةِ حقيقةِ الفتاحية، بفتح الصور لأربعمائة ألف نوع مـن ذوي الحياة المكملة بلا قصور، بشهادة فنِ النبات والحيوان..

وكذا مشاهدةُ عظمة إحاطة حقيقة الرحمانية الواسعة المنتظمة بلا نقصان بالمشاهدة والعِيان..

وكذا مشاهدة عظمة حقيقة الإدارة المحيطة لجميع ذوي الحياة والمنتظمة بلا خطأ ولا نقصان..

وكذا مشاهدة عظمة إحاطة حقيقة الرحيمية والإعاشة الشاملة لكل المرتزقين المقننة فـي كل وقت الحاجة بلا سهو ولا نسيان جل جلالُ رَزَّاقِها الرحمنِ الرحيمِ الحنـان المنان وعَمَّ نوالهُ وشَمِلَ إحسانه ولا إله إلّا هو)

❀   ❀   ❀

﴿سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلّا مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أنْتَ العَليمُ الحَكيمُ﴾

يا ربِّ بحق بسم اللّٰه الرحمن الرحيم.. يا اللّٰه يا رحمن يا رحيم..

صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين بعدد جميع حروف رسائل النور المضروبة تلك الحروفُ في عاشراتِ دقائقِ جميعِ عمرنا في الدنيا والآخرة مع ضرب مجموعها في ذرات وجودي في مدة حياتي، واغفر لي ولمن يعينني في نشر رسائل النور وكتابتها بصداقة، بكل صلاة منها ولآبائنا ولساداتنا وشيوخنا ولأخواتنا وإخواننا ولطلبة رسالة النور الصادقين وبالخاصة لمن يكتب ويستنسخ هذه الرسالة

برحمتك يا أرحم الراحمين.. آمين.

وآخر دعواهم أن الحمد للّٰه رب العالمين.

❀   ❀   ❀

[مهمة رسائل النور]

مهمة رسائل النور

استمعتُ في هذه الأيام ضمن محاورة معنوية لسؤال وجواب، أبين لكم خلاصة منهما:

“قال أحدهم: إن التحشيدات العظيمة لرسائل النور وتسلُّحَها بتجهيزاتٍ كلية، وجهادَها لأجل الإيمان والتوحيد تزداد باطراد، وعلى الرغم من أن واحدةً منها كافيةٌ لإلزامِ أعتى عنيدٍ، فلِمَ تُوالي بهذه الدرجة من الحرارة والفعالية تحشيداتٍ جديدة لذلك”؟

قالوا جوابًا له: “إن رسائل النور لا ترمم تخريبات جزئية، ولا ترمم بيتًا صغيرًا مهدَّمًا وحده، بل تُعمِّر أيضًا تخريباتٍ عامة كلية، وترمم قلعة محيطة عظيمة -صخورها كالجبال- تحتضن الإسلام وتحيط به.

وهي لا تسعى لإصلاح قلبٍ خاص ووجدانٍ معين وحده، بل تسعى أيضًا -وبيدها إعجاز القرآن- لمداواة القلب العام، وضِماد الأفكار العامة المكلومة بالوسائل المفسدة التي هُيئَت لها وحشدت متراكمةً منذ ألف سنة، وتَنْشط لمداواة الوجدان العام الذي توجَّه نحو الفساد نتيجةَ تحطم الأسس الإسلامية وتياراته وشعائره التي هي المستنَد العظيم للجميع وبخاصة عوام المؤمنين.. نعم، إنها تسعى لمداواة تلك الجروح الواسعة الغائرة بأدوية إعجاز القرآن والإيمان.

فأمام هذه التخريبات الكلية الرهيبة والشقوق الواسعة والجروح الغائرة، ينبغي وجودُ حججٍ دامغةٍ وأعتدةٍ مجهَّزةٍ بدرجةِ حق اليقين وبقوة الجبال ورسوخها، ووجودُ أدويةٍ مجرَّبةٍ لها من الخواص ما يفوق ألف ترياق وترياق، ولها من المزايا ما يضاهي علاجات لا حدَّ لها.

هذه هي مهمة رسائل النور النابعةِ من الإعجاز المعنوي للقرآن الكريم، وفي الوقت الذي تقوم بها في هذا الزمان أتم قيام، فهي تحظى بكونها مدار انكشاف لمراتبَ غير محدودة للإيمان ومصدرَ رقيٍّ في مدارجه السامية غير المتناهية”.

وعلى هذا المنوال جرت مكالمة طويلة، فسمعتها كاملة، وشكرت اللّٰه كثيرًا، أجملتها لكم.

سعيد النورسي

❀   ❀   ❀

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى