اللمعة الرابعة والعشرون: رسالة الحجاب.
[هذه اللمعة تتحدث عن حكمة تشريع الحجاب للمرأة المسلمة، وأسس صلاح الأسرة والحياة الزوجية في المجتمع المسلم]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

[اللمعة الرابعة والعشرون: رسالة الحجاب]
اللمعة الرابعة والعشرون
رسالة الحجاب
كانت هذه هي المسألةَ الثانية والثالثة من “المُذكِّرة الخامسةَ عَشْرةَ” إلّا أن أهمِّيتَها جعلَتْها “اللَّمْعةَ الرابعةَ والعِشرينَ”.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ… ﴾ إلى آخر الآية.
هذه الآيةُ الكَرِيمةُ تَأمُرُ بالحِجابِ، بَينَما تَذهَبُ المَدَنيّةُ الزّائِفةُ إلى خِلافِ هذا الحُكمِ الرَّبّانِيِّ، فلا تَرَى الحِجابَ أَمرًا فِطْرِيًّا لِلنِّساءِ، بل تَعُدُّه أَسْرًا وقَيدًا لَهُنَّ1هذه فِقرةٌ مِن اللّائحةِ المَرفُوعةِ إلى مَحكمةِ التَّميِيز، أُلقِيَتْ أمامَ المَحكَمة، فأَسكَتَتْها، وأَصبَحَت حاشِيةً لِهذا المَقامِ:
“وأنا أقولُ لِمَحكمةِ العَدْل: إنَّ إدانةَ مَن يُفسِّر أقدسَ دُستُورٍ إِلٰهِيٍّ وهو الحقُّ بعَينِه، ويَحتَكِمُ إليه ثلاثُ مِئةٍ وخمسُون مِليُونًا مِن المُسلِمِين في كلِّ عصرٍ في حياتِهِم الِاجتماعيّة، خِلالَ ألفٍ وثلاثِ مِئةٍ وخَمسِين عامًا.. هذا المُفسِّرُ استَنَد في تفسِيرهِ إلى ما اتَّفَق عليه وصَدَّق به ثلاثُ مئةٍ وخَمسُون ألفَ مُفسِّر، واقتَدَى بالعَقائدِ التي دانَ بها أجدادُنا السّابقُونَ في ألفٍ وثلاثِ مئةٍ وخمسِين سنةً.. أقولُ: إنَّ إِدانةَ هذا المُفسِّر قرارٌ ظالمٌ، لا بُدَّ أن تَرفُضَه العَدالةُ، إن كانَت هُنالك عدالةٌ على وجهِ الأرضِ، ولا بُدَّ أن تَرُدَّ ذلك الحُكمَ الصّادِرَ بحَقِّه وتَنقُضَه”..
[أربع حِكم تدل على أن حجاب المرأة هو مقتضى الفطرة]
وسنُبيِّنُ جَوابًا أَربعًا مِنَ الحِكَمِ فقط مِن بَينِ حِكَمٍ غَزِيرةٍ دالّةٍ على كَونِ هذا الحُكمِ القُرآنِيِّ تَقتَضِيه فِطْرةُ النِّساءِ، وخِلافِه غَيرَ فِطْرِيٍّ.
[الحكمة الأولى: الحجاب حماية]
الحِكمةُ الأُولى:
إنَّ الحِجابَ أَمرٌ فِطْرِيٌّ لِلنِّساءِ، تَقتَضِيه فِطْرَتُهُنَّ، لِأنَّ النِّساءَ جُبِلْنَ على الرِّقّةِ والضَّعفِ، فيَجِدْنَ في أَنفُسِهِنَّ حاجةً إلى رَجُلٍ يقُومُ بحِمايَتِهِنَّ وحِمايةِ أَوْلادِهِنَّ الَّذِينَ يُؤْثِرْنَهُم على أَنفُسِهِنَّ، فهُنَّ مَسُوقاتٌ فِطْريًّا نحوَ تَحبِيبِ أَنفُسِهِنَّ لِأَزواجِهِنَّ وعَدَمِ جَلبِ نَفرَتِهِم وتَجَنُّبِ جَفائِهِم واستِثْقالِهِم.
ثمَّ إنَّ ما يَقرُبُ مِن سَبعةِ أَعشارِ النِّساءِ: إمّا مُتَقدِّماتٌ في العُمُرِ، أو دَمِيماتٌ لا يَرغَبْنَ في إِظهارِ شَيبِهِنَّ أو دَمامَتِهِنَّ، أو أنَّهُنَّ يَحمِلْنَ غَيرةً شَدِيدةً في ذَواتِهِنَّ يَخشَيْنَ أن تَفضُلَ علَيهِنَّ ذَواتُ الحُسنِ والجَمالِ، أو أنَّهُنَّ يَتَوجَّسنَ خِيفةً مِنَ التَّجاوُزِ علَيهِنَّ وتَعَرُّضِهِنَّ لِلتُّهَمِ.. فهَؤُلاءِ النِّساءُ يَرغَبنَ فِطْرةً في الحِجابِ حَذَرًا مِنَ التَّعَرُّضِ والتَّجاوُزِ علَيهِنَّ وتَجَنُّبـًا مِن أن يكُنَّ مَوضِعَ تُهمةٍ في نَظَرِ أَزواجِهِنَّ، بل نَجِدُ أنَّ المُسِنّاتِ أَحرَصَ على الحِجابِ مِن غَيرِهِنَّ.
ورُبَّما لا يَتَجاوَزُ الِاثنَتَينِ أوِ الثَّلاثَ مِن كلِّ عَشرٍ مِنَ النِّساءِ هُنَّ: شابّاتٌ وحَسْناواتٌ ولا يَتَضايَقنَ مِن إِبداءِ مَفاتِنِهنَّ! إذ مِنَ المَعلُومِ أنَّ الإنسانَ يَتَضايَقُ مِن نَظَراتِ مَن لا يُحِبُّه؛ وحتَّى لو فَرَضْنا أنَّ حَسناءَ جَمِيلةً تَرغَبُ في أن يَراها اثنانِ أو ثَلاثةٌ مِن غَيرِ المَحارِمِ، فهِي حَتْمًا تَستَثقِلُ وتَنزَعِجُ مِن نَظَراتِ سَبعةٍ أو ثَمانيةٍ مِنهُم، بل تَنفِرُ مِنها.
فالمَرأةُ لِكَونِها رَقِيقةَ الطَّبعِ سَرِيعةَ التَّأثُّرِ تَنفِرُ حَتْمًا -ما لم تَفسُد أَخلاقُها وتَتَبذَّلْ- مِن نَظَراتٍ خَبِيثةٍ تُصَوَّبُ إلَيْها والَّتي لها تَأثِيرٌ مادِّيٌّ كالسُّمِّ كما هو مُجَرَّبٌ؛ حتَّى إنَّنا نَسمَعُ أنَّ كَثِيرًا مِن نِساءِ أَورُوبّا وهِي مَوطِنُ التَّكشُّفِ والتَّبَرُّجِ، يَشتَكِينَ إلى الشُّرطةِ مِن مُلاحَقةِ النَّظَراتِ إلَيهِنَّ قائِلاتٍ: إنَّ هَؤُلاءِ السَّفَلةَ يَزُجُّونَنا في سِجنِ نَظَراتِهِم!
نَخلُصُ مِمّا تَقدَّمَ: أنَّ رَفعَ المَدَنيّةِ السَّفِيهةِ الحِجابَ وإِفساحَها المَجالَ لِلتَّبَرُّجِ يُناقِضُ الفِطْرةَ الإِنسانيّةَ، وأنَّ أَمرَ القُرآنِ الكَرِيمِ بالحِجابِ -فَضْلًا عن كَونِه فِطْرِيًّا- يَصُونُ النِّساءَ مِنَ المَهانةِ والسُّقُوطِ، ومِنَ الذِّلّةِ والأَسرِ المَعنَوِيِّ ومِنَ الرَّذِيلةِ والسَّفالةِ، وهُنَّ مَعدِنُ الرَّأفةِ والشَّفَقةِ، والرَّفيقاتُ العَزِيزاتُ لِأَزواجِهِنَّ في الأَبدِ.
والنِّساءُ -فَضْلًا عَمّا ذَكَرْناه- يَحمِلْنَ في فِطْرَتِهنَّ تَخَوُّفًا مِنَ الرِّجالِ الأَجانِبِ، وهذا التَّخَوُّفُ يَقتَضِي فِطْرةً التَّحَجُّبَ وعَدَمَ التَّكشُّفِ، حَيثُ تَتَنغَّصُ لَذّةٌ غَيرُ مَشرُوعةٍ لِتِسعِ دَقائِقِ بتَحَمُّلِ أَذَى حَملِ جَنِينٍ لِتِسعةِ أَشهُرٍ، ومِن بَعدِه القِيامِ بتَربِيةِ وَلَدٍ لا حامِيَ له زُهاءَ تِسعِ سِنِينَ! ولِوُقُوعِ مِثل هذه الِاحتِمالاتِ بكَثْرةٍ تَتَخوَّفُ النِّساءُ فِطرةً خَوْفًا حَقِيقيًّا مِن غَيرِ المَحارِمِ، وتَتَجنَّـبُهُم جِبِلّةً، فتُنبِّهُها خِلقَتُها الضَّعِيفةُ تَنبِيهًا جادًّا إلى التَّحَفُّظِ، وتَدفَعُها إلى التَّسَتُّرِ، لِيَحُولَ دُونَ إِثارةِ شَهْوةِ غَيرِ المَحارِمِ، ولِيَمنَعَ التَّجاوُزَ علَيْها؛ وتَدُلُّها فِطْرَتُها على أنَّ حِجابَها هو قَلعَتُها الحَصِينةُ وخَندَقُها الأَمِينُ.
ولَقَد طَرَق سَمْعَنا أنَّ صَبّاغَ أَحذِيةٍ قد تَعَرَّضَ لِزَوجةِ رَجُلٍ ذِي مَنصِبٍ دُنيَوِيٍّ كَبِيرٍ، كانَت مَكشُوفةَ المَفاتِنِ، وراوَدَها نَهارًا جِهارًا في قَلبِ العاصِمةِ “أَنقَرة”! أَلَيسَ هذا الفِعلُ الشَّنِيعُ صَفْعةً قَوِيّةً على وُجُوهِ أُولَئِك الَّذِينَ لا يَعرِفُونَ مَعنَى الحَياءِ مِن أَعداءِ العِفّةِ والحِجابِ؟!
[الحكمة الثانية: الحجاب أمانة ووفاء]
الحِكمةُ الثانيةُ:
إنَّ العَلاقةَ الوَثِيقةَ والحُبَّ العَمِيقَ بينَ الرَّجُلِ والمَرأةِ لَيسَا ناشِئَينِ عَمّا تَتَطلَّبُه الحَياةُ الدُّنيا مِنَ الحاجاتِ فحَسْبُ، فالمَرأةُ لَيسَت صاحِبةَ زَوجِها في حَياةٍ دُنيَوِيّةٍ وَحْدَها، بل هي رَفِيقَتُه أَيضًا في حَياةٍ أَبدِيّةٍ خالِدةٍ.
فما دامَت هي صاحِبَتَه في حَياةٍ باقِيةٍ، فلا يَنبَغِي لها أن تَلفِتَ نَظَرَ غيرِ رَفيقِها الأَبدِيِّ وصَدِيقِها الخالِدِ إلى مَفاتِنِها، ولا تُزعِجَه، ولا تَحمِلَه على الغَضَبِ والغَيرةِ.
وحَيثُ إنَّ زَوجَها المُؤمِنَ -بحُكم إِيمانِه- لا يَحصُرُ مَحَبَّتَه لها في حَياةٍ دُنيَوِيّةٍ فقط، ولا يُولِيها مَحَبّةً حَيَوانيّةً قاصِرةً على وَقتِ جَمالِها وزَمَنِ حُسنِها، وإنَّما يُكِنُّ لها حُبًّا واحتِرامًا خالِصَينِ دائِمَينِ لا يَقتَصِرانِ على وَقتِ شَبابِها وجَمالِها، بل يَدُومانِ إلى وَقتِ شَيخُوخَتِها وزَوالِ حُسنِها، لِأنَّها رَفِيقَتُه في حَياةٍ أَبدِيّةٍ خالِدةٍ.. فإِزاءَ هذا لا بُدَّ لِلمَرأةِ أَيضًا أن تَخُصَّ زَوجَها وَحْدَه بجَمالِها ومَفاتِنِها، وتَقصُرَ مَحَبَّتَها به، كما هو مُقتَضَى الإِنسانيّةِ، وإِلّا ستَفقِدُ الكَثِيرَ ولا تَكسِبُ إلّا القَلِيلَ.
ثمَّ إنَّ ما هو مَطلُوبٌ شَرعًا: أن يكُونَ الزَّوجُ كُفُؤًا لِلمَرأةِ، وهذا يَعنِي مُلاءَمةَ الواحِدِ لِلآخَرِ ومُماثَلَتَهُما، وأَهَمُّ ما في الكَفاءةِ هذه هي كَفاءةُ الدِّينِ كما هو مَعلُومٌ.
فما أَسعَدَ ذلك الزَّوجَ الَّذي يُلاحِظُ تَدَيُّنَ زَوجَتِه ويقُومُ بتَقلِيدِها، ويُصبِحُ ذا دِينٍ، لِئَلّا يَفقِدَ صاحِبَتَه الوَفيّةَ في حَياةٍ أَبدِيّةٍ خالِدةٍ!
وكم هي مَحظُوظةٌ تلك المَرأةُ الَّتي تُلاحِظُ تَدَيُّنَ زَوجِها وتَخشَى أن تُفرِّطَ برَفيقِ حَياتِها الأَمِينِ في حَياةٍ خالِدةٍ، فتَتَمسَّكُ بالإِيمانِ والتَّقوَى!
والوَيلُ ثمَّ الوَيلُ لِذلِك الرَّجُلِ الَّذي يَنغَمِسُ في سَفاهةٍ تُفقِدُه زَوجَتَه الطَّيِّبةَ الصَّالِحةَ!
ويا لَتَعاسةِ تلك المَرأةِ الَّتي لا تُقلِّدُ زَوجَها التَّقِيَّ الوَرِعَ، فتَخسَرُ رَفِيقَها الكَرِيمَ الأَبدِيَّ السَّعِيدَ!
والوَيلُ والثُّبُورُ لِذَينِك الزَّوجَينِ الشَّقِيَّينِ اللَّذَينِ يُقلِّدانِ بَعضَهُما في الفُسُوقِ والفَحشاءِ، فيَتَسابَقانِ في دَفعِ أَحَدِهِما الآخَرَ في النّارِ!
[الحكمة الثالثة: الحجاب صون وكرامة]
الحِكمةُ الثّالثةُ:
إنَّ سَعادةَ العائِلةِ في الحَياةِ واستِمرارَها إنَّما هي بالثِّقةِ المُتَبادَلةِ بينَ الزَّوجَينِ، والِاحتِرامِ اللّائِقِ والوُدِّ الصّادِقِ بَينَهُما، إلّا أنَّ التَّـبَـرُّجَ والتَّـكشُّفَ يُخِلُّ بتِلك الثِّقةِ ويُفسِدُ ذلك الِاحتِرامَ والمَحَبّةَ المُتَبادَلةَ، حَيثُ تُلاقِي تِسعةٌ مِن عَشَرةِ مُتَبَرِّجاتٍ أَمامَهُنَّ رِجالًا يَفُوقُونَ أَزواجَهُنَّ جَمالًا؛ بَينَما لا تَرَى غَيرُ واحِدةٍ مِنهُنَّ مَن هو أَقلُّ جَمالًا مِن زَوجِها ولا تُحَبِّبُ نَفسَها إلَيْه.
والأَمرُ كَذلِك في الرِّجالِ، فلا يَرَى إلّا واحِدٌ مِن كلِّ عِشرِينَ مِنهُم مَن هي أَقلُّ جَمالًا مِن زَوجَتِه، بَينَما الباقُونَ يَرَوْنَ أَمامَهُم مَن يَفُقْنَ زَوجاتِهِنَّ حُسنًا وجَمالًا.. فهَذِه الحالةُ قد تُؤدِّي إلى انبِعاثِ إِحساسٍ دَنِيءٍ وشُعُورٍ سافِلٍ قَبِيحٍ في النَّفِس، فَضْلًا عَمّا تُسبِّبُه مِن زَوالِ ذلك الحُبِّ الخالِصِ، وفِقْدانِ ذلك الِاحتِرامِ، وذلك أنَّ الإنسانَ لا يُمكِنُه أن يَحمِلَ فِطْرةً شُعُورًا دَنِيئًا حَيَوانيًّا تِجاهَ المَحارِمِ -كالأُختِ- لِأنَّ سِيماءَ المَحارِم تُشعِرُ بالرَّأفةِ والمَحَبّةِ المَشرُوعةِ النّابِعَينِ مِن صِلةِ القُربَى.. فهَذا الشُّعُورُ النَّبِيلُ يَحُدُّ مِن مُيُولِ النَّفسِ الشَّهَوِيّةِ، إلّا أنَّ كَشفَ ما لا يَجُوزُ كَشفُه لِلمَحارِمِ أَيضًا كالسّاقِ، قد يُثِيرُ لَدَى النُّفُوسِ الدَّنِيئةِ حِسًّا سافِلًا خَبِيثًا لِزَوالِ الشُّعُورِ بالحُرمةِ، حَيثُ إنَّ مَلامِحَ المَحارِمِ تُشعِرُ بصِلةِ القَرابةِ، وكَونِها مَحْرَمًا، وتَتَميَّزُ عن غَيرِهِم؛ لِذا فكَشْفُ تلك المَواضِعِ مِنَ الجَسَدِ يَتَساوَى فيه المَحرَمُ وغَيرُه، لِعَدَمِ وُجُودِ تلك العَلاماتِ الفارِقةِ الَّتي تَستَوجِبُ الِامتِناعَ عنِ النَّظَرِ المُحَرَّمِ، ولَرُبَّما يُهَيِّجُ لَدَى بعضِ المَحارِمِ السّافِلِينَ هَوَى النَّظْرةِ الحَيَوانيّةِ! فمِثلُ هذه النَّظْرةِ سُقُوطٌ مُرِيعٌ لِلإِنسانيّةِ تَقشَعِرُّ مِن بَشاعَتِها الجُلُودُ.
[الحكمة الرابعة: الحجاب عفة]
الحِكمةُ الرّابعةُ:
مِنَ المَعلُومِ أنَّ كَثْرةَ النَّسلِ مَرغُوبٌ فيها لَدَى الجَمِيعِ، فلَيسَ هُنالِك أُمّةٌ ولا دَوْلةٌ لا تَدعُو إلى كَثْرةِ النَّسلِ، وقد قالَ الرَّسُولُ الكَرِيمُ (ﷺ): “تَناكَحُوا تَكثُرُوا، فإنِّي أُباهِي بكُمُ الأُمَمَ يَومَ القِيامةِ”، بَيْدَ أنَّ رَفعَ الحِجابِ وإِفساحَ المَجالِ أَمامَ التَّبَرُّجِ والتَّكشُّفِ يَحُدُّ مِنَ الزَّواجِ، بل يُقلِّلُ مِنَ التَّكاثُرِ كَثِيرًا، لِأنَّ الشّابَّ مَهْما بَلَغ فُسُوقُه وتَحَلُّلُه، فإنَّه يَرغَبُ في أن تكُونَ صاحِبَتُه في الحَياةِ مَصُونةً عَفِيفةً، ولا يُرِيدُها أن تكُونَ مُتَبَذِّلةً مِثلَه، أي: مُتَكشِّفةً سافِرةً؛ لِذا تَجِدُه يُفضِّلُ العُزُوبةَ على الزَّواجِ، ورُبَّما يَنساقُ إلى الفَسادِ.
أمَّا المَرأةُ فهِي لَيسَت كالرَّجُلِ، حَيثُ لا تَتَمكَّنُ مِن أن تُحَدِّدَ اختِيارَ زَوجِها؛ والمَرأةُ مِن حَيثُ كَونُها مُدبِّرةً لِشُؤُونِ البَيتِ الدّاخِلِيّةِ، ومَأمُورةً بالحِفاظِ على أَولادِ زَوجِها وأَموالِه وكلِّ ما يَخُصُّه، فإنَّ أَعظَمَ خِصالِها: الوَفاءُ والثِّقةُ؛ إلّا أنَّ تَبَرُّجَها وتَكشُّفَها يُفسِدُ هذا الوَفاءَ ويُزَعزِعُ ثِقةَ الزَّوجِ بها، فتُجَرِّعُ الزَّوجَ آلامًا مَعنَوِيّةً وعَذابًا وِجْدانيًّا.
حتَّى إنَّ الشَّجاعةَ والسَّخاءَ -وهُما خَصْلَتانِ مَحمُودَتانِ لَدَى الرِّجال- إذا ما وُجِدَتا في النِّساءِ عُدَّتَا مِنَ الأَخلاقِ المَذمُومةِ، لِإخلالِهِما بتِلك الثِّقةِ والوَفاءِ، إذ تُفضِيانِ إلى الوَقاحةِ والإِسرافِ.. وحَيثُ إنَّ وَظِيفةَ الزَّوجِ غيرُ قاصِرةٍ على الِائتِمانِ على أَموالِها، وعلى الِارتِباطِ بها، بل تَشمَلُ حِمايَتَها والرَّحمةَ بها والِاحتِرامَ لها، فلا يَلزَمُه ما يَلزَمُ الزَّوجةَ، أي: لا يُقيِّدُ اختِيارَه بزَوجةٍ واحِدةٍ، ويُمكِنُه أن يَنكِحَ غَيرَها مِنَ النِّساءِ.
إنَّ بِلادَنا لا تُقاسُ بِبُلدانِ أَورُوبّا، فهُناك وَسائِلُ صارِمةٌ لِلحِفاظِ -إلى حَدٍّ مّا- على الشَّرَفِ والعَفافِ في وَسَطٍ مُتبَرِّجٍ مُتَكشِّفٍ، مِنها المُبارَزةُ وأَمثالُها؛ فالَّذي يَنظُرُ بخُبثٍ إلى زَوجةِ أَحَدِ الشُّرَفاءِ علَيْه أن يُعلِّقَ كَفَنَه في عُنُقِه مُقدَّمًا؛ هذا فَضْلًا عن أنَّ طَبائِعَ الأَورُوبِّيّينَ بارِدةٌ جامِدةٌ كمُناخِهِم، أمّا هُنا في بِلادِ العالَمِ الإِسلامِيِّ خاصّةً فهِي مِنَ البُلدانِ الحارّةِ قِياسًا على أَورُوبّا، ومَعلُومٌ مَدَى تَأثِيرِ البِيئةِ في أَخلاقِ الإِنسانِ، ففي تلك الأَصقاعِ البارِدةِ، ولَدَى أُناسٍ بارِدِينَ قد لا يُؤَدِّي التَّبَرُّجُ الَّذي يُثِيرُ الهَوَى الحَيَوانِيَّ ويُهيِّجُ الرَّغَباتِ الشَّهَوانيّةَ إلى تَجاوُزِ الحُدُودِ مِثلَما يُؤدِّي إلى الإِفراطِ والإِسرافِ في أُناسٍ حَسّاسِينَ يُثارُونَ بسُرعةٍ في المَناطِقِ الحارّةِ.
فالتَّبَرُّجُ وعَدَمُ الحِجابِ الَّذي يُثِيرُ هَوَى النَّفسِ، ويُطلِقُ الشَّهَواتِ مِن عِقالِها، يُؤدِّي حَتْمًا إلى الإِفراطِ وتَجاوُزِ الحُدُودِ، وإلى ضَعفِ النَّسلِ وانهِيارِ القُوّةِ؛ حَيثُ إنَّ الرَّجُلَ الَّذي يُمكِنُه أن يَقضِيَ وَطَرَه الفِطْرِيَّ في شَهرٍ أو في عِشرِينَ يَومًا، يَظُنُّ نَفسَه مُضطَرًّا إلى دَفعِه كلَّ بِضعةِ أيّامٍ.. وحَيثُ إنَّ هُنالِك عَوارِضَ فِطْرِيّةً -كالحَيضِ- تُجَنِّبُه عن أَهلِه وقد تَطُولُ خَمسةَ عَشَرَ يَومًا، تَراه يَنساقُ إلى الفُحشِ إن كانَ مَغلُوبًا لِنَفسِه.
ثمَّ إنَّ أَهلَ المُدُنِ لا يَنبَغِي لَهُم أن يُقَلِّدُوا أَهلَ القُرَى والأَريافِ في حَياتِهِمُ الِاجتِماعِيّةِ ويَرفَعُوا الحِجابَ فيما بَينَهُم، لِأنَّ أَهلَ القُرَى يَشغَلُهُم شاغِلُ العَيشِ، وهُم مُضطَرُّونَ إلى صَرفِ جُهُودٍ بَدَنيّةٍ قَوِيّةٍ لِكَسبِ مَعِيشَتِهِم، وكَثِيرًا ما تَشتَرِكُ النِّساءُ في أَشغالٍ مُتعِبةٍ، لِذا لا يُهَيِّجُ ما قد يَنكَشِفُ مِن أَجزاءِ أَجسامِهِنَّ الخَشِنةِ شَهَواتٍ حَيَوانيّةً لَدَى الآخَرِينَ، فَضْلًا عن أنَّه لا يُوجَدُ في القُرَى سُفَهاءُ عاطِلُونَ بقَدْرِ ما هو مَوجُودٌ في المُدُنِ، فلا تَبلُغُ مَفاسِدُها إلى عُشْرِ ما في المَدِينةِ، لِهذا لا تُقاسُ المُدُنُ على القُرَى والأَريافِ.
❀ ❀ ❀
[حوار مع أخوات الآخرة]
﴿بِاسمِهِ سُبحانَهُ﴾
حوارٌ مع المؤمنات، أخَواتي في الآخرة
حِينَما كُنتُ أُشاهِدُ في عَدَدٍ مِنَ الوِلاياتِ اهتِمامَ النِّساءِ برَسائِلِ النُّورِ اهتِمامًا حارًّا خالِصًا، وعَلِمتُ اعتِمادَهُنَّ على دُرُوسِي الَّتي تَخُصُّ النُّورَ بما يَفُوقُ حَدِّي بكَثِيرٍ، جِئتُ مَرّةً ثالِثةً إلى مَدرَسةِ الزَّهراءِ المَعنَوِيّةِ، هذه المَدِينةِ المُبارَكةِ “إِسبارْطةَ”، فسَمِعتُ أنَّ أُولَئِك النِّساءَ الطَّيِّباتِ المُبارَكاتِ، أَخَواتِي في الآخِرةِ، يَنتَظِرنَ مِنِّي أن أُلقِيَ علَيهِنَّ دَرْسًا، على غِرارِ ما يُلقَى في المَساجِدِ مِن دُرُوسِ الوَعظِ والإِرشادِ.. بَيْدَ أنِّي أُعانِي أَمراضًا عِدّةً، معَ ضَعفٍ وإِنهاكٍ شَدِيدَينِ حتَّى لا أَستَطِيعُ الكَلامَ ولا التَّفكُّرَ، ومعَ ذلك فقد سَنَحَت بقَلبِي هذه اللَّيلةَ خاطِرةٌ قَوِيّةٌ، هي:
“إنَّكَ قد كَتَبتَ قَبلَ خَمسَ عَشْرةَ سَنةً رِسالةَ “مُرشِدُ الشَّبابِ” بطَلَبٍ مِنَ الشَّباب أَنفُسِهِم، وقدِ استَفادَ مِنها الكَثِيرُونَ، بَينَما النِّساءُ هُنَّ أَحوَجُ إلى مِثلِ هذا “المُرشِدِ” في هذا الزَّمانِ”.
فإِزاءَ هذه الخاطِرةِ وعلى الرَّغمِ مِمّا أُعانِيه مِنِ اضطِرابٍ ومِن عَجزٍ وضَعفٍ، كَتَبتُ في غايةِ الِاختِصارِ لِأَخَواتِي المُبارَكاتِ ولِبَناتِي المَعنَوِيّاتِ الشّابّاتِ بَعضَ ما يَلزَمُهُنَّ مِن مَسائِلَ، ضِمنَ نِكاتٍ ثَلاثٍ:
[النكتة الأولى: النساء رائدات الشفقة وبطلات الحنان]
النُّكتة الأُولَى:
لَمّا كانَ أَهَمُّ أَساسٍ مِن أُسُسِ رَسائلِ النُّورِ هو “الشَّفَقةَ”، وأنَّ النِّساءَ هُنَّ رائِداتُ الشَّفَقةِ وبَطَلاتُ الحَنانِ، فقد أَصبَحْنَ أَكثَرَ ارتِباطًا برَسائِلِ النُّورِ فِطْرةً؛ فهذه العَلاقةُ الفِطْريّةُ تُحِسُّ بها في كَثِيرٍ مِنَ الأَماكِنِ وللهِ الحَمدُ والمِنّةُ.
ولَقَد غَدَتِ التَّضحِيةُ الَّتي تَنطَوِي علَيْها الشَّفَقةُ والحَنانُ ذاتَ أَهَمِّيّةٍ عُظمَى في زَمانِنا هذا، إذ إنَّها تُعبِّـرُ عن إِخلاصٍ حَقِيقيٍّ وفِداءٍ دُونَ عِوَضٍ ومُقابِلٍ.
نعم، إنَّ افتِداءَ الأُمِّ برُوحِها إِنقاذًا لِوَلَدِها مِنَ الهَلاكِ مِن دُونِ انتِظارٍ لِأَجرٍ، وتَضحِيَتَها بنَفسِها بإِخلاصٍ حَقِيقيٍّ لِأَولادِها باعتِبارِ وَظِيفَتِها الفِطْرِيّةِ، تَدُلّانِ على وُجُودِ بُطُولةٍ سامِيةٍ رَفِيعةٍ في النِّساءِ، بحَيثُ يَستَطِعنَ أن يُنقِذنَ حَياتَهُنَّ الدُّنيَوِيّةَ والأُخرَوِيّةَ بِنَماءِ هذه البُطُولةِ وانجِلائِها في أَنفُسِهِنَّ، إلّا أنَّ تَيّاراتٍ فاسِدةً تَحُولُ دُونَ تَنامِي تلك السَّجِيّةِ القَيِّمةِ القَوِيمةِ، أو تَصرِفُ تلك التَّيّاراتُ هذه السَّجِيّةَ الطَّيِّبةَ إلى غَيرِ مَحالِّها، فتُسِيءُ استِعمالَها.
نُورِدُ هُنا مِثالًا واحِدًا مِن مِئاتِ أَمثِلَتِها:
إنَّ الوالِدةَ الحَنُونَ تَضَعُ نُصْبَ عَينِها كلَّ فِداءٍ وتَضحِيةٍ لِتَمنَعَ عن وَلَدِها المَصائِبَ والهَلاكَ، وتَجعَلَه سَلِيمًا مُعافًى في الدُّنيا؛ فتُربِّي وَلَدَها على هذا الأَساسِ، فتُنفِقُ جَمِيعَ أَموالِها لِيَكُونَ ابنُها عَظِيمًا وسَيِّدًا آمِرًا، فتَراها تَأخُذُ وَلَدَها مِنَ المَدارِسِ العِلمِيّةِ الدِّينيّةِ وتُرسِلُه إلى أَورُوبّا، مِن دُونِ أن تُفكِّرَ في حَياةِ وَلَدِها الأَبدِيّةِ الَّتي تُصبِحُ مُهَدَّدةً بالخَطَرِ؛ فهِي إذْ تَسعَى لِتُنقِذَه مِن سِجنٍ دُنيَوِيٍّ، لا تَهتَمُّ بوُقُوعِه في سِجنِ جَهَنَّمَ الأَبدِيِّ، فتَتَصرَّفُ تَصَرُّفًا مُخالِفًا لِفِطْرَتِها مُخالَفةً كُلِّيّةً، إذ بَدَلًا مِن أن تَجعَلَ وَلَدَها البَرِيءَ شَفِيعًا لها يَومَ القِيامةِ تَجعَلُه مُدَّعِيًا علَيْها، إذ سيَشكُو ذلك الوَلَدُ هُناك قائِلًا لها: “لِمَ لَمْ تُقَوِّي إِيمانِي حتَّى تَسَبَّبتِ في هَلاكِي هذا؟!”، وحَيثُ إنَّه لم يَأخُذ قِسطًا وافِرًا مِنَ التَّربِيةِ الإِسلامِيّةِ، فلا يُبالِي بشَفَقةِ والِدَتِه الخارِقةِ، بل قد يُقَصِّرُ في حَقِّها كَثِيرًا.
ولكِن إذا ما سَعَت تلك الوالِدةُ إلى إِنقاذِ وَلَدِها الضَّعِيفِ مِنَ السِّجنِ الأَبدِيِّ الَّذي هو جَهَنَّمُ، ومِنَ الإِعدامِ الأَبدِيِّ الَّذي هو المَوتُ في الضَّلالةِ، بشَفَقَتِها الحَقِيقيّةِ المَوهُوبةِ دُونَ الإِساءةِ في استِعمالِها، فإنَّ وَلَدَها سيُوصِلُ الأَنوارَ دَوْمًا إلى رُوحِها بعدَ وَفاتِها، إذ يُسَجَّلُ في صَحِيفةِ أَعمالِها مِثلُ جَمِيعِ الحَسَناتِ الَّتي يَعمَلُها الوَلَدُ؛ كما سيَكُونُ لها وَلَدًا طَيِّبًا مُبارَكًا يَنعَمانِ مَعًا في حَياةٍ خالِدةٍ، شَفِيعًا لها عِندَ اللهِ ما وَسِعَتْه الشَّفاعةُ، لا شاكِيًا مِنها ولا مُدَّعِيًا علَيْها.
[الأم أول معلِّمٍ في حياة الإنسان]
نعم، إنَّ أوَّلَ أُستاذٍ لِلإِنسانِ وأَكثَرَ مَن يُؤثِّرُ فيه تَعلِيمًا، إنَّما هُو والِدَتُه.
سأُبيِّنُ بهذه المُناسَبةِ هذا المَعنَى الَّذي أَتحَسَّسُه دائِمًا إِحساسًا قاطِعًا في شَخصِي، وهو: أُقسِمُ باللهِ أنَّ أَرسَخَ دَرسٍ تَلقَّيتُه، وكَأنَّه يَتَجدَّدُ عَلَيَّ، إنَّما هو تَلقِيناتُ والِدَتِي رَحِمَها اللهُ ودُرُوسُها المَعنَوِيّةُ، حتَّى استَقَرَّت في أَعماقِ فِطْرَتِي وأَصبَحَت كالبُذُورِ في جَسَدِي، في غُضُونِ عُمُرِي الَّذي يُناهِزُ الثَّمانِينَ، رَغمَ أنِّي قد أَخَذتُ دُرُوسًا مِن ثَمانِينَ أَلفَ شَخصٍ، بل أَرَى يَقِينًا أنَّ سائِرَ الدُّرُوسِ إنَّما تُبنَى على تلك البُذُورِ.
بمَعنَى أنِّي أُشاهِدُ دَرسَ والِدَتي -رَحِمَها اللهُ- وتَلقِيناتِها لِفِطْرَتي ورُوحِي وأنا في السَّنةِ الأُولَى مِن عُمُرِي، بُذُورَ أَساسٍ ضِمنَ الحَقائِقِ العَظِيمةِ الَّتي أَراها الآنَ وأنا في الثَّمانِينَ مِن عُمُرِي.
مِثالُ ذلك: إنَّ “الشَّفَقةَ” الَّتي هي أَهَمُّ أَساسٍ مِنَ الأُسُسِ الأَربَعةِ في مَسلَكِي ومَشرَبِي.. وإنَّ “الرَّأفةَ والرَّحمةَ” الَّتي هي أَيضًا حَقِيقةٌ عُظمَى مِن حَقائِقِ رَسائِلِ النُّورِ، أُشاهِدُهُما يَقِينًا بأنَّهُما نابِعَتانِ مِن أَفعالِ تلك الوالِدةِ الرَّؤُوفِ ومِن أَحوالِها الشَّفِيقةِ ومِن دُرُوسِها المَعنَوِيّةِ.
[الشفقة والحنان قد أسيء استعمالهما اليوم]
نعم، إنَّ الشَّفَقةَ والحَنانَ الكامِنَينِ في الأُمُومةِ والَّتي تَحمِلُها بإِخلاصٍ حَقِيقيٍّ وتَضحِيةٍ وفِداءٍ قد أُسِيءَ استِعمالُها في الوَقتِ الحاضِرِ، إذ لا تُفكِّرُ الأُمُّ بما سيَنالُ وَلَدُها في الآخِرةِ مِن كُنُوزٍ هي أَثمَنُ مِنَ الأَلماسِ، بل تَصرِفُ وَجْهَه إلى هذه الدُّنيا الَّتي لا تَعدِلُ قِطَعًا زُجاجِيّةً فانِيةً، ثمَّ تُشفِقُ على وَلَدِها وتَحنُو علَيْه في هذا الجانِبِ مِنَ الحَياةِ.. وما هذا إلّا إِساءةٌ في استِعمالِ تلك الشَّفَقةِ.
إنَّ مِمّا يُثبِتُ بُطُولةَ النِّساءِ في تَضحِيَتِهِنَّ العَظِيمةِ دُونَ انتِظارٍ لِأَجرٍ ولا عِوَضٍ، مِن دُونِ فائِدةٍ يَجنِينَها لِأَنفُسِهِنَّ، ومِن دُونِ رِياءٍ وتَسوِيقٍ لِأَنفُسِهِنَّ، هو: استِعدادُهُنَّ لِلفِداءِ بأَرواحِهِنَّ لِأَجلِ الوَلَدِ، ودَلِيلُ ذلك ما نَراه في الدَّجاجة الَّتي تَحمِلُ مِثالًا مُصَغَّرًا مِن تلك الشَّفَقةِ: شَفَقةِ الأُمُومةِ وحَنانِها، فهِي تُهاجِمُ الأَسَدَ، وتَفدِي برُوحِها، حِفاظًا على فِراخِها الصِّغارِ.
[للمرأة المسلمة وظيفة عظيمة لا يقوم بها الرجال]
وفي الوَقتِ الحاضِرِ: إنَّ أَلزَمَ شَيءٍ وأَهَمَّ أَساسٍ في التَّربِيةِ الإِسلامِيّةِ وأَعمالِ الآخِرةِ، إنَّما هو “الإِخلاصُ“، فمِثلُ هذه البُطُولةِ الفائِقةِ في الشَّفَقةِ تَضُمُّ بينَ جَوانِحِها الإِخلاصَ الحَقِيقيَّ. فإذا ما بَدَأَت هاتانِ النُّقطَتانِ بِالتَّنامِي في تلك الطّائِفةِ المُبارَكةِ: طائِفةِ النِّساءِ، فإنَّهُما سيَكُونانِ مَدارَ سَعادةٍ عُظمَى في المُحِيطِ الإِسلامِيِّ.
أمّا تَضحِيةُ الرِّجالِ فلا تكُونُ دُونَ عِوَضٍ قَطْعًا، وإنَّما تَطلُبُ الأَجرَ والمُقابِلَ مِن جِهاتٍ كَثِيرةٍ تَبلُغُ المِئةَ، وفي الأَقلِّ تَطلُبُ الفَخرَ والسُّمعةَ؛ ولكِن معَ الأَسَفِ فإنَّ النِّساءَ المُبارَكاتِ يُدخِلْنَ الرِّياءَ والتَّمَلُّقَ بطِرازٍ آخَرَ وبنَوعٍ آخَرَ نَتِيجةَ ضَعفِهِنَّ وعَجزِهِنَّ، وذلك خَلاصًا مِن شَرِّ أَزواجِهِنَّ الظَّلَمةِ وتَسَلُّطِهِم علَيْهِنَّ.
[النكتة الثانية: نداء لإصلاح الحياة الأسرية الإسلامية]
النُّكتةُ الثانيةُ:
لَمّا كُنتُ في هذه السَّنةِ مُعتَزِلًا النّاسَ مُبتَعِدًا عنِ الحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ، نَظَرتُ إلى الدُّنيا نُزُولًا عِندَ رَغبةِ إِخوةٍ وأَخَواتٍ مِنَ النُّورِيِّينَ، فسَمِعتُ مِن أَغلَبِ مَن قابَلَني مِنَ الأَصدِقاءِ، شَكاوَى عن حَياتِهِمُ الأُسَرِيّةِ؛ فتَأَسَّفتُ مِنَ الأَعماقِ وقُلتُ: إنَّ الحَياةَ الأُسَرِيّةَ هي قَلعةُ الإِنسانِ الحَصِينةُ، ولا سِيَّما المُسلِمَ، فهِي كجَنَّتِه المُصَغَّرةِ ودُنياه الصَّغِيرةِ، أَوَدَبَّ الفَسادُ في هذه الحَياةِ أَيضًا؟!
فتَّشْتُ عنِ السَّبَبِ الَّذي أَدَّى إلى فَسادِها، وعَلِمتُ أنَّ هُنالِك مُنَظَّماتٍ سِرِّيّةً تَسعَى لِإِضلالِ الشَّبابِ وإِفسادِهِم بتَذلِيلِ سُبُلِ الشَّهَواتِ أَمامَهُم، وسَوقِهِم إلى السَّفاهةِ والغَوايةِ لِإفسادِ المُجتَمَعِ الإِسلامِيِّ والإِضرارِ بالدِّينِ الإِسلاميِّ، كما أَحسَستُ أنَّ مُنَظَّماتٍ أَيضًا تَعمَلُ في الخَفاءِ وتَسعَى سَعْيًا جادًّا مُؤَثِّرًا لِدَفعِ الغافِلاتِ مِنَ النِّساءِ اللَّطِيفاتِ إلى طُرُقٍ خاطِئةٍ آثِمةٍ؛ وأَدرَكتُ أنَّ ضَربةً قاصِمةً على هذه الأُمّةِ الإِسلامِيّةِ تَأتِي مِن تلك الجِهةِ.
فأَنا أُبيِّنُ بَيانًا قاطِعًا، يا أَخَواتِي ويا بَناتِي المَعنَوِيّاتِ الشّابّاتِ..
إنَّ العِلاجَ النّاجِعَ لِإنقاذِ سَعادةِ النِّساءِ مِنَ الإِفسادِ في دُنياهُنَّ وأُخراهُنَّ مَعًا، وإنَّ الوَسِيلةَ الوَحِيدةَ لِصَونِ سَجاياهُنَّ الرّاقِيةِ اللّاتِي في فِطْرَتِهِنَّ مِنَ الفَسادِ، ليس إلّا في تَربِيَتِهِنَّ تَربِيةً دِينِيّةً ضِمنَ نِطاقِ الإِسلامِ الشّامِلِ.. إنَّكُنَّ تَسمَعنَ ما آلَت إلَيْه حالُ تلك الطّائِفةِ المُبارَكةِ في رُوسْيا!
[الحياة الزوجية الدائمة لا تبنى على جمال زائل]
وقد قِيلَ في جُزءٍ مِن “رَسائِلِ النُّورِ”:
إنَّ الزَّوجَ الرَّشِيدَ لا يَبنِي مَحَبَّتَه لِزَوجَتِه على جَمالٍ ظاهِرِيٍّ زائِلٍ لا يَدُومُ عَشرَ سَنَواتٍ، بل علَيْه أن يَبنِيَ مَوَدَّتَه لها على شَفَقَتِها الَّتي هي أَجمَلُ مَحاسِنِ النِّساءِ وأَدوَمُها، ويُوثِقَها بحُسنِ سِيرَتِها الخاصّةِ بأُنُوثَتِها، كي تَدُومَ مَحَبَّتُه لها كُلَّما شابَت تلك الزَّوجةُ الضَّعِيفةُ، إذ هي لَيسَت صاحِبَتَه ورَفِيقَتَه في حَياةٍ دُنيَوِيّةٍ مُؤَقَّتةٍ فحَسْبُ، وإنَّما هي رَفِيقَتُه المَحبُوبةُ في حَياةٍ أَبدِيّةٍ خالِدةٍ؛ فيَلزَمُ أن يَتَحابّا بِاحتِرامٍ أَزيَدَ ورَحمةٍ أَوسَعَ، كلَّما تَقَدَّما في العُمُرِ.. أمّا حَياةُ الأُسرةِ الَّتي تَتَربَّى في أَحضانِ المَدَنيّةِ الحَدِيثةِ فهِي مُعرَّضةٌ لِلِانْهِيارِ والفَسادِ، حَيثُ تُبنَى العَلاقةُ فيها على صُحبةٍ مُؤَقَّتةٍ يَعقُبُها فِراقٌ أَبدِيٌّ.
وكَذلِك قِيلَ في جُزءٍ مِن “رَسائِلِ النُّورِ”:
إنَّ السَّعِيدَ هو ذلك الزَّوجُ الَّذي يُقَلِّدُ زَوجَتَه الصّالِحةَ، فيَكُونُ صالِحًا مِثلَها، لِئَلّا يَفقِدَ رَفِيقَتَه في حَياةٍ أَبدِيّةٍ خالِدةٍ.
وكم هِي سَعِيدةٌ تلك الزَّوجةُ الَّتي تَرَى زَوجَها مُتَديِّنًا فتَتَمسَّكُ بأَهدابِ الدِّينِ لِئَلّا تَفقِدَ رَفِيقَها الأَبدِيَّ، فتَفُوزُ بسَعادةِ آخِرَتِها ضِمنَ سَعادةِ دُنياها!
وكم هُو شَقِيٌّ ذلك الزَّوجُ الَّذي يَتبَعُ زَوجَتَه الَّتي ارْتَمَت في أَحضانِ السَّفاهةِ فيُشارِكُها ولا يَسعَى لِإنقاذِها!
وما أَشقاها تلك الزَّوجةَ الَّتي تَنظُرُ إلى فُجُورِ زَوجِها وفِسقِه وتُقَلِّدُه بصُورةٍ أُخرَى!
والوَيلُ ثمَّ الوَيلُ لِذَينِك الزَّوجَينِ اللَّذَينِ يُعِينُ كلٌّ مِنهُما الآخَرَ في دَفعِه إلى النّارِ، أي: يُغرِي كلٌّ مِنهُما الآخَرَ لِلِانغِماسِ في زَخارِفِ المَدَنيّةِ.
وفَحْوَى هذه الجُمَلِ الَّتي وَرَدَت بهذا المَعنَى في “رَسائِلِ النُّورِ” أنَّه لا يُمكِنُ أن يكُونَ -في هذا الزَّمانِ- تَنَعُّمٌ بحَياةٍ عائِلِيّةٍ، وبُلُوغٌ لِسَعادةِ الدُّنيا والآخِرةِ، وانكِشافٌ لِسَجايا راقِيةٍ في النِّساءِ إلّا بالتَّأَدُّبِ بالآدابِ الإِسلامِيّةِ الَّتي تُحَدِّدُها الشَّرِيعةُ الغَرَّاءُ.
[مسؤولية الزوجة المسلمة]
إنَّ أَهَمَّ نُقطةٍ وجانِبٍ في حَياةِ الأُسَرِ في الوَقتِ الحاضِرِ هي أنَّه إذا ما شاهَدَتِ الزَّوجةُ فَسادًا في زَوجِها وخِيانةً مِنه وعَدَمَ وَفاءٍ، فقامَت هي كَذلِك -عِنادًا له- بتَركِ وَظِيفَتِها الأُسَرِيّةِ وهِي الوَفاءُ والثِّقةُ فأَفسَدَتْهُما، عِندَئذٍ يَختَلُّ نِظامُ تلك الأُسرةِ كُلِّـيًّا ويَذهَبُ هَباءً مَنثُورًا، كالإِخلالِ بالنِّظامِ في الجَيشِ.
فلا بُدَّ لِلزَّوجةِ أن تَسعَى جادّةً لِإكمالِ نَقصِ زَوجِها وإِصلاحِ تَقصِيرِه كي تُنقِذَ صاحِبَها الأَبدِيَّ، وإلّا فهِي تَخسَرُ وتَتَضرَّرُ في كلِّ جانِبٍ إذا ما حاوَلَت إِظهارَ نَفسِها وتَحبِيبَها لِلآخَرِينَ بالتَّـكشُّفِ والتَّبَرُّجِ، لِأنَّ الَّذي يَتَخلَّى عنِ الوَفاءِ يَجِدُ جَزاءَه في الدُّنيا أَيضًا، لِأنَّ فِطْرَتَها تَتَجنَّبُ غَيرَ المَحارِمِ وتَشمَئِزُّ مِنهُم، فهِي تَحتَرِزُ مِن ثَمانِيَ عَشْرةَ شَخصًا مِن كلِّ عِشرِينَ شَخصًا أَجنَبِيًّا، بَينَما الرَّجُلُ قد لا يَشمَئِزُّ مِنَ النَّظَرِ إلى امرَأةٍ واحِدةٍ مِن كلِّ مِئةٍ أَجنَبِيّةٍ.
فكَما أنَّ الزَّوجةَ تُعانِي مِنَ العَذابِ مِن هذه الجِهةِ، فهِي تَضَعُ نَفسَها مَوضِعَ اتِّهامٍ أَيضًا بعَدَمِ الوَفاءِ وفِقدانِ الثِّقةِ والوَفاءِ، فلا تَستَطِيعُ الحِفاظَ على حُقُوقِها فَضْلًا عن ضَعفِها.
[المرأة مخلوق طيب مبارك]
حاصِلُ الكَلامِ: كما أنَّ النِّساءَ لا يُشبِهنَ الرِّجالَ -مِن حَيثُ الشَّفَقةُ والحَنانُ- في التَّضحِيةِ ولا في الإِخلاصِ، وأنَّ الرِّجالَ لا يَبلُغُونَ شَأْوَهُنَّ في التَّضحِيةِ والفِداءِ؛ كَذلِك لا تُدرِكُ المَرأةُ الرَّجُلَ في السَّفاهةِ والغَيِّ بأَيِّ وَجهٍ مِنَ الوُجُوهِ، لِذا فهِي تَخافُ كَثِيرًا بفِطْرَتِها وخِلقَتِها الضَّعِيفةِ مِن غَيرِ المَحارِمِ، وتَجِدُ نَفسَها مُضطَرّةً إلى الِاحتِماءِ بالحِجابِ، ذلك لِأنَّ الرَّجُلَ إذا غَوَى لِأَجلِ تَلَذُّذِ ثَماني دَقائِقَ لا يَتَضرَّرُ إلّا بِضعَ لَيراتٍ، بَينَما المَرأةُ تُجازَى على ثَمانِي دَقائِقَ مِنَ اللَّذّةِ بثِقَلِ ثَمانيةِ أَشهُرٍ، وتَتَحمَّلُ تَكالِيفَ تَربِيةِ طِفلٍ لا حامِيَ له طَوالَ ثَمانِي سَنَواتٍ؛ بمَعنَى أنَّ المَرأةَ لا تَبلُغُ مَبلَغَ الرِّجالِ في السَّفاهةِ، وتُعاقَبُ علَيْها أَضعافَ أَضعافِ عِقابِ الرَّجُلِ.
إنَّ هذه الحَوادِثَ لَيسَت نادِرةً، وهِي تَدُلُّ على أنَّ النِّساءَ مَخلُوقاتٌ مُبارَكاتٌ، خُلِقنَ لِيَكُنَّ مَنشَأً لِلأَخلاقِ الفاضِلةِ، إذ تَكادُ تَنعَدِمُ فِيهِنَّ قابِلِيّةُ الفِسقِ والفُجُورِ لِلتَّمَتُّعِ بأَذواقِ الدُّنيا؛ بمَعنَى أنَّ النِّساءَ نَوعٌ مِن مَخلُوقاتٍ طَيِّباتٍ مُبارَكاتٍ، خُلِقنَ لِأَجلِ قَضاءِ حَياةٍ أُسَرِيّةٍ سَعِيدةٍ ضِمنَ نِطاقِ التَّربِيةِ الإِسلاميّةِ.
فتَبًّا وسُحقًا لِتِلك المُنَظَّماتِ الَّتي تَسعَى لِإفسادِ هَؤُلاءِ الطَّيِّباتِ.
وأَسأَلُه تَعالَى أن يَحفَظَ أَخَواتِي مِن شُرُورِ هَؤُلاءِ السُّفَهاءِ الفاسِدِينَ.. آمِينَ.
[العزوبة خير من زوج فاسد]
أَخَواتِي.. أَقُولُ لَكُنَّ هذا الكَلامَ بشَكلٍ خاصٍّ:
اِعْمَلْنَ على كَسْبِ نَفَقاتِكُنَّ بعَمَلِ أَيدِيكُنَّ كما تَفعَلُ نِساءُ القُرَى الطَّيِّباتُ، واكْتَفِينَ بالِاقتِصادِ والقَناعةِ المَغرُوزَتَينِ في فِطْرَتِكُنَّ؛ وهذا أَولَى مِنِ امتِهانِ أَنفُسِكُنَّ بسَبَبِ هُمُومِ العَيشِ بالرُّضُوخِ لِسَيطَرةِ زَوجٍ فاسِدٍ، سَيِّئِ الخُلُقِ، مُتَفرنِجٍ.. وإذا ما كانَ حَظُّ إِحداكُنَّ وقِسمَتُها زَوجًا لا يُلائِمُها، فلْتَرْضَ بقِسمَتِها ولْتَقْنَعْ، فعَسَى اللهُ أن يُصلِحَ زَوجَها برِضاها وقَناعَتِها، وإلّا ستُراجِعُ المَحاكِمَ لِأَجلِ الطَّلاقِ -كما أَسمَعُ في الوَقتِ الحاضِرِ- وهذا لا يَلِيقُ قَطعًا بعِزّةِ الإِسلامِ وشَرَفِ الأُمّةِ.
[النكتة الثالثة: لا لذة في غير الحلال]
النُّكتةُ الثّالثة:
أَخَواتِي العَزِيزاتِ.. اِعلَمْنَ قَطعًا أنَّ الأَذواقَ والمُتَعَ الخارِجةَ عن حُدُودِ الشَّرعِ، فيها مِنَ الآلامِ والمَتاعِبِ أَضعافُ أَضعافِ لَذائِذِها؛ وقد أَثبَتَت “رَسائِلُ النُّورِ” هذه الحَقِيقةَ بمِئاتٍ مِنَ الدَّلائِلِ القَوِيّةِ والحَوادِثِ القاطِعةِ، ويُمكِنُكُنَّ أن تَجِدْنَ تَفاصِيلَها في “رَسائِلِ النُّورِ”.
فمَثلًا: الكَلِمةُ السّادِسةُ والسّابِعةُ والثّامِنةُ مِنَ “الكَلِماتِ الصَّغِيرةِ” و”مُرشِدِ الشَّبابِ” تُبيِّنُ لَكُنَّ هذه الحَقِيقةِ بوُضُوحٍ تامٍّ نِيابةً عنِّي.. فعَلَيكُنَّ إِذًا بالقَناعةِ والِاطمِئنانِ والِاكتِفاءِ بما في حُدُودِ الشَّرعِ مِن أَذواقٍ ولَذائِذَ، فمُلاطَفةُ أَولادِكُنَّ الأَبرِياءِ ومُداعَبَتُهُم ومُجالَسَتُهُم في بُيُوتِكُنَّ مُتعةٌ نَزِيهةٌ تَفضُلُ مِئاتِ المَرّاتِ مُتعةَ السِّينِما.
[اللذة الحقيقية في هذه الدنيا]
واعْلَمْنَ يَقِينًا أنَّ اللَّذّةَ الحَقِيقيّةَ في هذه الدُّنيا إنَّما هي في الإِيمانِ وفي حُدُودِ الإِيمانِ، وأنَّ في كلِّ عَمَلٍ صالِحٍ لَذّةً مَعنَوِيّةً، بَينَما في الضَّلالةِ والغَيِّ آلامٌ مُنَغِّصةٌ في هذه الدُّنيا أَيضًا.. هذه الحَقِيقةُ أَثبَتَتْها “رَسائلُ النُّورِ” بمِئاتٍ مِنَ الأَدِلّةِ القاطِعةِ، فأَنا شَخصِيًّا شاهَدتُ بعَينِ اليَقِينِ عَبْرَ تَجارِبَ كَثِيرةٍ وحَوادِثَ عَدِيدةٍ: أنَّ في الإِيمانِ بِذْرةَ جَنّةٍ، وفي الضَّلالةِ والسَّفَهِ بِذْرةَ جَهَنَّمَ، وقد كَتَبتُ هذه الحَقِيقةَ مِرارًا في “رَسائِلِ النُّورِ” حتَّى عَجَز أَعتَى المُعانِدِينَ والخُبَراءُ الرَّسمِيُّونَ والمَحاكِمُ عن جَرحِ هذه الحَقِيقةِ.
فلْتَكُنِ الآنَ “رِسالةُ الحِجابِ” في المُقدِّمةِ و”مُرشِدُ الشَّبابِ” و”الكَلِماتُ الصَّغِيرةُ” نائِبةً عنِّي في إِلقاءِ الدَّرسِ علَيكُنَّ يا أَخَواتِي الطَّيِّباتِ المُبارَكاتِ ويا مَن هُنَّ بمَثابةِ بَناتِي الصَّغِيراتِ.
فلَقَد سَمِعتُ أنَّكُنَّ تَرغَبنَ في أن أُلقِيَ علَيكُنَّ دَرسًا في الجامِعِ، ولكِنَّ مَرَضِي الشَّدِيدَ، إضافةً إلى ضَعفِي الشَّدِيدِ، وأَسبابٍ أُخرَى، تَحُولُ دُونَ ذلك.. لِذا فقد قَرَّرتُ أن أَجعَلَكُنَّ يا أَخَواتِي اللّاتِي تَقْرَأْنَ دَرسِي هذا الَّذي كَتَبتُه لَكُنَّ مُشارِكاتٍ لي في جَمِيعٍ مَكاسِبِي المَعنَوِيّةِ وفي دَعَواتِي، كطُلّابِ النُّورِ.
وإذا استَطَعتُنَّ الحُصُولَ على رَسائِلِ النُّورِ -ولَو على بَعضٍ مِنها- وقِراءَتَها أوِ الِاستِماعَ إلَيْها نِيابةً عَنِّي، فإِنَّكُنَّ تُصبِحْنَ مُشارِكاتٍ لِإِخوانِكُنَّ طُلّابِ النُّورِ في جَمِيعِ مَكاسِبِهمُ المَعنَوِيّةِ وأَدعِيَتِهِم حَسَبَ قاعِدَتِنا المُقرَّرةِ.
كُنتُ أَرغَبُ أن أَكتُبَ إِلَيكُنَّ أَكثَرَ مِن هذا، ولكِنِ اكتَفَيتُ بهذا القَدْرِ لِمَرَضِي وضَعفِي الشَّدِيدِ وشَيخُوخَتِي وهَرَمِي، وواجِباتٍ كَثِيرةٍ تَنتَظِرُني كتَصحِيحِ الرَّسائِلِ.
﴿الباقي هو الباقي﴾
أَخُوكُنَّ المُحتاجُ إلى دُعائِكُنَّ
سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ
❀ ❀ ❀