اللمعات

اللمعة الخامسة والعشرون: رسالة المرضى.

[هذه اللمعة رسالةٌ إلى كل مريض ومبتلى، تتضمن خمسةً وعشرين دواءً معنويًّا يخفف وطأة المرض، ويبدل الألم سلوانًا ولذةً معنوية]

فإذا انعَدَم المَرَضُ وَقَع الإِنسانُ في الغَفْلةِ نَتِيجةَ الصِّحّةِ والعافِيةِ، وبَدَتِ الدُّنيا في عَينَيه حُلوةً خَضِرةً لَذِيذةً، فيُصِيبُه عِندَئِذٍ مَرَضُ نِسيانِ الآخِرةِ، فيَرغَبُ عن ذِكرِ المَوتِ والقَبْرِ، ويُهدِرُ رَأسَ مالِ عُمُرِه الثَّمِينَ هَباءً مَنثُورًا.. في حِينِ أنَّ المَرَضَ سَرْعانَ ما يُوقِظُه مُفتِّحًا عَينَيه، قائِلًا له: "أَنتَ لَستَ خالِدًا ولَستَ سائِبًا، بل أَنتَ مُسَخَّرٌ لِوَظِيفةٍ، دَعْ عنك الغُرُورَ، اُذكُرْ خالِقَك.. واعْلَمْ أَنَّك ماضٍ إلى القَبْرِ، وهَيِّئْ نَفسَك وجَهِّزْها.
فإذا انعَدَم المَرَضُ وَقَع الإِنسانُ في الغَفْلةِ نَتِيجةَ الصِّحّةِ والعافِيةِ، وبَدَتِ الدُّنيا في عَينَيه حُلوةً خَضِرةً لَذِيذةً، فيُصِيبُه عِندَئِذٍ مَرَضُ نِسيانِ الآخِرةِ، فيَرغَبُ عن ذِكرِ المَوتِ والقَبْرِ، ويُهدِرُ رَأسَ مالِ عُمُرِه الثَّمِينَ هَباءً مَنثُورًا.. في حِينِ أنَّ المَرَضَ سَرْعانَ ما يُوقِظُه مُفتِّحًا عَينَيه، قائِلًا له: “أَنتَ لَستَ خالِدًا ولَستَ سائِبًا، بل أَنتَ مُسَخَّرٌ لِوَظِيفةٍ، دَعْ عنك الغُرُورَ، اُذكُرْ خالِقَك.. واعْلَمْ أَنَّك ماضٍ إلى القَبْرِ، وهَيِّئْ نَفسَك وجَهِّزْها.
المحتويات عرض

[اللمعة الخامسة والعشرون: رسالة المرضى]

 

اللمعة الخامسة والعشرون

وهي خمسة وعشرون دواءً

هي عِيادةٌ للمريض، وبَلسَمٌ للمَرضَى، ومَرهَمُ تسليةٍ ووَصفةٌ معنويّة لهم، وقد كُتِبت بمثابة القَولِ المَأثُور: “ذَهَب البَأْسُ، وحَمْدًا لله على السَّلامة”.‌

[تنبيه واعتذار]

تنبيهٌ واعتِذارٌ

تمَّ تَألِيفُ هذه الوَصْفةِ المَعنَوِيّةِ بسُرعةٍ تَفُوقُ جَمِيعَ ما كَتَبْناه1نعم، نَشهَدُ أنَّ تأليفَ هذه الرِّسالة قد تمَّ خِلالَ أَربَعِ ساعاتٍ ونِصفِ السّاعةِ.

رُشدِي، رَأفَت، خُسرَو، سَعِيد.
،

ولِضِيقِ الوَقتِ كان تَصحِيحُها وتَدقِيقُها -بخِلافِ الجَمِيعِ- بنَظْرةٍ خاطِفةٍ في غايةِ السُّرعةِ كتَأْلِيفِها، فظَلَّت مُشَوَّشةً كالمُسَوَّدةِ الأُولَى، ولم نَرَ حاجةً لِلقِيامِ بتَدقِيقاتٍ جَدِيدةٍ، حَيثُ إنَّ الخَواطِرَ الَّتي تَرِدُ القَلبَ فِطْريًّا لا يَنبَغِي إِفسادُها بزُخرُفِ القَولِ والتَّفنُّنِ والتَّدقِيقِ، فالرَّجاءُ مِنَ القُرّاءِ -وبخاصّةٍ المَرضَى مِنهُم- ألّا يَضجَرُوا مِنَ العِباراتِ غَيرِ المَأْنُوسةِ والجُمَلِ الصَّعبةِ، وأن يَدْعُوا لي بظَهرِ الغَيبِ.

سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ‌

❀   ❀   ❀

[خمسة وعشرون دواء لأهل البلاء والمرضى]

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾

﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ *وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾

في هذه اللَّمْعةِ نُبيِّنُ خَمْسةً وعِشرِينَ دَواءً بَيانًا مُجمَلًا، تلك الأَدوِيةَ الَّتي يُمكِنُ أن تكُونَ تَسلِيةً حَقِيقيّةً وعِلاجًا نافِعًا لِأَهلِ البَلاءِ والمَصائِبِ ولِلمَرضَى العَلِيلِينَ الَّذِينَ هُم عُشرُ أَقسامِ البَشَرِيّةِ.

[الدواء الأول: المرض نوع من الدواء]

الدَّواءُ الأوَّل

أيُّها المَرِيضُ العاجِزُ، لا تَقلَق، اِصبِرْ.. فإنَّ مَرَضَك ليس عِلّةً لك، بل هو نَوعٌ مِنَ الدَّواءِ، ذلك لِأنَّ العُمُرَ رَأسُ مالٍ يَتَلاشَى، فإن لم يُستَثمَر فسيَضِيعُ كلُّ شَيءٍ، وبخاصّةٍ إذا انقَضَى بالرّاحةِ والغَفْلةِ فيَحُثُّ الخُطا إلى نِهايَتِه، أَمّا المَرَضُ فيُكسِبُ رَأسَ مالِك المَذكُورَ أَرباحًا طائِلةً، ولا يَسمَحُ بمُضِيِّه سَرِيعًا، فهُو يُبطِئُ خُطُواتِ العُمُرِ، ويُمسِكُه، ويُطَوِّلُه، حتَّى يُؤتِيَ ثِمارَه، ثمَّ يَغدُو إلى شَأْنِه.. وقد ذَهَب طُولُ العُمُرِ بالأَمراضِ مَثلًا، فقِيلَ: ألا ما أَطْولَ زَمَنَ النَّوائِبِ، وما أَقصَرَ زَمَنَ الهَناءِ!

[الدواء الثاني: المرض يجعل وقتك عبادة]

الدَّواءُ الثَّاني

أيُّها المَرِيضُ الجَزِعُ، تَجَمَّلْ بالصَّبْرِ، بل تَجَمَّلْ بالشُّكرِ، فإنَّ مَرَضَك هذا يُمكِنُه أن يَجعَلَ مِن دَقائِقِ عُمُرِك في حُكْمِ ساعاتٍ مِنَ العِبادةِ، ذلك لِأنَّ العِبادةَ قِسمانِ:

الأُولَى: العِبادةُ الإِيجابِيّةُ المُتَجَسِّدةُ في إِقامةِ الصَّلاةِ والدُّعاءِ وأَمثالِها.

الثّانيةُ: العِبادةُ السَّلبِيّةُ الَّتي يَتَضرَّعُ فيها المُصابُ مُلتَجِئًا إلى خالِقِه الرَّحِيمِ، مُستَجِيرًا به مُتَوسِّلًا إلَيْه، مُنطَلِقًا مِن أَحاسِيسِه الَّتي تُشعِرُه بعَجْزِه وضَعْفِه أَمامَ تلك الأَمراضِ والمَصائِبِ.. فيَنالُ بذلك التَّضَرُّعِ عِبادةً مَعنَوِيّةً خالِصةً مُتَجرِّدةً مِن كلِّ أَنواعِ الرِّياءِ.

نعم، هُناك رِواياتٌ صَحِيحةٌ على أنَّ العُمُرَ المَمزُوجَ بالمَرَضِ والسَّقَمِ يُعَدُّ لِلمُؤمِنِ عِبادةً على شَرطِ عَدَمِ الشَّكوَى مِنَ اللهِ سُبحانَه، بل هو ثابِتٌ بعِدّةِ رِواياتٍ صَحِيحةٍ وكَشْفِيّاتٍ صادِقةٍ أنَّ دَقِيقةً واحِدةً مِن مَرَضِ قِسمٍ مِنَ الشّاكِرِينَ الصّابِرِينَ هي بحُكْمِ ساعةِ عِبادةٍ كامِلةٍ لَهُم، وأنَّ دَقِيقةً مِنه لِقِسمٍ مِنَ الكامِلِينَ هي بمَثابةِ يَومِ عِبادةٍ كامِلةٍ لَهُم.. فلا تَشْكُ -يا أَخِي- مِن مَرَضٍ يَجعَلُ دَقِيقةً مِن عُمُرِك في حُكمِ أَلفِ دَقِيقةٍ ويُمِدُّك بعُمُرٍ طَوِيلٍ مَدِيدٍ! بل كُن شاكِرًا له.

[الدواء الثالث: المرض إيقاظ]

الدَّواءُ الثَّالثُ

أيُّها المَرِيضُ الضَّجُورُ، إنَّ الإِنسانَ لم يَأْتِ إلى هذه الدُّنيا لِلتَّمتُّعِ والتَّلذُّذِ، والشَّاهِدُ على ذلك: رَحِيلُ كلِّ آتٍ، ومَشِيبُ الشَّبابِ، وتَدَحرُجُ الجَمِيعِ في دَوَّامةِ الزَّوالِ والفِراقِ؛ وبَيْنا تَرَى الإِنسانَ أَكمَلَ الأَحياءِ وأَسماها وأَغناها أَجهِزةً بل هو السَّيِّدُ علَيْها جَمِيعًا، إذا به بالتَّفكُّرِ في لَذَّاتِ الماضِي وبَلايا المُستَقبَلِ، يَقضِي حَياتَه في كَدَرٍ ومَشَقّةٍ، هاوِيًا بنَفسِه إلى دَرَكاتٍ أَدنَى مِنَ الحَيَوانِ.

فالإِنسانُ إِذًا لم يَأْتِ إلى هذه الدُّنيا لِقَضاءِ عَيشٍ ناعِمٍ جَمِيلٍ مَغمُورٍ بنَسَماتِ الرّاحةِ والصَّفاءِ، بل جاءَ إلى هنا لِيَغنَمَ سَعادةَ حَياةٍ أَبدِيّةٍ دائِمةٍ بما يُسِّر له مِن سُبُلِ التِّجارةِ برَأْسِ مالِه العَظِيمِ الَّذي هو العُمُرُ؛ فإذا انعَدَم المَرَضُ وَقَع الإِنسانُ في الغَفْلةِ نَتِيجةَ الصِّحّةِ والعافِيةِ، وبَدَتِ الدُّنيا في عَينَيه حُلوةً خَضِرةً لَذِيذةً، فيُصِيبُه عِندَئِذٍ مَرَضُ نِسيانِ الآخِرةِ، فيَرغَبُ عن ذِكرِ المَوتِ والقَبْرِ، ويُهدِرُ رَأسَ مالِ عُمُرِه الثَّمِينَ هَباءً مَنثُورًا.. في حِينِ أنَّ المَرَضَ سَرْعانَ ما يُوقِظُه مُفتِّحًا عَينَيه، قائِلًا له: “أَنتَ لَستَ خالِدًا ولَستَ سائِبًا، بل أَنتَ مُسَخَّرٌ لِوَظِيفةٍ، دَعْ عنك الغُرُورَ، اُذكُرْ خالِقَك.. واعْلَمْ أَنَّك ماضٍ إلى القَبْرِ، وهَيِّئْ نَفسَك وجَهِّزْها هكذا”.

فالمَرَضُ إِذًا يَقُومُ بدَورِ مُرشِدٍ ناصِحٍ أَمِينٍ مُوقِظٍ، فلا داعِيَ بَعدُ إلى الشَّكوَى مِنه، بل يَجِبُ التَّفيُّؤُ في ظِلالِ الشُّكرِ مِن هذه النّاحِيةِ، وإذا ما اشتَدَّت وَطْأتُه كَثِيرًا فعَلَيْك بطَلَبِ الصَّبْرِ مِنه تَعالَى.

[الدواء الرابع: المرض يُعرِّفك على اسم الشافي]

الدَّواءُ الرَّابعُ

أيُّها المَرِيضُ الشّاكِي، اِعلَمْ أنَّه ليس لك حَقٌّ في الشَّكوَى، بل علَيْك الشُّكرُ، علَيْك الصَّبْرُ، لِأنَّ جَسَدَك وأَعضاءَك وأَجهِزَتَك لَيسَت بمُلكِك أَنتَ، فأَنتَ لم تَصنَعْها بنَفسِك، وأَنتَ لم تَبتَعْها مِن أيّةِ شَرِكةٍ أو مَصنَعٍ ابتِياعًا، فهِي إِذًا مُلكٌ لِغَيرِك، ومالِكُ تلك الأَشياءِ يَتَصرَّفُ في مُلكِه كَيفَ يَشاءُ، كما وَرَد ذلك في مِثالٍ في “الكَلِمةِ السّادِسةِ والعِشرِينَ” الخاصّةِ بالقَدَرِ، وهُو: أنَّ صانِعًا ثَرِيًّا ماهِرًا يُكلِّفُ رَجُلًا فَقِيرًا لِقاءَ أُجرةٍ مُعيَّنةٍ لِيَقُومَ له لِمُدّةِ ساعةٍ بدَوْرِ “العارِض” النَّمُوذَج.

فلِأَجلِ إِظهارِ صَنْعَتِه الجَمِيلةِ وثَروَتِه القَيِّمةِ يُلبِسُه القَمِيصَ المُزَرْكَشَ الَّذي حاكَه، والحُلّةَ القَشِيبةَ المُرَصَّعةَ الَّتي نَسَجَها في غايةِ الجَمالِ والصَّنعةِ، ويُنجِزُ علَيْه أَعمالًا ويُظهِرُ أَوْضاعًا وأَشكالًا شَتَّى، لِبَيانِ خَوارِقِ صَنْعَتِه وبَدائِعِ مَهارَتِه، فيَقُصُّ ويُبدِّلُ، ويُطوِّلُ ويُقصِّرُ، وهكذا.

فيا تُرَى أَيَحِقُّ لِذلِك الفَقِيرِ الأَجِيرِ أن يقُولَ لِذلِك الصّانِعِ الماهِرِ: “إنَّك تُتعِبُني وتُرهِقُني وتُضَيِّقُ علَيَّ بطَلَبِك مِنِّي الِانحِناءَ مَرّةً والِاعتِدالَ أُخرَى.. وإنَّك تُشَوِّه الجَمالَ المُتَألِّقَ على هذا القَمِيصِ الَّذي يُجَمِّلُ هِندامِي ويُزيِّنُ قامَتِي بقَصِّك وتَقصِيرِك له.. إنَّك تَظلِمُني ولا تُنصِفُني!”.

وكَذلِك الحالُ بالنِّسبةِ لِلصّانِعِ الجَلِيلِ سُبحانَه وتَعالَى -﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾- الَّذي أَلبَسَك أيُّها المَرِيضُ قَمِيصَ الجَسَدِ، وأَوْدَع فيه الحَواسَّ النُّورانيّةَ المُرَصَّعةَ كالعَينِ والأُذُنِ والعَقلِ، فلِأَجلِ إِظهارِ نُقُوشِ أَسمائِه الحُسنَى، يُبَدِّلُك ضِمنَ حالاتٍ مُتَنوِّعةٍ ويَضَعُك في أَوضاعٍ مُختَلِفةٍ.. فكما أنَّك تَتَعرَّفُ على اسمِه “الرَّزَّاقِ” بتَجَرُّعِك مَرارةَ الجُوعِ، تَتَعرَّفُ على اسمِه “الشَّافي” بمَرَضِك.

ونَظَرًا لِظُهُورِ قِسمٍ مِن أَحكامِ أَسمائِه الحُسنَى بالآلامِ وانكِشافِه بالمَصائِبِ، ففيها لَمَعاتُ الحِكْمةِ وشُعاعاتُ الرَّحمةِ وأَنوارُ الجَمالِ؛ فإذا ما رُفِعَ الحِجابُ فستَجِدُ فيما وَراءَ مَرَضِك الَّذي تَستَوحِشُ مِنه وتَنفِرُ، مَعانِيَ عَمِيقةً جَمِيلةً مُحَبَّبةً تَرتاحُ إلَيْها، تلك الَّتي كانَت تَنزَوِي خَلفَ حِجابِ المَرَضِ.

[الدواء الخامس: المرض نوع إحسانٍ إلهي]

الدَّواءُ الخامِسُ

أيُّها المُبتَلَى بالمَرَض، لقد تَوافَرَت لَدَيَّ القَناعةُ التّامّةُ خِلالَ تَجرِبَتِي في هذا الزَّمانِ، بأنَّ المَرَضَ نَوعٌ مِنَ الإِحسانِ الإِلٰهِيِّ والهَدِيّةِ الرَّحمانيّةِ لِقِسمٍ مِنَ النَّاسِ، فقدِ الْتَقانِي بَعضُ الشَّبابِ في هذه السَّنَواتِ الثَّماني أوِ التِّسعِ، لِمُعاناتِهِمُ المَرَضَ، ابتِغاءَ دُعائي لَهُم، رَغمَ أنِّي لَستُ أَهلًا لِذلِك، فلاحَظتُ أنَّ مَن كانَ مِنهُم يُعانِي مَرَضًا هو أَكثَرُ تَفَكُّرًا في الآخِرةِ وتَذَكُّرًا لها، وليس ثَمِلًا بغَفْلةِ الشَّبابِ، بل كانَ يَقِي نَفسَه -إلى حَدٍّ مّا- تَحتَ أَوْجاعِ المَرَضِ وأَوْصابِه، ويُحافِظُ علَيْها مِنَ الشَّهَواتِ الحَيَوانيّةِ.

وكُنتُ أُذكِّرُهُم بأنِّي أَرَى أنَّ أَمراضَهُم هذه -ضِمنَ قابِليَّتِهِم على التَّحَمُّلِ- إنَّما هي إِحسانٌ إِلٰهِيٌّ وهِبةٌ مِنه سُبحانَه؛ وكُنتُ أَقُولُ: “يا أَخِي، أنا لَستُ ضِدَّ مَرَضِك هذا ولا علَيْه، فلا أَشعُرُ بشَفَقةٍ علَيْك ورَأْفةٍ لِأَجلِ مَرَضِك، كي أَقُومَ بالدُّعاءِ لك، فحاوِلِ التَّجَمُّلَ بالصَّبْرِ والثَّباتِ أَمامَ هذا المَرَضِ، حتَّى تَتَحقَّق لك الإِفاقةُ والصَّحْوةُ؛ إذ بَعدَ أن يُنهِيَ المَرَضُ مَهامَّه سيَشفِيك الخالِقُ الرَّحِيمُ إن شاءَ“.

وكُنتُ أَقُولُ أَيضًا: “إنَّ قِسمًا مِن أَمثالِك يُزَعزِعُونَ حَياتَهُمُ الأَبدِيّةَ بل يَهدِمُونَها مُقابِلَ مَتاعٍ ظاهِرِيٍّ لِساعةٍ مِن حَياةٍ دُنيَوِيّةٍ، وذلك لِمُضِيِّهِم سادِرِينَ في الغَفْلةِ النّاشِئةِ مِن بَلاءِ الصِّحّةِ، هاجِرِينَ الصَّلاةَ ناسِينَ المَوتَ وغافِلِينَ عنِ اللهِ عزَّ وجَلَّ.. أمّا أَنتَ فتَرَى بعَينِ المَرَضِ القَبْرَ الَّذي هو مَنزِلُك الَّذي لا مَناصَ مِنَ الذَّهابِ إلَيْه، وتَرَى كَذلِك ما وَراءَه مِنَ المَنازِلِ الأُخرَوِيّةِ الأُخرَى، ومِن ثَمَّ تَتَحرَّكُ وتَتَصرَّفُ على وَفقِ ذلك، فمَرَضُك إِذًا إنَّما هو بمَثابةِ صِحّةٍ لك، والصِّحّةُ الَّتي يَتَمتَّعُ بها قِسمٌ مِن أَمثالِك إنَّما هي بمَثابةِ مَرَضٍ لَهُم“.

[الدواء السادس: زوال الألم لذة]

الدَّواءُ السَّادسُ

أيُّها المَرِيضُ الشّاكي مِنَ الأَلمِ، أَسأَلُك أن تُعِيدَ في نَفسِك ما مَضَى مِن عُمُرِك، وأن تَتَذكَّرَ الأَيّامَ الهانِئةَ اللَّذِيذةَ السّابِقةَ مِن ذلك العُمُرِ، والأَوقاتَ العَصِيبةَ والأَلِيمةَ الَّتي فيه.

فلا جَرَمَ أنَّك ستَنطِقُ لِسانًا أو قَلبًا: إمّا بـ”أَوَّه” أو “آه”، أي: إمّا ستَتَنفَّسُ الصُّعَداءَ وتقُولُ: “الحَمدُ للهِ والشُّكرُ له”، أو ستَتَنهَّدُ عَمِيقًا قائِلًا: “وا حَسْرَتاه! وا أَسَفاه!”..

فانظُر كَيفَ أنَّ الآلامَ والنَّوائِبَ الَّتي عانَيْتَ مِنها سابِقًا عِندَما خَطَرَتْ بذِهنِك غَمَرَتْك بلَذّةٍ مَعنَوِيّةٍ، حتَّى هاجَ قَلبُك بـ”الحَمدُ للهِ والشُّكرُ له”، ذلك لِأنَّ زَوالَ الأَلَمِ يُولِّدُ لَذّةً وشُعُورًا بالفَرَحِ.

ولِأنَّ تلك الآلامَ والمَصائِبَ قد غَرَسَت بزَوالِها لَذّةً كامِنةً في الرُّوحِ سالَتْ بتَخَطُّرِها على البالِ وخُرُوجِها مِن مَكْمَنِها حَلاوةً وسُرُورًا، وتَقَطَّرَت حَمْدًا وشُكرًا.

أمّا حالاتُ اللَّذّةِ والصَّفاءِ الَّتي قَضَيتَها والَّتي تَنفُثُ علَيْها الآنَ دُخانَ الأَلَمِ بقَولِك: “وا أَسَفاه! واحَسْرَتاه!” فإنَّها بزَوالِها غَرَسَت في رُوحِك أَلمًا مُضمَرًا دائِمًا، وها هُو ذا الأَلمُ تَتَجدَّدُ غُصّاتُه الآنَ بأَقلِّ تَفَكُّرٍ في غِيابِ تلك اللَّذّاتِ، فتَنهَمِرُ دُمُوعُ الأَسَفِ والحَسْرةِ.

فما دامَتِ اللَّذّةُ غَيرُ المَشرُوعةِ لِيَومٍ واحِدٍ تُذِيقُ الإِنسانَ -أَحيانًا- أَلمًا مَعنَوِيًّا طَوالَ سَنةٍ كامِلةٍ، وأنَّ الأَلمَ النّاتِجَ مِن يَومِ مَرَضٍ مُؤَقَّتٍ يُوفِّرُ لَذّةً مَعنَوِيّةً لِثَوابِ أيّامٍ عِدّةٍ فَضْلًا عنِ اللَّذّةِ المَعنَوِيّةِ النّابِعةِ مِنَ الخَلاصِ مِنه، فتَذَكَّر جَيِّدًا نَتِيجةَ المَرَضِ المُؤَقَّتِ الَّذي تُعانيه، وفَكِّرْ في الثَّوابِ المَرجُوِّ المُنتَشِرِ في ثَناياه، وتَشَبَّثْ بالشُّكرِ وتَرَفَّعْ عنِ الشَّكوَى، وقُل: “يا هذا.. كلُّ حالٍ يَزُولُ..”.

[الدواء السادس: المرض وسيلة لتخلي القلب عن الدنيا]

الدَّواءُ السَّادِسُ2نَظَرًا لِوُرُودِ هذه اللَّمعةِ فِطْريًّا دُونَ تكلُّفٍ وتَعمُّدٍ، فقد كُتِبَت في المَرتَبةِ السَّادسةِ دَواءَينِ، وإِحجامًا عنِ الإِقحامِ في فِطرِيَّتِها، تَرَكناها كما هي، ولم نَجرُؤ على تَبدِيلِ شَيءٍ مِنها خَوْفًا مِن وُجُودِ سِرٍّ في المَسأَلةِ.

أيُّها الأَخُ المُضطَرِبُ مِنَ المَرَضِ بتَذَكُّرِ أَذْواقِ الدُّنيا ولَذائِذِها.. لو كانَت هذه الدُّنيا دائِمةً فِعلًا، ولَوِ انزاحَ المَوتُ عن طَرِيقِنا فِعلًا، ولوِ انقَطَعَت أَعاصِيرُ الفِراقِ والزَّوالِ عنِ الهُبُوبِ بَعدَ الآنَ، ولو تَفَرَّغَ المُستَقبَلُ العاصِفُ بالنَّوائِبِ عن مَواسِمِ الشِّتاءِ المَعنَوِيّةِ، لَانخَرَطتُ في صَفِّك ولَرثَيتُك باكِيًا لِحالِك؛ ولكِن ما دامَتِ الدُّنيا ستُخرِجُنا مِنها قائِلةً: “هَيّا اخرُجُوا..!” صامّةً آذانَها عن صُراخِنا واستِنجادِنا، فعَلَيْنا نَحنُ قبلَ أن تَطرُدَنا هي نابِذةً لنا، أن نَهجُرَ عِشقَها والإِخلادَ إلَيْها مِنَ الآنَ، بإِيقاظاتِ الأَمراضِ، وأَن نَسعَى لِأَجلِ التَّخَلِّي عنِ الدُّنيا قَلْبًا ووِجْدانًا قَبلَ أن تَتَخلَّى هي عَنّا.

نعم، إنَّ المَرَضَ بتَذكِيرِه إِيّانا هذا المَعنَى اللَّطِيفَ والعَمِيقَ، يَهمِسُ في سَرائِرِ قُلُوبِنا قائِلًا:

“بُنْيَتُك لَيسَت مِنَ الصُّلبِ والحَدِيدِ، بل مِن مَوادَّ مُتَبايِنةٍ مُرَكَّبةٍ فيك، مُلائِمةٍ كلَّ التَّلاؤُمِ لِلتَّحَلُّلِ والتَّفسُّخِ والتَّفرُّقِ حالًا.. دَعْ عَنك الغُرُورَ وأَدرِكْ عَجْزَك وتَعَرَّفْ على مالِكِك، وافْهَمْ ما وَظِيفَتُك، وتَعَلَّمْ ما الحِكْمةُ والغايةُ مِن مَجِيئِك إلى الدُّنيا؟”.

ثمَّ ما دامَتْ أَذْواقُ الدُّنيا ولَذّاتُها لا تَدُومُ، وبخاصّةٍ إذا كانَت غَيرَ مَشرُوعةٍ، بل تَبعَثُ في النَّفسِ الأَلَمَ وتُكسِبُها ذَنبًا وجَرِيرةً، فلا تَبْكِ على فَقْدِك ذلك الذَّوقَ بحُجّةِ المَرَضِ، بل تَفَكَّرْ في مَعنَى العِبادةِ المَعنَوِيّةِ الَّتي يَتَضمَّنُها مَرَضُك والثَّوابُ الأُخرَوِيُّ الَّذي يُخفِيه لك، واسْعَ لِتَنالَ ذلك الذَّوقَ الخالِصَ الزَّكيَّ.

[الدواء السابع: المرض يذيق النعمة الإلهية]

الدَّواءُ السَّابعُ

أيُّها المَرِيضُ الفاقِدُ لِنِعمةِ الصِّحّةِ.. إنَّ مَرَضَك لا يَذهَبُ بلَذّةِ النِّعمةِ الإِلٰهِيّةِ في الصِّحّة، بل على العَكسِ، إنَّه يُذِيقُك إيّاها ويُطَيِّـبُها ويَزِيدُها لَذّةً، ذلك أنَّ شَيْئًا مّا إذا دامَ واستَمَرَّ على حالِه يَفقِدُ طَعْمَه وتَأثِيرَه.. حتَّى اتَّفَق أَهلُ الحَقِّ على القَولِ: “إنَّما الأَشياءُ تُعرَفُ بأَضدادِها..”.

فمَثلًا: لَوْلا الظُّلمةُ لَمَا عُرِفَ النُّورُ ولَظَلَّ دُونَ لَذّةٍ، ولَوْلا البُرُودةُ لَما عُرِفَتِ الحَرارةُ ولَبَقِيَت دُونَ استِساغةٍ، ولَوْلا الجُوعُ لَمَا أَعطَى الأَكلُ لَذّتَه وطَعْمَه، ولَوْلا حَرارةُ المَعِدةِ لَمَا وَهَبَنا ارتِشافُ الماءِ ذَوْقًا، ولَوْلا العِلّةُ لَكانَتِ العافِيةُ بلا ذَوقٍ، ولَوْلا المَرَضُ لَباتَتِ الصِّحّةُ عَدِيمةَ اللَّذّةِ.

إنَّ الفاطِرَ الحَكِيمَ لَمَّا أَرادَ إِشعارَ الإِنسانِ وإِحساسَه بمُختَلِفِ إِحساناتِه، وإِذاقَتَه أَنواعَ نِعَمِه سَوقًا مِنه إلى الشُّكرِ الدّائِمِ، جَهَّزَه بأَجهِزةٍ في غايةِ الكَثْرةِ لتُقبِلَ على تَذَوُّقِ تلك الآلافِ المُؤَلَّفةِ مِن أَنواعِ النِّعَمِ المُختَلِفةِ، لِذا فلا بُدَّ مِن أنَّه سيُنزِلُ الأَمراضَ والأَسقامَ والعِلَلَ أَيضًا مِثلَما يَلطُفُ ويَرزُقُ بالصِّحّةِ والعافِيةِ.

وأَسأَلُك: “لو لم يَكُن هذا المَرَضُ الَّذي أَصابَ رَأسَك أو يَدَك أو مَعِدَتَك.. هل كانَ بمَقدُورِك أن تَتَحسَّسَ اللَّذّةَ الكامِنةَ في الصِّحّةِ الَّتي كانَت باسِطةً ظِلالَها على رَأسِك أو يَدِك أو مَعِدَتِك؟ وهل كُنتَ تَتَمكَّنُ مِن أن تَتَذوَّقَ وتَشكُرَ النِّعمةَ الإِلٰهِيّةَ الَّتي جَسَّدَتْها تلك النِّعمةُ؟ بل كانَ الغالِبُ علَيْك النِّسيانُ بَدَلًا مِنَ الشُّكرِ، أو لَكُنتَ تَصرِفُ تلك الصِّحّةَ بطُغْيانِ الغَفْلةِ إلى سَفاهةٍ دُونَ شُعُورٍ!”.

[الدواء الثامن: المرض كفارة وتطهير]

الدَّواءُ الثَّامنُ

أيُّها المَرِيضُ الذَّاكِرُ لِآخِرَتِه.. إنَّ مَرَضَك كمَفعُولِ الصَّابُونِ، يُطَهِّرُ أَدْرانَك، ويَمسَحُ عنك ذُنُوبَك، ويُنقِّيك مِن خَطاياك؛ فقد ثَبَت أنَّ الأَمراضَ كَفَّاراتٌ لِلذُّنُوبِ والمَعاصِي، ووَرَد في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: “ما مِن مُسلِمٍ يُصِيبُه أَذًى إلّا حَاتَّ اللهُ عَنْه خَطاياه كما تَحاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ”، والذُّنُوبُ هي أَمراضٌ دائِمةٌ في الحَياةِ الأَبدِيّةِ، وهِي في هذه الحَياةِ الدُّنيا أَيضًا أَمراضٌ مَعنَوِيّةٌ في القَلبِ والوِجدانِ والرُّوحِ.

فإذا كُنتَ صابِرًا لا تَشكُو نَجَوْتَ بنَفسِك إِذًا بهذا المَرَضِ العابِرِ مِن أَمراضٍ دائِمةٍ كَثِيرةٍ جِدًّا، وإذا كُنتَ لاهِيًا عن ذُنُوبِك، ناسِيًا آخِرَتَك غافِلًا عن رَبِّك، فإنِّي أُؤَكِّدُ مَعاناتَك مِن داءٍ خَطِيرٍ، هو أَخطَرُ وأَفتَكُ وأَكبَرُ بمِليُونِ مِرّةٍ مِن هذه الأَمراضِ المُوَقَّتةِ، ففِرَّ مِنه واصْرُخْ..! لِأنَّ قَلبَك ورُوحَك ونَفسَك كلَّها مُرتَبِطةٌ بمَوجُوداتِ الدُّنيا قاطِبةً، فتِلك الأَواصِرُ تَنقَطِعُ دَوْمًا بسُيُوفِ الفِراقِ والزَّوالِ فاتِحةً فيك جُرُوحًا عَمِيقةً، وبخاصَّةٍ أنَّك تَتَخيَّلُ المَوتَ إِعدامًا أَبَدِيًّا لِعَدَمِ مَعرِفَتِك بالآخِرةِ. فكَأنَّ لك كِيانًا مَرِيضًا ذا جُرُوحٍ وشُرُوخٍ بحَجمِ الدُّنيا، مِمّا يُحَتِّمُ علَيْك قَبلَ كلِّ شَيءٍ أنْ تَبحَثَ عنِ العِلاجِ التَّامِّ والشِّفاءِ الحَقِيقيِّ لِكِيانِك المَعنَوِيِّ الكَبِيرِ الَّذي تُفَسِّخُه العِلَلُ غَيرُ المَحدُودةِ والكُلُومُ غَيرُ المَعدُودةِ.

فما أَظُنُّك تَجِدُها إلّا في عِلاجِ الإِيمانِ وبَلسَمِه الشَّافي، واعْلَمْ أنَّ أَقصَرَ طَرِيقٍ لِبُلُوغِ ذلك العِلاجِ هو مَعرِفةُ قُدرةِ القادِرِ ذِي الجَلالِ ورَحمَتِه الواسِعةِ، مِن خِلالِ نافِذَتَيِ “العَجزِ والفَقرِ” اللَّتَينِ تَتَفتَّحانِ بتَمزِيقِ المَرَضِ المادِّيِّ لِحِجابِ الغَفْلةِ.

نعم، إنَّ الَّذي لا يَعرِفُ اللهَ يَحمِلُ فَوقَ رَأسِه هُمُومًا وبَلايا بسَعَةِ الدُّنيا وما فيها، ولكِنَّ الَّذي عَرَف رَبَّه تَمتَلِئُ دُنياه نُورًا وسُرُورًا مَعنَوِيًّا، وهُو يَشعُرُ بذلك بما لَدَيْه مِن قُوّةِ الإِيمانِ كلٌّ حَسَبَ دَرَجَتِه.. نعم، إنَّ أَلَمَ الأَمراضِ المادِّيّةِ الجُزئيّةِ يَذُوبُ ويَنسَحِقُ تَحتَ وابِلِ السُّرُورِ المَعنَوِيِّ والشِّفاءِ اللَّذِيذِ القادِمَينِ مِنَ الإِيمانِ.

[الدواء التاسع: لا تخف من الموت]

الدَّواءُ التَّاسِعُ

أيُّها المَرِيضُ المُؤمِنُ بخالِقِه.. إنَّ سَبَبَ التَّألُّمِ مِنَ الأَمراضِ والخَوفِ والفَزَعِ مِنها يَنبَعُ مِن كَونِ المَرَضِ أَحيانًا وَسِيلةً لِلمَوتِ والهَلاكِ، ولِكَونِ المَوتِ -بنَظَرِ الغَفْلةِ- مُرعِبًا مُخِيفًا ظاهِرًا، فإنَّ الأَمراضَ الَّتي يُمكِنُ أن تكُونَ وَسائِلَ له تَبعَثُ على القَلَقِ والِاضطِرابِ.. فاعْلَمْ:

أوَّلًا: آمِنْ قَطْعًا أنَّ الأَجَل مُقَدَّرٌ لا يَتَغيَّـرُ، فقد حَدَث أنْ ماتَ أُولَئِك الباكُونَ عِندَ المُحتَضَرِينَ في مَرَضِهِم، معَ أنَّهُم كانُوا يَتَمتَّعُونَ بصِحّةٍ وعافِيةٍ، وشُفِيَ أُولَئِك المَرضَى الَّذِينَ كانَت حالَتُهُم خَطِرةً، وعاشُوا بَعدَ ذلك أَحياءً يُرزَقُونَ.

[حقيقة الموت]

ثانيًا: إنَّ المَوتَ ليس مُخِيفًا في ذاتِه كما يَبدُو لنا في صُورَتِه الظّاهِرِيّةِ، وقد أَثبَتْنا في رَسائِلَ كَثِيرةٍ إِثباتًا قاطِعًا -دُونَ أن يَتْرُكَ شَكًّا ولا شُبهةً- بمُوحِياتِ نُورِ القُرآنِ الكَرِيمِ:

أنَّ المَوتَ لِلمُؤمِنِ إِعفاءٌ وإِنهاءٌ مِن كُلفةِ وَظِيفةِ الحَياةِ ومَشَقَّتِها..

وهُو تَسرِيحٌ مِنَ العُبُودِيّةِ الَّتي هي تَعلِيمٌ وتَدرِيبٌ في مَيدانِ ابتِلاءِ الدُّنيا..

وهُو بابُ وِصالٍ لِالتِقاءِ تِسعةٍ وتَسعِينَ مِنَ الأَحِبّةِ والخُلّانِ الرَّاحِلِينَ إلى العالَمِ الآخَرِ..

وهُو وَسِيلةٌ لِلدُّخُولِ في رِحابِ الوَطَنِ الحَقِيقيِّ والمُقامِ الأَبدِيِّ لِلسَّعادةِ الخالِدةِ..

وهُو دَعوةٌ لِلِانتِقالِ مِن زِنزانةِ الدُّنيا إلى بَساتِينِ الجَنّةِ وحَدائِقِها..

وهُو الفُرصةُ الواجِبةُ لِتَسلُّمِ الأُجرةِ إِزاءَ الخِدْمةِ المُؤَدّاةِ، تلك الأُجرةِ الَّتي تُغدَقُ سَخِيّةً مِن خَزِينةِ فَضلِ الخالِقِ الرَّحِيمِ.

فما دامَت هذه هي ماهِيّةَ المَوتِ مِن زاوِيةِ الحَقِيقةِ، فلا يَنبَغِي أن يُنظَرَ إلَيْه كأنَّه شَيءٌ مُخِيفٌ، بل يَجِبُ اعتِبارُه تَباشِيرَ الرَّحمةِ والسَّعادةِ؛ حتَّى إنَّ قِسمًا مِن “أَهلِ اللهِ” لم يَكُن خَوفُهُم مِنَ المَوتِ بسَبَبِ وَحْشةِ المَوتِ ودَهْشَتِه، وإنَّما بسَبَبِ رَغبَتِهِم في كَسْبِ المَزِيدِ مِنَ الخَيرِ والحَسَناتِ بإِدامةِ وَظِيفةِ الحَياةِ.

نعم، إنَّ المَوتَ لِأَهلِ الإِيمانِ بابُ الرَّحمةِ، وهُو لِأَهلِ الضَّلالةِ بِئرٌ مُظلِمةٌ ظَلامًا أَبدِيًّا.

[الدواء العاشر: دع عنك القلق]

الدَّواءُ العاشِرُ

أيُّها المَرِيضُ القَلِقُ دُونَ داعٍ لِلقَلَقِ.. أَنتَ قَلِقٌ مِن وَطْأةِ المَرَضِ وشِدَّتِه، فقَلَقُك هذا يَزِيدُ ثِقَلَ المَرَضِ علَيْك؛ فإذا كُنتَ تُرِيدُ أن تُخَفِّف المَرَضَ عنك، فاسْعَ جاهِدًا لِلِابتِعادِ عنِ القَلَقِ، أي: تَفَكَّرْ في فَوائِدِ المَرَضِ، وفي ثَوابِه، وفي حَثِّه الخُطا إلى الشِّفاءِ، فاجتَثَّ جُذُورَ القَلَقِ مِن نَفسِك لِتَجتَثَّ المَرَضَ مِن جُذُورِه.

نعم، إنَّ القَلَقَ (أوِ الوَسْوَسةَ) يُضاعِفُ مَرَضَك ويَجعَلُه مَرَضَينِ، لِأنَّ القَلَقَ يَبُثُّ في القَلبِ -تَحتَ وَطْأةِ المَرَضِ المادِّيِّ- مَرَضًا مَعنَوِيًّا، فيَدُومُ المَرَضُ المادِّيُّ مُستَنِدًا إلَيْه، فإذا ما أَذهَبتَ عنك القَلَقَ والهَواجِسَ بتَسلِيمِ الأَمرِ للهِ والرِّضَا بقَضائِه، وباستِحضارِ حِكْمةِ المَرَضِ، فإنَّ مَرَضَك المادِّيَّ سيَفقِدُ فَرْعًا مُهِمًّا مِن جُذُورِه فيُخَفَّفُ، وقِسمٌ مِنه يَزُولُ، وإذا ما رافَقَتِ المَرَضَ المادِّيَّ أَوهامٌ وهَواجِسُ فقد يَكبُرُ عُشرَ مِعشارِ تلك الأَوْهامِ بواسِطةِ القَلَقِ إلى مِعشارٍ، ولكِن بانقِطاعِ القَلَقِ يَزُولُ تِسعةٌ مِن عَشَرةٍ مِن مَفعُولِ ذلك المَرَضِ.

وكما أنَّ القَلَقَ يَزِيدُ المَرَضَ، كَذلِك يَجعَلُ المَرِيضَ كأنّه يَتَّهِمُ الحِكْمةَ الإِلٰهِيّةَ ويَنتَقِدُ الرَّحمةَ الإِلٰهِيّةَ ويَشكُو مِن خالِقِه الرَّحِيمِ، لِذا يُؤدَّبُ المَرِيضُ بلَطَماتِ التَّأدِيبِ -بخِلافِ ما يَقصِدُه هو- مِمَّا يَزِيدُ مَرَضَه، إذ كما أنَّ الشُّكرَ يَزِيدُ النِّعَمَ فالشَّكوَى كَذلِك تَزِيدُ المَرَضَ والمُصِيبةَ.

هذا، وإنَّ القَلَق في حَدِّ ذاتِه مَرَضٌ، وعِلاجُه إنَّما هو في مَعرِفةِ حِكْمةِ المَرَضِ؛ وإذا ما عَرَفتَ حِكْمَتَه وفائِدَتَه، فامْسَحْ قَلَقَك بذلك المَرهَمِ وانْجُ بنَفسِك، وقُل بَدَلًا مِن “وا أَسَفاهْ!”: “الحَمدُ للهِ على كلِّ حالٍ”.

[الدواء الحادي عشر: لا تنشغل بغير الآن]

الدَّواءُ الحادِيَ عَشَرَ

أيُّها الأَخُ المَرِيضُ الجَزُوعُ.. معَ أنَّ المَرَضَ يُعطِيك أَلَمًا حاضِرًا، فهُو يَمنَحُك في الوَقتِ نَفسِه لَذّةً مَعنَوِيّةً مُستَدَرّةً مِن زَوالِ مَرَضِك السّابِقِ، معَ لَذّةٍ رُوحِيّةٍ نابِعةٍ مِنَ الثَّوابِ الحاصِلِ مِن جَرّاءِ ذلك المَرَضِ؛ فالزَّمانُ القابِلُ بَعدَ اليَومِ، بل بَعدَ هذه السَّاعةِ لا يَحمِلُ مَرَضًا.

ولا شَكَّ أنَّه لا أَلَمَ مِن غَيرِ شَيءٍ، وما لم يَكُن هُنالِك أَلَمٌ فلا تَوَجُّعَ ولا شَكْوَى؛ ولكِن لِأنَّك تَتَوهَّمُ تَوَهُّمًا خَطَأً فإنَّ الجَزَع يَنتابُك، إذ معَ زَوالِ فَتْرةِ المَرَضِ المادِّيِّ قد ذابَ أَلَمُ تلك الفَتْرةِ أَيضًا، وثَبَت ثَوابُ المَرَضِ، وبَقِيَت لَذّةُ زَوالِه.. فمِنَ البَلاهةِ بل مِنَ الجُنُونِ أنْ تَتَذكَّر بَعدَ الآنَ المَرَضَ السَّابِقَ وتَتَألَّمَ مِنه، فتَفقِدَ صَبْرَك ويَنفَدَ مِنك، في حِينِ يَلزَمُك الِانشِراحُ بذَهابِه والِارتِياحُ بثَوابِه.

أمَّا الأَيَّامُ القابِلةُ فإنَّها لم تَأتِ بَعدُ، أَليسَ مِنَ البَلاهةِ إِشغالُ النَّفسِ مِنَ الآنَ بالتَّفكُّرِ في يَومٍ لم يُولَد بَعدُ، وفي مَرَضٍ لم يَنزِل بَعدُ وفي أَلَمٍ لم يَقَع بَعدُ؟! فهذا النَّوعُ مِنَ التَّوهُّمِ -نَتِيجةَ التَّفكُّرِ المَرِيرِ وتَحمِيلِ النَّفسِ أَلَمًا مُوجِعًا- يَدفَعُ إلى فِقْدانِ الصَّبْرِ ويَصبِغُ ثَلاثةَ أَنواعٍ مِنَ العَدَمِ بثَلاثِ مَراتِبَ مِنَ الوُجُودِ.. أَليسَ هذا جُنُونًا؟! فما دامَت أَزمِنةُ المَرَضِ الَّتي سَبَقَت هذه السَّاعةَ تَبعَثُ على النَّشوةِ والحُبُورِ، وما دامَ الزَّمانُ القابِلُ بعدَ هذه السّاعةِ مَعدُومًا، فالمَرَضُ مَعدُومٌ والأَلَمُ مَعدُومٌ.

فلا تُبذِّر يا أَخِي ما وَهَب لك الحَقُّ سُبحانَه وتَعالَى مِن قُوّةِ الصَّبْرِ يَمِينًا وشِمالًا، بل احْشُدْها جَمِيعًا مُقابِلَ الأَلَمِ الَّذي يَعتَرِيك في هذه السَّاعةِ وقُل: “يا صَبُورُ”، وتَحَمَّلْ صابِرًا مُحتَسِبًا!

[الدواء الثاني عشر: المرض لا يقطع عملك الصالح]

الدَّواءُ الثَّانِيَ عَشَرَ

أيُّها المَرِيضُ المَحرُومُ مِنَ العِبادةِ ومِن أَوْرادِه بسَبَبِ المَرَضِ.. ويا أيُّها الآسِفُ على ذلك الحِرمانِ.. اعْلَمْ أنَّه ثابِتٌ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ ما مَعْناه: “أنَّ المُؤمِنَ التَّقِيَّ يَأتيه ثَوابُ ما كانَ يُؤدِّيه مِنَ العِبادةِ حتَّى في أَثناءِ مَرَضِه”، فالمَرَضُ لا يَمنَعُ ثَوابَه، فإنَّ المَرِيضَ المُؤَدِّيَ لِلفَرائِضِ -على قَدْرِ استِطاعَتِه- سيَنُوبُ المَرَضُ عن سائِرِ السُّنَنِ ويَحُلُّ مَحَلَّها أَثناءَ شِدّةِ المَرَضِ نِيابةً خالِصةً، لِمَا يَتَجمَّلُ به ذلك المَرِيضُ مِنَ الصَّبْرِ والتَّوكُّلِ والقِيامِ بالفَرائِضِ، وكذا يُشعِرُ المَرَضُ الإِنسانَ بعَجزِه وضَعفِه، فيَتَضرَّعُ المَرِيضُ بذلك العَجزِ وذلك الضَّعفِ بالدُّعاءِ حالًا وقَولًا.. ولم يُودِعِ اللهُ سُبحانَه وتَعالَى في الإِنسانِ عَجْزًا غَيرَ مَحدُودٍ وضَعْفًا غَيرَ مُتَناهٍ إلّا لِيَلتَجِئَ دائِمًا إلى الحَضْرةِ الإِلٰهِيّةِ بالدُّعاءِ سائِلًا راجِيًا، حَيثُ إنَّ الحِكْمةَ مِن خَلقِ الإِنسانِ والسَّبَبَ الأَساسَ لِأَهمِّيَّتِه هو الدُّعاءُ الخالِصُ بمَضمُونِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾، ولِكَونِ المَرَضِ سَبَبًا لِلدُّعاءِ الخالِصِ، فلا تَصِحُّ الشَّكوَى مِنه، بل يَجِبُ الشُّكرُ لله، ولا يَنبَغِي أن تُجَفَّف يَنابِيعُ الدُّعاءِ الَّتي فَجَّرَها المَرَضُ عِندَ كَسبِ العافِيةِ.

[الدواء الثالث عشر: قد يكون المرض هديةً وكنزًا]

الدَّواءُ الثَّالثَ عَشَرَ

أيُّها المِسكِينُ الشّاكِي مِنَ المَرَضِ، إنَّ المَرَضَ يَغدُو كَنزًا عَظِيمًا لِبَعضِ النّاسِ، وهَدِيّةً إِلٰهِيّةً ثَمِينةً لَهُم؛ وباستِطاعةِ كلِّ مَرِيضٍ أن يَتَصوَّرَ مَرَضَه مِن هذا النَّوعِ، حَيثُ إنَّ الحِكْمةَ الإِلٰهِيّةَ اقتَضَت أنْ يكُونَ الأَجَلُ مَجهُولًا وَقْتُه، إِنقاذًا لِلإِنسانِ مِنَ اليَأسِ المُطلَقِ ومِنَ الغَفْلةِ المُطلَقةِ، وإِبقاءً له بَينَ الخَوفِ والرَّجاءِ، حِفظًا لِدُنياه وآخِرَتِه مِنَ السُّقُوطِ في هاوِيةِ الخُسرانِ.. أي إنَّ الأَجَلَ مُتَوقَّعٌ مَجِيئُه كلَّ حِينٍ، فإنْ تَمَكَّن مِنَ الإِنسانِ وهُو سادِرٌ في غَفْلَتِه يُكبِّدُه خَسائِرَ فادِحةً في حَياتِه الأُخرَوِيّةِ الأَبدِيّةِ؛ فالمَرَضُ يُبدِّدُ تلك الغَفْلةَ ويُشَتِّـتُها، وبالتّالي يُذَكِّرُ بالآخِرةِ ويَستَحضِرُ المَوتَ في الذِّهنِ فيَتَأهَّبُ له، بل يَحدُثُ أن يُرْبِحَه رِبحًا عَظِيمًا، فيَفُوزَ خِلالَ عِشرِينَ يَومًا بما قد يَستَعصِي استِحصالُه خِلالَ عِشرِينَ سَنةً كامِلةً.. فعلى سَبِيلِ المِثالِ:

كانَ هُناك فَتَيانِ -يَرحَمُهُما اللهُ- أَحَدُهُما يُدعَى “صَبْرِي” مِن قَريةِ “إِيلاما” والآخَرُ “مُصطَفَى وَزِير زادَه” مِن “إِسلام كُوْي”، ورَغمَ كَونِهِما أُمِّيَّينِ مِن بَينِ طُلَّابِي، فقد كُنتُ أَلحَظُ بإِعجابٍ مَوقِعَهُما في الصَّفِّ الأَوَّلِ في الوَفاءِ والصِّدقِ وفي خِدْمةِ الإِيمانِ، فلم أُدرِك حِكْمةَ ذلك في حِينِها، ولكِن بَعدَ وَفاتِهِما عَلِمتُ أنَّهُما كانا يُعانِيانِ مِن داءَينِ عُضالَينِ، وبإِرشادٍ مِن ذلك المَرَضِ أَصبَحا على تَقوَى عَظِيمةٍ يَسعَيانِ في خِدْمةٍ راقِيةٍ، وفي وَضْعٍ نافِعٍ لِآخِرَتِهما، على خِلافِ سائِرِ الشَّبابِ الغافِلِينَ التّارِكِينَ لِلفَرائِضِ.. فنَسأَلُ اللهَ أن تكُونَ سَنَتا المَرَضِ والمُعاناةِ اللَّتانِ قَضَياهُما في الحَياةِ الدُّنيا قد تَحَوَّلَتا إلى مَلايِينِ السِّنِينَ مِن سَعادةِ الحَياةِ الأَبدِيّةِ.

والآنَ فقط أَفهَمُ أنَّ دُعائِي لَهُما بالشِّفاءِ قد أَصبَحَ دُعاءً علَيْهِما مِن زاوِيةِ الدُّنيا، ولكِن أَرجُو اللهَ أن يكُونَ دُعائِي مُستَجابًا لِصِحَّتِهِما الأُخرَوِيّةِ. وهكَذا استَطاعَ هذانِ الشَّخصانِ -حَسَبَ اعتِقادِي- الحُصُولَ على رِبحٍ يُساوِي الكَسبَ الَّذي يُحَقِّقُه الإِنسانُ بالسَّعيِ والتَّقوَى لِعَشرِ سِنِينَ في الأَقلِّ، فلو كانا مُتَباهِيَينِ بصِحَّتِهِما كبَعضِ الشَّبابِ وسائِقَينِ لِنَفسَيهِما إلى شِراكِ الغَفْلةِ والسَّفاهةِ حتَّى يَأتِيَهُما المَوتُ المُتَرصَّدُ، وهُما يَتَخبَّطانِ في أَوْحالِ الخَطايا وظُلُماتِها، لَكان قَبراهُما جُحُورَ العَقارِبِ والأَفاعِي بَدَلًا مِن كَونِهِما الآنَ دَفائِنَ النُّورِ وكُنُوزَ البَهْجةِ.

فما دامَتِ الأَمراضُ تَحمِلُ في مَضامِينِها هذه المَنافِعَ الكَبِيرةَ فلا يَجُوزُ الشَّكوَى مِنها، بل يَجِبُ الِاعتِمادُ على الرَّحمةِ الإِلٰهِيّةِ بالتَّوَكُّلِ والصَّبْرِ، بل بالحَمدِ والشُّكرِ.

[الدواء الرابع عشر: المرض يفتح عين البصيرة]

الدَّواءُ الرَّابعَ عَشَرَ

أيُّها المَرِيضُ المُسدَلُ على عَينَيه، إذا أَدرَكْتَ أنَّ هُنالِك نُورًا، وأيُّ نُورٍ! وعَينًا مَعنَوِيّةً تَحتَ ذلك الحِجابِ المُسدَلِ على أَعيُنِ أَهلِ الإِيمانِ، فستَقُولُ: “شُكرًا وأَلفُ شُكرٍ لِرَبِّي الرَّحِيمِ”، وتَوضِيحًا لِهذا المَرهَمِ سأُورِدُ الحادِثةَ الآتِيةَ:

لقد أُصِيبَت عَمَّةُ “سُلَيْمانَ” -وهُو مِن “بارْلا”- الَّذي ظَلَّ يَخدُمُني دُونَ أن يَمَلَّني يَومًا أو أَتَضايَقَ بشَيءٍ مِنه طَوالَ ثَمانِي سَنَواتٍ خِدمةً مَقرُونةً بكَمالِ الوَفاءِ والِاحتِرامِ.. أُصِيبَت هذه المِسكِينةُ بالعَمَى فانطَفَأ نُورُ عَينِها، ولِفَرْطِ حُسنِ ظَنِّ تلك المَرأةِ الصّالِحةِ بي أَكثَرَ مِمّا أَستَحِقُّ بكَثِيرٍ تَشَبَّثَتْ بي وأنا أُغادِرُ المَسجِدَ قائِلةً: “باللهِ علَيْك ادْعُ اللهَ لي مِن أَجلِ عَينِي”، وأنا بِدَوْرِي جَعَلتُ صَلاحَ تلك المَرأةِ المُبارَكةِ المُؤمِنةِ قَرِينًا وشَفِيعًا لِدُعائِي، فدَعَوتُ اللهَ بتَضَرُّعٍ وتَوَسُّلٍ قائِلًا: “اللَّهُمَّ يا رَبَّنا بحُرمةِ صَلاحِها اكْشِفْ عن بَصَرِها”.

وفي اليَومِ التّالي جاءَ طَبِيبٌ مِن وِلايةِ “بُورْدُور” القَرِيبةِ، وهُو مُختَصٌّ بالعُيُونِ، فعالَجَها، فرَدَّ اللهُ علَيْها بَصَرَها، وبَعدَ أَربَعِينَ يَومًا عادَت عَينُها إلى حالَتِها الأُولَى، فتَألَّمتُ لِذلِك كَثِيرًا ودَعَوتُ دُعاءً كَثِيرًا، وأَرجُو أن يكُونَ دُعائي مُستَجابًا على حِسابِ آخِرَتِها، وإلّا فإنَّ دُعائي ذلك سيُصبِحُ -خَطَأً- دُعاءً علَيْها، حَيثُ قد بَقِيَت لِتَستَوفِيَ أَجَلَها أَربَعِينَ يَومًا فقط؛ إذ بَعدَ أَربَعِينَ يَومًا مَضَت إلى رَحْمةِ اللهِ.

وهكذا، فإنَّ حِرمانَ هذه المَرأةِ المَرجُوِّ لَها الرَّحْمةُ مِن نِعمِة النَّظَرِ ببَصَرِ الشَّيخُوخةِ العَطُوفِ والِاستِمتاعِ بجَمالِ الحَدائِقِ الحَزِينةِ لـ”بارْلا” وإِسدالِ الحِجابِ بَينَها وبَينَ المُرُوجِ اللَّطِيفةِ خِلالَ أَربَعِينَ يَومًا، قد عَوَّض عنها الآنَ في قَبْرِها: إِطلالُها على الجَنّةِ ومُشاهِدةُ أَلفافِ حَدائِقِها الخَضراءِ لِأَربَعِينَ أَلفَ يَومٍ ويَومٍ.. ذلك لِأنَّ إِيمانَها كان راسِخًا عَمِيقًا وصَلاحَها كان مُشِعًّا عَظِيمًا.

نعم، المُؤمِنُ إذا ما أُسدِلَ على عَينَيه حِجابٌ ودَخَل القَبْرَ هكَذا، فإنَّه يَستَطِيعُ أن يُشاهِدَ عالَمَ النُّورِ -حَسَبَ دَرَجَتِه- بنَظَرٍ أَوسَعَ مِن نَظَرِ أَهلِ القُبُورِ؛ إذ كما أنَّنا نَرَى بعُيُونِنا أَكثَرَ الأَشياءِ في هذه الدُّنيا، والمُؤمِنُونَ العُميانُ لا يَستَطِيعُونَ رُؤيَتَها، ففي القَبْرِ أَيضًا سيَـرَى أُولَئِك العُميانُ -بتِلك الدَّرَجةِ- إن كانُوا أَصحابَ إِيمانٍ أَكثَرَ مِمّا يَراه أَهلُ القُبُورِ، وسيُشاهِدُونَ بَساتِينَ الجَنّةِ ونَعِيمَها كأنَّهُم مُزَوَّدُونَ بمَراصِدَ -كلٌّ حَسَبَ دَرَجَتِه- تَلتَقِطُ مَناظِرَ الجَنّةِ الرّائِعةَ وتَعرِضُها كالشَّاشةِ السِّينَمائيّةِ أَمامَ أَعيُنِ أُولَئِك المَكفُوفِينَ الَّذِينَ حُرِمُوا مِن نُورِ أَبصارِهِم في الدُّنيا.

فبِإمكانِك أيُّها الأَخُ الحُصُولُ على هذه العَينِ النُّورانيّةِ الَّتي تَكشِفُ عنِ الجَنّةِ فيما فَوقَ السَّماواتِ العُلا وأَنتَ بَعدُ تَحتَ الثَّرَى، وذلك بالصَّبرِ والشُّكرِ على ذلك الحِجابِ المُسدَلِ على عَينَيك، واعْلَمْ أنَّ الحَكِيمَ المُختَصَّ بالعَينِ والقادِرَ على رَفعِ ذلك الحِجابِ عن عَينَيك لِتَرى بتلك العَينِ النُّورانيّةِ، إنَّما هو القُرآنُ الحَكِيمُ.

[الدواء الخامس عشر: المرض قد يُنيل درجة الولاية]

الدَّواءُ الخامِسَ عَشَرَ

أيُّها المَرِيضُ المُتَأوِّهُ بالأَنينِ.. لا تَتَأوَّهْ أَبدًا ولا تَئِنَّ ناظِرًا إلى صُورةِ المَرَضِ القَبِيحةِ المَذمُومةِ، بلِ انظُرْ إلى مَعناه وفَحْواه وانبَسِطْ قائِلًا: “الحَمدُ للهِ”.

فلو لم يَكُن مَعنَى المَرَضِ شَيئًا جَمِيلًا لَمَا كانَ الخالِقُ الرَّحِيمُ يَبتَلِي أَحَبَّ أَحِبّائِه مِن عِبادِه بالأَمراضِ والأَسقام، فقد جاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: “أَشَدُّ النّاسِ بَلاءً الأَنبِياءُ، ثمَّ الأَولياءُ، ثمَّ الأَمثَلُ فالأَمثَلُ” أو كما قال.

ويَقِفُ في مُقدِّمةِ المُبتَلَينَ النَّبِيُّ الصّابِرُ أَيُّوبُ عَلَيهِ السَّلَام، ثمَّ الأَنبِياءُ الباقُونَ عَلَيهِم السَّلَام، ثمَّ الأَولِياءُ ثمَّ الصّالِحُونَ. وقد تَلَقَّوا جَمِيعًا تلك الأَمراضَ الَّتي قاسَوْها عِبادةً خالِصةً وهَدِيّةً رَحْمانيّةً، فأَدَّوُا الشُّكرَ مِن خِلالِ الصَّبرِ، وكانُوا يَرَونَها نَوعًا مِنَ العَمَلِيّاتِ الجِراحِيّةِ تُمنَحُ لَهُم مِن لَدُنِ الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ.

فأَنتَ أَيُّها المَرِيضُ المُتَأوِّهُ المُتَألِّمُ: إنْ كُنتَ تَرُومُ الِالتِحاقَ بهذه القافِلةِ النُّورانيّةِ، فأَدِّ الشُّكرَ في ثَنايا الصَّبْرِ، وإلّا فإنَّ شَكْواك ستَجعَلُهُم يُحجِمُونَ عن ضَمِّك إلى قافِلَتِهِم، وستَهوِي بنَفسِك في هُوّةِ الغافِلِينَ! وستَسلُكُ دَرْبًا تُخَيِّمُ علَيْه الظُّلُماتُ.

نعم، هُنالِك أَمراضٌ إذا أَعقَبَتْها المَنِيّةُ، يُكَلَّلُ صاحِبُها بشَهادةٍ مَعنَوِيّةٍ تَجعَلُه يُحرِزُ مَقامَ الوِلايةِ للهِ، وهِي تلك الأَمراضُ الَّتي تَتَمخَّضُ عنِ الوِلادةِ3يَمتَدُّ كَسبُ هذا المَرَضِ لِلشَّهادةِ المَعنَوِيّة لِغايةِ انتِهاءِ مُدّةِ النِّفاسِ، وهِي أَربَعُونَ يَومًا.، وغُصَصِ البَطنِ، والغَرَقِ والحَرقِ والطَّاعُونِ، فهذه الأَمراضُ إذا ماتَ بها صاحِبُها فإنَّه سيَرتَفِعُ إلى دَرَجةِ الشَّهِيدِ المَعنَوِيِّ. فهُنالِك أَمراضٌ كَثِيرةٌ ذاتُ بَرَكةٍ تُكسِبُ صاحِبَها دَرَجةَ الوِلايةِ بالمَوتِ الَّذي تَنتَهِي به؛ ولَمّا كانَ المَرَضُ يُخَفِّفُ مِن شِدّةِ حُبِّ الدُّنيا وغَلْوائِها ومِن عِشقِها والعَلاقةِ الشَّدِيدةِ بها؛ فهُو يُخَفِّفُ كَذلِك الفِراقَ الأَلِيمَ والمُرَّ لِأَهلِ الدُّنيا وهُم يُغادِرُونَها بالمَوتِ بل قد يُحبِّبُه إلَيْهِم.

[الدواء السادس عشر: المرض يُعلِّم صاحبَه الاحترام والمحبة]

الدَّواءُ السّادِسَ عَشَرَ

أيُّها المَرِيضُ الشَّاكِي مِنَ الضَّجَرِ.. إنَّ المَرَض يُلقِّنُ صاحِبَه أَهَمَّ عُرَى الحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ والإِنسانيّةِ وأَجمَلَ أَواصِرَها، وهُما الِاحتِرامُ والمَحَبّةُ، لِأنَّه يُنقِذُ الإِنسانَ مِنَ الِاستِغناءِ عنِ الآخَرِينَ، ذلك الِاستِغناءِ الَّذي يَسُوقُ إلى الوَحْشةِ ويُجَرِّدُ الإِنسانَ مِنَ الرَّحمةِ، لِأنَّه كما يَتَبيَّنُ مِنَ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾ أنَّ النَّفسَ الأَمّارةَ الواقِعةَ في شِباكِ الِاستِغناءِ -النَّاجِمِ عنِ الصِّحّةِ والعافِيةِ- لن تَشعُرَ بالِاحتِرامِ اللَّائِقِ تِجاهَ العَلاقاتِ الأَخَوِيّةِ، ولن تُحِسَّ بالرَّحمةِ والرَّأفةِ بالمُبتَلَينَ بالمَصائِبِ والأَمراضِ الجَدِيرِينَ بالرَّحمةِ والعَطفِ.

ولكِن مَتَى ما انتابَ الإِنسانَ المَرَضُ وأَدرَك مَدَى عَجْزِه، ومَدَى فَقْرِه، تَحتَ ضُغُوطِ المَرَضِ وآلامِه وأَثقالِه، فإنَّه يَشعُرُ بالِاحتِرامِ لِإخوانِه المُؤمِنِينَ اللّائِقِينَ بالِاحتِرامِ، الَّذِينَ يَقُومُونَ برِعايتِه، أوِ الَّذِينَ يَأتُونَ لِعِيادَتِه، ويَشعُرُ كَذلِك بالرَّأفةِ الإِنسانيّةِ وهِي خَصْلةٌ إِسلاميّةٌ تِجاهَ أَهلِ المَصائِبِ والبَلايا -قِياسًا على نَفسِه- فتَفِيضُ مِن قَلبِه الرَّحمةُ والرَّأفةُ بكُلِّ مَعانيهِما تِجاهَهُم، وتَضطَرِمُ عِندَه الشَّفَقةُ حارّةً إِزاءَهُم، وإذا استَطاعَ قَدَّم لَهُم يَدَ العَوْنِ، وإن لم يَقدِر علَيْه شَرَع بالدُّعاءِ لَهُم، أو بزِيارَتِهِم والِاستِفسارِ عن راحَتِهِم وأَحوالِهِم، مُؤَدِّيًا بذلك سُنّةً مَشرُوعةً كاسِبًا ثَوابَها العَظِيمَ.

[الدواء السابع عشر: المرض وسيلةٌ للدعاء المجاب]

الدَّواءُ السَّابِعَ عَشَرَ

أيُّها المَرِيضُ الشّاكِي مِنَ العَجزِ عنِ القِيامِ بأَعمالِ البِرِّ.. كُن شاكِرًا، فإنِّي أُبَشِّرُك بأنَّ الَّذي يَفتَحُ أَبوابَ أَخلَصِ الخَيراتِ إنَّما هو المَرَضُ نَفسُه، فالمَرَضُ فَضلًا عن أنَّه يُورِثُ ثَوابًا مُستَمِرًّا لِلمَرِيضِ ولِلَّذِينَ يَرعَوْنَه لوَجهِ اللهِ، فهُو يُمثِّلُ أَهَمَّ وَسِيلةٍ لِقَبُولِ الدُّعاءِ.

نعم، إنَّ رِعايةَ المَرضَى تَجلُبُ لِأَهلِ الإِيمانِ ثَوابًا عَظِيمًا، وإنَّ زِيارَتَهُم والسُّؤالَ عن صِحَّتِهِم وراحَتِهِم بشَرطِ عَدَمِ تَنغِيصِهِم لَهِيَ مِنَ السُّنّةِ الشَّرِيفةِ، وهِي كَفّارةٌ لِلذُّنُوبِ في الوَقتِ نَفسِه.. وقد وَرَد حَدِيثٌ بهذا المَعنَى: “اُطلُبُوا دُعاءَ المَرِيضِ فدُعاؤُه مُستَجابٌ”، وبخاصّةٍ إنْ كانَ المَرِيضُ مِنَ الأَقرَبِينَ، وبخاصّةٍ إن كانَ والِدًا أو والِدةً، فإنَّ خِدْمَتَهُما هي عِبادةٌ مُهِمّةٌ وهِي مَثُوبةٌ كُبرَى أَيضًا.. وإنَّ تَطمِينَ أَفئِدةِ المَرضَى وبَثَّ السُّلوانِ في قُلُوبِهِم، يُعتَبَرُ بحُكْمِ صَدَقةٍ مُهِمّةٍ.. فما أَسعَدَ أُولَئِك الأَبناءَ الَّذِينَ يَقُومُونَ برِعايةِ آبائِهِم أو أُمَّهاتِهِم عِندَ مَرَضِهِم، ويُدخِلُونَ البَهْجةَ في قُلُوبِهِمُ الرَّقيقةِ المُرهَفةِ، فيَفُوزُونَ بدُعاءِ الوالِدَينِ لَهُم.

نعم، إنَّ الحَقِيقةَ الَّتي تَستَحِقُّ احتِرامًا أَكثَرَ ومَكانةً أَسمَى في الحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ هي شَفَقةُ الوالِدَينِ، وتَعوِيضُ الأَبناءِ الطَّيِّبِينَ لِتِلك الشَّفَقةِ، بتَوجِيهِ الِاحتِرامِ اللّائِقِ والعاطِفةِ البارّةِ الزَّكِيّةِ إلَيْهِما حِينَما يُعانُونَ مِن مَرَضٍ.. وهِي لَوْحةٌ وَفِيّةٌ تُظهِرُ الوَضْعَ الجَيِّدَ لِلأَبناءِ وسُمُوَّ الإِنسانيّةِ بحَيثُ تُثِيرُ إِعجابَ كلِّ المَخلُوقاتِ حتَّى المَلائِكةَ، فيُحَيُّونَها مُهَلِّلِينَ مُكَبِّرِينَ وهاتِفِينَ: “ما شاءَ اللهُ! بارَكَ اللهُ!”.

نعم، إنَّ العَواطِفَ والرَّأفةَ والرَّحْمةَ المُحَلِّقةَ حَوالَيِ المَرِيضِ لَتُذِيبُ أَلَمَ المَرِيضِ وتُحَوِّلُه إلى لَذّاتٍ حُلْوةٍ مُفرِحةٍ.

إنَّ قَبُولَ دُعاءِ المَرِيضِ والِاستِجابةَ له مَسأَلةٌ مُهِمّةٌ جَدِيرةٌ بالِاهتِمامِ، فمُنذُ حَوالَيْ أَربَعِينَ سَنةً كُنتُ أَدعُو لِلشِّفاءِ مِن مَرَضٍ في ظَهْرِي، ثمَّ أَدرَكتُ أنَّ المَرَضَ يُمنَحُ لِأَجلِ الدُّعاءِ، ولِأَنَّ الدُّعاءَ لا يَرفَعُ دُعاءً، أي: أنَّ الدُّعاءَ لِعَدَمِ تَمَكُّنِه مِن إِزالةِ نَفسِه فإنَّ نَتِيجَتَه أُخرَوِيّةٌ4أجل، مع أنَّ قِسمًا مِنَ الأَمراضِ يُشكِّلُ عِلّةً لِوُجُودِ الدُّعاءِ، إلّا أنَّه إذا أَصبَحَ الدُّعاءُ سَببًا لِعَدَمِ المَرَضِ، فكَأنَّ الدُّعاءَ يُصبِحُ سَببًا لِعَدَمِ نَفسِه، وهذا لا يُمكِن..

والدُّعاءُ بذاتِه نَوعٌ مِنَ العِبادةِ، إذ يَلتَجِئُ المَرِيضُ إلى المَلاذِ الإِلٰهِيِّ عِندَ إِدراكِه لِعَجْزِه.

ولِهذا فإنَّ عَدَمَ القَبُولِ الظّاهِرِيَّ لِدَعوَتِي بالشِّفاءِ مِن مَرَضِي طَوالَ ثَلاثِينَ سَنةً لم يَصرِفْني أَبدًا إلى التَّفكِيرِ في يَومٍ مِنَ الأَيَّامِ بتَركِه والتَّخَلِّي عنه، ذلك لِأنَّ المَرَضَ أَوانُ الدُّعاءِ ووَقتُه، والشِّفاءَ ليس نَتِيجةَ الدُّعاءِ، بل إذا وَهَب اللهُ سُبحانَه -وهُو الحَكِيمُ الرَّحِيمُ- الشِّفاءَ فإنَّه يَهَبُه مِن فَضلِه وكَرَمِه، وإنَّ عَدَم قَبُولِ الدُّعاءِ بالشَّكلِ الَّذي نُرِيدُه لا يَقُودُنا إلى القَولِ بأنَّ الدُّعاءَ لم يُستَجَب، فالخالِقُ الحَكِيمُ يَعلَمُ أَفضَلَ مِنّا ونَحنُ نَجهَلُ، وأنَّه سُبحانَه يَسُوقُ إلَيْنا ما هو خَيرٌ لنا وأَنفَعُ، وأنَّه يَدَّخِرُ لنا الأَدعِيةَ الخاصّةَ بدُنيانا أَحيانًا لِتَنفَعَنا في أُخرانا، وهكذا يَقبَلُ الدُّعاءَ.

وعلى كُلِّ حالٍ، فإنَّ الدُّعاءَ الَّذي اكتَسَب الإِخلاصَ النّابِعَ مِن سِرِّ المَرَضِ والآتِيَ مِنَ الضَّعفِ والعَجزِ والتَّذَلُّلِ والِاحتِياجِ، قَرِيبٌ جِدًّا مِنَ القَبُولِ؛ والمَرَضُ أَساسٌ لِمِثلِ هذا الدُّعاءِ الخالِصِ ومَدارُه؛ فالمَرِيضُ والَّذِينَ يَقُومُونَ برِعايَتِه مِنَ المُؤمِنِينَ يَنبَغِي أن يَستَفِيدُوا مِن هذا الدُّعاءِ.

[الدواء الثامن عشر: انظر إلى من هو دونك]

الدَّواءُ الثَّامِنَ عَشَر

أيُّها المَرِيضُ التَّارِكُ لِلشُّكرِ والمُستَسلِمُ لِلشَّكوَى..

الشَّكوَى تكُونُ نابِعةً مِن وُجُودِ حَقٍّ يَعُودُ إِلَيْك، وأَنتَ لم يَذهَب حَقُّك سُدًى حتَّى تَشكُوَ، بل علَيْك حُقُوقٌ كَثِيرةٌ لم تُؤَدِّ بَعدُ شُكرَها.. إنَّك لم تُؤَدِّ حَقَّ اللهِ علَيْك، وفَوقَ ذلك تَقُومُ بالشَّكوَى بالباطِلِ وكأَنَّك على حَقٍّ، فلَيسَ لك أن تَشكُوَ ناظِرًا إلى مَن هو أَعلَى مِنك مَرتَبةً مِنَ الأَصِحّاءِ، بل علَيْك النَّظَرُ إلى أُولَئِك العاجِزِينَ مِنَ المَرضَى الَّذِينَ هُم أَدنَى مِنك دَرَجةً مِن زاوِيةِ الصِّحّةِ.

فأَنتَ مُكلَّفٌ إِذًا بالشُّكرِ الجَزِيلِ، فإذا كانَت يَدُك مَكسُورةً فتَأَمَّلِ الأَيدِيَ المَبتُورةَ، وإذا كُنتَ ذا عَينٍ واحِدةٍ فتَأَمَّلِ الفاقِدِينَ لِكِلتا العَينَينِ.. حتَّى تَشكُرَ اللهَ سُبحانَه.

نعم، فلَيسَ لِأَحَدٍ في زاوِيةِ النِّعمةِ حَقٌّ بمَدِّ البَصَرِ إلى مَن هو فَوقَه، لِتَتَأجَّجَ نارُ الشَّكوَى المُحرِقةُ عِندَه، وعِندَ المُصِيبةِ يَتَحتَّمُ على المَرءِ النَّظَرُ إلى مَن هو أَشَدُّ مِنه مُصِيبةً وأَعظَمُ مَرَضًا لِيَشكُرَ بعدَ ذلك قانِعًا بما هو فيه.. وقد وُضِّحَ هذا السِّرُّ في بَعضِ الرَّسائِلِ بمِثالٍ مَقتَضاه كالآتي:

شَخصٌ يَأخُذُ بِيَدِ مِسكِينٍ ليُصعِدَهُ إلى قِمّةِ مَنارةٍ، ويُهدِي إلَيْه في كلِّ دَرَجةٍ مِن دَرَجاتِ المَنارةِ هَدِيّةً، وأَخِيرًا يَختِمُ تلك الهَدايا بأَعظَمِ هَدِيّةٍ يَهَبُها له عِندَ قِمّةِ المَنارةِ.. وإذ كانَ المَفرُوضُ على هذا المِسكِينِ أن يُقدِّمَ الشُّكرَ والِامتِنانَ إِزاءَ الهَدايا المُتَنوِّعةِ، تَراه يَتَناسَى كلَّ تلك الهَدايا الَّتي أَخَذَها عِندَ تلك الدَّرَجاتِ، أو يَعُدُّها غَيرَ ذاتِ بالٍ، فلا يَشكُرُ، رافِعًا بَصَرَه إلى مَن هو أَعلَى مِنه شاكِيًا قائِلًا: “لو كانَت هذه المَنارةُ أَعلَى مِمّا هي علَيْه، لِأَبلُغَ أَعلَى دَرَجةٍ مِن هذه الدَّرَجاتِ! لِمَ لم تُصبِحْ مِثلَ ذلك الجَبَلِ الشّاهِقِ ارتفِاعًا أوِ المَنارةِ المُجاوِرةِ؟!”.

وهكذا إذا قامَ هذا الرَّجُلُ بهذه الشَّكوَى، فما أَعظَمَ ما يَرتَكِبُه مِن كُفْرانٍ بالنِّعمةِ! وما أَعظَمَ ما يَقتَرِفُ مِن تَجاوُزٍ على الحَقِّ! وكذا حالُ الإِنسانِ الَّذي أَتَى إلى الوُجُودِ مِنَ العَدَمِ ولم يُصبِح حَجَرًا ولا شَجَرًا ولا حَيَوانًا، بل إِنسانًا مُسلِمًا، وقد تَمَتَّع كَثِيرًا بالصِّحّةِ والعافِيةِ، ونالَ دَرَجةً مِنَ النِّعمةِ سامِيةً.. معَ هذا يَأتِي هذا الإِنسانُ ويُظهِرُ الشَّكوَى مِن عَدَمِ تَمَتُّعِه بالصِّحّةِ والعافِيةِ نَتِيجةَ بَعضِ العَوارِضِ، أو لِإضاعَتِه النِّعَمَ بسُوءِ اختِيارِه، أو مِن سُوءِ الِاستِعمالِ، أو لِعَجْزِه عنِ الوُصُولِ إلَيْها، ثمَّ يقُولُ: “يا وَيْلَتا! ماذا جَنَيتُ حتَّى حَلَّ بي ما حَلَّ”، ناطِقًا بما يَشِي بانتِقادٍ لِلرُّبُوبيّةِ الإِلٰهِيّةِ. فهذه الحالةُ هي مَرَضٌ مَعنَوِيٌّ ومُصِيبةٌ أَكبَرُ مِنَ المَرَضِ المادِّيِّ والمُصِيبةِ الَّتي هو فيها، فهُو يَزِيدُ مَرَضَه بالشَّكوَى كمَن يُصارِعُ ويَدُه مَرضُوضةٌ؛ لكِنَّ العاقِلَ هو الَّذي يُسَلِّمُ الأَمرَ للهِ صابِرًا بِسِرِّ: لِكُلِّ مُصِيبةٍ: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ حتَّى يَنتَهِيَ ذلك المَرَضُ مِن أَداءِ وَظِيفَتِه ويَمضِيَ إلى شَأْنِه.

[الدواء التاسع عشر: المرض ضيف موظَّف مؤقت]

الدَّواءُ التَّاسِعَ عشَرَ

إنَّ التَّعبِيرَ الصَّمَدانِيَّ بإِطلاقِ “الأَسماءِ الحُسنَى” على جَمِيعِ أَسماءِ اللهِ الجَمِيلِ ذِي الجَلالِ يَدُلُّ على أنَّ تلك الأَسماءَ جَمِيلةٌ كُلُّها، وحَيثُ إنَّ الحَياةَ هي أَجمَلُ مِرآةٍ صَمَدِيّةٍ وأَلطَفُها وأَجمَعُها في المَوجُوداتِ، وإنَّ مِرآةَ الجَمِيلِ جَمِيلةٌ أَيضًا، وإنَّ المِرآةَ الَّتي تَعكِسُ مَحاسِنَ الجَمِيلِ تُصبِحُ جَمِيلةً أَيضًا، وإنَّ كلَّ شَيءٍ يُصِيبُ تلك المِرآةَ مِن ذلك الجَمِيلِ هو جَمِيلٌ كَذلِك، فكُلُّ ما يُصِيبُ الحَياةَ جَمِيلٌ أَيضًا مِن زاوِيةِ الحَقِيقةِ، ذلك لِأنَّه يُظهِرُ النُّقُوشَ الجَمِيلةَ لِتِلك “الأَسماءِ الحُسنَى” الجَمِيلةِ.

فلو مَضَتِ الحَياةُ بالصِّحّةِ والعافيةِ على نَسَقٍ واحِدٍ، لَأَصبَحَت مِرآةً ناقِصةً، بل قد تُشعِرُ -في جِهةٍ مّا- بالعَدَمِ والعَبَثِ، فتُذِيقُ العَذابَ والضِّيقَ، وتَهبِطُ قِيمةُ الحَياةِ، وتَنقَلِبُ لَذّةُ العُمُرِ وهَناؤُه إلى أَلَمٍ وغُصّةٍ، فيُلقِي الإِنسانُ بنَفسِه إمّا إلى أَوْحالِ السَّفاهةِ أو إلى أَوْكارِ اللَّهوِ والعَربَدةِ لِيَقضِيَ وَقتَه سَرِيعًا، مَثَلُه كمَثَلِ المَسجُونِ الَّذي يُعادِي عُمُرَه الثَّمِينَ ويَقتُلُه بسُرعةٍ، بُغْيةَ إِنهاءِ مُدّةِ السِّجنِ؛ ولكِنَّ الحَياةَ الَّتي تَمضِي بالتَّحَوُّلاتِ والحَرَكةِ وتَقضِي أَطْوارًا شَتَّى فإنَّها تُشعِرُ أنَّ لها قِيمةً ووَزْنًا، وتُنتِجُ -هذه الحَياةُ- لِلعُمُرِ أَهَمِّيّةً وتُكسِبُه لَذّةً، حتَّى إنَّ الإِنسانَ لا يَرغَبُ في أن يَمضِيَ عُمُرُه، رَغمَ ما يُعانِيه مِن أَصنافِ المَشاقِّ والمَصائِبِ، ولا يَتَأوَّهُ ولا يَتَحسَّرُ قائِلًا: “أنَّى لِلشَّمسِ أن تَغِيبَ، وأنَّى لِلَّيْلِ أن يَنجَلِيَ!”.

نعم، إنْ شِئتَ فاسْأَلْ شَخْصًا ثَرِيًّا عاطِلًا، كلُّ شَيءٍ عِندَه على ما يُرامُ، اسْأَلْه: كَيفَ حالُك؟ فستَسمَعُ مِنه حَتْمًا عِباراتٍ أَلِيمةً وحَسْرةً مِثلَ: آهٍ مِن هذا الوَقتِ.. إنَه لا يَمُرُّ.. ألا تَأتِي لِنَبحَثَ عن لَهْوٍ نَقضِي به الوَقتَ؟ هلُمَّ لِنَلعَبَ النَّردَ قلِيلًا..!. أو تَسمَعُ شَكاوَى ناجِمةً عن طُولِ الأَمَلِ مِثلَ: إنَّ أَمرِي الفُلانِيَّ ناقِصٌ.. لَيتَنِي أَفعَلُ كذا وكذا.. أمّا إذا سَأَلتَ فَقِيرًا غارِقًا في المَصائِبِ أو عامِلًا كادِحًا: كَيفَ حالُك؟ فإنْ كانَ رَشِيدًا فسيَقُولُ لك: إنِّي بخَيرٍ والحَمدُ للهِ، وأَلفُ شُكرٍ لِرَبِّي، فإنِّي في سَعيٍ دائِمٍ.. يا حَبَّذا لو لم تَغرُبِ الشَّمسُ بسُرعةٍ لِأَقضِيَ ما في يَدِي مِن عَمَل؛ فالوَقتُ يَمُرُّ حَثِيثًا والعُمُرُ يَمضِي دُونَ تَوَقُّفٍ، ورَغمَ أنِّي مُنهَمِكٌ في الواقِعِ، إلّا أنَّ هذا سيَمضِي أَيضًا.. فكُلُّ شَيءٍ يَحُثُّ خُطاه على هذا المِنوالِ..!! فهُو بهذه الأَقوالِ إنَّما يُعبِّـرُ عن قِيمةِ العُمُرِ وأَهَمِّيَّتِه ضِمنَ أَسَفِه على العُمُرِ الَّذي يَهرُبُ مِنه، آسِفًا على ذلك.. فهُو يُدرِكُ لَذَّةَ العُمُرِ وقِيمةَ الحَياةِ بواسِطةِ الكَدِّ والمَشَقّةِ، أمّا الرّاحةُ والدَّعةُ والصِّحّةُ والعافِيةُ فهِي تَجعَلُ العُمُرَ مُرًّا، وتُثقِلُه بحَيثُ يَتَمنَّى المَرءُ الخَلاصَ مِنه بسُرعةٍ.

أيُّها الأَخُ المَرِيضُ، اِعلَمْ أنَّ أَصلَ المَصائِبِ والشُّرُورِ -بل حتَّى الذُّنوبِ- إنَّما هو العَدَمُ كما أُثبِتَ ذلك إِثباتًا قاطِعًا ومُفَصَّلًا في سائِرِ الرَّسائِلِ؛ والعَدَمُ هو شَرٌّ مَحضٌ وظُلمةٌ تامّةٌ؛ فالتَّوَقُّفُ والرَّاحةُ والسُّكُونُ على نَسَقٍ واحِدٍ ووَتيرةٍ واحِدةٍ حالاتٌ قَرِيبةٌ جِدًّا مِنَ العَدَمِ والعَبَثِ، ودُنُوُّها هذا هو الَّذي يُشعِرُ بالظُّلمةِ المَوجُودةِ في العَدَمِ ويُورِثُ ضَجَرًا وضِيقًا؛ أمَّا الحَرَكةُ والتَّحَوُّلُ فهُما وُجُودانِ ويُشعِرانِ بالوُجُودِ، والوُجُودُ هو خَيرٌ خالِصٌ ونُورٌ.

فما دامَتِ الحَقِيقةُ هكذا، فإنَّ المَرَضَ الَّذي فيكَ إنَّما هو ضَيفٌ مُرسَلٌ إلَيْك لِيُؤَدِّيَ وَظائِفَه الكَثِيرةَ، فهُو يَقُومُ بتَصفِيةِ حَياتِك القَيِّمةِ وتَقوِيَتِها، ويَرتَقِي بها ويُوَجِّهُ سائِرَ الأَجهِزةِ الإِنسانيّةِ الأُخرَى في جَسَدِك إلى مُعاوَنةِ ذلك العُضوِ العَلِيلِ، ويُبْرِزُ نُقُوشَ أَسماءِ الصَّانِعِ الحَكِيمِ، وسيَنتَهِي مِن وَظِيفَتِه قَرِيبًا إن شاءَ اللهُ ويَمضِي إلى شَأْنِه مُخاطِبًا العافِيةَ: تَعالَيِ الآنَ لِتَمكُثِي مَكاني دائِمًا، وتُراقِبِي أَداءَ وَظِيفَتِكِ مِن جَدِيدٍ، فهذا مَكانُكِ، تَسَلَّمِيه واسْكُنِيه.. هَنِيئًا.

[الدواء العشرون: المرض قسمان، ولكلٍّ علاجُه]

الدَّواءُ العِشرُونَ

أيُّها المَرِيضُ الباحِثُ عن دَوائِه.. اِعْلَمْ أنَّ المَرَضَ قِسمانِ: قِسمٌ حَقِيقيٌّ، وقِسمٌ آخَرُ وَهْمِيٌّ.

أمّا القِسمُ الحَقِيقيُّ: فقد جَعَل الشّافي الحَكِيمُ الجَلِيلُ جَلَّ وعلا لِكُلِّ داءٍ دَواءً، وخَزَنَه في صَيْدليَّتِه الكُبْرَى الَّتي هي الكُرةُ الأَرضِيّةُ، فتِلك الأَدوِيةُ تَستَدعِي الأَدْواءَ، وقد خَلَق سُبحانَه لِكُلِّ داءٍ دَواءً، فاستِعمالُ العِلاجِ وتَناوُلُه لِغَرَضِ التَّداوِي مَشرُوعٌ أَصلًا؛ ولكِن يَجِبُ العِلمُ بأنَّ الشِّفاءَ وتَأثِيرَ الدَّواءِ لا يكُونانِ إلّا مِنَ الحَقِّ تَبارَك وتَعالَى، فمِثْلَما أنَّه سُبحانَه يَهَبُ الدَّواءَ فهُو أَيضًا يَهَبُ الشِّفاءَ.

وإِنَّ الِامتِثالَ لِإِرشادِ الأَطِبَّاءِ الحاذِقِينَ المُتدَيِّنِينَ والأَخذَ بِنَصائِحِهِم عِلاجٌ مُهِمٌّ، لِأنَّ أَكثَرَ الأَمراضِ تَتَولَّدُ مِن سُوءِ الِاستِعمالِ، وعَدَمِ الحِمْيةِ، وإِهمالِ الإِرشادِ، والإِسرافِ، والذُّنُوبِ، والسَّفاهةِ، وعَدَمِ الحَذَرِ؛ فالطَّبِيبُ المُتَديِّنُ لا شَكَّ أنَّه يَنصَحُ ضِمنَ الدّائِرةِ المَشرُوعةِ، ويُقدِّمُ وَصاياه، ويُحَذِّرُ مِن سُوءِ الِاستِعمالِ والإِسرافِ، ويَبُثُّ في نَفسِ المَرِيضِ التَّسلِيةَ والأَمَلَ؛ والمَرِيضُ بدَوْرِه اعتِمادًا على تلك الوَصايا والسُّلوانِ يَخِفُّ مَرَضُه ويَغمُرُه الفَرَحُ بَدَلًا مِنَ الضِّيقِ والضَّجَرِ.

أمّا القِسمُ الوَهمِيُّ مِنَ المَرَضِ: فإنَّ عِلاجَه المُؤثِّرَ النَاجعَ هو: “الإِهمالُ”، إذ يَكبُـرُ الوَهْمُ بالِاهتِمامِ ويَنتَفِشُ، وإذا لم يُعبَأ به فإنَّه يَصغُرُ ويَنزَوِي ويَتَلاشَى؛ فكما أنَّ الإِنسانَ إذا تَعَرَّضَ لِوَكْرِ الزَّنابِيرِ فإنَّها تَتَجمَّعُ وتَهجُمُ علَيْه، وإن لم يَهتَمَّ تَتَفرَّقْ عنه وتَتَشتَّتْ.. وكما أنَّ الَّذي يُلاحِقُ باهتِمامٍ خَيالًا في الظُّلُماتِ مِن حَبلٍ مُتَدلٍّ، سيَكبُرُ أَمامَه ذلك الخَيالُ حتَّى قد يُوصِلُه إلى الفِرارِ كالمَعتُوهِ، وإذا لم يَهتَمَّ فسيَنكَشِفُ له أنَّ ذلك إنَّما هو حَبلٌ وليس بثُعبانٍ، ويَبدَأُ بالسُّخرِيةِ مِنِ اضطِرابِ ذِهنِه وتَوَهُّمِه.. فهذا المَرَضُ الوَهمِيُّ كَذلِك إذا دامَ كَثِيرًا فسيَنقَلِبُ إلى مَرَضٍ حَقِيقيٍّ، فالوَهْمُ عِندَ مُرهَفِ الحِسِّ عَصَبِيِّ المِزاجِ مَرَضٌ وَبِيلٌ جِدًّا، حَيثُ يَستَهْوِلُه ويَجعَلُ له الحَبَّة قُبّةً، فتَنهارُ قُوَّتُه المَعنَوِيّةُ، وبخاصّةٍ إذا صادَفَ أَنصافَ الأَطِبّاءِ ذَوِي القُلُوبِ الغِلاظِ الخالِيةِ مِنَ الرَّحْمةِ، أوِ الأَطِبّاءَ غَيرَ المُنصِفِينَ، الَّذِينَ يُثيرُونَ أَوْهامَه ويُحرِّكُونَها أَكثَرَ مِن ذِي قَبلُ حتَّى تَذهَبَ أَموالُه وتَنضُبَ إن كانَ غَنِيًّا، أو يَفقِدَ عَقلَه أو يَخسَرَ صِحَّتَه تَمامًا.

[الدواء الحادي والعشرون: الألم المادي يجلب لذةً معنويةً تَفُوقُه]

الدَّواءُ الحادِي والعِشرُون

أيُّها الأَخُ المَرِيضُ، حَقًّا إنَّ في مَرَضِك أَلَمًا مادِّيًّا، إلّا أنَّ لَذّةً مَعنَوِيّةً مُهِمّةً تُحِيطُ بك، تَمحُو كلَّ آثارِ ذلك الأَلَمِ المادِّيِّ، فإِنَّ أَلَمَك المادِّيَّ لا يَفُوقُ تلك الرَّأْفةَ أوِ الشَّفَقةَ اللَّذِيذةَ الَّتي نَسِيتَها مُنذُ الصِّغَرِ، والَّتي تَتَفجَّرُ الآنَ مِن جَدِيدٍ في أَكبادِ والِدَيك وأَقارِبِك نَحوَك إنْ كانَ لك والِدانِ وأَقارِبُ؛ حَيثُ ستَستَعِيدُ تلك العَواطِفَ والنَّظَراتِ الأَبَوِيّةَ الحَنُونةَ الحُلْوةَ الَّتي كانَت تَتَوجَّهُ إلَيْك في الطُّفُولةِ، ويَنكَشِفُ الحِجابُ عن أَحِبّائِك مِن حَوالَيْك لِيَرعَوْك مِن جَدِيدٍ ويَنطَلِقُوا إلَيْك بمَحَبَّتِهم ورَأْفَتِهِم بجاذِبِيّةِ المَرَضِ الَّتي أَثارَت تلك العَواطِفَ الدّاخِلِيّةَ.

فما أَرخَصَ تلك الآلامَ المادِّيّةَ الَّتي تُعاني مِنها أَمامَ ما يُؤَدِّيه لك مِن خِدْماتٍ جَلِيلةٍ مَمزُوجةٍ بالرَّحْمةِ والرَّأْفةِ بحُكْمِ مَرَضِك مِن أُولَئِك الَّذِينَ سَعَيتَ أنتَ -بكُلِّ فَخرٍ- لِخِدمَتِهِم ونَيلِ رِضاهُم! فأَصبَحتَ بذلك سَيِّدًا وآمِرًا علَيْهِم، وفُزتَ أَيضًا بمَرَضِك في كَسْبِ المَزِيدِ مِنَ الأَحِبّةِ المُعاوِنينَ والأَخِلّاءِ المُشفِقِينَ.. فتَضُمُّهُم إلَيْك الرِّقّةُ والرَّأْفةُ الإِنسانيّةُ اللَّتانِ جُبِلَ علَيْهِما الإِنسانُ. ثمَّ إنَّك قد أَخَذتَ بمَرَضِك هذا إِجازةً مِنَ الوَظائِفِ الشّاقّةِ المُهلِكةِ، فأَنتَ الآنَ في غِنًى عنها وفي راحةٍ مِنها.. فلا يَنبَغِي أن يَسُوقَك أَلَمُك الجُزئيُّ إلى الشَّكْوَى، بل إلى الشُّكرِ تِجاهَ هذه اللَّذّاتِ المَعنَوِيّةِ.

[الدواء الثاني والعشرون: إلى أصحاب الداء العضال]

الدَّواءُ الثَّاني والعِشرُونَ

أيُّها الأَخُ المَرِيضُ بِداءٍ عُضالٍ كالشَّلَلِ، إِنَّني أُبَشِّرُك أوَّلًا بأنَّ الشَّلَلَ يُعَدُّ مِنَ الأَمراضِ المُبارَكةِ لِلمُؤمِنِ.. لقد كُنتُ أَسمَعُ هذا مُنذُ مُدّةٍ مِنَ الأَوْلياءِ الصّالِحِينَ، فكُنتُ أَجهَلُ سِرَّه، ويَخطُرُ الآنَ أَحَدُ أَسرارِه على قَلبِي هكَذا:

إنَّ أَهلَ الوِلايةِ قد تَعَقَّبُوا بإِرادَتِهِم أَساسَينِ مُهِمَّينِ لِلوُصُولِ إلى الحَقِّ تَبارَك وتَعالَى نَجاةً مِن أَخطارٍ مَعنَوِيّةٍ عَظِيمةٍ تَرِدُ مِنَ الدُّنيا وضَمانًا لِلسَّعادةِ الأَبَدِيّةِ، والأَساسانِ:

أوَّلُهُما: رابِطةُ المَوتِ، أي: إنَّهُم سَعَوْا لِأَجلِ سَعادَتِهِم في الحَياةِ الأَبَدِيّةِ بالتَّفكُّرِ في فَناءِ الدُّنيا، وبأنَّهُم ضُيُوفٌ يُستَخدَمُونَ لِوَظائِفَ مُوَقَّتةٍ.

وثانيهِما: إِماتةُ النَّفسِ الأَمّارةِ بالسُّوءِ بالمُجاهَداتِ والرِّياضةِ الرُّوحِيّةِ لِأَجلِ الخَلاصِ مِن مَهالِكِ تلك النَّفسِ، والأَحاسِيسِ الَّتي لا تَرَى العُقبَى.

فيا أَخِي الَّذي فَقَد صِحّةَ نِصفِ كِيانِه، لقد أُودِعَ فيك دُونَ اختِيارٍ مِنك أَساسانِ قَصِيرانِ سَهْلانِ، يُمَهِّدانِ لك السَّبِيلَ إلى سَعادَتِك الأَبدِيّةِ، ويُذَكِّرانِك دائِمًا بزَوالِ الدُّنيا وفَناءِ الإِنسانِ؛ فلا تَتَمكَّنُ الدُّنيا بَعدَئِذٍ مِن حَبسِ أَنفاسِك وخَنْقِك، ولا تَجرُؤُ الغَفْلةُ على غَشَيانِ عُيُونِك؛ فالنَّفسُ الأَمّارةُ لا تَتَمكَّنُ بالشَّهَواتِ الرَّذِيلةِ مِن أَنْ تَخدَع مَن هو نِصفُ إِنسانٍ، فيَنجُوَ مِن بَلائِها وشَرِّها بسُرعةٍ؛ والمُؤمِنُ بسِرِّ الإِيمانِ والِاستِسلامِ والتَّوَكُّلِ يَستَفِيدُ مِن داءٍ عُضالٍ كالشَّلَلِ بأَقصَرِ وَقتٍ استِفادةَ المُجاهِدِينَ مِن أَهلِ الوِلايةِ بالرِّياضةِ في المُعتَكَفاتِ، فيَخِفُّ علَيْه ذلك الدّاءُ.

[الدواء الثالث والعشرون: المرض يجلب إليك نظر الرحمة الإلهية]

الدَّواءُ الثَّالِثُ والعِشرُونَ

أيُّها المَرِيضُ الوَحِيدُ الغَرِيبُ العاجِزُ، إنْ كانَت غُربَتُك وعَدَمُ وُجُودِ مَن يُعِيلُك فَضْلًا عن مَرَضِك سَببًا في لَفْتِ القُلُوبِ القاسِيةِ نَحوَك وامتِلائِها بالرِّقّةِ علَيْك، فكَيفَ بنَظَرِ رَحْمةِ خالِقِك الرَّحِيمِ الَّذي يُقَدِّمُ نَفسَه إلَيْك في بَدءِ سُوَرِ القُرآنِ بصِفَتِه الجَلِيلةِ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، والَّذي يَجعَلُ جَمِيعَ الأُمَّهاتِ -بلَمْعةٍ مِن لَمَعاتِ شَفَقَتِه ورَأْفَتِه الخارِقةِ- يَقُمْنَ بتَربِيةِ أَوْلادِهِنَّ.. والَّذي يَملَأُ وَجْهَ الدُّنيا ويَصبِغُه في كلِّ رَبِيعٍ بتَجَلٍّ مِن رَحْمَتِه ويَملَؤُه بأَنواعِ نِعَمِه وفَضْلِه.. وبتَجَلٍّ مِن رَحْمَتِه كَذلِك تَتَجسَّمُ الجَنّةُ الزّاخِرةُ بكُلِّ مَحاسِنِها؟!

فانتِسابُك إلَيْه بالإِيمانِ والِالتِجاءُ إلَيْه بلِسانِ العَجْزِ المُنبَعِثِ مِن مَرَضِك، ورَجاؤُك مِنه وتَضَرُّعُك إلَيْه يَجعَلُ مِن مَرَضِك في وَحْدَتِك وغُربَتِك وَسِيلةً تَجلُبُ إلَيْك نَظَرَ الرَّحْمةِ مِنه سُبحانَه، تلك النَّظرةَ الَّتي تُساوِي كلَّ شَيءٍ.

فما دامَ هو مَوجُودًا يَنظُرُ إلَيْك فكُلُّ شَيءٍ مَوجُودٌ لك؛ والغَرِيبُ حَقًّا والوَحِيدُ أَصلًا هو ذلك الَّذي لا يَنتَسِبُ إلَيْه بالإِيمانِ والتَّسلِيمِ، أو لا يَهتَمُّ بِذَلِك الِانتِسابِ.

[الدواء الرابع والعشرون: رسالة إلى الممرِّضين]

الدَّواءُ الرَّابعُ والعِشرُونَ

أيُّها المُمَرِّضُونَ المُعتَنُونَ بالأَطفالِ المَرضَى الأَبرِياءِ وبالشُّيُوخِ الَّذِينَ هم بحُكْمِ الأَطفالِ عَجْزًا وضَعْفًا.. إنَّ بَينَ أَيدِيكُم تِجارةً أُخرَوِيّةً مُهِمّةً، فاغتَنِمُوا تلك التِّجارةَ، وليَكُن شَوْقُكُم إلَيْها عَظِيمًا وسَعيُكُم حَثِيثًا.

إنَّ أَمراضَ الأَطفالِ الأَبرِياءِ هي حُقْناتُ تَربِيةٍ رَبّانيّةٍ لِأَجسادِهِمُ الرَّقيقةِ لِمُقاوَمةِ مَشَقّاتِ الحَياةِ في المُستَقبَلِ، وهِي تَحمِلُ حِكَمًا وفَوائِدَ تَعُودُ علَيْهِم في حَياتِهِمُ الدُّنيَوِيّةِ وفي حَياتِهمُ الرُّوحِيّةِ، فتُصَفِّي حَياةَ الصِّغارِ تَصْفِيةً مَعنَوِيّةً مِثلَما تُصَفَّى حَياةُ الكِبارِ بكَفّارةِ الذُّنُوبِ.. فهذه الحُقَنُ أُسُسٌ لِلرُّقيِّ المَعنَوِيِّ ومَدارُه في مُستَقبَلِ أُولَئِك الصِّغارِ أو في آخِرَتِهِم. والثَّوابُ الحاصِلُ مِن مِثلِ هذه الأَمراضِ يُدرَجُ في صَحِيفةِ أَعمالِ الوالِدَينِ أو في صَحِيفةِ حَسَناتِ الوالِدةِ الَّتي تُفَضِّلُ صِحّةَ وَلَدِها -بسِرِّ الشَّفَقةِ- على نَفسِها، كما هو ثابِتٌ لَدَى أَهلِ الحَقِيقةِ.

أمّا رِعايةُ الشُّيُوخِ والِاعتِناءُ بهم -فَضْلًا عن كَوْنِه مَدارًا لِثَوابٍ عَظِيمٍ وبخاصّةٍ الوالِدَينِ والظَّفرِ بدُعائِهِم وإِسعادِ قُلُوبِهِم والقِيامِ بخِدْمَتِهِم بوَفاءٍ وإِخلاصٍ- فهُو يَقُودُ صاحِبَه إلى سَعادةِ الدُّنيا والآخِرةِ، كما هو ثابِتٌ برِواياتٍ صَحِيحةٍ وفي حَوادِثَ تارِيخِيّةٍ كَثِيرةٍ.. فالوَلَدُ السَّعِيدُ البارُّ بوالِدَيه العاجِزَينِ سيَرَى الطّاعةَ نَفسَها مِن أَبنائِه، بَينَما الوَلَدُ العاقُّ المُؤْذِي لِأَبَوَيه معَ ارتِدادِه إلى العَذابِ الأُخرَوِيِّ سيَجِدُ كَذلِك في الدُّنيا مَهالِكَ كَثِيرةً.

نعم، إنَّه لَيسَت رِعايةُ الشُّيُوخِ والعَجائِزِ والأَبرِياءِ مِنَ الأَقرَبِينَ وَحْدَهُم، بل حتَّى إذا صادَفَ المُؤمِنُ شَيخًا مَرِيضًا ذا حاجةٍ جَدِيرًا بالِاحتِرامِ فعَلَيْه القِيامُ بخِدْمَتِه بهِمّةٍ وإِخلاصٍ، ما دامَت هُنالِك أُخُوّةٌ إِيمانيّةٌ حَقِيقيّةٌ، وهذا مِمّا يَقتَضِيه الإِسلامُ.

[الدواء الخامس والعشرون: الإيمان شفاء]

الدَّواءُ الخامِسُ والعِشرُونَ

أيُّها الإِخوانُ المَرضَى، إذا كُنتُم تَشعُرُونَ بحاجةٍ إلى عِلاجٍ قُدسِيٍّ نافِعٍ جِدًّا، وإلى دَواءٍ لِكُلِّ داءٍ يَحوِي لَذّةً حَقِيقيّةً، فمُدُّوا إِيمانَكُم بالقُوّةِ واصْقُلُوه، أي: تَناوَلُوا بالتَّوبةِ والِاستِغفارِ والصَّلاةِ والعِبادةِ العِلاجَ القُدسِيَّ المُتَمثِّلَ في الإِيمانِ.

نعم، إنَّ الغافِلِينَ بسَبَبِ حُبِّهِم لِلدُّنيا والتَّعَلُّقِ بها بشِدّةٍ كأَنَّهُم قد أَصبَحُوا يَملِكُونَ كِيانًا مَعنَوِيًّا عَلِيلًا بحَجْمِ الدُّنيا كُلِّها، فيَتَقدَّمُ الإِيمانُ ويُقَدِّمُ لِهذا الكِيانِ العَلِيلِ المَكلُومِ بضَرَباتِ الزَّوالِ والفِراقِ، مَرْهَمَ شِفائِه مُنقِذًا إِيّاه مِن تلك الجُرُوح والشُّرُوخِ، وقد أَثبَتْنا في رَسائِلَ عِدّةٍ بأنَّ الإِيمانَ يَهَبُ شِفاءً حَقِيقيًّا.

وتَجَنُّبًا لِلإِطالةِ أُوجِزُ قَولِي: فإِنَّ عِلاجَ الإِيمانِ يَتبَيَّنُ تَأثِيرُه بأَداءِ الفَرائِضِ ومُراعاةِ تَنفِيذِها ما استَطاعَ الإِنسانُ إلَيْها سَبِيلًا، وإنَّ الغَفْلةَ والسَّفاهةَ وهَوَى النَّفسِ واللَّهْوَ غَيرَ المَشرُوعِ يُبطِلُ مَفعُولَ ذلك العِلاجِ وتَأثِيرَه.. فما دامَ المَرَضُ يُزِيلُ الغِشاوةَ، ويَقطَعُ دابِرَ الِاشتِهاءِ، ويَمنَعُ وُلُوجَ اللَّذّاتِ غَيرِ المَشرُوعةِ، فاستَفِيدُوا مِنه واستَعمِلُوا عِلاجَ الإِيمانِ الحَقِيقيِّ وأَنوارَه القُدسِيّةَ بالتَّوبةِ والِاستِغفارِ والدُّعاءِ والرَّجاءِ.. مَنَحَكُمُ الحَقُّ تَبارَك وتَعالَى الشِّفاءَ وجَعَل مِن أَمراضِكُم مُكَفِّراتٍ لِلذُّنُوبِ.. آمِينَ.. آمِينَ.. آمِينَ.

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

﴿اللَّهُمَّ صَلِّ على سَيِّدِنا مُحمَّدٍ، طِبِّ القُلُوبِ ودَوائِها، وعافِيةِ الأَبدانِ وشِفائِها، ونُورِ الأَبصارِ وضِيائِها، وعلى آلِه وصَحْبِه وسَلِّمْ﴾

❀   ❀   ❀

[هذه الرسالة / اللمعة]

“وَهُوَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ”

أي: هذا الكِتابُ دَواءٌ لِكُلِّ داءٍ..‌

ومِنَ التَّوافُقاتِ اللَّطِيفةِ أنَّنا حَسَبْنا أَحرُفَ الأَلِفِ في بِداياتِ أَسطُرِ كلٍّ مِنَ النُّسخةِ المُسَوَّدةِ الأُولَى الَّتي كتَبَها “رَأفَت بِك” على عَجَلٍ، والنُّسخةِ الأُخرَى الَّتي كتَبَها “خُسرَو”، فوَجَدْنا أنَّ العَدَد يَتَوافَقُ معَ جُملةِ: “وَهُوَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ”5لم يُؤخَذ بالحُسبانِ حَرفَا الألفِ في التَّنبيه الذي أُلِّف فيما بعدُ.، عِلْمًا أنَّ كِتَابتَهما تلك ورَدَت بغَيرِ قَصدٍ ودُونَ أن يُلقِيا بالًا لِهذا الأَمرِ! كما أنَّ العَدَد يَتَوافَقُ معَ اسمِ “سَعِيدٍ” مُؤلِّفِ هذه الرِّسالةِ معَ فارِقٍ واحِدٍ فَقَط، وهُو عَدَمُ احتِسابِ حَرفِ الأَلِفِ الَّذي أَضافاه في عُنوانِ هذه الرِّسالةِ6ما دام حرفُ الألف وُضِع بكَراماتٍ عَلَويّةٍ وغَوْثيّةٍ في نِهايةِ “سَعِيد” لأجل النِّداء، فأَصبَحَ “سَعِيدًا”، فرُبَّما الألِفُ الزّائدةُ هذه تتَوَجَّه إلى تلك الألِفِ.

رأفت، خسرو.
.

ومِنَ المُثِيرِ لِلعَجَبِ أنَّ النُّسخةَ الَّتي كتَبَها “سُلَيْمانُ رُشْدِي” فيها (114) حَرفَ أَلِفٍ، دُونَ أن يَخطُرَ هذا الحَرفُ بالخاطِرِ أو أن يُفَكِّرَ به، وهذا العَدَدُ يَتَوافَقُ معَ عَدَدِ سُوَرِ القُرآنِ الَّذي يَتَضمَّنُ (114) دَواءً قُدسِيًّا، كما أنَّه يَتَوافَقُ معَ العَدَدِ (114) الَّذي هو ناتِجُ جَمعِ حُرُوفِ: “وَهُوَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ” إِذا ما حُسِبَتِ اللّامُ المُشَدَّدةُ حَرفًا واحِدًا.

❀   ❀   ❀

[ذيل اللمعة الخامسة والعشرين]

ذيل اللمعة الخامسة والعشرين

وهُو “المَكتُوبُ السّابعَ عَشَرَ” أُدرِجَ ضِمنَ “المَكتُوباتِ”، لِذا لم يُدرَج هنا.‌

❀   ❀   ❀

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى