اللمعة التاسعة والعشرون
[الأذكار المأثورة -كالتسبيح والتحميد والتهليل.. الخ- لها معانٍ لا تُحصى عددًا، ومراتب لا تتناهى سموًّا، وفي هذه اللمعة يَعرِض الأستاذ النورسي بعضَ مراتب الكلمة القدسية: «الله أكبر»]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

[اللمعة التاسعة والعشرون]
اللمعة التاسعة والعشرون
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
[مقدمة]
إفادة المرام
لَقَدِ امتَزَجَ قَلبِي بعَقلِي مُنذُ ثَلاثةَ عَشَرَ عامًا ضِمنَ انتِهاجِ مَسلَكِ التَّفكُّرِ الَّذي يَأمُرُ به القُرآنُ المُعجِزُ البَيانِ كقَولِه تَعالَى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾، ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، ﴿لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، وأَمثالِها مِنَ الآياتِ الَّتي تَحُثُّ على التَّفكُّرِ مِثلَما يَحُثُّ علَيْه حَثًّا عَظِيمًا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ كقَولِه ﷺ: (تَفكُّرُ ساعةٍ خَيرٌ مِن عِبادةِ سَنةٍ).
ولَقَد تَوارَدَت في غُضُونِ هذه السَّنَواتِ الثَّلاثِينَ على عَقلِي وقَلبِي -ضِمنَ انتِهاجِ مَسلَكِ التَّفكُّرِ- أَنوارٌ عَظِيمةٌ وحَقائِقُ مُتَسَلسِلةٌ طَوِيلةٌ، فوَضَعتُ بِضْعَ كَلِماتٍ مِن قَبِيلِ الإِشاراتِ، لا لِلدَّلالةِ على تلك الأَنوارِ، بل لِلإِشارةِ إلى وُجُودِها ولِتَسهِيلِ التَّفكُّرِ فيها ولِلمُحافَظةِ على انتِظامِها.
وكُنتُ أُرَدِّدُ بَينِي وبينَ نَفسِي تلك الكَلِماتِ لِسانًا بعِباراتٍ عَرَبيّةٍ في غايةِ الِاختِلافِ، وعلى الرَّغمِ مِن تَكرارِي لها آلافَ المَرّاتِ خِلالَ هذه المُدّةِ الطَّوِيلةِ وأنا أَنتَهِجُ هذا التَّفكُّرَ، لم يَطْرَأ عَلَيَّ السَّأَمُ، ولم يَعتَرِ تَذَوُّقَها النَّقصُ، ولم تَنتَفِ حاجةُ الرُّوحِ إلَيْها، لِأنَّ ذلك التَّفكُّرَ لَمَعاتٌ تَلَمَّعَت مِن آياتِ القُرآنِ الكَرِيمِ، فتَمَثَّلَت فيه جَلْوةٌ مِن خَصائِصِ الآياتِ، تلك هي عَدَمُ الِاستِشعارِ بالسَّأَمِ والمَلَلِ، والحِفاظُ على حَلاوَتِها وطَراوَتِها.
وقد رَأَيتُ في الآوِنةِ الأَخِيرةِ أنَّ العُقدةَ الحَياتيّةَ القَوِيّةَ والأَنوارَ السّاطِعةَ الَّتي تَحتَوِيها أَجزاءُ “رَسائِلِ النُّورِ” ما هِي إلّا لَمَعاتُ سِلسِلةِ ذلك التَّفكُّرِ، فنَوَيتُ كِتابةَ مَجمُوعِها في أُخرَياتِ أَيّامِ عُمُرِي، على أَمَلِ تَأثِيرِها في غَيرِي مِثلَما أَثَّرَت فِيَّ.. وسيَكُونُ لِمَجمُوعِها قُوّةٌ وقِيمةٌ أُخرَى وإِن أُدرِجَت أَهَمُّ أَجزائِها في الرَّسائِلِ.
ولَمّا كانَ آخِرُ المَطافِ في رِحلةِ العُمُرِ غَيرَ مُعيَّنٍ، وأنَّ أَوْضاعِي في سِجنِ “أَسكِي شَهِر” قد بَلَغَت حَدًّا أَشَدَّ مِنَ المَوتِ بكَثِيرٍ، فقد كَتَبتُ تلك السِّلسِلةَ مِنَ التَّفكُّرِ دُونَ انتِظارٍ لِآخِرِ الحَياةِ، ودُونَ تَغيِيرٍ فيها، وبِناءً على رَغبةِ إِخوةِ النُّورِ وإِصرارِهِم بقَصدِ استِفادَتِهِم.. وجَعَلتُها في سَبعةِ أَبوابٍ.
[الأبواب هي:الباب الأول: في «سبحان الله».
الباب الثاني: في «الحمد لله».
الباب الثالث: في مراتب «الله أكبر».
الباب الرابع: في مرتبةٍ من مراتب معرفة الله.
الباب الخامس: في «حسبنا الله ونعم الوكيل».
الباب السادس: في «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
الباب السابع: في شهادةِ: «نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله».]
(باقِي الأَبوابِ السِّتّةِ لِهذِه اللَّمْعةِ نُشِرَت في مَجمُوعةِ “اللَّمَعات” بِاللُّغةِ العُثمانيّةِ).
❀ ❀ ❀
[مراتب “الله أكبر»]
الباب الثالث: في مراتب «الله أكبر».
“سنَذكُرُ سَبْعًا مِن ثَلاثٍ وثَلاثِينَ مَرتَبةً لِهذا البابِ، حَيثُ قد ذُكِرَ قِسمٌ مُهِمٌّ مِن تلك المَراتِبِ في المَقامِ الثّاني مِنَ (المَكتُوبِ العِشرِينَ)، وفي نِهايةِ المَوقِفِ الثّاني مِنَ (الكَلِمةِ الثّانِيةِ والثَّلاثِينَ)، وفي بِدايةِ المَوقِفِ الثّالِثِ مِنها.. فمَن شاءَ أن يَطَّلِعَ على حَقِيقةِ هذه المَراتِبِ، فليُراجِعْ تلك الرَّسائِلَ”.
[المرتبة الأولى: العالَم الصغير والعالَم الكبير]
المَرتبةُ الأُولَى:
﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا.﴾ لَبَّيك وسَعْدَيك..
جلَّ جَلالُه اللهُ أَكْبَرُ مِن كُلِّ شيءٍ قُدرةً وعِلمًا، إذ هُوَ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ الَّذي صَنَعَ الإنسانَ بقُدرَتِه كالكائِناتِ، وكَتَبَ الكائِناتِ بقَلَمِ قَدَرِه كَما كَتَبَ الإنسانَ بذَلِك القَلَمِ؛ إذ ذاك العالَمُ الكَبِيرُ كهَذا العالَمِ الصَّغِيرِ مَصنُوعُ قُدرَتِه مَكتُوبُ قَدَرِهِ..
إبداعُه لِذاك صَيَّـرَه مَسْجِدًا.. إِيجادُه لهذا صَيَّـرَه ساجِدًا.
إنْشاؤُه لِذاك صَيَّـرَ ذاك مُلكًا.. بِناؤُه لِهذا صَيَّـرَه مَمْلُوكًا.
صَنْعَتُه في ذاك تَظاهَرَتْ كِتابًا.. صِبْغَتُه في هَذا تَزاهَرَتْ خِطابًا.
قُدرَتُه في ذاك تُظهِرُ حِشمَتَهُ.. رَحْمَتُه في هَذا تَنظِمُ نِعْمَتَهُ.
حِشمَتُه في ذاك تَشْهَدُ هُوَ الواحِدُ.. نِعْمَتُه في هَذا تُعلِنُ هُوَ الأَحَدُ.
سِكَّتُه في ذاك في الكُلِّ والأَجْزاءِ سُكُونًا حَرَكةً.. خاتَمُه في هَذا في الجِسمِ والأَعْضاءِ حُجَيْرةً ذَرّةً.
فانْظُرْ إلى آثارِه المُتَّسِقةِ كَيفَ تَرَى -كالفَلَقِ- سَخاوةً مُطْلَقةً مَعَ انْتِظامٍ مُطْلَقٍ.. في سُرْعةٍ مُطْلَقةٍ مَعَ اتِّزانٍ مُطْلَقٍ.. في سُهُولةٍ مُطْلَقةٍ مَعَ إتْقانٍ مُطْلَقٍ.. في وُسْعةٍ مُطْلَقةٍ مَعَ حُسْنِ صُنْعٍ مُطْلَقٍ.. في بُعْدَةٍ مُطْلَقةٍ مَعَ اتِّفاقٍ مُطْلَقٍ.. في خِلْطةٍ مُطْلَقةٍ مَعَ امْتِيازٍ مُطْلَقٍ.. في رُخْصةٍ مُطْلَقةٍ مَعَ غُلُوٍّ مُطْلَق!!
فهَذِه الكَيْفيّةُ المَشْهُودةُ شاهِدةٌ للعاقِلِ المُحَقِّقِ، مُجْبِرةٌ لِلأَحْمَقِ المُنافِقِ على قَبُولِ الصَّنْعةِ والوَحْدةِ لِلحَقِّ ذِي القُدْرةِ المُطْلَقةِ، وهُوَ العَلِيمُ المُطْلَقُ.
وفي الوَحْدةِ سُهُولةٌ مُطْلَقةٌ، وفي الكَثْرةِ والشِّرْكةِ صُعُوبةٌ مُنغَلِقةٌ:
إنْ أُسْنِدَ كُلُّ الأَشياءِ لِلواحِدِ، فالكائِناتُ كالنَّخْلةِ، والنَّخْلةُ كالثَّمَرةِ سُهُولةً في الِابْتِداعِ؛ وإنْ أُسْنِدَ للِكَثْرةِ فالنَّخْلةُ كالكائِناتِ، والثَّمَرةُ كالشَّجَراتِ صُعُوبةً في الامْتِناعِ، إذِ الواحِدُ بِالفِعْلِ الواحِدِ يُحَصِّلُ نَتِيجةً ووَضْعِيّةً لِلكَثيرِ بِلا كُلْفةٍ ولا مُباشَرةٍ؛ لَوْ أُحِيلَتْ تِلْك الوَضْعيّةُ والنَّتِيجةُ إلى الكَثْرةِ لا يُمكِنُ أن تَصِلَ إلَيْها إلّا بِتَكَلُّفاتٍ ومُباشَراتٍ ومُشاجَراتٍ كالأَمِيرِ مَعَ النَّفَراتِ، والبانِي مَعَ الحَجَراتِ، والأَرضِ مَعَ السَّيّاراتِ، والفَوّارةِ مَعَ القَطَراتِ، ونُقطةِ المَرْكَزِ مَعَ النُّقَطِ في الدّائِرةِ.
بِسِرِّ أنَّ في الوَحْدةِ يَقُومُ الِانتِسابُ مَقامَ قُدْرةٍ غَيْرِ مَحْدُودةٍ، ولا يَضْطَرُّ السَّبَبُ لِحَمْلِ مَنابعِ قُوَّتِه، ويَتَعاظَمُ الأثَرُ بالنِّسْبةِ إلى المُسْنَدِ إلَيهِ.. وفي الشِّرْكةِ يَضْطَرُّ كُلُّ سَبَبٍ لِحَمْلِ مَنابعِ قُوَّتِهِ؛ فيَتَصاغَرُ الأثَرُ بِنِسْبةِ جِرْمِهِ. ومِن هُنا غَلَبَتِ النَّمْلةُ والذُّبابةُ على الجَبابِرةِ، وحَمَلَتِ النُّواةُ الصَّغِيرةُ شَجَرةً عَظِيمةً. وبِسِرِّ أنَّ في إِسنادِ كُلِّ الأَشياءِ إلى الواحِدِ لا يَكُونُ الإِيجادُ مِنَ العَدَمِ المُطْلَقِ، بل يَكُونُ الإِيجادُ عَيْنَ نَقلِ المَوجُودِ العِلمِيِّ إلى الوُجُودِ الخارِجِيِّ، كنَقْلِ الصُّورةِ المُتَمَثِّلةِ في المِرآةِ إلى الصَّحِيفةِ الفُوطُوغْرافِيّةِ لِتَثْبِيتِ وُجُودٍ خارِجِيٍّ لَها بِكَمالِ السُّهُولةِ، أو إِظهارِ الخَطِّ المَكتُوبِ بِمِدادٍ لا يُرى، بِواسِطةِ مادّةٍ مُظهِرةٍ للِكِتابةِ المَسْتُورةِ؛ وفي إِسنادِ الأَشياءِ إلى الأَسبابِ والكَثْرةِ يَلْزَمُ الإِيجادُ مِنَ العَدَمِ المُطْلَقِ، وهُوَ إنْ لَم يَكُنْ مُحالًا يَكُونُ أَصْعَبَ الأَشْياءِ.. فالسُّهُولةُ في الوَحْدةِ واصِلةٌ إلى دَرَجةِ الوُجُوبِ، والصُّعُوبةُ في الكَثْرةِ واصِلةٌ إلى دَرَجةِ الِامتِناعِ، وبِحِكْمةِ أنَّ في الوَحْدةِ يُمْكِنُ الإِبْداعُ وإِيجادُ “الأَيْسِ مِنَ اللَّيْسِ”1الأَيْس: أي مَوجُود. واللَّيْس: أي: عدمٌ صِرف.، يَعْنِي إِبْداعَ المَوْجُودِ مِنَ العَدَمِ الصِّرْفِ بِلا مُدّةٍ ولا مادّةٍ، وإِفراغَ الذَّرّاتِ في القالَبِ العِلْمِيِّ بلا كُلْفةٍ ولا خِلْطةٍ. وفي الشِّرْكةِ والكَثْرةِ لا يُمْكِنُ الإِبْداعُ مِنَ العَدَمِ بِاتِّفاقِ كُلِّ أَهلِ العَقْلِ.
فلا بُدَّ لِوُجودِ ذي حَياةٍ جَمْعُ ذَرَّاتٍ مُنْتَشِرةٍ في الأَرضِ والعَناصِرِ؛ وبِعَدَمِ القالَبِ العِلْميِّ يَلْزَمُ لِمُحافَظةِ الذَّرَّاتِ في جِسْمِ ذِي الحَياةِ وُجُودُ عِلْمٍ كُلِّيٍّ، وإِرادةٍ مُطْلَقةٍ في كُلِّ ذَرّةٍ؛ ومَعَ ذلِك إنَّ الشُّركاءَ مُسْتَغْنِيةٌ عنها ومُمْتَنِعةٌ بالذَّاتِ وتَحَكُّمِيّةٌ مَحْضةٌ، لا أَمارةَ علَيْها ولا إِشارةَ إلَيْها في شَيءٍ مِنَ المَوْجُوداتِ، إذ خِلْقةُ السَّماواتِ والأَرضِ تَسْتَلْزِمُ قُدْرةً كامِلةً غَيْرَ مُتَناهِيةٍ بالضَّرُورةِ، فاسْتُغْنِيَ عَنِ الشُّرَكاءِ؛ وإلَّا لَزِمَ تَحْدِيدُ وانْتِهاءُ قُدْرةٍ كامِلةٍ غَيْرِ مُتَناهِيةٍ في وَقْتِ عَدَمِ التَّناهِي بِقُوّةٍ مُتَناهِيةٍ بِلا ضَرُورةٍ، مَعَ الضَّرُورةِ في عَكْسِه؛ وهُوَ مُحالٌ في خَمْسةِ أَوْجُهٍ.. فامْتَنَعَتِ الشُّرَكاءُ، مَعَ أنَّ الشُّرَكاءَ المُمتَنِعةَ بِتِلك الوُجُوه لا إِشارةَ إلى وُجُودِها، ولا أَمارةَ على تَحَقُّقِها في شَيءٍ مِنَ المَوجُوداتِ.
فقدِ استَفسَرْنا عن هذه المَسأَلةِ في “المَوقِفِ الأَوَّلِ مِنَ الكَلِمةِ الثّانيةِ والثَّلاثِينَ” مِنَ الذَّرّاتِ إلى السَّيّاراتِ، وفي “المَوقِفِ الثّاني” مِنَ السَّماواتِ إلى التَّشَخُّصاتِ الوَجْهِيّةِ، فأَعطَت جَمِيعُها جَوابَ رَدِّ الشِّركِ بإِراءةِ سِكّةِ التَّوحِيدِ.
فكَما لا شُرَكاءَ لَه، كذَلِك لا مُعِينَ ولا وُزَراءَ لَهُ؛ وما الأَسبابُ إلّا حِجابٌ رَقِيقٌ على تَصَرُّفِ القُدْرةِ الأَزَلِيّةِ، فلَيسَ لَها تاثِيرٌ إِيجادِيٌّ في نَفسِ الأَمرِ، إذ أَشْرَفُ الأَسبابِ وأَوْسَعُها اختِيارًا هُوَ الإِنسانُ، مَعَ أنَّه لَيسَ في يَدِه مِن أَظْهَرِ أَفْعالِه الِاختِياريّةِ كَـ”الأَكْلِ والكَلامِ والفِكْرِ” مِن مِئاتِ أَجْزاءٍ إلّا جُزْءٌ واحِدٌ مَشْكُوكٌ.. فإذا كانَ السَّبَبُ الأَشْرَفُ والأَوْسَعُ اختِيارًا مَغْلُولَ الأَيْدِي عَنِ التَّصَرُّفِ الحَقِيقيِّ كَما تَرَى؛ فكَيفَ يُمكِنُ أن تَكُونَ البَهِيماتُ والجَماداتُ شَرِيكةً في الإِيجادِ والرُّبُوبِيّةِ لِخالِقِ الأَرضِ والسَّماواتِ؟!
فكَما لا يُمكِنُ أن يَكُونَ الظَّرْفُ الَّذي وَضَعَ السُّلطانُ فيه الهَدِيّةَ، أوِ المِندِيلُ الَّذي لَفَّ فيه العَطِيّةَ، أوِ النَّفَرُ الَّذي أَرسَلَ على يَدِه النِّعْمةَ إلَيْك، شُرَكاءَ للِسُّلْطانِ في سَلْطَنَتِهِ؛ كذَلِك لا يُمكِنُ أن تَكُونَ الأَسبابُ المُرْسَلةُ على أَيْدِيها النِّعَمُ إلَيْنا، والظُرُوفُ الَّتي هي صَنادِيقُ للِنِّعَمِ المُدَّخَرةِ لَنا، والأَسْبابُ الَّتي الْتَفَّتْ على عَطايا إِلٰهِيّةٍ مُهْداةٍ إلَيْنا، شُرَكاءَ أَعْوانًا أو وَسائِطَ مُؤَثِّرةً.
[المرتبة الثانية: موجودات الأرض والسموات]
المَرتبةُ الثّانيةُ:
جَلَّ جَلالُه اللهُ أَكبَرُ مِن كُلِّ شَيءٍ قُدْرةً وعِلْمًا، إذ هُوَ الخَلّاقُ العَلِيمُ الصّانِعُ الحَكِيمُ الرَّحمٰنُ الرَّحِيمُ الَّذي هذِه المَوجُوداتُ الأَرضِيّةُ والأَجْرامُ العُلوِيّةُ في بُسْتانِ الكائِناتِ مُعجِزاتُ قُدْرةِ خَلّاقٍ عَلِيمٍ بِالبَداهة.
وهذه النَّباتاتُ المُتَلَوِّنَة المُتَزَيِّنةُ المَنْثُورةُ، وهَذِه الحَيَواناتُ المُتَنَوِّعةُ المُتَبَرِّجةُ المَنْشُورةُ في حَدِيقةِ الأَرضِ خَوارِقُ صَنْعةِ صانِعٍ حَكِيمٍ بِالضَّرُورةِ، وهذه الأَزْهارُ المُتَبَسِّمةُ والأَثْمارُ المُتَزَيِّنةُ في جِنانِ هذِه الحَديقةِ هَدايا رَحْمةِ رَحْمٰنٍ رَحِيمٍ بالمُشاهَدةِ..
تَشْهَدُ هاتِيك وتُنادِي تاك وتُعْلِنُ هذِه بِأَنَّ خَلّاقَ هاتيك ومُصَوِّرَ تاك وواهِبَ هذِه على كُلِّ شيءٍ قَديرٌ وبِكُلِّ شيءٍ عَليمٌ، قَد وسِعَ كُلَّ شَيءٍ رَحْمةً وعِلْمًا، تَتَساوَى بِالنِّسْبةِ إلى قُدْرَتِه الذَّرّاتُ والنُّجُومُ والقَلِيلُ والكَثِيرُ والصَّغِيرُ والكَبِيرُ والمُتَناهِي وغَيرُ المُتَناهِي.
وكُلُّ الوُقُوعاتِ الماضِيةِ وغَرائِبُها مُعْجِزاتُ صَنْعةِ صانِعٍ حَكِيمٍ تَشْهَدُ على أنَّ ذلك الصَّانِعَ قَدِيرٌ على كُلِّ الإِمْكاناتِ الِاستِقبالِيّةِ وعَجائِبِها، إذ هُوَ الخَلّاقُ العَلِيمُ والعَزِيزُ الحَكِيمُ.
فسُبْحانَ مَن جَعَلَ حَدِيقةَ أَرضِه مَشْهَرَ صَنْعَتِه، مَحْشَرَ فِطْرَتِه، مَظْهَرَ قُدرَتِه، مَدارَ حِكْمَتِه، مَزْهَرَ رَحْمَتِه، مَزْرَعَ جَنَّتِه؛ مَمَرَّ المَخْلُوقاتِ، مَسِيلَ المَوجُوداتِ، مَكِيلَ المَصْنُوعاتِ.
فمُزَيَّنُ الحَيَواناتِ، مُنَقَّشُ الطُّيوراتِ، مُثَمَّرُ الشَّجَراتِ، مُزَهَّرُ النَّباتاتِ: مُعْجِزاتُ عِلمِه؛ خَوارِقُ صُنْعِه، هَدايا جُودِه، بَراهِينُ لُطْفِه.
تَبَسُّمُ الأَزهارِ مِن زِينةِ الأَثْمارِ، تَسَجُّعُ الأَطيارِ في نَسَمةِ الأَسْحارِ، تَهَزُّجُ الأَمطارِ على خُدُودِ الأزهارِ، تَرَحُّمُ الوالِداتِ على الأَطفالِ الصِّغارِ: تَعَرُّفُ وَدُودٍ، تَوَدُّدُ رَحمٰنٍ، تَرَحُّمُ حَنَّانٍ، تَحَنُّنُ مَنَّانٍ لِلجِنِّ والإِنسانِ، والرُّوحِ والحَيَوانِ، والمَلَكِ والجانِّ.
والبُذُورُ والأَثْمارُ، والحُبُوبُ والأَزهارُ: مُعجِزاتُ الحِكمةِ، خَوارِقُ الصَّنْعةِ، هَدايا الرَّحْمةِ، بَراهِينُ الوَحْدةِ، شَواهِدُ لُطْفِه في دارِ الآخِرةِ، شَواهِدُ صادِقةٌ بأنَّ خَلّاقَها على كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، وبِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ.
قد وَسِعَ كُلَّ شَيءٍ بِالرَّحْمةِ والعِلْمِ والخَلْقِ والتَّدْبِيرِ والصُّنْعِ والتَّصْوِيرِ؛ فالشَّمْسُ كالبِذْرةِ والنَّجْمُ كالزَّهْرةِ والأَرضُ كالحَبّةِ لا تَثْقُلُ علَيْه بِالخَلْقِ والتَّدْبِيرِ والصُّنعِ والتَّصْوِيرِ؛ فالبُذُورُ والأَثْمارُ مَرايا الوَحْدةِ في أَقطارِ الكَثْرةِ: إِشاراتُ القَدَرِ، رُمُوزاتُ القُدْرةِ بِأنَّ تِلك الكَثْرةَ مِن مَنْبَعِ الوَحْدةِ، تَصْدُرُ شاهِدةً لِوَحْدةِ الفاطِرِ في الصُّنْعِ والتَصْويرِ.. ثُمَّ إلى الوَحْدةِ تَنْتَهي ذاكِرةً لِحِكْمةِ الصّانِعِ في الخَلْقِ والتَّدْبِيرِ.. وتَلْوِيحاتُ الحِكْمةِ بأنَّ خالِقَ الكُلِّ بِكُلِّيّةِ النَّظَرِ إلى الجُزْئيِّ يَنْظُرُ ثُمَّ إلى جُزْئِه؛ إذْ إنْ كانَ ثَمَرًا فهُوَ المَقْصُودُ الأَظهَرُ مِن خَلقِ هَذا الشَّجَرِ، فالبَشَرُ ثَمَرٌ لِهَذِه الكائِناتِ، فهُوَ المَقْصُودُ الأَظْهَرُ لِخالِقِ المَوْجُوداتِ، والقَلبُ كالنَّواةِ، فهُوَ المِرآةُ الأَنْوَرُ لِصانِعِ المَخْلُوقاتِ، ومِن هذِه الحِكْمةِ فالإِنسانُ الأَصْغَرُ في هذِه الكائِناتِ هُوَ المَدارُ الأَظْهَرُ لِلنَّشْرِ والمَحشْرِ في هذِه المَوجُوداتِ، والتَّخْرِيبِ والتَّبْدِيلِ والتَّحوِيلِ والتَّجْدِيدِ لِهَذِه الكائِناتِ.
اللهُ أَكبَرُ يا كَبِيرُ، أَنتَ الَّذي لا تَهدِي العُقُولُ لِكُنْهِ عَظَمَتِه.
كِه لا إِلٰهَ إلّا هُوَ بَرابَرْ مِيزَنَنْدْ هَرْ شيء
دَمادَم جُو يَدَنْدْ: “ياحَقْ” سَراسَرْ كُوَيَدَنْدْ: “يا حَيّ”
[المرتبة الثالثة: حقائق الموجودات والكائنات]
المَرتبةُ الثّالثة2هذه المَرتَبةُ الثّالثةُ تَأخُذ بعَينِ الِاعتِبارِ زَهرةً جُزئيّةً وحَسناءَ جَمِيلةً، فالرَّبيعُ الزّاهرُ كتلك الزَّهرةِ والجَنّةُ العَظِيمةُ مِثلُها، إذ هُما مَظهَرانِ مِن مَظاهِرِ تلك المَرتَبةِ، كما أنَّ العالَمَ إِنسانٌ جَمِيلٌ وعَظِيمٌ، وكذا الحُورُ العِينُ والرُّوحانيّاتُ وجِنسُ الحَيَوانِ وصِنفُ الإِنسانِ.. كلٌّ مِنها كأنَّه في هَيْئةِ إِنسانٍ جَمِيلٍ يَعكِسُ بصَفَحاتِه هذه الأَسماءَ الَّتي تَعكِسُها هذه المَرتَبةُ.:
إِيضاحُها في رَأسِ “المَوقِفِ الثّالِثِ” مِنَ “الرِّسالةِ الثّانِيةِ والثَّلاثِينَ”.
اللهُ أَكبَرُ مِن كُلِّ شَيءٍ قُدْرةً وعِلمًا، إذ هُوَ القَدِيرُ المُقَدِّرُ العَلِيمُ الحَكِيمُ المُصَوِّرُ الكَرِيمُ اللَّطِيفُ المُزَيِّنُ المُنْعِمُ الوَدُودُ المُتَعَرِّفُ الرَّحْمٰنُ الرَّحِيمُ المُتَحَنِّنُ الجَمِيلُ ذُو الجَمالِ والكَمالِ المُطْلَقِ، النَّقّاشُ الأَزَليُّ الَّذي ما حَقائِقُ هَذِه الكائِناتِ كُلًّا وأَجزاءً وصَحائِفَ وطَبَقاتٍ، وما حَقائِقُ هذِه المَوجُوداتِ كُلِّـيًّا وجُزئِيًّا ووُجُودًا وبَقاءً:
إلّا خُطُوطُ قَلَمِ قَضائِه وقَدَرِه بِتَنْظِيمٍ وتَقدِيرٍ وعِلْمٍ وحِكْمةٍ.
وإلّا نُقُوشُ بَرْكارِ عِلْمِه وحِكْمَتِه بِصُنْعٍ وتَصوِيرٍ.
وإلّا تَزْيِيناتُ يَدِ بَيْضاءِ صُنْعِه وتَصوِيرِه وتَزْيِينِه وتَنْوِيرِه بِلُطْفٍ وكَرَمٍ.
وإلّا أَزاهِيرُ لَطائِفِ لُطْفِه وكَرَمِه وتَعَرُّفِه وتَوَدُّدِه بِرَحْمةٍ ونِعْمةٍ.
وإلّا ثَمَراتُ فيّاضِ عَيْنِ رَحْمَتِه ونِعْمَتِه وتَرَحُّمِه وتَحَنُّنِه بِجَمالٍ وكَمالٍ.
وإلّا لَمَعاتُ جَمالٍ سَرْمَديٍّ وكَمالٍ دَيْمُومِيٍّ بِشَهادةِ تَفانِيةِ المَرايا وسَيّالِيّةِ المَظاهِرِ، مَعَ دوام تَجَلِّي الجَمالِ على مَرِّ الفُصُولِ والعُصُورِ والأَدْوارِ، ومَعَ دَوامِ الإِنعامِ على مَرِّ الأَنامِ والأَيّامِ والأَعْوامِ.
نَعَم، تَفانِي المِرْآةِ.. زَوالُ المَوجُوداتِ مَعَ التَّجَلِّي الدّائِم مَعَ الفَيضِ المُلازِم: مِن أَظْهَرِ الظَّواهِرِ مِن أَبْهَرِ البَواهِرِ على أنَّ الجَمالَ الظّاهِرَ أنَّ الكَمالَ الزّاهِرَ لَيْسَا مُلْكَ المَظاهِر.. مِن أَفصَحِ تِبيانٍ مِن أَوضَحِ بُرْهانٍ للِجَمالِ المُجَرَّدِ لِلإِحسانِ المُجَدَّدِ لِلواجِبِ الوُجُودِ لِلباقِي الوَدُودِ.
نَعَم، فالأَثَرُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ بالبَداهةِ على الفِعْلِ المُكَمَّلِ، ثُمَّ الفِعْلُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ بِالضَّرُورةِ على الِاسمِ المُكَمَّلِ والفاعِلِ المُكَمَّل، ثمَّ الِاسمُ المُكمَّلُ يَدُلُّ بِلا رَيبٍ على الوَصْفِ المُكَمَّلِ، ثُمَّ الوَصْفُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ بِلا شَكٍّ على الشَّأنِ المُكَمَّلِ، ثُمَّ الشَّأنُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ بِاليَقينِ على كَمالِ الذّاتِ بِما يَلِيقُ بِالذّاتِ وهُوَ الحَقُّ اليَقِينُ.
[المرتبة الرابعة: مشهد التربية والتدبير]
المَرتبةُ الرّابعةُ:
جَلَّ جَلالُه اللهُ أَكبَرُ إذ هُوَ العَدْلُ العادِلُ الحَكَمُ الحاكِمُ الحَكِيمُ الأزَليُّ الَّذي أَسَّسَ بُنْيانَ شَجَرةِ هذِه الكائِناتِ في سِتّةِ أَيّامٍ بِأُصُولِ مَشِيئَتِه وحِكْمَتِه، وفَصَّلَها بِدَساتِيرِ قَضائِه وقَدَرِه، ونَظَّمَها بِقَوانِينِ عادَتِه وسُنَّتِه، وزَيَّنَها بِنَوامِيسِ عِنايَتِه ورَحْمَتِه، ونَوَّرَها بِجَلَواتِ أَسمائِه وصِفاتِه بِشَهاداتِ انْتِظاماتِ مَصنُوعاتِه وتَزَيُّناتِ مَوجُوداتِه وتَشابُهِها وتَناسُبِها وتَجاوُبِها وتَعاوُنِها وتَعانُقِها، وإِتقانِ الصَّنعةِ الشُّعُورِيّةِ في كُلِّ شَيءٍ على مِقْدارِ قامةِ قابِلِيَّتِه المُقَدَّرةِ بِتَقْدِيرِ القَدَرِ.
فالحِكْمةُ العامّةُ في تَنْظِيماتِها.. والعِنايةُ التّامّةُ في تَزيِيناتِها.. والرَّحْمةُ الواسِعةُ في تَلطِيفاتِها.. والأَرزاقُ والإِعاشةُ الشّامِلةُ في تَربِيَتِها.. والحَياةُ العَجِيبةُ الصَّنعةِ بِمَظْهَرِيَّتِها للِشُّؤونِ الذّاتِيّةِ لِفاطِرِها.. والمَحاسِنُ القَصْدِيّةُ في تَحْسِيناتِها.. ودَوامُ تَجَلِّي الجَمالِ المُنْعَكِسِ مَعَ زَوالِها.. والعِشْقُ الصّادِقُ في قَلْبِها لِمَعبُودِها.. والِانجِذابُ الظّاهِرُ في جَذْبَتِها.. واتِّفاقُ كُلِّ كُمَّلِها على وَحْدةِ فاطِرِها.. والتَّصَرُّفُ لِمَصالِحَ في أَجزائِها.. والتَّدْبِيرُ الحَكِيمُ لِنَباتاتِها.. والتَّربِيةُ الكَرِيمةُ لِحَيَواناتِها.. والِانتِظامُ المُكَمَّلُ في تَغيُّراتِ أَركانِها.. والغاياتُ الجَسِيمةُ في انتِظامِ كُلِّـيَّتِها.. والحُدُوثُ دَفْعةً مَعَ غايةِ كَمالِ حُسنِ صَنْعَتِها بِلا احتِياجٍ إلى مُدّةٍ ومادّةٍ.. والتَّشَخُّصاتُ الحَكِيمةُ مَعَ عَدَمِ تَحْدِيدِ تَرَدُّدِ إِمكاناتِها.. وقَضاءُ حاجاتِها على غايةِ كَثْرَتِها وتَنَوُّعِها في أَوْقاتِها اللّائِقةِ المُناسِبةِ، مِن حَيثُ لا يُحتَسَبُ ومِن حَيثُ لا يُشْعَرُ مَعَ قِصَرِ أَيْدِيها عن أَصغَرِ مَطالِبِها.. والقُوّةُ المُطلَقةُ في مَعْدِنِ ضَعْفِها.. والقُدْرةُ المُطلَقةُ في مَنبَعِ عَجْزِها.. والحَياةُ الظّاهِرةُ في جُمُودِها.. والشُّعُورُ المُحِيطُ في جَهْلِها.. والِانتِظامُ المُكَمَّلُ في تَغَيُّراتِها المُسْتَلزِمُ لِوُجُودِ المُغَيِّرِ الغَيرِ المُتَغَيِّر.. والِاتِّفاقُ في تَسْبِيحاتِها كالدَّوائِرِ المُتَداخِلةِ المُتَّحِدةِ المَرْكَزِ.. والمَقبُولِيّةُ في دَعَواتِها الثَّلاثِ “بِلِسانِ استِعدادِها، وبِلِسانِ احتِياجاتِها الفِطْرِيّةِ، وبِلِسانِ اضْطِرارِها”.. والمُناجاةُ والشُّهوداتُ والفُيُوضاتُ في عِباداتِها.. والِانتظامُ في قَدَرَيْها.. والِاطْمِئْنانُ بِذِكرِ فاطِرِها.. وكَونُ العِبادةِ فيها خَيْطَ الوُصْلةِ بَينَ مُنْتَهاها ومَبْدَئِها.. وسَببَ ظُهُورِ كَمالِها ولِتَحَقُّقِ مَقاصِدِ صانِعِها..
وهكَذا بِسائِرِ شُؤُوناتِها وأَحْوالِها وكَيفِيّاتِها شاهِداتٌ بِأنَّها كُلَّها بِتَدبِيرِ مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ واحِدٍ.. وفي تَربِيةِ مُرَبٍّ كَرِيمٍ أَحَدٍ صَمَدٍ.. وكُلُّها خُدّامُ سَيِّدٍ واحِدٍ.. وتَحتَ تَصَرُّفِ مُتَصَرِّفٍ واحِدٍ.. ومَصدَرُها قُدْرةُ واحِدٍ الَّذي تَظاهَرَتْ وتَكاثَرَتْ خَواتِيمُ وَحْدَتِه على كُلِّ مَكتُوبٍ مِن مَكتُوباتِه في كُلِّ صَفْحةٍ مِن صَفَحاتِ مَوجُوداتِه.
نَعَمْ: فكُلُّ زَهرةٍ وثَمَرٍ، وكُلُّ نَباتٍ وشَجَرٍ، بَل كُلُّ حَيَوانٍ وحَجَرٍ، بَل كُلُّ ذَرٍّ ومَدَرٍ، في كُلِّ وادٍ وجَبَلٍ، وكُلِّ بادٍ وقَفْرٍ خاتَمٌ بَيِّنُ النَّقشِ والأثَر، يُظْهِرُ لِدِقّةِ النَّظرِ بِأنَّ ذا ذاك الأَثرَ هُوَ كاتِبُ ذاك المَكانِ بِالعِبَرِ؛ فهُوَ كاتِبُ ظَهْرِ البَرِّ وبَطْنِ البَحْرِ؛ فهُوَ نَقّاشُ الشَّمْسِ والقَمَرِ في صَحيفةِ السَّماواتِ ذاتِ العِبَرِ. جَلَّ جَلالُ نَقّاشِها! الله أكْبَرُ!
كِه لا إِلٰهَ إلّا هُو بَرابَرْ مِيزَنَدْ عالَم
[المرتبة الخامسة: مشهد العظمة والعزة]
المَرتبةُ الخامِسةُ3لقد وُضِّحَت هذه المَرتَبةُ في ذَيلِ المَوقِفِ الأوَّلِ مِنَ “الكَلِمةِ الثّانيةِ والثَّلاثِينَ”، وفي المَقامِ الثّاني مِنَ “المَكتُوبِ العِشرِينَ”.:
اللهُ أَكبَرُ إذ هُوَ الخَلّاقُ القَدِيرُ المُصَوِّرُ البَصِيرُ الَّذي هذِه الأَجرامُ العُلوِيّةُ والكَواكِبُ الدُّرِّيّةُ نَيِّراتُ بَراهِينِ أُلُوهِيَّتِه وعَظَمَتِه، وشُعاعاتُ شَواهِدِ رُبُوبِيَّتِه وعِزَّتِهِ؛ تَشْهَدُ وتُنادِي على شَعْشَعةِ سَلْطَنةِ رُبُوبِيَّتِه، وتُنادِي على وُسْعةِ حُكْمِه وحِكْمَتِه، وعلى حِشْمةِ عَظَمةِ قُدْرَتِه.. فاسْتَمِعْ إلى آيةِ:
﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾، ثُمَّ انظُرْ إلى وَجْهِ السَّماءِ، كَيفَ تَرَى سُكُوتًا في سُكُونةٍ، حَرَكةً في حِكْمةٍ، تَلَألُؤًا في حِشْمةٍ، تَبَسُّمًا في زِينةٍ مَعَ انتَظامِ الخِلقةِ مَعَ اتِّزانِ الصَّنْعةِ.
تَشَعْشُعُ سِراجِها لِتَبدِيل المَواسِمِ، تَهَلهُلُ مِصْباحِها لِتَنوِيرِ المَعالِمِ، تَلألُؤُ نُجُومِها لِتَزيِينِ العَوالِمِ.. تُعْلِنُ لِأَهلِ النُّهَى سَلْطَنةً بلا انتِهاءٍ لِتَدبيرِ هذا العالَمِ.
فذَلِك الخَلّاقُ القَديرُ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيءٍ، ومُرِيدٌ بِإِرادةٍ شامِلةٍ ما شاءَ كانَ وما لَم يَشَأْ لَم يَكُنْ؛ وهُوَ قَدِيرٌ على كُلِّ شَيءٍ بِقُدْرةٍ مُطْلَقةٍ مُحِيطةٍ ذاتِيّةٍ.. وكَما لا يُمكِنُ ولا يُتَصوَّرُ وُجُودُ هذِه الشَّمسِ في هذا اليَومِ بِلا ضِياءٍ ولا حَرارةٍ، كذَلِك لا يُمْكِنُ ولا يُتَصوَّرُ وُجُودُ إلٰهٍ خالِقٍ للِسَّماواتِ بِلا عِلْمٍ مُحِيطٍ، وبِلا قُدرةٍ مُطلَقةٍ، فهُوَ بِالضَّرُورةِ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيءٍ بِعِلمٍ مُحِيطٍ لازِمٍ ذاتِيٍّ لِلذّاتِ، يَلزَمُ تَعَلُّقُ ذلِك العِلمِ بِكُلِّ الأَشياءِ لا يُمكِنُ أن يَنْفَكَّ عَنْه شَيءٌ بِسِرِّ الحُضُورِ والشُّهُودِ والنُّفُوذِ والإِحاطةِ النُّورانِيّةِ.
فما يُشاهَدُ في جَمِيعِ المَوجُوداتِ مِنَ الِانْتِظاماتِ المَوزُونةِ، والِاتِّزاناتِ المَنْظُومةِ، والحِكَمِ العامّةِ، والعِناياتِ التّامّةِ، والأَقْدارِ المُنْتَظَمةِ، والأَقْضِيةِ المُثْمِرةِ، والآجالِ المُعَيَّنةِ، والأَرزاقِ المُقَنَّنةِ، والإِتقاناتِ المُفَنَّنةِ، والِاهتِماماتِ المُزَيَّنةِ، وغايةِ كَمالِ الِامتِيازِ والِاتِّزانِ والِانتِظامِ والإِتقانِ، والسُّهُولةِ المُطلَقةِ، شاهِداتٌ على إِحاطةِ عِلمِ عَلّامِ الغُيُوبِ بِكُلِّ شَيءٍ.
وإنَّ آيةَ ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ تَدُلُّ على أنَّ الوُجُودَ في الشَّيءِ يَسْتَلزِمُ العِلمَ بِه، ونُورَ الوُجُودِ في الأَشياءِ يَستَلزِمُ نُورَ العِلمِ فيها.
فنِسبةُ دَلالةِ حُسنِ صَنْعةِ الإِنسانِ على شُعُورِه، إلى نِسبةِ دَلالةِ خِلْقةِ الإِنسانِ على عِلمِ خالِقِه، كنِسبةِ لُمَيْعةِ نُجَيْمةِ الذُّبَيْبةِ في اللَّيلةِ الدَّهْماءِ إلى شَعشَعةِ الشَّمْسِ في نِصفِ النَّهارِ على وَجهِ الغَبْراءِ.
وكَما أنَّه عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيءٍ فهُو مُرِيدٌ لكُلِّ شَيء، لا يُمكِنُ أن يَتَحَقَّقَ شَيءٌ بِدُونِ مَشِيئَتِه، وكما أنَّ القُدْرةَ تُؤَثِّرُ، وأنَّ العِلمَ يُمَيِّـزُ؛ كذَلِك إنَّ الإِرادةَ تُخَصِّصُ، ثُمَّ يَتَحَقَّقُ وُجُودُ الأَشياءِ. فالشَّواهِدُ على وُجُودِ إِرادَتِه تَعالَى واختِيارِه سُبحانَه بِعَدَدِ كَيفِيّاتِ الأَشياءِ وأَحوالِها وشُؤُوناتِها.
نَعَم، فتَنْظِيمُ المَوجُوداتِ وتَخْصِيصُها بِصِفاتِها مِن بَينِ الإِمكاناتِ الغَيرِ المَحْدُودةِ، ومِن بَينِ الطُّرُقِ العَقِيمةِ، ومِن بَينِ الِاحتِمالاتِ المُشَوَّشةِ، وتَحتَ أَيدِي السُّيُولِ المُتَشاكِسةِ، بِهَذا النِّظامِ الأَدَقِّ الأَرَقِّ، وتَوْزِينُها بِهذا المِيزانِ الحَسّاسِ الجَسّاسِ المَشْهُودَينِ؛ وأنَّ خَلْقَ المَوجُوداتِ المُختَلِفاتِ المُنتَظَماتِ الحَيَويّةِ مِنَ البَسائِطِ الجامِدةِ -كالإِنسانِ بِجِهازاتِه مِنَ النُّطفةِ، والطَّيْرِ بِجَوارِحِه مِنَ البَيضةِ، والشَّجَرِ بأَعْضائِه المُتَنَوِّعةِ مِنَ النَّواةِ- تَدُلُّ على أنَّ تَخَصُّصَ كُلِّ شَيءٍ وتَعَيُّنَه بإرادَتِه واختِيارِه ومَشِيئَتِه سُبْحانَهُ.
فكما أنَّ تَوافُقَ الأَشياءِ مِن جِنْسٍ، والأَفرادِ مِن نَوعٍ في أَساساتِ الأَعْضاءِ، يَدُلُّ بالضَّرُورةِ على أنَّ صانِعَها واحِدٌ أَحَدٌ؛ كَذلِك أنَّ تَمايُزَها في التَّشَخُّصاتِ الحَكِيمةِ المُشتَمِلةِ على عَلاماتٍ فارِقةٍ مُنْتَظَمةٍ، تَدُلُّ على أنَّ ذلك الصّانِعَ الواحِدَ الأَحَدَ هُوَ فاعِلٌ مُختارٌ مُرِيدٌ يَفعَلُ ما يَشاءُ ويَحكُمُ ما يُريدُ.. جَلَّ جَلالُهُ.
وكما أنَّ ذلِك الخَلّاقَ العَلِيمَ المُرِيدَ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيءٍ، ومُرِيدٌ لِكُلِّ شَيءٍ، لَه عِلمٌ مُحِيطٌ، وإِرادةٌ شامِلةٌ، واختِيارٌ تامٌّ؛ كَذلِك لَه قُدرةٌ كامِلةٌ ضَرُوريّةٌ ذاتِيّةٌ ناشِئةٌ مِنَ الذّاتِ ولازِمةٌ للِذّاتِ.. فمُحالٌ تَداخُلُ ضِدِّها، وإلّا لَزِمَ جَمْعُ الضِّدَّيْنِ المُحالُ بالِاتِّفاقِ.
فلا مَراتِبَ في تِلك القُدْرةِ، فتَتَساوَى بِالنِّسبةِ إلَيْها الذَّرّاتُ والنُّجُومُ، والقَلِيلُ والكَثِيرُ، والصَّغِيرُ والكَبِيرُ، والجُزئيُّ والكُلِّيُّ، والجُزءُ والكُلُّ، والإِنسانُ والعالَمُ، والنَّواةُ والشَّجَرُ:
بِسِرِّ النُّورانيّةِ والشَّفّافيّةِ والمُقابَلةِ والمُوازَنةِ والِانتِظامِ والِامتِثالِ.
بِشَهادةِ الِانتِظامِ المُطلَقِ والِاتِّزانِ المُطلَقِ والِامتِيازِ المُطلَقِ في السُّرعةِ والسُّهُولةِ والكَثرةِ المُطلَقاتِ.
بِسِرِّ إِمدادِ الواحِديّةِ ويُسْرِ الوَحْدةِ وتَجَلِّي الأَحَديّةِ. بِحِكمةِ الوُجُوبِ والتَّجَرُّدِ ومُبايَنةِ الماهِيّةِ.
بِسِرِّ عَدَمِ التَّقَيُّدِ وعَدَمِ التَّحَيُّزِ وعَدَمِ التَّجَزُّءِ.
بِحِكمةِ انقِلابِ العَوائِقِ والمَوانِع إلى الوَسائِلِ في التَّسْهيلِ إنِ احْتيجَ إلَيْه، والحالُ أنَّه لا احتِياجَ، كأَعْصابِ الإِنسانِ، والخُطُوطِ الحَدِيدِيّةِ لِنَقلِ السَّيّالاتِ اللَّطِيفةِ.
بِحِكْمةِ أنَّ الذَّرّةَ والجُزءَ والجُزئيَّ والقَلِيلَ والصَّغِيرَ والإِنسانَ والنَّواةَ لَيسَتْ بِأَقَلَّ جَزالةً مِنَ النَّجْمِ والنَّوعِ والكُلِّ والكُلِّيِّ والكَثِيرِ والكَبِيرِ والعالَمِ والشَّجَرِ.
فمَن خَلَقَ هَؤُلاءِ لا يُسْتَبعَدُ مِنه خَلْقُ هذِه، إذِ المُحاطاتُ كالأَمثِلةِ المَكتُوبةِ المُصَغَّرةِ، أو كالنُّقَطِ المَحلُوبةِ المُعَصَّرةِ.. فلا بُدَّ بالضَّرُورةِ أن يَكُونَ المُحِيطُ في قَبْضةِ تَصَرُّفِ خالِقِ المُحاطِ، لِيُدْرِجَ مِثالَ المُحِيطِ في المُحاطاتِ بِدَساتِيرِ عِلمِه، وأن يَعْصُرَها مِنه بِمَوازِينِ حِكْمَتِه.. فالقُدرةُ الَّتي أَبرَزَت هاتِيكَ الجُزئيّاتِ لا يَتَعسَّرُ علَيْها إِبرازُ تاكَ الكُلِّيّاتِ.
فكما أنَّ نُسخةَ قُرآنِ الحِكْمةِ المَكتُوبةَ على الجَوهَرِ الفَردِ بِذَرّاتِ الأَثِيرِ لَيسَت بِأَقَلَّ جَزالةً مِن نُسْخةِ قُرآنِ العَظَمةِ المَكتُوبةِ على صَحائِفِ السَّماواتِ بِمِدادِ النُّجُومِ والشُّمُوسِ، كذَلِك لَيسَتْ خِلْقةُ نَحْلةٍ ونَمْلةٍ بِأقَلَّ جَزالةً مِن خِلقةِ النَّخلةِ والفِيلِ؛ ولا صَنْعةُ وَردِ الزَّهْرةِ بِأَقَلَّ جَزالةً مِن صَنْعةِ دُرِّيِّ نَجمِ الزُّهْرةِ.. وهكَذا فقِسْ.
فكَما أنَّ غايةَ كَمالِ السُّهُولةِ في إِيجادِ الأَشياءِ أَوْقَعَتْ أَهلَ الضَّلالةِ في الْتِباسِ التَّشكِيلِ بالتَّشَكُّلِ المُستَلزِمِ لِلمُحالاتِ الخُرافِيّةِ الَّتي تَمُجُّها العُقُولُ، بَل تَتَنَفَّرُ عَنْها الأَوْهامُ؛ كَذلِك أَثْبَتَتْ بِالقَطْعِ والضَّرُورةِ لِأَهلِ الحَقِّ والحَقِيقةِ تَساوِيَ السَّيّاراتِ مَعَ الذَّرّاتِ بالنِّسبةِ إلى قُدْرةِ خالِقِ الكائِناتِ.
جَلَّ جَلالُه وعَظُمَ شأنُه ولا إِلٰهَ إلّا هُوَ.
[المرتبة السادسة: مشهد العدل والميزان]
المَرتَبةُ السّادسةُ4لو كُتِبَت هذه المَرتَبةُ السّادِسةُ كسائِرِ المَراتِبِ لَطالَت جِدًّا، لِأنَّ “الإِمامَ المُبِينَ” و”الكِتابَ المُبِينَ” لا يُمكِنُ بَيانُهُما باختِصارٍ، وحيثُ إنَّنا ذَكَرْنا نُبذةً مِنهُما في “الكَلِمةِ الثَّلاثِينَ” فقد أَجمَلْنا هنا، إلّا أنَّنا سَرَدْنا بعضَ الإِيضاحاتِ أَثناءَ الدَّرسِ.:
جَلَّ جَلالُه وعَظُمَ شَأْنُه اللهُ أَكبَرُ مِن كُلِّ شَيءٍ قُدْرةً وعِلمًا، إذ هُوَ العادِلُ الحَكِيمُ القادِرُ العَلِيمُ الواحِدُ الأَحَدُ السُّلطانُ الأَزَليُّ الَّذي هذِه العَوالِمُ كُلُّها في تَصَرُّفِ قَبْضَتَيْ نِظامِه ومِيزانِه وتَنْظِيمِه وتَوزِينِه وعَدْلِه وحِكْمَتِه وعِلمِه وقُدرَتِه، ومَظهَرُ سِرِّ واحِدِيَّتِه وأَحَديَّتِه بِالحَدْسِ الشُّهُوديِّ بَل بِالمُشاهَدةِ، إذْ لا خارِجَ في الكَونِ مِن دائِرةِ النِّظامِ والمِيزانِ والتَّنظِيمِ والتَّوزِينِ، وهُما بابانِ مِنَ “الإِمامِ المُبِينِ” و”الكِتابِ المُبِينِ”، وهُما عُنوانانِ لِعِلمِ العَلِيمِ الحَكِيمِ وأَمْرِه وقُدْرةِ العَزِيزِ الرَّحِيمِ وإِرادَتِه.. فذَلِك النِّظامُ مَعَ ذلك المِيزانِ، في ذلك الكِتابِ مَعَ ذلك الإِمامِ بُرهانانِ نَيِّرانِ لِمَن لَه في رَأسِه إذعانٌ، وفي وَجْهِه العَينانِ، أنْ لا شَيْءَ مِنَ الأَشياءِ في الكَونِ والزَّمانِ يَخرُجُ مِن قَبْضةِ تَصَرُّفِ رَحمٰنٍ، وتَنْظِيمِ حَنّانٍ، وتَزيِينِ مَنّانٍ، وتَوزِينِ دَيّانٍ.
الحاصِلُ: أنَّ تَجَلِّيَ الِاسمِ “الأَوَّلِ والآخِرِ” في الخَلّاقِيّةِ، النّاظِرَينِ إلى المَبدَأِ والمُنتَهَى والأَصلِ والنَّسلِ والماضِي والمُستَقبَلِ والأَمرِ والعِلمِ، مُشِيرانِ إلى “الإِمامِ المُبِينِ”؛ وتَجَلِّيَ الِاسمِ “الظّاهِرِ والباطِنِ” على الأَشياءِ في ضِمنِ الخَلّاقِيّةِ يُشِيرانِ إلى “الكِتابِ المُبِينِ”.
فالكائِناتُ كشَجَرةٍ عَظِيمةٍ، وكُلُّ عالَمٍ مِنها أَيضًا كالشَّجَرةِ.. فنُمَثِّلُ شَجَرةً جُزئِيّةً لِخِلقةِ الكائِناتِ وأَنواعِها وعَوالِمِها؛ وهَذِه الشَّجَرةُ الجُزئِيّةُ لها أَصلٌ ومَبدَأٌ وهُوَ النَّواةُ الَّتي تَنبُتُ عَلَيْها، وكَذا لها نَسْلٌ يُدِيمُ وَظِيفَتَها بَعدَ مَوتِها وهُوَ النَّواةُ في ثَمَراتِها.
فالمَبدَأُ والمُنتَهَى مَظْهَرانِ لِتَجَلِّي الِاسمِ “الأَوَّلِ والآخِرِ”، فكَأنَّ المَبدَأَ والنَّواةَ الأَصلِيّةَ بِالِانتِظامِ والحِكمةِ، فِهرِستةٌ وتَعرِفةٌ مُرَكَّبةٌ مِن مَجمُوعِ دَساتِيرِ تَشَكُّلِ الشَّجَرةِ.. والنَّواتاتِ في ثَمَراتِها الَّتي في نِهاياتِها مَظهَرٌ لِتَجَلِّي الِاسمِ “الآخِرِ”. فتِلك النَّواتاتُ في الثَّمَراتِ بِكَمالِ الحِكْمةِ، كأنَّها صُنَيدِقاتٌ صَغِيرةٌ أُودِعَتْ فيها فِهرِستةٌ وتَعرِفةٌ لتَشَكُّلِ ما يُشابِه تِلك الشَجَرةَ، وكأنَّها كُتِبَ فيها بِقَلَمِ القَدَرِ دَساتِيرُ تَشكُّلِ شَجَراتٍ آتِيةٍ.
وظاهِرُ الشَّجَرةِ مَظْهَرٌ لِتَجَلِّي الِاسمِ “الظَّاهِرِ”، فظاهِرُها بِكَمالِ الِانتِظامِ والتَّزيِينِ والحِكمةِ، كأنَّها حُلّةٌ مُنتَظَمةٌ مُزَيَّنةٌ مُرَصَّعةٌ قد قُدَّتْ على مِقدارِ قامَتِها بِكَمالِ الحِكمةِ والعِنايةِ.
وباطِنُ تِلك الشَّجَرةِ مَظهَرٌ لِتَجَلِّي الِاسمِ “الباطِنِ”، فبِكَمالِ الِانتِظامِ والتَّدبِيرِ المُحَيِّرِ للِعُقُولِ، وتَوزِيعِ مَوادِّ الحَياةِ إلى الأَعضاءِ المُختَلِفةِ بِكَمالِ الِانتِظامِ، كأنَّ باطِنَ تِلك الشَّجَرةِ ماكِينةٌ خارِقةٌ في غايةِ الِانتِظامِ والِاتِّزانِ.
فكَما أنَّ أَوَّلَها تَعرِفةٌ عَجِيبةٌ، وآخِرَها فِهرِستةٌ خارِقةٌ تُشِيرانِ إلى “الإِمامِ المُبِينِ”؛ كذَلِك إنَّ ظاهِرَها كحُلّةٍ عَجِيبةِ الصَّنْعةِ، وباطِنَها كَماكِينةٍ في غايةِ الِانتِظامِ، تُشِيرانِ إلى “الكِتابِ المُبِينِ”.
فكَما أنَّ القُوَّاتِ الحافِظاتِ في الإِنسانِ تُشِيرُ إلى “اللَّوحِ المَحفُوظِ” وتَدُلُّ عَلَيهِ، كَذلِك إنَّ النَّواتاتِ الأَصلِيّةَ والثَّمَراتِ تُشِيرانِ في كُلِّ شَجَرةٍ إلى “الإِمامِ المُبِينِ”؛ و”الظَّاهِرُ والباطِنُ” يَرمُزانِ إلى “الكِتابِ المُبِينِ”، فقِسْ على هذِه الشَّجَرةِ الجُزئِيّةِ شَجَرةَ الأَرضِ بِماضِيها ومُستَقبَلِها، وشَجَرةَ الكائِناتِ بِأوائِلِها وآتِيها، وشَجَرةَ الإِنسانِ بِأَجْدادِها وأَنسالِها. وهَكَذا…
جَلَّ جَلالُ خالِقِها ولا إِلٰهَ إلّا هُوَ!
يا كَبِيرُ أنتَ الَّذي لا تَهدِي العُقُولُ لِوَصفِ عَظَمَتِه، ولا تَصِلُ الأَفْكارُ إلى كُنْهِ جَبَرُوتِه.
[المرتبة السابعة: مشهد القدرة والقَدَر]
المَرتَبةُ السّابعةُ:
جَلَّ جَلالُه اللهُ أَكبَرُ مِن كُلِّ شَيءٍ قُدرةً وعِلمًا، إذ هُوَ5يُمكِنُ الِانتِقالُ إلى المُسمَّى ذِي الجَلالِ والإِكرامِ إذا ما نُظِر بمِنظارِ هذه الأَسماءِ المُبارَكةِ إلى مَظاهِرِ الأَفعالِ والآثارِ الإِلٰهِيّةِ وَراءَ هذه المَوجُوداتِ. الخَلّاقُ الفَتّاحُ الفَعّالُ العَلّامُ الوَهّابُ الفَيّاضُ شَمسُ الأزَلِ الَّذي هذِه الكائِناتُ بِأنواعِها ومَوجُوداتِها ظِلالُ أَنوارِه، وآثارُ أَفعالِه، وأَلوانُ نُقُوشِ أَنواعِ تَجَلِّياتِ أَسمائِه، وخُطُوطُ قَلَمِ قَضائِه وقَدَرِه، ومَرايا تَجَلِّياتِ صِفاتِه وجَمالِه وجَلالِه وكَمالِه..
بِإجماعِ الشَّاهِدِ الأَزَليِّ بِجَمِيعِ كُتُبِه وصُحُفِه وآياتِه التَّكوِينيّةِ والقُرآنيّةِ..
وبإِجماعِ الأَرضِ مَعَ العالَمِ بِافتِقاراتِها واحتِياجاتِها في ذاتِها وذَرّاتِها مَعَ تَظاهُرِ الغَناءِ المُطلَقِ والثَّروةِ المُطلَقةِ عَلَيْها..
وبإِجماعِ كُلِّ أَهلِ الشُّهُودِ مِن ذَوِي الأَرواحِ النَّـيِّرةِ والقُلُوبِ المُنَوَّرةِ والعُقُولِ النُّورانيّةِ مِنَ الأنبِياءِ والأولِياءِ والأَصفياءِ بِجَمِيعِ تَحقِيقاتِهِم وكُشُوفاتِهِم وفُيُوضاتِهِم ومُناجاتِهِم..
قَدِ اتَّفَقَ الكُلُّ مِنهُم، ومِنَ الأَرضِ والأَجرامِ العُلوِيّةِ والسُّفلِيّةِ بِما لا يُحَدُّ مِن شَهاداتِهِمُ القَطْعِيّةِ وتَصدِيقاتِهِمُ اليَقِينيّةِ بِقَبُولِ شَهاداتِ الآياتِ التَّكْوِينيّةِ والقُرآنيّة، وشَهاداتِ الصُّحُفِ والكُتُبِ السَّماوِيّة، الَّتي هيَ شَهادةُ الواجِبِ الوُجُودِ، على أنَّ هذِه المَوجُوداتِ آثارُ قُدْرَتِه ومَكْتُوباتُ قَدَرِه ومَرايا أَسمائِه وتَمَثُّلاتُ أَنوارِه.
جَلَّ جَلالُه ولا إِلٰهَ إلّا هُو.
❀ ❀ ❀