اللمعة الثامنة والعشرون
[هذه اللمعة تحتوي على مباحث إيمانية متنوعة تفسِّر بعض الآيات القرآنية وترفع بعض الإشكالات الواردة على الفهم]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

[اللمعة الثامنة والعشرون]
اللمعة الثامنة والعشرون
نُشِرَت هذه الرِّسالةُ كامِلةً في مَجمُوعةِ “اللَّمَعات” بِاللُّغةِ العُثمانيّةِ، وقد أُدرِجَ هنا بَعضٌ مِنها.
[في تفسير: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون]
النُّـكتة الثانية
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾
إنَّ ظاهِرَ مَعنَى هذه الآيةِ الكَرِيمةِ -بِحَسَبِ ما وَرَد في كَثِيرٍ مِنَ التَّفاسِيرِ- لا يُبيِّنُ الأُسلُوبَ الرَّفيعَ المُنسَجِمَ معَ بَلاغةِ القُرآنِ المُعجِزةِ؛ لِذا كانَ يَشغَلُ فِكرِي في كَثِيرٍ مِنَ الأَحيانِ.. فنُبيِّنُ ثَلاثةَ أَوجُهٍ إِجمالًا، مِن بَينِ المَعانِي الجَمِيلةِ الرَّفيعةِ الَّتي ورَدَت مِن فَيضِ القُرآنِ الكَرِيمِ.
الوَجهُ الأوَّلُ:
إنَّ اللهَ سُبحانَه يُسنِدُ أَحيانًا إلى نَفسِه ما يُمكِنُ أن يَعُودَ إلى رَسُولِه الكَرِيمِ ﷺ مِن حالاتٍ، وذلك تَكرِيمًا له وتَشرِيفًا؛ فها هُنا كَذلِك، إذِ المَعنَى المُرادُ مِنَ الآيةِ الكَرِيمةِ المُتَصدِّرةِ، لا بُدَّ أن يكُونَ الإِطعامَ والإِرزاقَ الَّذي يَعُودُ إلى الرَّسُولِ ﷺ، أي إنَّ رَسُولي في أَدائِه مُهِمّةَ الرِّسالةِ وتَبلِيغِه العُبُودِيّةَ للهِ، لا يُرِيدُ مِنكُم أَجرًا ولا أُجرةً ولا جَزاءً ولا إِطعامًا.. وإلّا إن لم يَكُنِ المُرادُ هذا المَعنَى لَكانَ إِعلامًا لِمَعلُومٍ في مُنتَهَى البَداهةِ، مِمّا لا يَنسَجِمُ وبَلاغةَ القُرآنِ المُعجِزةَ.
الوَجهُ الثَّاني:
الإِنسانُ مُغرَمٌ بالرِّزقِ كَثِيرًا، ويَتَوهَّمُ أنَّ السَّعيَ إلى الرِّزقِ يَمنَعُه عنِ العُبُودِيّةِ، فلِأَجلِ دَفعِ هذا التَّوَهُّمِ، ولِكَيلا يُتَّخَذَ ذَرِيعةً لِتَركِ العِبادةِ تقُولُ الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وتَحصُرُ الغايةَ مِنَ الخَلقِ في العُبُودِيّةِ للهِ، وأنَّ السَّعيَ إلى الرِّزقِ -مِن حَيثُ الأَمرُ الإِلٰهِيُّ- عُبُودِيّةٌ للهِ أَيضًا.
أمَّا إِحضارُ الرِّزقِ لِمَخلُوقاتِي ولِأَنفُسِكُم وأَهلِيكُم وحتَّى رِزقُ حَيَواناتِكُم، فأَنا الكَفِيلُ به، فأَنتُم لم تُخلَقُوا له، فكُلُّ ما يَخُصُّ الرِّزقَ والإِطعامَ يَخُصُّني أنا، وأنا الرَّزّاقُ ذُو القُوّةِ المَتِينُ.. فلا تَتْرُكُوا العِبادةَ بِهذِه الذَّرِيعةِ، فأَنا الَّذي أُرسِلُ رِزقَ مَن يَتَعلَّقُ بكُم مِن عِبادِي..
ولو لم يَكُن هذا المَعنَى هو المُرادَ، لَكانَ مِن قَبِيلِ إِعلامِ المَعلُومِ، لِأنَّ رِزقَ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى وإِطعامَه مُحالٌ بَدِيهِيٌّ ومَعلُومٌ واضِحٌ.. وهُنالِك قاعِدةٌ مُقرَّرةٌ في عِلمِ البَلاغةِ تُفِيدُ: إنْ كانَ مَعنَى الكَلامِ مَعلُومًا وبَدِيهِيًّا، فلا يكُونُ هذا المَعنَى مُرادًا، بلِ المُرادُ لازِمُه أو تابِعٌ مِن تَوابِعِه.
فمَثلًا: إنْ قُلتَ لِأَحَدِهِم وهُو حافِظٌ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ: أنت حافِظٌ. فهذا الكَلامُ إِعلامٌ بما هو مَعلُومٌ لَدَيْه، فإِذًا المُرادُ مِنه هو: إِنَّني أَعلَمُ أنَّك حافِظٌ لِلقُرآنِ، أي: أُعلِمُه بما لا يَعلَمُه، وهُو عِلمِي أنَّه حافِظٌ لِلقُرآنِ.
فبِناءً على هذه القاعِدةِ يكُونُ مَعنَى الآيةِ الَّتي هي كِنايةٌ عن نَفيِ رِزقِ اللهِ وإِطعامِه هو: إنَّكُم لم تُخلَقُوا لِإِيصالِ الرِّزقِ إلى مَخلُوقاتِي الَّتي تَعَهَّدتُ أنا برِزقِهِم، فالرِّزقُ أنا به زَعِيمٌ؛ فواجِبُكُمُ الأَساسُ هو العُبُودِيّةُ، والسَّعيُ على وَفقِ أَوامِرِي لِلحُصُولِ على الرِّزقِ، هو بذاتِه نَوعٌ مِنَ العِبادةِ.
الوَجهُ الثَّالثُ:
إنَّ المَعنَى الظَّاهِرِيَّ لِلآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ في سُورةِ الإِخلاصِ، مَعلُومٌ وبَدِيهِيٌّ؛ فيكُونُ المَقصُودُ لَازِمًا مِن لَوازِمِ ذلك المَعنَى، أي: أنَّ الَّذِينَ لَهُم والِدةٌ ووَلَدٌ لا يكُونُونَ إِلٰهًا قَطْعًا.
فيَقضِي سُبحانَه وتَعالَى بقَولِه: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ الَّذي هو بَدِيهِيٌّ ومَعلُومُ ويَعنِي أنَّه أَزَليٌّ وأَبدِيٌّ، لِأَجلِ نَفيِ الأُلُوهِيّةِ عن سَيِّدِنا عِيسَى عَلَيهِ السَّلَام وعُزَيرٍ عَلَيهِ السَّلَام والمَلائِكةِ والنُّجُومِ والمَعبُوداتِ الباطِلةِ.
فكَما أنَّ هذه الآيةَ هكَذا، فهُنا أَيضًا يكُونُ مَعنَى الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾: أنَّ كلَّ ما يُرزَقُ ويُطعَمُ وله استِعدادٌ لِلرِّزقِ والإِطعامِ لا يُمكِنُ أن يكُونَ إِلٰهًا، فلا تَلِيقُ الأُلُوهِيّةُ بمَن هو مُحتاجٌ إلى الرِّزقِ والإِطعامِ.
سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ
❀ ❀ ❀
[في تفسير: أو هم قائلون]
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾
لَقدِ اهتَمَّ “رَأفَت” بمَعنَى كَلِمةِ ﴿قَائِلُونَ﴾ الوارِدةِ في الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ فكُتِبَ هذا البَحثُ لِمُناسَبةِ استِفسارِه عنها، ولِئَلّا يُعَطِّلَ قلَمَه الأَلماسِيَّ بما يُصِيبُه مِنِ خُمُولٍ في الجِسمِ بسَبَبِ نَومِه بعدَ صَلاةِ الفَجرِ كالآخَرِينَ مَعَه في السِّجنِ.
[النوم على ثلاثة أنواع]
النَّومُ على أَنواعٍ ثَلاثةٍ:
[الغيلولة]
الأوَّلُ: الغَيلُولةُ: وهِي النَّومُ بعدَ الفَجرِ حتَّى انتِهاءِ وَقتِ الكَراهةِ.
هذا النَّومُ مُخالِفٌ لِلسُّنّةِ المُطَهَّرةِ، إذ يُورِثُ نُقصانَ الرِّزقِ، وزَوالَ بَرَكتِه، كما هو وارِدٌ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ؛ حَيثُ إنَّ أَفضَلَ وَقتٍ لِتَهيِئةِ مُقدِّماتِ السَّعيِ لِكَسبِ الرِّزقِ هو في الجَوِّ اللَّطِيفِ، عَقِبَ الفَجرِ؛ ولكِن بعدَ مُضِيِّه يَطرَأُ على الإِنسانِ خُمُولٌ وانحِلالٌ، مِمّا يَضُرُّ بسَعيِه في ذلك اليَومِ، وبِدَورِه يَضُرُّ بالرِّزقِ، كما يُسَبِّبُ زَوالَ بَرَكتِه.. وقد ثَبَت هذا بتَجارِبَ كَثِيرةٍ.
[الفيلولة]
الثَّاني: الفَيلُولةُ: وهِي النَّومُ بعدَ صَلاةِ العَصرِ حتَّى المَغرِبِ، هذا النَّومُ يُسبِّبُ نُقصانَ العُمُرِ، أي: يَتَناقَصُ عُمُرُ الإِنسانِ مادِّيًّا في اليَومِ الَّذي يَشُوبُه النَّومُ المُوَرِّثُ لِلغَفْلةِ، إذْ يَبدُو ذلك اليَومُ قَصِيرًا ناقِصًا مِثلَما يكُونُ قَضاءُ وَقتِ العَصرِ بالنَّومِ في حُكمِ عَدَمِ رُؤيةِ نَتائِجَ مَعنَوِيّةٍ لِذَلِك اليَومِ، تلك النَّتائِجِ الَّتي تَتَظاهَرُ على الأَغلَبِ في ذلك الوَقتِ.. فيكُونُ الإِنسانُ كأنَّه لم يَعِشْ ذلك اليَومَ.
[القيلولة]
الثَّالثُ: القَيلُولةُ: وهي سُنّةٌ نَبوِيّةٌ شَرِيفةٌ، ويَبدَأُ وَقتُها مِنَ الضُّحَى إلى ما بَعدَ الظُّهرِ بقَلِيلٍ؛ ومعَ كَونِ هذا النَّومِ مِنَ السُّنّةِ المُطَهَّرةِ، فإنَّه يُعِينُ على قِيامِ اللَّيلِ، وقد رَسَّخَت هذه السُّنّةُ النَّبوِيّةُ ما اعتادَ علَيْه أَهلُ الجَزِيرةِ العَرَبيّةِ مِن تَعطِيلٍ نِسبِيٍّ لِلأَعمالِ عِندَ اشتِدادِ الحَرِّ مِنَ الظُّهرِ حَسَبَ مُحِيطِهِم؛ وهذا النَّومُ يُطِيلُ العُمُرَ ويَزِيدُ الرِّزقَ، لِأنَّ نِصفَ ساعةٍ مِنَ القَيلُولةِ يُعادِلُ ساعَتَينِ مِن نَومِ اللَّيلِ، أي: إنَّه يَزِيدُ عُمُرَ يَومِه ساعةً ونِصفَ السّاعةِ، ويُنقِذُ ساعةً ونِصفَ السَّاعةِ أَيضًا مِنَ النَّومِ الَّذي هو صِنْوُ المَوتِ، ويُحيِيها بتَزيِيدِ وَقتِ عَمَلِه كَسْبًا لِلرِّزقِ، فيُطِيلُ زَمَنَ السَّعيِ والعَمَلِ.
سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ
❀ ❀ ❀
[من معاني الصلاة على النبي ﷺ]
وهذه خاطرة جميلة
حِينَما كُنتُ أَقرَأُ جُملةَ “أَلفُ أَلفِ صَلاةٍ وأَلفُ أَلفِ سَلامٍ علَيْك يا رَسُولَ اللهِ” عَقِبَ الصَّلاةِ، تَراءَت لي مِن بَعِيدٍ خاطِرةٌ لَطِيفةٌ انكَشَفَت مِن تلك الصَّلَواتِ، إلّا أنَّني لم أَتمَكَّن مِنِ اقتِناصِها كامِلةً، ولكِن سأُشِيرُ إلى بَعضِ جُمَلِها:
رَأَيتُ أنَّ عالَمَ اللَّيلِ شَبِيهٌ بمَنزِلٍ جَدِيدٍ يُفتَحُ لِدارِ الدُّنيا.. دَخَلتُ ذلك العالَمَ في صَلاةِ العِشاءِ، ومِنِ انبِساطٍ فَوقَ العادةِ لِلخَيالِ وبحُكمِ ارتِباطِ ماهِيّةِ الإِنسانِ معَ الدُّنيا قاطِبةً، رَأَيتُ أنَّ هذه الدُّنيا العَظِيمةَ قد أَصبَحَت في ذلك اللَّيلِ مَنزِلًا صَغِيرًا جِدًّا حتَّى لا يَكادُ يُرَى ما فيه مِن بَشَرٍ وذَوِي حَياةٍ؛ ورَأَيتُ -خَيالًا- أنْ ليس هُنالِك مَن يُنوِّرُ ذلك المَنزِلَ إلَّا الشَّخصِيّةُ المَعنَوِيّةُ لِلرَّسُولِ ﷺ حتَّى امتَلَأَت أَرجاؤُه بَهْجةً وأُنسًا وسُرُورًا.
وكَما يَبدَأُ الشَّخصُ بالسَّلامِ عِندَ دُخُولِه المَنزِلَ، كَذلِك وَجَدتُ في نَفسِي شَوْقًا هائِلًا ورَغبةً جَيَّاشةً إلى القَولِ: أَلفُ أَلفِ سَلامٍ علَيْك يا رَسُولَ الله1ذلك لِأنَّ الرَّحمةَ النّازِلةَ على الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ هي مُتَوجِّهةٌ لِحاجةِ الأُمّةِ قاطِبةً في زَمَنٍ أَبدِيٍّ، لِذا فالصَّلاةُ غيرُ المُتَناهِيةِ الَّتي تُهدَى إلَيْه مُنسَجِمةٌ جِدًّا.
فلو دَخَل شَخصٌ بَيتًا خاليًا مُظلِمًا مُوحِشًا كالدُّنيا المُظلِمةِ المُوحِشةِ بالغَفلةِ، كم سيَأخُذُه الرُّعبُ والدَّهشةُ والِاضطِرابُ؟
ولكِن كم يَسُرُّه ويُؤنِسُه ويُفرِحُه ويُنوِّرُه لو أنَّه رَأَى شَخصًا قد تَصَدَّر ذلك البَيتَ يُعَرِّفُه بجَمِيعِ ما فيه؟ فما بالُك لو كانَ هذا الشَّخصُ هو الحَبِيبَ المَحبُوبَ والأَنيسَ المَأنُوسَ وهُو الرَّسُولُ العَظِيمُ ﷺ، مُتَصدِّرُ بَيتِ العالَمِ، يُعَرِّفُ لنا المالِكَ الرَّحِيمَ الكَرِيمَ بما فيه -أي: بَيتِ العالَمِ- مِن أَشياءَ؟!
قِسْ هكذا لِكَي تُقدِّرَ بنَفسِك قِيمةَ الصَّلَواتِ علَيْه ولَذَّتَها...
ومِن هُنا وَجَدتُ نَفسِي كأنَّني أُسَلِّمُ علَيْه بعَدَدِ الإِنسِ والجِنِّ، وأُعبِّرُ بسَلامِي هذا عن تَجدِيدِ البَيعةِ له والرِّضا برِسالَتِه وقَبُولِها مِنه وإِطاعةِ القَوانِينِ الَّتي أَتَى بها، والتَّسلِيمِ لِأَوامِرِه وسَلامَتِه مِن بَلايانا..
أي كأنَّني أُقدِّمُ هذا السَّلامَ -ناطِقًا بتلك المَعانِي- بِاسمِ كلِّ فَردٍ مِن أَفرادِ عالَمِي وهُم ذَوُو الشُّعُورِ مِن جِنٍّ وإِنسٍ، وجَمِيعِ المَخلُوقاتِ.
وكَذا، فإنَّ ما جاءَ به مِنَ النُّورِ العَظِيم والهَدِيّةِ الغالِيةِ يُنَوِّرُ عالَمِي الخاصَّ هذا كما يُنَوِّرُ العالَمَ الخاصَّ لِكُلِّ أَحَدٍ في هذه الدُّنيا، فيُحَوِّلُ عالَمَنا إلى عالَمٍ زاخِرٍ بالنِّعَمِ. فقُلتُ تِجاهَ هذه النِّعمةِ الهائِلةِ: “اللَّهُمَّ أَنزِل أَلفَ صَلاةٍ علَيْه” عَلَّها تكُونُ شُكرانًا وعِرْفانًا لِلجَمِيلِ على ذلك النُّورِ الحَبِيبِ والهَدِيّةِ الغالِيةِ، إذ إِنَّنا لا نَستَطِيعُ أن نَرُدَّ جَمِيلَه وإِحسانَه إلَيْنا أَبدًا، فأَظهَرْنا تَضَرُّعَنا إلى اللهِ جَلَّ وعَلا بالدُّعاءِ والتَّوَسُّلِ كي يُنزِلَ مِن خَزائِنِ رَحمَتِه رَحمةً علَيْه بعَدَدِ أَهلِ السَّماواتِ جَمِيعًا.. هكذا أَحسَسْتُ خَيالًا.
فهُو ﷺ يَطلُبُ “صَلاةً” بمَعنَى الرَّحمةِ مِن حَيثُ إنَّه “عَبدٌ” ومُتَوجِّهٌ مِنَ الخَلقِ إلى الحَقِّ سُبحانَه.
ويَستَحِقُّ “السَّلامَ” مِن حَيثُ إنَّه “رَسُولٌ” مِنَ الحَقِّ سُبحانَه إلى الخَلقِ.
وكما أنَّنا نَرفَعُ إلَيْه سَلامًا بعَدَدِ الإِنسِ والجِنِّ، ونُجَدِّدُ له البَيعةَ العامّةَ بعَدَدِها أَيضًا، فإنَّه ﷺ يَستَحِقُّ أَيضًا صَلاةً مِن خَزائِنِ الرَّحمةِ الإِلٰهِيّةِ بعَدَدِ أَهلِ السَّماواتِ، وبِاسمِ كلِّ واحِدٍ مِنهُم، ذلك لِأنَّ النُّورَ الَّذي جاءَ به هو الَّذي يُظهِرُ كَمالَ كلِّ شَيءٍ في الوُجُودِ، ويُبْرِزُ قِيمةَ كلِّ مَوجُودٍ، وتُشاهَدُ به الوَظِيفةُ الرَّبّانيّةُ لِكُلِّ مَخلُوقٍ، وتَتَجلَّى به المَقاصِدُ الإِلٰهِيّةُ مِن كلِّ مَصنُوعٍ.. لِذلِك لو كانَ لِكُلِّ شَيءٍ لِسانٌ لَكانَ يُرَدِّدُ قَولًا كما يُرَدِّدُ حالًا: الصَّلاةُ والسَّلامُ علَيْك يا رَسُولَ اللهِ.. فنَحنُ بدَوْرِنا نقُولُ بَدَلًا عنِ المَخلُوقاتِ كافّةً:
﴿أَلفُ أَلفِ صَلاةٍ وأَلفُ أَلفِ سَلامٍ علَيك يا رَسُولَ اللهِ، بعَدَدِ الإِنسِ والجِنِّ، وبعَدَدِ المَلَكِ والنُّجُومِ﴾
﴿فيَكْفِيكَ أنَّ اللهَ صَلَّى بنَفْسِه وأَمْلاكَهُ صَلَّتْ عَلَيْه وسَلَّمَتْ﴾
سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ
❀ ❀ ❀
[حول وحدة الوجود]
أَخِي العَزِيزَ:
تَطلُبُونَ شَيئًا مِنَ الإِيضاحِ حَولَ “وَحْدةِ الوُجُودِ“، ففي إِحدَى لَمَعاتِ “المَكتُوبِ الحادِي والثَّلاثِينَ” جَوابٌ شافٍ وقَوِيٌّ واضِحٌ إِزاءَ رَأيِ “مُحيِي الدِّينِ بنِ عَرَبيٍّ” في هذه المَسأَلةِ.
أمَّا هُنا فنَكتَفِي بهذا القَدْرِ ونقُولُ: إنَّ تَلقِينَ مَسأَلةِ “وَحْدةِ الوُجُودِ” في الوَقتِ الحاضِرِ لِلنّاسِ يَضُرُّهُم ضَرَرًا بالِغًا، إذ كما أنَّ التَّشبِيهاتِ والتَّمثِيلاتِ2كالمَلَكَينِ العَظِيمَينِ المُسَمَّيَينِ بالثَّورِ والحُوتِ، انقَلَبا بسِرِّ التَّشبِيهِ عِندَ العَوامِّ إلى صُورةِ ثَورٍ ضَخمٍ وحُوتٍ كَبِيرٍ. إذا خَرَجَت مِن أَيدِي الخَواصِّ ودَخَلَت أَيدِيَ العَوامِّ وسَرَت مِن يَدِ العِلمِ إلى يَدِ الجَهلِ تُتَلَقَّى حَقائِقَ؛ كَذلِك حَقائِقُ وَحْدةِ الوُجُودِ وأَمثالُها مِنَ الحَقائِقِ العالِيةِ، إذا ما دَخَلَت بينَ العَوامِّ الغافِلِينَ السّارِحِينَ في تَأثِيرِ الأَسبابِ، يَتَلقَّونَها “طَبِيعةً”، وتُولِّدُ ثَلاثَ مَضارَّ مُهِمّةٍ.
الأوَّلُ: أنَّ مَشرَبَ وَحْدةِ الوُجُودِ، معَ أنَّه في حُكمِ إِنكارِ وُجُودِ الكائِناتِ إِزاءَ وُجُودِ اللهِ سُبحانَه، إلَّا أنَّه كُلَّما دَخَل بينَ العَوامِّ يَمضِي بهم إلى أن يَصِلَ في فِكرِ الغافِلِينَ مِنهُم -ولا سِيَّما المُلَوَّثينَ بالمادِّيّاتِ- إلى إِنكارِ الأُلُوهِيّةِ إِزاءَ الكَونِ والمادِّيّاتِ.
الثَّاني: أنَّ مَشرَبَ وَحْدةِ الوُجُودِ، يَرُدُّ رَدًّا شَدِيدًا رُبُوبيّةَ ما سِوَى اللهِ تَعالَى، حتَّى إنَّه يُنكِرُ ما سِواه تَعالَى ويَرفَعُ الثُّنائيّةَ، فلا يَرَى وُجُودًا مُستَقِلًّا لِلنَّفسِ الأَمّارةِ ولا لِأَيِّ شَيءٍ كانَ، ولكِن في هذا الزَّمانِ الَّذي استَوْلَت فيه مَفاهِيمُ الطَّبِيعةِ وتَفَرعَنَت نُفُوسٌ أَمّارةٌ وبخاصّةٍ مَن له استِعدادٌ لِيَتَّخِذَ نَفسَه مَعبُودَه مِن دُونِ اللهِ، ونَفَخَ الغُرُورُ والأَنانيّةُ في أَوْداجِه، فَضْلًا عن نِسيانِ الخالِقِ والآخِرةِ إلى حَدٍّ مّا.. فتَلقِينُ هَؤُلاءِ وَحْدةَ الوُجُودِ يُطْغِي نُفُوسَهُم حتَّى لا يَسَعَها شَيءٌ، والعِياذُ باللهِ.
الثّالثُ: أنَّه يُورِثُ أَفكارًا وتَصَوُّراتٍ لا تَلِيقُ بوُجُوبِ وُجُودِ الذّاتِ الجَلِيلةِ، المُنَزَّهةِ المُبَرَّأةِ المُتَعالِيةِ المُقَدَّسةِ عنِ التَّغَيُّرِ والتَّبَدُّلِ والتَّجَزُّؤِ والتَّحَيُّزِ، ولا تُلائِمُ تَنَزُّهَه وتَقَدُّسَه سُبحانَه بحالٍ؛ فيَكُونُ بذلك سَبَبًا لِتَلقِيناتٍ باطِلةٍ.
نعم، إنَّ مَن يَتَكلَّمُ عن وَحْدةِ الوُجُودِ، علَيْه أن يَعرُجَ فِكْرًا مِنَ الثَّرَى إلى الثُّرَيّا، تارِكًا الكائِناتِ وَراءَه ظِهْرِيًّا، مُحَدِّقًا بنَظَرِه إلى العَرشِ الأَعلَى، عادًّا الكائِناتِ مَعدُومةً في حالةِ الِاستِغراقِ، فيُمكِنُه أن يَرَى بقُوّةِ الإِيمانِ أنَّ كلَّ شَيءٍ مِنَ الواحِدِ الأَحَدِ سُبحانَه مُباشَرةً؛ وإلّا فإنَّ مَن يَقِفُ وَراءَ الكائِناتِ ويَنظُرُ إلَيْها ويَرَى الأَسبابَ أَمامَه ويَنظُرُ مِنَ الأَرضِ، فإنَّه يَحتَمِلُ أن يَغرَقَ في تَأثِيرِ الأَسبابِ ويَقَعَ في مُستَنقَعِ الطَّبِيعةِ؛ بَينَما الَّذي يَعرُجُ فِكْرًا إلى العَرشِ كجَلالِ الدِّينِ الرُّومِيِّ يَستَطِيعُ أن يقُولَ: “افْتَحْ سَمْعَك فإنَّك تَستَطِيعُ أن تَسمَعَ مِن كلِّ أَحَدٍ -كأنَّه حاكٍ فِطْرِيٌّ- ما تَسمَعُه مِنَ الحَقِّ تَعالَى”، وإلّا فمَن لا يَستَطِيعُ العُرُوجَ مِثلَه إلى هذه المَرتَبةِ الرَّفيعةِ ولا يَرَى المَوجُوداتِ مِنَ الفَرشِ إلى العَرشِ على صُورةِ مَرايا (لِتَجَلِّياتِه)؟!
إن قُلتَ له: “أَصْغِ إلى كلِّ أَحَدٍ، تَسمَعْ مِنه كَلامَ اللهِ”، فإنَّه يُبتَلَى بتَصَوُّراتٍ باطِلةٍ مُخالِفةٍ لِلحَقِيقةِ كَمَن يَهوِي مَعنًى مِنَ العَرشِ إلى الفَرشِ.
﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾
ما لِلتُّرابِ ولِرَبِّ الأَربابِ!
﴿سُبحانَ مَن تَقَدَّسَت عنِ الأَشباهِ ذاتُه، وتَنَزَّهَت عن مُشابَهةِ الأَمثالِ صِفاتُه، وشَهِدَ على رُبُوبيَّتِه آياتُه، جَلَّ جَلالُه ولا إِلٰهَ إلّا هُو﴾
سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ
❀ ❀ ❀
[حول مصطفى صبري وموسى باكوف]
جواب عن سؤال
لا يَسَعُنِي الوَقتُ الكافِي لِعَقدِ مُوازَنةٍ بينَ أَفكارِ كلٍّ مِن “مُصطَفَى صَبْرِي” و”مُوسَى باكُوف“، إلّا أنَّني أَكتَفِي بالقَولِ الآتِي:
إنَّ أَحَدَهُما قد أَفْرَط والآخَرَ يُفَرِّطُ.. فمَعَ أنَّ مُصطَفَى صَبْرِي مُحِقٌّ في دِفاعاتِه بالنِّسبةِ إلى “مُوسَى باكُوف”، إلّا أنَّه ليس له حَقُّ تَزيِيفِ شَخصِ مُحيِي الدِّينِ بنِ عَرَبيٍّ الَّذي هو خارِقةٌ مِن خَوارِقِ العُلُومِ الإِسلامِيّةِ.
نعم، إنَّ مُحيِيَ الدِّينِ بنَ عَرَبيٍّ مُهتَدٍ ومَقبُولٌ، ولكِنَّه ليس بمُرشِدٍ ولا هادٍ وقُدوةٍ في جَمِيعِ كِتاباتِه، إذ يَمضِي غالِبًا دُونَ مِيزانٍ في الحَقائِقِ، فيُخالِفُ القَواعِدَ الثّابِتةَ لِأَهلِ السُّنّةِ، ويُفِيدُ بَعضُ أَقوالِه -ظاهِرًا- الضَّلالةَ غيرَ أنَّه بَرِيءٌ مِنَ الضَّلالةِ، إذِ الكَلامُ قد يَبدُو كُفرًا بظاهِرِه، إلّا أنَّ قائِلَه لا يكُونُ كافِرًا.
فمُصطَفَى صَبْرِي لم يُراعِ هذه النِّقاطَ بنَظَرِ الِاعتِبارِ، ففَرَّط في بَعضِ النِّقاطِ لِتَعَصُّبِه لِقَواعِدِ أَهلِ السُّنّة، أمّا مُوسَى باكُوف فهُو يُخطِئُ كَثِيرًا بأَفكارِه الَّتي تُماشِي التَّمَدُّنَ والمُنحازةِ شَدِيدًا لِلتَّجَدُّدِ، إذ يُحَرِّفُ بعضَ الحَقائِقِ الإِسلامِيّةِ بتَأوِيلاتٍ خاطِئةٍ، ويَتَّخِذُ شَخْصًا مَردُودًا كأَبي العَلاءِ المَعَرِّي في مُستَوًى أَعلَى مِن عُلَماءِ الإِسلامِ المُحَقِّقِينَ، وقد غالَى كَثِيرًا لِانحِيازِه الشَّدِيدِ إلى تلك المَسائِلِ الَّتي خالَفَ فيها مُحيِي الدِّينِ أَهلَ السُّنّةِ والَّتي تَنسَجِمُ معَ أَفكارِه.
ولَقَد قال مُحيِي الدِّينِ: “تَحرُمُ مُطالَعةُ كُتُبِنا على مَن ليس مِنّا“، أي: على مَن لا يَعرِفُ مَقامَنا.
نعم، إنَّ قِراءةَ كُتُبِ مُحيِي الدِّينِ -ولا سِيَّما مَسائِلِه الَّتي تَبحَثُ في وَحْدةِ الوُجُودِ- مُضِرّةٌ في هذا الزَّمانِ.
سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ
❀ ❀ ❀
[ضَحِكٌ يدعو إلى البكاء!]
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
عِندَما كُنتُ أَنظُرُ مِن نافِذةِ السِّجنِ إلى ضَحِكاتِ البَشَرِيّةِ المُبكِيةِ، في مِهرَجانِ اللَّيلِ البَهِيجِ، أَنظُرُ إلَيْها مِن خِلالِ عَدَسةِ التَّفكُّرِ في المُستَقبَلِ والقَلَقِ علَيْه، انكَشَف أَمامَ نَظَرِ خَيالي هذا الوَضعُ الَّذي أُبيِّنُه:
مِثلَما تُشاهَدُ في السِّينِما أَوْضاعُ الحَياةِ لِمَن هُمُ الآنَ راقِدُونَ في القَبرِ، كَأنَّني شاهَدتُ أَمامِي الجَنائِزَ المُتَحرِّكةَ لِمَن سيَكُونُونَ في المُستَقبَلِ القَرِيبِ مِن أَصحابِ القُبُورِ.. بَكَيتُ على أُولَئِك الضّاحِكِينَ الآنَ، فانتابَنِي شُعُورٌ بالوَحشةِ والأَلَمِ.. راجَعتُ عَقلِي، وسَأَلتُ عنِ الحَقِيقةِ قائِلًا: ما هذا الخَيالُ؟
قالَتِ الحَقِيقةُ: إنَّ خَمْسةً مِن كلِّ خَمسِينَ مِن هَؤُلاءِ البائِسِينَ الضّاحِكِينَ الآنَ والَّذِينَ يَمرَحُونَ في نَشْوةٍ وبَهْجةٍ سيَكُونُونَ كُهُولًا بعدَ خَمسِينَ عامًا، وقدِ انحَنَت مِنهُمُ الظُّهُورُ وناهَزَ العُمُرُ السَّبعِينَ، وإنَّ الخَمْسةَ والأَربَعِينَ الباقِينَ يَرِمُّونَ في القُبُورِ؛ فتِلك الوُجُوهُ المِلاحُ، وتلك الضَّحِكاتُ البَهِيجةُ، تَنقَلِبُ إلى أَضدادِها؛ وحَسَبَ قاعِدةِ “كلُّ آتٍ قَرِيبٌ” فإنَّ مُشاهَدةَ ما سيَأتِي كأنَّه آتٍ الآنَ تَنطَوِي على حَقِيقةٍ، فما شاهَدتُه إِذًا ليس خَيالًا.
فما دامَت ضَحِكاتُ الدُّنيا المُتَّسِمةُ بالغَفْلةِ مُؤَقَّتةً ومُعَرَّضةً لِلزَّوالِ، وهِي تَستُرُ مِثلَ هذه الأَحوالِ المُؤلِمةِ المُبكِيةِ، فلا بُدَّ أنَّ ما يَسُرُّ قَلبَ الإِنسانِ البائِسِ العاشِقِ لِلخُلُودِ، ويُفرِحُ رُوحَه الوَلْهانَ بعِشقِ البَقاءِ، هو ذلك اللَّهوُ البَرِيءُ والمُتعةُ النَّزِيهةُ وأَفراحٌ ومَسَرَّاتٌ تَخلُدُ مِن جِهةِ الثَّوابِ، ضِمنَ نِطاقِ الشَّرعِ، معَ أَداءِ الشُّكرِ بِاطمِئنانِ القَلبِ وحُضُورِه بَعِيدًا عنِ الغَفْلةِ؛ ولِئَلّا تَقْوَى الغَفْلةُ في النُّفُوسِ في الأَعيادِ، وتَدفَعَ الإِنسانَ إلى الخُرُوجِ عن دائِرةِ الشَّرعِ، وَرَد في الأَحادِيثِ الشَّرِيفةِ تَرغِيبٌ قَوِيٌّ وكَثِيرٌ في الشُّكرِ وذِكرِ اللهِ في تلك الأَيّامِ، وذلك لِتَنقَلِبَ نِعَمُ الفَرَحِ والسُّرُورِ إلى شُكرٍ يُدِيمُ تلك النِّعمةَ ويَزِيدُها، إذِ الشُّكرُ يَزِيدُ النِّعَمَ ويُزِيلُ الغَفْلةَ.
سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ
❀ ❀ ❀
[في تفسير: إن النفس لأمَّارةٌ بالسوء]
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
نُكتةٌ مِن نِكاتِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾3لهذه الفقرة أيضًا فائدة للجميع.، والحَدِيثِ الشَّرِيفِ: “أَعدَى أَعدائِك نَفسُك الَّتي بينَ جَنبَيْك”.
نعم، إنَّ الَّذي يُحِبُّ نَفسَه الأَمَّارةَ بالسُّوءِ غَيرَ المُزَكَّاةِ ويُعجَبُ بها، هو في الحَقِيقةِ لا يُحِبُّ أَحَدًا غَيرَها، وحتَّى لو أَبدَى لِلغَيرِ حُبًّا فلا يُحِبُّه مِن صَمِيمِ قَلبِه، بل رُبَّما يُحِبُّ مَنفَعَتَه ولَذَّتَه الَّتي يَراها عِندَه، ولِما يَتَوقَّعُ مِنه مِن مَتاعٍ؛ فهُو في مُحاوَلةٍ دائِمةٍ لِتَحبِيبِ نَفسِه لِلآخَرِينَ، وفي سَعيٍ مُتَواصِلٍ لِإِثارةِ إِعجابِهِم به، يَصرِفُ كلَّ قُصُورٍ عن نَفسِه فلا يُحَمِّلُها أيَّ نَقصٍ كانَ، بل يُدافِعُ دِفاعَ المُحامِي المُخلِصِ لِإِبراءِ ساحَتِها، ويَمدَحُها بمُبالَغاتٍ بل بِأَكاذِيبَ لِيُنزِّهَها عن كلِّ عَيبٍ أو قُصُورٍ، حتَّى يُقرِّبُها إلى التَّقدِيسِ، بل يَبلُغُ به الأَمرُ أن يكُونَ مِصداقَ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾.
عِندَها تَتَوالَى علَيْه صَفَعاتُ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ حَسَبَ دَرَجَتِه، فيَنقَلِبُ مَدحُه إلى إِعراضِ النّاسِ عنه، ويَتَحوَّلُ تَحبِيبُ نَفسِه إلَيْهِم إلى استِثقالِهِم له، فيَجِدُ عَكْسَ ما كانَ يَرُومُ، فَضْلًا عن أنَّه يُضَيِّعُ الإِخلاصَ، لِما يَخلِطُ مِن رِياءٍ وتَصَنُّع في أَعمالِه الأُخرَوِيّةِ، فيَكُونُ مَغلُوبًا على أَمرِه أَمامَ شَهَواتِه وهَواه ومَشاعِرِه، تلك الَّتي لا تُبصِرُ العُقبَى ولا تُفكِّرُ في النَّتائِجِ، والمُغرَمةُ بالتَّلَذُّذِ الآنِيِّ.. بل قد تُبَـرِّرُ له أَهواؤُه الضّالّةُ أُمُورًا يَرتَكِبُها لِأَجلِ مُتعةٍ لا تَدُومُ ساعةً تُفضِي به أن يُلقَى في السِّجنِ لِسَنةٍ كامِلةٍ؛ وقد يُقاسِي عَشرَ سَنَواتٍ مِنَ الجَزاءِ العادِلِ لِأَجلِ تَسكِينِ رُوحِ الثَّأرِ لَدَيْه وشَهْوةِ الغُرُورِ الَّتي لا تَستَغرِقُ دَقِيقةً واحِدةً.
فيَكُونُ مَثَلُه كمَثَلِ ذلك الطِّفلِ الأَبلَهِ الَّذي لا يُقدِّرُ قِيمةَ جُزءِ المُصحَفِ الشَّرِيفِ الَّذي يَتلُوه ويَدرُسُه، فيَبِيعُه بقِطْعةِ حَلْوَى رَخِيصةٍ، إذ يَصرِفُ حَسَناتِه الَّتي هي أَغلَى مِنَ الأَلماسِ ويُبَدِّلُها بما يُشبِهُ في تَفاهَتِها قِطَعَ الزُّجاجِ، تلك هي حِسِّيّاتُه وهَواه وغُرُورُه.. فيَخسَرُ خَسارةً جَسِيمةً فيما كانَ يَنبَغِي له أن يَربَحَ رِبحًا عَظِيمًا.
﴿اللَّهُمَّ احْفَظْنا مِن شَرِّ النَّفسِ والشَّيطانِ، ومِن شَرِّ الجِنِّ والإِنسانِ﴾.
❀ ❀ ❀
[كيف يعاقَب على كفرٍ مؤقت بعذاب مؤبَّد؟]
سؤال: كيفَ يكُونُ البَقاءُ في سِجنِ جَهَنَّمَ بَقاءً خالِدًا جَزاءً عادِلًا لِكُفرٍ في زَمَنٍ قَصِيرٍ؟
الجَوابُ: إنَّ القَتلَ الَّذي يَحصُلُ في دَقِيقةٍ واحِدةٍ يُعاقَبُ علَيْه بسَبعِ مَلايِينَ وثَمانِ مِئةٍ وأَربَعٍ وثَمانِينَ أَلفًا مِنَ الدَّقائِقِ -على اعتِبارِ أنَّ السَّنةَ ثَلاثُ مِئةٍ وخَمسةٌ وسِتُّونَ يَومًا- فإِنْ كانَ هذا قانُونًا عَدْلًا، فالَّذي يَقضِي عِشرِينَ سَنةً مِن عُمُرِه في أَحضانِ الكُفرِ ويَمُوتُ علَيْه يَستَحِقُّ جَزاءً بمُقتَضَى هذا القانُونِ العادِلِ لِلبَشَرِ سِجْنًا يَدُومُ سَبعةً وخَمسِينَ ترِلْيُونًا وواحِدًا ومِئَتَيْ مِلْيارٍ ومِئَتَيْ مِليُونٍ مِنَ السِّنِينَ، باعتِبارِ أنَّ دَقِيقةً مِنَ الكُفرِ تُعادِلُ أَلفَ قَتلٍ؛ ويُمكِنُ أن يُفهَمَ مِن هذا وَجْهُ الِانسِجامِ معَ عَدالةِ قَولِه تَعالَى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾.
إنَّ سِرَّ العَلاقةِ بَينَ العَدَدَينِ المُتَباعِدَينِ جِدًّا عن بَعضِهِما، هو أنَّ الكُفرَ والقَتلَ تَخرِيبٌ وتَعَدٍّ على الآخَرِينَ، ولَهُما تَأثِيرٌ في الآخَرِينَ، فالقَتلُ الَّذي يَحصُلُ في دَقِيقةٍ واحِدةٍ يَسلُبُ خَمسَ عَشْرةَ سَنةً في الأَقَلِّ مِن حَياةِ المَقتُولِ، حَسَبَ ظاهِرِ الحالِ، لِذا يُسجَنُ القاتِلُ بَدَلًا مِنه.
فدَقِيقةٌ واحِدةٌ في الكُفرِ الَّذي هو إِنكارٌ لِأَلفِ اسمٍ واسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى وتَزيِيفٌ لِنُقُوشِها البَدِيعةِ، واعتِداءٌ على حُقُوقِ الكائِناتِ، وإِنكارٌ لِكَمالاتِها، وتَكذِيبٌ لِدَلائِلِ الوَحْدانيّةِ الَّتي لا تُحَدُّ ورَدٌّ لِشَهاداتِها.. تُلقِي بالكافِرِ في أَسفَلِ سافِلِينَ لِأَكثَرَ مِن أَلفِ سَنةٍ، فتَسجُنُه في قَولِه تَعالَى: ﴿خَالِدِينَ﴾.
سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ
❀ ❀ ❀
[توافقٌ لطيف]
توافقٌ لطيف ذو مغزًى
إنَّ المادّةَ (١٦٣) مِنَ القانُونِ الَّتي يُتَّهَمُ بمُوجَبِها طُلّابُ النُّورِ، ويُطالَبُ بها إِنزالُ العُقُوبةِ علَيْهِم. هذا الرَّقْمُ يَتَوافَقُ معَ عَدَدِ النُّوّابِ الَّذِينَ وافَقُوا على لائِحةِ البَرلَمانِ الخاصّةِ بمَنحِ مِئةٍ وخَمسِينَ أَلفَ لَيرةٍ لِبِناءِ مَدرَسةِ مُؤلِّفِ رَسائِلِ النُّورِ، وقد كانُوا (١٦٣) نائِبًا مِن بَينِ (٢٠٠) نائِبًا في مَجلِسِ الأُمّةِ التُّركِيِّ.
هذا التَّوافُقُ يقُولُ مَعنًى: إنَّ تَواقِيعَ (١٦٣) نائِبًا مِن نُوّابِ حُكُومةِ الجُمهُورِيّةِ على وَجهِ التَّقدِيرِ والإِعجابِ بخِدمَتِه، يُبطِلُ حُكمَ المادّةِ (١٦٣) بحَقِّه.
وكذا مِن بَينِ التَّوافُقاتِ اللَّطِيفةِ ذاتِ المَغزَى: أنَّه كانَ القَبضُ على مُؤلِّفِ رَسائِلِ النُّورِ وطُلّابِه واعتِقالُهُم في ٢٧/نَيسانَ/١٩٣٥، بَينَما كانَ قَرارُ المَحكَمةِ بحَقِّهِم في ١٩/آب/١٩٣٥، أي: بَعدَ (١١٥) يَومًا.. هذا الرَّقْمُ يَتَوافَقُ معَ عَدَدِ كُتُبِ رَسائِلِ النُّورِ وهُو (١١٥) كِتابًا يَضُمُّ (١٢٨) رِسالةً. كما أنَّه يُوافِقُ عَدَدَ المُتَّهَمِينَ المِئةِ والخَمسةَ عَشَرَ مِن طُلّابِ النُّورِ الَّذِينَ استُجْوِبُوا واتُّهِمُوا.
فهذا التَّوافُقُ يَدُلُّ على أنَّ المُصِيبةَ الَّتي ابتُلِيَ بها مُؤلِّفُ رَسائِلِ النُّورِ وطُلّابُها، إنَّما تُنَظَّمُ بِيَدٍ مِنَ العِنايةِ (الإِلٰهِيّةِ)4إنَّه جَدِيرٌ بالمُلاحَظةِ أنَّه بَدَأ القَبضُ على قِسمٍ مِن طُلّابِ النُّورِ واعتُقِلُوا في ٢٥/نيسان/١٩٣٥، وكان عددُ الَّذين اتُّهِمُوا بقَرارِ المَحكَمةِ (١١٧) شَخصًا حيثُ كُرِّر اسمُ اثنَينِ مِنهُم، فيَتَوافَقُ بهذا عددُ الطُّلّابِ (١١٧) طالبًا معَ عددِ أيّامِ الِاعتِقالِ البالِغِ (١١٧) يومًا اعتِبارًا مِنِ اعتِقالِ ذلك القِسمِ مِنَ الطُّلّابِ إلى يومِ قَرارِ المَحكَمةِ؛ فيَمزُجُ هذا التَّوافُقُ لَطافةً أُخرَى إلى لَطافةِ التَّوافُقاتِ السّابِقةِ..
❀ ❀ ❀
[كرامتان لرسائل النور]
لَمّا كانَ الإِمامُ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عَنهُ قد أَشارَ في مُقدِّمةِ هذه اللَّمْعةِ إلى رَسائِلِ النُّورِ، فإِنَّ أَحَدَ إِخوانِنا مِن شِدّةِ فَرَحِه وسُرُورِه قامَ بإِطلاقِ اسمِ “النُّور والأَلماس والجَواهِر” على رَسائِلِ النُّورِ، وذَكَر ذلك مَرَّاتٍ عِدّةً في رِسالَتِه، لِذا وَجَدْنا مِنَ المُناسِبِ إِدراجَها في نِهايةِ هذه اللَّمْعةِ:
كَيفَ يُمكِنُ لِطالِبٍ بَلَغ مَرتَبةَ التَّقوَى أن يُفارِق رَسائِلَ النُّورِ ويَتَخلَّى عن نُورِ أَلماساتِها الثَّمِينةِ حتَّى لو كانَ مَجنُونًا؟! لا أَظُنُّ أنَّ أَحَدًا حَظِي بكَرامةِ رَسائِلِ النُّورِ ونالَ مِن فَضلِها وذاقَ لَذائِذَها وجَنَى ثَمَراتِها الطَّيبةَ مِثلَ طالِبِكُمُ العاجِزِ هذا.
إِنَّني أَشكُر فَضِيلَتَكم على حُسنِ تَوَجُّهِكُم لِي أنا العَبدَ العاجِزَ رَغمَ عَدَمِ التِزامِي بخِدمةِ رَسائِلِ النُّورِ، وبِناءً على هذا التَّوجُّهِ لا يُمكِنُني بل لا يُمكِنُ لِأَحَدٍ مِن طُلّابِكُم أن يُفارِقَ رَسائِلَ النُّورِ، وأن يَهجُرَ هذا الأَلماسَ وتلك اللَّذائِذَ المُبارَكةَ.
اسمَحُوا لي أن أَتَحدَّثَ عن ظُهُورِ كَرامَتَينِ لِرَسائِلِ النُّورِ أَثناءَ حَمْلةِ التَّفتِيشِ الأَخِيرةِ:
[الكرامة الأولى:] عِندَما أَجْرَت قُوَى الأَمنِ والشُّرطةُ العَسكَرِيّةُ وحُرّاسُ السِّجنِ تَفتِيشًا دَقِيقًا داخِلَ السِّجنِ، قامَ ابنُ أُختِي -وهُو ابنُ سَبعٍ أو ثَمانِ سَنَواتٍ- في تلك الأَثناءِ ودُونَ أن يَراه أَحَدٌ بوَضْعِ نُسَخِ رَسائِلِ النُّورِ في حَقِيبَتِه المَدرَسِيّةِ وإِبعادِها؛ ففي أَثناءِ تَفتِيشِ غُرفَتِي دَخَل الغُرفةَ ورَأَى الِاضطِرابَ الحاصِلَ فِيها، فتَناوَلَ رَسائِلَ النُّورِ المَوضُوعةَ في جانِبٍ مِن غُرفَتِي على حِدَةٍ، وأَدرَجَها في حَقِيبَتِه دُونَ أن يَراه القائِمُونَ على التَّفتِيشِ أو يُخاطِبُوه بشَيءٍ، وانطَلَق هذا الطِّفلُ الشُّجاعُ مُسرِعًا بها إلى والِدَتِه، وخاطَبَها قائِلًا: “لقد أَحضَرتُ رَسائِلَ النُّورِ الَّتي كانَ خالِي يَقرَؤُها لنا على الدَّوام، كانُوا يُرِيدُونَ أَخْذَها، فالتَقَطْتُها في زَحْمةِ انشِغالِهِم بتَفتِيشِ الكُتُبِ والرَّسائِلِ الأُخرَى دُونَ أن يَتَنبَّهُوا، وأَخفَيتُها في حَقِيبَتِي، فاحتَفِظِي بها في مَكانٍ (آمِنٍ)، واعتَنِي بها.. إِنَّني أُحِبُّ مُطالَعةَ هذه الكُتُبِ، فقد كُنتُ أَشعُرُ كُلَّما قَرَأَها خالي لنا بتَغيُّرِ أَحوالِي!”، ثُمَّ عادَ إلى مَدرَسَتِه! وبِهذِه الوَسِيلةِ فَشِلَتْ مُحاوَلةُ مُصادَرةِ النُّورِ والأَلماسِ والجَواهِرِ.فإِن لم تَكُن هذه كَرامةً فما هيَ إِذًا؟ وإِن لم تَكُن تلك مُعجِزةً قُرآنيّةً فما تَكُونُ إِذًا؟ وفي أَيِّ مُؤَلَّفٍ يُوجَدُ هذا القَدْرُ مِنَ الفَضِيلةِ واللَّذّةِ والجَواهِرِ والأَلماسِ؟ وأيُّ شَخصٍ فاضِلٍ ذاك الَّذي نَطَق بمِثلِ هذا النُّورِ والأَلماسِ والجَواهِرِ؟! إِنَّني على استِعدادٍ في كلِّ لَحْظةٍ وفي كُلِّ دَقِيقةٍ وبِكامِلِ السُّرُورِ، لا لِدُخُولِ السِّجنِ فحَسْبُ، بل لِلقِيامِ بتَضحِياتٍ كَثِيرةٍ في سَبِيلِ النُّورِ والأَلماسِ والجَواهِرِ؛ وإِنَّ ابنِي “أَمِين” على استِعدادٍ لِلتَّضحِيةِ مِن بَعدِي بحَياتِه كُلِّها في سَبِيلِ النُّورِ والأَلماسِ والجَواهِرِ.
أمّا الكَرامةُ الثَّانيةُ لِلنُّورِ والأَلماسِ والجَواهِرِ، فلَسَوفَ أُثبِتُ حِينَ حَدِيثي عنها استِعدادَ وَلَدِي وأَقارِبِي مِن سِنِّ الثَّالِثةِ حتَّى الثّامِنةِ -ودُونَ أَيِّ تَرَدُّدٍ أو تَفكِيرٍ- لِلتَّضحِيةِ بحَياتِهِم في سَبِيلِ النُّورِ والأَلماسِ والجَواهِرِ..
كُنتُ يَومًا أَقرَأُ النُّورَ والأَلماسَ والجَواهِرَ، فإِذا بالأَطفالِ يَجتَمِعُونَ حَوْلِي، فما كانَ مِنِّي إِلّا أَن لَاطَفتُهُم قَلِيلًا وقَدَّمتُ لَهُمُ الشّايَ، ثُمَّ أَكمَلتُ قِراءةَ النُّورِ والأَلماسِ والجَواهِرِ، وإِذا بالكُلِّ يَسأَلُونَ مَعًا: ما هذا؟ ما هذه الكِتابةُ الغَرِيبةُ؟ فقُلتُ لَهُم: إِنَّها النُّورُ والأَلماسُ والجَواهِرُ. وشَرَعتُ بقِراءَتِها لَهُم، ومَضَتِ السّاعاتُ وأَنا أَقرَأُ لَهُمُ “الكَلِمةَ العاشِرةَ”، وكانَ الأَطفالُ يَسأَلُونَنِي عنِ المَواضِعِ الَّتي يُشكِلُ فَهمُها علَيهِم، فكُنتُ أَشرَحُها لَهُم بطَرِيقةٍ تُمَكِّنُهُم مِن فَهمِ النُّورِ والأَلماسِ والجَواهِرِ، وكُنتُ أَجِدُ وُجُوهَهُم تَتَغيَّرُ أَلوانُها إلى أَلوانٍ أُخرَى، وكُلَّما نَظَرتُ في مُحَيَّاهُم أَجِدُ في وَجْهِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُم وَجْهَ “سَعِيدٍ” المُنَوَّرِ!
كانُوا يَتَساءَلُونَ: أَينَ النُّورُ؟ وأَينَ الأَلماسُ؟ وأَينَ الجَواهِرُ؟ فأُجِيبُهُم: أَجَل، النُّورُ أَن تَقرَؤُوا هذا الكِتابَ، انظُرُوا، لقد ظَهَرَت حُسنًا وجَمالًا ورَوْنَقًا على وُجُوهِكُم. فنَظَر كلُّ واحِدٍ في وَجهِ الآخَرِ وصادَقُوا الأَمرَ.
وأَمّا الأَلماسُ فهِي في كِتابةِ هذه الكَلِماتِ، فحِينَ كِتابَتِها تُصبِحُ كِتاباتُكُم ثَمِينةً كالأَلماسِ. فصادَقُوا على ذلك أَيضًا.
وأَمّا الجَواهِرُ فهِي الإِيمانُ الَّذي تَنالُونَه مِن هذا المُؤلَّفِ. فإِذا بِهِم جَمِيعًا يَنطِقُونَ كَلِمَتَيِ الشَّهادةِ! وقدِ استَغرَقَ مَجلِسُنا هذا ثَلاثَ أو أَربَعَ ساعاتٍ دُونَ أن نَشعُرَ بذلك! فهذه هيَ النُّورُ والأَلماسُ والجَواهِرُ. فصادَقُوا الأَمرَ.
وكانُوا جَمِيعًا يَنظُرُونَ إِلَيَّ ويَسأَلُونَ: مَن أَلَّف هذا الكِتابَ؟!
طالبُكُم العاجِزُ: شَفِيق
❀ ❀ ❀
[رؤيا مبشِّرة]
رُؤيا ذَكائي
رَأَيتُ هذا الصَّباحَ في المَنامِ أَنَّني على شاطِئِ بَحرٍ نَظِيفٍ صافٍ أَشبَهَ بساحِلِ “طُوب خانَهْ” في إِسطَنبُولَ.. والوَقتُ -في تَقدِيرِي- وَقتُ الضُّحَى، فضِياءُ الشَّمسِ يُضفِي بَرِيقًا ولَمَعانًا جَمِيلًا على وَجهِ ذلك البَحرِ الكَبِيرِ، وكُنتُ مُستَقبِلًا جِهةَ البَحرِ.. وإِذا بشابٍّ يَقتَرِبُ سِباحةً مِن وَسَطِ البَحرِ وجَنُوبِه إلى الشّاطِئِ، فرَفَع المِحراثَ الَّذي كانَ يَحمِلُه على كاهِلِه، ورَمَى به في السّاحِلِ.. وبَينَما كانُوا يَستَقبِلُونَ جَمِيعَ إِخوانِي بَعدَ الإِفراجِ عَنهُم إِذا برَجُلَينِ يَمتَطِيانِ الفَرَسَ قادِمَينِ بسُرعةٍ مِن جِهةِ الغَربِ، فقالُوا: “الأُستاذُ قادِمٌ”، فشَقَّ هذان الفارِسانِ المَهِيبانِ الأَسمَرانِ الِازدِحامَ وانطَلَقا بَعِيدًا في جِهةِ الشَّرقِ مُسرِعَينِ دُونَ تَوَقُّفٍ.. وحِينَ هَمَمتُ بخَوضِ البَحرِ استَيقَظتُ مِن مَنامِي.
ذَكائي
❀ ❀ ❀
[رسائل النور نور]
رَدًّا على الكلمات الموجَّهة ضد رسائل النور والتي تنمُّ عن التحيُّز والمنافسة:
إن كانَ قَصدُكُم مَدْحَ أَنفُسِكُم والمُفاخَرةَ..
فأَنتُم بالكادِ ذَيلُ أَخفَتِ شُهُبِ رَسائِلِ النُّورِ ضياءً..
لا تَظُننَّ رَسائِلَ النُّورِ مُجَرَّدَ كَوكَبٍ يَظهَرُ في النَّهارِ..
فحَتَّى الشَّمسُ -ولَيسَ الأَرضُ فَقَط- تَستَمِدُّ مِن ضِيائِها النُّورَ..
عَمَّا قَرِيبٍ ستَسطَعُ شَمسُ رَسائِلِ النُّورِ على وَجْهِ الأَرضِ..
فهِي لا تَنطَفِئُ، بل تَختَفِي، إِذ هِي نُورٌ على نُورٍ..
هي نُورٌ أَشبَهُ ببَحرِ الحَقِيقةِ ومَحضِ الهِدايةِ..
اِقرَأْ: ﴿مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى﴾.
لا يَجُوزُ التَّشَكِّي مِنَ اللهِ، بل مَقصَدُنا التَّحَدُّثُ..
فعِندَما كانَت الشَّرِيعةُ تُهاجَمُ كانَ اللهُ على عِلمٍ..
أنَّ رَسائِلَ النُّورِ كانَت على رَأسِ الخِدمةِ..
رَسائِلُ النُّورِ مَعلُومةٌ لَدَى عَلِيٍّ المُرتَضَى والغَوثِ الأَعظَمِ..
أَشارا إِلَيْها في القَصِيدةِ البَدِيعِيّةِ وغَيرِها مِنَ القَصائِدِ..
رَسائِلُ النُّورِ عُرْوةٌ وُثقَى لا انفِصامَ لَها..
تَمَسَّكتُ بها لِأنَّها الهِدايةُ وعَينُ الحَقِيقةِ..
فأَلقَوْا بِنا حَيثُ كانَ يُوسُفُ عَلَيهِ السَّلَام..
وكانَ حَضْرةُ الأُستاذِ مَعَنا..
خليل إبراهيم
❀ ❀ ❀
[في تفسير: وجعلناها رجومًا للشياطين]
النُّكتة الثامنة والعِشرون
للَّمعة الثّامنة والعشرين
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾، ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾
سنُبيِّنُ نُكتةً مُهِمّةً مِن نِكاتِ هذه الآياتِ الكَرِيمةِ وأَمثالِها مِنَ الآياتِ لِمُناسَبةِ اعتِراضٍ يَرِدُ مِن أَهلِ الضَّلالةِ على وَجهِ النَّقدِ:
تُفِيدُ هذه الآياتُ الكَرِيمةُ أنَّ جَواسِيسَ الجِنِّ والشَّياطِينِ يَستَرِقُونَ السَّمْعَ إلى أَخبارِ السَّماواتِ، ويَجلُبُونَ مِنها الأَخبارَ الغَيبِيّةَ إلى الكُهّانِ والمادِّيِّينَ، والَّذِينَ يَعمَلُونَ في تَحضِيرِ الأَرواحِ؛ فحِيلَ بَينَ هذه الأَخبارِ وبَينَ التَّجَسُّسِ الدّائِمِيِّ لِأُولَئِك الجَواسِيسِ، ورُجِمُوا بالشُّهُبِ في تلك الحِقْبةِ بِدايةَ الوَحيِ أَزيَدَ مِن سائِرِ الأَوقاتِ، وذلك لِئَلّا يَلتَبِسَ شَيءٌ على الوَحيِ.
نُبيِّنُ جَوابًا في غايةِ الِاختِصارِ عن سُؤالٍ في غايةِ الأَهَمِّيّةِ، وهُو ذُو ثُلاثِ شُعَبٍ.
سُؤالٌ: يُفهَمُ مِن أَمثالِ هذه الآياتِ الكَرِيمةِ المُتَصدِّرةِ أنَّه لِأَجلِ استِراقِ السَّمعِ وتَلقِّي الخَبَرِ الغَيبِيِّ حتَّى في الحَوادِثِ الجُزئيّةِ -بل حَوادِثَ شَخصِيّةٍ أَحيانًا- تَقتَحِمُ جَواسِيسُ الشَّياطِينِ مَملَكةَ السَّماواتِ الَّتي هي في غايةِ البُعدِ.. لَكَأنَّ تلك الحادِثةَ الجُزئيّةَ هي مَوضِعُ بَحثٍ في كلِّ جُزءٍ مِن أَجزاءِ تلك المَملَكةِ الواسِعةِ، ويُمكِنُ لِأَيِّ شَيطانٍ كان، ومِن أيِّ مَكانٍ دَخَل إلى السَّماواتِ، التَّصَنُّتُ -ولو بصُورةٍ مُرَقَّعةٍ- إلى ذلك الخَبَرِ، وجَلبُه هكذا إلى الأَرضِ.. هذا المَعنَى الَّذي يُفهَمُ مِنَ الآياتِ الكَرِيمةِ لا يَقبَلُ به العَقلُ والحِكمةُ.
ثمَّ إنَّ قِسمًا مِنَ الأَنبِياءِ -وهُم أَهلُ الرِّسالةِ- والأَولِياءِ -وهُم أَهلُ الكَرامةِ- تَسَلَّمُوا ثِمارَ الجَنّةِ الَّتي هي فَوقَ السَّماواتِ العُلا -بنَصِّ الآيةِ- وكَأنَّهُم يَأخُذُونَها مِن مَكانٍ قَرِيبٍ، وأَحيانًا يُشاهِدُونَ الجَنّةَ مِن قَرِيبٍ. هذه المَسأَلةُ تَعنِي (نِهايةَ البُعدِ في نِهايةِ القُربِ)، بحَيثُ لا يَسَعُها عَقلُ هذا العَصرِ.
ثمَّ إنَّ حالةً مِن أَحوالٍ جُزئيّةٍ لِشَخصٍ جُزئيٍّ يكُونُ مَوضِعَ ذِكرٍ وكَلامٍ لَدَى المَلَأِ الأَعلَى في السَّماواتِ العُلا الواسِعةِ جِدًّا، هذه المَسأَلةُ لا تُوافِقُ إِدارةَ الكَونِ الَّتي تَسِيرُ في مُنتَهَى الحِكمةِ.
عِلْمًا أنَّ هذه المَسائِلَ الثَّلاثَ تُعَدُّ مِنَ الحَقائِقِ الإِسلامِيّةِ.
الجَوابُ:
أوَّلًا: إنَّ الآيةَ الكَرِيمةَ: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ تُفِيدُ أنَّ جَواسِيسَ الشَّياطِينِ الَّتي تُحاوِلُ الصُّعُودَ إلى السَّماواتِ لِلتَّجَسُّسِ تُطرَدُ بِالنُّجُومِ.. فقد بُحِثَت هذه المَسأَلةُ بَحْثًا جَيِّدًا في “الكَلِمةِ الخامِسةَ عَشْرةَ”، وأُثبِتَت إِثباتًا يُقنِعُ حتَّى أَعتَى المادِّيِّينَ، بل يُلجِئُهُم إلى السُّكُوتِ والقَبُولِ، وذلك بسَبعِ مُقدِّماتٍ قاطِعةٍ هي بمَثابةِ سَبعِ مَراتِبَ لِلصُّعُودِ إلى فَهمِ الآيةِ الكَرِيمةِ.
ثانيًا: نُشِيرُ إلى هذه الحَقائِقِ الإِسلامِيّةِ الثَّلاثِ الَّتي يُظَنُّ أنَّها بَعِيدةٌ (عنِ العَقلِ) بِتَمثِيلٍ، وذلك لِتَقرِيبِها إلى الأَذهانِ القاصِرةِ الضَّيِّقةِ.
هَبْ أنَّ الدّائِرةَ العَسكَرِيّةَ لِحُكُومةٍ تَقَعُ في شَرقِيِّ البِلادِ، ودائِرَتَها العَدْليّةَ في الغَربِ، ودائِرةَ المَعارِفِ في الشَّمالِ، ودائِرةَ الشُّؤُونِ الدِّينيّةِ (المَشْيَخةَ) في الجَنُوبِ، ودائِرةَ المُوَظَّفِينَ الإِدارِيِّينَ في الوَسَطِ، وهكذا.. فعَلَى الرَّغمِ مِنَ البُعدِ بينَ دَوائِرِ هذه الحُكُومةِ، إلّا أنَّ كلَّ دائِرةٍ لوِ استَخبَرَتِ الأَوضاعَ فيما بَينَها بالهاتِفِ أوِ المُراسَلةِ ارتِباطًا تامًّا: عِندَها تكُونُ البِلادُ كُلُّها كأنَّها دائِرةٌ واحِدةٌ هي دائِرةُ العَدْلِ، أوِ الدّائِرةُ العَسكَرِيّةُ أوِ الدِّينيّةُ، أوِ الإِدارِيّةُ، وهكذا.
مِثالٌ آخَرُ: يَحدُثُ أَحيانًا أنَّ دُوَلًا مُتَعدِّدةً ذاتَ عَواصِمَ مُختَلِفةٍ، تَشتَرِكُ معًا في مَملَكةٍ واحِدةٍ، بسُلُطاتٍ مُتَبايِنةٍ، مِن حَيثُ مَصالِحُها الِاستِعمارِيّةُ فيها، أو لِوُجُودِ امتِيازاتٍ خاصّةٍ بها، أو مِن حَيثُ المُعامَلاتُ التِّجارِيّةُ وغَيرُها؛ فكُلُّ حُكُومةٍ عِندَئِذٍ تَرتَبِطُ بعَلاقةٍ معَ تلك الرَّعِيّةِ مِن حَيثُ امتِيازاتُها.. فرَغمَ أنَّها رَعِيّةٌ واحِدةٌ وأُمّةٌ واحِدةٌ، إلّا أنَّ مُعامَلاتِ تلك الحُكُوماتِ المُتَبايِنةَ الَّتي هي في غايةِ البُعدِ، تَتَماسُّ وتَتَقارَبُ كُلٌّ مِنها معَ الأُخرَى في البَيتِ الواحِدِ، بل تَشتَرِكُ في كلِّ إِنسانٍ، حتَّى تُشاهَدُ مَسائِلُها الجُزئيّةُ في الدَّوائِرِ الجُزئيّةِ وهِي نِقاطُ التَّماسِّ والتَّقارُبِ، ولا تُؤخَذُ كلُّ مَسأَلةٍ جُزئيّةٍ مِنَ الدّائِرةِ الكُلِّيّةِ؛ ولكِن عِندَما تُبحَثُ تلك المَسائِلُ الجُزئيّةُ، تُبحَثُ كأنَّها أُخِذَت مِنَ الدّائِرةِ الكُلِّيّةِ، وذلك لِارتِباطِها بالقَوانِينِ الكُلِّيّةِ لِتِلك الدّائِرةِ، وتُعطَى لها صُورةٌ كأنَّها مَسأَلةٌ أَصبَحَت مَوضِعَ بَحثٍ في تلك الدّائِرةِ الكُلِّيّةِ.
وهكَذا، ففي ضَوءِ هذَينِ المِثالَينِ:
إنَّ مَملَكةَ السَّماواتِ الَّتي هي في غايةِ البُعدِ، مِن حَيثُ العاصِمةُ والمَركَزُ، لها هَواتِفُ مَعنَوِيّةٌ تَمتَدُّ مِنها إلى قُلُوبِ النّاسِ في مَملَكةِ الأَرضِ؛ فَضْلًا عن أنَّ عالَمَ السَّماواتِ لا يُشرِفُ على العالَمِ الجِسمانِيِّ وَحْدَه، بل يَتَضمَّنُ عالَمَ الأَرْواحِ وعالَمَ المَلَكُوتِ؛ لِذا فعالَمُ السَّماواتِ يُحِيطُ بجِهةٍ بعالَمِ الشَّهادةِ تَحتَ سِتارٍ.
وكَذلِك الجَنّةُ الَّتي هي مِنَ العَوالِمِ الباقِيةِ، وهِي دارُ البَقاءِ؛ فمَعَ أنَّها في غايةِ البُعدِ، إلّا أنَّ دائِرةَ تَصَرُّفاتِها تَمتَدُّ امتِدادًا نُورانِيًّا، وتَنتَشِرُ إلى كلِّ جِهةٍ تَحتَ سِتارِ عالَمِ الشَّهادةِ.
فكَما أنَّ حَواسَّ الإِنسانِ الَّتي أَوْدَعَها الصّانِعُ الحَكِيمُ الجَلِيلُ بحِكمَتِه وبقُدرَتِه في رَأسِ الإِنسانِ، رَغمَ أنَّ مَراكِزَها مُختَلِفةٌ، إلّا أنَّ كُلًّا مِنها تُسَيطِرُ على الجِسمِ كُلِّه، وتَأخُذُه ضِمنَ دائِرةِ تَصَرُّفِها.. كَذلِك الكَونُ الَّذي هو إِنسانٌ أَكبَرُ يَضُمُّ أُلُوفَ العَوالِمِ الشَّبِيهةِ بالدَّوائِرِ المُتَداخِلةِ؛ فالأَحوالُ الجارِيةُ في تلك العَوالِمِ، والحَوادِثُ الَّتي تَقَعُ فيها، تكُونُ مَوضِعَ النَّظَرِ مِن حَيثُ جُزئيّاتُها وكُلِّيّاتُها، وخُصُوصِيّاتُها وعَظَمَتُها، بمَعنَى أنَّ الجُزئيّاتِ تُشاهَدُ في الأَماكِنِ الجُزئيّةِ والقَرِيبةِ، بَينَما الكُلِّيّاتُ والأُمُورُ العَظِيمةُ تُرَى في المَقاماتِ الكُلِّيّةِ والعَظِيمةِ.
ولكِن قد تَستَولِي حادِثةٌ جُزئيّةٌ خُصُوصِيّةٌ على عالَمٍ عَظِيمٍ، فأَينَما يُلقَى السَّمْعُ تُسمَعُ تلك الحادِثةُ؛ وأَحيانًا تُحَشَّدُ الجُنُودُ الهائِلةُ إِظهارًا لِلعَظَمةِ والهَيْبةِ ولَيسَ لِقُوّةِ العَدُوِّ؛ فمَثلًا: إنَّ حادِثةَ الرِّسالةِ المُحَمَّدِيّةِ، ونُزُولِ الوَحيِ القُرآنِيِّ، لِكَونِها حادِثةً جَلِيلةً، فإنَّ عالَمَ السَّماواتِ كُلَّه، بل حتَّى كلُّ زاوِيةٍ مِن زَواياه مُتَأَهِّبٌ، وقد صُفَّت فيه الحُرّاسُ، في تلك البُرُوج العَظِيمةِ، مِن تلك السَّماواتِ العالِيةِ الرَّفِيعةِ والبَعِيدةِ بُعْدًا عَظِيمًا؛ ويَقذِفُونَ مِنَ النُّجُومِ بالمَجانِيقِ، طَرْدًا لِجَواسِيسِ الشَّياطِينِ ودَفْعًا بِهِم عنِ السَّماواتِ؛ فالآيةُ الكَرِيمةُ عِندَما تُبرِزُ المَسأَلةَ هكذا بِرَجْمِ الشَّياطِينِ بكَثرةٍ هائِلةٍ والقَذفِ بالشُّهُبِ ولا سِيَّما في بِدايةِ الوَحيِ في ذلك الوَقتِ.. تُبيِّنُ إِشارةً رَبّانيّةً إلى الإِعلانِ عن دَرَجةِ عَظَمةِ الوَحيِ القُرآنِيِّ وشَعْشَعةِ سُلطانِه، وإلى دَرَجةِ أَحَقِّيَّتِه وصَوابِه الَّذي لا يَأتِيه الباطِلُ مِن بَينِ يَدَيْه ولا مِن خَلفِه.. وهكَذا يُتَرجِمُ القُرآنُ الكَرِيمُ ذلك الإِعلانَ الكَونِيَّ العَظِيمَ ويُشِيرُ إلى هذه الإِشاراتِ السَّماوِيّةِ.
نعم، إنَّ إِظهارَ هذه الإِشاراتِ العَظِيمةِ السَّماوِيّةِ، وإِبرازَ مُبارَزةِ الشَّياطِينِ لِلمَلائِكةِ، معَ إِمكانِ طَردِ جَواسِيسِ الشَّياطِينِ بنَفخٍ مِن مَلَكٍ، إنَّما هو لِإِظهارِ عَظَمةِ الوَحيِ القُرآنِيِّ وعُلُوِّه ورِفعَتِه.
ثمَّ إنَّ هذا البَيانَ القُرآنِيَّ المَهِيبَ، وإِظهارَ الحُشُودِ السَّماوِيّةِ العَظِيمةِ، ليس تَعبِيرًا عن أنَّ لِلجِنِّ والشَّياطِينِ قُوّةً واقتِدارًا بحَيثُ تَسُوقُ أَهلَ السَّماواتِ إلى المُبارَزةِ والمُدافَعةِ مَعَهُم، بل هي إِشارةٌ إلى أنَّه لا دَخْلَ لِلشَّياطِينِ والجِنِّ في أيِّ مَوضِعٍ مِن مَواضِعِ هذا الطَّرِيقِ الطَّوِيلِ المُمتَدِّ مِن قَلبِ الرَّسُولِ الأَعظَمِ ﷺ إلى عالَمِ السَّماواتِ إلى العَرشِ الأَعظَمِ.
وبهذا يُعبِّـرُ القُرآنُ الكَرِيمُ عن أنَّ الوَحيَ القُرآنِيَّ حَقِيقةٌ جَلِيلةٌ حَقِيقٌ أن يكُونَ مَوضِعَ ذِكرٍ وبَحثٍ لَدَى المَلَأِ الأَعلَى والمَلائِكةِ كُلِّهِم في تلك السَّماواتِ الهائِلةِ، بحَيثُ يُضطَرُّ الشَّياطِينُ إلى الصُّعُودِ إلى السَّماواتِ لِيَنالُوا شَيئًا مِن أَخبارِها، فيُرجَمُونَ ولا يَنالُونَ شَيئًا..
فيُشِيرُ القُرآنُ الكَرِيمُ بهذا الرَّجْمِ إلى أنَّ الوَحيَ القُرآنِيَّ النّازِلَ على قَلبِ مُحمَّدٍ ﷺ، وجِبْرائِيلَ عَلَيهِ السَّلَام الَّذي نَزَل إلى مَجلِسِه، والحَقائِقَ الغَيبِيّةَ المَشهُودةَ لِنَظَرِه، سَلِيمةٌ، صائِبةٌ، صَحِيحةٌ، لا تَدخُلُ فيها شُبْهةٌ قَطُّ وفي أيِّ جِهةٍ مِنها قَطُّ.. وهكَذا يُعبِّـرُ القُرآنُ الكَرِيمُ عن هذه المَسأَلةِ بإِعجازِه البَلِيغِ.
أمّا مُشاهَدةُ الجَنّةِ في أَقرَبِ الأَماكِنِ وقَطْفُ الثِّمارِ مِنها أَحيانًا، معَ كَونِها بَعِيدةً كلَّ البُعدِ عَنّا وكَونِها مِن عالَمِ البَقاءِ، فبِدَلالةِ التَّمثِيلَينِ السّابِقَينِ يُفهَمُ: أنَّ هذا العالَمَ الفانِيَ -عالَمَ الشَّهادةِ- حِجابٌ لِعالَمِ الغَيبِ وعالَمِ البَقاءِ.. وأنَّه يُمكِنُ رُؤيةُ الجَنّةِ في كلِّ جِهةِ معَ أنَّ مَركَزَها العَظِيمَ في مَكانٍ بَعِيدٍ جِدًّا، وذلك بواسِطةِ مِرآةِ عالَمِ المِثالِ؛ ويُمكِنُ أَيضًا بواسِطةِ الإِيمانِ البالِغِ دَرَجةَ حَقِّ اليَقِينِ أن تكُونَ لِلجَنّةِ دَوائِرُ ومُستَعمَراتٌ (لا مُشاحّةَ في الأَمثالِ) في هذا العالَمِ الفانِي، ويُمكِنُ أن تكُونَ هُناك مُخابَراتٌ واتِّصالاتٌ مَعَها بالأَرواحِ الرَّفِيعةِ وبِهاتِفِ القَلبِ، ويُمكِنُ أن تَرِدَ مِنها الثِّمارُ.
أمّا انشِغالُ دائِرةٍ كُلِّيّةٍ بحادِثةٍ شَخصِيّةٍ جُزئيّةٍ، أي: ما وَرَد في التَّفاسِيرِ مِن أنَّ الشَّياطِينَ يَصعَدُونَ إلى السَّماواتِ ويَستَرِقُونَ السَّمْعَ هُناك ويَأتُونَ بأَخبارٍ غَيبِيّةٍ مُلَفَّقةٍ لِلكُهّانِ، فيَنبَغِي أن تكُونَ حَقِيقَتُه هكَذا: إنَّه لا صُعُودَ إلى عاصِمةِ عالَمِ السَّماواتِ لِتَلَقِّي ذلك الخَبَرِ الجُزئِيِّ، بل هو صُعُودٌ إلى بَعضِ المَواقِعِ الجُزئيّةِ في جَوِّ الهَواءِ -الَّذي يَشمَلُه مَعنَى السَّماواتِ- والَّذي فيه مَواضِعُ بمَثابةِ مَخافِرَ (لا مُشاحّةَ في الأَمثالِ) لِلسَّماواتِ، وتَقَعُ عَلاقاتٌ في هذه المَواقِعِ الجُزئيّةِ معَ مَملَكةِ الأَرضِ.. فالشَّياطِينُ يَستَرِقُونَ السَّمْعَ في تلك المَواقِعِ الجُزئيّةِ لِتَلَقِّي الأَحداثِ الجُزئيّةِ، حتَّى إنَّ قَلبَ الإِنسانِ هو أَحَدُ تلك المَقاماتِ حَيثُ يُبارِزُ فيه مَلَكُ الإِلهامِ الشَّيطانَ الخاصَّ.
أمّا حَقائِقُ القُرآنِ والإِيمانِ وحَوادِثُ الرَّسُولِ ﷺ، فمَهْما كانَت جُزئيّةً فهِي بمَثابةِ أَعظَمِ حادِثةٍ وأَجَلِّها في دائِرةِ السَّماواتِ وفي العَرشِ الأَعظَمِ.. حتَّى كأنَّها تُنشَرُ في الصُّحُفِ المَعنَوِيّةِ لِلمُقَدَّراتِ الإِلٰهِيّةِ الكَونيّةِ (لا مُشاحّةَ في الأَمثالِ) بحَيثُ يُتَحدَّثُ عن مَسائِلِها في كلِّ زاوِيةٍ مِن زَوايا السَّماواتِ، حَيثُ إنَّه ابتِداءً مِن قَلبِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ وانتِهاءً إلى دائِرةِ العَرشِ الأَعظَمِ، مَصُونٌ مِن أيِّ تَدَخُّلٍ كانَ مِنَ الشَّياطِينِ.
فإنَّ القُرآنَ معَ بَيانِه لِهذا إنَّما يُعبِّرُ بتلك الآياتِ الجَلِيلةِ أنَّه: لا حِيلةَ ولا وَسِيلةَ لِلشَّيطانِ لِتَلَقِّي أَخبارِ السَّماواتِ إلّا استِراقُ السَّمْعِ.
فيُبيِّنُ القُرآنُ بهذا بَيانًا مُعجِزًا بَلِيغًا: ما أَعظَمَ الوَحيَ القُرآنِيَّ وما أَعظَمَ قَدَرَه! وما أَصدَقَ نُبُوّةَ مُحمَّدٍ ﷺ وما أَصْوَبَها! حتَّى لا يُمكِنُ الدُّنُوُّ إلَيْهِما بأيِّ شُبهةٍ كانَت وبأيِّ شَكلٍ مِنَ الأَشكالِ.
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ
❀ ❀ ❀