اللمعات

اللمعة الثلاثون

[هذه اللمعة تتحدث عن ستةٍ من الأسماء الحسنى.. عن ضرورتها، وعن تجلياتها في سطور الكتاب المنظور (الكون)، وهذه الأسماء الستة كلٌّ منها اسمٌ أعظم، أو نورٌ من أنوار الاسم الأعظم]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

وقد ثَبَت ببَراهِينَ دامِغةٍ في أَغلَبِ أَجزاءِ "رَسائِلِ النُّورِ" أنَّ فِعلَ التَّنظِيمِ والنِّظامِ الَّذي هو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ "الحَكَمِ والحَكِيمِ"، وأنَّ فِعلَ الوَزنِ والمِيزانِ الَّذي هو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ "العَدْلِ والعادِلِ"، وأنَّ فِعلَ التَّزيِينِ والإِحسانِ الَّذي هو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ "الجَمِيلِ والكَرِيمِ"، وأنَّ فِعلَ التَّربِيةِ والإِنعامِ الَّذي هو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ "الرَّبِّ والرَّحِيمِ".. كلُّ فِعلٍ مِن هذه الأَفعالِ، هو فِعلٌ واحِدٌ، وحَقِيقةٌ واحِدةٌ، تُشاهَدُ بوُضُوحٍ في آفاقِ الكَونِ كُلِّه، فكُلٌّ مِنها يُشِيرُ إلى وُجُوبِ وُجُودِ واحِدٍ أَحَدٍ، ويُبيِّنُ وَحْدانيَّتَه بجَلاءٍ.
وقد ثَبَت ببَراهِينَ دامِغةٍ في أَغلَبِ أَجزاءِ “رَسائِلِ النُّورِ” أنَّ فِعلَ التَّنظِيمِ والنِّظامِ الَّذي هو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ “الحَكَمِ والحَكِيمِ”، وأنَّ فِعلَ الوَزنِ والمِيزانِ الَّذي هو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ “العَدْلِ والعادِلِ”، وأنَّ فِعلَ التَّزيِينِ والإِحسانِ الَّذي هو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ “الجَمِيلِ والكَرِيمِ”، وأنَّ فِعلَ التَّربِيةِ والإِنعامِ الَّذي هو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ “الرَّبِّ والرَّحِيمِ”.. كلُّ فِعلٍ مِن هذه الأَفعالِ، هو فِعلٌ واحِدٌ، وحَقِيقةٌ واحِدةٌ، تُشاهَدُ بوُضُوحٍ في آفاقِ الكَونِ كُلِّه، فكُلٌّ مِنها يُشِيرُ إلى وُجُوبِ وُجُودِ واحِدٍ أَحَدٍ، ويُبيِّنُ وَحْدانيَّتَه بجَلاءٍ.
المحتويات عرض

[اللمعة الثلاثون]

 

اللمعة الثلاثون

مِنَ المَكتُوبِ الحادِي والثَّلاثِينَ، وثَمَرةٌ مِن ثِمارِ سِجنِ “أَسكِي شَهِر”

وهِي عِبارةٌ عن سِتِّ نِكاتٍ.

 

هذا الدَّرسُ القَيِّمُ ثَمَرةٌ مِن ثِمارِ سِجنِ “أَسكِي شَهِر”، وحَصِيلةُ مَدرَسَتِها اليُوسُفِيّةِ، مِثلَما كانَت “رِسالةُ الثَّمَرةِ” ثَمَرةً أَينَعَها سِجنُ “دَنِيزْلي”، وكما كانَت “رِسالةُ الحُجّةِ الزَّهراءِ” دَرسًا بَلِيغًا أَزهَرَ في سِجنِ “آفيُونَ”.

تَضُمُّ هذه الرِّسالةُ -وهِي اللَّمْعةُ الثَّلاثُونَ- نِكاتٍ دَقِيقةً لِسِتّةٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى.

قد لا يَستَطِيعُ كلُّ أَحَدٍ لِلوَهْلةِ الأُولَى أن يَستَوعِبَ المَسائِلَ العَمِيقةَ والواسِعةَ جِدًّا في القِسمِ الَّذي يَخُصُّ اسمَ اللهِ “الحَيَّ” و”القَيُّومَ” مِنَ الِاسمِ الأَعظَمِ، ويَتَذوَّقَها جَمِيعًا، إلّا أنَّه لا يَبقَى أَحَدٌ دُونَ نَصِيبٍ مِنها وفائِدةٍ يَغنَمُها.

[النكتة الأولى: حول اسم “القدوس”]

النُّكتة الأولى: تَخُصُّ إِحدَى نِكاتِ اسمِ الله‌: (القُدُّوس).

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾

لقد تَجَلَّت لي نُكتةٌ مِن نِكاتِ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ، وتَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ اللهِ “القُدُّوسِ“، وهُو الِاسمُ الأَعظَمُ أو أَحَدُ أَنورِاه السِّتّةِ، وأنا نَزِيلُ سِجنِ “أَسكِي شَهِر” أَواخِرَ شَهرِ شَعبانَ المُبارَكِ؛ فبَيَّنَ لي: الوُجُودَ الإِلٰهِيَّ بوُضُوحٍ تامٍّ، وكَشَف لي الوَحْدانيّةَ الرَّبّانيّةَ بجَلاءٍ، كما يَأتِي:

[مظاهر اسم “القدوس” تتجلى في سائر الموجودات]

لقد تَراءَى لي هذا الكَونُ وهذه الكُرةُ الأَرضِيّةُ كمَعمَلٍ عَظِيمٍ دائِبِ الحَرَكةِ، وشَبِيهةً بفُندُقٍ واسِعٍ، أو دارِ ضِيافةٍ تُمْلَأُ وتُخلَى بلا انقِطاعٍ، عِلمًا أنَّ مَصنَعًا ودارَ ضِيافةٍ بهذه السَّعةِ وبهذه الكَثْرةِ الكاثِرةِ مِنَ الغادِينَ والرّائِحِينَ، تَمتَلِئُ بالنِّفاياتِ والأَنقاضِ، ويُصابُ كلُّ شَيءٍ بالتَّلوُّثِ، وتَضِيقُ فيها أَسبابُ الحَياةِ.. فإن لم تَعمَلْ يدُ التَّنظِيفِ والتَّنسِيقِ فيها عَمَلًا دائِمًا أَدَّت تلك الأَوساخُ إلى اختِناقِ الإِنسانِ واستِحالةِ عَيشِه.

بَيْدَ أنَّنا لا نَكادُ نَرَى في مَعمَلِ الكَونِ العَظِيمِ هذا، وفي دارِ ضِيافةِ الكُرةِ الأَرضِيّةِ هذه أَثرًا لِلنِّفاياتِ، كما أنَّه لا تُوجَدُ في أيّةِ زاوِيةٍ مِن زَواياهُما مادّةٌ غَيرُ نافِعةٍ، أو غَيرُ ضَرُورِيّةٍ، أو أُلقِيَت عَبَثًا، حتَّى إن ظَهَرَت مادّةٌ كهذه فسَرْعانَ ما تُرمَى في مَكائِنِ تَحوِيلٍ بمُجَرَّدِ ظُهُورِها، تُحِيلُها إلى مادّةٍ نَظِيفةٍ.

فهذا الأَمرُ الدّائِبُ يَدُلُّنا على أنَّ الَّذي يُراقِبُ هذا المَعمَلَ إنَّما يُراقِبُه بكُلِّ عِنايةٍ وإِتقانٍ، وأنَّ مالِكَه يَقُومُ بتَنظِيفِه وتَنسِيقِه وتَزيِينِه على الدَّوامِ حتَّى لا يُرَى فيه -رَغمَ ضَخامَتِه- أَثرٌ لِلقاذُوراتِ والنِّفاياتِ الَّتي تكُونُ مُتَناسِبةً معَ كِبَرِ المَعمَلِ وضَخامَتِه.. فالمُراعاةُ بالتَّطهِيرِ إِذًا مُستَمِرّةٌ، والعِنايةُ بالتَّنظِيفِ دائِمةٌ ومُتَناسِبةٌ معَ ضَخامةِ المَعمَلِ وسَعَتِه، لِأنَّ الإِنسانَ الفَردَ إن لم يَستَحِمَّ ولم يَقُم بتَنظِيفِ غُرفَتِه خِلالَ شِهرٍ، لَضاقَت علَيْه الحَياةُ.. فكَيفَ بنَظافةِ قَصرِ العالَمِ العَظِيمِ؟!

إِذًا فالطُّهرُ والنَّقاءُ والصَّفاءُ والبَهاءُ المُشاهَدُ في قَصرِ العالَمِ البَدِيعِ هذا، ما هُو إلّا نابِعٌ مِن تَنظِيفٍ حَكِيمٍ مُستَمِرٍّ، ومِن تَطهِيرٍ دَقِيقٍ دائِمٍ.

[لولا “القدوس”!]

فلَوْلا هذه المُراقَبةُ المُستَدِيمةُ لِلنَّظافةِ، والعِنايةُ المُستَمِرّةُ بالطُّهرِ، لَكانَت تَختَنِقُ على سَطْحِ الأَرضِ -بأَجْوائِها المَوبُوءةِ- مِئاتُ الآلافِ مِنَ الأَحياءِ خِلالَ سَنةٍ.

ولَوْلا تلك المُراقَبةُ الدَّقِيقةُ والعِنايةُ الفائِقةُ في أَرجاءِ الفَضاءِ الزّاخِرةِ بالكَواكِبِ والنُّجُوم والتَّوابِعِ المُعَرَّضةِ لِلمَوتِ والِاندِثارِ، لَكانَت أَنقاضُها المُتَطايِرةُ في الفَضاءِ تُحَطِّمُ رُؤُوسَنا ورُؤُوسَ الأَحياءِ الأُخرَى، بل رَأسَ الدُّنيا! ولَكانَت تُمطِرُ علَيْنا كُتَلًا هائِلةً بحَجمِ الجِبالِ، وتُرغِمُنا على الفِرارِ مِن وَطَنِنا الدُّنيَوِيِّ! بَينَما لم تَسقُط مُنذُ دُهُورٍ سَحِيقةٍ مِنَ الفَضاءِ الخارِجِيِّ -نَتِيجةَ الِاندِثارِ- سِوَى بِضْعةِ نَيازِكَ، ولم تُصِب أَحَدًا مِنَ النّاسِ، بل كانَت عِبْرةً لِمَن يَعتَبِرُ!

ولَوْلا التَّنظِيفُ الدّائِبُ والتَّطِهيرُ الدّائِمُ في سَطحِ الأَرضِ، لَكانَتِ جَنائِزُ مِئاتِ الأُلُوفِ مِن أُمَمِ الحَيَواناتِ وأَنقاضُ مِئَتَي أَلفٍ مِن طَوائِفِ النَّباتاتِ، النّاتِجةُ مِن تَعاقُبِ المَوتِ والحَياةِ، تَملَأُ البَرَّ والبَحرَ مَعًا، ولَكانَتِ القَذارةُ تَصِلُ إلى حَدٍّ يَنفِرُ كلُّ مَن له شُعُورٌ أن يَنظُرَ إلى وَجْهِ الأَرضِ الدَّمِيمِ، بل كانَ يَسُوقُه إلى الفِرارِ مِنها إلى المَوتِ والعَدَمِ، ناهِيك عن حُبِّه وعِشقِه.

نعم، مِثلَما يُنظِّفُ الطَّيرُ أَجنِحَتَه بسُهُولةٍ تامّةٍ، أو يُطهِّرُ الكاتِبُ صَحائِفَ كِتابِه بيُسرٍ كامِلٍ، فإنَّ أَجنِحةَ هذه الأَرضِ الطاّئِرةِ -معَ الطُّيُورِ السَّماوِيّةِ في الفَضاءِ- وصَحائِفَ هذا الكِتابِ العَظِيمِ -أَعنِي الكَونَ- يُنَظَّفانِ ويُطَهَّرانِ ويُجَمَّلانِ ويُزَيَّنانِ بمِثلِ تلك السُّهُولةِ واليُسرِ؛ بل إنَّ تَطهِيرَ سَطحِ الأَرضِ هذا وتَنظِيفَه وتَنسِيقَه وتَزيِينَه هو مِن كَمالِ الإِتقانِ بحَيثُ يَجعَلُ الَّذِينَ لا يَرَوْن -بإِيمانِهِم- جَمالَ الآخِرةِ يَعشَقُونَ هذا الجَمالَ وهذه النَّظافةَ لِهَذا العالَمِ الدُّنيَوِيِّ، بل قد يَعبُدُونَه!

[جميع موجودات العالم تتلقى أوامر من اسم القدوس]

إِذًا فقَصرُ العالَمِ الباذِخُ هذا، ومَعمَلُ الكَونِ الهائِلُ هذا، قد حَظِيَ بتَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ اللهِ “القُدُّوسِ” علَيْه، حتَّى إنَّه عِندَما تَصدُرُ الأَوامِرُ الإِلٰهِيّةُ المُقدَّسةُ الخاصّةُ بالتَّطهِيرِ والتَّنظِيفِ، لا تَصدُرُ لِلحَيَواناتِ البَحرِيّةِ الكَبِيرةِ المُفتَرِسةِ المُؤَدِّيةِ وَظِيفةَ التَّنظِيفِ، والصُّقُورِ البَرِّيّةِ الجارِحةِ وَحْدَها، بل يَستَمِعُ لها أَيضًا أَنواعُ الدِّيدانِ والنَّملِ الَّتي تَجمَعُ الجَنائِزَ وتقُومُ بمُهِمّةِ مُوَظَّفِي الصِّحّةِ العامّةِ الرّاعِينَ لها في هذا العالَمِ، بل تَستَمِعُ لِهذه الأَوامِرِ التَّنظِيفِيّةِ حتَّى الكُرَيّاتُ الحُمْرُ والبِيضُ الجارِيةُ في الدَّمِ فتَقُومُ بمُهِمّةِ التَّنظِيفِ والتَّنقِيةِ في حُجَيراتِ البَدَنِ كما يقُومُ التَّنفُّسُ بتَصفِيةِ الدَّمِ، بل حتَّى الأَجفانُ الرَّقيقةُ تَستَمِعُ لها فتُطَهِّرُ العَينَ باستِمرارٍ، بل حتَّى الذُّبابُ يَستَمِعُ لها فيَقُومُ بتَنظِيفِ أَجنِحَتِه دائِمًا.

ومِثلَما يَستَمِعُ كلُّ ما ذَكَرْناه لِتِلك الأَوامِرِ القُدسِيّةِ بالتَّنظِيفِ، تَستَمِعُ لها أَيضًا الرِّياحُ الهُوجُ والسُّحُبُ الثِّقالُ، فتِلك تُطهِّرُ وَجهَ الأَرضِ مِنَ النِّفاياتِ، والأُخرَى تَرُشُّ رَوْضَتَها بالماءِ الطّاهِرِ فتُسَكِّنُ الغُبارَ والتُّرابَ، ثمَّ تَنسَحِبُ بسُرعةٍ ونِظامٍ حامِلةً أَدَواتِها لِيَعُودَ الجَمالُ السّاطِعُ إلى وَجهِ السَّماءِ صافِيًا مُتَلَألِئًا.

ومِثلَما تَستَمِعُ لتِلك الأَوامِرِ الصّادِرةِ بالتَّطهِيرِ والتَّنظِيفِ النُّجُومُ، والعَناصِرُ، والمَعادِنُ، والنَّباتاتُ، بأَشكالِها وأَنواعِها، تَستَمِعُ لها الذَّرّاتُ جَمِيعًا، حتَّى إنَّها تُراعِي النَّقاوةَ والصَّفاءَ في دَوّاماتِ تَحَوُّلاتِها المُحَيِّرةِ لِلأَلبابِ، فلا تَجتَمِعُ في زاوِيةٍ دُونَ فائِدةٍ، ولا تَزدَحِمُ في رُكنٍ دُونَ نَفعٍ، بل إن تَلوَّثَت تُنظَّفُ فَورًا وتُساقُ سَوْقًا مِن لَدُن قُدْرةٍ حَكِيمةٍ إلى أَخذِ أَطهَرِ الأَوْضاعِ وأَنظَفِها وأَسطَعِها وأَصْفاها، وأَخذِ أَجمَلِ الصُّوَرِ وأَنقاها وأَلطَفِها.

وهكَذا، فإِنَّ فِعلَ التَّطهِيرِ هذا الَّذي هو فِعلٌ واحِدٌ، ويُعَبِّرُ عن حَقِيقةٍ واحِدةٍ، هو تَجَلٍّ أَعظَمُ، مِن تَجَلِّياتِ اسمِ “القُدُّوسِ” الأَعظَمِ، يُرَى ذلك التَّجَلِّي الأَعظَمُ حتَّى في أَعظَمِ دَوائِرِ الكَونِ وأَوسَعِها، بحَيثُ يُبيِّنُ الوُجُودَ الرَّبّانِيَّ، ويُظهِرُ وَحْدانيّةَ اللهِ معَ أَسمائِه الحُسنَى ظُهُورًا جَلِيًّا كالشَّمسِ المُنِيرةِ، فتُبصِرُه العُيُونُ النّافِذةُ النَّظَرِ.

[فعل التطهير والتنظيف صادرٌ عن “قدوس” واحد]

وقد ثَبَت ببَراهِينَ دامِغةٍ في أَغلَبِ أَجزاءِ “رَسائِلِ النُّورِ” أنَّ فِعلَ التَّنظِيمِ والنِّظامِ الَّذي هو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ “الحَكَمِ والحَكِيمِ“، وأنَّ فِعلَ الوَزنِ والمِيزانِ الَّذي هو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ “العَدْلِ والعادِلِ“، وأنَّ فِعلَ التَّزيِينِ والإِحسانِ الَّذي هو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ “الجَمِيلِ والكَرِيمِ“، وأنَّ فِعلَ التَّربِيةِ والإِنعامِ الَّذي هو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ “الرَّبِّ والرَّحِيمِ“.. كلُّ فِعلٍ مِن هذه الأَفعالِ، هو فِعلٌ واحِدٌ، وحَقِيقةٌ واحِدةٌ، تُشاهَدُ بوُضُوحٍ في آفاقِ الكَونِ كُلِّه، فكُلٌّ مِنها يُشِيرُ إلى وُجُوبِ وُجُودِ واحِدٍ أَحَدٍ، ويُبيِّنُ وَحْدانيَّتَه بجَلاءٍ.

كَذلِك فِعلُ التَّنظِيفِ والتَّطهِيرِ الَّذي هو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ “القُدُّوسِ” يَدُلُّ على وُجُودِ ذلك الواجِبِ، كالشَّمسِ، ويُبيِّنُ وَحْدانيَّتَه كالنَّهارِ.. وكما أنَّ الأَفعالَ المَذكُورةَ مِن تَنظِيمٍ وتَقدِيرٍ وتَزيِينٍ وتَنظِيفٍ وأَمثالِها مِنَ الأَفعالِ الحَكِيمةِ تُبيِّنُ خالِقًا واحِدًا أَحَدًا، بوَحْدَتِها النَّوعِيّةِ، وبظُهُورِها في أَوسَعِ الآفاقِ الكَونِيّةِ، كَذلِك أَكثَرُ الأَسماءِ الحُسنَى، بل كلُّ اسمٍ مِن أَلفِ اسمٍ واسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى له تَجَلٍّ أَعظَمُ في أَوسَع دائِرةٍ مِن دَوائِرِ الكَونِ كهَذا.. فيُظهِرُ الفِعلُ النّاتِجُ مِن ذلك التَّجَلِّي الواحِدَ الأَحَدَ ظُهُورًا جَلِيًّا يُناسِبُ سَعَةَ ذلك الفِعلِ ووُضُوحَه.

نعم، إنَّ الحِكمةَ العامّةَ الَّتي تُخضِعُ كلَّ شَيءٍ لِقانُونِها ونِظامِها، والعِنايةَ الشّامِلةَ الَّتي تُجَمِّلُ كلَّ شَيءٍ وتُزيِّنُه، والرَّحْمةَ الواسِعة الَّتي تُدخِلُ السُّرُورَ والبَهجةَ على كلِّ شَيءٍ وتَجعَلُه في حَمْدٍ دائِمٍ، والرِّزقَ العامَّ الَّذي يَعتاشُ علَيْه كلُّ ذِي حَياةٍ ويَتَمتَّعُ بلَذائِذِه، والحَياةَ والإِحياءَ الَّتي تَربِطُ كلَّ شَيءٍ بالأَشياءِ الأُخرَى، وتَجعَلُ الشَّيءَ يَنتَفِعُ مِن كلِّ شَيءٍ كأنَّه مالِكٌ لِلأَشياءِ.. هذه الحَقائِقُ وأَمثالُها، المَشهُودةُ بالبَداهةِ، والمُتَّسِمةُ بالوَحْدةِ، والجاعِلةُ وَجهَ الكَونِ يُشرِقُ بَهاءً، ويَستَهِلُّ بِشرًا وسُرُورًا، تَدُلُّ بَداهةً على: “الحَكِيمِ، الكَرِيمِ، الرَّحِيمِ، الرَّزّاقِ، الحَيِّ المُحيِي“، كما يَدُلُّ الضَّوءُ على الشَّمسِ، ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾؛ فكُلُّ فِعلٍ مِن هذه الأَفعالِ الواسِعةِ الَّتي تَربُو على المِئاتِ، دَليلٌ باهِرُ الوُضُوحِ على الوَحْدانيّةِ، إن لم يُسنَد إلى “الواحِدِ الأَحَدِ” سُبحانَه، لَنَتَجَت إِذًا مِئاتُ المُحالاتِ بمِئاتٍ مِنَ الأَوْجُهِ.

فمَثلًا: إنَّه لَيسَتِ الأَفعالُ كلُّها كالحِكْمةِ والعِنايةِ والرَّحْمةِ والإِعاشةِ والإِحياءِ الَّتي هي مِنَ الحَقائِقِ البَدِيهِيّةِ ومِن دَلائِلِ التَّوحِيدِ، بل حتَّى فِعلٌ واحِدٌ فقط مِنها وهُو فِعلُ التَّطهِيرِ، لو لم يُسنَد إلى رَبِّ العالَمِينَ لَلَزِمَ -في طَرِيقِ الكُفرِ والضَّلالةِ- أن يكُونَ كلُّ شَيءٍ له عَلاقةٌ بالتَّنظِيفِ ابتِداءً مِنَ الذَّرّاتِ، إلى الحَشَراتِ، إلى العَناصِرِ، إلى النُّجُومِ، على عِلمٍ ومَعرِفةٍ بتَنظِيفِ هذا الكَونِ العَظِيمِ وتَزيِينِه وتَجمِيلِه ومُوازَنةِ ما فيه!! وأن يُلاحِظَ الأُمُورَ وَفْقَها، ويَقدِرَ على التَّحَرُّكِ.. أو يَلزَمُ أن يتَّصِفَ كلٌّ مِنها بالصِّفاتِ القُدسِيّةِ الجَلِيلةِ لِرَبِّ العالَمِينَ!! أو يَلزَمُ أن يكُونَ هُنالِك مَجلِسُ شُورَى واسِعٌ سَعَةَ الكَونِ كلِّه لِتَنظِيمِ جَمِيعِ تَزيِيناتِ الكَونِ وتَطهِيرِه وتَقدِيرِ كلِّ ما يَلِجُ فيه وما يَخرُجُ مِنه ومُوازَنَتِه، وأن يُشَكِّل هذا المَجلِسَ ما لا يُحَدُّ مِنَ الذَّرّاتِ والحَشَراتِ والنُّجُومِ!!

وهكَذا يَصِلُ سالِكُ طَرِيقِ الكُفرِ إلى مِئاتٍ مِن أَمثالِ هذه الخُرافاتِ السَّخِيفةِ والمُحالاتِ السُّوفْسَطائيّةِ كي يَظهَرَ التَّزيِينُ المُحِيطُ والتَّنظِيفُ الشّامِلُ الظّاهِرُ في الأَرجاءِ كافّةً. أي: لا يَنشَأُ مُحالٌ واحِدٌ بل مِئاتُ الأُلُوفِ مِنَ المُحالاتِ.

نعم، إن لم يُسنَد ضَوءُ النَّهارِ والشُمَيْساتُ المُتَألِّقةُ المِثاليّةُ في كلِّ شَيءٍ على سَطحِ الأَرضِ، إلى الشَّمسِ الواحِدةِ، ولم تُفسَّر على أنَّها انعِكاساتٌ لِتَجَلِّي تلك الشَّمسِ الواحِدةِ، لَلَزِمَ وُجُودُ شَمسٍ حَقِيقيّةٍ في كلِّ قَطْرةِ ماءٍ لَمّاعةٍ، وفي كلِّ قِطعةِ زُجاجٍ شَفّافةٍ، وفي كلِّ بِلَّوْرةِ ثَلجٍ مُشِعّةٍ، حتَّى في كلِّ ذَرّةٍ مِن ذَرّاتِ الهَواءِ، كي يَظهَرَ ذلك الضَّوءُ الَّذي يَعُمُّ الوُجُودَ!!

وهكَذا، فالحِكْمةُ ضِياءٌ، والرَّحْمةُ الواسِعةُ ضِياءٌ، والتَّزيِينُ والمُوازَنةُ والتَّنظِيمُ والتَّنظِيفُ كلٌّ مِنها ضِياءٌ شامِلٌ مُحِيطٌ وشُعاعٌ مِن أَشِعّةِ ذلك النُّورِ الأَزَليِّ سُبحانَه. فانظُرِ الآنَ بنُورِ هذا الإِيمانِ لِتَرَى كَيفَ يَسقُطُ أَهلُ الكُفرِ والضَّلالةِ في مُستَنقَعٍ آسِنٍ لا يُمكِنُهُمُ الخُرُوجُ مِنه، وشاهِدْ مَدَى حَماقةِ أَهلِ الضَّلالةِ وجَهالَتِهِم! واحْمَدِ اللهَ قائِلًا: “الحَمدُ للهِ على دِينِ الإِسلامِ وكَمالِ الإِيمانِ”.

نعم، إنَّ هذا التَّنظِيفَ السّامِيَ الشّامِلَ المُشاهَدَ الَّذي يَجعَلُ قَصرَ العالَمِ طاهِرًا نَقِيًّا نَظِيفًا لَهُو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ “القُدُّوس” ومُقتَضًى مِن مُقتَضَياتِه.. وكما تَتَوجَّهُ تَسبِيحاتُ المَخلُوقاتِ جَمِيعِها إلى اسمِ “القُدُّوسِ” وتَرنُو إلَيْه، كَذلِك يَستَدعِي اسمُ “القُدُّوسِ” نَظافةَ تلك المَخلُوقاتِ وطَهارَتَها1يَجِبُ ألّا نَنسَى أنَّ الخِصالَ القَبِيحةَ، والِاعتِقاداتِ الباطِلةَ، والذُّنُوبَ والآثامَ، والبِدَعَ، كلُّها مِنَ الأَوساخِ المَعنَوِيّةِ.، حتَّى عَدَّ الحَدِيثُ الشَّرِيفُ: “النَّظافةُ مِنَ الإِيمانِ” الطُّهُورَ نُورًا مِن أَنوارِه لِارتِباطِه القُدسِيِّ هذا، وأَظهَرَتِ الآيةُ الكَرِيمةُ أنَّ الطُّهرَ مَدْعاةٌ إلى المَحَبّةِ الإِلٰهِيّةِ ومَدارٌ لها، في قَولِه تَعالَى:

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾

❀   ❀   ❀

[النكتة الثانية: حول اسم “العدل”]

النُّكتة الثانية للَّمْعة الثلاثين

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾

لقد تَراءَت لي نُكتةٌ لَطِيفةٌ مِن نِكاتِ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ، ونُورٌ مِن أَنوارِ تَجَلِّياتِ اسمِ اللهِ: “العَدْلِ” الَّذي هو اسمُ اللهِ الأَعظَمُ، أو هو نُورٌ مِن أَنوارِه السِّتّةِ.. تَراءَى لي ذلك النُّورُ مِن بَعِيدٍ -كما هي الحالُ في النُّكتةِ الأُولَى- وأنا نَزِيلُ سِجنِ “أَسكِي شَهِر”، ولِأَجلِ تَقرِيبِه إلى الأَفهامِ نَسلُكُ أَيضًا طَرِيقَ ضَربِ الأَمثالِ، فنَقُولُ:

[تجلي مظاهر اسم “العدل” في الوجود]

هذا الكَونُ قَصرٌ بَدِيعٌ يَضُمُّ مَدِينةً واسِعةً تَتَداوَلُها عَوامِلُ التَّخرِيبِ والتَّعمِيرِ، وفي تلك المَدِينةِ مَملَكةٌ واسِعةٌ تَغلِي باستِمرارٍ مِن شِدّةِ مَظاهِرِ الحَربِ والهِجْرةِ، وبَينَ جَوانِحِ تلك المَملَكةِ عالَمٌ عَظِيمٌ يَسبَحُ كلَّ حِينٍ في خِضَمِّ المَوتِ والحَياةِ.. ولكِن على الرَّغمِ مِن كلِّ مَظاهِرِ الِاضطِرابِ، فإنَّ مُوازَنةً عامّةً ومِيزانًا حَسّاسًا، وعَمَلِيّةَ وَزنٍ دَقِيقٍ تُسَيطِرُ في كلِّ جَوانِبِ القَصرِ ونَواحِي المَدِينةِ وتَسُودُ في كلِّ أَرجاءِ المَملَكةِ وأَطرافِ العالَمِ، وتُهَيمِنُ علَيْها هَيْمَنةً، بحَيثُ تَدُلُّ بَداهةً على أنَّ ما يَحدُثُ ضِمنَ هذه المَوجُوداتِ الَّتي لا يَحصُرُها العَدُّ مِن تَحَوُّلاتٍ، وما يَلِجُ فيها وما يَخرُجُ مِنها لا يُمكِنُ أن يكُونَ إلّا بعَمَلِيّةِ وَزنٍ وكَيلٍ، وبِمِيزانِ مَن يَرَى أَنحاءَ الوُجُودِ كلَّها في آنٍ واحِدٍ، ومَن تَجرِي المَوجُوداتُ جَمِيعُها أَمامَ نَظَرِ مُراقَبَتِه في كلِّ حِينٍ.. ذلِكُمُ الواحِدُ الأَحَدُ سُبحانَه.

[لولا “العدل”!]

وإلّا فلو كانَتِ الأَسبابُ السّاعِيةُ إلى اختِلالِ التَّوازُنِ، سائِبةً أو مُفَوَّضةً إلى المُصادَفةِ العَشواءِ أوِ القُوّةِ العَمْياءِ أوِ الطَّبِيعةِ المُظلِمةِ البَلْهاءِ، لَكانَت بُوَيضاتُ سَمَكةٍ واحِدةٍ -وهِي تَزِيدُ على الأُلُوفِ- تُخِلُّ بتِلك المُوازَنةِ، بل بُذَيراتُ زَهرةٍ واحِدةٍ -كالخَشْخاشِ- الَّتي تَزِيدُ على عِشرِينَ أَلفًا تُخِلُّ بها؛ ناهِيك عن تَدَفُّقِ العَناصِرِ الجارِيةِ كالسَّيلِ، والِانقِلاباتِ الهائِلةِ والتَّحَوُّلاتِ الضَّخْمةِ الَّتي تَحدُثُ في أَرجاءِ الكَونِ.. كلٌّ مِنها لو كانَ سائِبًا لَكانَ قَمِينًا أن يُخِلَّ بتلك المُوازَنةِ الدَّقِيقةِ المَنصُوبةِ بَينَ المَوجُوداتِ، ويُفسِدَ التَّوازُنَ الكامِلَ بَينَ أَجزاءِ الكائِناتِ خِلالَ سَنةٍ واحِدةٍ، بل خِلالَ يَومٍ واحِدٍ؛ ولَكُنتَ تَرَى العالَمَ وقد حَلَّ فيه الهَرْجُ والمَرْجُ.. وتَعَرَّض لِلِاضطِراباتِ والفَسادِ.. فكانَتِ البِحارُ تَمتَلِئُ بالأَنقاضِ والجُثَثِ، وتَتَعفَّنُ.. والهَواءُ يَتَسمَّمُ بالغازاتِ المُضِرّةِ الخانِقةِ، ويَفسُدُ؛ والأَرضُ تُصبِحُ مَزبَلةً ومَسلَخةً، وتَغدُو مُستَنقَعًا آسِنًا لا تُطاقُ فيه الحَياةُ.

فإن شِئتَ فأَنعِمِ النَّظَرَ في المَوجُوداتِ كُلِّها، ابتِداءً مِن حُجَيراتِ الجِسمِ إلى الكُرَيّاتِ الحُمْرِ والبِيضِ في الدَّمِ، ومِن تَحَوُّلاتِ الذَّرّاتِ إلى التَّناسُبِ والِانسِجامِ بَينَ أَجهِزةِ الجِسمِ، ومِن وارِداتِ البِحارِ ومَصارِيفِها إلى مَوارِدِ المِياهِ الجَوْفيّةِ وصَرفِيّاتِها، ومِن تَوَلُّداتِ الحَيَواناتِ والنَّباتاتِ ووَفَيَاتِها إلى تَخرِيباتِ الخَرِيفِ وتَعمِيراتِ الرَّبِيعِ، ومِن وَظائِفِ العَناصِرِ وحَرَكاتِ النُّجُومِ إلى تَبَدُّلِ المَوتِ والحَياةِ، ومِن تَصادُمِ النُّورِ والظَّلامِ إلى تَعارُضِ الحَرارةِ والبُرُودةِ.. وما شابَهَها مِن أُمُورٍ، كي تَرَى أنَّ الكُلَّ يُوزَنُ ويُقدَّرُ بمِيزانٍ خارِقِ الحَساسِيّةِ، وأنَّ الجَمِيعَ يُكالُ بمِكيالٍ غايةٍ في الدِّقّةِ، بحَيثُ يَعجِزُ عَقلُ الإِنسانِ أن يَرَى إِسرافًا حَقِيقيًّا في مَكانٍ وعَبَثًا في جُزءٍ.. بل يَلمَسُ عِلمُ الإِنسانِ ويُشاهِدُ أَكمَلَ نِظامٍ وأَتقَنَه في كلِّ شَيءٍ فيُحاوِلُ أن يُظهِرَه، ويَرَى أَرْوَعَ تَوازُنٍ وأَبدَعَه في كلِّ مَوجُودٍ فيَسعَى لِإبرازِه.. فما العُلُومُ الَّتي تَوَصَّل إلَيْها الإِنسانُ إلّا تَرجَمةٌ لِذلِك النِّظامِ البَدِيعِ وتَعبِيرٌ عن ذلك التَّوازُنِ الرّائِعِ.

فتَأَمَّلْ في المُوازَنةِ الرّائِعةِ بَينَ الشَّمسِ والكَواكِبِ السَّيّارةِ الِاثنَتَيْ عَشْرةَ الَّتي كلٌّ مِنها مُختَلِفةٌ عنِ الأُخرَى، ألا تَدُلُّ هذه المُوازَنةُ دَلالةً واضِحةً وُضُوحَ الشَّمسِ نَفسِها على اللهِ سُبحانَه الَّذي هو “العَدْلُ القَدِيرُ“؟

ثمَّ تَأمَّلْ في الأَرضِ -وهِي إِحدَى الكَواكِبِ السَّيّارةِ- هذه السَّفِينةِ الجارِيةِ السّابِحةِ في الفَضاءِ الَّتي تَجُولُ في سَنةٍ واحِدةٍ مَسافةً يُقَدَّرُ طُولُها بأَربَعٍ وعِشرِينَ أَلفَ سَنةٍ؛ ومعَ هذه السُّرعةِ المُذهِلةِ لا تُبَعثِرُ المَوادَّ المُنَسَّقةَ على سَطْحِها ولا تَضطَرِبُ بها ولا تُطلِقُها إلى الفَضاءِ.. فلو زِيدَ شَيءٌ قَلِيلٌ في سُرعَتِها أو أُنقِصَ مِنها لكانَت تَقذِفُ بقاطِنِيها إلى الفَضاءِ، ولو أَخَلَّت بمُوازَنَتِها لِدَقِيقةٍ، بل لِثانيةٍ واحِدةٍ، لَتَعثَّرَت في سَيْرِها واضْطَرَبَت، ولَرُبَّما اصْطَدَمَت بغَيرِها مِنَ السَّيّاراتِ، ولَقامَتِ القِيامةُ.

ثمَّ تَأمَّلْ في تَوَلُّداتِ ووَفَيَاتِ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ وإِعاشَتِهِما وحَياتِهِما على الأَرضِ، والَّتي يَزِيدُ عَدَدُ أَنواعِها على الأَربَعِ مِئةِ أَلفِ نَوعٍ، تَرَ مُوازَنةً رائِعةً ذاتَ رَحْمةٍ، تَدُلُّك دَلالةً قاطِعةً على الخالِقِ العادِلِ الرَّحِيمِ جَلَّ جَلالُه، كدَلالةِ الضِّياءِ على الشَّمسِ.

ثمَّ تَأمَّلْ في أَعضاءِ كائِنٍ حَيٍّ مِنَ الأَحياءِ الَّتي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، ودَقِّقْ في أَجهِزَتِه وفي حَواسِّه.. تَرَ فيها مِنَ الِانسِجامِ التّامِّ والتَّناسُقِ الكامِلِ والمُوازَنةِ الدَّقِيقةِ ما يَدُلُّك بَداهةً على الصّانِعِ الَّذي هو “العَدْلُ الحَكِيمُ“.

ثمَّ تَأمَّلْ في حُجَيراتِ جِسمِ كائِنٍ حَيٍّ وفي أَوعِيةِ الدَّمِ، وفي الكُرَيّاتِ السّابِحةِ في الدَّمِ، وفي ذَرّاتِ تلك الكُرَيّاتِ، تَجِدْ مِنَ المُوازَنةِ الخارِقةِ البَدِيعةِ ما يُثبِتُ لك إِثباتًا قاطِعًا أنَّه لا تَحصُلُ هذه المُوازَنةُ الرّائِعةُ ولا إِدارَتُها الشّامِلةُ، ولا تَربِيَتُها الحَكِيمةُ إلّا بمِيزانٍ حَسّاسٍ وبقانُونٍ نافِذٍ وبنِظامٍ صارِمٍ لِلخالِقِ الواحِدِ الأَحَدِ “العَدْلِ الحَكِيمِ” الَّذي بِيَدِه ناصِيةُ كلِّ شَيءٍ، وعِندَه مَفاتِيحُ كلِّ شَيءٍ، لا يُحجَبُ عنه شَيءٌ ولا يَعزُبُ، ويُدِيرُ كلَّ شَيءٍ بسُهُولةِ إِدارةِ شَيءٍ واحِدٍ.

إنَّ الَّذي لا يَعتَقِدُ أنَّ أَعمالَ الجِنِّ والإِنسِ يَومَ الحَشرِ الأَكبَرِ تُوزَنُ بمِيزانِ العَدلِ الإِلٰهِيِّ، ويَستَغرِبُ تلك المُوازَنةَ ويَستَبعِدُها ولا يُؤمِنُ بها، أَقُولُ: لو تَمَكَّن أن يَتَأمَّلَ فيما هو ظاهِرٌ مُشاهَدٌ مِن أَنواعِ المُوازَنةِ الكُبرَى أَمامَه في هذه الدُّنيا لَزالَ استِبعادُه واستِنكارُه حَتْمًا.

[الاقتصاد والظهر والعدل ضرورية للوجود]

أيُّها الإِنسانُ المُسرِفُ الظّالِمُ الوَسِخُ!! اِعْلَمْ، أنَّ “الِاقتِصادَ والطُّهرَ والعَدالةَ” سُنَنٌ إِلٰهِيّةٌ جارِيةٌ في الكَونِ، ودَساتِيرُ إِلٰهِيّةٌ شامِلةٌ تَدُورُ رَحَى المَوجُوداتِ علَيْها، لا يُفلِتُ مِنها شَيءٌ إلّا أنت أيُّها الشَّقِيُّ، وأنت بمُخالَفَتِك المَوجُوداتِ كُلَّها في سَيْرِها وَفقَ هذه السُّنَنِ الشّامِلةِ تَلقَى النَّفْرةَ مِنها والغَضَبَ علَيْك وأنت تَستَحِقُّها.. فعَلامَ تَستَنِدُ حتَّى تُثِيرَ غَضَبَ المَوجُوداتِ كلِّها علَيْك، فتَقتَرِفُ الظُّلمَ والإِسرافَ، ولا تَكتَرِثُ لِلمُوازَنةِ والنَّظافةِ؟

نعم، إنَّ الحِكمةَ العامّةَ المُهَيمِنةَ في الكَونِ، والَّتي هي تَجَلٍّ أَعظَمُ لِاسمِ “الحَكِيمِ” إنَّما تَدُورُ حَولَ مِحْوَرِ الِاقتِصادِ وعَدَمِ الإِسرافِ، فتَأمُرُ بالِاقتِصادِ.

وإنَّ العَدالةَ العامّةَ الجارِيةَ في الكَونِ النّابِعةَ مِنَ التَّجَلِّي الأَعظَمِ لِاسمِ “العَدْلِ” إنَّما تُدِيرُ مُوازَنةَ عُمُومِ الأَشياءِ، وتَأمُرُ البَشَرِيّةَ بإِقامةِ العَدْلِ؛ وإنَّ ذِكرَ المِيزانِ أَربَعَ مَرّاتٍ في سُورةِ الرَّحمٰنِ إِشارةٌ إلى أَربَعةِ أَنواعٍ مِنَ المَوازِينِ في أَربَعِ مَراتِبَ، وبَيانٌ لِأَهَمِّيّةِ المِيزانِ البالِغةِ ولِقِيمَتِه العُظمَى في الكَونِ، وذلك في قَولِه تَعالَى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾.

نعم، فكما لا إِسرافَ في شَيءٍ، فلا ظُلمَ كَذلِك ظُلمًا حَقِيقيًّا في شَيءٍ، ولا بَخْسَ في المِيزانِ قَطُّ.

وإنَّ التَّطهِيرَ والطُّهرَ الصّادِرَ مِنَ التَّجَلِّي الأَعظَمِ لِاسمِ “القُدُّوسِ” يَعرِضُ المَوجُوداتِ بأَبهَى صُورَتِها وأَبدَعِ زِينَتِها، فلا تَرَى ثَمّةَ قَذارةً في مَوجُودٍ، ولا تَجِدُ قُبحًا أَصِيلًا في شَيءٍ ما لم تَمَسَّه يَدُ البَشَرِ الوَسِخةُ.

فاعْلَمْ مِن هذا أنَّ “العَدالةَ والِاقتِصادَ والطُّهرَ” الَّتي هي مِن حَقائِقِ القُرآنِ ودَساتيرِ الإِسلامِ، ما أَشَدَّها إِيغالًا في أَعماقِ الحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ! وما أَشَدَّها عَراقةً وأَصالةً! وأَدْرِكْ مِن هذا مَدَى قُوّةِ ارتِباطِ أَحكامِ القُرآنِ بالكَونِ، وكَيفَ أنَّها مَدَّت جُذُورًا عَمِيقةً في أَغوارِ الكَونِ، فأَحاطَتْه بعُرًى وَثِيقةٍ لا انفِصامَ لها، ثمَّ افْهَمْ مِنها أنَّ إِفسادَ تلك الحَقائِقِ مُمتَنِعٌ كامتِناعِ إِفسادِ نِظامِ الكَونِ والإِخلالِ به وتَشوِيهِ صُورَتِه.

[الاقتصاد والطهر والعدل تستلزم الآخرةَ]

ومِثلَما تَستَلزِمُ هذه الحَقائِقُ المُحِيطةُ بالكَونِ، وهذه الأَنوارُ العَظِيمةُ الثَّلاثةُ “العَدالةُ والِاقتِصادُ والطُّهرُ” الحَشرَ والآخِرةَ، فإنَّ حَقائِقَ مُحِيطةً معَها: كالرَّحْمةِ والعِنايةِ والحِفظِ، وأَمثالَها مِن مِئاتِ الحَقائِقِ المُحِيطةِ والأَنوارِ العَظِيمةِ تَستَلزِمُ الحَشرَ وتَقتَضِي الحَياةَ الآخِرةَ، إذ هل يُمكِنُ أن تَنقَلِبَ مِثلُ هذه الحَقائِقِ المُهَيمِنةِ على المَوجُوداتِ والمُحِيطةِ بالكَونِ إلى أَضدادِها بعَدَمِ مَجِيءِ الحَشرِ وبعَدَمِ إِقامةِ الآخِرةِ؟! أي إن تَنقَلِبَ الرَّحْمةُ إلى ضِدِّها وهو الظُّلمُ، وتَنقَلِبَ الحِكمةُ والِاقتِصادُ إلى ضِدِّهِما وهو فِقدانُ الحِكمةِ والإِسرافُ، ويَنقَلِبَ الطُّهرُ إلى ضِدِّه وهو العَبَثُ والفَسادُ. حاشَ للهِ!

إنَّ الرَّحْمةَ الإِلٰهِيّةَ، والحِكمةَ الرَّبّانيّةَ اللَّتَينِ تُحافِظانِ على حَقِّ حَياةِ بَعُوضةٍ ضَعِيفةٍ مُحافَظةً تَتَّسِمُ بالرَّحْمةِ الواسِعةِ، لا يُمكِنُ أن تُضَيِّعا -بعَدَمِ إِقامةِ الحَشرِ- حُقُوقَ جَمِيعِ ذَوِي الشُّعُورِ غَيرِ المَحدُودِينَ وتَهضِما حُقُوقًا غَيرَ مُتَناهِيةٍ لِمَوجُوداتٍ غَيرِ مَحصُورةٍ.. وإنَّ عَظَمةَ الرُّبُوبيّةِ الَّتي تُظهِرُ دِقّةً مُتَناهِيةً وحَساسِيّةً فائِقةً -إذا جازَ التَّعبِيرُ- في الرَّحْمةِ والشَّفَقةِ والعَدالةِ والحِكمةِ، وكذا الأُلُوهِيّةُ الباسِطةُ سُلْطانَها على الوُجُودِ كُلِّه، والَّتي تُرِيدُ إِظهارَ كَمالاتِها وتَعرِيفَ نَفسِها وتَحبِيبَها بتَزيِيناتِها الكائِناتِ ببَدائِعِ صَنائِعِها وبِما أَسبَغَت علَيْها مِن نِعَمٍ، هل يُمكِنُ أن تَسمَحَ -هذه الرُّبُوبيّةُ العَظِيمةُ والأُلُوهِيّةُ الجَلِيلةُ- بعَدَمِ إِقامةِ الحَشرِ الَّذي يُسَبِّبُ الحَطَّ مِن قِيمةِ جَمِيعِ كَمالاتِها ومِن قِيمةِ مَخلُوقاتِها قاطِبةً؟ تَعالَى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كَبِيرًا! فمِثلُ هذا الجَمالِ المُطلَقِ لا يَرضَى -بالبَداهةِ- بمِثلِ هذا القُبحِ المُطلَقِ.

فالَّذي يُرِيدُ أن يُنكِرَ الآخِرةَ علَيْه أن يُنكِرَ وُجُودَ هذا الكَونِ أَوَّلًا بجَمِيعِ ما فيه مِن حَقائِقَ، وإلّا فالكائِناتُ معَ حَقائِقِها المُتَأَصِّلةِ فيها تُكَذِّبُه بأُلُوفٍ مِنَ الأَلسِنةِ، وتُثبِتُ له أنَّه الكَذّابُ الأَشِرُ.. وقد أَثبَتَت “رِسالةُ الحَشرِ” بدَلائِلَ قاطِعةٍ أنَّ وُجُودَ الآخِرةِ ثابِتٌ وقاطِعٌ لا رَيبَ فيه كوُجُودِ هذه الدُّنيا.

❀   ❀   ❀

[النكتة الثالثة: حول اسم “الحَكَم”]

النُّـكتة الثالثة التي تُشير إلى النور الثالث من الأنوار السِّتّة للِاسم الأعظم:‌

﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾

لقد تَراءَت لي نُكتةٌ مِنَ النِّكاتِ الدَّقِيقةِ لِهذه الآيةِ الكَرِيمةِ، ونُورٌ مِن أَنوارِ تَجَلِّياتِ اسمِ اللهِ “الحَكَمِ” الَّذي هو اسمُ اللهِ الأَعظَمُ، أو أَحَدُ أَنوارِه، في شَهرِ رَمَضانَ المُبارَكِ، فكُتِبَت هذه النُّكتةُ المُشتَمِلةُ على خَمسِ نِقاطٍ على عَجَلٍ، فأَثبَتُّها على حالِها في المُسَوَّدةِ دُونَ تَنقِيحٍ أو تَغيِيرٍ.

[النقطة الأولى: كتاب الكون قرآن منظور]

النُّقطة الأولى للنُّكتة الثالثة:

مِثلَما ذُكِرَ في “الكَلِمةِ العاشِرةِ” أنَّ التَّجَلِّيَ الأَعظَمَ لِاسمِ “الحَكَمِ” جَعَل هذا الكَونَ بمَثابةِ كِتابٍ عَظِيمٍ، كُتِبَت في كلِّ صَحِيفةٍ مِن صَحائِفِه مِئاتُ الكُتُبِ، وأُدرِجَت في كلِّ سَطرٍ مِنه مِئاتُ الصَّفَحاتِ، وخُطَّت في كلِّ كَلِمةٍ مِنه مِئاتُ الأَسطُرِ، وتُقرَأُ تَحتَ كلِّ حَرفٍ فيه مِئاتُ الكَلِماتِ، وحُفِظَ في كلِّ نُقطةٍ مِن نِقاطِه فِهْرِسٌ مُختَصَرٌ صَغِيرٌ يُلَخِّصُ مُحتَوَياتِ الكِتابِ كُلِّه.

فهذا الكِتابُ بصَحائِفِه وأَسطُرِه بل بنِقاطِه يَدُلُّ دَلالةً واضِحةً ساطِعةً -بمِئاتِ الأَوجُهِ- على مُصَوِّرِه وكاتِبِه؛ حتَّى إنَّ مُشاهَدةَ الكِتابِ الكَونِيِّ العَظِيمِ هذا وَحْدَها كافِيةٌ لِلدَّلالةِ على وُجُودِ كاتِبِه، بل تَسُوقُنا إلى مَعرِفةِ وُجُودِه ووَحْدانيَّتِه بما يَفُوقُ دَلالةَ الكِتابِ على نَفسِه أَضعافًا مُضاعَفةً، إذ بَينَما يَدُلُّ حَرفٌ على وُجُودِه ويُعَبِّرُ عن نَفسِه بمِقدارِ حَرفٍ، فإنَّه يُعَبِّرُ عن أَوْصافِ كاتِبِه بمِقدارِ سَطرٍ.

نعم، إنَّ سَطْحَ الأَرضِ “صَحِيفةٌ” مِن هذا الكِتابِ الكَبِيرِ، هذه الصَّحِيفةُ تَضُمُّ كُتُبًا بعَدَدِ طَوائِفِ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ، وهِي تُكتَبُ أَمامَ أَنظارِنا في مَوسِمِ الرَّبِيعِ في غايةِ الكَمالِ والإِتقانِ، مِن دُونِ خَطَأٍ، كِتابةً مُتَداخِلةً، جَنبًا إلى جَنبٍ، في آنٍ واحِدٍ.

والبُستانُ “سَطْرٌ” مِن هذه الصَّحِيفةِ، نُشاهِدُ فيه قَصائِدَ مَنظُومةً بعَدَدِ الأَزهارِ والأَشجارِ والنَّباتاتِ وهِي تُكتَبُ أَمامَ أَعيُنِنا كِتابةً مُتَداخِلةً، جَنبًا إلى جَنبٍ، مِن دُونِ خَطَأٍ.

والشَّجَرةُ النّامِيةُ الزّاهِيةُ أَوْراقُها، المُفَتَّحةُ أَزهارُها، وقد أَوْشَكَت أن تَخرُجَ أَثمارُها مِن أَكمامِها، هذه الشَّجَرةُ “كَلِمةٌ” مِن ذلك السَّطرِ، فهذه الكَلِمةُ تُمَثِّلُ فِقْرةً كامِلةً ذاتَ مَغزًى تُعَبِّرُ تَعبِيرًا بَلِيغًا عن ثَنائِها وحَمْدِها ودَلالَتِها على “الحَكَمِ” ذِي الجَلالِ، بعَدَدِ أَوْراقِها المُنتَظِمةِ وأَزهارِها المُزَيَّنةِ وأَثمارِها المَوزُونةِ، حتَّى لَكَأنَّ تلك الشَّجَرةَ المُفَتَّحةَ الأَزهارِ قَصِيدةٌ عَصْماءُ تَتَغنَّى بالمَدحِ والثَّناءِ على آلاءِ بارِئِها المُصَوِّرِ الجَلِيلِ.

وكأنَّ “الحَكمَ” ذا الجَلالِ يُرِيدُ أن يَنظُرَ إلى ما عَرَضَه مِن بَدائِعِ آثارِه وعَجائِبِ مَخلُوقاتِه في مَعرِضِ الأَرضِ البَدِيع بأُلُوفٍ مِنَ العُيُونِ؛ وكَأنَّ تلك الهَدايا الثَّمِينةَ والأَوْسِمةَ الغالِيةَ والشّاراتِ اللَّطِيفةَ الَّتي مَنَحَها اللهُ تَعالَى لتلك الشَّجَرةِ قد أَعطَتْها مِنَ الشَّكلِ الجَمِيلِ المُزَيَّنِ، والهَيْئةِ المَوزُونةِ المُنتَظِمةِ، والإِبانةِ الحَكِيمةِ البَلِيغةِ ما يُهَيِّئُها لِلعَرضِ أَمامَ أَنظارِ المَلِكِ العَظِيمِ في الرَّبِيعِ الَّذي هو عِيدُها الخاصُّ وعَرْضُها العامُّ.. فتَنطِقُ بالشَّهادةِ على وُجُودِ البارِئِ المُصَوِّرِ والدَّلالةِ على أَسمائِه الحُسنَى أَلسِنةٌ عَدِيدةٌ ووُجُوهٌ كَثِيرةٌ مُتَداخِلةٌ، مِن كلِّ زَهرةٍ مِن أَزهارِ الشَّجَرةِ، ومِن كلِّ ثَمَرةٍ مِن ثِمارِها.

فمَثلًا: إنَّ في كلِّ زَهرةٍ وثَمَرةٍ مِيزانٌ دَقِيقٌ، وذلك المِيزانُ مُقَدَّرٌ وَفقَ تَناسُقٍ بَدِيعٍ، وذلك التَّناسُقُ يَسِيرُ مُنسَجِمًا معَ تَنظِيمٍ ومُوازَنةٍ يَتَجدَّدانِ، وذلك التَّنظِيمُ والمُوازَنةُ يَجرِيانِ في ثَنايا زِينةٍ فاخِرةٍ وصَنْعةٍ مُتقَنةٍ، وتلك الزِّينةُ والإِتقانُ يَظهَرانِ برَوائِحَ ذاتِ مَغزًى وبمَذاقاتٍ ذاتِ حِكْمةٍ.. وهكَذا تُشِيرُ كلُّ زَهرةٍ إلى الحَكَمِ ذِي الجَلالِ إِشاراتٍ، وتَدُلُّ علَيْه دَلالاتٍ، بعَدَدِ أَزهارِ تلك الشَّجَرةِ.

والشَّجَرةُ الَّتي هي بمَثابةِ كَلِمةٍ، وثِمارُها الَّتي هي بحُكمِ حُرُوفِ تلك الكَلِمةِ، وبُذُورُ الثَّمَرِ كأنَّها نِقاطُ تلك الحُرُوفِ الَّتي تَضُمُّ فِهرِسَ الشَّجَرةِ كامِلًا وتَحمِلُ خُطّةَ أَعمالِها.. هذه الشَّجَرةُ إذا أَخَذْناها مِثالًا وقِسْنا علَيْها كِتابَ الكَونِ الكَبِيرِ، نَرَى سُطُورَه وصَحائِفَه قد صارَت بتَجَلِّي أَنوارِ اسمِ “الحَكِيم الحَكَمِ” مُعجِزةً باهِرةً، بل غَدَت كلُّ صَحِيفةٍ مِنه، وكلُّ سَطرٍ مِنه، وكلُّ كَلِمةٍ، وكلُّ حَرفٍ، وكلُّ نُقطةٍ، مُعجِزةٌ تَبلُغُ مِنَ العَظَمةِ ما لوِ اجتَمَعَتِ الأَسبابُ المادِّيّةُ كلُّها على أن تَأتِيَ بمِثلِ تلك النُّقطةِ -أي: البِذرةِ– أو بنَظِيرِها لا تَأتِي بمِثلِها، بل تَعجِزُ الأَسبابُ جَمِيعُها عَجْزًا مُطلَقًا عن مُعارَضَتِها.

نعم، إنَّ كلَّ آيةٍ كَونيّةٍ مِن آياتِ قُرآنِ الكَونِ العَظِيمِ المَنظُورِ تَعرِضُ لِلأَنظارِ مُعجِزاتٍ نَيِّراتٍ هي بعَدَدِ نِقاطِها وحُرُوفِها، فلا جَرَمَ أنَّ المُصادَفةَ العَشواءَ والقُوّةَ العَمْياءَ، والطَّبِيعةَ الصَّمّاءَ البَلْهاءَ الَّتي لا هَدَفَ لها ولا مِيزانَ، لا يُمكِنُها أن تَتَدخَّلَ -في أيّةِ جِهةٍ كانَت- في هذا المِيزانِ المُتقَنِ الخاصِّ، وفي هذا الِانتِظامِ الدَّقِيقِ البَدِيعِ المُتَّسِمَينِ بالحِكمةِ والبَصِيرةِ؛ فلَوِ افتُرِضَ تَدَخُّلُها -جَدَلًا- لَظَهَر أَثَرُ التَّدخُّلِ، بَينَما لا يُشاهَدُ في أيِّ مَكانٍ تَفاوُتٌ ولا خَللٌ قَطُّ.

[النقطة الثانية: مسألتان]

النُّقطة الثانية للنُّـكتة الثالثة: وهِي مَسأَلتانِ:

[المسألة الأولى: صاحب الجمال والكمال يتودد ويتعرف إليك]

المَسأَلةُ الأُولَى: مِثلَما وُضِّحَ في “الكَلِمةِ العاشِرةِ” أنَّه مِنَ القَواعِدِ الأَساسِيّةِ الرَّصِينةِ: أنَّ الجَمالَ الَّذي هو في مُنتَهَى الكَمالِ لا بُدَّ أن يَشهَدَ ويُشهِدَ جَمالَه، وأنَّ الكَمالَ الَّذي هو في مُنتَهَى الجَمالِ لا بُدَّ أن يَشهَدَ ويُشهِدَ كَمالَه؛ فبِناءً على هذا الدُّستُورِ العامِّ فإنَّ البارِئَ المُصَوِّرَ سُبحانَه الَّذي أَبدَع كِتابَ الكَونِ العَظِيمِ هذا يُعرِّفُ جَمالَ كَمالِه وكَمالَ جَمالِه ويُحَبِّبُه بأَلسِنةِ مَخلُوقاتِه -ابتِداءً مِن أَصغَرِ جُزئيٍّ إلى أَكبَرِ كُلِّيٍّ- فيُعرِّفُ سُبحانَه ذاتَه المُقدَّسةَ، ويُفهِّمُ كَمالَه السّامِيَ، ويُظهِرُ جَمالَه البَدِيعَ: بهذا الكَونِ الرّائِعِ، وبكُلِّ صَحِيفةٍ فيه، وبكُلِّ سَطرٍ فيه، وبكُلِّ كَلِمةٍ فيه، بل حتَّى بكُلِّ حَرفٍ وبكُلِّ نُقطةٍ مِن كِتابِه العَظِيمِ هذا.

فيا أيُّها الغافِلُ، إنَّ هذا “الحَكِيمَ الحَكَمَ الحاكِمَ” ذا الجَلالِ والجَمالِ، إذ يُعرِّفُ نَفسَه لك ويُحَبِّبُها إلَيْك بكُلِّ مَخلُوقٍ مِن مَخلُوقاتِه، وبهذه الصُّورةِ الرّائِعةِ وبهذه الكَثْرةِ الكاثِرةِ مِنَ الوَسائِلِ البَدِيعةِ، إن لم تُقابِل تَعرِيفَه هذا بالإِيمانِ به ولم تَعرِفه، وإن لم تُقابِل تَحبِيبَه هذا بالعِبادةِ له ولم تُحَبِّب نَفسَك إلَيْه، فما أَعظَمَ جَهْلَك إِذًا، وما أَفدَحَ خَسارَتَك!. اِحذَرْ!. اِنتَبِهْ!.. وأَفِقْ مِن غَفلَتِك!

[المسألة الثانية: لا مجال للشِّرك في هذا الوجود]

المَسأَلةُ الثَّانيةُ: إنَّه لا مَكانَ لِلشِّركِ قَطُّ في هذا الكَونِ الشّاسِعِ العَظِيمِ الَّذي أَبدَعَه الصّانِعُ القَدِيرُ الحَكِيمُ بقُدرَتِه وحِكمَتِه، لِأنَّ وُجُودَ مُنتَهَى النِّظامِ في كلِّ شَيءٍ لن يَسمَحَ بالشِّركِ أَبدًا، فلو تَدَخَّلَت أَيدٍ مُتَعدِّدةٌ في خَلقِ شَيءٍ ما لَبَانَ التَّفاوُتُ والِاختِلالُ في ذلك الشَّيءِ، مِثلَما تَختَلِطُ الأُمُورُ إذا ما وُجِدَ سُلطانانِ في بلَدٍ، ومَسؤُولانِ في مَدِينةٍ، ومُدِيرانِ في قَصَبةٍ، ومِثلَما يَرفُضُ أَبسَطُ مُوَظَّفٍ تَدَخُّلَ أَحَدٍ في شَأْنٍ مِن شُؤُونِه الَّتي تَخُصُّ وَظِيفَتَه.

كلُّ ذلك دَلالةٌ على أنَّ الخاصّةَ الأَساسِيّةَ لِلحاكِمِيّةِ إنَّما هي: “الِاستِقلالُ” و”الِانفِرادُ”، فالِانتِظامُ يَقتَضِي الوَحْدةَ كما أنَّ الحاكِمِيّةَ تَقتَضِي الِانفِرادَ؛ فإذا كانَ ظِلٌّ باهِتٌ زائِلٌ لِلحاكِمِيّةِ لَدَى هذا الإِنسانِ العاجِزِ المُحتاجِ إِلى العَونِ يَرُدُّ المُداخَلةَ بقُوّةٍ، فكيف بالحاكِمِيّةِ الحَقِيقيّةِ الَّتي هي في مَرتَبةِ الرُّبُوبيّةِ المُطلَقةِ لَدَى القَدِيرِ المُطلَقِ سُبحانَه؟ ألا تَرُدُّ الشِّركَ وتَرفُضُه رَفضًا باتًّا؟

فلوِ افتُرِضَ التَّدخُّلُ -ولو بمِقدارِ ذَرّةٍ- لَاختَلَطَ الِانتِظامُ والتَّناسُقُ واختَلَّ النِّظامُ والمِيزانُ! معَ العِلمِ أنَّ هذا الكَونَ قد أُبدِعَ إِبداعًا رائِعًا إلى حَدٍّ يَلزَمُ لِخَلقِ بِذرةٍ واحِدةٍ قُدرةٌ قادِرةٌ على خَلقِ شَجَرةٍ كامِلةٍ، ويَلزَمُ لِخَلقِ شَجَرةٍ واحِدةٍ قُدرةٌ قادِرةٌ لِإبداعِ الكَونِ كُلِّه؛ وإذا ما افتُرِضَ وُجُودُ شَرِيكٍ في الكَونِ كُلِّه وَجَب أن يُظهِرَ نَصِيبَهُ في التَّدخُّلِ لِخَلقِ أَصغَرِ بِذرةٍ أيضًا، إذِ البِذرةُ نَمُوذَجُ الكائِناتِ، وعِندَئِذٍ يَلزَمُ استِقرارُ رُبُوبيَّتَينِ -لا يَسَعُهُما الكَونُ العَظِيمُ- في بِذرةٍ صَغِيرةٍ، بل في ذَرّةٍ!! وهذا مِن أَسخَفِ المُحالاتِ والخَيالاتِ الباطِلةِ وأَبعَدِها عنِ المَنطِقِ والعَقلِ.

فاعْلَمْ مِن هذا ما أَتفَهَ الشِّركَ والكُفرَ مِن خُرافةٍ! وما أَكذَبَهُما مِن كَلِمةٍ! وما أَفظَعَهُما مِنِ افتِراءٍ! إذ يَقتَضِيانِ عَجْزَ القَدِيرِ المُطلَقِ الَّذي يُمسِكُ السَّماواتِ والأَرضَ أن تَزُولا، والَّذي بِيَدِه مَقاليدُ السَّماواتِ والأَرضِ يُدِيرُهُما بمِيزانِ عَدلِه ونِظامِ حِكمَتِه.. يَقتَضِيانِ عَجْزَه سُبحانَه حتَّى في بِذرةٍ صَغِيرةٍ!!

واعْلَمْ! ما أَصوَبَ التَّوحِيدَ مِن حَقٍّ وحَقِيقةٍ! وما أَعدَلَه مِن صِدقٍ وصَوابٍ! أَدْرِكْ هذا وذاك وقُلِ: الحَمدُ للهِ على الإِيمانِ.

[النقطة الثالثة: كل العلوم تُعرِّف بـ”الحَكَم”]

النُّقطةُ الثَّالثةُ:

[الحكمة مندرجةٌ في كل موجود]

إنَّ الصّانِعَ القَدِيرَ بِاسمِه “الحَكَمِ والحَكِيمِ” قد أَدرَجَ في هذا العالَمِ أُلُوفَ العَوالِمِ المُنتَظِمةِ البَدِيعةِ، وبَوَّأ الإِنسانَ -الَّذي هو أَكثَرُ مَن يُمَثِّلُ الحِكَمَ المَقصُودةَ في الكَونِ وأَفضَلُ مَن يُظهِرُها- مَوقِعَ الصَّدارةِ، وجَعَلَه بمَثابةِ مَركَزِ تلك العَوالِمِ ومِحوَرِها؛ إذ يَتَطلَّعُ أَهَمُّ ما فيها مِن حِكَمٍ ومَصالِحَ إلى الإِنسانِ.. وجَعَل الرِّزقَ بمَثابةِ المَركَزِ في دائِرةِ حَياةِ الإِنسانِ، فتَجِدُ أنَّ مُعظَمَ الحِكَمِ والغاياتِ وأَغلَبَ المَصالِحِ والفَوائِدِ -ضِمنَ عالَمِ الإِنسانِ- تَتَوجَّهُ إلى ذلك الرِّزقِ وتَتَّضِحُ به، لِذا فإنَّ تَجَلِّياتِ اسمِ “الحَكِيمِ” تَبدُو واضِحةً بأَبْهَرِ صُوَرِها وأَسطَعِها مِن خِلالِ مَشاعِرِ الإِنسانِ، والذَّوقِ في الرِّزقِ، حتَّى غَدا كلُّ عِلمٍ -مِن مِئاتِ العُلُومِ الَّتي تَوَصَّل الإِنسانُ إلى كَشْفِها بما يَملِكُ مِن شُعُورٍ- يُعرِّفُ تَجَلِّيًا واحِدًا مِن تَجَلِّياتِ اسمِ “الحَكَمِ” في نَوعٍ مِنَ الأَنواعِ.

فمَثلًا: لو سُئِلَ عِلمُ الطِّبِّ: ما هذه الكائِناتُ؟ لَأَجابَ بأنَّها صَيدَليّةٌ كُبْرَى أُحضِرَت فيها بإِتقانٍ جَمِيعُ الأَدوِيةِ وادُّخِرَت.

وإذا ما سُئِل عِلمُ الكِيمياءِ: ما هذه الكُرةُ الأَرضِيّةُ؟ لَأَجابَ بأنَّها مُختَـبَـرُ كِيمياءٍ مُنتَظِمٌ بَدِيعٌ كامِلٌ.

على حِينِ يُجِيبُ عِلمُ المَكائِنِ: بأنَّها مَعمَلٌ مُنسَّقٌ كامِلٌ لا تَرَى فيه نَقصًا.

كما يُجِيبُ عِلمُ الزِّراعةِ: بأنَّها حَدِيقةٌ غَنَّاءُ ومَزرَعةٌ مِعطاءُ، تُستَنبَتُ فيها أَنواعُ المَحاصِيلِ، كلٌّ في أَوانِه.

ولَأَجابَ عِلمُ التِّجارةِ: بأنَّها مَعرِضٌ تِجارِيٌّ فَخمٌ، وسُوقٌ في غايةِ الرَّوعةِ والنِّظامِ، ومَحَلٌّ تِجارِيٌّ يَحوِي أَنفَسَ البَضائِعِ المَصنُوعةِ وأَجوَدَها.

ولَأَجابَ عِلمُ الإِعاشةِ: بأنَّها مُستَودَعٌ ضَخمٌ يَضُمُّ الأَرزاقَ كُلَّها بأَنواعِها وأَصنافِها.

ولَأَجابَ عِلمُ التَّغذِيةِ: بأنَّها مَطبَخٌ رَبّانِيٌّ وقِدْرٌ رَحمانِيٌّ تُطبَخُ فيه مِئاتُ الأُلُوفِ مِنَ الأَطعِمةِ الشَّهِيّةِ اللَّذِيذةِ جَنبًا إلى جَنبٍ بنِظامٍ في غايةِ الإِتقانِ والكَمالِ.

ولو سُئِلَ عِلمُ العَسكَرِيّةِ عنِ الأَرضِ لَأَجابَ: بأنَّها مُعَسكَرٌ مَهِيبٌ يُساقُ إلَيْه في كلِّ رَبِيعٍ جُنُودٌ مُسَلَّحُون جُدُدٌ يُؤَلِّفُون أُمَمًا مُختَلِفةً مِنَ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ يَبلُغُ تَعدادُها أَكثَرَ مِن أَربَعِ مِئةِ أَلفِ أُمّةٍ، فتُنصَبُ خِيَمُهُم في أَرجاءِ سَطحِ الأَرضِ.. وعلى الرَّغمِ مِن أنَّ أَرزاقَ كلِّ أُمّةٍ تَختَلِفُ عنِ الأُخرَى، ومَلابِسَها مُتَغايِرةٌ وأَسلِحَتَها مُتَبايِنةٌ، وتَعلِيماتِها مُختَلِفةٌ، ورُخَصَها مُتَفاوِتةٌ، إلّا أنَّ أُمُورَ الجَمِيعِ تَسِيرُ بانتِظامٍ رائِعٍ، ولَوازِمَ الجَمِيعِ تُهَيَّأُ دُونَ نِسيانٍ ولا التِباسٍ، وذلك بأَمرٍ مِنَ اللهِ تعالى وبفَضلِ رَحمَتِه السّابِغةِ صادِرًا مِن خَزِينَتِه الواسِعةِ.

وإذا ما سُئِلَ عِلمُ الكَهرَباءِ لَأَجابَ: بأنَّ سَقفَ قَصرِ الكَونِ البَدِيعِ هذا قد زُيِّن بمَصابِيحَ مُتَلألِئةٍ لا حَدَّ لِكَثرَتِها ولا مُنتَهَى لِرَوعَتِها وتَناسُقِها، حتَّى إنَّ النِّظامَ البَدِيعَ والتَّناسُقَ الرّائِعَ الَّذي فيها يَحُولانِ دُونَ انفِجارِ تلك المَصابِيحِ السَّماوِيّةِ المُتَوهِّجةِ دَوْمًا -وهِي تَكبُرُ الأَرضَ أَلفَ مَرّةٍ وفي مُقدِّمَتِها الشَّمسُ- ودُونَ انتِقاصِ تَوازُنِها أو نُشُوبِ حَرِيقٍ فيما بَينَها..

تُرَى! مِن أيِّ مَصدَرٍ تُغَذَّى تلك المَصابِيحُ ذاتُ الِاستِهلاكِ غَيرِ المَحدُودِ ولِمَ لا يَنفَدُ وَقُودُها؟! ولِمَ لا يَختَلُّ تَوازُنُ الِاحتِراقِ؟ عِلمًا أنَّ مِصباحًا زَيتِيًّا صَغِيرًا إن لم يُراعَ ويُعتَنَ به باستِمرارٍ يَنطَفِئْ نُورُه ويَخْبُ.. فسُبحانَه مِن قَدِيرٍ حَكِيمٍ ذِي جَلالٍ! كيف يُوقِدُ الشَّمسَ الَّتي هي أَضخَمُ مِنَ الأَرضِ بمِليُونِ مَرّةٍ ومَضَى على عُمُرِها أَكثَرُ مِن مِليُونِ سَنةٍ -حَسَبَ ما تَوَصَّل إلَيْه عِلمُ الفَلَكِ- دُونَ أن تَنطَفِئَ ومِن دُونِ وَقُودٍ أو زَيتٍ!!2إذا ما حُسِبَ ما يَلزَمُ مِدفأةَ قَصرِ الكَونِ ومِصباحَه وهو الشَّمسُ، كم تَحتاجُ يوميًّا مِنَ الوَقُودِ ومِن الزَّيتِ؟ نَرَى أنَّها بحِسابِ الفلَكيِّين بحاجةٍ إلى مِليونِ ضِعفِ حَجمِ الكُرةِ الأَرضِيّةِ مِنَ الوَقُودِ وأُلُوفِ الأَضعافِ مِن حَجمِ البِحارِ مِن الزُّيُوتِ.

فتَأمَّلْ في عَظَمةِ الخالقِ القَدِيرِ ذي الجَلالِ الذي يُوقِدُ تلك المِدْفأةَ ويُشعِلُ ذلك السِّراجَ الوَهّاجَ مِن دُونِ وَقُودٍ ولا زَيتٍ، ويُشعِلُها بلا انقِطاعٍ.. تَدبَّـرْ في سَعةِ حِكمَتِه وطَلاقةِ قُدرَتِه، وقُلْ: سُبحانَ اللهِ.. ما شاءَ اللهُ.. تَبارَك اللهُ!! بعَدَدِ ذَرّاتِ الشَّمسِ.

تَأمَّلْ في هذا وسَبِّح بِاسمِ ربِّك العَظِيمِ وقُل: “ما شاءَ اللهُ، تَبارَك اللهُ، لا إِلٰهَ إلّا اللهُ”.. قُلْها بعَدَدِ عاشِراتِ الدَّقائِقِ الَّتي مَرَّت على عُمُرِ الشَّمسِ.. فلا شَكَّ أنَّ نِظامًا بَدِيعًا صارِمًا هو الَّذي يُهَيمِنُ على هذه المَصابِيحِ السَّماوِيّةِ المُتَلألِئةِ، ولا بُدَّ أنَّ رِعايَتَها ومُراقبَتَها دَقِيقةٌ، حتَّى كأنَّ مَصدَرَ الحَرارةِ والمِرجَلَ البُخارِيَّ لِتلك الكُتَلِ النّارِيّةِ الَّتي هي في مُنتَهَى الضَّخامةِ وفي غايةِ الكَثْرةِ، إنَّما هي جَهَنَّمُ لا تَنفَدُ حَرارَتُها، وتُرسِلُها إلى الكُلِّ مُظلِمةً قاتِمةً بلا نُورٍ.. وكأنَّ ماكِينةَ تلك المَصابِيحِ المُنَوَّرةِ والقَنادِيلِ المُضِيئةِ الَّتي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى هي جَنّةٌ دائِمةٌ تَمنَحُها النُّورَ والضِّياءَ، فيَستَمِرُّ اشتِعالُها المُنتَظِمُ بالتَّجَلِّي الأَعظَمِ لِاسمِ “الحَكَمِ والحَكِيمِ”.

وهكذا قِياسًا على هذه الأَمثِلةِ، فإنَّ كلَّ عِلمٍ مِن مِئاتِ العُلُومِ يَشهَدُ قَطعًا أنَّ هذا الكَونَ قد زُيِّن بحِكَمٍ ومَصالِحَ شَتَّى ضِمنَ انتِظامٍ كامِلٍ لا نَقصَ فيه، وأنَّ تلك الأَنظِمةَ البَدِيعةَ والحِكَمَ السّامِيةَ النّابِعةَ مِن تلك الحِكمةِ المُعجِزةِ المُحِيطةِ بالكَونِ قد أُدرِجَت بمِقياسٍ أَصغَرَ، حتَّى في أَصغَرِ كائِنٍ حَيٍّ وفي أَصغَرِ بِذْرةٍ.

[الحكمةُ دالّةٌ على الحكيم]

ومِنَ المَعلُومِ بَداهةً أنَّ تَتبُّعَ الغاياتِ وإِردافَ الحِكَمِ والفَوائِدِ بانتِظامٍ، لا يَحصُلُ إلّا بالإِرادةِ والِاختِيارِ والقَصدِ والمَشِيئةِ، وإلّا فلا؛ فكما أنَّ هذا العَمَلَ البَدِيعَ ليس هو مِن شَأنِ الأَسبابِ والطَّبِيعةِ -اللَّتَينِ لا تَملِكانِ إِرادةً ولا اختِيارًا ولا قَصْدًا ولا شُعُورًا- فلن يكُونَ لَهُما تَدَخُّلٌ فيه كَذلِك؛ لِذا فما أَجهَلَ مَن لا يَعرِفُ أو لا يُؤمِنُ بالفاعِلِ المُختارِ وبالصّانِعِ الحَكِيمِ الَّذي تَدُلُّ علَيْه هذه الأَنظِمةُ البَدِيعةُ والحِكَمُ الرَّفيعةُ الَّتي لا حَدَّ لها وهِي مَبثُوثةٌ في مَوجُوداتِ الكَونِ قاطِبةً.

[نفي الوجود أسهل من نفي الخالق]

نعم، إنْ كانَ هناك شَيءٌ يُستَغرَبُ مِنه ويُثيرُ عِندَ الإِنسانِ العَجَبَ في هذه الدُّنيا، فإنَّما هو: إِنكارُ وُجُودِه سُبحانَه، لِأنَّ الِانتِظامَ بأَنواعِه البَدِيعةِ الَّتي لا تُعَدُّ، والحِكَمَ بأَشكالِها السّامِيةِ الَّتي لا تُحصَى، والمُندَرِجةَ في كلِّ مَوجُودٍ في الكَونِ، شَواهِدُ صادِقةٌ على وُجُوبِ وُجُودِه سُبحانَه وعلى وَحْدانيَّتِه.. فبُعدًا لِعَمًى ما بَعدَه عَمًى! وسُحقًا لِجَهلٍ ما بَعدَه جَهلٌ لِمَن لا يَرَى هذا الرَّبَّ الحَكِيمَ سُبحانَه! حتَّى يُمكِنُني القَولُ: إنَّ السُّوفْسَطائيِّينَ الَّذِينَ يُعَدُّونَ حَمْقَى لِإنكارِهِم وُجُودَ الكَونِ، هم أَعقَلُ أَهلِ الكُفرِ، لِأنَّ الِاعتِقادَ بوُجُودِ الكَونِ ومِن بَعدِه إِنكارَ خالِقِه -وهُو اللهُ سُبحانَه- غَيرُ مُمكِنٍ قَطعًا، ولا يُقبَلُ أَصلًا، لِذا بَدَؤُوا بإِنكارِ الكَونِ وأَنكَرُوا وُجُودَهُم أَيضًا، وقالُوا: لا شَيءَ مَوجُودٌ على الإِطلاقِ. فأَبطَلُوا عُقُولَهُم، وأَنقَذُوا أَنفُسَهُم باقتِرابِهِم شَيئًا إلى العَقلِ مِن مَتاهةِ الحَماقةِ غَيرِ المُتَناهِيةِ لِلمُنكِرِينَ الجاحِدِينَ الحَمقَى المُتَستِّرِينَ تَحتَ سِتارِ العَقلِ!

[النقطة الرابعة: الحكمة تستلزم الآخرة]

النُّقطةُ الرَّابعة:

مِثلَما أُشِيرَ في “الكَلِمةِ العاشِرةِ” إلى أنَّه: إذا ما شَيَّد مِعمارِيٌّ بارِعٌ حَكِيمٌ قَصرًا مُنِيفًا، وأَوْدَع في كلِّ حَجَرٍ مِن أَحجارِه مِئاتِ الحِكَمِ والمَصالِحِ والفَوائِدِ، فلا يَتَصوَّرُ مَن له شُعُورٌ ألّا يَبنِيَ له سَقفًا يَحفَظُه مِنَ البِلَى والفَسادِ، لِأنَّ هذا يَعنِي تَعرِيضَ البِناءِ لِلعَدَمِ والتَّلَفِ، وضَياعَ تلك الفَوائِدِ والحِكَمِ الَّتي كانَ يَرعاها ويَتَولّاها؛ وهذا ما لا يَرضَى به ذُو شُعُورٍ..

أو أنَّ حَكِيمًا مُطلَقًا يُنشِئُ مِن دِرهَمٍ مِنَ البُذُورِ مِئاتِ الأَطنانِ مِنَ الفَوائِدِ والحِكَمِ والغاياتِ، ويَتَعقَّبُها ويُدِيرُها، لا يُمكِنُ أن يَتَصوَّرَ مَن له عَقلٌ صُدُورَ العَبَثِ والإِسرافِ المُنافيَينِ كُلِّـيًّا لِلحِكمةِ المُطلَقةِ مِن ذلك الحَكِيمِ المُطلَقِ، بِأَن يُقَلِّدَ الشَّجَرةَ الضَّخمةَ فائِدةً جُزئيّةً وغايةً تافِهةً وثَمَرةً قَلِيلةً، عِلمًا أنَّه يُنفِقُ لِإنشائِها وإِثمارِها الكَثِيرَ!

نعم، فكما لا يُمكِنُ أن يَتَصوَّر هذا أو ذاك عاقِلٌ قَطُّ، كَذلِك لا يُمكِنُ أن يَتَصوَّرَ مَن له مُسكةُ عَقلٍ أن يَصدُرَ مِنَ الصَّانِعِ الحَكِيمِ العَبَثُ والإِسرافُ بعَدَمِ إِتيانِ الآخِرةِ وبعَدَمِ إِقامَتِه الحَشرَ والقِيامةَ بعدَ أن قلَّدَ كلَّ مَوجُودٍ في قَصرِ الكَونِ هذا مِئاتٍ مِنَ الحِكَمِ والمَصالِحِ، وجَهَّزَه بمِئاتِ الوَظائِفِ -حتَّى إنَّه قلَّدَ كلَّ شَجَرةٍ حِكَمًا بعَدَدِ ثِمارِها ووَظائِفَ بعَدَدِ أَزهارِها- فلا يُمكِنُ أن يَتَوارَد على خاطِرِ عاقِلٍ أن يُضَيِّع هذا الحَكِيمُ الجَلِيلُ جَمِيعَ هذه الحِكَمِ والمَقاصِدِ وجَمِيعَ هذه الوَظائِفِ بعَدَمِ إِقامَتِه القِيامةَ والآخِرةَ، إذ يَعنِي هذا إِسنادَ العَجزِ التّامِّ إلى قُدرةِ القَدِيرِ المُطلَقِ، وتَنسِيبَ العَبَثِ والضَّياعِ إلى الحِكمةِ البالِغةِ لِلحَكِيمِ المُطلَقِ، وإِرجاعَ القُبحِ المُطلَقِ إلى جَمالِ رَحمةِ الرَّحِيمِ المُطلَقِ، وإِسنادَ الظُّلمِ المُطلَقِ إلى العَدالةِ التّامّةِ لِلعادِلِ المُطلَقِ، أي: إِنكارَ كلٍّ مِنَ الحِكمةِ والرَّحمةِ والعَدالةِ الظّاهِرةِ المُشاهَدةِ، إِنكارَها كُلِّـيًّا مِنَ الوُجُودِ! وهذا مِن أَعجَبِ المُحالاتِ وأَشَدِّها سُخفًا وأَكثَرِها بُطلانًا!

فلْيَأْتِ أَهلُ الضَّلالةِ، ولْيَنظُرُوا إلى ضَلالَتِهِم كيف أنَّها مُظلِمةٌ مَلِيئةٌ بالعَقارِبِ والحَيَّاتِ كقُبُورِهِمُ الَّتي سيَصِيرُونَ إلَيْها! ولْيُدرِكُوا أنَّ طَرِيقَ الإِيمانِ بالآخِرةِ مُنوَّرٌ جَمِيلٌ كالجَنّةِ فلْيَسلُكُوه وليَنعَمُوا بالإِيمانِ.

[النقطة الخامسة: مسألتان]

النُّقطةُ الخامسةُ: وهِي مَسأَلتانِ:

[المسألة الأولى: لا إسراف في الفطرة]

المَسأَلةُ الأُولَى: إنَّ تَعَقُّبَ الصّانِعِ الجَلِيلِ -بمُقتَضَى اسمِ “الحَكِيمِ”- لِأَلطَفِ صُورةٍ في كلِّ شَيءٍ وأَقصَرِ طَرِيق، وأَسهَلِ طِرازٍ، وأَنفَعِ شَكلٍ.. يَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على أنَّ الفِطرةَ لا إِسرافَ فيها قَطُّ ولا عَبَثَ، فما مِن شَيءٍ إلّا وفيه نَفعُه وجَدْواه، وأنَّ الإِسرافَ مِثلَما يُنافِي اسمَ “الحَكِيمِ” فالِاقتِصادُ لازِمُه ومُقتَضاه ودُستُورُه الأَساسُ.

فيا أيُّها المُسرِفُ المُبَذِّرُ، اِعلَمْ مَدَى مُجانَبَتِك الحَقِيقةَ بقُعُودِك عن تَطبِيقِ أَعظَمِ دُستُورٍ لِلكَونِ أَلا وهُو الِاقتِصادُ، وتَدَبَّرِ الآيةَ الكَرِيمةَ: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ لِتَعلَمَ مَدَى رُسُوخِ الدُّستُورِ الواسِعِ الشّامِلِ الَّذي تُرشِدُ إلَيْه.

[المسألة الثانية: اسم “الحكم والحكيم” يستلزم نبوة سيدنا محمد ﷺ]

المَسأَلةُ الثّانيةُ: يَصِحُّ أن يُقالَ: إنَّ اسمَ اللهِ “الحَكَمُ والحَكِيمُ” يَقتَضِيانِ بَداهةً نُبُوّةَ مُحمَّدٍ ﷺ ورِسالَتَه، ويَدُلّانِ علَيْها ويَستَلزِمانِها.

نعم، ما دامَ الكِتابُ البَلِيغُ بمَعانِيه ومَرامِيه، يَقتَضِي بالضَّرُورةِ مُعَلِّمًا بارِعًا لِتَدرِيسِه.. والجَمالُ الفائِقُ يَقتَضِي مِرآةً يَتَراءَى فيها، ويُرِي بها جَمالَه وحُسنَه.. والصَّنعةُ البَدِيعةُ تَستَدعِي مُنادِيًا داعِيًا إلَيْها.. فلا بُدَّ أن يُوجَد بينَ بَنِي البَشَرِ الَّذي هو مَوضِعُ خِطابِ كِتابِ الكَونِ الكَبِيرِ المُتَضمِّنِ مِئاتِ المَعانِي البَلِيغةِ والحِكَمِ الدَّقِيقةِ في كلِّ حَرفٍ مِن حُرُوفِه، أَقُولُ: لا بُدَّ أن يُوجَدَ رائِدٌ أَكمَلُ، ومُعلِّمٌ أَكبَرُ، لِيُرشِدَ النّاسَ إلى ما في ذلك الكِتابِ الكَبِيرِ مِن حِكَمٍ مُقَدَّسةٍ حَقِيقيّةٍ.. ولِيُعلِّمَ وُجُودَ الحِكَمِ المَبثُوثةِ في أَرجائِه ويَدُلَّ علَيْها.. ولِيَكُونَ مَبعَثَ ظُهُورِ المَقاصِدِ الرَّبّانيّةِ في خَلقِ الكَونِ، بلِ السَّببَ في حُصُولِها.. ولِيُرشِدَ إلى ما يُرِيدُ الخالِقُ إِظهارَه مِن كَمالِ صَنعَتِه البَدِيعةِ، وجَمالِ أَسمائِه الحُسنَى، فيكُونَ كالمِرآةِ الصّافِيةِ لِذلِك الكَمالِ البَدِيعِ والجَمالِ الفائِقِ.. ولِيَنهَضَ بعُبُودِيّةٍ واسِعةٍ -بِاسمِ المَخلُوقاتِ قاطِبةً- تِجاهَ مَظاهِرِ الرُّبُوبيّةِ الواسِعةِ، مُثِيرًا الشَّوقَ وناثِرًا الوَجْدَ في الآفاقِ بَرًّا وبَحرًا، لافِتًا أَنظارَ الجَمِيعِ إلى الصّانِعِ الجَلِيلِ بدَعوةٍ ودُعاءٍ، وتَهلِيلٍ وتَسبِيحٍ وتَقدِيسٍ، تَرِنُّ به أَرجاءُ السَّماواتِ والأَرضِ.. ولِيَقرَعَ أَسماعَ جَمِيعِ أَربابِ العُقُولِ بما يُلَقِّنُه مِن دُرُوسٍ مُقدَّسةٍ سامِيةٍ وإِرشاداتٍ حَكِيمةٍ مِنَ القُرآنِ الحَكِيمِ.. ولِيُبيِّنَ بأَجمَلِ صُورةٍ وأَجلاها بالقُرآنِ العَظِيمِ المَقاصِدَ الإِلٰهِيّةَ لِذلِك الصّانِعِ الحَكَمِ الحَكِيمِ.. ولِيَستَقبِلَ بأَكمَلِ مُقابَلةٍ وأَتَمِّها مَظاهِرَ الحِكْمةِ البالِغةِ والجَمالِ والجَلالِ المُتَجَلِّيةَ في الآفاقِ.. فإِنسانٌ هذه مُهِمَّتُه، ضَرُورِيٌّ وُجُودُه، بل يَستَلزِمُه هذا الكَونُ، كضَرُورةِ الشَّمسِ ولُزُومِها له.

فالَّذي يُؤَدِّي هذه المُهِمّاتِ، ويُنجِزُ هذه الوَظائِفَ على أَتَمِّ صُورةٍ ليس إلّا الرَّسُولَ الأَكرَمَ ﷺ كما هو مُشاهَدٌ، لِذا فكما تَستَلزِمُ الشَّمسُ الضَّوءَ، ويَستَلزِمُ الضَّوءُ النَّهارَ، فالحِكَمُ المَبثُوثةُ في آفاقِ الكَونِ وجَنَباتِه تَستَلزِمُ نُبُوّةَ مُحمَّدٍ ﷺ ورِسالَتَه.

نعم، مِثلَما يَقتَضِي التَّجَلِّي الأَعظَمُ لِاسمِ “الحَكَمِ والحَكِيمِ” -في أَوسَعِ مَداه- الرِّسالةَ الأَحمَدِيّةَ، فإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى مِثلَ: “اللهُ، الرَّحمٰنُ، الرَّحِيمُ، الوَدُودُ، المُنعِمُ، الكَرِيمُ، الجَمِيلُ، الرَّبُّ“، يَستَلزِمُ كُلٌّ مِنها الرِّسالةَ الأَحمَدِيّةَ في أَعظَمِ تَجَلِّياتِها وإِحاطَتِها بالكَونِ كُلِّه، استِلزامًا قاطِعًا لا رَيبَ فيه.

فمَثلًا: إنَّ الرَّحمةَ الواسِعةَ الَّتي هي تَجَلِّي اسمِ “الرَّحمٰنِ” تَظهَرُ بوُضُوحٍ بمَن هو رَحمةٌ لِلعالَمِينَ.

وإنَّ التَّحَبُّبَ الإِلٰهِيَّ والتَّعرُّفَ الرَّبّانِيَّ -اللَّذَينِ هما مِن تَجَلِّياتِ اسمِ “الوَدُودِ“- يُفضِيانِ إلى نَتِيجَتِهِما ويَجِدانِ المُقابَلةَ بحَبِيبِ رَبِّ العالَمِينَ.

وإنَّ جَمِيعَ أَنواعِ الجَمالِ -جَمالِ الذّاتِ وجَمالِ الأَسماءِ، وجَمالِ الصَّنعةِ والإِتقانِ، وجَمالِ المَصنُوعاتِ والمَخلُوقاتِ.. كلِّ أَنواعِ الجَمالِ الَّتي هي تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ الجَمِيلِ– تُشاهَدُ في تلك المِرآةِ الأَحمَدِيّةِ، وتُشهَدُ بها.. بل حتَّى تَجَلِّياتُ عَظَمةِ الرُّبُوبيّةِ، وهَيمَنةُ سَلطَنةِ الأُلُوهِيّةِ إنَّما تُعرَفُ برِسالةِ هذا الدّاعِيةِ العَظِيمِ إلى سُلطانِ الرُّبُوبيّةِ وتَتَبيَّنُ بها، وتُفهَمُ عنها، وتُصَدَّقُ بها.

وهكذا فأَغلَبُ الأَسماءِ الحُسنَى إنَّما هي بُرهانٌ باهِرٌ على الرِّسالةِ الأَحمَدِيّةِ كما مَرَّ آنِفًا.

نَحصُلُ مِمّا سَبَق أنَّه ما دامَ الكَونُ مَوجُودًا بالفِعلِ ولا يُمكِنُ إِنكارُه، فلا يُمكِنُ أن يُنكَر كَذلِك ما هو بمَثابةِ أَلوانِه وزِينَتِه، وضِيائِه وإِتقانِه، وأَنواعِ حَياتِه، وأَشكالِ رَوابِطِه مِنَ الحَقائِقِ المَشهُودةِ، كالحِكمةِ، والعِنايةِ، والرَّحمةِ، والجَمالِ، والنِّظامِ، والمِيزانِ، والزِّينةِ، وأَمثالِها مِنَ الحَقائِقِ.. فما دامَ لا يُمكِنُ إِنكارُ هذه الصِّفاتِ والأَفعالِ، فلا يُمكِنُ إِنكارُ مَوصُوفِ تلك الصِّفاتِ، ولا يُمكِنُ إِنكارُ فاعِلِ تلك الأَفعالِ وشَمسِ تلك الأَضواءِ، أَعنِي ذاتَ اللهِ الأَقدَسِ جَلَّ جَلالُه الواجِبِ الوُجُودِ، الَّذي هو “الحَكِيمُ، الرَّحِيمُ، الجَمِيلُ، الحَكَمُ، العَدْلُ“..

وكذا لا يُمكِنُ إِنكارُ مَن هو مَدارٌ لِظُهُورِ تلك الصِّفاتِ والأَفعالِ، بل مَن هو مَدارٌ لِعَرضِ كَمالاتِها، بل تَحَقُّقِ تَجَلِّياتِها، ذلِكُمُ الرَّسُولُ الكَرِيمُ مُحَمَّدٌ ﷺ، الرّائِدُ الأَكبَرُ، والمُعلِّمُ الأَكمَلُ، والدّاعِيةُ الأَعظَمُ، وكَشّافُ طِلَّسمِ الكائِناتِ، والمِرآةُ الصَّمَدانيّةُ، وحَبِيبُ الرَّحمٰنِ.. فلا يُمكِنُ إِنكارُ رِسالَتِه قَطْعًا، لِأنَّها أَسطَعُ نُورٍ في هذا الكَونِ كسُطُوعِ ضِياءِ عالَمِ الحَقِيقةِ ونُورِ حَقِيقةِ الكائِناتِ.

﴿علَيهِ وعلى آلِهِ وصَحبِهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بعَدَدِ عاشِراتِ الأَيَّامِ وذَرَّاتِ الأَنامِ﴾

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

❀   ❀   ❀

[النكتة الرابعة: حول اسم “الفرد”]

النُّكتة الرابعة للَّمْعة الثلاثين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾

بَينَما أنا نَزِيلُ سِجنِ “أَسكِي شَهِر” في شَهرِ شَوّالٍ، إذ تَراءَت لي نُكتةٌ دَقيقةٌ مِنَ النِّكاتِ اللَّطِيفةِ لِهذه الآيةِ الجَلِيلةِ، ولَاح لي قَبَسٌ مِن أَنوارِ اسمِ اللهِ الأَعظَمِ: “الفَرْدُ” أو هو أَحَدُ أَنوارِه السِّتّةِ- الَّذي يَتَضمَّنُ اسمَيِ “الواحِدِ والأَحَدِ” مِنَ الأَسماءِ الإِلٰهِيّةِ الحُسنَى.

سنُبيِّنُ هنا باختِصارٍ شَدِيدٍ التَّوحِيدَ الحَقِيقيَّ الَّذي يُظهِرُه التَّجَلِّي الأَعظَمُ لِاسمِ: “الفَرْدُ“، وذلك في سَبعِ إِشاراتٍ مُوجَزةً، ونُحِيلُ تَفاصِيلَ الجَلْوةِ الأَعظَمِ إلى رَسائِلِ النُّورِ.

[الإشارة الأولى: خاتَم “الفرد” منقوش على سائر الموجودات]

الإشارةُ الأُولَى:

لقد وَضَع اسمُ اللهِ الأَعظَمُ “الفَرْدُ” بتَجَلِّيه الأَعظَمِ على الكَونِ كلِّه بَصَماتِ التَّوحِيدِ، وأَختامَ الوَحدانيّةِ الواضِحةِ، على مَجمُوعِ الكَونِ، وعلى كلِّ نَوعٍ فيه، وعلى كلِّ فَردٍ فيه؛ ولَمّا كانَتِ “الكَلِمةُ الثّانيةُ والعِشرُونَ” و”المَكتُوبُ الثّالثُ والثَّلاثُونَ” قد تَناوَلا بَيانَ ذلك التَّجَلِّي بشَيءٍ مِنَ التَّفصِيلِ، نَكتَفِي بالإِشارةِ فقط إلى ثَلاثِ بَصَماتٍ وأَختامٍ مِنها دالّةٍ على التَّوحِيدِ:

[الختم الأول: خاتم الوحدانية]

الخَتمُ الأوَّلُ: إنَّ التَّجَلِّيَ الأَعظَمَ لِلفَردِيّةِ قد طَبَع على وَجهِ “الكَونِ” كلِّه خَتْمًا واضِحًا لِلوَحدانيّةِ وُضُوحًا حَوَّل الكَونَ كلَّه بحُكمِ “الكُلِّ” الَّذي لا يَقبَلُ التَّجزِئةَ مُطلَقًا، بحَيثُ إنَّ مَن لا يَقْدِر على أن يَتَصرَّفَ في الكَونِ كلِّه لا يُمكِنُ أن يكُونَ مالِكًا مُلكًا حَقِيقيًّا لِأَيِّ جُزءٍ مِنه.. ولْنُوَضِّحْ هذا الخَتْمَ:

إنَّ مَوجُوداتِ الكَونِ بأَنواعِها المُختَلِفةِ، تَتعَاوَنُ فيما بَينَها تَعاوُنًا وَثيقًا، ويَسعَى كلُّ جُزءٍ مِنها لِتَكمِلةِ مُهِمّةِ الآخَرِ، وكأنَّها تُمَثِّلُ بمَجمُوعِها وأَجزائِها تُرُوسَ مَعمَلٍ بَدِيعٍ ودَوالِيبَه -الَّذي يُشاهَدُ فيه هذا التَّعاوُنُ بوُضُوحٍ- فهذا التَّسانُدُ، وهذا التَّعاوُنُ بينَ الأَجزاءِ، وهذه الِاستِجابةُ في إِسعافِ كلٍّ مِنها لِطَلَبِ الآخَرِ، وإِمدادُ كلِّ جُزءٍ لِلجُزءِ الآخَرِ، بل هذا التَّعانُقُ والِاندِماجُ بينَ الأَجزاءِ، يَجعَلُ مِن أَجزاءِ الكَونِ كُلِّه وَحْدةً مُتَّحِدةً تَستَعصِي على الِانقِسامِ والِانفِكاكِ، يُشبِهُ في هذا وَحْدةَ أَعضاءِ جِسمِ الإِنسانِ الَّذي لا يُمكِنُ فَكُّ بَعضِها عنِ بَعضٍ.

فالَّذي يُمسِكُ زِمامَ عُنصُرٍ واحِدٍ في الوُجُودِ، إنْ لم يَكُن زِمامُ جَمِيعِ العَناصِرِ بِيَدِه لا يَستَطِيعُ أن يُسَيطِرَ على ذلك العُنصُرِ الواحِدِ أَيضًا.. إِذًا فـ”التَّعاوُنُ” و”التَّسانُدُ” و”التَّجاوُبُ” و”التَّعانُقُ” الواضِحةُ على وَجهِ الكَونِ، إنَّما هي أَختامٌ كُبرَى وبَصَماتٌ ساطِعةٌ لِلتَّوحِيدِ.

[الختم الثاني: خاتَم الأحدية]

الخَتمُ الثّاني: إنَّ التَّجَلِّيَ الباهِرَ لِاسمِ اللهِ “الفَرْدِ” يَجعَلُنا نُشاهِدُ -على وَجهِ الأَرضِ ولا سِيَّما في الرَّبِيعِ- خَتمًا لامِعًا لِلأَحَدِيّةِ، وآيةً جَلِيّةً لِلوَحدانيّةِ بحَيثُ إنَّ مَن لا يُدِيرُ جَمِيعَ الأَحياءِ على وَجهِ الأَرضِ كُلِّها بأَفرادِها وأَحوالِها وشُؤُونِها كافّةً، والَّذي لا يَرَى ولا يَخلُقُ ولا يَعلَمُ جَمِيعَها معًا، لا يُمكِنُ أن يكُونَ له تَدَخُّلٌ في أيِّ شَيءٍ مِن حَيثُ الإِيجادُ.

فلنُوَضِّحْ هذا الخَتمَ:

تَأمَّلْ في هذه البُسُطِ المَفرُوشةِ على الأَرضِ الَّتي لُحْمَتُها وسَداها مِئَتا أَلفِ طائِفةٍ ونَوعٍ مِن أَنواعِ الحَيَواناتِ وطَوائِفِ النَّباتاتِ بأَفرادِها المُتَنوِّعةِ الَّتي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، والَّتي تُضفِي الزِّينةَ وتَنثُرُ البَهجةَ على نَسِيجِ الحَياةِ على سَطحِ الأَرضِ -وبخاصّةٍ في الرَّبِيعِ- تَأمَّلْها جَيِّدًا وأَدِمِ النَّظَرَ فيها، فإنَّها معَ اختِلافِ أَشكالِها، وتَبايُنِ وَظائِفِها، واختِلافِ أَرزاقِها وتَنَوُّعِ أَجهِزَتِها، وامتِزاجِ بَعضِها ببَعضٍ تُشاهِدُ أنَّ رِزقَ كلِّ ذِي حَياةٍ يَأتِيه رَغَدًا مِن كلِّ مَكانٍ ومِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ، بلا سَهوٍ ولا نِسيانٍ، بلا انشِغالٍ ولا ارتِباكٍ، بلا خَطَأٍ ولا التِباسٍ.. فيُعطَى بمِيزانٍ دَقِيقٍ حَسّاسٍ كلَّ ما يَحتاجُه الفَردُ، في وَقتِه المُناسِبِ، مِن دُونِ تكَلُّفٍ ولا تَكلِيفٍ، معَ تَميِيزٍ لِكُلٍّ مِنها، وهُو يَمُوجُ في هذا الِامتِزاجِ الهائِلِ وفي هذا الخِضَمِّ مِنَ المَوجُوداتِ المُتَداخِلةِ، فَضْلًا عمّا يُخَبِّئُ باطِنُ الأَرضِ مِن آياتِ التَّوحِيدِ الرّائِعةِ المُتَلمِّعةِ مِنِ انتِظامِ المَعادِنِ والعَناصِرِ الجامِدةِ.

لِذا فإنَّ هذا “التَّدبِيرَ والإِدارةَ” المُشاهَدَ في هذا الأَمرِ الدّائِبِ على وَجهِ الأَرضِ وباطِنِها إنَّما هو آيةٌ ساطِعةٌ لِلأَحَدِيّةِ، وخَتمٌ واضِحٌ لِلوَحدانيّةِ، بحَيثُ إنَّ مَن لم يَكُن خالِقًا لِجَمِيعِ تلك المَوجُوداتِ مِنَ العَدَمِ، ومُدَبِّرًا لِجَمِيعِ شُؤُونِها في آنٍ واحِدٍ، لا يَقدِرُ على التَّدَخُّلِ -مِن حَيثُ الرُّبُوبيّةُ والإِيجادُ- في شَيءٍ مِنها، لِأنَّه لو تَدَخَّلَ لَأَفسَدَ تلك الإِدارةَ المُتَوازِنةَ الواسِعةَ.. إلّا ما يُؤَدِّيه الإِنسانُ مِن وَظِيفةٍ ظاهِرِيّةٍ -بإِذنٍ إِلٰهِيٍّ أَيضًا- لِحُسنِ سَيرِ تلك القَوانينِ الرَّبّانيّةِ.

[الختم الثالث: خاتَم التوحيد]

الخَتمُ الثَّالثُ: في وَجهِ الإنسانِ:

إنَّ شِعارَ التَّوحِيدِ وخَتمَه واضِحٌ وُضُوحًا بَيِّنًا لِكُلِّ مَن يَتَأمَّلُ وَجهَ أيِّ إِنسانٍ كانَ، وذلك أنَّ لِكُلِّ إِنسانٍ عَلامةً فارِقةً في وَجهِه تُمَيِّزُه عن غَيرِه.. فالَّذي لا يَستَطِيعُ أن يَضَع تلك العَلاماتِ في كلِّ وَجهٍ، ولا يكُونُ مُطَّلِعًا على جَمِيعِ الوُجُوهِ السّابِقةِ واللّاحِقةِ مُنذُ آدَمَ عَلَيهِ السَّلَام إلى يَومِ القِيامةِ، لا يُمكِنُه أن يَمُدَّ يَدَه مِن حَيثُ الخَلقُ والإِيجادُ لِيَضَعَ تلك الفَوارِقَ المُمَيِّزةَ الهائِلةَ في ذلك الوَجهِ الصَّغِيرِ لِإنسانٍ واحِدٍ.

نعم، إنَّ الَّذي وَضَع في وَجهِ الإِنسانِ ذلك الطّابَعَ المُمَيِّـزَ وتلك الآيةَ الجَلِيّةَ بتلك العَلاماتِ الفاِرقةِ، لا بُدَّ أنَّ أَفرادَ البَشَرِ كافّةً هم تحتَ نَظَرِه وشُهُودِه، وضِمنَ دائِرةِ عِلمِه حتَّى يَضَعَ ذلك الخَتمَ للتَّوحِيدِ في ذلك الوَجهِ، بحَيثُ إنَّه معَ التَّشابُهِ الظّاهِرِ بينَ الأَعضاءِ الأَساسِ -كالعُيُونِ والأُنُوفِ وغَيرِها مِنَ الأَعضاءِ- لا تَتَشابَهُ تَشابُهًا تامًّا، بسَبَبِ عَلاماتٍ فارِقةٍ في كلٍّ مِنها؛ فكَما أنَّ تَشابُهَ الأَعضاءِ -مِن عُيُونٍ وأُنُوفٍ- في وُجُوهِ البَشَرِ كافّةً دَلِيلٌ قاطِعٌ على وَحدانيّةِ خالِقِ البَشَرِ سُبحانَه وتَعالَى، كَذلِك فإنَّ العَلاماتِ الفارِقةَ المَوضُوعةَ على كلِّ وَجهٍ -لِصِيانةِ حُقُوقِ كلِّ فَردٍ في المُجتَمَعِ، ولِمَنعِ الِالتِباسِ، ولِلتَّميِيزِ، ولِحِكَم أُخرَى كَثِيرةٍ- هي الأُخرَى دَلِيلٌ واضِحٌ على الإِرادةِ المُطلَقةِ والمَشِيئةِ الكامِلةِ لِذلِك الخالِقِ الواحِدِ سُبحانَه وتَعالَى، وآيةٌ بَدِيعةٌ جَلِيّةٌ أَيضًا لِلأَحَدِيّةِ، بحَيثُ إنَّ مَن لا يَقدِرُ على خلَقِ جَمِيعِ البَشَرِ والحَيَواناتِ والنَّباتاتِ بل جَمِيعِ الكَونِ لا يُمكِنُه أن يَضَع تلك السِّمةَ المُمَيِّزةَ في أَحَدٍ.

[الإشارة الثانية: الموجودات معًا كلٌّ لا يقبل التجزئة]

الإشارةُ الثَّانية:‌

إنَّ عَوالِمَ الكائِناتِ المُختَلِفةَ وأَنواعَها المُتَنوِّعةَ وعَناصِرَها المُتَبايِنةَ قدِ اندَمَجَتِ اندِماجًا كُلِّـيًّا وتَداخَلَ بَعضُها معَ بَعضٍ، بحَيثُ إنَّ مَن لم يكُن مالِكًا لِجَمِيعِ الكَونِ لا يُمكِنُه أن يَتَصرَّفَ بنَوعٍ مِنه أو عُنصُرٍ فيه تَصَرُّفًا حَقِيقيًّا، لِأنَّ تَجَلِّيَ نُورِ التَّوحِيدِ لِاسمِ اللهِ “الفَرْدِ” قد أَضاءَ أَرجاءَ الكَونِ كُلِّه، فضَمَّ أَجزاءَها كافّةً في وَحدةٍ مُتَّحِدةٍ، وجَعَل كلَّ جُزءٍ مِنه يُعلِنُ تلك الوَحدانيّةَ.

فمَثلًا: كما أنَّ كَونَ الشَّمسِ مِصباحًا واحِدًا لِهذه الكائِناتِ يُشِيرُ إلى أنَّ الكائِناتِ بأَجمَعِها مُلكٌ لِواحِدٍ، فإنَّ كَونَ الهَواءِ هَواءً واحِدًا يَسعَى لِخِدمةِ الأَحياءِ كلِّها، وكَونَ النّارِ نارًا واحِدةً تُوقَدُ بها الحاجاتُ كلُّها، وكَونَ السَّحابِ واحِدًا يَسقِي الأَرضَ، وكَونَ الأَمطارِ واحِدةً تَأتِي لِإغاثةِ الأَحياءِ كافّةً، وانتِشارَ أَغلَبِ الأَحياءِ مِن نباتاتٍ وحَيَواناتٍ انتِشارًا طَلِيقًا في أَرجاءِ الأَرضِ كافّةً معَ وَحدةِ نَوعِيَّتِها، ووَحدةِ مَسكَنِها.. كلُّ ذلك إِشاراتٌ قاطِعةٌ وشَهاداتٌ صادِقةٌ على أنَّ تلك المَوجُوداتِ ومَساكِنَها ومَواضِعَها إنَّما هي مُلكٌ لِمالِكٍ واحِدٍ أَحَدٍ.

ففي ضَوءِ هذا وقِياسًا علَيْه نَرَى أنَّ تَداخُلَ الأَنواعِ المُختَلِفةِ لِلكائِناتِ واندِماجَها الشَّدِيدَ ببَعضِها قد جَعَل مَجمُوعَها بمَثابةِ كلٍّ واحِدٍ لا يَقبَلُ التَّجزِئةَ قَطعًا مِن حَيثُ الإِيجادُ؛ فالَّذي لا يَستَطِيعُ أن يُنفِذَ حُكمَه على جَمِيعِ الكَونِ لا يُمكِنُه -مِن حَيثُ الخَلقُ والرُّبُوبيّةُ- أن يُخضِعَ لِرُبُوبيَّتِه أيَّ شَيءٍ فيه، حتَّى لو كانَ ذلك الشَّيءُ ذَرّةً أو أَصغَرَ مِنها.

[الإشارة الثالثة: الكون مكاتيب صمدانية]

الإشارةُ الثَّالثة:‌

لقد تَحَوَّل الكَونُ كلُّه بالتَّجَلِّي الأَعظَمِ لِاسمِ اللهِ “الفَرْدِ” إلى ما يُشبِهُ رَسائِلَ صَمَدانيّةٍ ومَكاتِيبَ رَبّانيّةٍ مُتَداخِلٍ بَعضُها في بَعضٍ، تَزخَرُ كلُّ رِسالةٍ مِنها بآياتِ الوَحدانيّةِ وأَختامِ التَّوحِيدِ، وتَحمِلُ كلُّ رِسالةٍ بَصَماتِ الأَحَدِيّةِ بعَدَدِ كَلِماتِها، بل إنَّ كلَّ كَلِمةٍ فيها تُفصِحُ عن وَحدانيّةِ كاتِبِها، إذ كما يَدُلُّ الخَتمُ أوِ التَّوقِيعُ في الرِّسالةِ على كاتِبِها، فإنَّ كلَّ زَهرةٍ وكلَّ ثَمَرةٍ، وكلَّ عُشبٍ، وكلَّ حَيَوانٍ، وكلَّ شَجَرٍ، إنَّما يُمثِّلُ خَتمَ الأَحَدِيّةِ وطُغْراءَ الصَّمَدانيّةِ وكأنَّها أَختامٌ لِمَواضِعِها الَّتي تَتَّخِذُ هَيئةَ الرَّسائِلِ فتُبيِّنُ كاتِبَها.

فزَهرةٌ صَفراءُ -مَثلًا- في حَدِيقةٍ مّا، هذه الزَّهرةُ هي بمَثابةِ خَتمٍ يَدُلُّ بوُضُوحٍ على مُصَوِّرِ الحَدِيقةِ، فمَن كانَ مالِكًا لِذلِك الخَتمِ -الزَّهرةِ- فهُو مالِكٌ لِجَمِيعِ أَنواعِ تلك الزَّهرةِ ومَثِيلاتِها المَبثُوثةِ على الأَرضِ كافّةً، ويَدُلُّ أَيضًا على أنَّ تلك الحَدِيقةَ كِتابتُه؛ أي إنَّ كلَّ شَيءٍ يُسنِدُ جَمِيعَ الأَشياءِ إلى خالِقِه ويُشِيرُ إلى تَجَلٍّ باهِرٍ عَظِيمٍ لِوَحدانيَّتِه سُبحانَه.

[الإشارة الرابعة: تجلي اسم “الفرد” ظاهر كالشمس]

الإشارةُ الرّابعة:‌

لقد أَوضَحَت “رَسائِلُ النُّورِ” في أَجزائِها الكَثِيرةِ ببَراهِينَ مُتَعدِّدةٍ أنَّ التَّجَلِّيَ الأَعظَمَ لِاسمِ اللهِ “الفَرْدِ” معَ أنَّه واضِحٌ وُضُوحَ الشَّمسِ، فهُو مَقبُولٌ في الأَعماقِ إلى حَدِّ السُّهُولةِ المُطلَقةِ، وهُو مُستَساغٌ عَقلًا ومَنطِقًا إلى حَدِّ الوُجُوبِ والبَداهةِ؛ وبعَكسِه الشِّركُ المُنافِي لِذلِك التَّجَلِّي، فهُو مُعَقَّدٌ إلى أَقصَى حُدُودِ التَّعقِيدِ، وغَيرُ مَنطِقِيٍّ إِطلاقًا، وهُو بَعِيدٌ جِدًّا عنِ المَعقُولِ إلى حَدِّ المُحالِ والِامتِناعِ.

سنُبيِّنُ هنا ثَلاثَ نِقاطٍ مِن تلك الأَدِلّةِ فقط، ونُحِيلُ تَفاصِيلَها إلى الرَّسائِلِ الأُخرَى.

[النقطة الأولى: بالوحدانية يكون الانتساب]

النُّقطةُ الأُولَى: لقد أَثبَتْنا ببَراهِينَ قاطِعةٍ في خِتامِ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” وخِتامِ “الكَلِمةِ التّاسِعةِ والعِشرِينَ” إِثباتًا مُجمَلًا، وفي خِتامِ “المَكتُوبِ العِشرِينَ” مُفَصَّلًا أنَّه مِنَ السُّهُولةِ واليُسرِ على قُدرةِ “الأَحَدِ الفَردِ” سُبحانَه، خَلْقُ أَعظَمِ جِرمٍ، وخَلقُ أَصغَرِ شَيءٍ على حَدٍّ سَواءٍ، فهُو سُبحانَه يَخلُقُ الرَّبِيعَ الشّاسِعَ بيُسرِ خَلقِ زَهرةٍ واحِدةٍ، ويُحدِثُ في كلِّ رَبِيعٍ بسُهُولةٍ بالِغةٍ آلافًا مِن نَماذِجِ الحَشرِ والنُّشُورِ -كما هو مُشاهَدٌ- ويَرعَى ويُدِيرُ شَجَرةً ضَخْمةً باسِقةً بيُسرِ رِعايَتِه وإِدارَتِه فاكِهةً صَغِيرةً.. فلو أُسنِد أيٌّ مِن ذلك إلى الأَسبابِ المُتَعدِّدةِ، لَأَصبَحَ في خَلْقِ كلِّ زَهرةٍ فيه مِنَ المُشكِلاتِ ما لِلرَّبِيعِ الشّاسِعِ، وخَلْقِ كلِّ ثَمَرةٍ فيه مِنَ الصُّعُوباتِ ما لِلشَّجَرةِ الباسِقةِ.

نعم، إِنَّ تَجهِيزَ جَيشٍ بأَكمَلِه بالمُؤَنِ والعَتادِ بأَمرٍ إِن صَدَرَ مِن قائِدٍ واحِدٍ، مِن مَصدَرٍ واحِدٍ، يَكُونُ سَهلًا وبَسِيطًا كتَجهِيزِ جُندِيٍّ واحِدٍ، بَينَما يكُونُ صَعبًا بل مُمتَنِعًا إِن جُهِّزَ كلُّ جُندِيٍّ مِن مَعامِلَ مُتَفرِّقةٍ وتَلَقَّى الأَوامِرَ مِن إِداراتٍ مُتَعدِّدةٍ كَثِيرةٍ، إذ عِندَئِذٍ يَحتاجُ كلُّ جُندِيٍّ إلى مَعامِلَ بِقَدْرِ أَفرادِ الجَيشِ بأَكمَلِه!!

فكما أنَّ الأَمرَ يَسهُلُ بالوَحدةِ ويَصعُبُ بالكَثرةِ هكذا، كَذلِك إذا أُسنِد الخَلقُ والإِيجادُ إلى “الفَرْدِ الأَحَدِ” جَلَّ وعَلا، فإنَّ خَلقَ أَفرادٍ غَيرِ مَحدُودةٍ لِنَوعٍ واحِدٍ يكُونُ سَهلًا كخَلقِ فَردٍ واحِدٍ، بَينَما لو أُسنِدَ إلى الأَسبابِ، فإنَّ خَلقَ كلِّ فَردٍ يكُونُ مُعضِلًا وصَعبًا كخَلقِ النَّوعِ الواسِعِ الكَثِيرِ.

أَجَل، إنَّ الوَحْدانيّةَ والتَّفرُّدَ تَجعَلُ كلَّ شَيءٍ مُنتَسِبًا ومُستَنِدًا إلى الذّاتِ الإِلٰهِيّةِ الواحِدةِ، ويُصبِحُ هذا الِانتِسابُ والِاستِنادُ قُوّةً لا حَدَّ لها لِذلِك الشَّيءِ، حتَّى يُمكِنُه أن يُنجِزَ مِنَ الأَعمالِ الجَسِيمةِ، ويُوَلِّدَ مِنَ النَّتائِجِ العَظِيمةِ ما يَفُوقُ قُوَّتَه الذّاتيّةَ أُلُوفَ المَرّاتِ مُعتَمِدًا على سِرِّ ذلك الِاستِنادِ والِانتِسابِ.. أمّا الَّذي لا يَستَنِدُ ولا يَنتَسِبُ إلى صاحِبِ تلك القُوّةِ العُظمَى ومالِكِها “الفَردِ الأَحَدِ” فسيُنجِزُ مِنَ الأَعمالِ ما تَتَحمَّلُه قُوَّتُه الذّاتيّةُ المَحدُودةُ جِدًّا، وتَنحَسِرُ نَتائِجُه تَبَعًا لِذلِك.

فمَثلًا: إنَّ الَّذي انتَسَب إلى قائِدٍ عَظِيمٍ واستَنَد إلَيْه بصِفةِ الجُندِيّةِ، يُصبِحُ له هذا الِانتِسابُ والِاستِنادُ بمَثابةِ قُوّةٍ مُمِدّةٍ لا تَنفَدُ، فلا يُضطَرُّ إلى حَملِ ذَخِيرَتِه وعَتادِه مَعَه، لِذا قد يُقدِمَ على أَسرِ قائِدِ جَيشِ العَدُوِّ المَغلُوبِ معَ آلافٍ مِمَّن مَعَه؛ بَينَما السّائِبُ الَّذي لم يَنخَرِط في الجُندِيّةِ، مُضطَرٌّ إلى حَملِ ذَخِيرَته وعَتادِه مَعَه، ومَهْما بَلَغ مِنَ الشَّجاعةِ فلا يَستَطِيعُ أن يُقاوِمَ بتلك القُوّةِ إلّا بِضعةَ أَفرادٍ مِنَ العَدُوِّ، وقد لا يَثبُتُ أَمامَهُم إلّا لِبُرهٍة قَلِيلةٍ.

ومِن هنا نَرَى أنَّ قُوّةَ الِاستِنادِ والِانتِسابِ -الَّتي في الفَردِيّةِ والوَحدانيّةِ- تَجعَلُ النَّملةَ الصَّغِيرةَ تُقدِمُ على إِهلاكِ فِرعَونٍ عَنِيدٍ، وتَجعَلُ البَعُوضةَ الرَّقيقةَ تُجهِزُ على نُمرُودٍ طاغِيةٍ، وتَجعَلُ المَيكرُوبَ البَسِيطَ يُدَمِّرُ باغِيًا أَثِيمًا.. كما تُمِدُّ البِذْرةَ الصَّغِيرةَ لِتَحمِلَ على ظَهرِها شَجَرةَ صَنَوبَرٍ باسِقةً شاهِقةً.. كلُّ ذلك بِقُوّةِ ذلك الِانتِسابِ وبسِرِّ ذلك الِاستِنادِ.

نعم، إنَّ قائِدًا عَظِيمًا شَهْمًا يَستَطِيعُ أن يَستَنفِرَ جَمِيعَ جُنُودِه ويَحشُدَهُم لِإنقاذِ جُندِيٍّ واحِدٍ وإِمدادِه، والجُندِيُّ بدَورِه يَستَشعِرُ كأنَّ جَيشًا جَرّارًا يُسنِدُه ويَمُدُّه بقُوّةٍ مَعنَوِيّةٍ عالِيةٍ حتَّى تُمَكِّنَه مِن أن يَنهَضَ بأَعمالٍ جِسامٍ بِاسمِ القائِدِ؛ فاللهُ سُبحانَه وتَعالَى ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ لِأنَّه فَردٌ واحِدٌ أَحَدٌ، يَستَنفِرُ المَوجُوداتِ كلَّها لِإِمدادِ كُلِّ شَيءٍ وإِسنادِه -إِنِ افتُرِضَتِ الحاجةُ، والحالُ أنَّه لا احتِياجَ- ويَحشُدُ سُبحانَه الكَونَ كلَّه لِأَجلِه، ويَستَنِدُ كلُّ شَيءٍ إلى قُوّةٍ عَظِيمةٍ هائِلةٍ تَملِكُ مَقالِيدَ الكَونِ بأَسرِه، ويَغدُو كُلُّ شَيءٍ في حُكمِ قُوّةِ ذلك السُّلطانِ الفَردِ تِجاهَ أَيِّ شَيءٍ كانَ، إِنِ افتُرِضَتِ الحاجةُ لِذَلِك.

فلَوْلا “الفَردِيّةُ” لَفَقَد كلُّ شَيءٍ هذه القُوّةَ الجَبّارةَ، ولَسَقَط إلى العَدَمِ وتَلاشَت نَتائِجُه؛ فما تَراه مِن ظُهُورِ نَتائِجَ عَظِيمةٍ هائِلةٍ مِن أَشياءَ بَسِيطةٍ تافِهةٍ، تُرشِدُنا بالبَداهةِ إلى الفَردِيّةِ والأَحَدِيّةِ؛ ولَوْلاها لَبَقِيَت نَتائِجُ كلِّ شَيءٍ وثِمارُه مُنحَصِرةً في قُوَّتِه ومادَّتِه الضَّئِيلةِ، وتَصغُرُ عِندَئذٍ النَّتائِجُ بل تَزُولُ.. ألا تَرَى الأَشياءَ الثَّمِينةَ النَّفِيسةَ كالفَواكِهِ والخُضَرِ وغَيرِها مَبذُولةً ومُتَوافِرةً أَمامنا؟ ما ذلك إلّا بسِرِّ الفَردِيّةِ والأَحَدِيّةِ، فلَوْلا “الفَردِيّةُ” لَمَا كُنّا نُحَصِّلُ بآلافِ الدَّراهِمِ ما نُحَصِّلُه اليَومَ مِن بِطِّيخٍ أو رُمّانٍ بدَراهِمَ مَعدُودةٍ.. فكُلُّ ما نُشاهِدُه مِن بَساطةِ الأُمُورِ والأَشياءِ وسُهُولَتِها ورُخْصِها وتَوَفُّرِها إنَّما هي مِن نَتائِجِ الوَحدانيّةِ وتَشهَدُ بالفَردِيّةِ.

[النقطة الثانية: بالوحدانية يكون الإبداع]

النُّقطةُ الثّانية: إنَّ المَوجُوداتِ تُخلَقُ وتَظهَرُ إلى الوُجُودِ بوَجهَينِ:

الأوَّل: الخَلقُ مِنَ العَدَمِ، وهُو ما يُعَبَّرُ عنه بـ”الإِبداعِ والِاختِراعِ“.

الثّاني: إِنشاؤُها مِن عَناصِرَ مَوجُودةٍ، وتَركِيبُها ومَنحُ الوُجُودِ لها مِن أَشياءَ حاضِرةٍ، أي: بـ”التَّركِيبِ والإِنشاءِ“.

فإذا نَظَرْنا إلى المَوجُوداتِ مِن زاوِيةِ سِرِّ الأَحَدِيّةِ وتَجَلِّي الفَردِيّةِ، نَرَى أنَّ خَلْقَها وإِيجادَها يكُونُ سَهلًا وهَيِّنًا إلى حَدِّ الوُجُوبِ والبَداهةِ، بَينَما إن لم يُفوَّض أَمرُ الخَلقِ والإِيجادِ إلى الفَردِيّةِ والوَحدانيّةِ، فستَتَعقَّدُ الأُمُورُ وتَتَشابَكُ، وتَظهَرُ أُمُورٌ غَيرُ مَعقُولةٍ وغَيرُ مَنطِقِيّةٍ إلى حَدِّ المُحالِ والِامتِناعِ؛ وحَيثُ إنَّنا نَرَى المَوجُوداتِ قاطِبةً تَظهَرُ إلى الوُجُودِ مِن دُونِ صُعُوبةٍ وتَكَلُّفٍ، ومِن غَيرِ عَناءٍ، وعلى أَتَمِّ صُورةٍ وكَيفِيّةٍ، يَثبُتُ لنا بَداهةً إِذًا تَجَلِّي الفَردِيّةِ، ويَتَبيَّنُ لنا أنَّ كلَّ شَيءٍ في الوُجُودِ إنَّما هو مِن إِبداعِ “الأَحَدِ الفَرْدِ” ذِي الجَلالِ والإِكرامِ.

نعم، إنْ أُسنِدَ أَمرُ الخَلقِ إلى “الفَردِ الواحِدِ الأَحَدِ” يَخلُقُ كلَّ شَيءٍ مِنَ العَدَمِ بِسُهُولةٍ ويُسْرٍ كلَمْحِ البَصَرِ، وبقُدرَتِه المُطلَقةِ العَظِيمةِ بآثارِها المَشهُودةِ؛ ويُقدِّرُ لِكُلِّ شَيءٍ بعِلمِه المُحِيطِ المُطلَقِ ما يُشبِهُ قَوالِبَ مَعنَوِيّةً وتَصامِيمَ غَيبِيّةً.. فكُلُّ شَيءٍ عِندَه بمِقْدارٍ.

فكما أنَّ الجُنُودَ المُطِيعِينَ في الجَيشِ المُنَظَّمِ يُساقُونَ لِأَخذِ مَواضِعِهِم بأَمرٍ مِنَ القائِدِ وحَسَبَ خُطَّتِه المَوضُوعةِ في عِلمِه، كَذلِك الذَّرّاتُ المُطِيعةُ لِلأَوامِرِ الرَّبّانيّةِ فإنَّها تُساقُ بالقُدرةِ الرَّبّانيّةِ -بكُلِّ سُهُولةٍ ويُسْرٍ- لِتَأخُذَ مَواقِعَها وتُحافِظَ علَيْها حَسَبَ تَصمِيمٍ مَوجُودٍ، وصُورةٍ مَوجُودةٍ، في مِرآةِ العِلمِ الإِلٰهِيِّ الأَزَليِّ؛ حتَّى لو لَزِمَ جَمعُ الذَّرّاتِ مِنَ الأَنحاءِ المُختَلِفةِ، فإنَّ جَمِيعَ الذَّرّاتِ المُرتَبِطةِ بقانُونِ العِلمِ الإِلٰهِيِّ المُحِيطِ، والمَوثُوقةِ الصِّلةِ بدَساتِيرِ القُدرةِ الإِلٰهِيّةِ، تُصبِحُ بمَثابةِ الجُنُودِ المُنقادِينَ في الجَيشِ المُنَظَّمِ، فتَأتِي مُسرِعةً بذلك القانُونِ وبسَوقِ القُدرةِ لِأَخذِ مَواقِعِها في ذلك القالَبِ العِلمِيِّ والمِقدارِ القَدَرِيِّ المُحِيطَينِ بوُجُودِ ذلك الشَّيءِ.

بل كما تَظهَرُ الصُّورةُ المِثاليّةُ المُتَمثِّلةُ في المِرآةِ على الوَرَقةِ الحَسّاسةِ في آلةِ التَّصوِيرِ، وتَلبَسُ وُجُودًا مَحسُوسًا خارِجِيًّا؛ وكما تَظهَرُ وتُشاهَدُ الكِتابةُ المَخفِيّةُ السِّرِّيّةُ بإِمرارِ مادّةٍ كِيماوِيّةٍ علَيْها.. كَذلِك الأَمرُ في صُورةِ جَمِيعِ المَوجُوداتِ، وماهِيّةِ جَمِيعِ الأَشياءِ المَوجُودةِ في مِرآةِ العِلمِ الأَزَلِيِّ لِلفَردِ الأَحَدِ، فإنَّ القُدرةَ الإِلٰهِيّةَ المُطلَقةَ تُلبِسُها -بكلِّ سُهُولةٍ ويُسْرٍ- وُجُودًا خارِجِيًّا مَحسُوسًا، فتَظهَرُ لِلعِيانِ في عالَمِ الشَّهادةِ، بعدَ أن كانَت في عالَمِ المَعنَى والغَيبِ.

ولكِن إن لم يُسنَد أَمرُ الخَلقِ إلى الفَردِ الأَحَدِ فعِندَئِذٍ يَلزَمُ لِخَلقِ ذُبابةٍ واحِدةٍ مَسحُ سَطحِ الأَرضِ وتَفتِيشُها وغَربَلةُ عَناصِرِها جَمِيعًا وذَرّاتِها المُعَيَّنةَ لِوُجُودٍ مُعَيَّنٍ ثمَّ وَزنُها بمِيزانٍ دَقِيقٍ حَسّاسٍ، لِوَضعِ كلِّ ذَرّةٍ في مَوضِعِها المُخَصَّصِ لها، حَسَبَ قَوالِبَ مادِّيّةٍ بعَدَدِ أَجهِزَتِها وأَعضائِها المُتقَنةِ، وذلك لِكَي يَأخُذَ كلُّ شَيءٍ مَكانَه اللّائِقَ به، فَضلًا عن جَلبِ المَشاعِرِ والأَحاسِيسِ الرُّوحِيّةِ الدَّقِيقةِ واللَّطائِفِ المَعنَوِيّةِ مِنَ العَوالِمِ المَعنَوِيّةِ والرُّوحِيّةِ بعدَ وَزنِها أَيضًا بمِيزانٍ دَقِيقٍ حَسَبَ حاجةِ الذُّبابةِ!!

ألا يكُونُ -بهذا الِاعتِبارِ- خَلقُ ذُبابةٍ واحِدةٍ صَعبًا مُمتَنِعًا كإِيجادِ جَمِيعِ الكائِناتِ؟! أَلَيسَ فيه الصُّعُوباتُ تِلْوَ الصُّعُوباتِ والمُحالاتُ ضِمنَ المُحالاتِ؟! ذلك أنَّه قدِ اتَّفَق جَمِيعُ أَهلِ الإِيمانِ والعِلمِ أنَّه لا يَخلُقُ مِنَ العَدَمِ إلّا الخالِقُ الفَردُ سُبحانَه وتَعالَى.. ولِهذا لو فُوِّضَ الأَمرُ إلى الأَسبابِ والطَّبِيعةِ لَاستَلزَمَ لِوُجُودِ شَيءٍ واحِدٍ الجَمعُ مِن أَكثَرِ الأَشياءِ.

[النقطة الثالثة: بالوحدانية تكون السهولة]

النُّقطةُ الثَّالثة: لقد أَوْرَدْنا أَمثِلةً كَثِيرةً في رَسائِلَ شَتَّى تُشِيرُ إلى أنَّ إِسنادَ الخَلقِ إلى “الفَردِ الواحِدِ الأَحَدِ” يَجعَلُ خَلقَ جَمِيعِ الأَشياءِ سَهلًا كالشَّيءِ الواحِدِ، وبعَكسِه إذا أُسنِدَ إلى الطَّبِيعةِ والأَسبابِ، فخَلقُ الشَّيءِ الواحِدِ يكُونُ صَعبًا مُمتَنِعًا كخَلقِ جَمِيعِ الأَشياءِ.

نَقتَصِرُ مِنها هنا على ثَلاثةِ أَمثِلةٍ فقط:

[مثال أول: القائد والجند]

المِثالُ الأوَّلُ: إذا أُحِيلَت إِدارةُ أَلفِ جُندِيٍّ إلى ضابِطٍ واحِدٍ، وأُحِيلَت إِدارةُ جُندِيٍّ واحِدٍ إلى عَشَرةِ ضُبّاطٍ، فإنَّ إِدارةَ هذا الجُندِيِّ تكُونُ ذاتَ مُشكِلاتٍ وصُعُوباتٍ بمِقدارِ عَشَرةِ أَضعافِ إِدارةِ تلك الفِرقةِ مِنَ الجُنُودِ، وذلك لِأنَّ الأُمَراءَ العَدِيدِينَ سيُعادِي بَعضُهُم بَعضًا، وستَتَعارَضُ أَوامِرُهُم حَتْمًا، فلا يَجِدُ ذلك الجُندِيُّ راحةً بينَ مُنازَعةِ أُمَرائِه.. بعَكسِه تَمامًا ذلك الضَّابِطُ الَّذي يُدِيرُ بأَوامِرِه فِرقةً كامِلةً مِنَ الجُنُودِ وكأنَّه يُدِيرُ جُندِيًّا واحِدًا، ويُنَفِّذُ خُطَّتَه وما يُرِيدُه مِنَ الفِرقةِ بتَدبِيرِه كلَّ شَيءٍ بسُهُولةٍ ويُسْرٍ، عِلْمًا أنَّ الوُصُولَ إلى هذه النَّتِيجةِ إذا تُرِك الأَمرُ إلى جُنُودٍ سائِبِينَ لا قادةَ لَهُم، لا يتَحَقَّقُ إلّا بشَكلٍ يَسِيرٍ وبَعدَ نِقاشاتٍ طَوِيلةٍ وبصُورةٍ ناقِصةٍ.

[مثال ثانٍ: البنَّاء والأحجار]

المِثالُ الثَّاني: إذا سُلِّم أَمرُ بِناءِ قُبّةِ جامِعِ “أَيا صُوفْيا” إلى بَنّاءٍ ماهِرٍ، فإنَّه يقُومُ به بكُلِّ سُهُولةٍ ويُسْرٍ، بَينَما إذا سُلِّم بِناؤُها إلى أَحجارِها، لَزِمَ أن يكُونَ كلُّ حَجَرٍ حاكِمًا مُطلَقًا على سائِرِ الأَحجارِ، ومَحكُومًا لها في الوَقتِ نَفسِه كي تَأخُذَ القُبّةُ المُعَلَّقةُ الشّامِخةُ شَكلَها! فبَينَما كانَ البَنّاءُ الماهِرُ يَصرِفُ جُهدًا قَلِيلًا -لِسُهُولةِ الأَمرِ لَدَيْه- يَصرِفُ الآنَ مِئاتٌ مِنَ البَنّائِينَ -الأَحجارِ- أَضعافَ أَضعافِ ذلك الجُهدِ، وبالكادِ يَحصُلُونَ على ذاتِ النَّتِيجةِ!!

[مثال ثالث: كرة الأرض]

المِثالُ الثَّالثُ: إنَّ الكُرةَ الأَرضِيّةَ مَأمُورةٌ ومُوَظَّفةٌ مِن لَدُنِ “الفَرْدِ الواحِدِ” سُبحانَه، وهِي كالجُندِيِّ المُطِيعِ للهِ الواحِدِ الأَحَدِ، فحِينَما تَستَلِمُ الأَمرَ الواحِدَ، الصّادِرَ مِن آمِرِها الأَحَدِ، تَهُبُّ مُنتَشِيةً بِأَمرِ مَوْلاها وتَنغَمِرُ في جَذَباتِ وَظِيفَتِها في شَوقٍ عارِمٍ، وتَدُورُ كالمُرِيدِ المَولَوِيِّ العاشِقِ -عِندَ قِيامِه لِلسَّماعِ- فتكُونُ وَسِيلةً لِحُصُولِ المَواسِمِ الأَربَعةِ، واختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ وظُهُورِ الحَرَكاتِ الرَّفِيعةِ العَظِيمةِ، والكَشفِ عن مَناظِرَ خَلّابةٍ لِقُبّةِ السَّماءِ المَهِيبةِ وتَبدِيلِها باستِمرارٍ كتَبَدُّلِ المَشاهِدِ السِّينِمائيّةِ.. وتكُونُ سَبَبًا لِحُصُولِ أَمثالِ هذه النَّتائِجِ الجَلِيلةِ، حتَّى لَكَأنَّ الأَرضَ هي القائِدُ لِتِلك المُناوَرةِ العَسكَرِيّةِ المَهِيبةِ بينَ نُجُومِ الكَونِ.

ولكِن إنْ لم يُسنَدِ الأَمرُ إلى “الفَردِ الأَحَدِ” الَّذي أَحاطَ بحاكِمِيّةِ أُلُوهِيَّتِه وسُلطانِ رُبُوبيَّتِه الكَونَ كُلَّه، والَّذي يَنفُذُ حُكمُه وأَمرُه في كلِّ صَغِيرةٍ وكَبِيرةٍ في الوُجُودِ، فعِندَئذٍ يَلزَمُ أن تَسِيرَ مَلايِينُ النُّجُومِ الَّتي تَكبُرُ الأَرضَ بأُلُوفِ المَرّاتِ في مَدارٍ أَكبَرَ وأَوسَعَ بمَلايِينِ المَرّاتِ مِن مَدارِ الأَرضِ كي تَظهَرَ تلك المُناوَرةُ السَّماوِيّةُ والأَرضِيّةُ وتلك النَّتائِجُ نَفسُها الَّتي تَتَولَّدُ مِن حَرَكَتَيِ الأَرضِ السَّنَوِيّةِ واليَومِيّةِ بكُلِّ سُهُولةٍ ويُسْرٍ.

وهكذا، فإنَّ حُصُولَ هذه النَّتائِجِ الجَلِيلةِ النّاشِئةِ مِن حَرَكَتَيِ الأَرضِ حَولَ مِحوَرِها ومَدارِها -حَرَكةً تُشبِهُ حَرَكاتِ المَوْلَوِيِّ العاشِقِ- يُظهِرُ لنا مَدَى السُّهُولةِ والفِطرِيّةِ والبَساطةِ في “الأَحَدِيّةِ والفَردِيّةِ”، ويُبيِّنُ لنا في الوَقتِ نَفسِه أنَّ طَرِيقَ الشِّركِ والكُفرِ كم هي مَملُوءةٌ بالمُحالاتِ الَّتي لا حَدَّ لها وبالأُمُورِ الباطِلةِ غَيرِ المَعقُولةِ.

وبَعدُ.. فانظُرْ إِلى عُبّادِ الأَسبابِ و المُتَشدِّقِينَ بالطَّبِيعةِ مِن خِلالِ هذا المِثالِ: إِنَّ الظَّنَّ أَنَّ صانِعًا يُعِدُّ بِصَنعَتِه الفائِقةِ تُرُوسَ مَصنَعٍ أو ساعةٍ، وأَركانَ قَصرٍ مَشِيدٍ، أو كِتابٍ رائِعٍ، بِصُورةٍ مُنتَظِمةٍ لِأَقصَى حَدٍّ، ثُمَّ لا يُرَكِّبُ هو بِنَفسِه الأَجزاءَ والتُّرُوسَ، ولا يُشَغِّلُها بِسُهُولةٍ، بل يَجعَلُ كُلَّ جُزءٍ وكُلَّ تُرسٍ مِنها حتَّى الوَرَقَ والقَلَمَ ماكِينةً بَدِيعةً بِنَفَقاتٍ طائِلةٍ، لِتَعمَلَ تلك الأَجزاءُ والتُّرُوسُ بِنَفسِها، وتَبنِيَ المَصنَعَ والقَصرَ، وتُرَكِّبَ السّاعةَ، وتَكتُبَ الكِتابَ، بَدَلًا عنِ الصّانِعِ، فيُحِيلُ إلى تلك الأَجزاءِ والتُّرُوسِ مَهارَتَه وصَنعَتَه اللَّتَينِ هُما وَسِيلَتانِ لِإظهارِ جَمِيعِ بَراعَتِه وكَمالاتِه الَّتي يَتُوقُ كَثِيرًا لِإشهارِها.. حِينَئذٍ تُدرِكُ كم هو جَهلٌ وبُعدٌ عنِ العَقلِ مِثلُ هذا الظَّنِّ!

فالَّذِينَ يُحِيلُونَ أَمرَ الخَلقِ والإِيجادِ في هذا الكَونِ البَدِيعِ إلى الأَسبابِ وإلى الطَّبِيعةِ يَهوُونَ في جَهلٍ مُرَكَّبٍ سَحِيقٍ كهذا، وذلك لِأنَّ مَظاهِرَ الإِبداعِ واضِحةٌ على الأَسبابِ والطَّبِيعةِ نَفسِها، فهِي مَخلُوقةٌ كسائِرِ المَخلُوقاتِ؛ فالَّذي خَلَقها -على هذه الصُّورةِ البَدِيعةِ- هو الَّذي يَخلُقُ آثارَها ونَتائِجَها أَيضًا، ويُظهِرُها معًا.. فالَّذي خَلَق البِذْرةَ هو الَّذي أَنشَأ علَيْها شَجَرَتَها، وهُو الَّذي يُخرِجُ أَثمارَها وأَزهارَها مِن أَكمامِها.. بَينَما إن لم يُسنَد خَلقُ الأَسبابِ والطَّبِيعةِ معَ آثارِهِما إلى “الواحِدِ الأَحَدِ”، يَلزَمْ لِوُجُودِ أَنواعِ الأَسبابِ وأَنماطِ الطَّبِيعةِ المُختَلِفةِ، أَنواعٌ مِنَ الأَسبابِ والطَّبِيعةِ المُنتَظِمةِ المُنَسَّقةِ المُختَلِفةِ.. وهكذا تَستَمِرُّ سِلسِلةٌ مَوهُومةٌ مُمتَنِعةٌ لا مَعنَى لها ولا نِهايةَ! وهذا مِن أَعجَبِ عَجائِبِ الجَهلِ وأَتعَسِه!!

[الإشارة الخامسة: الحاكمية تستلزم الانفراد]

الإشارةُ الخامسةُ:

لقد أَثبَتْنا في مَواضِعَ مُتَعدِّدةٍ مِنَ الرَّسائِلِ وببَراهِينَ دامِغةٍ أنَّ الِاستِقلالَ والِانفِرادَ مِن أَخَصِّ خَصائِصِ الحاكِمِيّةِ، حتَّى إنَّ هذا الإِنسانَ الَّذي هو عاجِزٌ عَجْزًا شَدِيدًا، ولا يَملِكُ مِنَ الحاكِمِيّةِ سِوَى ظِلٍّ باهِتٍ، نَراه يَرُدُّ بكُلِّ قُوّةٍ أيَّ فُضُولٍ كانَ مِنَ الآخَرِينَ، ويَرفُضُ بكُلِّ شِدّةٍ أيَّ تَدَخُّلٍ كانَ مِنهُم في شُؤُونِه، صَوْنًا مِنه لِاستِقلالِه وانفِرادِه في الأَمرِ.. بل ذُكِر في التّارِيخِ أنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّلاطِينِ قد سَفَكُوا دِماءً زَكِيّةً لِأَبنائِهِمُ الأَبرِياءِ وإِخوانِهِمُ الطَّيِّبِينَ حِينَما شَعَرُوا بتَدَخُّلٍ مِنهُم في شُؤُونِهِم.

إذًا، فالِاستِقلالُ والِانفِرادُ ورَفضُ مُداخَلةِ الآخَرِينَ هي مِن أَخَصِّ خَصائِصِ الحاكِمِيّةِ الحَقّةِ، لا فِكاكَ لها عنها، بل هي لازِمُها ومُقتَضاها الدّائِمُ؛ فالحاكِمِيّةُ الإِلٰهِيّةُ الَّتي هي بِدَرَجةِ الرُّبُوبِيّةِ المُطلَقةِ تَرُدُّ بكلِّ شِدّةٍ الشِّركَ والِاشتِراكَ مَهْما كانَ نَوعُه، ولا تَقبَلُ تَدَخُّلًا مِن سِواها قَطُّ؛ ومِن هنا نَرَى القُرآنَ الكَرِيمَ يُفِيضُ في بَيانِ التَّوحِيدِ الخالِصِ ويَرُدُّ الشِّركَ والمُشارَكةَ بأُسلُوبٍ شَدِيدٍ وبتَهدِيدٍ مُرَوِّعٍ.. فكما اقتَضَتِ الحاكِمِيّةُ الإِلٰهِيّةُ في الرُّبُوبيّةِ التَّوحِيدَ والوَحْدانيّةَ بقَطْعِيّةٍ تامّةٍ، وأَظهَرَت مُقتَضًى شَدِيدًا وداعِيًا قَوِيًّا لها، كَذلِك النِّظامُ المُتقَنُ والِانسِجامُ البَدِيعُ المُشاهَدانِ في الكَونِ -ابتِداءً مِنَ النُّجُومِ والنَّباتاتِ والحَيَواناتِ والأَرضِ والمَعادِنِ، وانتِهاءً بالجُزئيّاتِ والأَفرادِ والذَّرّاتِ- كلٌّ مِنهُما شاهِدُ عَدْلٍ، وبُرهانٌ باهِرٌ على تلك الوَحْدانيّةِ والفَردِيّةِ، فلا يُسمَحُ قَطُّ لِرِيبةٍ أو لِشُبهةٍ، إذ لو كانَ ثمّةَ تَدَخُّلٌ مِمّا سِوَى الواحِدِ الأَحَدِ، لَفَسَد هذا النِّظامُ البَدِيعُ الرَّصِينُ، واختَلَّ هذا التَّوازُنُ المُحكَمُ المُشاهَدُ في جَمِيعِ أَجزاءِ الكَونِ، فصَدَقَ اللهُ العَظِيمُ الَّذي قال: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾.

نعم، لو كانَ هُنالِك أيُّ تَدَخُّلٍ مَهْما كانَ لَظَهَرَت آثارُه بادِيةً، إلّا أنَّ الدَّعوةَ الصَّرِيحةَ في الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ تُرِيك هذا النِّظامَ البَدِيعَ بكُلِّ وُضُوحٍ وجَلاءٍ حتَّى لا تَرَى ثَغرةً ولا لَبْسًا ولا نَقْصًا في جِهةٍ مِنَ الجِهاتِ، ابتِداءً مِنَ الذَّرّاتِ إلى المَجَرّاتِ.

إذًا، فالنِّظامُ الرَّصِينُ في الكَونِ، والِانتِظامُ الرّائِعُ في المَخلُوقاتِ كافّةً، والمُوازَنةُ الدَّقِيقةُ بينَ المَوجُوداتِ.. تُظهِرُ لنا التَّجَلِّيَ الأَعظَمَ لِاسمِ الفَردِ، وتَشهَدُ شَهادةً واضِحةً على الوَحْدانيّةِ.

ثمَّ إنَّ أيَّ مَخلُوقٍ مَهْما كانَ صَغِيرًا، إنَّما هو مِثالٌ مُصَغَّرٌ لِلكَونِ كُلِّه ونَمُوذَجُه، وفِهرِسُه المُختَصَرُ، بمُقتَضَى تَجَلِّي الأَحَدِيّةِ؛ فلا يكُونُ مالِكًا لِذلِك المَخلُوقِ الحَيِّ الصَّغِيرِ إلّا مَن كانَ بِيَدِه زِمامُ الكَونِ كُلِّه وله الأَمرُ جَمِيعًا.. وحَيثُ إنَّ كلَّ بِذْرةٍ مُتَناهِيةٍ في الصِّغَرِ لَيسَت بأَقلَّ إِبداعًا في الخَلقِ مِن شَجَرةٍ ضَخْمةٍ، وكلَّ شَجَرةٍ باسِقةٍ تُضاهِي في خَلقِها خَلقَ الكائِناتِ، وكلَّ كائِنٍ حَيٍّ صَغِيرٍ إنَّما هو بحُكمِ عالَمٍ مُصَغَّرٍ وكَونٍ صَغِيرٍ، فإنَّ تَجَلِّيَ الأَحَدِيّةِ هذا يَجعَلُ الشِّركَ والِاشتِراكَ مُحالًا مُمتَنِعًا.

فهَذا الكَونُ في ضَوءِ هذا السِّرِّ -سِرِّ الأَحَدِيّةِ– ليس كُلًّا يَستَعصِي على التَّجزِئةِ وَحْدَها، بل أَيضًا هو كُلِّيٌّ مِن حَيثُ الماهِيّةُ، لا يَقبَلُ الِانقِسامَ والِاشتِراكَ والتَّجزِئةَ وتَدَخُّلَ الأَيدِي المُتَعدِّدةِ قَطُّ؛ فإنَّ كلَّ جُزءٍ فيه بحُكمِ جُزئِيٍّ وفَردٍ مِنه، وكلَّ الكَونِ هو بحُكمِ الكُلِّيِّ، فلَيسَ فيه مَوضِعٌ لِلِاشتِراكِ في أيّةِ جِهةٍ كانَت.

فهذا التَّجَلِّي الأَعظَمُ لِاسمِ “الفَرْدِ” يُثبِتُ حَقِيقةَ التَّوحِيدِ بهذا السِّرِّ لِلأَحَدِيَّةِ، بدَرَجةِ البَداهةِ.

نعم، كما أنَّ اندِماجَ أَنواعِ الكائِناتِ واندِغامَها فيما بَينَها، وتَوَجُّهَ وَظِيفةِ كلٍّ مِنها إلى عُمُومِ الكائِناتِ، مِثلَما يَجعَلُ الكَونَ كُلًّا واحِدًا يَستَعصِي على التَّجزِئةِ قَطعًا، مِن حَيثُ الخَلقُ والرُّبُوبيّةُ، كَذلِك الأَفعالُ العُمُومِيّةُ المُحِيطةُ بالكائِناتِ والَّتي تَظهَرُ آثارُها وفَعّاليّاتُها في الكائِناتِ عُمُومًا، تَجعَلُ الكَونَ أَيضًا كُلًّا واحِدًا -مِن حَيثُ تَداخُلُها ببَعضِها- حتَّى يَرفُضَ التَّجزِئةَ ويَرُدَّها رَدًّا قَوِيًّا.. ولِتَوضِيحِ ذلك نَسُوقُ المِثالَ الآتِيَ:

حالَما تُوهَبُ الحَياةُ لِلكائِنِ يَظهَرُ فِعلُ الإِعاشةِ والإِرزاقِ فيه مُباشَرةً، وضِمنَ أَفعالِ الإِعاشةِ والإِحياءِ هذه، يُشاهَدُ مُباشَرةً فِعلُ تَنظِيمِ جَسَدِ ذلك الكائِنِ وتَنسِيقِ أَعضائِه، وتَجهِيزِه بما يَحتاجُ.. وحِينَما تَظهَرُ أَفعالُ الإِعاشةِ والإِحياءِ والتَّنظِيمِ والتَّجهِيزِ يَفعَلُ التَّصوِيرُ والتَّربِيةُ والتَّدبِيرُ فِعلَه في الوَقتِ نَفسِه.. وهكذا.

فتَداخُلُ أَمثالِ هذه الأَفعالِ المُحِيطِ بَعضُها ببَعضٍ عامّةً، واتِّحادُها ببَعضِها، وامتِزاجُها كامتِزاجِ الأَلوانِ السَّبعةِ في الطَّيفِ الشَّمسِيِّ، ثمَّ إِحاطةُ كلِّ فِعلٍ مِن تلك الأَفعالِ وشُمُولُه -معَ وَحْدَتِه مِن حَيثُ الماهِيّةُ- لِلمَوجُوداتِ كلِّها في وَحْدةٍ واحِدةٍ، وكَونُ كلِّ فِعلٍ مِنها فِعلًا وَحْدانيًّا.. يَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على أنَّ فاعِلَه واحِدٌ أَحَدٌ فَرْدٌ..

وكما أنَّ استِيلاءَ كلِّ فِعلٍ -مِن تلك الأَفعالِ- وهَيمَنَتَه على الكائِناتِ قاطِبةً، واتِّحادَه معَ سائِرِ الأَفعالِ في تَعاوُنٍ وَثِيقٍ، يَجعَلُ الكَونَ كُلًّا غَيرَ قابِلٍ لِلتَّجزِئةِ.. كَذلِك فإنَّ كلَّ مَخلُوقٍ حَيٍّ مِن حَيثُ كَونُه بمَثابةِ بِذْرةِ الكَونِ وفِهرِسِه ونَمُوذَجِه يَجعَلُ الكَونَ كُلِّـيًّا غَيرَ قابِلٍ لِلِانقِسامِ والتَّجزِئةِ -مِن حَيثُ الرُّبُوبيّةُ- بل يَجعَلُ انقِسامَه مُحالًا وخارِجًا عنِ الإِمكانِ، أي إنَّ الكَونَ بهذا هو كُلٌّ لا يَتَجَزَّأُ، فلا يكُونُ إِذًا رَبُّ الجُزءِ إلّا مَن كانَ رَبًّا لِلكُلِّ، وهُو كُلِّيٌّ أَيضًا بحَيثُ يكُونُ كلُّ جُزءٍ مِنه بحُكمِ فَردٍ، فلا يكُونُ رَبًّا لِلفَردِ الواحِدِ إلّا مَن كانَ زِمامُ ذلك الكُلِّيِّ بِيَدِه.

[الإشارة السادسة: الإيمان بالوحدانية أمنٌ وسلوان]

الإشارةُ السَّادسةُ:

كما أنَّ الفَردِيّةَ الرَّبّانِيّةَ والوَحْدةَ الإِلٰهِيّةَ هي أَساسُ جَمِيعِ الكَمالاتِ3حتَّى إنَّ التَّوحيدَ هو نَفسُه أَوضَحُ بُرهانٍ، وأَسطَعُ دليلٍ على الكَمالِ والجَمالِ الإِلٰهِيِّ، لِأنَّه إذا عُرِف أنَّ صانِعَ الكَونِ واحدٌ أَحَدٌ، فستُعرَفُ جَمِيعُ أَنواعِ الكَمالِ والجَمالِ المُشاهَدةِ في الوُجُودِ، بأنَّها ظِلالٌ وتَجَلِّياتٌ وعَلاماتٌ لِأنواعِ الكَمالِ المُقدَّسِ وأَنماطِ الجَمالِ المُنزَّهِ لذلك الصَّانِع الواحِدِ الأَحَدِ لذلك الكَمالِ المُقدَّسِ والجَمالِ المُنزَّه، بينما إذا لم يُعرَفِ الصّانِعُ الواحِدُ، فستُحالُ تلك الكمالاتُ وأنواعُ الجَمالِ إلى الأسبابِ التي لا شُعُورَ لها وإلى مَخلُوقاتٍ عاجِزةٍ، وعِندَها يَحارُ العَقلُ البَشَرِيُّ أمامَ خَزائِنِ الكَمالِ والجَمالِ السَّرمَدِيَّينِ، لِأنَّه فَقَدَ مِفتاحَ تلك الكُنُوزِ الخالِدةِ. ومَنشَأُ المَقاصِدِ السّامِيةِ، ومَنبَعُ الحِكَمِ المُودَعةِ في خَلقِ الكَونِ، كَذلِك هي المَنبَعُ الأَصلِيُّ والوَسِيلةُ الوَحِيدةُ لِحُصُولِ رَغَباتِ كُلِّ ذِي شُعُورٍ وذِي عَقلٍ ولا سِيَّما الإِنسانِ، فلَوْلا “الفَردِيّةُ” لَانطَفَأَت شُعلةُ رَغَباتِه ومَطالِبِه كلِّها، وانمَحَت جَمِيعُ الحِكَمِ المُودَعةِ في خَلقِ الكَونِ، وتَلاشَت أَكثَرُ الكَمالاتِ المَوجُودةِ والثّابِتةِ وانعَدَمَت.

فمَثلًا: إنَّ رَغبةَ حُبِّ البَقاءِ بل عِشقَه، عَمِيقةٌ في الإِنسانِ.. هذه الرَّغبةُ العَرِيقةُ لا يُحَقِّقُها ولا يُسَكِّنُها ويُطَمْئِنُها إلّا مَن هو مالِكٌ لِمَقالِيدِ الكَونِ، الذي يَفتَحُ بابَ البَقاءِ السَّرمَدِيِّ أَمامَ الإِنسانِ بالآخِرةِ، بعدَ أن يُنهِيَ هذه الدُّنيا الفانيةَ ويُغلِقَ أَبوابَها كسُهُولةِ غَلقِ غُرفةٍ وفَتحِ أُخرَى.

وهُنالِك رَغَباتٌ أُخرَى كَثِيرةٌ جِدًّا لِلإِنسانِ أَمثالَ هذه الرَّغبةِ، كلُّها مُمتَدّةٌ إلى غَيرِ نِهايةٍ مَعلُومةٍ، ومُتَشعِّبةٌ في ثَنايا الكائِناتِ جَمِيعًا.. فهذه الرَّغَباتُ جَمِيعُها مُرتَبِطةٌ ارتِباطًا وَثِيقًا بحَقِيقةِ التَّوحِيدِ، ومَشدُودةٌ معَ سِرِّ “الفَردِيّةِ“؛ فلَوْلا ذلك السِّرُّ لَبَقِيَت هذه الرَّغَباتُ عَقِيمةً دُونَ نَتائِجَ، قاصِرةً عن بُلُوغِ مَداها، مَبتُورةً مُنكَمِشةً؛ ولَوْلا تَصَرُّفُ الواحِدِ الأَحَدِ في الكَونِ كُلِّه لَمَا اطمَأَنَّت ولا حَصَلَت تلك الرَّغَباتُ، ولو حَصَلَت حَصَلَت مَبتُورةً.

فالإِيمانُ بالوَحْدانيّةِ، وبقُدرةِ “الفَردِ الواحِدِ الأَحَدِ” المُطلَقةِ هو وَحْدَه الكَفِيلُ بإِحلالِ الطُّمَأنينةِ والسُّكُونِ في تلك الرَّغَباتِ المُتَأجِّجةِ لَدَى الإِنسانِ؛ مِن أَجلِ هذا السِّرِّ العَظِيمِ نَرَى القُرآنَ الكَرِيمَ يَذكُرُ التَّوحِيدَ والوَحدانيّةَ بكلِّ حَرارةٍ وشَوقٍ، ويُكرِّرُها بكلِّ حَلاوةٍ وذَوقٍ، وأنَّ الأَنبِياءَ عَلَيهِم السَّلَام والأَصفِياءَ والعُلَماءَ والأَولِياءَ الصَّالِحِينَ يَجِدُونَ بُغيَتَهُم وذَوقَهُمُ السّامِيَ، بل مُنتَهَى سَعادَتِهِم في أَفضَلِ ما قالُوه: “لا إِلٰهَ إلّا هُو“.

[الإشارة السابعة: دلائل التوحيد دلائل على صدق النبي ﷺ]

الإشارةُ السَّابعةُ:

إنَّ هذا التَّوحِيدَ الحَقِيقيَّ بجَمِيعِ مَراتِبِه، وبِأَتَمِّ صُورَتِه الكامِلةِ، قد أَثبَتَه وأَعلَنَه وفَهَّمَه وبَلَّغَه مُحَمَّدٌ ﷺ، فلا بُدَّ أنَّ رِسالَتَه ثابِتةٌ وقاطِعةٌ كقَطعِيّةِ ثُبُوتِ التَّوحِيدِ نَفسِه، لِأنَّه لَمّا كانَ التَّوحِيدُ هو أَعظَمَ حَقِيقةٍ في عالَمِ الوُجُودِ، وأنَّ الرَّسُولَ الأَعظَمَ ﷺ هو الَّذي تَوَلَّى تَبلِيغَه وتَعلِيمَه بجَمِيعِ حَقائِقِه، فلا بُدَّ أنَّ جَمِيعَ البَراهِينِ الَّتي تُثبِتُ التَّوحِيدَ، تكُونُ بدَوْرِها بَراهِينَ لِإثباتِ رِسالَتِه، وأَدِلّةً على صِدقِ نُبُوَّتِه وأَحَقِّيّةِ دَعوَتِه ﷺ، فرِسالةٌ كهذه الرِّسالةِ العُظمَى الَّتي تَضُمُّ أُلُوفًا مِن أَمثالِ هذه الحَقائِقِ السّامِيةِ، وتَكشِفُ عن حَقِيقةِ التَّوحِيدِ وتُرشِدُ إلَيْه وتُلَقِّنُه، لا شَكَّ أنَّها رِسالةٌ يَقتَضِيها ذلك التَّوحِيدُ وتلك الفَردِيّةُ.. فمَن ذا غَيرُ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّذي أَدَّى الأَمانَة على أَفضَلِ وَجهٍ وبَلَّغ الرِّسالةَ على أَجمَلِ صُورةٍ؟!

سنَذكُرُ ثَلاثةَ نَماذِجَ، مِثالًا لِتِلك الأَدِلّةِ الكَثِيرةِ والأَسبابِ العَدِيدةِ الَّتي تَشهَدُ على عَظَمةِ الشَّخصِيّةِ المَعنَوِيّةِ لِهذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ ﷺ، وتَدُلُّ على عُلُوِّ مَنزِلَتِه الرَّفِيعةِ، وتُبيِّنُ أنَّه السِّراجُ المُنِيرُ لِهذه الكائِناتِ وشَمسُها السّاطِعةُ.

[الدليل الأول: حسنات أمته في صحيفته ﷺ]

الدَّليلُ الأوَّلُ: إنَّ ثَوابَ جَمِيعِ الحَسَناتِ الَّتي يَنالُها جَمِيعُ أَفرادِ الأُمّةِ، وعلى مَدَى جَمِيع العُصُورِ، مَكتُوبٌ مِثلُه في صَحِيفةِ حَسَناتِه ﷺ، إذ هو السَّبَبُ في نَيلِ كلِّ ثَوابٍ تَنالُه أُمَّتُه إلى يَومِ القِيامةِ، حَيثُ “السَّبَبُ كالفاعِلِ”.

تَأَمَّلْ في هذا ثمَّ فَكِّرْ في المَقامِ المُعَظَّمِ اللّائِقِ الَّذي يَقتَضِيه مَجمُوعُ الأَدعِيةِ غَيرِ المَحدُودةِ مِنَ الصَّلَواتِ المَقبُولةِ المَرفُوعةِ يَومِيًّا مِنَ الأُمّةِ كافّةً.. تُدرِكْ عِندَئِذٍ دَرَجَتَه العالِيةَ الرَّفيعةَ، وتَفْهَمْ أنَّ شَخصِيَّتَه المَعنَوِيّةَ شَمسُ الكائِناتِ والسِّراجُ المُنِيرُ لِلخَلقِ أَجمَعِينَ.

[الدليل الثاني: كلمات العبادات والأذكار النبوية السامية]

الدَّليلُ الثَّاني: إنَّ بِذْرةَ الشَّجَرةِ الوارِفةِ لِلإِسلامِ، ومَنشَأَها، وحَياتَها، ومَنبَعَها إنَّما هي حَقِيقةُ الماهِيّةِ المُحَمَّدِيّةِ، بما تَملِكُ مِن فِطرةٍ سامِيةٍ، وخِلقةٍ كامِلةٍ؛ فتَذَكَّرْ هذا ثمَّ فَكِّرْ في الرُّقيِّ الرُّوحِيِّ لِهذا الرَّسُولِ الحَبِيبِ ﷺ النَّابِعِ مِنِ استِشعارِه الكامِلِ الأَتَمِّ لِجَمِيعِ مَعانِي العِباداتِ، والأَذكارِ، والكَلِماتِ الشَّرِيفةِ ومَراتِبِها، والَّتي تُمَثِّلُ بمَجمُوعِها رُوحَ الإِسلامِ وحَقِيقَتَه، لِتَعلَمَ مَدَى عُلُوِّ مَرتَبةِ وِلايةِ عُبُودِيَّتِه ﷺ المُرتَقِيةِ إلى الدَّرَجةِ الرَّفِيعةِ، دَرَجةِ الحَبِيبِيّةِ، وافْهَمْ مَبلَغَ سُمُوِّها.

ولقد فَتَح اللهُ عَلَيَّ يَومًا في سَجدةٍ في صَلاةٍ، بَعضَ المَعانِي والأَنوارِ المُشِعّةِ مِن كَلِمةِ “سُبحانَ رَبِّي الأَعلَى” بما يَقرُبُ مِن فَهمِ الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ علَيْهِم أَجمَعِينَ مِن هذه الكَلِمةِ المُقَدَّسةِ، فتَبيَّنَ لي يَقِينًا أنَّها خَيرٌ مِن عِبادةِ شَهرٍ، فأَدرَكتُ بها المَنزِلةَ العَظِيمةَ والدَّرَجةَ العاليةَ الَّتي يَحظَى بها الصَّحابةُ الكِرامُ رِضوانُ اللهِ علَيْهِم أَجمَعِينَ.

نعم، إنَّ الأَنوارَ الَّتي تُشِعُّها الكَلِماتُ المُقدَّسةُ وفُيُوضاتُها في بَدءِ الإِسلامِ لها مَزايا خاصّةٌ، وذلك لِجِدَّتِها، ولها مِنَ اللَّطافةِ والطَّراوةِ واللَّذّةِ ما يَتَناقَصُ بمُرُورِ الزَّمَنِ وتَتَستَّرُ تَحتَ سِتارِ الغَفْلةِ.

والآنَ، وفي ضَوءِ ما سَبَق، تَأمَّلْ مَكانةَ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ الَّذي تَناوَلَ الكَلامَ المُقدَّسَ، ورَشَفَه مِنَ المَنبَعِ الأَقدَسِ، واستَوعَبَ أَنوارَه بالوَحيِ الإِلٰهِيِّ بكامِلِ جِدَّتِه وطَراوَتِه ولَطافَتِه، بِما فُطِرَ علَيْه مِنِ استِعدادٍ كامِلٍ.. فالأَنوارُ والفُيُوضاتُ الكامِنةُ في تَسبِيحةٍ واحِدةٍ مِنه ﷺ هي خَيرٌ وأَعَمُّ مِن جَمِيعِ الأَنوارِ الَّتي تَملَأُ أَرجاءَ عِبادةِ سَنةٍ كامِلةٍ عِندَ غَيرِه.!

قِسْ على هذا المِنوالِ، كي تَعلَمَ كم بَلَغ رَسُولُنا الحَبِيبُ ﷺ مِن دَرَجاتِ الكَمالِ الَّتي لا حَدَّ لها ولا نِهايةَ.

[الدليل الثالث: الحبيب ﷺ هو مخاطَب الحق تعالى]

الدَّليلُ الثَّالثُ: إنَّ الإِنسانَ يُمثِّلُ أَعظَمَ مَقصَدٍ مِنَ المَقاصِدِ الإِلٰهِيّةِ في الكَونِ، وهُو المُؤهَّلُ لِإدراكِ الخِطابِ الرَّبّانِيِّ، وقدِ اختارَه سُبحانَه مِن بينِ مَخلُوقاتِه، واصطَفَى مِن بينِ الإِنسانِ المُكَرَّمِ مَن هو أَكمَلُ وأَفضَلُ وأَعظَمُ إِنسانٍ بأَعمالِه وآثارِه الكامِلةِ، لِيَكُونَ مَوضِعَ خِطابِه الجَلِيلِ بِاسمِ النَّوعِ الإِنسانِيِّ كافّةً، بل بِاسمِ الكائِناتِ جَمِيعًا.. فلا رَيبَ أنَّ اللهَ سُبحانَه الفَرْدَ الجَلِيلَ الَّذي هَيَّأ رَسُولَه الحَبِيبَ ﷺ لِهذه المَرتَبةِ قد مَنَحَه مِنَ الأَنوارِ والكَمالاتِ ما لا يُحَدُّ بحُدُودٍ.

وهكذا، وبمِثلِ هذه الدَّلائِلِ الثَّلاثةِ ودَلائلَ أُخرَى كَثِيرةٍ يَثبُتُ لَدَيْنا يَقِينًا أنَّ الشَّخصِيّةَ المَعنَوِيّةَ لِلرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ، شَمسٌ مَعنَوِيّةٌ ساطِعةٌ لِلكائِناتِ، وسِراجٌ مُنِيرٌ لامِعٌ لها، كما أنَّها الآيةُ العُظمَى مِن قُرآنِ الكَونِ، والِاسمُ الأَعظَمُ لِذلِك الفُرَقانِ الأَعظَمِ، ومِرآةٌ صافِيةٌ لِلتَّجَلِّي الأَعظَمِ لِأَنوارِ اسمِ “الفَرْدِ” عَزَّ وجَلَّ.

فاللَّهُمَّ يا أَحَدُ، يا فَردُ، يا صَمَدُ، أَنزِلْ مِن بَرَكاتِ خَزِينةِ رَحمَتِك الَّتي لا تَنفَدُ، صَلَواتٍ وسَلامًا على تلك الذّاتِ النَّبوِيّةِ الشَّرِيفةِ، بعَدَدِ ذَرّاتِ الكَونِ مَضرُوبًا بعَدَدِ عاشِراتِ جَمِيعِ أَزمِنةِ الكَونِ.‌

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

[النكتة الخامسة: حول اسم “الحي”]

النُّكتة الخامسة للَّمْعة الثلاثين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾

لقد تَراءَت في أُفُقِ عَقلِي نُكتةٌ مِنَ النِّكاتِ الدَّقيقةِ لِلآيتَينِ المَذكُورَتَينِ، وتَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ نُورِ الِاسمِ الأَعظَمِ “الحَيِّ” أو أَحَدِ نُورَيه، أو أَحَدِ أَنوارِه السِّتّةِ، وذلك في شَهرِ شَوّالٍ عِندَما كُنتُ في سِجنِ “أَسكِي شَهِر”، فلم أَتَمكَّن مِن تَوثِيقِها في حِينِه، ولم أَستَطِع أن أَقتَنِصَ ذلك الطّائِرَ السّامِيَ، ولكِن بَعدَما تَباعَد ذلك القَبَسُ الوَضِيءُ اضطُرِرتُ إلى الإِشارةِ إلَيْه بوَضعِ رُمُوزٍ تَرمُزُ إلى أَشِعّةِ تلك الحَقِيقةِ الكُبْرَى، وذلك النُّورِ الأَعظَمِ؛ وسأُشِيرُ إلَيْها هنا باختِصارٍ:

[الرمز الأول: ما هي الحياة؟]

الرَّمزُ الأوَّلُ:

ما الحَياةُ الَّتي هي تَجَلٍّ أَعظَمُ لِاسمِ اللهِ الحَيِّ المُحيِي؟ وما ماهِيَّتُها؟ وما مُهِمَّتُها؟

جَوابُ هذا السُّؤالِ نُدرِجُه على صُورةِ فِهرِسٍ، على النَّحوِ الآتِي:

الحَياةُ هي لِهذه الكائِناتِ:

أَهَمُّ غايةٍ..

وأَعظَمُ نَتِيجةٍ..

وأَسطَعُ نُورٍ..

وأَلطَفُ خَمِيرةٍ..

وأَصفَى خُلاصةٍ..

وأَكمَلُ ثَمَرةٍ..

وأَسمَى كَمالٍ..

وأَزهَى جَمالٍ..

وأَبهَى زِينةٍ..

وهِي سِرُّ وَحدَتِها..

ورابِطةُ اتِّحادِها..

ومَنشَأُ كَمالاتِها..

وهِي أَبدَعُ ذاتِ رُوحٍ فيها، مِن حَيثُ الإِتقانُ والماهِيّةُ..

وهِي حَقِيقَتُها المُعجِزةُ، تُصَيِّرُ أَصغَرَ مَخلُوقٍ عالَمًا بحَدِّ ذاتِه..

وهِي أَروَعُ مُعجِزاتِ القُدرةِ الإِلٰهِيّةِ، بجَعلِها الكائِنَ الحَيَّ بمَثابةِ كَونٍ مُصَغَّرٍ، فكَأنَّها -أي: الحَياةَ- وَسِيلةٌ لِانطِواءِ الكائِناتِ في ذلك الكائِنِ الحَيِّ الصَّغِيرِ؛ بما تُظهِر فيه ما يُشبِهُ فِهرِسَ الكَونِ العَظِيمِ، كما تَجعَلُه في رِباطٍ وَثِيقٍ معَ مُعظَمِ المَوجُوداتِ..

وهِي صَنعةٌ إِلٰهِيّةٌ خارِقةٌ، تُكبِّرُ الجُزءَ الضَّئِيلَ إلى أَكبَرِ كُلٍّ، حتَّى إنَّها تَجعَلُ الفَردَ بحُكمِ العالَمِ وكأنَّه كُلِّيٌّ؛ وتَعرِضُ الكَونَ -مِن حَيثُ الرُّبُوبيّةُ- في حُكمِ الكُلِّ والكُلِّيِّ الَّذي لا يَقبَلُ التَّجزِئةَ والِاشتِراكَ والِانقِسامَ..

وهِي أَسطَعُ بُرهانٍ ضِمنَ ماهِيَّاتِ الكائِناتِ، وأَثبَتُه وأَكمَلُه، يَشهَدُ على وُجُوبِ وُجُودِه سُبحانَه، وعلى أنَّه “الحَيُّ القَيُّومُ”، ويَدُلُّ على وَحْدَتِه وأَحَدِيَّتِه جلَّ وعَلا..

وهِي أَبلَغُ صُورةٍ لِصَنعةٍ رَبّانيّةٍ حَكِيمةٍ -ضِمنَ المَصنُوعاتِ الإِلٰهِيّةِ- وأَخفاها وأَظهَرُها وأَثمَنُها وأَزهَدُها وأَنزَهُها وأَلمَعُها..

وهِي أَلطَفُ تَجَلٍّ لِلرَّحمةِ الإِلٰهِيّةِ وأَرَقُّها وأَدَقُّها، تَجعَلُ المَوجُوداتِ خادِمةً لها.. وهِي أَجمَعُ مِرآةٍ تَعكِسُ الشُّؤُونَ الإِلٰهِيّةَ لِلأَنظارِ..

وهِي أُعجُوبةُ الخِلقةِ الرَّبّانيّةِ، إذ تَجمَعُ تَجَلِّياتِ اسمِ “الرَّحمٰنِ، الرَّزّاقِ، الرَّحِيمِ، الكَرِيمِ، الحَكِيمِ” وأَمثالِها مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى، وتَجعَلُ الحَقائِقَ الكَثِيرةَ والمُشاهَدةَ كالرِّزقِ والحِكمةِ والعِنايةِ والرَّحمةِ تابِعةً لها، فتَقُودُها، مِثلَما هي مَنشَأُ جَمِيعِ المَشاعِرِ ومَعدِنُ جَمِيعِ الحَواسِّ كالبَصَرِ والسَّمعِ والشُّعُورِ..

وهِي ماكِينةُ تَنظِيفٍ عَظِيمةٌ، وجِهازُ استِحالةٍ عَجِيبٌ في مَصنَعِ الكائِناتِ، حيثُ تَقُومُ بالتَّصفِيةِ والتَّطهيرِ في كلِّ نَواحِيه، فتُطَهِّرُ الشَّيءَ وتَمنَحُه الرُّقِيَّ وتُنَوِّرُه، وكأنَّ الجَسَدَ -الَّذي هو عُشُّ الحَياةِ- دارُ ضِيافةٍ لِقَوافِلِ الذَّرّاتِ ومَدرَسَتُها ومُعَسكَرُها؛ تَتَعلَّمُ فيه وَظائِفَها، وتَتَدرَّبُ على أَعمالِها، فتَتَنوَّرُ وتُضِيءُ..

وهِي وَسِيلةٌ يُنوِّرُ بها “الحَيُّ المُحيِي” سُبحانَه عالَمَ الدُّنيا المُظلِمَ الفانِيَ السّافِلَ ويَمنَحُه نَوعًا مِنَ البَقاءِ، ويَجعَلُه بماكِينةِ الحَياةِ لَطِيفًا مُهَيَّأً لِلمُضِيِّ إلى العالَمِ الباقِي..

ثمَّ إنَّ وَجهَيِ الحَياةِ -أي: المُلكَ والمَلَكُوتَ- صافِيانِ طاهِرانِ لا نَقصَ فِيهِما، سامِيانِ؛ وهِي مَخلُوقٌ خاصٌّ مُتَميِّزٌ عن كلِّ خَلقٍ آخَرَ، لم تُوضَع لها الأَسبابُ الظّاهِرِيّةُ حُجُبًا لِتَصَرُّفاتِ القُدرةِ الإِلٰهِيّةِ -كما هي في سائِرِ الأَشياءِ- وذلك لِيَكُونَ أَمرُ صُدُورِها مِن يَدِ القُدرةِ الرَّبّانيّةِ مُباشَرةً دُونَ حُجُبٍ أو وَسائِطَ..

وحَقِيقةُ الحَياةِ تَتَطلَّعُ إلى الأَركانِ الإِيمانيّةِ السِّتّةِ وتُثبِتُها مَعنًى ورَمزًا، أي إنَّها تُثبِتُ وُجُودَ واجِبِ الوُجُودِ سُبحانَه وحَياتَه السَّرمَدِيّةَ؛ والدّارَ الآخِرةَ وحَياتَها الدّائِمةَ؛ ووُجُودَ المَلائِكةِ.. وتَتَوجَّهُ تَوَجُّهًا كامِلًا إلى إِثباتِ سائِرِ الأَركانِ الإِيمانيّةِ وتَقتَضِيها..

وهِي أَصفَى خُلاصةٍ مُتَرشِّحةٍ مِنَ الكائِناتِ كُلِّها، كما أنَّها أَعظَمُ سِرٍّ يُولِّدُ الشُّكرَ والعِبادةَ والحَمدَ والمَحَبّةَ الَّتي هي أَهَمُّ المَقاصِدِ الإِلٰهِيّةِ في الكَونِ، وأَهَمُّ نَتِيجةٍ لِخَلقِ العالَمِ هذا.

تَأمَّلْ هذه الخَصائِصَ المُهِمّةَ القَيِّمةَ لِلحَياةِ، والبالِغةَ تِسعًا وعِشرِينَ خاصِّيّةً، ودَقِّقِ النَّظَرَ في مُهِمّاتِها السّامِيةِ الشّامِلةِ، ثمَّ انظُرْ مِن وَراءِ اسمِ “المُحيِي” إلى عَظَمةِ اسمِ “الحَيِّ“، وأَدرِكْ كيف أنَّ اسمَ “الحَيِّ” هو اسمُ اللهِ الأَعظَمُ مِن حَيثُ هذه الخَصائِصُ العَظِيمةُ لِلحَياةِ، ومِن حَيثُ ثِمارُها ونَتائِجُها؛ وافْهَمْ أَيضًا أنَّه لا بُدَّ أَن تكُونَ لِهَذِه الحَياةِ غايةٌ كُبْرَى كِبَرَ الكَونِ ونَتِيجةً عُظمَى بعَظَمَتِه ما دامَت هي أَعظَمَ نَتِيجةٍ لِهذه الكائِناتِ وأَعظَمَ غايةٍ وأَثمَنَ ثَمَرةٍ؟ لِأنَّ الثَّمَرةَ مِثلَما هي نَتِيجةُ الشَّجَرةِ، فنَتِيجةُ الثَّمَرةِ شَجَرةٌ قادِمةٌ بواسِطةِ بِذْرَتِها.

نعم، إنَّ غايةَ هذه الحَياةِ ونَتيجَتَها هي الحَياةُ الأَبدِيّةُ، كما أنَّ ثَمَرةً مِن ثِمارِها هي الشُّكرُ والعِبادةُ والحَمدُ والمَحَبّةُ تِجاهَ واهِبِ الحَياةِ “الحَيِّ المُحيِي”، وإنَّ هذا الشُّكرَ والمَحَبّةَ والحَمدَ والعِبادةَ هي ثَمَرةُ الحَياةِ كما أنَّها غايةُ الكائِناتِ.

فاعْلَمْ مِن هذا أنَّ الَّذِينَ يَحصُرُونَ غايةَ هذه الحَياةِ في: “عَيشٍ بِرَفاهٍ، وتَمَتُّعٍ بغَفْلةٍ، وتَنَعُّمٍ بِهَوًى” إنَّما يَستَخِفُّونَ -بجَهلٍ مُستَهجَنٍ قَبِيحٍ- بهذه النِّعمةِ الغالِيةِ الكُبْرَى، نِعمةِ الحَياةِ، وهَدِيّةِ الشُّعُورِ، وإِحسانِ العَقلِ، ويُحَقِّرُونَها ويُنكِرُونَها، بل يَكفُرُونَ بها، فيَرتَكِبُونَ كُفرانًا عَظِيمًا وإِثمًا مُبِينًا.

[الرمز الثاني: وجه الحياة ظاهر لا تحجبه الأسباب]

الرَّمزُ الثَّاني:

الحَياةُ الَّتي هي أَعظَمُ تَجَلٍّ لِاسمِ اللهِ “الحَيِّ” وأَلطَفُ تَجَلٍّ لِاسمِ اللهِ “المُحيِي” يُحتاجُ في بَيانِ مَراتِبِها وصِفاتِها ووَظائِفِها -المَذكُورِ فِهرِسْتُها في الرَّمزِ الأوَّلِ- إلى كِتابةِ رَسائِلَ عِدّةٍ بعَدَدِ تلك المَزايا والخَصائِصِ؛ لِذا سنُشِيرُ إِشارةً مُختَصَرةً إلى بِضعٍ مِنها مُحِيلِينَ تَفاصِيلَها إلى أَجزاءِ “رَسائِلِ النُّورِ”، حَيثُ بَيَّنَت قِسمًا مِن تلك الخَصائِصِ والمَراتِبِ والمُهِمّاتِ.. فلَقَد ذُكِرَ في الخاصِّيّةِ الثّالثةِ والعِشرِينَ مِنَ الخَصائِصِ التِّسعةِ والعِشرِينَ لِلحَياةِ أنَّ وَجْهَيِ الحَياةِ صافِيانِ، شَفّافانِ، رائِقانِ.. فلمْ تَضَعِ القُدرةُ الرَّبّانيّةُ أَسبابًا ظاهِرِيّةً لِتَصرُّفاتِها فيها؛ وسِرُّ هذه الخاصِّيّةِ هو ما يَأتِي:

إنَّ كلَّ شَيءٍ في الكَونِ يَنطَوِي على خَيرٍ، وفيه جَمالٌ وحُسنٌ، أمّا الشَّرُّ والقُبحُ فهُما جُزئيّانِ جِدًّا، وهُما بحُكمِ وَحْدَتَينِ قِياسِيَّتَينِ، أي إنَّهُما وُجِدا لِإظهارِ ما في الخَيرِ وما في الجَمالِ مِن مَراتِبَ كَثِيرةٍ وحَقائِقَ عَدِيدةٍ؛ لِذا يُعَدُّ الشرُّ خَيرًا والقُبحُ حُسنًا مِن هذه الزّاوِيةِ، أي: مِن زاوِيةِ كَونِهِما وَسائِلَ لِإبرازِ المَراتِبِ والحَقائِقِ، ولكِن ما يَبدُو لِذَوِي الشُّعُورِ مِن مَظاهِرِ القُبحِ والشَّرِّ والبَلاءِ والمَصائِبِ، قد تَدفَعُهُم إلى السُّخطِ والشَّكوَى والِامتِعاضِ، فوُضِعَتِ الأَسبابُ الظّاهِرِيّةُ سِتارًا لِتَصَرُّفِ القُدرةِ الإِلٰهِيّةِ، لِئَلّا تَتَوجَّه تلك الشَّكاوَى الظَّالِمةُ والسُّخطُ الباطِلُ إلى “الحَيِّ القَيُّومِ” جلَّ وعَلا..

زِدْ على ذلك: فإنَّ العَقلَ أَيضًا بنَظَرِه الظّاهِرِيِّ القاصِرِ، قد يَرَى مُنافاةً بينَ أُمُورٍ يَراها خَسِيسةً، خَبِيثةً، قَبِيحةً، وبينَ مُباشَرةِ يَدِ القُدرةِ المُنَزَّهةِ المُقَدَّسةِ لها، فوُضِعَتِ الأَسبابُ الظّاهِرِيّةُ سِتارًا لِتَصَرُّفِ القُدرةِ الرَّبّانيّةِ لِتُنَزِّهَ عِزّةَ القُدرةِ الإِلٰهِيّةِ عن تلك المُنافاةِ الظّاهِرِيّةِ.

عِلمًا أنَّ تلك الأَسبابَ لا يُمكِنُها أن تُوجِدَ شَيئًا بحَدِّ ذاتِها قَطُّ، بل هي مَوضُوعةٌ لِصِيانةِ عِزّةِ القُدرةِ الإِلٰهِيّةِ وتَنزِيهِها، ولِتَظَلَّ هي هَدَفًا مُباشَرًا لِلشَّكاوَى الظّالِمةِ والِاعتِراضاتِ الباطِلةِ.

ولقد ذَكَرْنا في مُقدِّمةِ المَقامِ الثّاني مِنَ “الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِينَ” أنَّ مَلَكَ المَوتِ “عَزرائِيلَ” عَلَيهِ السَّلَام وَجَد أنَّ مُهِمّةَ قَبضِ الأَرواحِ الَّتي أُوكِلَت إلَيْه مُهِمّةٌ بَغِيضةٌ لِبَني آدَمَ، وسيَكُونُ مِن جَرّائِها مَوضِعَ سُخْطِهِم ومَثارَ امتِعاضِهِم، فناجَى رَبَّ العِزّةِ بشَأنِ مُهِمَّتِه قائِلًا:

يا رَبِّ إنَّ عِبادَك سيَسخَطُونَ عَلَيَّ!‌

وجاءَه الجَوابُ:‌

سأَضَعُ سِتارَ الأَمراضِ وحِجابَ المَصائِبِ بينَ مُهِمَّتِك وبَينَهُم، فلا تُصَوَّبُ سِهامُ الشَّكاوَى والِاعتِراضاتِ إلَيْك، بل إلى الحُجُبِ.

فحَسَبَ مَضمُونِ هذه المُناجاةِ نقُولُ: إنَّ الَّذِينَ لا يَرَونَ الوَجهَ الصَّبُوحَ الحَقِيقيَّ لِلمَوتِ المُتَوجِّهِ إلى أَهلِ الإِيمانِ، ولا يُدرِكُونَ ما فيه مِن رَحمةٍ مُدَّخَرةٍ، يُبدُونَ اعتِراضاتٍ وشَكاوَى، فتَبْرُزُ أَمامَهُم مُهِمّةُ عَزرائِيلَ عَلَيهِ السَّلَام حِجابًا وسِتارًا، فلا تَتَوجَّهُ تلك الشَّكاوَى الباطِلةُ والِاعتِراضاتُ المُجحِفةُ إلى الذّاتِ المُقدَّسةِ لِلحَيِّ القَيُّومِ.. ومِثلَما أنَّ مُهِمّةَ عَزرائِيلَ عَلَيهِ السَّلَام سِتارٌ، فإنَّ الأَسبابَ الظّاهِرِيّةَ الأُخرَى هي أَيضًا حُجُبٌ وأَستارٌ.

نعم، إنَّ العِزّةَ والعَظَمةَ تَقتَضِيانِ أن تكُونَ الأَسبابُ حُجُبًا بينَ يَدَيِ القُدرةِ الإِلٰهِيّةِ أَمامَ نَظَرِ العَقلِ، إلّا أنَّ الجَلالَ والوَحدانيّةَ يَقتَضِيانِ أن تَسحَبَ الأَسبابُ أَيدِيَها وتَرفَعَها عنِ التَّأثيرِ الحَقِيقيِّ.

أمّا وَجْهَا الحَياةِ الظَّاهِرُ والباطِنُ: المُلكُ والمَلَكُوتُ، فهُما صافِيانِ كامِلانِ مُبَرَّآن مِنَ النَّقصِ والتَّقصِيرِ، فمِثلَما لا يُوجَدُ فِيهِما ما يَستَدعِي الشَّكوَى أوِ الِاعتِراضَ، فلَيسَ فِيهِما كَذلِك ما يُنافِي عِزّةَ القُدرةِ ونَزاهَتَها مِن دَنَسٍ مُستَهجَنٍ أو قُبحٍ ظاهِرٍ؛ لِذا فقد سُلِّمَ وَجْهاها مُباشَرةً إلى اسمِ “المُحيِي” لِذاتِ اللهِ “الحَيِّ القَيُّومِ” مِن دُونِ إِسدالِ أَستارِ الأَسبابِ وحُجُبِها.

ومِثلُ الحَياةِ: النُّورُ، وكَذلِك الوُجُودُ والإِيجادُ.. وعلَيْه نَرَى أنَّ الإِيجادَ والخَلقَ يَتَوجَّهانِ مُباشَرةً مِن دُونِ حُجُبٍ وأَستارٍ إلى قُدرةِ الخالِقِ سُبحانَه، بل حتَّى المَطَرُ -وهُو نَوعٌ مِنَ الحَياةِ ورَحمةٌ مُهداةٌ مِنه سُبحانَه- فلا يَحكُمُه قانُونٌ مُطَّرِدٌ يُحَدِّدُ وَقتَ نُزُولِه، وذلك لِئَلّا تُحرَمَ أَكُفُّ الضَّراعةِ أَمامَ بابِ الرَّحمةِ مِنَ الرَّجاءِ والِاستِرحامِ وَقتَ الحاجةِ، إذ لو كانَ المَطَرُ يَنزِلُ حَسَبَ قانُونٍ مُطَّرِدٍ -بمِثلِ شُرُوقِ الشَّمسِ وغُرُوبِها- لَمَا كانَ الخَلقُ يَتَوسَّلُونَ ويَستَغِيثُونَ كلَّ حِينٍ استِنزالًا لِنِعمةِ الحَياةِ تلك.

[الرمز الثالث: الحياة نتيجة الكائنات، والشمر نتيجة الحياة]

الرَّمزُ الثَّالثُ:

لقد ذُكِرَ في الخاصِّيّةِ التّاسِعةِ والعِشرِينَ: كما أنَّ الحَياةَ نَتِيجةُ الكائِناتِ، كَذَلِك الشُّكرُ والعِبادةُ هما نَتِيجةُ الحَياةِ، وسَبَبُ خَلقِ الكائِناتِ، وعِلَّتُها الغائِيّةُ، ونَتِيجَتُها المَقصُودةُ.

نعم، إنَّ خالِقَ الكَونِ سُبحانَه “الحَيُّ القَيُّومُ” إذ يُعَرِّفُ نَفسَه لِذَوِي الحَياةِ ويُحَبِّبُها إلَيْهِم بنِعَمِه الَّتي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، يَطلُبُ مِنهُم شُكرَهُم تِجاهَ تلك النِّعَمِ، ومَحَبَّتَهُم إِزاءَ تَحَبُّبِه إِلَيْهِم، وثَناءَهُم واستِحسانَهُم مُقابِلَ بَدائِعِ صُنعِه، وطاعَتَهُم وعُبُودِيَّتَهُم تِجاهَ أَوامِرِه الرَّبّانيّةِ؛ فيكُونُ الشُّكرُ والعِبادةُ -حَسَبَ سِرِّ الرُّبُوبيّةِ هذا- أَعظَمَ غايةٍ لِجَمِيعِ أَنواعِ الحَياةِ، ومِن ثَمَّ أَعظَمَ غايةٍ لِلكَونِ بأَسْرِه..

ومِن هنا نَرَى أنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ يَحُثُّ بحَرارةٍ ويَسُوقُ برِفقٍ وعُذُوبةٍ إلى الشُّكرِ والعِبادةِ؛ فيُكَرِّرُ كَثِيرًا ويُبيِّنُ ويُوضِّحُ أنَّ العِبادةَ خاصّةٌ للهِ وَحدَه، وأنَّ الشُّكرَ والحَمدَ لا يَلِيقانِ حَقًّا إلّا به سُبحانَه، وأنَّ ما في الحَياةِ مِن شُؤُونٍ وأُمُورٍ هي في قَبْضةِ تَصَرُّفِه وَحدَه، فيَنفِي بهذا وبِصَراحةٍ تامّةٍ الوَسائِطَ والأَسبابَ، مُسَلِّمًا الحَياةَ بما فِيها إلى يَدِ القُدرةِ لِلحَيِّ القَيُّومِ، فيقُولُ مَثلًا:

﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾

﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾

﴿فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾

نعم، إنَّ الَّذي يَدعُو إلى الشُّكرِ والحَمدِ والِامتِنانِ، والَّذي يُثِيرُ الشُّعُورَ إلى المَحَبّةِ والثَّناءِ -بَعدَ نِعمةِ الحَياةِ- إنَّما هو الرِّزقُ والشِّفاءُ والغَيثُ، وأَمثالُها مِن دَواعِي الشُّكرِ والحَمدِ.. فهَذِه الوَسائِلُ أَيضًا مَحصُورةٌ كُلِّـيًّا بِيَدِ الرَّزّاقِ الشّافِي سُبحانَه، فلَيسَتِ الأَسبابُ إلّا أَستارًا وحُجُبًا ووَسائِطَ فحَسْبُ، إذ إنَّ عَلامةَ الحَصرِ والتَّخصِيصِ -حَسَبَ قَواعِدِ اللُّغةِ العَرَبيّةِ- “هو الرَّزّاقُ”، “هو الَّذي”، واضِحةٌ في الآياتِ الكَرِيمةِ الآتِيةِ:

﴿هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ

﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ

﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا

فهذه الآياتُ الكَرِيمةُ وأَمثالُها تُبيِّنُ أنَّ الرِّزقَ والشِّفاءَ والغَيثَ خاصّةٌ به سُبحانَه وتَعالَى، وتَنحَصِرُ كُلِّـيًّا بِيَدِ قُدرةِ الحَيِّ القَيُّومِ؛ فالَّذي وَهَب خَواصَّ الأَدوِيةِ والعِلاجِ هو ذلك الشّافِي الحَقِيقيُّ سُبحانَه الَّذي خَلَقَها وليس غَيرُه.

[الرمز الرابع: الحياة تُثبِت أركان الإيمان الستة]

الرَّمزُ الرّابع:

لقد بَيَّنتُ في الخاصّةِ الثّامِنةِ والعِشرِينَ مِنَ الحَياةِ:

أنَّ الحَياةَ تُثبِتُ أَركانَ الإيمانِ السِّتّةَ، وتَتَوَجَّهُ نَحوَها وتُشِيرُ إلى تَحقِيقِها.

[الإيمان بالآخرة]

نعم، فما دامَتِ “الحَياةُ” هي حِكمةَ خَلْقِ الكائناتِ، وأَهَمَّ نَتِيجَتِها وجَوهَرَها، فلا تَنحَصِرُ تلك الحَقيقةُ السّامِيةُ في هذه الحَياةِ الدُّنيا الفانِيةِ القَصيرةِ النّاقِصةِ المُؤلِمةِ، بل إنَّ الخَواصَّ التِّسعَ والعِشرِين للحَياةِ وعَظَمةَ ماهِيَّتِها، وما يُفهَمُ مِن غايةِ شَجَرَتِها ونَتيجَتِها، وثَمَرتِها الجَديرةِ بعَظَمةِ تلك الشَّجَرةِ، ما هي إلَّا الحَياةُ الأَبَديّةُ والحَياةُ الآخِرةُ والحَياةُ الحَيّةُ بحَجَرِها وتُرابِها وشَجَرِها في دار السَّعادةِ الخالِدةِ؛ وإلَّا يَلزَمُ أن تَظَلَّ شَجَرةُ الحَياةِ المُجَهَّزةُ بهذه الأَجهِزةِ الغَزِيرةِ المُتَنوِّعةِ دُونَ حَقِيقةٍ ولا ثَمَرةٍ ولا فائِدةٍ تَعُودُ إلى ذَوِي الشُّعُورِ، ولا سِيَّما الإنسانِ، ولَظَلَّ الإنسانُ تَعِسًا وشَقِيًّا وذَليلًا وأَحَطَّ مِنَ العُصفُورِ بعِشرين دَرَجةً، مِن حَيثُ سَعادةُ الحَياةِ، معَ أنَّه أَسمَى مَخلُوقٍ وأَكرَمُ ذَوِي الحَياةِ وأَرفَعُ مِنَ العُصفُورِ بعِشرِين دَرَجةً، بلِ العَقلُ الَّذي هو أَثمَنُ نِعمةٍ يُصبِحُ بَلاءً ومُصيبةً على الإنسانِ بتَفَكُّرِه في أَحزانِ الزَّمانِ الغابِرِ ومَخاوِفِ المُستَقبَلِ، فيُعذِّبُ قَلْبَه دائمًا مُعَكِّرًا صَفْوَ لَذّةٍ واحِدةٍ بتِسعةِ آلامٍ!. ولا شَكَّ أنَّ هذا باطلٌ بمِئةِ دَرَجةٍ.

فهذه الحَياةُ الدُّنيا إذًا تُثبِتُ رُكْنَ “الإيمانِ بالآخِرةِ” إثباتًا قاطِعًا، وتُظهِرُ لنا في كلِّ رَبيعٍ أَكثَرَ مِن ثلاثِ مِئةِ أَلفِ نَمُوذَجٍ مِن نَماذِجِ الحَشرِ.

فيا تُرَى هل يُمكِنُ لِرَبٍّ قَديرٍ، يُهيِّئُ ما يَلزَمُ حَياتَك مِنَ الحاجاتِ المُتَعلِّقةِ بها جَميعًا، ويُوَفِّرُ لك أَجهِزَتَها كلَّها سَواءٌ في جِسمِك أو في حَدِيقَتِك أو في بلَدِك، ويُرسِلُه في وَقتِه المُناسِبِ بحِكمةٍ وعِنايةٍ ورَحمةٍ، حتَّى إنَّه يَعلَمُ رَغبةَ مَعِدَتِك فيما يَكفُلُ لك العَيشَ والبَقاءَ، ويَسمَعُ ما تَهتِفُ به مِنَ الدُّعاءِ الخاصِّ الجُزئيِّ للرِّزقِ، مُبدِيًا قَبُولَه لذلك الدُّعاءِ بما بَثَّ مِنَ الأَطعِمةِ اللَّذِيذةِ غيرِ المَحدُودةِ ليُطَمْئِنَ تلك المَعِدةَ! فهل يُمكِنُ لِهذا المُدَبِّرِ القَديرِ ألّا يَعْرِفَك؟ ولا يَراك؟ ولا يُهيِّئَ الأَسبابَ الضَّرُورِيّةَ لِأَعظَمِ غايةٍ للإنسانِ وهي الحَياةُ الأَبَديّةُ؟ ولا يَستَجِيبَ لِأَعظَمِ دُعاءٍ وأَهَمِّه وأَعَمِّه، وهو دُعاءُ البَقاءِ والخُلُودِ؟ ولا يَقبَلَه بإنشاءِ الحَياةِ الآخِرةِ وإيجادِ الجَنّةِ؟ ولا يَسمَعَ دُعاءَ هذا الإنسانِ وهو أَسمَى مَخلُوقٍ في الكَونِ بل هو سُلطانُ الأَرضِ ونَتيجَتُها.. ذلك الدُّعاءَ العامَّ القَوِيَّ الصَّادِرَ مِنَ الأَعماقِ، والَّذي يَهُزُّ العَرْشَ والفَرْشَ! فهل يُمكِنُ ألّا يَهتَمَّ به اهتِمامَه بدُعاءِ المَعِدةِ الصَّغيرةِ ولا يُرضِيَ هذا الإنسانَ؟ ويُعَرِّضَ حِكمَتَه الكامِلةَ ورَحمَتَه المُطلَقةَ للإنكارِ؟! كلَّا.. ثمَّ كلَّا أَلفَ أَلفِ مَرّةٍ كلَّا.

وهل يُعقَلُ أن يَسمَعَ أَخْفَتَ صَوْتٍ لِأَدنَى جُزئيٍّ مِنَ الحَياةِ فيَستَمِعَ لِشَكواه ويُسعِفَه، ويَحْلُمَ عليه ويُرَبِّيَه بعِنايةٍ كامِلةٍ ورِعايةٍ تامّةٍ وباهتِمامٍ بالِغٍ، مُسَخِّرًا له أَكبَرَ مَخلُوقاتِه في الكَوْنِ، ثمَّ لا يَسمَعَ صَوتًا كهَزِيمِ السَّماءِ لِأَعظَمِ حَياةٍ وأَسماها وأَلطَفِها وأَدْوَمِها؟ وهل يُعقَلُ ألَّا يَهتَمَّ بدُعائِه المُهِمِّ وهو دُعاءُ البَقاءِ، وألَّا يَنظُرَ إلى تَضَرُّعِه ورَجائِه وتَوَسُّلِه؟ ويكونَ كمَن يُجَهِّزُ بعِنايةٍ كامِلةٍ جُندِيًّا واحِدًا بالعَتادِ، ولا يَرعَى الجَيشَ الجَرّارَ المُوالِيَ له!! وكمَن يَرَى الذَّرّةَ ولا يَرَى الشَّمسَ! أو كمَن يَسمَعُ طَنِينَ الذُّبابِ ولا يَسمَعُ رُعُودَ السَّماءِ! حاشَ لله مِئةَ أَلفِ مرّةٍ حاشَ للهِ.

وهل يَقبَلُ العَقلُ -بوَجهٍ مِنَ الأَوجُهِ- أنَّ القَديرَ الحَكِيمَ ذا الرَّحمةِ الواسِعةِ وذا المَحَبّةِ الفائِقةِ وذا الرَّأْفةِ الشّامِلةِ والَّذي يُحِبُّ صَنْعَتَه كَثيرًا، ويُحَبِّبُ نَفسَه بها إلى مَخلُوقاتِه وهو أَشَدُّ حُبًّا لِمَن يُحِبُّونه.. فهل يُعقَلُ أن يُفنِيَ حَياةَ مَن هو أَكثَرُ حُبًّا له، وأَهلٌ للحُبِّ، وعابِدٌ لِخالِقِه فِطرةً؟ ويُفنيَ كذلك لُبَّ الحَياةِ وجَوْهَرَها وهو الرُّوحُ، بالمَوتِ الأَبَدِيِّ والإعدامِ النِّهائيِّ، ويُوَلِّدَ جَفْوةً بينَه وبينَ مُحِبِّيه ويُؤْلِمَهم أشَدَّ الإيلامِ، فيَجعَلَ سِرَّ رَحمَتِه ونُورَ مَحَبَّتِه مُعَرَّضًا للإنكارِ! حاشَ لله أَلفَ مَرّةٍ حاشَ لله..

فالجَمالُ المُطلَقُ الَّذي زَيَّن بتَجَلِّيه هذا الكَونَ وجَمَّلَه، والرَّحمةُ المُطلَقةُ الَّتي أَبهَجَتِ المَخلُوقاتِ قاطِبةً وزَيَّنَتها، لا شكَّ أنَّهما مُنَزَّهَتانِ ومُقَدَّسَتانِ بلا نهايةٍ ولا حَدٍّ عن هذه القَساوةِ، وعن هذا القُبحِ المُطلَقِ والظُّلمِ المُطلَقِ.

النتيجةُ: ما دامَت في الدُّنيا حَياةٌ، فلا بُدَّ أنَّ الَّذين يَفهَمُون سِرَّ الحَياةِ مِنَ البَشَرِ، ولا يُسِيئُون استِعمالَ حَياتِهم، يكُونُون أَهلًا لِحَياةٍ باقِيةٍ، في دارٍ باقِيةٍ، وفي جَنّةٍ باقِيةٍ.. آمَنّا.

[الإيمان بالحي القيوم]

ثمَّ، إنَّ تَلَأْلُؤَ المَوادِّ اللَّمَّاعةِ على سَطْحِ الأَرضِ، وتَلَمُّعَ الفُقاعاتِ والحَبابِ والزَّبَدِ على سَطْحِ البَحْرِ، ثمَّ انطِفاءَ ذلك التَّلَألُؤِ والبَريقِ بزَوالِ الفُقاعاتِ، ولَمَعانَ الَّتي تَعقُبُها كأنَّها مَرايا لشُمَيْساتٍ خَيالِيّةٍ، يُظهِرُ لنا بَداهةً أنَّ تلك اللَّمَعاتِ ما هي إلَّا تَجَلِّي انعِكاسِ شَمْسٍ واحِدةٍ عالِيةٍ؛ وتَذكُرُ بمُختَلِفِ الأَلسِنةِ وُجُودَ الشَّمسِ، وتُشِيرُ إلَيها بأَصابِعَ مِن نُورٍ.. وكذلك الأَمرُ في تَلَألُؤِ ذَوِي الحَياةِ على سَطْحِ الأَرضِ وفي البَحْرِ، بالقُدرةِ الإِلٰهِيّةِ، وبتَجَلِّي اسمِ “المُحيِي” للحَيِّ القَيُّومِ جَلَّ جَلالُه، واختِفائِها وَراءَ سِتارِ الغَيبِ لِفَسْحِ المَجالِ للَّذي يَخلُفُها بعدَ أن رَدَّدَت: “يا حَيُّ“، ما هي إلَّا شَهاداتٌ وإشاراتٌ للحَياةِ السَّرمَدِيّةِ، ولِوُجُوبِ وُجُودِ الحَيِّ القَيُّومِ سُبحانَه وتَعالَى.

وكذا، فإنَّ جَميعَ الدَّلائلِ الَّتي تَشهَدُ على العِلمِ الإِلٰهِيِّ الَّذي تُشاهَدُ آثارُه مِن تَنظِيمِ المَوجُوداتِ، وجَميعَ البَراهِينِ الَّتي تُثبِتُ القُدرةَ المُتَصرِّفةَ في الكَوْنِ، وجَميعَ الحُجَجِ الَّتي تُثبِتُ الإرادةَ والمَشِيئةَ المُهَيمِنةَ على إدارةِ الكَونِ وتَنظِيمِه، وجَميعَ العَلاماتِ والمُعجِزاتِ الَّتي تُثبِتُ الرِّسالاتِ الَّتي هي مَدارُ الكَلامِ الرَّبّانيِّ والوَحْيِ الإِلٰهِيِّ.. جَميعَ هذه الدَّلائلِ الَّتي تَشهَدُ وتَدُلُّ على الصِّفاتِ الإِلٰهِيّةِ السَّبعِ الجَلِيلةِ، تَدُلُّ وتَشهَدُ أيضًا بالاتِّفاقِ على حَياةِ “الحَيِّ القَيُّومِ” سُبحانَه؛ لأنه لو وُجِدَتِ الرُّؤيةُ في شيءٍ فلا بُدَّ أنَّ له حياةً أيضًا، ولو كان له سَمْعٌ فذلك عَلامةُ الحَياةِ، ولو وُجِدَ الكَلامُ فهو إشارةٌ إلى وُجُودِ الحَياةِ، ولو كان هناك الِاختِيارُ والإرادةُ فتلك مَظاهِرُ الحَياةِ.. وهكذا، فإنَّ جَميعَ دَلائلِ الصِّفاتِ الجَليلةِ الَّتي تُشاهَدُ آثارُها ويُعلَمُ بَداهةُ وُجُودِها الحَقيقيِّ، أَمثالَ القُدرةِ المُطلَقةِ، والإرادةِ الشَّامِلةِ، والعِلمِ المُحِيطِ، تَدُلُّ على حَياةِ “الحَيِّ القَيُّومِ“، ووُجُوبِ وُجُودِه، وتَشهَدُ على حَياتِه السَّرمَدِيّةِ الَّتي نَوَّرَتْ بشُعاعٍ مِنها جَميعَ الكَوْنِ، وأَحْيَت بتَجَلٍّ مِنها الدّارَ الآخِرةَ كُلَّها بذَرّاتِها معًا..

[الإيمان بالملائكة]

والحَياةُ كذلك تَنظُرُ وتَدُلُّ على الرُّكنِ الإيمانِيِّ: “الإيمانُ بالمَلائكةِ“، وتُثْبِتُه رَمْزًا.

إذ ما دامَتِ الحَياةُ هي أَهَمَّ نَتِيجةٍ للكَوْنِ، وأنَّ ذَوِي الحَياةِ لِنَفاسَتِهم هم أَكثَرُ انتِشارًا وتَكاثُرًا، وهُمُ الَّذين يَتَتابَعُون إلى دارِ ضِيافةِ الأَرضِ قافِلةً إِثْرَ قافِلةٍ، فتَعْمُرُ بهم وتَبتَهِجُ؛ وما دامَتِ الكُرةُ الأَرضِيّةُ هي مَحَطُّ هذا السَّيلِ مِن ذَوِي الحَياةِ، فتُملَأُ وتُخلَى بحِكمةِ التَّجدِيدِ والتَّكاثُرِ باستِمرارٍ، ويُخلَقُ في أَخَسِّ الأَشياءِ والعُفُوناتِ ذَوُو حَياةٍ بغَزارةٍ، حتَّى أَصبَحَتِ الكُرةُ الأَرضِيّةُ مَعرِضًا عامًّا للأَحياءِ؛ وما دامَ يُخلَقُ بكَثرةٍ هائلةٍ على الأَرضِ أَصفَى خُلاصةٍ لِتَرَشُّحِ الحَياةِ وهو الشُّعورُ والعَقلُ وجَوهَرُها اللَّطيفُ الثّابتُ وهو الرُّوحُ، فكأَنَّ الأَرضَ تَحيا وتَتَجمَّلُ بالحَياةِ والعَقلِ والشُّعورِ والأَرواحِ.. فلا يُمكِنُ أن تكُونَ الأَجرامُ السَّماوِيّةُ الَّتي هي أَكثَرُ لَطافةً وأَكثَرُ نُورًا وأَعظَمُ أَهَمِّيّةً مِنَ الأَرضِ جامِدةً بلا حَياةٍ وبلا شُعُورٍ. فالَّذين سيَعْمُرُون السَّماواتِ إذًا يَعْمُرُونها ويُبهِجُون الشُّمُوسَ والنُّجُومَ، ويَهَبُون لها الحَيَويّةَ، ويُمَثِّلون نَتيجةَ خَلْقِ السَّماواتِ وثَمَرَتَها، والَّذين سيَتَشرَّفُون بالخِطاباتِ السُّبحانيّةِ، هم ذَوُو شُعُورٍ وذَوُو حَياةٍ مِن سُكّانِ السَّماواتِ وأَهالِيها المُتَلائِمِين معَها حيثُ يُوجَدُون هناك بسِرِّ الحَياةِ، وهُمُ المَلائكةُ.

[الإيمان بالرسل والكتب]

وكذلك يَنظُرُ سِرُّ الحَياةِ وماهِيَّتُها ويَتَوَجَّهُ إلى “الإيمانِ بالرُّسُلِ” ويُثْبِتُه رَمْزًا.

نعم، ما دامَ الكَونُ قد خُلِقَ لِأَجلِ الحَياةِ، وأنَّ الحَياةَ هي أَعظَمُ تَجَلٍّ وأَكمَلُ نَقْشٍ وأَجمَلُ صَنْعةٍ للحَيِّ القَيُّومِ جَلَّ جَلالُه، وما دامَت حَياتُه السَّرمَدِيّةُ الخالِدةُ تُظهِرُ وتَكشِفُ عن نَفسِها بإرسالِ الرُّسُلِ وإنزالِ الكُتُب، إذ لو لم تَكُن هناك “رُسُلٌ” ولا “كُتُبٌ” لَما عُرِفَت تلك الحَياةُ الأَزَليّةُ، فكما أنَّ تَكَلُّمَ الفَرْدِ يُبيِّنُ حَيَويَّتَه وحَياتَه، كذلك الأَنبِياءُ والرُّسُلُ عَلَيهِم السَّلَام والكُتُبُ المُنزَّلةُ عليهم يُبيِّنُون ويَدُلُّون على ذلك المُتكَلِّمِ الحَيِّ الَّذي يَأمُرُ ويَنهَى بكَلِماتِه وخِطاباتِه مِن وَراءِ الغَيبِ المَحجُوبِ وَراءَ سِتارِ الكَونِ؛ فلا بُدَّ أنَّ الحَياةَ الَّتي في الكَوْنِ كما تَدُلُّ دَلالةً قاطِعةً على “الحَيِّ الأَزَليِّ” سُبحانَه وتَعالَى، وعلى وُجُوبِ وُجُودِه، كَذلِك تَدُلُّ أَركانُ الإيمانِ مِثلَ “إرسالِ الرُّسُلِ” و”إنزالِ الكُتُبِ”، تلك الأَركانُ الَّتي هي شُعاعاتُ الحَياةِ الأَزَليّةِ وتَجَلِّياتُها وتُثبِتُهما رَمْزًا، ولا سيَّما “الرِّسالةُ المُحمَّديّةُ” و”الوَحْيُ القُرآنِيُّ“، إذ يَصِحُّ القَولُ: إنَّهما ثابِتانِ قاطِعانِ كقَطعِيّةِ ثُبُوتِ الحَياةِ، حيث إنَّهما بمَثابةِ رُوحِ الحَياةِ وعَقلِها.

نعم، كما أنَّ الحَياةَ هي خُلاصةٌ مُتَرَشِّحةٌ مِن هذا الكَونِ، والشُّعُورَ والحِسَّ مُتَرَشِّحانِ مِنَ الحَياةِ، فهما خُلاصَتُها، والعَقلَ مَتَرَشِّحٌ مِنَ الشُّعُورِ والحِسِّ، فهو خُلاصةُ الشُّعُورِ، والرُّوحَ هي الجَوهَرُ الخالِصُ الصّافي للحَياةِ، فهي ذاتُها الثّابِتةُ المُستَقِلّةُ؛ كذلك الحَياةُ المُحَمَّديّةُ المادِّيّةُ والمَعنَويّةُ مُتَرَشِّحةٌ مِنَ الحَياةِ ومِن رُوحِ الكَونِ، فهي خُلاصةُ خُلاصَتِها، والرِّسالةُ المُحمَّديّةُ مُتَرَشِّحةٌ مِن حِسِّ الكَونِ وشُعُورِه وعَقلِه، فهي أَصفَى خُلاصَتِه، بل إنَّ حَياةَ مُحمَّدٍ ﷺ المادِّيّةَ والمَعنَويّةَ بشَهادةِ آثارِها حَياةٌ لِحَياةِ الكَونِ، والرِّسالةَ المُحمَّديّةَ شُعُوٌر لِشُعُورِ الكَونِ ونُورٌ له؛ والوَحْيَ القُرآنِيَّ بشَهادةِ حَقائقِه الحَيَويّةِ رُوحٌ لِحَياةِ الكَونِ وعَقلٌ لِشُعُورِه.. أجل.. أجل.. أجل.

فإذا ما فارَقَ نُورُ الرِّسالةِ المُحمَّديّةِ الكَونَ وغادَرَه، ماتَ الكَونُ وتُوُفِّيَتِ الكائِناتُ، وإذا ما غابَ القُرآنُ وفارَقَ الكَونَ، جُنَّ جُنُونُه وفَقَدَتِ الكُرةُ الأَرضِيّةُ صَوابَها، وزُلزِلَ عَقلُها، وظَلَّت بلا شُعُورٍ، واصطَدَمَت بإحدَى سَيّاراتِ الفَضاءِ، وقامَتِ القِيامةُ.

[الإيمان بالقَدَر]

والحَياةُ كذلك، تَنظُرُ إلى الرُّكنِ الإيمانِيِّ “القَدَر”، وتَدُلُّ عليه وتُثبِتُه رَمْزًا.

إذ ما دامَتِ الحَياةُ ضِياءً لِعالَمِ الشَّهادةِ وقدِ استَوْلَت عليه وأَحاطَت به، وهي نَتِيجةُ الوُجُودِ وغايَتُه، وأَوسَعُ مِرآةٍ لِتَجَلِّياتِ خالِقِ الكَونِ، وأَتَمُّ فِهرِسٍ ونَمُوذَجٍ للفَعّالِيّةِ الرَّبّانيّةِ، حتَّى كأنَّها بمَثابةِ نَوعٍ مِن خُطَّتِها ومَنهَجِها -إذا جازَ التَّشبيهُ- فلا بُدَّ أنَّ سِرَّ الحَياةِ يَقتَضي أن يكُونَ عالَمُ الغَيبِ أيضًا -وهو بمَعنَى الماضي والمُستَقبَلِ، أي: المَخلُوقاتُ الماضِيةُ والقابِلةُ- في نِظامٍ وانتِظامٍ، وأن يكُونَ مَعلُومًا ومَشهُودًا ومُتَعيِّنًا ومُتَهَيِّئًا لِامتِثالِ الأَوامِرِ التَّكوِينيّةِ، أي: كأَنَّه في حَياةٍ مَعنَويّةٍ؛ مَثَلُها كمَثَلِ تلك البِذرةِ الأَصليّةِ للشَّجَرةِ وأُصُولِها، والنَّوَى في أَثمارِها الَّتي في مُنتَهاها، الَّتي تَتَميَّزُ بمَزايا نَوْعٍ مِنَ الحَياةِ كالشَّجرةِ نَفسِها، بل قد تَحمِلُ تلك البُذُورُ قَوانينَ حَياتيّةً أَدَقَّ مِن قَوانينِ حَياةِ الشَّجَرةِ.

فكما أنَّ البُذُورَ والأُصُولَ الَّتي خَلَّفَها الخَريفُ الماضي وسيَخْلُفُها هذا الرَّبيعُ، تَحمِلُ نُورَ الحَياةِ وتَسِيرُ وَفْقَ قَوانينَ حَياتيّةٍ، مِثلَ ما يَحمِلُه هذا الرَّبيعُ مِن حَياةٍ، كذلك شَجَرةُ الكائناتِ، وكلُّ غُصْنٍ مِنها وكلُّ فَرْع له ماضِيه ومُستقبَلُه، وله سِلسِلةٌ مُؤلَّفةٌ مِنَ الأَطوارِ والأَوضاعِ، القابِلةِ والماضِيةِ، ولكلِّ نَوعٍ ولِكلِّ جُزءٍ مِنه وُجُودٌ مُتَعدِّدٌ بأَطوارٍ مُختَلِفةٍ في العِلمِ الإِلٰهِيِّ، مُشَكِّلًا بذلك سِلسِلةَ وُجُودٍ عِلْمِيٍّ؛ والوُجُودُ العِلمِيُّ هذا -كالوُجُودِ الخارِجِيِّ- مَظهَرٌ لِتَجَلٍّ مَعنَوِيٍّ للحَياةِ العامّةِ، حيثُ تُؤخَذُ المُقَدَّراتُ الحَياتيّةُ مِن تلك الأَلواحِ القَدَرِيّةِ الحَيّةِ ذاتِ المَغزَى العَظيمِ.

نعم، إنَّ امتِلاءَ عالَمِ الأَرواحِ -وهو نَوعٌ مِن عالَمِ الغَيبِ- بالأَرواحِ الَّتي هي عَينُ الحَياةِ ومادَّتُها، وجَوهَرُها وذَواتُها، يَستَلزِمُ أن يكُونَ الماضي والمُستَقبَلُ -وهما نَوعانِ مِن عالَمِ الغَيبِ وقِسمٌ ثانٍ مِنه- مُتَجَلِّيةً فيهما الحَياةُ.. وكذا فإنَّ الِانتِظامَ التّامَّ والتَّناسُقَ الكامِلَ في الوُجُودِ العِلْمِيِّ لِأَوْضاعٍ ذاتِ مَعانٍ لَطِيفةٍ لِشَيءٍ مّا ونَتائجَه وأَطوارَه الحَيَوِيّةَ، لَيُبيِّنُ أنَّ له أَهلِيّةً لِنَوعٍ مِنَ الحَياةِ المَعنَويّةِ.

نعم، إنَّ مِثلَ هذا التَّجَلِّي -تَجَلِّي الحَياةِ الَّذي هو ضِياءُ شَمسِ الحَياةِ الأَزَليّةِ- لن يَنحَصِرَ في عالَمِ الشَّهادةِ هذا فقط، ولا في هذا الزَّمانِ الحاضِرِ، ولا في هذا الوُجُودِ الخارِجِيِّ، بل لا بُدَّ أنَّ كُلَّ عالَمٍ مِنَ العَوالِمِ مَظهَرٌ مِن مَظاهِرِ تَجَلِّي ذلك الضِّياءِ حَسَبَ قابِلِيَّتِه؛ فالكَوْنُ إذًا بجَميعِ عَوالِمِه حَيٌّ ومُشِعٌّ مُضِيءٌ بذلك التَّجَلِّي، وإلَّا لَأَصبَحَ كُلٌّ مِنَ العَوالِمِ -كما تَراه عَينُ الضَّلالةِ- جِنازةً هائلةً مُخِيفةً تحتَ هذه الحَياةِ المُؤقَّتةِ الظّاهِرةِ، وعالَمًا خَرِبًا مُظلِمًا.

وهكذا يُفهَمُ وَجهٌ مِن أَوْجُهِ الإيمانِ بالقَضاءِ والقَدَرِ مِن سِرِّ الحَياةِ ويَثبُتُ به ويَتَّضِحُ، أي: كما تَظهَرُ حَيَويّةُ عالَمِ الشَّهادةِ والمَوجُوداتِ الحاضِرةِ بانتِظامِها وبنَتائِجِها، كذلك المَخلُوقاتُ الماضِيةُ والآتِيةُ الَّتي تُعَدُّ مِن عالَمِ الغَيبِ لها وُجُودٌ مَعنَوِيٌّ، ذُو حَياةٍ مَعنًى، ولها ثُبُوتٌ عِلمِيٌّ ذُو رُوحٍ بحَيثُ يَظهَرُ باسمِ المُقَدَّراتِ أَثَرُ تلك الحَياةِ المَعنَويّةِ بوَساطةِ لَوْحِ القَضاءِ والقَدَرِ.

[الرمز الخامس: جامعية الحياة]

الرَّمزُ الخامِسُ:

لقد ذُكِر في الخاصِّيّةِ السّادِسةَ عَشْرةَ مِن خَصائِصِ الحَياةِ أنَّه ما إن تَنفُذُ الحَياةُ في شَيءٍ حتَّى تُصَيِّرَه عالَمًا بحَدِّ ذاتِه، إذ تَمنَحُه مِنَ الجامِعِيّةِ ما يَجعَلُه كُلًّا إن كانَ جُزءًا، وما يَجعَلُه كُلِّـيًّا إن كانَ جُزئِيًّا؛ فالحَياةُ لها مِنَ الجامِعِيّةِ بحَيثُ تَعرِضُ في نَفسِها أَغلَبَ الأَسماءِ الحُسنَى المُتَجلِّيةِ على الكائِناتِ كُلِّها، وكأنَّها مِرآةٌ جامِعةٌ تَعكِسُ تَجَلِّياتِ الأَحَدِيّةِ، فحالَما تَدخُلُ الحَياةُ في جِسمٍ تَعمَلُ على تَحوِيلِه إلى عالَمٍ مُصَغَّرٍ، لَكَأنَّها تُحِيلُه بمَثابةِ بِذْرةٍ حامِلةٍ لِفِهرِسِ شَجَرةِ الكائِناتِ، وكما لا يُمكِنُ أن تكُونَ البِذرةُ إلّا أَثَرَ قُدرةِ خالِقِ شَجَرتِها، كَذلِك الَّذي خَلَق أَصغَرَ كائِنٍ حَيٍّ لا بُدَّ أنَّه هو خالِقُ الكَونِ كُلِّه.

فهذه الحَياةُ بجامِعِيَّتِها هذه تُظهِرُ في نَفسِها أَخفَى أَسرارِ الأَحَدِيّةِ وأَدَقَّها، أي: كما أنَّ الشَّمسَ العَظِيمةَ تُوجَدُ بضِيائِها وأَلوانِها السَّبعةِ وانعِكاساتِها فيما يُقابِلُها مِن قَطرةِ ماءٍ أو قِطعةِ زُجاجٍ، كَذلِك الأَمرُ في كلِّ ذِي حَياةٍ الَّذي تَتَجلَّى فيه جَمِيعُ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى وأَنوارُ الصِّفاتِ الإِلٰهِيّةِ المُحِيطةِ بالكَونِ؛ فالحَياةُ -مِن هذه الزّاوِيةِ- تَجعَلُ الكَونَ مِن حَيثُ الرُّبُوبيّةُ والإِيجادُ بحُكمِ الكُلِّ الَّذي لا يَقبَلُ الِانقِسامَ والتَّجزِئةَ، وتَجعَلُه بحُكمِ الكُلِّيِّ الَّذي تَمتَنِعُ علَيْه التَّجزِئةُ والِاشتِراكُ.

نعم، إنَّ الخَتمَ الَّذي وَضَعَه الخالِقُ سُبحانَه على وَجهِك يَدُلُّ بالبَداهةِ على أنَّ الَّذي خَلَقَك هو خالِقُ بَنِي جِنسِك كلِّهِم، ذلك لِأنَّ الماهِيّةَ الإِنسانيّةَ واحِدةٌ، فانقِسامُها غَيرُ مُمكِنٍ؛ وكَذلِك الأَمرُ في أَجزاءِ الكائِناتِ، إذ تَتَحوَّلُ بواسِطةِ الحَياةِ كأنَّها أَفرادُ الكائِناتِ، والكائِناتُ كأنَّها نَوعٌ لِتِلك الأَفرادِ.. فكما تُظهِرُ الحَياةُ خَتمَ الأَحَدِيّةِ على مَجمُوعِ الكَونِ، فإنَّها تَرُدُّ الشِّركَ والِاشتِراكَ وتَرفُضُه رَفضًا باتًّا بإِظهارِها خَتمَ الأَحَدِيّةِ نَفسِه وخَتمَ الصَّمَدِيّةِ على كلِّ جُزءٍ مِن أَجزاءِ الكَونِ.

ثمَّ إنَّ في الحَياةِ مِن خَوارِقِ الصَّنعةِ الرَّبّانيّةِ ومُعجِزاتِ الإِبداعِ الباهِرِ بحَيثُ إنَّه مَن لم يكُن قادِرًا على خَلقِ الكَونِ يَعجِزُ كُلِّـيًّا عن خَلقِ أَصغَرِ كائِنٍ حَيٍّ فيه.

نعم، إنَّ القَلَمَ الَّذي كَتَب فِهرِسَ شَجَرةِ الصَّنَوبَرِ الضَّخمةِ ومُقَدَّراتِها في بِذرَتِها الصَّغِيرةِ -ككِتابةِ القُرآنِ مَثلًا على حَبّةِ حِمِّصٍ- هو ذلك القَلَمُ نَفسُه الَّذي رَصَّع صَحائِفَ السَّماءِ بلَآلِئِ النُّجُومِ؛ وإنَّ الَّذي أَدرَج في رَأسِ النَّحلِ الصَّغِيرِ استِعدادًا يُمَكِّنُها مِن مَعرِفةِ أَزهارِ حَدائِقِ العالَمِ كُلِّه، وتَقدِرُ على الِارتِباطِ معَ أَغلَبِها بوَشائِجَ، ويَجعَلُها قادِرةً على تَقدِيمِ أَلَذِّ هَدِيّةٍ مِن هَدايا الرَّحمةِ الإِلٰهِيّةِ -وهِي العَسَلُ- ويَدفَعُها إلى مَعرِفةِ شَرائِطِ حَياتِها مُنذُ أوَّلِ قُدُومِها إلى الحَياةِ، لا شَكَّ أنَّه هو خالِقُ الكَونِ كُلِّه، وهُو الَّذي أَودَع هذا الِاستِعدادَ الواسِعَ والقابِلِيّةَ العَظِيمةَ والأَجهِزةَ الدَّقيقةَ فيها.

الخُلاصةُ: إنَّ الحَياةَ آيةُ تَوحِيدٍ ساطِعةٌ تَسطَعُ على وَجهِ الكائِناتِ، وإنَّ كلَّ ذِي رُوحٍ -مِن جِهةِ حَياتِه- آيةٌ لِلأَحَدِيّةِ، وإنَّ الصَّنعةَ المُتقَنةَ المَوجُودةَ على كلِّ فَردٍ مِنَ الأَحياءِ خَتمٌ لِلصَّمَدِيّةِ؛ وبهذا فجَمِيعُ ذَوِي الحَياةِ يُصَدِّقُونَ ببَصَماتِ حَياتِهِم رِسالةَ الكَونِ هذه، ويُعلِنُونَ أنَّها مِنَ “الحَيِّ القَيُّومِ الواحِدِ الأَحَدِ”.. فكُلٌّ مِنها خَتمٌ لِلوَحْدانيّةِ في تلك الرِّسالةِ فَضْلًا عن أنَّها خَتمٌ لِلأَحَدِيّةِ وعَلامةُ الصَّمَدِيّةِ، فكما أنَّ الأَمرَ هكذا في الحَياةِ، فكُلُّ كائِنٍ حَيٍّ أَيضًا خَتمٌ لِلوَحدانيّةِ في كِتابِ الكَونِ؛ كما قد وُضِع على وَجهِه وسِيماه خَتمُ الأَحَدِيّةِ.

وكَما أنَّ الحَياةَ -بعَدَدِ جُزئيّاتِها وبعَدَدِ أَفرادِها الحَيّةِ- أَختامٌ وبَصَماتٌ حَيّةٌ تَشهَدُ على وَحدانيّةِ “الحَيِّ القَيُّومِ”، فكَذَلِك فِعلُ البَعثِ -الإِحياءُ- أَيضًا يَختِمُ بأَختامِ التَّصدِيقِ على التَّوحِيدِ بعَدَدِ أَفرادِهِ؛ فإِحياءُ الأَرضِ الَّذي هو مِثالٌ واحِدٌ على البَعثِ هو شاهِدُ صِدقٍ ساطِعٌ على التَّوحِيدِ كالشَّمسِ، لِأنَّ بَعْثَ الأَرضِ في الرَّبِيعِ وإِحياءَها يَعنِي بَعثَ أَفرادٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى لِأَنواعِ الأَحياءِ الَّتي تَربُو على ثَلاثِ مِئةِ أَلفِ نَوعٍ، فتُبعَثُ جَمِيعًا مَعًا مِن دُونِ نَقصٍ ولا قُصُورٍ بَعثًا مُتَداخِلًا مُتَكامِلًا مُنتَظِمًا.. فالَّذي يَفعَلُ بهذا الفِعلِ أَفعالًا مُنتَظِمةً لا حُدُودَ لها فإنَّه هو خالِقُ المَخلُوقاتِ جَمِيعِها، وإنَّه “الحَيُّ القَيُّومُ” الَّذي يُحيِي ذَوِي الحَياةِ قاطِبةً، وأنَّه الواحِدُ الأَحَدُ الَّذي لا شَرِيكَ له في رُبُوبيَّتِه قَطُّ.

اكتَفَيْنا بهذا القَدْرِ القَلِيلِ المُختَصَرِ مِن بَسطِ خَواصِّ الحَياةِ، مُحِيلِينَ بَيانَ الخَواصِّ الأُخرَى وتَفصِيلاتِها إلى أَجزاءِ “رَسائِلِ النُّورِ” وفي وَقتٍ آخَرَ.

[خاتمة: الاسم الأعظم ليس واحدًا]

الخاتِمةُ

إنَّ الِاسمَ الأَعظَمَ ليس واحِدًا لِكُلِّ أَحَدٍ، بل يَختَلِفُ ويَتَبايَنُ، فمَثلًا: هو لَدَى الإمامِ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ سِتّةُ أَسماءٍ حُسنَى هي: “فَردٌ، حَيٌّ، قَيُّومٌ، حَكَمٌ، عَدْلٌ، قُدُّوسٌ“، ولَدَى أَبي حَنِيفةَ النُّعمانِ رَضِيَ الله عَنهُ اسمانِ هُما: “حَكَمٌ عَدْلٌ“، ولَدَى الشَّيخِ الكَيْلانِيِّ قُدِّسَ سِرُّه هو اسمٌ واحِدٌ: “يا حَيُّ“، ولَدَى الإمامِ الرَّبّانِيِّ أَحمَدَ الفارُوقيِّ السِّرهِندِيِّ رَضِيَ الله عَنهُ هو: “القَيُّومُ“، وهكذا.. فلَدَى الكَثِيرِينَ مِنَ العُظَماءِ الأَفذاذِ أَسماءٌ أُخرَى هي الِاسمُ الأَعظَمُ عِندَهُم.‌

ولَمَّا كانَت هذه النُّـكتةُ الخامِسةُ تَخُصُّ اسمَ اللهِ “الحَيَّ“، وقد أَظهَر الرَّسُولُ الأَعظَمُ ﷺ في مُناجاتِه الرَّفيعةِ المُسَمّاةِ بـ”الجَوشَنِ الكَبِيرِ” مَعرِفَتَه الجامِعةَ السّامِيةَ للهِ إِظهارًا يَلِيقُ به وَحدَه؛ لِذا نَذكُرُ مِن تلك المُناجاةِ شاهِدًا ودَليلًا وحُجّةً، وتَبَـرُّكًا ودُعاءً مَقبُولًا، وخاتِمةً حَسَنةً لِهذه الرِّسالةِ، فنَذهَبُ خَيالًا إلى ذلك الزَّمانِ ونقُولُ: آمِينَ.. آمِينَ، على ما يَقُولُه الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ، فنُرَدِّدُ المُناجاةَ نَفسَها على أَصداءِ ذلك القَولِ النَّبوِيِّ الكَرِيمِ:

﴿يَا حَيُّ قَبْلَ كُلِّ حَيٍّ * يَا حَيُّ بَعدَ كُلِّ حَيٍّ﴾

﴿يَا حَيُّ الَّذي لا يُشْبِهُهُ شَيءٌ * يَا حَيُّ الَّذي لَيسَ كَمِثلِهِ حَيٌّ﴾

﴿يَا حَيُّ الَّذي لا يُشَارِكُهُ حَيٌّ * يَا حَيُّ الَّذي لا يَحتَاجُ إلى حَيٍّ﴾

﴿يَا حَيُّ الَّذي يُمِيتُ كُلَّ حَيٍّ * يَا حَيُّ الَّذي يَرْزُقُ كُلَّ حَيٍّ﴾

﴿يَا حَيُّ الَّذِي يُحْيِي المَوتَى * يَا حَيُّ الَّذي لا يَمُوتُ﴾

﴿سُبْحَانَكَ يَا لَا إِلٰهَ إلّا أنْتَ.. الأَمَانَ الأَمَانَ.. نَجِّنَا مِنَ النَّارِ آمِينَ﴾.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

❀   ❀   ❀

[النكتة السادسة: حول اسم “القيوم”]

النُّـكتة السَّادسة للَّمْعة الثلاثين‌

تتطلَّع إلى اسم الله‌ (القَيُّوم)

لقد أَصبَحَتِ الخُلاصةُ المُقتَضَبةُ لِاسمِ اللهِ “الحَيِّ” ذَيلًا لِرسالة “مَنبَع النُّورِ”، كما ارْتُئِيَ أن تكُونَ هذه النُّكتةُ الَّتي تَخُصُّ اسمَ اللهِ “القَيُّومَ” ذَيلًا لِلكَلِمةِ الثَّلاثِينَ.

اعتِذارٌ

إنَّ هذه المَسائِلَ البالِغةَ الأَهَمِّيّةِ، والتَّجَلِّيَ الأَعظَمَ لِاسمِ اللهِ “القَيُّومِ” العَمِيقِ الواسِعِ، لم تَتَوارَد إلى القَلبِ تَوارُدًا مُتَعاقِبًا مُنتَظِمًا، الواحِدةَ تِلوَ الأُخرَى، بل سَطَعَت على صُورةِ لَمَعاتٍ مُتَفرِّقةٍ، فدَوَّنتُها كما خَطَرَت لي ولم أُجْرِ علَيْها أيَّ تَعدِيلٍ أو تَغيِيرٍ أو تَشذِيبٍ.. فلا جَرَمَ أن يَعتَوِرَها شَيءٌ مِنَ الخَلَلِ في الأَداءِ البَيانِيِّ والسَّبكِ البَلاغِيِّ.. فأَرجُو أن تَتَكرَّمُوا بالصَّفحِ عمّا تُشاهِدُونَه مِن قُصُورٍ في الشَّكلِ لِأَجلِ جَمالِ المَضمُونِ وحُسنِ مُحتَواه.

[تنبيه]

تنبيهٌ

إنَّ المَسائِلَ اللَّطِيفةَ والنِّكاتِ الدَّقيقةَ الَّتي تَخُصُّ الِاسمَ الأَعظَمَ هي عَظِيمةُ السَّعةِ، عَمِيقةُ الأَغوارِ، ولا سِيَّما المَسائِلُ الَّتي تَخُصُّ اسمَ “الحَيِّ القَيُّومِ”، وبخاصّةٍ الشُّعاعَ الأوَّلَ مِنها، الَّذي وَرَد وُرُودًا أَعمَقَ مِن غَيرِه لِتَوجُّهِه مُباشَرةً إلى المادِّيِّينَ4إن لم يكُن قارِئُ هذه الرِّسالةِ على اطِّلاعٍ واسعٍ على العُلُومِ، فعلَيْه ألّا يَقرَأ هذا الشُّعاعَ، أو أن يَقرَأَه في الخِتامِ، وليَشرَع مِنَ الشُّعاعِ الثّاني..

لِذا فلَيسَ الجَمِيعُ سَواءً في إِدراكِهِم لِمَسائِلِه كُلِّها، ورُبَّما صَعُب على البَعضِ الإِحاطةُ ببَعضٍ مِنها، وفاتَه إِدراكُ جُزءٍ هنا وجُزءٍ هُناك، إلّا أنَّنا مُطمَئِنُّونَ إلى أنَّ أَحَدًا لن يَخرُجَ مِنَ النَّظَرِ فيها، مِن غَيرِ أن يَستَفِيدَ شَيئًا، بل سيَنالُ -بلا شَكٍّ- حَظَّه المَقسُومَ له مِن كلِّ مَسأَلةٍ مِنها، “فما لا يُدرَكُ كُلُّه، لا يُتْرَكُ كُلُّه” كما تَقُولُ القاعِدةُ السَّارِيةُ؛ فلَيسَ صَوابًا أن يَدَعَ أَحَدٌ هذه الرَّوضةَ المَعنَوِيّةَ المَلِيئةَ بالثَّمَراتِ بحُجّةِ عَجزِه عن جَنيِ جَمِيعِ ثَمَراتِها! فما قَطَفَه مِنها وحَصَل علَيْه فهُو كَسْبٌ ومَغنَمٌ.

ومِثلَما أنَّ مِنَ المَسائِلِ الَّتي تَخُصُّ الِاسمَ الأَعظَمَ ما هو واسِعٌ جِدًّا لِدَرَجةٍ تَتَعذَّرُ معَها الإحاطةُ الكُلِّيّة به، فإنَّ فيها أَيضًا مَسائِلَ لها مِنَ الدِّقّةِ ما تَنِدُّ بها عن بَصَرِ العَقلِ، ولا سِيَّما رُمُوزُ الحَياةِ إلى أَركانِ الإِيمانِ الَّتي هي في اسمِ اللهِ “الحَيِّ“، وإِشاراتُ الحَياةِ فيه إلى الإِيمانِ بالقَضاءِ والقَدَرِ، والشُّعاعُ الأوَّلُ لِاسمِ اللهِ “القَيُّومِ“.. ولكِن معَ هذا لا يَبقَى أَحَدٌ دُونَ الأَخذِ بحَظٍّ مِنها، بل تَشُدُّ إِيمانَه وتَزِيدُه سَعةً ومَدًى على أَقَلِّ تَقدِيرٍ، ولا غَرْوَ فإنَّ زِيادةَ الإِيمانِ الَّذي هو مِفتاحُ السَّعادةِ الأَبدِيّةِ إنَّما هو على جانِبٍ عَظِيمٍ مِنَ الأَهَمِّيّةِ، فزِيادَتُه ولو بمِقدارِ ذَرّةٍ كَنزٌ عَظِيمٌ، كما يقُولُ الإمامُ الرَّبّانِيُّ أَحمَدُ الفارُوقِيُّ السِّرهِندِيُّ: “إنَّ انكِشافَ مَسأَلةٍ صَغِيرةٍ مِن مَسائِلِ الإِيمانِ لَهُو أَفضَلُ في نَظَرِي مِن مِئاتٍ مِنَ الأَذواقِ والكَراماتِ”.

❀   ❀   ❀

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾

﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾

﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾

لقد تَراءَى لِعَقلِي في شَهرِ ذِي القَعدةِ وأنا نَزِيلُ سِجنِ “أَسكِي شَهِر” تَجَلٍّ عَظِيمٌ مِن أَنوارِ اسمِ اللهِ الأَعظَمِ “القَيُّومِ” الَّذي هو الِاسمُ الأَعظَمُ وثانِي اثنَينِ مِن نُورَيهِ، أوِ السّادِسُ مِنَ الأَنوارِ السِّتّةِ لِلِاسمِ الأَعظَمِ؛ كما تَراءَت نُكتةٌ مِن نِكاتِ هذه الآياتِ الكَرِيمةِ المُشِيرةِ إلى القَيُّوميّةِ الإِلٰهِيّةِ.

بَيدَ أنَّ ظُرُوفَ السِّجنِ المُحِيطةَ بي تَحُولُ دُونَ أن أُوفِيَ حَقَّ هذه الأَنوارِ مِنَ البَيانِ، وحَيثُ إنَّ الإِمامَ عَلِيًّا رَضِيَ الله عَنهُ قد أَبرَزَ الِاسمَ الأَعظَمَ في قَصِيدَتِه المُسَمّاةِ بأُرجُوزةِ “السَّكِينةِ” لَدَى بَيانِه لِسائِرِ الأَسماءِ الجَلِيلةِ مِن قَصِيدَتِه “البَدِيعِيّةِ”، يُولِي أَهَمِّيّةً خاصّةً لِتِلك الأَسماءِ السِّتّةِ، فَضلًا عَمّا يَمنَحُه لنا -بكَرامةٍ مِنَ اللهِ- مِنَ السُّلوانِ والعَزاءِ أَثناءَ بَحثِه لِتِلك الأَسماءِ، لِذا سنُشِيرُ بإِشاراتٍ مُختَصَرةٍ إلى بَيانِ هذا النُّورِ الأَعظَمِ لِاسمِ اللهِ “القَيُّومِ” -كما فَعَلْنا معَ الأَسماءِ الخَمسةِ الأُخرَى- وسنَجعَلُ تلك الإِشاراتِ في خَمسةِ أَشِعّةٍ.

[الشعاع الأول: الكون قائم بالقيوم سبحانه]

الشُّعاعُ الأوَّلُ:

إنَّ خالِقَ هذا الكَونِ ذا الجَلالِ قَيُّومٌ، أي إنَّه قائِمٌ بذاتِه، دائِمٌ بذاتِه، باقٍ بذاتِه، وجَمِيعُ الأَشياءِ والمَوجُوداتِ قائِمةٌ به، تَدُومُ به، تَبقَى في الوُجُودِ به، وتَجِدُ البَقاءَ به؛ فلَوِ انقَطَع هذا الِانتِسابُ لِلقَيُّومِيّةِ مِنَ الكَونِ بأَقَلَّ مِن طَرفةِ عَينٍ يُمحَى الكَونُ كُلُّه.

ثمَّ إنَّ ذلك الجَلِيلَ معَ قَيُّومِيَّتِه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ كما وَصَفَه القُرآنُ الكَرِيمُ، أي: لا نَظِيرَ له ولا مَثِيلَ ولا شَبِيهَ ولا شَرِيكَ: في ذاتِه.. في صِفاتِه.. وفي أَفعالِه.

نعم، إنَّ الَّذي يُمسِكُ الكَونَ كلَّه أن يَزُولَ في قَبضةِ رُبُوبيَّتِه، ويُدِيرُ جَمِيعَ شُؤُونِه، ويُدَبِّرُ جَمِيعَ أَحوالِه وكَيفِيّاتِه بكَمالِ الِانتِظامِ ومُنتَهَى التَّدبِيرِ وغايةِ الرِّعايةِ، وفي سُهُولةٍ مُطلَقةٍ كإِدارةِ قَصرٍ أو بَيتٍ.. مُحالٌ أن يكُونَ له مِثلٌ أو مَثِيلٌ أو شَرِيكٌ أو شَبِيهٌ.

نعم، إنَّ مَن كانَ خَلْقُ النُّجُومِ سَهلًا علَيْه وهَيِّنًا كخَلقِ الذَّرّاتِ، ويُسَخِّرُ أَعظَمَ شَيءٍ في الوُجُودِ كأَصغَرِه ضِمنَ قُدرَتِه المُطلَقةِ، ولا يَمنَعُ شَيءٌ شَيئًا عنه، ولا فِعلٌ فِعلًا، فالأَفرادُ غَيرُ المَحدُودِينَ نُصْبَ نَظَرِه كالفَردِ الواحِدِ، والأَصواتُ جَمِيعُها يَسمَعُها مَعًا، ويُوفِي حاجاتِ الكُلِّ في آنٍ واحِدٍ ودُفعةً واحِدةً، ولا يَخرُجُ شَيءٌ مَهْما كانَ ولا حالةٌ مَهْما كانَت مِن دائِرةِ مَشِيئَتِه ونِطاقِ إِرادَتِه، بشَهادةِ الأَنظِمةِ والمَوازِينِ الجارِيةِ في الكَونِ، وكما أنَّه لا يَحُدُّه مَكانٌ فهُو بقُدرَتِه وبعِلمِه حاضِرٌ في كلِّ مَكانٍ، وكما أنَّ كلَّ شَيءٍ بَعِيدٌ عنه بُعدًا مُطلَقًا، فهُو أَقرَبُ إلَيْه مِن أيِّ شَيءٍ.. فهذا “الحَيُّ القَيُّومُ” ذُو الجَلالِ، لا بُدَّ أنَّه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، فلا نَظِيرَ له ولا شَرِيكَ ولا وَزِيرَ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ.. بل مُحالٌ في حَقِّه كلُّ ذلك.

أمّا شُؤُونُه المُنزَّهةُ الحَكِيمةُ، فيُمكِنُ أن يُنظَرَ إلَيْها بمِنظارِ المَثَلِ والتَّمثِيلِ (وجَمِيعُ أَنواعِ الأَمثالِ والتَّمثِيلاتِ والتَّشبِيهاتِ الوارِدةِ في “رَسائِلِ النُّورِ” إنّما هي مِن هذا النَّوعِ مِنَ المَثَلِ والتَّمثِيلِ).

[الطبيعة عاجزة عن القيام بنفسها]

فهذا الذَّاتُ الأَقدَسُ الَّذي لا مَثِيلَ له، وهُو الواجِبُ الوُجُودِ، والمُجَرَّدُ عنِ المادّةِ، المُنزَّهُ عنِ المَكانِ، المُحالُ علَيْه التَّجَزُّؤُ والِانقِسامُ، والمُمتَنِعُ علَيْه التَّغيُّـرُ والتَّبدُّلُ، والَّذي لا يُمكِنُ أن يُتَصوَّرَ عَجزُه واحتِياجُه أَبدًا.. هذا الذّاتُ الأَقدَسُ قد أَعطَى قِسمٌ مِن أَهلِ الضَّلالةِ أَحكامَ أُلُوهِيَّتِه العَظِيمةِ إلى بَعضِ مَخلُوقاتِه، وذلك بتَوَهُّمِهِم أنَّ تَجَلِّياتِه سُبحانَه المُتَجلِّيةَ في صَفَحاتِ الكَونِ وطَبَقاتِ المَوجُوداتِ هي الذّاتُ الأَقدَسُ نَفسُه، ففَوَّضَ قِسمٌ مِن هَؤُلاءِ بعضَ آثارِ تَجَلِّياتِه سُبحانَه إلى الطَّبِيعةِ والأَسبابِ، والحالُ أنَّه قد ثَبَت ببَراهِينَ مُتَعدِّدةٍ ناصِعةٍ وفي عَدِيدٍ مِن “رَسائِل النُّورِ” أنَّ الطَّبِيعةَ ما هي إلّا صَنعةٌ إِلٰهِيّةٌ ولا تكُونُ صانِعًا، وهِي كِتابٌ رَبّانِيٌّ ولا تكُونُ كاتِبًا، وهِي نَقْشٌ بَدِيعٌ ومُحالٌ أن تكُونَ نَقَّاشًا مُبدِعًا، وهِي كُرَّاسٌ ولا تكُونُ واضِعةَ القَوانِينِ وصاحِبةَ الكُرَّاسِ، وهِي قانُونٌ ولا تكُونُ قُدرةً، وهِي مِسطَرٌ ولا تكُونُ مَصدَرًا لِلوُجُودِ، وهِي شَيءٌ مُنفَعِلٌ ولا تكُونُ فاعِلًا، وهِي نِظامٌ ومُحالٌ أن تكُونَ ناظِمًا، وهِي شَرِيعةٌ فِطرِيّةٌ ومُمتَنِعٌ أن تكُونَ شارِعًا مُشَرِّعًا.

ولوِ افتُرِضَ مُحالًا وأُحِيلَ خَلقُ أَصغَرِ كائِنٍ حَيٍّ إلى الطَّبِيعةِ، وقِيلَ لها فَرْضًا: هَيّا أَوجِدِي هذا الكائِنَ -مَثلًا- فيَنبَغِي لِلطَّبِيعةِ عِندَئِذٍ أن تُهيِّئَ قَوالِبَ -مادِّيّةً ومَكائِنَ- بعَدَدِ أَعضاءِ ذلك الكائِنِ لِكَي تَستَطِيعَ أن تُؤدِّيَ ذلك العَمَلَ!! وقد أَثبَتْنا مُحاليّةَ هذا الفَرْضِ في مَواضِعَ كَثِيرةٍ مِن “رَسائِلِ النُّورِ”.

ثمَّ إنَّ قِسمًا مِن أَهلِ الضَّلالةِ الَّذِينَ يُطلَقُ علَيْهِمُ “المادِّيُّونَ” يَشعُرُونَ بالتَّجَلِّي الأَعظَمِ لِلخَلّاقيّةِ الإِلٰهِيّةِ والقُدرةِ الرَّبّانيّةِ في تَحَوُّلاتِ الذَّرّاتِ المُنتَظِمةِ، ولكِنَّهُم يَجهَلُونَ مَصدَرَ ذلك التَّجَلِّي، ويَعجِزُونَ عن أن يُدرِكُوا مِن أَينَ تُدارُ تلك القُوّةُ العامّةُ النَّابِعةُ مِن تَجَلِّي القُدرةِ الصَّمَدانيّةِ.. فلِأَنَّهُم يَجهَلُونَ كلَّ ذلك فقد شَرَعُوا بإِسنادِ آثارِ الأُلُوهِيّةِ إلى الذَّرّاتِ نَفسِها وإلى حَرَكاتِها، فتَوَهَّمُوا أَزَليّةَ المادّةِ والقُوّةِ.

فسُبحانَ اللهِ!! أَفيُمكِنُ لِإنسانٍ أن يَتَردَّى إلى هذا الدَّرَكِ السَّحِيقِ مِنَ الجَهالةِ والخُرافةِ المَحضةِ، فيُسنِدَ الآثارَ البَدِيعةَ لِلخالِقِ البَدِيعِ والأَفعالَ الحَكِيمةَ لِلعَلِيمِ البَصِيرِ، والَّتي يُظهِرُها ويقُومُ بِها بِهَيئةٍ ووَضعِيّةٍ تَنِمُّ عن مَعرِفَتِه ورُؤيَتِه وإِدارَتِه لِكُلِّ شَيءٍ عِندَ خَلقِ وإِيجادِ أَيِّ مَخلُوقٍ في أَيِّ مَكانٍ معَ تَنَزُّهِه عنِ المَكانِ.. يُسنِدَها إلى ذَرّاتٍ مُضطَرِبةٍ بتَيّاراتِ المُصادَفاتِ، جامِدةٍ عَمْياءَ غَيرِ شاعِرةٍ، لا حَولَ لها ولا قُوّةَ، وإلى حَرَكاتِها!!

أَفيُمكِنُ أن يُقِرَّ بهذا أَحَدٌ؟! فمَن كانَ له مُسكةٌ مِن عَقلٍ لا بُدَّ أن يَحكُمَ بأنَّ هذا جَهلٌ ما بَعدَه جَهلٌ، وخُرافةٌ ما بَعدَها خُرافةٌ.. إنَّ هَؤُلاءِ التُّعَساءَ قد وَقَعُوا في عِبادةِ آلِهةٍ كَثِيرةٍ لِأنَّهُم أَعرَضُوا عنِ الوَحدانيّةِ المُطلَقةِ؛ أي: لِأنَّهُم لم يُؤمِنُوا بإلٰهٍ واحِدٍ، أَصبَحُوا مُضطَرِّينَ إلى قَبُولِ ما لا نِهايةَ له مِنَ الآلِهةِ! أي: لِأنَّهُم لم يَستَوعِبُوا بعُقُولِهِمُ القاصِرةِ أَزِليّةَ الذّاتِ الأَقدَسِ وخَلّاقيَّتَه -وهُما صِفَتانِ لازِمَتانِ ذاتيَّتانِ له سُبحانَه- فقد أَصبَحُوا بحُكمِ مَسلَكِهِمُ الضّالِّ مُضطَرِّينَ إلى قَبُولِ أَزَليّةِ ذَرّاتٍ جامِدةٍ لا حَدَّ لها ولا نِهايةَ، بل إلى قَبُولِ أُلُوهِيّةِ الذَّرّاتِ! فتَأمَّلْ مَبلَغَ الحَضِيضِ الَّذي سَقَطُوا فيه، وسَحِيقَ الدَّرَكِ الأَسفَلِ مِنَ الجَهلِ الَّذي تَرَدَّوا فيه!

نعم، إنَّ التَّجَلِّيَ الظّاهِرَ “لِلحَيِّ القَيُّومِ” في الذَّرّاتِ قد حَوَّلَها إلى ما يُشبِهُ الجَيشَ المَهِيبَ المُنَظَّمَ بحَولِ اللهِ وقُوَّتِه وأَمرِه، فلو سُحِبَ أَمرُ القائِدِ الأَعظَمِ لِأَقلَّ مِن طَرْفةِ عَينٍ مِن تلك الَّتي لا تُحَدُّ مِنَ الذَّرّاتِ الجامِدةِ الَّتي لا شُعُورَ لها ولا عَقلَ، لَظَلَّت سائِبةً، بل مُحِيَت نِهائيًّا مِنَ الوُجُودِ.

ثمَّ إنَّ هُنالِك مَن يَتَظاهَرُونَ بِبُعدِ النَّظَرِ، فيَسُوقُونَ فِكرًا أَجهَلَ مِنَ السَّابِقِ وأَوغَلَ في الخُرافةِ مِنه، حَيثُ يَتَوهَّمُونَ أنَّ مادّةَ الأَثيرِ هي المَصدَرُ وهِي الفاعِلُ، لقِيامِها بمُهِمّةِ المِرآةِ العاكِسةِ لِتَجَلِّياتِ رُبُوبيّةِ الخالِقِ سُبحانَه! عِلمًا أنَّها أَلطَفُ وأَرَقُّ وأَطوَعُ صَحِيفةٍ مِن صَحائِفِ إِجراءاتِ الصّانِعِ الجَلِيلِ وأَكثَرُها تَسخِيرًا وانقِيادًا، وهِي وَسِيلةٌ لِنَقلِ أَوامِرِه الجَلِيلةِ، وهِي المِدادُ اللَّطِيفُ لِكِتاباتِه، والحُلّةُ القَشِيبةُ الشَّفِيفةُ لِإيجاداتِه، والخَمِيرةُ الأَساسُ لِمَصنُوعاتِه، والأَرضُ الخِصبةُ لِحَبّاتِه.

فلا شَكَّ أنَّ هذا الجَهلَ العَجِيبَ المُرعِبَ يَستَلزِمُ مُحالاتٍ لا حَدَّ لها ولا نِهايةَ، وذلك لِأنَّ مادّةَ الأَثيرِ هي أَلطَفُ مِن مادّةِ الذَّرّاتِ الَّتي غَرِق بها المادِيُّونَ في مُستَنقَعِ الضَّلالةِ، وهِي أَكثَفُ مِنَ الهَيُولَى الَّتي ضَلَّ فيها الفَلاسِفةُ القُدَماءُ وتاهُوا؛ وهِي مادّةٌ جامِدةٌ لا إِرادةَ لها ولا اختِيارَ ولا شُعُورَ، فإِسنادُ الأَفعالِ والآثارِ إلى هذه المادّةِ القابِلةِ لِلِانقِسامِ والتَّجَزُّؤِ والمُجَهَّزةِ لِلقِيامِ بوَظِيفةِ النَّقل وخاصّةً الِانفِعالَ، وإلى ذَرّاتِها الَّتي هي أَصغَرُ مِنَ الذَّرّاتِ، لا شَكَّ أنَّه جَرِيمةٌ وخَطَأٌ فاحِشٌ بعَدَدِ ذَرّاتِ الأَثيرِ، لِأنَّ تلك الأَفعالَ والآثارَ الرَّبّانيّةَ لا يُمكِنُ أن تَحدُثَ إلّا بإِرادةِ مَن يَقدِرُ على رُؤيةِ كلِّ شَيءٍ في أيِّ شَيءٍ كانَ، ومَن يَملِكُ عِلمًا مُحِيطًا بكلِّ شَيءٍ. نعم، إنَّ فِعلَ الإِيجادِ المَشهُودَ في المَوجُوداتِ يتَّسِمُ بكَيفِيّةٍ مُعيَّنةٍ وأُسلُوبٍ مُنفَرِدٍ، بحَيثُ يَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على أنَّ المُوجِدَ هو صاحِبُ قُدرةٍ قادِرةٍ واختِيارٍ طَلِيقٍ، يَرَى أَكثَرَ الأَشياءِ، بلِ الكَونَ كُلَّه لَدَى إِيجادِه أيَّ شَيءٍ كانَ، ولا سِيَّما الكائِنَ الحَيَّ، ويَعلَمُ كلَّ ما يَرتَبِطُ به مِنَ الأَشياءِ، أي إنَّ الأَسبابَ المادِّيّةَ الجاهِلةَ لا يُمكِنُ أن تكُونَ بحالٍ مِنَ الأَحوالِ فاعِلًا له.

نعم، إنَّ فِعلًا إِيجادِيًّا -مَهْما كانَ جُزئيًّا- يَدُلُّ دَلالةً عَظِيمةً -بسِرِّ القَيُّوميّةِ- على أنَّه فِعلُ خالِقِ الكَونِ فِعلًا مُباشَرًا؛ فالفِعلُ المُتَوجِّهُ إلى إِيجادِ نَحلةٍ -مَثلًا- يَدُلُّنا بجِهَتَينِ على أنَّه يَخُصُّ خالِقَ الكَونِ ورَبَّ العالَمِينَ.

الجِهةُ الأُولَى: أنَّ مَظهَرِيّةَ تلك النَّحلةِ معَ مَثِيلاتِها في جَمِيعِ الأَرضِ لِلفِعلِ نَفسِه في الوَقتِ نَفسِه يَدُلُّنا على أنَّ هذا الفِعلَ الجُزئيَّ الَّذي نُشاهِدُه في نَحلةٍ واحِدةٍ إنَّما هو طَرَفٌ لِفِعلٍ يُحِيطُ بسَطحِ الأَرضِ كلِّه، أي إنَّ مَن كانَ فاعِلًا لِذلِك الفِعلِ العَظِيمِ الواسِعِ ومالِكًا له فهُو صاحِبُ ذلك الفِعلِ الجُزئيِّ.

الجِهةُ الثّانيةُ: لِأَجلِ أن يكُونَ أَحَدٌ فاعِلًا لِهذا الفِعلِ الجُزئيِّ المُتَوجِّهِ إلى خَلقِ هذه النَّحلةِ الماثِلةِ أَمامَنا، يَنبَغِي أن يكُونَ الفاعِلُ عالِمًا بشُرُوطِ حَياةِ تلك النَّحلةِ، وأَجهِزَتِها، وعَلاقاتِها معَ الكائِناتِ الأُخرَى، وكَيفِيّةِ ضَمانِ حَياتِها ومَعِيشَتِها؛ فيَلزَمُ إِذًا أن يكُونَ ذا حُكمٍ نافِذٍ على الكَونِ كلِّه كي يتَمَكَّنَ مِنَ القِيامِ بِذَلِك الفِعلِ على أَ كمَلِ وَجْهٍ، أي إنَّ أَصغَرَ فِعلٍ جُزئيٍّ يَدُلُّ مِن جِهَتَينِ على أنَّه يَخُصُّ خالِقَ كلِّ شَيءٍ..

ولكِن أَكثَرُ ما يُحَيِّرُ الإنسانَ ويَجلُبُ انتِباهَه هو أنَّ الأَزَليّةَ والسَّرمَدِيّةَ الَّتي هي مِن أَخَصِّ خَصائِصِ الأُلُوهِيّةِ، وأَلزَمُ صِفةٍ لِلذّاتِ الأَقدَسِ المالِكِ لِأَقوَى مَرتَبةٍ في الوُجُودِ وهُو الوُجُوبُ، وأَثبَتِ دَرَجةٍ في الوُجُودِ وهُو التَّجرُّدُ مِنَ المادّةِ، وأَبعَدِ طَوْرٍ عنِ الزَّوالِ وهُو التَّنزُّهُ عنِ المَكانِ، وأَسلَمِ صِفةٍ مِن صِفاتِ الوُجُودِ وأَقدَسِها عنِ التَّغيُّرِ والعَدَمِ وهُو الوَحْدةُ.. أَقُولُ: إنَّ الَّذي يُحيِّرُ الإنسانَ ويُثيرُ قَلَقَه، ويَجلُبُ انتِباهَه إنَّما هو إِسنادُ صِفةِ الأَزَليّةِ والسَّرمَدِيّةِ إلى الأَثيرِ والذَّرّاتِ وما شابَهَها مِنَ المَوادِّ المادِّيّةِ الَّتي لها أَضعَفُ مَرتَبةٍ مِن مَراتِبِ الوُجُودِ، وأَدَقُّ دَرَجةٍ فيه، وأَكثَرُ أَطوارِه تَغيُّرًا وتَحَوُّلًا، وأَعمُّها انتِشارًا في المَكانِ، ولها الكَثرةُ الَّتي لا تُحَدُّ.. فإِسنادُ الأَزَليّةِ إلى هذه المَوادِّ وتَصَوُّرُها أَزَليّةً، وتَوَهُّمُ نُشُوءِ قِسمٍ مِنَ الآثارِ الإِلٰهِيّةِ مِنها، ما هو إلّا مُجافاةٌ وأيُّ مُجافاةٍ لِلحَقِيقةِ وأَمرٌ مُنافٍ أيَّ مُنافاةٍ لِلواقِعِ، وبَعِيدٌ كلَّ البُعدِ عن مَنطِقِ العَقلِ، وباطِلٌ واضِحُ البُطلانِ.. وقد أَثبَتْنا هذا في كَثِيرٍ مِنَ الرَّسائِلِ ببَراهِينَ رَصِينةٍ.

[الشعاع الثاني: مسألتان حول القيومية]

الشُّعاعُ الثّاني: وهو مَسأَلتانِ:

[المسألة الأولى: معنى القيومية وتقريبها بمثال]

المَسأَلةُ الأُولَى:‌

قالَ تَعالَى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وأَمثالُها مِنَ الآياتِ الَّتي تَتَضمَّنُ حَقِيقةً عُظمَى تُشِيرُ إلى التَّجَلِّي الأَعظَمِ لِاسمِ اللهِ “القَيُّومِ”.. سنُورِدُ وَجهًا واحِدًا مِن تلك الحَقِيقةِ، وهُو الآتي:

إنَّ قِيامَ الأَجرامِ السَّماوِيّةِ في هذا الكَونِ ودَوامَها وبَقاءَها إنَّما هو مَشدُودٌ بسِرِّ القَيُّوميّةِ، فلو صَرَف سِرُّ القَيُّوميّةِ وتَجَلِّيه وَجهَه -ولو لِأقلَّ مِن دَقيقةٍ- لَتَبعثَرَت تلك الأَجرامُ الَّتي تَفُوقُ ضَخامةُ بَعضِها ضَخامةَ الكُرةِ الأَرضِيّةِ بأُلُوفِ المَرّاتِ، ولَانتَثَرَت مَلايِينُ الأَجرامِ في فَضاءٍ غَيرِ مُتَناهٍ، ولَاصطَدَم بَعضُها ببعضٍ، ولَهَوَت إلى سَحِيقِ العَدَمِ؛ لِنُوضِّح ذلك بمِثالٍ:

إنَّنا مِثلَما نَفهَمُ قُدرةَ قَيُّوميّةِ مَن يُسَيِّرُ أُلُوفَ قُصُورٍ ضَخمةٍ في السَّماءِ بَدَلَ الطّائِراتِ بمِقدارِ ثَباتِ تلك الكُتَلِ الهائِلةِ الَّتي في السَّماءِ ودَوامِها، وبمَدَى انتِظامِ دَوَرانِها وانقِيادِها في جَريِها.. نَفهَمُ أَيضًا: تَجَلِّيَ الِاسمِ الأَعظَمِ: “القَيُّومِ” مِن مَنحِ القَيُّومِ ذِي الجَلالِ قِيامًا وبَقاءً ودَوامًا -بسِرِّ القَيُّوميّةِ- لِأَجرامٍ سَماوِيّةٍ لا حَدَّ لها في أَثيرِ الفَضاءِ الواسِعِ، وجَرَيانِها في مُنتَهَى الِانقِيادِ والنِّظامِ والتَّقدِيرِ، وإِسنادِها وإِدامَتِها وإِبقائِها دُونَ عَمَدٍ ولا سَنَدٍ، معَ أنَّ قِسمًا مِنها أَكبَرُ مِنَ الأَرضِ أُلُوفَ المَرّاتِ، وقِسمًا مِنها مَلايِينَ المَرّاتِ، فَضلًا عن تَسخِيرِ كلٍّ مِنها وتَوظِيفِها في مُهِمّةٍ خاصّةٍ، وجَعلِها جَمِيعًا كالجَيشِ المَهِيبِ، مُنقادةً خاضِعةً خُضُوعًا تامًّا لِلأَوامِرِ الصّادِرةِ مِمَّن يَملِكُ أَمرَ كُن فيكُونُ.. فكما أنَّ ذلك يُمكِنُ أن يكُونَ مِثالًا قِياسِيًّا لِلتَّجَلِّي الأَعظَمِ لِاسمِ “القَيُّومِ”، كَذلِك ذَرّاتُ كلِّ مَوجُودٍ -الَّتي هي كالنُّجُومِ السّابِحةِ في الفَضاءِ- فإنَّها قائِمةٌ أَيضًا بسِرِّ القَيُّوميّةِ، وتَجِدُ دَوامَها وبَقاءَها بذلك السِّرِّ.

نعم، إنَّ بَقاءَ ذَرَّاتِ جِسمِ كلِّ كائِنٍ حَيٍّ دُونَ أن تَتَبعثَرَ، وتَجَمُّعَها على هَيئةٍ مُعيَّنةٍ وتَركِيبٍ مُعَيَّنٍ وشَكلٍ مُعَيَّنٍ حَسَبَ ما يُناسِبُ كلَّ عُضوٍ مِن أَعضائِه، عَلاوةً على احتِفاظِها بكِيانِها وهَيئَتِها أَمامَ سَيلِ العَناصِرِ الجارِفةِ دُونَ أن تَتَشتَّتَ، واستِمرارِها على نِظامِها المُتقَنِ.. كلُّ ذلك لا يَنشَأُ -كما هو مَعلُومٌ بَداهةً- مِنَ الذَّرّاتِ نَفسِها، بل هو مِن سِرِّ القَيُّوميّةِ الإِلٰهِيّةِ الَّتي يَنقادُ لها كلُّ فَردٍ حَيٍّ انقِيادَ الطّابُورِ في الجَيشِ، ويَخضَعُ لها كلُّ نَوعٍ مِن أَنواعِ الأَحياءِ خُضُوعَ الجَيشِ المُنَظَّمِ.. فمِثلَما يُعلِنُ بَقاءُ الأَحياءِ والمُرَكَّباتِ ودَوامُها على سَطحِ الأَرضِ وسِياحةُ النُّجُومِ وتَجْوالُها في الفَضاءِ سِرَّ القَيُّوميّةِ، تُعلِنُه هذه الذَّرّاتُ أَيضًا بألسِنةٍ غَيرِ مَعدُودةٍ.

[المسألة الثانية: غاية كل مخلوق لها ثلاث جهات]

المَسأَلةُ الثّانيةُ:

هذا المَقامُ يَقتَضِي الإِشارةَ إلى قِسمٍ مِن فَوائِدِ الأَشياءِ وحِكَمِها المُرتَبِطةِ بسِرِّ القَيُّوميّةِ:

إنَّ حِكمةَ وُجُودِ كلِّ شَيءٍ، وغايةَ فِطرَتِه، وفائِدةَ خَلقِه، ونَتِيجةَ حَياتِه، إنَّما هي على أَنواعٍ ثَلاثةٍ:

النَّوعُ الأوَّل: يتَوَجَّهُ إلى نَفسِه وإلى الإِنسانِ ومَصالِحِه.

النَّوعُ الثّاني: (وهُو الأَهَمُّ مِنَ الأوَّلِ): هو أنَّ كلَّ شَيءٍ في الوُجُودِ بمَثابةِ آيةٍ جَلِيلةٍ، ومَكتُوبٍ رَبّانِيٍّ، وكِتابٍ بَلِيغ، وقَصِيدةٍ رائِعةٍ، يَستَطِيعُ كلُّ ذِي شُعُورٍ أن يُطالِعَها ويَتَعرَّفَ مِن خِلالِها على تَجَلِّي أَسماءِ الفاطِرِ الجَلِيلِ؛ أي إنَّ كلَّ شَيءٍ يُعبِّرُ عن مَعانِيه الغَزِيرةِ لِقُرّائِه الَّذِينَ لا يُحصِيهِمُ العَدُّ.

النَّوعُ الثّالثُ: يَخُصُّ الصّانِعَ الجَلِيلَ، ويتَوَجَّهُ إلَيْه سُبحانَه، فلو كانَت فائِدةُ خَلقِ الشَّيءِ المُتَوَجِّهةِ إلى نَفسِه واحِدةً، فالَّتي تَتَطلَّعُ مِنها إلى البارِي الجَلِيلِ هي مِئاتٌ مِنَ الفَوائِدِ، حَيثُ إنَّه سُبحانَه يَجعَلُه مَوضِعَ نَظَرِه إلى بَدائِعِ صُنعِه، ومَحَطَّ مُشاهَدةِ تَجَلِّي أَسمائِه الحُسنَى فيه.. فضِمنَ هذا النَّوعِ الثّالِثِ العَظِيمِ مِن حِكمةِ الوُجُودِ يَكفِي العَيشُ لِثانيةٍ واحِدةٍ.. هذا وسيُوضَّحُ في الشُّعاعِ الثّالِثِ سِرٌّ مِن أَسرارِ القَيُّوميّةِ يَقتَضِي وُجُودَ كلِّ شَيءٍ.

[تأمُّل: لماذا تأتي الموجودات ثم ترحل؟]

تَأمَّلتُ ذاتَ يَومٍ في فَوائِدِ المَوجُوداتِ وحِكَمِها مِن زاوِيةِ انكِشافِ طِلَّسمِ الكائِناتِ ولُغزِ الخَلقِ، فقُلتُ في نَفسِي: لِماذا يا تُرَى، تَعرِضُ هذه الأَشياءُ نَفسَها وتُظهِرُها ثمَّ لا تَلبَثُ أن تَختَفِيَ وتَرحَلَ مُسرِعةً؟.. أَنظُرُ إلى أَجسامِها وشُخُوصِها، فإذا كلٌّ مِنها مُنَظَّمٌ مُنَسَّقٌ قد أُلبِسَ وُجُودًا على قَدِّه وقَدْرِه بحِكمةٍ واضِحةٍ، وزُيِّنَ بأَجمَلِ زِينةٍ وأَلطَفِها، وأُرسِلَ بشَخصِيّةٍ ذاتِ حِكمةٍ وجِسمٍ مُنَسَّقٍ لِيُعرَضَ أَمامَ المُشاهِدِينَ في هذا المَعرِضِ الواسِعِ.. ولكِن ما إن تَمُرُّ بِضْعةُ أيّامٍ -أو بِضعُ دَقائِقَ- إلّا وتَراه يَتَلاشَى ويَختَفِي مِن دُونِ أن يَترُكَ فائِدةً أو نَفعًا!! فقُلتُ: تُرَى! ما الحِكمةُ وَراءَ هذا الظُّهُورِ لنا لِمُدّةٍ قَصِيرةٍ كهذه؟..كُنتُ في لَهْفةٍ شَدِيدةٍ لِلوُصُولِ إلى مَعرِفةِ السِّرِّ.

فأَدرَكَنِي لُطفُ الرَّبِّ الجَلِيلِ سُبحانَه.. فوَجَدتُ في ذلك الوَقتِ حِكمةً مُهِمّةً مِن حِكَمِ مَجِيءِ المَوجُوداتِ -ولا سِيَّما الأَحياءِ- إلى مَدرَسةِ الأَرضِ.. والحِكمةُ هي أنَّ كلَّ شَيءٍ -ولا سِيَّما الأَحياءُ- إنَّما هي كَلِمةٌ إِلٰهِيّةٌ ورِسالةٌ رَبّانيّةٌ وقَصِيدةٌ عَصْماءُ، وإِعلانٌ صَرِيحٌ في مُنتَهَى البَلاغةِ والحِكمةِ، فبَعدَ أن يُصبِحَ ذلك الشَّيءُ مَوضِعَ مُطالَعةِ جَمِيعِ ذَوِي الشُّعُورِ، ويَفِيَ بجَمِيعِ مَعانيه لهم ويَستَنفِدَ أَغراضَه، تَتَلاشَى صُورَتُه الجَسَدِيّةُ وتَختَفِي مادَّتُه، تلك الَّتي هي بحُكمِ لَفظِ الكَلِمةِ وحُرُوفِها، تارِكةً مَعانيَها في الوُجُودِ..

لقد كَفَتْنِي مَعرِفةُ هذه الحِكمةِ طَوالَ سَنةٍ، ولكِن بعدَ مُضِيِّها انكَشَفَت أَمامِي المُعجِزاتُ الدَّقيقةُ في المَصنُوعاتِ والإِتقانُ البَدِيعُ فيها ولا سِيَّما الأَحياءِ؛ فتَبيَّنَ لي أنَّ هذا الإِتقانَ البَدِيعَ جِدًّا والدَّقيقَ جِدًّا في جَمِيعِ المَصنُوعاتِ ليس لِمُجَرَّدِ إِفادةِ المَعنَى أَمامَ أَنظارِ ذَوِي الشُّعُورِ، إذ رَغمَ أنَّ ما لا يُحَدُّ مِن ذَوِي الشُّعُورِ يُطالِعُونَ كلَّ مَوجُودٍ، إلّا أنَّ مُطالَعَتَهُم -مَهْما كانَت- هِي مَحدُودةٌ، فَضلًا عن أنَّه لا يَستَطِيعُ كلُّ ذِي شُعُورٍ أن يَنفُذَ إلى دَقائِقِ الصَّنعةِ وإِبداعِها في الكائِنِ الحَيِّ، ولا يَقدِرُ على اكتِناهِ جَمِيعِ أَسرارِها.

فأَهَمُّ نَتِيجةٍ إِذًا في خَلقِ الأَحياءِ، وأَعظَمُ غايةٍ لِفِطرَتِها إنَّما هي: عَرْضُ بَدائِعِ صُنعِ القَيُّومِ الأَزَليِّ أَمامَ نَظَرِه سُبحانَه، وإِبرازُ هَدايا رَحمَتِه وآلائِه العَمِيمةِ الَّتي وَهَبَها لِلأَحياءِ، أَمامَ شُهُودِه جَلَّ وعَلا.. لقد مَنَحَتْنِي هذه الغايةُ اطمِئْنانًا كافِيًا واقتِناعًا تامًّا لِزَمَنٍ مَدِيدٍ، وأَدرَكتُ مِنها أنَّ وُجُودَ دَقائِقِ الصُّنعِ وبَدائِعِ الخَلقِ في كلِّ مَوجُودٍ -ولا سِيَّما الأَحياءِ- بما يَفُوقُ الحَدَّ، إنَّما هو لِعَرْضِها أَمامَ القَيُّومِ الأَزَليِّ، أي إنَّ حِكمةَ الخَلقِ هي: مُشاهَدةُ القَيُّومِ الأَزَليِّ لِبَدائِعِ خَلقِه بنَفسِه.. وهذه المُشاهَدةُ تَستَحِقُّ هذا البَذْلَ العَمِيمَ وهذه الوَفْرةَ الهائِلةَ في المَخلُوقاتِ.

ولكِن بعدَ مُضِيِّ مُدّةٍ.. رَأَيتُ أنَّ دَقائِقَ الصُّنعِ والإِتقانِ البَدِيعِ في شُخُوصِ المَوجُوداتِ وفي صُورَتِها الظّاهِرةِ لا تَدُومُ ولا تَبقَى، بل تَتَجدَّدُ بسُرعةٍ مُذهِلةٍ، وتَتَبدَّلُ آنًا بعدَ آنٍ، وتَتَحوَّلُ ضِمنَ خَلقٍ مُستَمِرٍّ مُتَجدِّدٍ وفَعّاليّةٍ مُطلَقةٍ.. فأَخَذتُ أُوغِلُ في التَّفكِيرِ مُدّةً مِنَ الزَّمَنِ، وقُلتُ: لا بُدَّ أنَّ حِكمةَ هذه الخَلّاقيّةِ والفَعّاليّةِ عَظِيمةٌ عِظَمَ تلك الفَعّاليّةِ نَفسِها.. وعِندَها بَدَتِ الحِكمَتانِ السّابِقَتانِ ناقِصَتَينِ وقاصِرَتَينِ عنِ الإِيفاءِ بالغَرَضِ، وبَدَأتُ أَتَحرَّى حِكمةً أُخرَى بِلَهفةٍ عارِمةٍ، وأَبحَثُ عنها باهتِمامٍ بالِغٍ..

وبعدَ مُدّةٍ -وللهِ الحَمدُ والمِنّةُ- تَراءَت لي حِكمةٌ عَظِيمةٌ لا حَدَّ لِعَظَمَتِها وغايةٌ جَلِيلةٌ لا مُنتَهَى لِجَلالِها، تَراءَت لي مِن خِلالِ فَيضِ نُورِ القُرآنِ الكَرِيمِ ونَبَعَت مِن سِرِّ القَيُّوميّةِ.. فأَدرَكتُ بها سِرًّا إِلٰهِيًّا عَظِيمًا في الخَلقِ، ذلك الَّذي يُطلَقُ علَيْه طِلَّسمُ الكائِناتِ ولُغزُ المَخلُوقاتِ!

سنَذكُرُ في الشُّعاعِ الثَّالثِ هنا بِضعَ نِقاطٍ مِن هذا السِّرِّ ذِكرًا مُجمَلًا، حَيثُ إنَّه قد فُصِّلَ تَفصِيلًا كافِيًا في “المَكتُوبِ الرّابِعِ والعِشرِينَ” مِنَ “المَكتُوباتِ”.

نعم، اُنظُرُوا إلى تَجَلِّي سِرِّ القَيُّوميّةِ مِن هذه الزَّاوِيةِ وهي أنَّ اللهَ أَخرَج المَوجُوداتِ مِن ظُلُماتِ العَدَمِ ووَهَب لها الوُجُودَ، ومَنَحَها القِيامَ والبَقاءَ في هذا الفَضاءِ الواسِعِ، وبَوَّأ المَوجُوداتِ مَوقِعًا لائِقًا لِتَنالَ تَجَلِّيًا مِن تَجَلِّياتِ سِرِّ القَيُّوميّةِ كما بَيَّنَتْه الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾، فلَوْلا هذه الرَّكِيزةُ العَظِيمةُ وهذا المُستَنَدُ الرَّصِينُ لِلمَوجُوداتِ، فلا بَقاءَ لِشَيءٍ، بل لَتَدَحرَجَ كلُّ شَيءٍ في خِضَمِّ فَراغٍ لا حَدَّ له، ولَهَوَى إلى العَدَمِ.

وكما تَستَنِدُ جَمِيعُ المَوجُوداتِ إلى القَيُّومِ الأَزَليِّ ذِي الجَلالِ في وُجُودِها وفي قِيامِها وبَقائِها، وكما أنَّ قِيامَ كلِّ شَيءٍ به سُبحانَه.. كَذلِك جَمِيعُ أَحوالِ المَوجُوداتِ قاطِبةً وأَوضاعُها كافّةً وكَيفِيّاتُها المُتَسَلسِلةُ كلُّها مُرتَبِطةٌ بِداياتُها ارتِباطًا مُباشَرًا بسِرِّ القَيُّوميّةِ، كما تُوضِّحُها الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾، إذ لَوْلا استِنادُ كلِّ شَيءٍ إلى تلك النُّقطةِ النُّورانيّةِ، لَنَتَج ما هو مُحالٌ لَدَى أَربابِ العَقلِ مِن أُلُوفِ الدَّورِ والتَّسَلسُلِ، بل بعَدَدِ المَوجُوداتِ.. ولنُوَضِّح ذلك بمِثالٍ:

إنَّ الحِفظَ، أوِ النُّورَ، أوِ الوُجُودَ، أوِ الرِّزقَ أو ما شابَهَه مِن أيِّ شَيءٍ كانَ، إنَّما يَستَنِدُ -مِن جِهةٍ- إلى شَيءٍ آخَرَ، وهذا يَستَنِدُ إلى آخَرَ، وهذا إلى آخَرَ وهكذا.. فلا بُدَّ مِن نِهايةٍ له، إذ لا يُعقَلُ ألّا يَنتَهِيَ بشَيءٍ؛ فمُنتَهَى أَمثالِ هذه السَّلاسِلِ كلِّها إنَّما هو في سِرِّ القَيُّوميّةِ، وبعدَ إِدراكِ هذا السِّرِّ -سِرِّ القَيُّوميّةِ- لا يَبقَى مَعنًى لِاستِنادِ أَفرادِ تلك السَّلاسِلِ المَوهُومةِ بَعضِها إلى بَعضٍ، بل تُرفَعُ نِهائيًّا وتُزالُ، فيكُونُ كلُّ شَيءٍ مُتَوجِّهًا تَوَجُّهًا مُباشَرًا إلى سِرِّ القَيُّوميّةِ.

[الشعاع الثالث: سرٌّ من أسرار الخلَّاقية المستمرة]

الشُّعاعُ الثّالثُ:

سنُشِيرُ في مُقدِّمةٍ أو مُقدِّمتَينِ إلى طَرَفٍ مِنِ انكِشافِ سِرِّ القَيُّوميّةِ الَّذي تَتَضمَّنُه الخَلَّاقيّةُ الإِلٰهِيّةُ والفَعَّاليّةُ الرَّبّانيّةُ كما تُشِيرُ إلَيْها أَمثالُ هذه الآياتِ الكَرِيمةِ: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾، ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾، ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾، ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، ﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾.

حِينَما نَنظُرُ إلى الكائِناتِ بعَينِ التَّأمُّلِ، نَرَى أنَّ المَخلُوقاتِ تَضطَرِبُ في خِضَمِّ سَيلِ الزَّمانِ وتَتَعاقَبُ قافِلةً إِثرَ قافِلةٍ؛ فقِسمٌ مِنها لا يَلبَثُ ثانيةً ثمَّ يَغِيبُ، وطائِفةٌ مِنها تَأتِي لِدَقيقةٍ واحِدةٍ ثمَّ تَمضِي إلى شَأنِها، ونَوعٌ مِنها يَمُرُّ إلى عالَمِ الشَّهادةِ مَرَّ الكِرامِ، ثمَّ يَلِجُ في عالَمِ الغَيبِ بعدَ ساعةٍ، وقِسمٌ مِنها يَحُطُّ رَحْلَه في يَومٍ ثمَّ يُغادِرُ، وقِسمٌ مِنها يَمكُثُ سَنةً ثمَّ يَمضِي، وقِسمٌ يَمضِي عَصرًا ثمَّ يَرحَلُ، وآخَرُ يَقضِي عُصُورًا ثمَّ يَتْرُكُ هذا العالَمَ.. وهكذا، فكُلٌّ يَأتِي ثمَّ يُغادِرُ بعدَ أَداءِ مُهِمَّتِه المَوكُولةِ إلَيْه.

فهذه السِّياحةُ المُذهِلةُ لِلعُقُولِ، وذلك السَّيلُ الجارِي لِلمَوجُوداتِ والسَّفَرُ الدَّائِبُ لِلمَخلُوقاتِ، إنَّما تَتِمُّ بنِظامٍ مُتقَنٍ ومِيزانٍ دَقِيقٍ وحِكمةٍ تامّةٍ، والَّذي يَقُودُ هذه الرِّحلةَ المُستَمِرّةَ ويُمسِكُ بزِمامِها، يَقُودُها ببَصِيرةٍ ويُسَيِّـرُها بحِكمةٍ، ويَسُوقُها بتَدبِيرٍ، بحَيثُ لوِ اتَّحَدَت جَمِيعُ العُقُولِ وأَصبَحَت عَقلًا واحِدًا لَمَا بَلَغ مَعرِفةَ كُنهِ هذه الرِّحلةِ، ولا يَصِلُ إلى إِدراكِ حِكمَتِها، ناهِيك عن أن يَجِدَ فيها نَقصًا أو قُصُورًا.

وهكذا ضِمنَ هذه الخَلّاقيّةِ الرَّبّانيّةِ يَسُوقُ الخالِقُ تلك المَصنُوعاتِ اللَّطِيفةَ المَحبُوبةَ إلَيْه -ولا سِيَّما الأَحياءُ- إلى عالَمِ الغَيبِ دُونَ أن يُمهِلَها لِتَتَفسَّحَ في هذا العالَمِ، ويُعفِيها مِن مُهِمّاتِها في حَياتِها الدُّنيَوِيّةِ دُونَ أن يَدَعَها تَنشَرِحُ وتَنبَسِطُ؛ فيَملَأُ دارَ ضِيافَتِه هذه بالضُّيُوفِ ويُخْلِيها مِنهُم باستِمرارٍ دُونَ رِضاهم، جاعِلًا مِنَ الكُرةِ الأَرضِيّةِ ما يُشبِهُ لَوحةَ كِتابةٍ -كالسُّبُّورةِ- يَكتُبُ فيها باستِمرارٍ قَلمُ القَضاءِ والقَدَرِ كِتاباتِه ويُجَدِّدُها، ويُبدِّلُها، بتَجَلِّياتِ مَن: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾.

وهكذا، فإنَّ سِرًّا مِن أَسرارِ هذه الفَعّاليّةِ الرَّبّانيّةِ وهذه الخَلّاقيّةِ الإِلٰهِيّةِ، ومُقتَضِيًا أَساسًا مِن مُقتَضِياتِها وسَبَبًا مِنَ الأَسبابِ الدَّاعِيةِ لها إنَّما هو حِكمةٌ عَظِيمةٌ لا حَدَّ لها ولانِهايةَ؛ هذه الحِكمةُ تَتَشعَّبُ إلى ثَلاثِ شُعَبٍ مُهِمّةٍ:

[الشعبة الأولى: الفعالية لذة]

فالشُّعبةُ الأُولَى مِن تلك الحِكمةِ هي أنَّ كلَّ نَوعٍ مِن أَنواعِ الفَعّاليّةِ -جُزئيًّا كانَ أم كُلِّـيًّا- يُورِثُ لَذّةً، بل إنَّ في كلِّ فَعّاليّةٍ لَذّةً، بلِ الفَعّاليّةُ نَفسُها هي عَينُ اللَّذّةِ، بلِ الفَعّاليّةُ هي تَظاهُرُ الوُجُودِ الَّذي هو عَينُ اللَّذّةِ، وهُو انتِفاضةٌ بالتَّباعُدِ عنِ العَدَمِ الَّذي هو عَينُ الأَلَمِ.

أَجَل، إنَّ صاحِبَ كلِّ قابِلِيّةٍ يَرقُبُ بلَهْفةٍ ولَذّةٍ انكِشافَ قابِلِيّاتِه بفَعّاليّةٍ ما، وإنَّ تَظاهُرَ كلِّ استِعدادٍ بفَعّاليّةٍ إنَّما هو ناشِئٌ مِن لَذّةٍ مِثلَما يُوَلِّدُ لَذّةً، وإنَّ صاحِبَ كلِّ كَمالٍ أَيضًا يُتابعُ بلَهْفةٍ ولَذّةٍ تَظاهُرَ كَمالاتِه بالفَعّاليّةِ، فإذا كانَ في كلِّ فَعّاليّةٍ لَذّةٌ كامِنةٌ مَطلُوبةٌ كَهذِه وكَمالٌ مَحبُوبٌ كهذا، والفَعّاليّةُ نَفسُها كَمالٌ، وتُشاهَدُ في عالَمِ الأَحياءِ تَجَلِّياتٌ أَزَليّةٌ لِرَحمةٍ واسِعةٍ ومَحَبّةٍ لا نِهايةَ لها نابِعةٍ مِن حَياةٍ سَرمَدِيّةٍ.. فلا شَكَّ أنَّ تلك التَّجَلِّياتِ تَدُلُّ على أنَّ الَّذي يُحَبِّبُ نَفسَه إلى مَخلُوقاتِه، ويُحِبُّهُم ويَرحَمُهُم بإِسباغِ نِعَمِه وأَلطافِه علَيْهِم على هذه الصُّورةِ المُطلَقةِ، تَقتَضِي حَياتُه السَّرمَدِيّةُ عِشقًا مُطلَقًا لاهُوتيًّاإذا جازَ التَّعبِيرُومَحَبّةً مُقدَّسةً مُطلَقةً، ولَذّةً مُنزَّهةً سامِيةً.. وأَمثالَها مِنَ الشُّؤُونِ الإِلٰهِيّةِ المُقدَّسةِ اللَّائِقةِ بقُدسِيَّتِه والمُناسِبةِ لِوُجُوبِ وُجُودِه.. فتلك الشُّؤُونُ الإِلٰهِيّةُ بِهذِه الفَعَّاليّةِ الَّتي لا حَدَّ لها، وبِهذِه الخَلّاقيّةِ الَّتي لا نِهايةَ لها، تُجَدِّدُ العالَمَ وتُبدِّلُه وتَخُضُّه خَضًّا.

[الشعبة الثانية: الموجودات لوحات تعرض تجليات الأسماء الحسنى]

الشُّعبة الثّانية مِن حِكمة الفَعّاليّة الإِلٰهِيّة المُطلَقة المُتَوجِّهةِ إلى سِرِّ القَيُّوميّة: هذه الحِكمةُ تُطِلُّ على الأَسماءِ الإِلٰهِيّةِ الحُسنَى.

مِنَ المَعلُومِ أنَّ صاحِبَ كلِّ جَمالٍ يَرغَبُ أن يَرَى جَمالَه ويُرِيَه الآخَرِينَ، ويَوَدُّ صاحِبُ المَهارةِ أن يَلفِتَ الأَنظارَ إلَيْها بعَرضِ مَهاراتِه وإِعلانِه عنها؛ والحَقِيقةُ الجَمِيلةُ الكامِنةُ، والمَعنَى الجَمِيلُ المَخبُوءُ يَتَطلَّعانِ إلى الِانطِلاقِ واستِقطابِ الأَنظارِ.

ولَمّا كانَت هذه القَواعِدُ الرَّصِينةُ سارِيةً في كلِّ شَيءٍ، كلٌّ حَسَبَ دَرَجتِه، فلا بُدَّ أنَّ كلَّ مَرتَبةٍ مِن مَراتِبِ كلِّ اسمٍ مِن أَلفِ اسمٍ واسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى لِلجَمِيلِ المُطلَقِ ولِلقَيُّومِ ذِي الجَلالِ، يَنطَوِي على حُسنٍ حَقِيقيٍّ، وكَمالٍ حَقِيقيٍّ، وجَمالٍ حَقِيقيٍّ، وحَقِيقةٍ جَمِيلةٍ باهِرةٍ بشَهادةِ الكائِناتِ كُلِّها، وتَجَلِّياتِ تلك الأَسماءِ الظّاهِرةِ علَيْها، وإِشاراتِ نُقُوشِها البَدِيعةِ فيها، بل إنَّ كلَّ مَرتَبةٍ مِن مَراتِبِ كلِّ اسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى فيها مِنَ الحُسنِ والجَمالِ والحَقائِقِ الجَمِيلةِ ما لا يَحصُرُه حَدٌّ.

وحَيثُ إنَّ هذه المَوجُوداتِ وهذه الكائِناتِ هي مَرايا عاكِسةٌ لِتَجَلِّياتِ جَمالِ هذه الأَسماءِ المُقدَّسةِ.. وهِي لَوْحاتٌ بَدِيعةٌ تُعرَضُ فيها نُقُوشُ تلك الأَسماءِ الجَمِيلةِ.. وهِي صَحائِفُها الَّتي تُعبِّرُ عن حَقائِقِها الجَمِيلةِ؛ فلا بُدَّ أنَّ تلك الأَسماءَ الدّائِمةَ الخالِدةَ ستَعرِضُ تَجَلِّياتِها غَيرَ المَحدُودةِ، وتُبْرِزُ نُقُوشَها الحَكِيمةَ غَيرَ المَعدُودةِ، وتُشهِرُ صَحائِفَ كُتُبِها أَمامَ نَظَرِ مُسَمَّاها الحَقِّ وهُو “القَيُّومُ” ذُو الجَلالِ؛ فَضْلًا عن عَرضِها أَمامَ أَنظارِ ما لا يُعَدُّ مِن ذَوِي الأَرواحِ وذَوِي الشُّعُورِ لِمُطالَعَتِها والتَّأمُّلِ فيها؛ ولا بُدَّ أنَّها تُجَدِّدُ الكائِناتِ عامّةً وعلى الدَّوامِ بتَجَلِّياتِها وتُبدِّلُها استِنادًا إلى ذلك العِشقِ الإِلٰهِيِّ المُقدَّسِ، وبِناءً على سِرِّ القَيُّوميّةِ الإِلٰهِيّةِ، وذلك لِأَجلِ إِبرازِ لَوْحاتٍ لا نِهايةَ لها مِن شَيءٍ مَحدُودٍ، وعَرضِ شُخُوصٍ لا حَدَّ لها مِن شَخصٍ واحِدٍ، وإِظهارِ حَقائِقَ كَثِيرةٍ جِدًّا مِن حَقِيقةٍ واحِدةٍ.

[الشعبة الثالثة: هي الشعاع التالي: الشعاع الرابع]

[الشعاع الرابع: الأسماء الإلهية تقتضي خلاقية مستمرة]

الشُّعاع الرّابع:

الشُّعبةُ الثَّالثةُ مِن حِكْمةِ الفَعّاليّةِ الدّائِمةِ المُحَيِّرةِ في الكَونِ:

هي أنَّ كلَّ ذِي رَحْمةٍ يُسَرُّ بإِرضاءِ الآخَرِينَ، وكلَّ ذِي رَأفةٍ يَنشَرِحُ إذا ما أَدخَلَ السُّرُورَ إلى قُلُوبِ الآخَرِينَ، وهكذا يَبتَهِجُ ذُو المَحَبّةِ بإِبهاجِ مَخلُوقاتِه الجَدِيرةِ بالبَهْجةِ، كما يَسعَدُ كلُّ ذِي هِمّةٍ عاليةٍ وصاحِبِ غَيرةٍ وشَهامةٍ بإِسعادِه الآخَرِينَ، ومِثلَما يَفرَحُ كلُّ عادِلٍ بجَعلِ أَصحابِ الحُقُوقِ يَنالُونَ حَقَّهُم ويَشكُرُونَه لِوَضعِ الحَقِّ في نِصابِه وإِنزالِ العِقابِ على المُقَصِّرِينَ، يَزهُو كلُّ صَنّاعٍ ماهِرٍ ويَفتَخِرُ بعَرضِ صَنْعَتِه وإِشهارِ مَهارَتِه لَدَى قِيامِ مَصنُوعاتِه بإِنتاجِ ما كان يَتَوقَّعُه على أَتَمِّ وَجهٍ يَتَصوَّرُه.. فكُلٌّ مِن هذه الدَّساتيرِ المَذكُورةِ آنِفًا، قاعِدةٌ أَساسِيّةٌ عَمِيقةٌ راسِخةٌ جارِيةٌ في الكَونِ كُلِّه مِثلَما تَجرِي في عالَمِ الإِنسانِ.

ولقد وَضَّحْنا في “المَوقِفِ الثَّاني مِنَ الكَلِمةِ الثَّانيةِ والثَّلاثِينَ” أَمثِلةً ثَلاثةً تُبيِّنُ جَرَيانَ هذه القَواعِدِ الأَساسِيّةِ في تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى، نَرَى مِنَ المُناسِبِ اختِصارَها هنا فنَقُولُ:

[مثال: ذو الرحمة والفضل]

إنَّ الَّذي يَملِكُ رَحمةً فائِقةً وهِمّةً عاليةً معَ مُنتَهَى الكَرَمِ والسَّخاءِ، يُسعِدُه جِدًّا أن يُغدِقَ على فُقَراءَ مُدقِعِينَ ومَحاوِيجَ مُضطَرِّينَ، ويَتَفضَّلَ علَيْهِم بكَرَمِه وجُودِه، فيُعِدُّ لَهُم مَوائِدَ وَلائِمَ فاخِرةٍ ومَأكُولاتٍ نَفِيسةٍ على مَتنِ سَفِينةٍ عامِرةٍ تَجرِي بهم في بِحارِ الأَرضِ لِيُدخِلَ البَهجةَ والسُّرُورَ في قُلُوبِهم ضِمنَ سِياحةٍ جَمِيلةٍ ونُزهةٍ لَطِيفةٍ.. فهذا الشَّخصُ يَستَمتِعُ مِن مَظاهِرِ الشُّكرِ المُنبَعِثةِ مِن أُولَئِك الفُقَراءِ، ويَنشَرِحُ صَدرُه انشِراحًا عَظِيمًا وهُو يُشاهِدُ تَمَتُّعَهُم بمَباهِجِ النِّعمِ والآلاءِ، ويَفتَخِرُ بسُرُورِهِم ويَزهُو بفَرَحِهِم.. كلُّ ذلك بمُقتَضَى ما أَوْدَع اللهُ في فِطْرَتِه مِن سَجايا سامِيةٍ وصِفاتٍ رَفيعةٍ.

فالإِنسانُ الَّذي هو بمَثابةِ أَمِينٍ على وَدائِعِ الخالِقِ الكَرِيمِ ومُوَظَّفٍ لِلتَّوزِيعِ ليس إلّا، إذا كان يَستَمتِعُ ويَنشَرِحُ ويَتَلذَّذُ إلى هذا القَدْرِ لَدَى إِكرامِه الآخَرِينَ في ضِيافةٍ جُزئيّةٍ، فكَيفَ إِذًا يا تُرَى بـ”الحَيِّ القَيُّومِ” -﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾- الَّذي تَنطَلِقُ إلَيْه آياتُ الحَمدِ والشُّكرِ، وتُرفَعُ إلَيْه أَكُفُّ الثَّناءِ والرِّضَا بالدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ مِن مَخلُوقاتٍ لا حَدَّ لَهُم مِنَ الأَحياءِ إلى الإِنسانِ والمَلائِكةِ والجِنِّ والأَرواحِ، الَّذِينَ حَمَلَهُم في سَفِينةِ الرَّحمٰنِ -الأَرضِ- وأَسبَغَ علَيْهِم نِعَمَه ظاهِرةً وباطِنةً بأَنواعِ مَطعُوماتِه المُنسَجِمةِ تَمامًا معَ ما غَرَز فِيهِم مِن أَذواقٍ وأَرزاقٍ، وتَفَضَّل علَيْهِم بهذه السِّياحةِ الرَّبّانيّةِ في أَرجاءِ الكَونِ.

فَضْلًا عن جَعلِه كلَّ جَنّةٍ مِن جِنانِه في دار الخُلُودِ دارَ ضِيافةٍ دائِمةٍ، مُعَدًّا فيها كلُّ ما تَشتَهِيه الأَنفُسُ وتَلَذُّ الأَعيُنُ… فجَمِيعُ آياتِ الشُّكرِ والحَمدِ والرِّضَا المُنطَلِقةِ مِن جَمِيعِ المَخلُوقاتِ قاطِبةً، والمُنبَعِثةِ مِن سُرُورِهِم وفَرَحِهِم وابتِهاجِهِم بالنِّعَمِ والآلاءِ العَمِيمةِ علَيْهِم، والمُتَوجِّهةِ كلِّها إلى “الحَيِّ القَيُّومِ“، تُولَّدُ مِنَ الشُّؤُونِ الإِلٰهِيّةِ المُقدَّسةِ الَّتي تَقتَضِي هذه الفَعّاليّةَ الدّائِمةَ والخَلّاقيّةَ المُستَمِرّةَ، تلك الشُّؤُونِ الَّتي يَعجِزُ التَّعبِيرُ عنها ولم يُؤذَن لنا بالإِفصاحِ عنها، بل رُبَّما يُشارُ إلَيْها بأَسماءِ: الرِّضَا المُقَدَّسِ والِافتِخارِ المُقَدَّسِ واللَّذّةِ المُقَدَّسةِ وما شابَهَها مِنَ الأَسماءِ الَّتي نُعبِّرُ بها -نَحنُ البَشَرَ- عن مَعانِي الرُّبُوبيّةِ المُنزَّهةِ.

[مثال: الصانع الماهر]

ومِثالٌ آخَرُ: إذا قامَ صَنّاعٌ ماهِرٌ، بصُنعِ حاكٍ -بلا أُسطُوانةٍ- يُعَبِّرُ عَمّا يُرِيدُه مِنه، ويَعمَلُ على أَفضَلِ صُورةٍ يَرغَبُها هو، كم يكُونُ ذلك الصَّنّاعُ مُفتَخِرًا؟ وكم يكُونُ مُتَلذِّذًا مِن رُؤيةِ صَنْعتِه على هذه الصُّورةِ؟ وكم يكُونُ مَسرُورًا؟ حتَّى يُرَدِّدُ في نَفسِه: “ما شاءَ الله!”؟

فإذا كانَت صَنْعةٌ صَغِيرةٌ صُورِيّةٌ -مِن دُونِ إِيجادٍ حَقِيقيٍّ- تُثِيرُ في رُوحِ صانِعِها إلى هذه الدَّرَجةِ مِن مَشاعِرِ الِافتِخارِ والرِّضَا، فكَيفَ بالصّانِعِ الحَكِيمِ الَّذي أَوْجَد هذه المَوجُوداِت كُلَّها، وجَعَلَها مُوسِيقَى إِلٰهِيّةً تُعبِّرُ عن شُكرِها وتَسبِيحِها وتَقدِيسِها بأَنواعٍ مِنَ النَّغَماتِ وأَنواعٍ مِنَ الكَلامِ، كما جَعَلَها مَصْنَعًا عَجِيبًا، فَضْلًا عمّا أَسبَغ على كلِّ نَوعٍ مِن أَنواعِ الكائِناتِ، وكلِّ عالَمٍ مِن عَوالِمِ الكَونِ مِن صَنعةٍ مُتقَنةٍ بَدِيعةٍ مُتَبايِنةٍ مُعجِزةٍ بخَوارِقِها.. أَضِف إلى ذلك المَكائِنَ الكَثِيرةَ الَّتي أَودَعَها في رُؤُوسِ ذَوِي الحَياةِ الشَّبِيهةِ بالحاكِي وآلاتِ التَّصوِيرِ وأَجهِزةِ البَثِّ والِاستِقبالِ، بل أَودَعَ أَعجَبَ مِن هذه الأَجهِزةِ المُعجِزةِ حتَّى في رَأسِ أَصغَرِ حَيَوانٍ! بل لم يُوْدِعْ في رَأسِ الإِنسانِ مُجَرَّدَ حاكٍ بلا أُسطُوانةٍ، ولا آلةَ تَصوِيرٍ بلا عَدَسةٍ، ولا هاتِفًا بلا سِلكٍ، بل مَكائِنَ أَعجَبَ بكَثِيرٍ وخَوارِقَ أَعظَمَ وأَعظَمَ مِمّا ذُكِر بكَثِيرٍ.

فما يُنشِئُه عَمَلُ هذه المَكائِنِ -العامِلةِ وَفقَ إِرادَتِه، والمُودَعةِ في رَأسِ الإِنسانِ المَخلُوقِ في أَحسَنِ تَقوِيمٍ- مِن مَعانِي الِافتِخارِ المُقدَّسِ والرِّضَا المُقدَّسِ، وأَمثالِها مِنَ المَعانِي الجَلِيلةِ والشُّؤونِ المُقدَّسةِ لِلرُّبُوبيّةِ -الَّتي هي مِن هذا النَّوعِ- يَستَلزِمُ حَتْمًا هذه الفَعّاليّةَ الدّائِمةَ المُشاهَدةَ.

[مثال: الحاكم العادل]

ومَثلًا: إنَّ الحاكِمَ العادِلَ يَجِدُ لَذّةً ومُتعةً ورِضًا عِندَما يَأخُذُ حَقَّ المَظلوُمِ مِنَ الظَّالِمِ ويُوفِي الحَقَّ نِصابَه، ويَفتَخِرُ لَدَى صِيانَتِه الضُّعَفاءَ مِن شُرُورِ الأَقوِياءِ، ويُسَرُّ لَدَى مَنحِه كلَّ فَردٍ ما يَستَحِقُّه مِن حُقُوقٍ.. كلُّ ذلك مِن مُقتَضَياتِ الحاكِمِيّةِ والعَدالةِ وقَواعِدِهِما الأَساسِ؛ فلا بُدَّ أنَّ الحاكِمَ الحَكِيمَ العادِلَ الَّذي هو “الحَيُّ القَيُّومُ” بمَنحِه شَرائِطَ الحَياةِ في صُورةِ حُقُوقِ الحَياةِ لِلمَخلُوقاتِ كافّةً ولا سِيَّما الأَحياءِ.. وبإِحسانِه إلَيْهِم بأَجهِزةٍ تُحافِظُ على حَياتِهِم.. وبحِمايَتِه الضُّعَفاءَ مِن شُرُورِ الأَقوِياءِ بكُلِّ رَحمةٍ ورَأفةٍ.. وبتَوَلِّيه إِظهارَ سِرِّ العَدالةِ في الكَونِ بإِعطاءِ كلِّ ذِي حَقٍّ مِنَ الأَحياءِ حَقَّه كامِلًا.. وبإِنزالِ شَيءٍ مِنَ العُقُوبةِ بالظّالِمِينَ -في هذه الدُّنيا- وبخاصّةٍ ما يَحصُلُ مِنَ التَّجَلِّي الكامِلِ لِلعَدالةِ العُظمَى في المَحكَمةِ الكُبرَى لِيَومِ الحَشرِ الأَعظَمِ.. يَحصُلُ مِن كلِّ هذا ما نَعجِزُ عنِ التَّعبِيرِ عنه مِن شُؤُونٍ رَبّانيّةٍ ومَعانٍ قُدسِيّةٍ جَلِيلةٍ هي الَّتي تَقتَضِي هذه الفَعّاليّةَ الدّائِمةَ في الكَونِ.

وهكذا في ضَوءِ هذه الأَمثِلةِ الثَّلاثةِ.. فإنَّ الأَسماءَ الإِلٰهِيّةَ عامّةً، وكلَّ اسم مِنها خاصّةً، يَقتَضِي هذه الخَلّاقيّةَ الدّائِمةَ، حَيثُ يكُونُ مِحْوَرًا لِقِسمٍ مِن هذه الشُّؤُونِ الإِلٰهِيّةِ المُقدَّسةِ وأَمثالِها ضِمنَ هذه الفَعّاليّةِ الدّائِمةِ.

[الربوبية تقصد إطلاق القابليات وترقية الموجودات]

وحَيثُ إنَّ كلَّ قابِليّةٍ وكلَّ استِعدادٍ يُورِثُ فَرَحًا وانشِراحًا ولَذّةً، بمَنحِها الثِّمارَ والفَوائِدَ لَدَى انبِساطِها وانكِشافِها.. وإنَّ كلَّ مُوَظَّفٍ يَشعُرُ -عِندَ إِتمامِ الوَظِيفةِ وإِنهائِها على الوَجهِ المَطلُوبِ- براحةٍ وأَيِّ راحةٍ.. وإنَّ جَنْيَ ثَمَراتٍ كَثِيرةٍ مِن بِذْرةٍ واحِدةٍ، واغتِنامَ رِبحِ مِئاتِ الدَّراهِمِ مِن دِرهَمٍ واحِدٍ، هي حالاتٌ مُفرِحةٌ جِدًّا لِأَصحابِها، وتُعَدُّ تِجارةً رابِحةً لَهُم..

فلا بُدَّ أن يُفهَم مَدَى أَهَمِّيّةِ المَعانِي المُقدَّسةِ، وشُؤُونِ الرُّبُوبيّةِ الإِلٰهِيّةِ النّاشِئةِ مِنَ الفَعّاليّةِ الدّائِمةِ، والخَلّاقيّةِ الرَّبّانيّةِ الَّتي تَكشِفُ عن جَمِيعِ الِاستِعداداتِ الَّتي لا تُحَدُّ، وجَمِيعِ القابِلِيّاتِ الَّتي لا تُعَدُّ، لِجَمِيعِ المَخلُوقاتِ غَيرِ المَحدُودةِ.. والَّتي تُنهِي وَظِيفةَ جَمِيعِ المَخلُوقاتِ بَعدَ أن تَستَخدِمَها في وَظائِفَ جَسِيمةٍ وتُرَقِّيَها بهذا التَّسرِيحِ إلى مَراتِبَ أَسمَى وأَعلَى -كَأَن تُرَقِّيَ العَناصِرَ إلى مَرتَبةِ المَعادِنِ، والمَعادِنَ إلى حَياةِ النَّباتاتِ، والنَّباتاتِ إلى دَرَجةِ حَياةِ الحَيَواناتِ بِواسِطةِ الرِّزقٍ، والحَيَواناتِ إلى مَرتَبةِ الإِنسانِ الشّاعِرةِ والعاليةِ بالشُّكرِ والحَمدِ- والَّتي تَجعَلُ كلَّ كائِنٍ يُخَلِّفُ أَنواعًا مِنَ الوُجُودِ كرُوحِه وماهِيَّتِه وهُوِيَّتِه وصُورَتِه بَعدَ زَوالِ ظاهِرِ وُجُودِه لِتُؤدِّيَ المُهِمّةَ نَفسَها كما وُضِّحَ في “المَكتُوبِ الرّابعِ والعِشرِينَ”.

[ردٌّ على سؤال: إن الذي يُغيِّر يلزم أن يكون متغيِّرًا]

جَوابٌ قاطِعٌ على سُؤالٍ مُهِمٍّ:

يقُولُ قِسمٌ مِن أَهلِ الضَّلالةِ: إنَّ الَّذي يُغَيِّرُ الكائِناتِ بفَعّاليّةٍ دائِمةٍ ويُبَدِّلُها، يَلزَمُ أن يكُونَ هو مُتَغيِّرًا ومُتَحوِّلًا أَيضًا.

الجَوابُ: كلَّا ثمَّ كلَّا. حاشَ للهِ أَلفَ أَلفِ مَرّةٍ حاشَ للهِ!

إنَّ تَغيُّرَ أَوجُهِ المَرايا في الأَرضِ، لا يَدُلُّ على تَغيُّرِ الشَّمسِ في السَّماءِ، بل يَدُلُّ على إِظهارِ تَجَدُّدِ تَجَلِّياتِ الشَّمسِ؛ فكَيفَ بالَّذي هو أَزَليٌّ وأَبدِيٌّ وسَرمَدِيٌّ، وفي كَمالٍ مُطلَقٍ وفي استِغناءٍ مُطلَقٍ (عنِ الخَلقِ)، وهُو الكَبِيرُ المُتَعالِ المُقَدَّسُ عنِ المادّةِ والمَكانِ والحُدُودِ، والمُنزَّهُ عنِ الإِمكانِ والحُدُوثِ، فتَغيُّرُ هذا الذّاتِ الأَقدَسِ مُحالٌ بالمَرّةِ.

ثمَّ إنَّ تَغيُّرَ الكائِناتِ، ليس دَلِيلًا على تَغيُّرِه هو، بل هو دَلِيلٌ على عَدَمِ تَغيُّرِه، وعَدَمِ تَحَوُّلِه سُبحانَه وتَعالَى، لِأنَّ الَّذي يُحَرِّكُ أَشياءَ عَدِيدةً بانتِظامٍ دَقِيقٍ ويُغيِّرُها لا بُدَّ ألّا يكُونَ مُتَغيِّرًا وألّا يَتَحرَّكَ..

مِثالُ ذلك أنَّك إذا كُنتَ تُحرِّكُ كُراتٍ كَثِيرةً مُرتَبِطةً بعِدّةِ خُيُوطٍ، حَرَكةً مُنتَظِمةً ودائِمةً، وتَضَعُها في أَوضاعٍ مُنتَظِمةٍ، يَنبَغِي أن تكُونَ أنت ثابِتًا في مَكانِك دُونَ أن تَتَحوَّلَ عنه، وإلّا اختَلَّ الِانتِظامُ.

ومِنَ القَواعِدِ المَشهُورةِ: “إنَّ الَّذي يُحَرِّكُ بانتِظامٍ لا يَنبَغِي أن يَتَحرَّك، والَّذي يُغيِّرُ باستِمرارٍ لا يَنبَغِي أن يكُونَ مُتَغيِّرًا”، كي يَستَمِرَّ ذلك العَمَلُ في انتِظامِه.

ثانيًا: إنَّ التَّغيُّـرَ والتَّبدُّلَ ناشِئٌ مِنَ الحُدُوثِ، ومِنَ التَّجدُّدِ بقَصدِ الوُصُولِ إلى الكَمالِ، ومِنَ الحاجةِ، ومِنَ المادِّيّةِ، ومِنَ الإِمكانِ؛ أمّا الذَّاتُ الأَقدَسُ، فهُو قَدِيمٌ أَزَليٌّ، وفي كَمالٍ مُطلَقٍ، وفي استِغناءٍ مُطلَقٍ، مُنزَّهٌ عنِ المادّةِ، وهُو الواجِبُ الوُجُودِ، فلا بُدَّ أنَّ التَّبدُّلَ والتَّغيُّـرَ مُحالٌ في حَقِّه وغَيرُ مُمكِنٍ أَصلًا.

[الشعاع الخامس: تجلي اسم “القيوم”]

الشُّعاع الخامس:

[المسألة الأولى: كيف نرى التجلي الأعظم لاسم “القيوم”؟]

المَسأَلةُ الأُولَى: إذا أَرَدْنا أن نَرَى التَّجَلِّيَ الأَعظَمَ لِاسمِ اللهِ “القَيُّومِ“، فما عَلَيْنا إلّا أن نَجعَلَ خَيالَنا واسِعًا جِدًّا بحَيثُ يُمكِنُه أن يُشاهِدَ الكَونَ بأَسرِه، فنَجعَلَ مِنه نَظّارَتَينِ إِحداهُما تَرَى أَبعَدَ المَسافاتِ كالمَرصَدِ، والأُخرَى تُشاهِدُ أَصغَرَ الذَّرّاتِ؛ فإذا ما نَظَرْنا بالمِنظارِ الأَوَّلِ نَرَى أنَّ مَلايِينَ الكُراتِ الضَّخْمةِ والكُتَلِ الهائِلةِ الَّتي مِنها ما هو أَكبَرُ مِنَ الأَرضِ بأُلُوفِ المَرّاتِ، قد رُفِعَت بتَجَلِّي اسمِ “القَيُّومِ” بغَيرِ عَمَدٍ نَراها، وهِي تَجرِي ضِمنَ أَثِيرٍ لَطِيفٍ أَلطَفَ مِنَ الهَواءِ، وتُسَخَّرُ لِأَجلِ القِيامِ بمَهامَّ عَظِيمةٍ في حَرَكاتِها وفي ثَباتِها الظّاهِرِ.

لِنَرجِعِ الآنَ إلى المِنظارِ الآخَرِ.. لِنَرَى أَصغَرَ الأَشياءِ، فإذا بِنا أَمامَ ذَرّاتٍ مُتَناهِيةٍ في الصِّغَرِ تُشكِّلُ أَجسامَ الأَحياءِ -بسِرِّ القَيُّومِيّةِ- وهِي تَأخُذُ أَوْضاعًا مُنتَظِمةً جِدًّا كالنُّجُومِ، وتَتَحرَّكُ وَفقَ نِظامٍ مُعَيَّنٍ وتَناسُقٍ مُخَصَّصٍ، مُنجِزةً بها وَظائِفَ جَمّةً، فإن شِئتَ فانظُر إلى الكُرَيَّاتِ الحُمْرِ والبِيضِ تَرَهُما تَتَحرَّكانِ حَرَكاتٍ خاصّةً شَبِيهةً بحَرَكاتِ المَوْلَوِيّةِ لِإنجازِ مُهِمّاتٍ جَسِيمةٍ في الجِسمِ وهُما تَجرِيانِ في السَّيلِ الدّافِقِ لِلدَّمِ.

[خلاصة الخلاصة في اجتماع الأسماء الستة]

خُلاصة الخُلاصة5هذه الخُلاصةُ هي الأَساسُ الَّذي تَستَنِد إليه الرَّسائلُ الصَّغيرةُ لِلَّمعةِ الثَّلاثينَ، وهي زُبدةُ مَوضُوعاتِها الَّتي تَحمِلُ أَسرارَ الأَسماءِ السِّتّة الحُسنَى لِلِاسمِ الأَعظَم.

لقدِ ارْتَأَينا أن نُدرِجَ هنا خُلاصةً تُبيِّنُ الضِّياءَ المُقدَّسَ الحاصِلَ مِنِ امتِزاجِ أَنوارِ الأَسماءِ السِّتّةِ لِلِاسمِ الأَعظَمِ، كامتِزاجِ الأَلوانِ السَّبعةِ لِضَوءِ الشَّمسِ -﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾- ولِأَجلِ مُشاهَدةِ هذا النُّورِ المُقدَّسِ نَسُوقُ هذه الخُلاصةَ:

تَأمَّلْ في مَوجُوداتِ الكَونِ كلِّه، وانظُرْ إلَيْها مِن وَراءِ هذا التَّجَلِّي الأَعظَمِ لِاسمِ “القَيُّومِ” الَّذي مَنَحَ البَقاءَ والدَّوامَ والقِيامَ لها، تَرَ أنَّ التَّجَلِّيَ الأَعظَمَ لِاسمِ “الحَيِّ” قد جَعَل تلك المَوجُوداتِ الحَيّةَ ساطِعةً مُنَوَّرةً بتَجَلِّيه الباهِرِ، وجَعَل الكائِناتِ كلَّها مُنَوَّرةً بنُورِه الزّاهِرِ، حتَّى يُمكِنُ مُشاهَدةُ لَمَعانِ نُورِ الحَياةِ على الأَحياءِ كافّةً.

والآنَ انظُرْ إلى التَّجَلِّي الأَعظَمِ لِاسمِ “الفَرْدِ” مِن وَراءِ اسمِ “الحَيِّ“، تَرَه قد ضَمَّ جَمِيعَ الكائِناتِ بأَنواعِها وأَجزائِها ضِمنَ وَحْدةٍ واحِدةٍ، فهُو يَطبَعُ على جَبْهةِ كلِّ شَيءٍ خَتْمَ الوَحدانيّةِ، ويَضَعُ على وَجهِ كلِّ شَيءٍ خَتْمَ الأَحَدِيّةِ، فيَجعَلُ كلَّ شَيءٍ يُعلِنُ تَجَلِّيَه بأَلسِنةٍ لا حَدَّ لها ولا نِهايةَ.

ثمَّ انظُرْ مِن خَلفِ اسمِ “الفَرْدِ” إلى التَّجَلِّي الأَعظَمِ لِاسمِ “الحَكَمِ“، تَرَ أنَّه قد ضَمَّ المَوجُوداتِ كلَّها مِن أَعظَمِ دائِرةٍ فيها إلى أَصغَرِها كُلِّـيًّا كانَ أم جُزئيًّا -ابتِداءً مِنَ النُّجُومِ وانتِهاءً بالذَّرّاتِ- مَنَحَ كلَّ مَوجُودٍ ما يَستَحِقُّ مِن نِظامٍ مُثمِرٍ، وما يُلائِمُه مِنِ انتِظامٍ حَكِيمٍ، وما يُوافِقُه مِنِ انسِجامٍ مُفِيدٍ.. فلَقَد زَيَّن اسمُ “الحَكَمِ” الأَعظَمُ المَوجُوداتِ كُلَّها ورَصَّعَها بتَجَلِّيه السَّاطِعِ.

ثمَّ انظُرْ مِن خَلفِ التَّجَلِّي الأَعظَمِ لِاسمِ “الحَكَمِ” إلى التَّجَلِّي الأَعظَمِ لِاسمِ “العَدْلِ” -كما أَوْضَحْناه في النُّكتةِ الثّانيةِ- تَرَه يُدِيرُ جَمِيعَ الكائِناتِ بمَوجُوداتِها ضِمنَ فَعّاليّةٍ دائِمةٍ، بمَوازِينِه الدَّقيقةِ ومَقايِيسِه الحَسّاسةِ ومَكايِيلِه العادِلةِ، بحَيثُ يَجعَلُ العُقُولَ في حَيرةٍ وإِعجابٍ، فلو فَقَدَ نَجمٌ مِنَ الأَجرامِ السَّماوِيّةِ تَوازُنَه لِثانيةٍ واحِدةٍ، أي: إذا انفَلَت مِن تَجَلِّي اسمِ “العَدْلِ” لَحَلَّ الهَرْجُ والمَرْجُ في النُّجُومِ كلِّها، ولَأَدَّى -لا مَحالةَ- إلى حُدُوثِ القِيامةِ.

وهكذا، فكُلُّ دائِرةٍ مِن دَوائِرِ الوُجُودِ وكلُّ مَوجُودٍ مِن مَوجُوداتِها ابتِداءً مِنَ الدَّوائِرِ العَظِيمةِ -المُسَمّاةِ بدَرْبِ التَّبّانةِ- إلى حَرَكاتِ أَصغَرِ المَوجُوداتِ في الجِسمِ مِن كُرَيّاتٍ حُمْرٍ وبِيضٍ، كلٌّ مِنها قد فُصِّلَ تَفصِيلًا خاصًّا، وقُدِّر تَقدِيرًا دَقِيقًا، وقِيسَ بمَقايِيسَ حَسّاسةٍ، ومُنِحَ شَكلًا مُعيَّنًا ووَضْعًا مَخصُوصًا بحَيثُ يُظهِرُ -كلٌّ مِنها- الطّاعةَ التّامّةَ والِانقِيادَ المُطلَقَ لِلأَوامِرِ الصّادِرةِ مِنَ الَّذي يَملِكُ أَمرَ “كُن فيكُونُ”، ابتِداءً مِن جُيُوشِ النُّجُومِ الهائِلةِ المُتَلَألِئةِ في الفَضاءِ، إلى جُيُوشِ الذَّرّاتِ المُتَناهِيةِ في الصِّغَرِ.

فانظُرِ الآنَ مِن خَلفِ التَّجَلِّي الأَعظَمِ لِاسمِ اللهِ “العَدْلِ” ومِن خِلالِه، وشاهِدِ التَّجَلِّيَ الأَعظَمَ لِاسمِ اللهِ “القُدُّوسِ” -الَّذي وَضَّحْناه في النُّكتةِ الأُولَى- تَرَ أنَّ هذا التَّجَلِّيَ الأَعظَمَ لِاسمِ “القُدُّوسِ” قد جَعَل مَوجُوداتِ الكائِناتِ نَظِيفةً، نَقِيّةً طاهِرةً، بَرّاقةً، صافيةً، زَكِيّةً، مُزَيَّنةً، وجَمِيلةً؛ وحَوَّلَها إلى ما يُشبِهُ مَرايا جَمِيلةً مَجلُوّةً لائِقةً لِإظهارِ الجَمالِ البَدِيعِ المُطلَقِ، وتُناسِبُ عَرْضَ تَجَلِّياتِ أَسمائِه الحُسنَى.

نَحصُلُ مِمّا تَقدَّمَ أنَّ هذه الأَسماءَ والأَنوارَ السِّتّةَ لِلِاسمِ الأَعظَمِ، قد عَمَّتِ الكَونَ كُلَّه وغَطَّتِ المَوجُوداتِ قاطِبةً، ولَفَّعَتْها بأَستارٍ مُزَرْكَشةٍ مُلَوَّنةٍ بأَزهَى الأَلوانِ المُتَنوِّعةِ وأَبدَعِ النُّقُوشِ المُختَلِفةِ وأَروَعِ الزِّيناتِ المُتَبايِنةِ.

[المسألة الثانية: مجلى القيومية في الإنسان]

المَسألةُ الثّانيةُ مِن الشُّعاع الخامِس:

إنَّ جَلْوةً مِن تَجَلِّياتِ القَيُّوميّةِ على الكَونِ، وشُعاعًا مِن نُورِها مِثلَما يَعُمُّ الكَونَ بمَظاهِرِ الواحِدِيّةِ والجَلالِ، فإنَّه يُبْرِزُ على هذا الإِنسانِ -الَّذي يُمَثِّلُ مِحوَرَ الكَونِ وقُطْبَه وثَمَرَتَه الشّاعِرةَ- مَظاهِرَ الأَحَدِيّةِ والجَمالِ؛ وهذا يَعنِي أنَّ الكائِناتِ الَّتي هي قائِمةٌ بسِرِّ القَيُّوميّةِ، تَقُومُ هي أَيضًا -مِن جِهةٍ- بالإِنسانِ الَّذي يُمَثِّلُ أَكمَلَ مَظهَرٍ مِن مَظاهِرِ تَجَلِّي اسمِ “القَيُّومِ”، أي إنَّ القَيُّوميّةَ تَتَجلَّى في الإِنسانِ تَجَلِّيًا يَجعَلُ مِنه عَمُودًا سانِدًا لِلكائِناتِ جَمِيعًا، بمَعنَى أنَّ مُعظَمَ الحِكَمِ الظّاهِرةِ في الكائِناتِ وأَغلَبَ مَصالِحِها وغاياتِها تَتَوجَّهُ إلى الإِنسانِ.

نعم، يَصِحُّ أن يُقالَ: إنَّ “الحَيَّ القَيُّومَ” سُبحانَه قد أَرادَ وُجُودَ الإِنسانِ في هذا الكَونِ، فخَلقَ الكَونَ لِأَجلِه، وذلك لِأنَّ الإِنسانَ يُمكِنُه أن يُدرِكَ جَمِيعَ الأَسماءِ الإِلٰهِيّةِ الحُسنَى ويَتَذوَّقَها بما أَودَعَ اللهُ فيه مِن مَزايا وخَصائِصَ جامِعةٍ؛ فهُو يُدرِكُ -مَثلًا- كَثِيرًا مِن مَعانِي تلك الأَسماءِ بما يَتَذوَّقُ مِن لَذائِذِ الأَرزاقِ المُنهَمِرةِ علَيْه، بَينَما لا تَبلُغُ المَلائِكةُ إِدراكَ تلك الأَسماءِ بتلك الأَذْواقِ الرِّزقيّةِ.

فلِأَجلِ جامِعِيّةِ الإِنسانِ المُهِمّةِ يُشعِرُ “الحَيُّ القَيُّومُ” الإِنسانَ بجَمِيعِ أَسمائِه الحُسنَى، ويُعرِّفُه بجَمِيعِ أَنواعِ إِحسانِه، ويُذِيقُه طُعُومَ آلائِه، فمَنَحَه مَعِدةً مادِّيّةً يَستَطِيعُ بها أن يَتَذوَّقَ ما أَغدَق علَيْه مِن نِعمٍ لَذِيذةٍ قد بَسَطَها في سُفرةٍ واسِعةٍ سَعةَ الأَرضِ؛ ثمَّ وَهَب له حَياةً، وجَعَل هذه الحَياةَ كتِلك المَعِدةِ المادِّيّةِ تَستَطِيعُ أن تَتَنعَّمَ بأَنواعٍ مِنَ النِّعَمِ المُعَدّةِ على سُفرةٍ واسِعةٍ مَفرُوشةٍ أَمامَها وتَتَلذَّذُ بها بما زَوَّدَها -سُبحانَه- مِن مَشاعِرَ وحَواسَّ لها القُدرةُ أن تَمتَدَّ -كالأَيدِي- إلى كلِّ نِعمةٍ مِن تلك النِّعَمِ، فتُؤدِّي عِندَ ذلك حَقَّها مِن أَنواعِ الشُّكرِ والحَمدِ؛ ثمَّ وَهَب له -فَوقَ مَعِدةِ الحَياةِ هذه- مَعِدةَ الإِنسانيّةِ، وهذه المَعِدةُ تَطلُبُ رِزقًا ونِعَمًا أَيضًا.. فجَعَل العَقلَ والفِكرَ والخَيالَ بمَثابةِ أَيدِي تلك المَعِدةِ، لها القُدرةُ على بُلُوغِ آفاقٍ أَوسَعَ مِن مَيادِينِ الحَياةِ المَشهُودةِ، وعِندَها تَستَطِيعُ الحَياةُ الإِنسانيّةُ أن تُؤَدِّيَ ما علَيْها مِن شُكرٍ وحَمدٍ تِجاهَ بارِئِها، حَيثُ تَمتَدُّ أَمامَها سُفرةُ النِّعَمِ العامِرةُ الَّتي تَسَعُ السَّماواتِ والأَرضَ.

ثمَّ لِأَجلِ أن يَمُدَّ أَمامَ الإِنسانِ سُفرةَ نِعَمٍ أُخرَى عَظِيمةً، جَعَل عَقائِدَ الإِسلامِ والإِيمانِ بمَثابةِ مَعِدةٍ مَعنَوِيّةٍ تَطلُبُ أَرزاقًا مَعنَوِيّةً كَثِيرةً، فمَدَّ سُفرةً مَلِيئةً بالرِّزقِ المَعنَوِيِّ لِهذه المَعِدةِ الإِيمانيّةِ، وبَسَطَها خارِجَ المُمكِناتِ المُشاهَدةِ، فضَمَّ الأَسماءَ الإِلٰهِيّةَ في تلك السُّفرةِ العَظِيمةِ.. ولِهذا يَستَشعِرُ الإِنسانُ -بتلك المَعِدةِ المَعنَوِيّةِ- ويَتَمتَّعُ بأَذواقٍ رَفِيعةٍ لا مُنتَهَى لها، نابِعةٍ مِن تَجَلِّياتِ اسمِ “الرَّحمٰنِ” واسمِ “الحَكِيمِ” حتَّى يُرَدِّدُ: “الحَمدُ للهِ على رَحمانيَّتِه وحَكِيميَّتِه”..

وهكذا مَكَّن الخالقُ المُنعِمُ الإِنسانَ بهذه المَعِدةِ المَعنَوِيّةِ العُظمَى لِيَستَفِيدَ ويَغنَمَ نِعَمًا إِلٰهِيّةً لا حَدَّ لها، ولا سِيَّما أَذواقُ المَحَبّةِ الإِلٰهِيّةِ، في تلك المَعِدةِ، لها آفاقٌ لا تُحَدُّ ومَيادِينُ لا تُحصَرُ.

وهكذا جَعَل “الحَيُّ القَيُّومُ” سُبحانَه الإِنسانَ مَركَزًا لِلكَونِ، ومِحوَرًا له، بل سَخَّر الكَونَ له، فمَدَّ أَمامَه سُفرةً عَظِيمةً عِظَمَ الكَونِ لِتَتلَذَّذ أَنواعُ مَعِداتِه المادِّيةُ والمَعنَوِيّةُ.

[ثلاث وظائف للإنسان في الكون]

أمَّا حِكمةُ قِيام الكَونِ بسِرِّ القَيُّوميّةِ الَّذي نالَه بِالإِنسانِ -مِن جِهةٍ- فهِي الوَظائِفُ المُهِمّةُ الثَّلاثُ الَّتي أُنِيطَت بالإِنسانِ:

الأُولَى: تَنظِيمُ جَمِيعِ أَنواعِ النِّعَمِ المَبثُوثةِ في الكائِناتِ بالإِنسانِ، ورَبطُها بأَواصِرِ المَنافِعِ الَّتي تَخُصُّ الإِنسانَ، كما تُنظَمُ خَرَزاتُ المِسبَحةِ بالخَيطِ، فتُربَطُ رُؤُوسُ خُيُوطِ النِّعَمِ بالإِنسانِ ومَصالِحِه ومَنافِعِه، فيكُونُ الإِنسانُ بما يُشبِهُ فِهرِسًا لِأَنواعِ ما في خَزائِنِ الرَّحمةِ الإِلٰهِيّةِ ونَمُوذَجًا لِمُحتَوَياتِها.

الوَظيفةُ الثّانيةُ: كَونُ الإنسانِ مَوضِعَ خِطابِه سُبحانَه بما أَودَعَ فيه مِن خَصائِصَ جامِعةٍ أَهَّلَتْه لِيَكُونَ مَوضِعَ خِطابِه سُبحانَه وتَعالَى، ومُقَدِّرًا لِبَدائِعِ صَنائِعِه ومُعجَبًا بها، ونُهُوضُه بتَقدِيمِ جَمِيعِ أَنواعِ الشُّكرِ والثَّناءِ والحَمدِ الشُّعُورِيِّ على ما بُسِطَ أَمامَه مِن أَنواعِ النِّعَمِ والآلاءِ العَمِيمةِ.

الوَظيفةُ الثّالثةُ: قِيامُ الإِنسانِ بحَياتِه بمُهِمّةِ مِرآةٍ عاكِسةٍ لِشُؤُونِ “الحَيِّ القَيُّومِ” ولِصفاتِه الجَلِيلةِ المُحِيطةِ، وذلك بثَلاثةِ وُجُوهٍ:

الوَجهُ الأوَّلُ: هو شُعُورُ الإِنسانِ بقُدرةِ خالِقِه سُبحانَه المُطلَقةِ ودَرَجاتِها غَيرِ المَحدُودةِ بما هو علَيْه مِن عَجزٍ مُطلَقٍ، فيُدرِكُ مَراتِبَ تلك القُدرةِ المُطلَقةِ بما يَحمِلُ مِن دَرَجاتِ العَجزِ؛ ويُدرِكُ كَذلِك رَحمةَ خالِقِه الواسِعةِ ودَرَجاتِها بما لَدَيْه مِن فَقرٍ؛ ويَفهَمُ أَيضًا قُوّةَ خالِقِه العَظِيمةِ بما يَكمُنُ فيه مِن ضَعفٍ.. وهكذا.

وبذلك يكُونُ الإِنسانُ مُؤَدِّيًا مُهِمّةَ مِرآةٍ قِياسِيّةٍ صَغِيرةٍ لِإِدراكِ صِفاتِ خالِقِه الكامِلةِ، وذلك بما يَملِكُ مِن صِفاتٍ قاصِرةٍ ناقِصةٍ؛ إذ كما أنَّ الظَّلامَ كُلَّما اشتَدَّ سَطَعَ النُّورُ أَكثَرَ، فيُؤدِّي هذا الظَّلامُ مُهِمّةَ إِراءةِ المَصابِيحِ، فالإِنسانُ أَيضًا يُؤدِّي مُهِمّةَ إِراءةِ كَمالاتِ صِفاتِ بارِئِه سُبحانَه بما لَدَيْه مِن صِفاتٍ ناقِصةٍ مُظلِمةٍ.

الوَجهُ الثّاني: إنَّ ما لَدَى الإِنسانِ مِن إِرادةٍ جُزئيّةٍ وعِلمٍ قَلِيل وقُدرةٍ ضَئِيلةٍ وتَمَلُّكٍ في ظاهِرِ الحالِ، وقابِليّةٍ على إِعمارِ بَيتِه بنَفسِه، يَجعَلُه يُدرِكُ بهذه الصِّفاتِ الجُزئيّةِ خالِقَ الكَونِ العَظِيمِ، ويَفهَمُ مَدَى مالِكِيَّتِه الواسِعةِ وعَظِيمِ إِتقانِه وسَعةِ إِرادتِه وهَيمَنِة قُدرَتِه وإِحاطةِ عِلمِه.. فيُدرِكُ أنَّ كُلًّا مِن تلك الصِّفاتِ إنَّما هي صِفاتٌ مُطلَقةٌ وعَظِيمةٌ لا حَدَّ لها ولا نِهايةَ.. وبهذا يكُونُ الإِنسانُ مُؤَدِّيًا مُهِمّةَ مِرآةٍ لِإظهارِ تلك الصِّفاتِ وإِدراكِها.

أمَّا الوَجهُ الثَّالثُ: مِن قِيامِ الإِنسانِ بمُهِمّةِ مِرآةٍ عاكِسةٍ لِكَمالاتِ الصِّفاتِ الإِلٰهِيّةِ فله وَجهانِ:

[الوجه الأول:] إِظهارُه بَدائِعَ الأَسماءِ الإِلٰهِيّةِ الحُسنَى المُتَنوِّعةِ وتَجَلِّياتِها المُختَلِفةَ في ذاتِه، لِأنَّ الإِنسانَ بمَثابةِ فِهرِسٍ مُصَغَّرٍ لِلكَونِ كلِّه -بما يَملِكُ مِن صِفاتٍ جامِعةٍ- وكأنَّه مِثالُه المُصَغَّرُ، لِذا فتَجَلِّياتُ الأَسماءِ الإِلٰهِيّةِ في الكَونِ عامّةً نَراها تَتَجلَّى في الإِنسانِ بمِقياسٍ مُصَغَّرٍ.

الوَجهُ الثّاني: أَداؤُه مُهِمّةَ المِرآةِ العاكِسةِ لِلشُّؤُونِ الإِلٰهِيّةِ، أي إنَّ الإِنسانَ كما يُشِيرُ بحَياتِه إلى حَياةِ “الحَيِّ القَيُّومِ”، فإنَّه بواسِطةِ ما يَنكَشِفُ في حَياتِه الذّاتيّةِ مِن حَواسَّ كالسَّمعِ والبَصَرِ وأَمثالِها يَفهَمُ -ويُبيِّنُ لِلآخَرِينَ- صِفاتِ السَّمعِ والبَصَرِ وغَيرَها مِنَ الصِّفاتِ الجَلِيلةِ المُطلَقةِ “لِلحَيِّ القَيُّومِ”.

ثمَّ إنَّ الإِنسانَ يَملِكُ مَشاعِرَ دَقِيقةً جِدًّا وكَثِيرةً جِدًّا غَيرَ مُنكَشِفةٍ، وإِنَّما تَفُورُ في صُورةِ حَواسَّ ومَشاعِرَ، فتَظهَرُ تلك المَشاعِرُ بأَشكالٍ مُتَنوِّعةٍ وانفِعالاتٍ مُختَلِفةٍ، فإنَّه بواسِطةِ هذه المَشاعِرِ الدَّقِيقةِ والمَعانِي العَمِيقةِ يُؤَدِّي مُهِمّةَ عَرضِ الشُّؤُونِ الذّاتيّةِ “لِلحَيِّ القَيُّومِ”؛ فمَثلًا: الحَبُّ والِافتِخارُ والرِّضا والِانشِراحُ والسُّرُورُ وما شابَهَها مِنَ المَعانِي الَّتي تَتَفجَّرُ لَدَى الإِنسانِ في ظُرُوفٍ خاصّةٍ، يُؤَدِّي الإِنسانُ بها مُهِمّةَ الإِشارةِ إلى هذه الأَنواعِ مِنَ الشُّؤُونِ الإِلٰهِيّةِ بما يُناسِبُ قُدسِيّةَ الذّاتِ الإِلٰهِيّةِ وغِناه المُطلَقَ، وبما يَلِيقُ به سُبحانَه وتَعالَى.

وكما أنَّ الإِنسانَ وَحْدةُ قِياسٍ -بما يَملِكُ مِن جامِعِيّةِ حَياتِه- لِمَعرِفةِ صِفاتِ اللهِ الجَلِيلةِ، وشُؤُونِه الحَكِيمةِ، وفِهرِسٌ لِتَجَلِّي أَسمائِه الحُسنَى، ومِرآةٌ ذاتُ شُعُورٍ بجِهاتٍ عِدّةٍ لِذاتِ “الحَيِّ القَيُّومِ”.. كَذلِك الإِنسانُ هو وَحْدةُ قِياسٍ أَيضًا لِمَعرِفةِ حَقائِقِ الكَونِ هذا، وفِهرِسٌ له ومِقياسٌ ومِيزانٌ؛ فمَثلًا: إنَّ الدَّلِيلَ القاطِعَ على وُجُودِ اللَّوحِ المَحفُوظِ في الكَونِ يَتَمثَّلُ في نَمُوذَجِه المُصَغَّرِ وهو القُوّةُ الحافِظةُ لَدَى الإِنسانِ.. والدَّلِيلُ القاطِعُ على وُجُودِ عالَمِ المِثالِ نَلمَسُه في نَمُوذَجِه المُصَغَّرِ، وهُو قُوّةُ الخَيالِ لَدَى الإِنسانِ6نعم، إنَّ عَناصِرَ الإنسانِ مِثلَما تُشِيرُ إلى عَناصِر الكَونِ وعِظامِه تُنبِئُ عن أَحجارِه وصُخُورِه، وأَشعارُه تُوحِي إلى نَباتاتِه وأَشجاِره، والدَّمُ الجاري في جِسمِه والسَّوائلُ المُختلِفةُ المُتَرشِّحةُ مِن عُيُونِه وأَنفِه وفَمِه تُخبِرُ عن عُيُونِ الأرضِ ويَنابِيعِها ومِياهِها المَعدِنيّة، كذلك تُخبِرُ رُوحُ الإنسانِ عن عالَمِ الأَرواحِ وحافِظتُه عن اللَّوحِ المَحفُوظِ وقُوّةُ خَيالِه عن عالَمِ المِثالِ.. وهكذا يُخبِرُ كلُّ جِهازٍ عن عالَمٍ ويَشهَدُ على وُجُودِه شَهادةً قاطِعةً.، والدَّلِيلُ القاطِعُ على وُجُودِ الرُّوحانيّاتِ في الكَونِ نُدرِكُه ضِمنَ نَمُوذَجِها المُصَغَّرِ، وهُو لَطائِفُ الإِنسانِ وقُواه.. وهكَذا يكُونُ الإِنسانُ مِقياسًا مُصَغَّرًا يُظهِرُ عِيانًا الحَقائِقَ الإِيمانيّةَ في الكَونِ بدَرَجةِ الشُّهُودِ.

وهُناك مُهِمّاتٌ ووَظائِفُ وخِدْماتٌ كَثِيرةٌ أُخرَى لِلإِنسانِ فَضْلًا عَمّا ذَكَرناه، إذ هو: مِرآةٌ لِتَجَلِّي الجَمالِ الباقِي، وداعٍ إلى الكَمالِ السَّرمَدِيِّ ودالٌّ علَيْه، ومُحتاجٌ شاكِرٌ لِأَنعُمِ الرَّحمةِ الواسِعةِ الأَبدِيّةِ.

فما دامَ الجَمالُ باقِيًا والكَمالُ سَرمَدِيًّا والرَّحمةُ أَبدِيّةً، فلا بُدَّ أنَّ الإِنسانَ الَّذي هو المِرآةُ المُشتاقةُ لِذلِك الجَمالِ الباقِي والدّاعِي العاشِقُ لِذلِك الكَمالِ السَّرمَدِيِّ والمُحتاجُ الشّاكِرُ لِتِلك الرَّحمةِ الأَبدِيّةِ سيُبعَثُ إلى دارِ بَقاءٍ أَبدِيّةٍ لِيَخلُدَ فيها دائِمًا، ولا بُدَّ أنَّه سيَذهَبُ إلى الأَبدِ لِيُرافِقَ الباقِينَ الخالِدِينَ هناك، ويُرافِقَ ذلك الجَمالَ الباقِيَ وذلك الكَمالَ السَّرمَدِيَّ وتلك الرَّحمةَ الأَبدِيّةَ في أَبَدِ الآبادِ؛ بل يَلزَمُ ذلك قَطْعًا لِأنَّ: الجَمالَ الأَبدِيَّ لا يَرضَى بمُشتاقٍ فانٍ ومُحِبٍّ زائِلٍ، إذِ الجَمالُ يَطلُبُ مَحَبّةً تِجاهَه مِثلَما يُحِبُّ نَفسَه، بَينَما الزَّوالُ والفَناءُ يَحُولانِ دُونَ تلك المَحَبّةِ ويُبدِلانِها إلى عَداءٍ.

فلو لم يَرحَلِ الإِنسانُ إلى الأَبدِ، ولم يَبقَ هُناك خالِدًا مُخَلَّدًا، فسيَجِدُ في فِطْرَتِه عَداءً شَدِيدًا لِما يَحمِلُ مِن سِرٍّ مَغرُوزٍ فيه وهُو المَحَبّةُ العَمِيقةُ نحوَ الجَمالِ السَّرمَدِيِّ؛ مِثلَما بَيَّنّا ذلك في حاشِيةٍ في “الكَلِمةِ العاشِرةِ” (رِسالةِ الحَشرِ): أنَّ حَسناءَ بارِعةَ الجَمالِ عِندَما طَرَدَت -ذاتَ يَومٍ- أَحَدَ عُشّاقِها مِن مَجلِسِها، انقَلَب عِشقُ الجَمالِ لَدَى العاشِقِ المَطرُودِ قُبحًا وكُرهًا حتَّى بَدَأ يُسَلِّي نَفسَه بقَولِه: تَبًّا لها ما أَقبَحَها! فأَنكَرَ الجَمالَ وسَخِطَ علَيْه.

نعم، فكما أنَّ الإِنسانَ يُعادِي ما يَجهَلُه، فإنَّه يَتَحرَّى النَّقصَ والقُصُورَ فيما تَقصُرُ يَدُه عنه، ويَعجِزُ عنِ الِاحتِفاظِ به ومَسْكِه.. بل تَراه يَتَحرَّى فيه عنِ القُصُورِ بشَيءٍ مِن عَداءٍ وحِقدٍ يُضمِرُه، بل يَتَّخِذُ ما يُشبِهُ العَداءَ له.

فما دامَ الكَونُ يَشهَدُ بأنَّ المَحبُوبَ الحَقِيقيَّ والجَمِيلَ المُطلَقَ سُبحانَه يُحَبِّبُ نَفسَه إلى الإِنسانِ بجَمِيعِ أَسمائِه الحُسنَى، ويَطلُبُ مِنه مُقابِلَ ذلك حُبًّا عَظِيمًا له؛ فلا بُدَّ أنَّه سُبحانَه لا يَدَعُ هذا الإِنسانَ الَّذي هو مَحبُوبُه وحَبِيبُه يَسخَطُ علَيْه، فلا يُودِعُ في فِطرَتِه ما يُثيرُ عَداءً نَحوَه -أي: بعَدَمِ إِحداثِ الآخِرةِ- ولا يَغرِزُ في فِطرةِ هذا المَخلُوقِ -المُكَرَّمِ المُمتازِ المَحبُوبِ لَدَى الرَّبِّ الرَّحِيمِ والمَخلُوقِ أَصلًا لِلقِيامِ بعِبادَتِه- ما هو مُنافٍ كُلِّـيًّا لِفِطرَتِه مِن عَداءٍ خَفِيٍّ، ولا يُمكِنُ أن يُحَمِّلَ رُوحَه سَخَطًا علَيْه سُبحانَه قَطُّ، لِأنَّ الإِنسانَ لا يُمكِنُه أن يُداوِيَ جُرحَه الغائِرَ النّاشِئَ مِن فِراقِه الأَبدِيِّ عن جَمالٍ مُطلَقٍ يُحِبُّه ويُقدِّرُه إلّا بالعَداءِ نَحوَه، أوِ السَّخَطِ علَيْه، أو إِنكارِه.. وكَونُ الكُفّارِ أَعداءَ اللهِ نابِعٌ مِن هذه الزّاوِيةِ.. لِأَجلِ هذا فسيَجعَلُ ذلك الجَمالُ الأَزليُّ حَتْمًا هذا الإِنسانَ الَّذي هو مِرآةٌ مُشتاقةٌ إلَيْه مَبعُوثًا إلى طَرِيقِ أَبَدِ الآبادِ، لِيُرافِقَ ذلك الجَمالَ المُطلَقَ والبَقاءَ والخُلُودَ، ولا رَيبَ أنْ سيَجعَلُه يَنالُ حَياةً باقِيةً في دارٍ باقِيةٍ خالِدةٍ.

وما دامَ الإِنسانُ مُشتاقًا فِطرةً لِجَمالٍ باقٍ وقد خُلقَ مُحِبًّا لِذلِك الجَمالِ.. وأنَّ الجَمالَ الباقِيَ لا يَرضَى بمُشتاقٍ زائِلٍ.. وأنَّ الإِنسانَ يُسَكِّنُ آلامَه وأَحزانَه النّاجِمةَ عَمّا لا تَصِلُ إلَيْه يَدُه أو يَعجِزُ عنِ الِاحتِفاظِ به أو يَجهَلُه بتَحَرِّي القُصُورِ فيه، بل يُسَكِّنُها بعَداءٍ خَفِيٍّ نَحوَه، مُسَلِّيًا نَفسَه بهذا العَداءِ.. وما دامَ الكَونُ قد خُلِقَ لِأَجلِ هذا الإِنسانِ، والإِنسانُ مَخلُوقًا لِلمَعرِفةِ الإِلٰهِيّةِ ولِمَحَبَّتِه سُبحانَه وتَعالَى.. وما دام خالِقُ الكَونِ سَرمَدِيًّا بأَسمائِه الحُسنَى وتَجَلِّياتُه باقِيةً دائِمةً.. فلا بُدَّ أنَّ هذا الإِنسانَ سيُبعَثُ إلى دارِ البَقاءِ والخُلُودِ، ولا بُدَّ أن يَنالَ حَياةً باقِيةً دائِمةً. هذا، وإنَّ الرَّسُولَ الأَكرَمَ ﷺ وهُو الإِنسانُ الأَكمَلُ والدَّليلُ الأَعظَمُ على اللهِ قد أَظهَر جَمِيعَ ما بَيَّنّاه مِن كَمالاتِ الإِنسانِ وقِيمَتِه ومُهِمَّتِه ومُثُلِه، فأَظهَر تلك الكَمالاتِ في نَفسِه، وفي دِينِه، بأَوضَحِ صُورةٍ وأَكمَلِها، مِمّا يَدُلُّنا على أنَّ الكائِناتِ مِثلَما خُلِقَت لِأَجلِ الإِنسانِ، أي إنَّه المَقصُودُ الأَعظَمُ مِن خَلقِها والمُنتَخَبُ مِنها، فإنَّ أَجَلَّ مَقصُودٍ مِن خَلقِ الإِنسانِ أَيضًا وأَفضَلَ مُصطَفًى مِنه، بل أَروَعَ وأَسطَعَ مِرآةٍ لِلأَحَدِ الصَّمَدِ إنَّما هو مُحمَّدٌ علَيْه وعلى آلِه وأَصحابِه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعَدَدِ حَسَناتِ أُمَّتِه…

فيا اَللهُ يا رَحمٰنُ يا رَحِيمُ، يا فَردُ يا حَيُّ ياقَيُّومُ، يا حَكَمُ يا عَدْلُ يا قُدُّوسُ

نَسأَلُك بحَقِّ فُرقانِك الحَكِيمِ، وبحُرمةِ حَبِيبِك الأَكرَمِ ﷺ وبحَقِّ أَسمائِك الحُسنَى، وبحُرمةِ اسمِك الأَعظَمِ احفَظَنا مِن شَرِّ النَّفسِ والشَّيطانِ، ومِن شَرِّ الجِنِّ والإِنسانِ. آمِينَ.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

❀   ❀   ❀

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى