اللمعات

اللمعة الحادية والعشرون: الإخلاص (2)

[هذه اللمعة هي لمعة الإخلاص الثانية، وتتحدث عن دساتير الإخلاص والسبيل إلى نَيله والموانع التي تَحول دونه أو تفسده]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

دُستُورُكُم الأوَّل:‌ اِبتِغاءُ مَرْضاةِ اللهِ في عَمَلِكُم، فإذا رَضِيَ هُو سُبحانَه فلا قِيمةَ لِإِعراضِ العالَمِ أَجْمَعَ ولا أَهَمِّيّةَ له، وإذا ما قَبِل هُو سُبحانَه فلا تَأْثِيرَ لِرَدِّ النّاسِ أَجمَعِينَ، وإذا أَرادَ هُو سُبحانَه واقْتَضَتْه حِكْمَتُه بَعدَما رَضِيَ وقَبِلَ العَمَلَ، جَعَلَ النَّاسَ يَقبَلُونَه ويَرضَوْن به وإن لم تَطْلُبُوه أَنتُم، لِذا يَنبَغِي جَعْلُ رِضَا اللهِ وَحْدَه دُونَ سِواه القَصْدَ الأَساسَ في هذه الخِدْمةِ.. خِدْمةِ الإِيمانِ والقُرآنِ.
دُستُورُكُم الأوَّل:‌ اِبتِغاءُ مَرْضاةِ اللهِ في عَمَلِكُم، فإذا رَضِيَ هُو سُبحانَه فلا قِيمةَ لِإِعراضِ العالَمِ أَجْمَعَ ولا أَهَمِّيّةَ له، وإذا ما قَبِل هُو سُبحانَه فلا تَأْثِيرَ لِرَدِّ النّاسِ أَجمَعِينَ، وإذا أَرادَ هُو سُبحانَه واقْتَضَتْه حِكْمَتُه بَعدَما رَضِيَ وقَبِلَ العَمَلَ، جَعَلَ النَّاسَ يَقبَلُونَه ويَرضَوْن به وإن لم تَطْلُبُوه أَنتُم، لِذا يَنبَغِي جَعْلُ رِضَا اللهِ وَحْدَه دُونَ سِواه القَصْدَ الأَساسَ في هذه الخِدْمةِ.. خِدْمةِ الإِيمانِ والقُرآنِ.

[اللمعة الحادية والعشرون]

 

اللمعة الحادية والعشرون

تَخُصُّ الإخلاصَ

كانت هذه اللَّمعةُ المَسألةَ الرَّابعةَ مِنَ المَسائلِ السَّبْعِ لِلمُذكِّرة السّابعةَ عَشْرةَ مِن “اللَّمْعة السّابِعةَ عَشْرةَ” إلّا أنها أَصبَحَت النُّقطةَ الثَّانية مِن “اللَّمْعة العِشرين” لِمُناسَبة مَوضُوعِها -الإخلاص- وبِناءً على نُورانيَّتِها صارَتِ “اللَّمْعةَ الحادِيةَ والعِشرِين”، فدَخَلَت في كِتابِ “اللَّمَعات”.‌

  (تُقرَأُ هذه اللَّمْعةُ كلَّ خَمسةَ عَشَرَ يَوْمًا في الأَقَلِّ)‌

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾

[شرف الإخلاص وأهميته]

يا إِخوةَ الآخِرةِ، ويا أَصحابي في خِدْمةِ القُرآنِ.. اِعْلَمُوا -وأَنتُم تَعلَمُون- أنَّ الإِخلاصَ في الأَعمالِ ولا سِيَّما الأُخرَوِيّةِ مِنها، هو أَهَمُّ أَساسٍ، وأَعظَمُ قُوّةٍ، وأَرجَى شَفِيعٍ، وأَثبَتُ مُرتَكَزٍ، وأَقصَرُ طَرِيقٍ لِلحَقِيقةِ، وأَبَرُّ دُعاءٍ مَعنَوِيٍّ، وأَكرَمُ وَسِيلةٍ للمَقاصِدِ، وأَسمَى خَصْلةٍ، وأَصْفَى عُبُودِيّةٍ.

فما دامَ في الإِخلاصِ أَنوارٌ مُشِعَّةٌ، وقُوًى رَصِينةٌ كَثِيرةٌ أَمثالَ هذه الخَواصِّ.. وما دامَ الإِحسانُ الإِلٰهِيُّ قد أَلقَى على كاهِلِنا مُهِمَّةً مُقَدَّسةً ثَقِيلةً، وخِدْمةً عامّةً جَلِيلةً، تلك هي وَظِيفةُ الإيمانِ وخِدمةُ القُرآنِ.. ونَحنُ في غايةِ القِلَّةِ والضَّعْفِ والفَقْرِ، ونُواجِهُ أَعداءً أَلِدّاءَ ومُضايَقاتٍ شَدِيدةً، وتُحِيطُ بِنا البِدَعُ والضَّلالاتُ الَّتي تَصُولُ وتَجُولُ في هذا العَصْرِ العَصِيبِ.. فلا مَناصَ لَنا إلّا بِبَذْلِ كلِّ ما في وُسْعِنا مِن جُهدٍ وطاقةٍ كي نَظْفَرَ بالإِخلاصِ. فنحنُ مُضطَرُّون إلَيْه، بل مُكَلَّفُون به تَكْلِيفًا، وأَحْوَجُ ما نكُونُ إلى تَرسِيخِ سِرِّ الإِخلاصِ في ذَواتِنا، إذ لو لم نَفُزْ به لَضاعَ مِنّا بعضُ ما كَسَبناه مِنَ الخِدْمةِ المُقَدَّسةِ -لِحَدِّ الآنَ- ولَمَا دامَت ولا استَمَرَّت خِدْمَتُنا، ثمَّ نُحاسَبُ علَيْها حِسابًا عَسِيرًا، حيثُ نكُونُ مِمَّن يَشمَلُهُمُ النَّهْيُ الإِلٰهِيُّ وتَهدِيدُه الشَّدِيدُ في قَوْلِه تَعالَى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، وبإِخْلالِنا بالإِخلاصِ على حِسابِ السَّعادةِ الأَبَدِيّةِ، لِأَجْلِ مَطامِعَ دُنيَوِيّةٍ دَنِيئةٍ، مَقِيتةٍ، مُضِرّةٍ، مُكَدِّرةٍ، لا طائِلَ مِن وَرائِها ولا فائِدةَ، إِرضاءً لِمَنافِعَ شَخصِيّةٍ جُزئيّةٍ تافِهةٍ، أَمثالَ الإِعجابِ بالنَّفْسِ والرِّياءِ، ونكُونُ أَيضًا مِنَ المُتجاوِزِين على حُقُوقِ إِخوانِنا في هذه الخِدْمةِ ومِنَ المُتَعَدِّين على نَهْجِ الخِدْمةِ القُرآنيّةِ، ومِنَ الَّذين أَساؤُوا الأَدَبَ فلم يَقدُرُوا قُدسِيَّةَ الحَقائِقِ الإِيمانيّةِ وسُمُوَّها حَقَّ قَدْرِها.

فيا إِخْوَتِي، إنَّ الأُمُورَ المُهِمّةَ لِلخَيرِ والدُّرُوبَ العَظِيمةِ للصَّلاحِ، تَعتَرِضُها مَوانِعُ وعَقَباتٌ مُضِرّةٌ كَثِيرةٌ؛ فالشَّياطِينُ يُجهِدُونَ أَنفُسَهُم لِكَيْدِ خُدَّامِ تلك الدَّعوةِ المُقَدَّسةِ، لِذا يَنبَغِي الِاستِنادُ إلى الإِخلاصِ والِاطمِئْنانُ إلَيْه، لِدَفْعِ تلك المَوانِعِ وصَدِّ تلك الشَّياطِينِ. فاجْتَنِبُوا -يا إِخْوَتِي- الأَسبابَ الَّتي تَقْدَحُ بالإِخلاصِ وتَثْلِمُه كما تَجتَنِبُون العَقارِبَ والحَيَّاتِ، فلا وُثُوقَ بالنَّفْسِ الأَمّارةِ ولا اعتِمادَ علَيْها قَطُّ، كما جاءَ في القُرآنِ الكَرِيمِ على لِسانِ سَيِّدِنا يُوسُفَ عَلَيهِ السَّلَام: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾، فلا تَخْدَعَنَّـكُمُ الأَنانِيّةُ والغُرُورُ ولا النَّفْسُ الأَمّارةُ بالسُّوءِ أَبَدًا.

[دساتير الإخلاص]

ولِأَجْلِ الوُصُولِ إلى الظَّفَرِ بالإِخلاصِ ولِلحِفاظِ علَيْه، ولِدَفْعِ المَوانِعِ وإِزالَتِها، اجْعَلُوا الدَّساتِيرَ الآتِيةَ رائِدَكُم:

[الدستور الأول: ابتغوا مرضاةَ الله وحدَه]

دُستُورُكُم الأوَّل:

اِبتِغاءُ مَرْضاةِ اللهِ في عَمَلِكُم، فإذا رَضِيَ هُو سُبحانَه فلا قِيمةَ لِإِعراضِ العالَمِ أَجْمَعَ ولا أَهَمِّيّةَ له، وإذا ما قَبِل هُو سُبحانَه فلا تَأْثِيرَ لِرَدِّ النّاسِ أَجمَعِينَ، وإذا أَرادَ هُو سُبحانَه واقْتَضَتْه حِكْمَتُه بَعدَما رَضِيَ وقَبِلَ العَمَلَ، جَعَلَ النَّاسَ يَقبَلُونَه ويَرضَوْن به وإن لم تَطْلُبُوه أَنتُم، لِذا يَنبَغِي جَعْلُ رِضَا اللهِ وَحْدَه دُونَ سِواه القَصْدَ الأَساسَ في هذه الخِدْمةِ.. خِدْمةِ الإِيمانِ والقُرآنِ.

[الدستور الثاني: لا تنتقدوا إخوانكم]

دُستُورُكُم الثَّاني:

هُو عَدَمُ انتِقادِ إِخوانِكُمُ العامِلِين في هذه الخِدْمةِ القُرآنِيّةِ، وعَدَمُ إِثارةِ نَوازِعِ الغِبطة بالتَّفاخُرِ والِاستِعلاءِ، لِأَنَّه كما لا تَحاسُدَ في جِسْمِ الإِنسانِ بَينَ اليَدَينِ، ولا انتِقادَ بَينَ العَيْنَينِ، ولا يَعتَرِضُ اللِّسانُ على الأُذُنِ، ولا يَرَى القَلْبُ عَيْبَ الرُّوحِ، بل يُكَمِّلُ كُلٌّ مِنها نَقْصَ الآخَرِ ويَستُرُ تَقْصِيرَه ويَسعَى لِحاجَتِه، ويُعاوِنُه في خِدْمَتِه؛ وإلّا انْطَفَأَت حَياةُ ذلك الجَسَدِ، ولَغادَرَتْه الرُّوحُ وتَمَزَّقَ الجِسْمُ..

وكما لا تَنافُسَ بَينَ تُرُوسِ المَعْمَلِ ودَوالِيبِه، ولا يَتَقدَّمُ بَعضُها على بَعضٍ ولا يَتَحَكَّمُ، ولا يَدْفَعُ أَحَدُها الآخَرَ إلى التَّعَطُّل بالنَّقْدِ والتَّجْرِيحِ وتَتَبُّعِ العَوْراتِ والنَّقائِصِ، ولا يُثَبِّطُ شَوْقَه إلى السَّعْيِ، بل يُعاوِنُ كُلٌّ مِنها الآخَرَ بكُلِّ ما لَدَيْه مِن طاقةٍ، مُوَجِّهًا حَرَكاتِ التُّرُوسِ والدَّوالِيبِ إلى غايَتِها المَرْجُوّةِ، فيَسِيرُ الجَمِيعُ إلى ما أُوجِدُوا لِأَجْلِه، بالتَّسانُدِ التّامِّ والِاتِّفاقِ الكامِل، بحَيثُ أنَّه لو تَدَخَّلَ شَيءٌ غَرِيبٌ أو تَحَكَّم في الأَمرِ -ولو بمِقْدارِ ذَرّةٍ- لَاخْتَلَّ المَعْمَلُ وأَصابَه العَطَبُ، ولَقامَ صاحِبُه بدَوْرِه بتَشْتِيتِ أَجْزائِه وتَقْوِيضِه مِنَ الأَساسِ.

فيا طُلّابَ رَسائِلِ النُّورِ ويا خُدَّامَ القُرآنِ، نحنُ جَمِيعًا أَجزاءٌ وأَعضاءٌ في شَخْصِيّةٍ مَعنَوِيّةٍ جَدِيرةٍ بأن يُطْلَق علَيْها: “الإنسانُ الكامِلُ”.. ونحنُ جَمِيعًا بمَثابةِ تُرُوسِ ودَوالِيبِ مَعْمَلٍ يَنسُجُ السَّعادةَ الأَبَدِيّةَ في حَياةٍ خالِدةٍ، ونَحنُ خُدَّامٌ عامِلُون في سَفِينةٍ رَبّانيّةٍ تَسِيرُ بالأُمّةِ المُحَمَّدِيّةِ إلى شاطِئِ السَّلامةِ وهي دارُ السَّلامِ.

فنَحنُ إذًا بحاجةٍ ماسّةٍ بل مُضْطَرُّون إلى الِاتِّحادِ والتَّسانُدِ التّامِّ وإلى الفَوْزِ بسِرِّ الإِخلاصِ الَّذي يُهَيِّئُ قُوّةً مَعنَوِيّةً بمِقْدارِ أَلفٍ ومِئةٍ وأَحَدَ عَشَرَ “١١١١” ناتِجةٍ مِن أَربَعةِ أَفرادٍ. نعم، إنْ لم تَتَّحِدْ ثَلاثُ “أَلِفاتٍ” فستَبْقَى قِيمَتُها ثَلاثًا فقط، أمّا إذا اتَّحَدَت وتَسانَدَت بسِرِّ العَدَدِيّةِ، فإنَّها تَكْسِبُ قِيمةَ مِئةٍ وأَحَدَ عَشَرَ “١١١”، وكذا الحالُ في أَربَعِ “أَرْبَعاتٍ” عِندَما تُكتَبُ كلُّ “٤” مُنفَرِدةً عنِ البَقِيّةِ فإنَّ مَجمُوعَها “١٦”، أمّا إذا اتَّحَدَت هذه الأَرقامُ واتَّفَقَت بسِرِّ الأُخُوّةِ ووَحْدةِ الهَدَفِ والمُهِمّةِ الواحِدةِ على سَطْرٍ واحِدٍ، فعِندَها تَكْسِبُ قِيمةَ أَربَعةِ آلافٍ وأَربَعِ مِئةٍ وأَربَع وأَربَعِين “٤٤٤٤” وقُوَّتَها. هُناك شَواهِدُ ووَقائِعُ تارِيخِيّةٌ كَثِيرةٌ جِدًّا أَثبَتَت أنَّ سِتّةَ عَشَرَ شَخْصًا مِنَ المُتَآخِين المُتَّحِدِين المُضَحِّين بسِرِّ الإِخلاصِ التّامِّ تَزِيدُ قُوَّتُهُمُ المَعنَوِيّةُ وقِيمَتُهُم على أَربَعةِ آلافِ شَخْصٍ.

أمَّا حِكْمةُ هذا السِّرِّ فهي أنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِن عَشَرةِ أَشخاصٍ مُتَّفِقِين حَقِيقةً يُمكِنُه أن يَرَى بعُيُونِ سائِرِ إِخوانِه ويَسْمَعَ بآذانِهِم. أي: إنَّ كُلًّا مِنهُم يكُونُ لَه مِنَ القُوّةِ المَعنَوِيّةِ والقِيمةِ ما كأَنَّه يَنظُرُ بعِشْرِين عَيْنًا ويُفَكِّرُ بعَشَرةِ عُقُولٍ ويَسمَعُ بعِشْرِين أُذُنًا ويَعمَلُ بعِشْرِين يَدًا1نعم، كما أنَّ تَسانُدًا حَقِيقيًّا، واتِّحادًا تامًّا، نابِعًا مِنَ “الإِخلاصِ” هو مِحْوَرٌ تَدُورُ علَيْه مَنافِعُ لا تَنتَهِي، كذلك فهُو تُرْسٌ عَظِيمٌ، ومُرتَكَزٌ قَوِيٌّ للوُقُوفِ تِجاهَ المَخاوِفِ العَدِيدةِ، بل أَمامَ المَوتِ، لِأَنَّ المَوتَ لا يَسلُبُ إلّا رُوحًا واحِدةً، فالَّذي ارتَبَط بإِخوانِه بسِرِّ الأُخُوّةِ الخالِصةِ في الأُمُورِ المُتَعلِّقةِ بالآخِرةِ وفي سَبِيلِ مَرضاةِ اللهِ، يَحمِلُ أَرواحًا بعَدَدِ إِخوانِه، فيَلْقَى المَوْتَ مُبتَسِمًا وقائِلًا: “لِتَسْلَمْ أَرواحِي الأُخرَى.. ولْتَبْقَ مُعافاةً، فإنَّها تُدِيمُ لي حَياةً مَعنَوِيّةً بكَسْبِها الثَّوابَ لي دائِمًا. فأَنا لم أَمُتْ إِذًا”. ويُسْلِمُ رُوحَه وهو قَرِيرُ العَينِ، ولِسانُ حالِه يقُولُ: “أنا أَعِيشُ بتلك الأَرواحِ مِن حَيثُ الثَّوابُ، ولا أَمُوتُ إلّا مِن حَيثُ الذُّنُوبُ والآثامُ”..

[الدستور الثالث: قوتكم في الإخلاص والحق]

دُستُورُكُمُ الثّالثُ:

اِعْلَمُوا أنَّ قُوَّتَكُم جَمِيعًا في الإِخلاصِ والحَقِّ.

نعم، إنَّ القُوّةَ في الحَقِّ والإِخلاصِ، حتَّى إنَّ أَهلَ الباطِلِ يُحرِزُون القُوّةَ لِما يُبْدُون مِن ثَباتٍ وإِخلاصٍ في باطِلِهِم.

نعم، إنَّ خِدْمَتَنا هذه في سَبِيل الإيمانِ والقُرآنِ هي دَليلٌ بذاتِها على أنَّ القُوّةَ في الحَقِّ والإِخلاصِ، فشَيءٌ يَسِيرٌ مِنَ الإِخلاصِ في سَبِيلِ هذه الخِدْمةِ يُثبِتُ دَعْوانا هذه ويكُونُ دَليلًا على نَفسِه، ذلك لِأَنَّ ما قُمْنا به في أَزْيَدَ مِن عِشرِين سَنةً في مَدِينَتِي وفي إِستانبُولَ مِن خِدْمةٍ في سَبِيلِ الدِّينِ والعُلُومِ الشَّرعِيّةِ، قد قُمْنا معَكُم بأَضعافِه مِئةَ مَرّةٍ هُنا في غُضُونِ ثَماني سَنَواتٍ، عِلْمًا بأنَّ الَّذين كانُوا يُعاوِنُونَني هُناك هُم أَكثَرُ مِئةَ مَرّةٍ بل أَلْفَ مَرّةٍ مِمَّن يُعاوِنُونَني هُنا.

إنَّ خِدْماتِنا هُنا في ثَماني سَنَواتٍ معَ أنَّني وَحِيدٌ غَرِيبٌ شِبْهُ أُمِّيٍّ وتَحتَ رَقابةِ مُوَظَّفِين لا إِنصافَ لَهُم وتَحتَ مُضايَقاتِهم قد أَكْسَبَتْنا بفَضْلِ اللهِ قُوّةً مَعنَوِيّةً أَظهَرَتِ التَّوفِيقَ والفَلاحَ بمِئةِ ضِعْفٍ مِمّا كان علَيْه سابِقًا، لِذا حَصَلَت لَدَيَّ قَناعةٌ تامّةٌ أنَّ هذا التَّوفِيقَ الإِلٰهِيَّ ليس إلّا مِن صَمِيمِ إِخلاصِكُم؛ وإنَّني أَعتَرِفُ بأنَّكُم أَنقَذْتُمُوني بإِخلاصِكُمُ التّامِّ مِنَ الرِّياءِ بدَرَجةٍ مّا، ذلك الدّاءِ الوَبِيلِ الَّذي يُداعِبُ النَّفْسَ تَحتَ سِتارِ الشُّهْرةِ والصِّيتِ.. نَسأَلُ اللهَ أن يُوَفِّقَكُم جَمِيعًا إلى الإِخلاصِ الكامِلِ وتُدْخِلُوني فيه مَعَكُم.

تَعلَمُون أنَّ الإمامَ عَلِيًّا رَضِيَ الله عَنهُ والشَّيخَ الكَيلانِيَّ (قَدَّسَ اللهُ سِرَّه)، قد تَوَجَّها إلَيْكُم ونَظَرا بعَيْنِ اللُّطْفِ والِاهتِمامِ والتَّسلِيةِ في كَراماتِهِما الخارِقةِ، ويُبارِكانِ خِدْماتِكُم مَعنًى؛ فلا يُساوِرَنَّـكُمُ الشَّكُّ في أنَّ ذلك التَّوَجُّهَ والِالتِفاتَ والتَّسْلِيةَ ليس إلّا بما تَتَمتَّعُون به مِن إِخلاصٍ، فإن أَفْسَدتُم هذا الإِخلاصَ مُتَعمِّدِين، تَستَحِقُّون إذًا لَطَماتِهما..

تَذَكَّرُوا دائِمًا “لَطَماتِ الرَّأْفةِ والرَّحْمةِ” الَّتي في “اللَّمْعةِ العاشِرةِ”، ولو أَرَدتُم أن يَظَلَّ هذانِ الفاضِلانِ أُستاذَينِ وظَهِيرَينِ مَعنَوِيَّينِ لَكُم فاظْفَرُوا بالإِخلاصِ الأَتَمِّ بامتِثالِكُمُ الآيةَ الكَرِيمةَ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾، أي: علَيكُم أن تُفَضِّلُوا إِخوانَكُم على أَنفُسِكُم في المَراتِبِ والمَناصِبِ والتَّـكْرِيمِ والتَّوَجُّه، حتَّى في المَنافِعِ المادِّيّةِ الَّتي تَهَشُّ لَها النَّفسُ وتَرْتاحُ إلَيْها، بل في تلك المَنافِعِ الَّتي هي خالِصةٌ زَكِيّةٌ كتَبلِيغِ حَقِيقةٍ إِيمانِيّةٍ لِمُؤمِنٍ يَحتاجُها، فلا تَتَطَلَّعُوا ما استَطعْتُم أن يَتِمَّ ذلك بأَيدِيكُم، بلِ ارْضَوْا واطْمَئِنُّوا أن يَتِمَّ ذلك بِيَدِ صَدِيقٍ آخَرَ لا يتَطَلَّعُ إلى ذلك، لِئَلّا يَتَسرَّبَ الإِعجابُ إلى أَنفُسِكُم؛ ورُبَّما يكُونُ لَدَى أَحَدِكُمُ التَّطَلُّعُ للفَوْزِ بالثَّوابِ وَحْدَه، فيُحاوِلُ أن يُبيِّنَ أَمْرًا مُهِمًّا في الإِيمانِ بنَفْسِه، فرَغْمَ أنَّ هذا لا إِثْمَ فيه ولا ضَرَرَ، إِلّا أنَّه قد يُعَكِّرُ صَفْوَ الإِخلاصِ فيما بَينَكُم.

[الدستور الرابع: افتخروا بمزايا إخوانكم]

دُستُورُكُم الرَّابعُ:

هو الِافتِخارُ شاكِرِين بمَزايا إِخْوانِكُم، وتَصَوُّرُها في أَنفُسِكُم، وعَدُّ فَضائِلِهم في ذَواتِكُم.

هُنالِك اصطِلاحاتٌ تَدُورُ بينَ المُتَصوِّفةِ أَمثالَ: “الفَناءِ في الشَّيخِ”، “الفَناءِ في الرَّسُولِ”، وأنا لَستُ صُوفِيًّا، ولكنَّ “الفَناءَ في الإِخوانِ” دُستُورٌ جَمِيلٌ يُناسِبُ مَسْلَكَنا ومَنهَجَنا تَمامًا، أي: أن يَفنَى كلٌّ في الآخَرِ، أي: أن يَنسَى كلُّ أَخٍ أَحاسِيسَه النَّفسانيّةَ، ويَعِيشَ فِكْرًا معَ مَزايا إِخوانِه وأَحاسِيسِهِم، حَيثُ إنَّ أَساسَ مَسْلَكِنا ومَنهَجِنا هو “الأُخُوّةُ” في اللهِ، وأنَّ العَلاقاتِ الَّتي تَربِطُنا هي الأُخُوّةُ الحَقِيقيّةُ، ولَيسَت عَلاقةَ الأَبِ معَ الِابنِ ولا عَلاقةَ الشَّيخِ معَ المُرِيدِ؛ وإن كان لا بُدَّ فمُجَرَّدُ العَلاقةِ بالأُستاذِ.

وما دامَ مَسْلَكُنا هو “الخَلِيليّةَ” فمَشْرَبُنا إذًا “الخُلَّة”، والخُلّةُ تَقتَضِي صَدِيقًا صَدُوقًا، ورَفِيقًا مُضَحِّيًا، وأَخًا شَهْمًا غَيُورًا.. وأُسُّ الأَساسِ لِهذه الخُلّةِ هو الإِخلاصُ التَّامُّ؛ فمَن يُقَصِّر فيه فقد هَوَى مِن على بُرْج الخُلّةِ العالِي، ولَرُبَّما يَتَردَّى في وادٍ سَحِيقٍ، إذ لا مَوْضِعَ في المُنتَصَفِ. نعم، إنَّ الطَّرِيقَ طَرِيقانِ، فمَن يُفارِقُنا الآنَ في مَسْلَكِنا هذا -وهُو الجادّةُ الكُبْرَى للقُرآنِ الكَرِيمِ- فرُبَّما يكُونُ مِنَ الَّذِين يَخدُمُون الإِلحادَ أَعداءَ القُرآنِ دُونَ أن يَشعُرَ.

فالَّذِين دَخَلُوا مَيْدانَ خِدْمةِ القُرآنِ الكَرِيمِ القُدْسِيّةِ بواسِطةِ “رَسائِلِ النُّورِ” لا يَسْقُطُون بإذنِ اللهِ في مِثلِ تلك الهاوِيةِ، بل سيُمِدُّون دائِمًا النُّورَ والإِخلاصَ والإِيمانَ قُوّةً.

[سببان لكسب الإخلاص]

[السبب الأول: رابطة الموت]

فيا إِخْوَتي في خِدْمةِ القُرآنِ..

إنَّ أَهَمَّ سَبَبٍ لِكَسْبِ الإِخلاصِ وأَعظَمَ وَسِيلةٍ مُؤَثِّرةٍ للمُحافَظةِ علَيْه: “رابِطةُ المَوْتِ”، فكما أنَّ طُولَ الأَمَلِ يَثْلِمُ الإخلاصَ ويُفسِدُه، ويَسُوقُ إلى حُبِّ الدُّنيا وإلى الرِّياءِ، فإنَّ “رابِطةَ المَوْتِ” تُنفِّرُ مِنَ الرِّياءِ، وتَجعَلُ المَرءَ يُحرِزُ الإِخلاصَ، إذ تُخَلِّصُه مِن دَسائِسِ النَّفسِ الأَمَّارةِ، وذلك بتَذَكُّرِ مَوْتِه وبمُلاحَظةِ فَناءِ الدُّنيا وزَوالِها. هذا، ولقدِ اتَّخَذ المُتَصوِّفةُ وأَهلُ الحَقِيقةِ العِلْمِيّةِ “رابِطةَ المَوْتِ” أَساسًا في مَنهَجِ سُلُوكِهم، وذلك بما تَعَلَّمُوه مِنَ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾، و﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾، فأَزالُوا بتلك الرّابِطةِ تَوَهُّمَ البَقاءِ وحُلْمَ الأَبدِيّةِ الَّذي يُوَلِّدُ طُولَ الأَمَلِ، حيثُ افْتَرَضُوا خَيالًا وتَصَوَّرُوا أَنفُسَهُم أَمواتًا.. فالآنَ يُغَسَّلُون.. والآنَ يُوضَعُون في القَبْرِ.. وحِينَما يَتَفكَّرُون بهذه الصُّورةِ تَتَأَثَّرُ النَّفسُ الأَمّارةُ بهذا التَّخَيُّلِ أَكثَرَ، فتَتَخلَّى شَيْئًا فشَيْئًا عن آمالِها العَرِيضةِ.

فلِهَذه الرَّابِطةِ إذًا فَوائِدُ جَمّةٌ ومَنافِعُ شَتَّى، ويَكفِي أنَّ الحَدِيثَ الشَّرِيفَ يُرشِدُنا إلَيْها بقَوْلِه ﷺ: “أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذّاتِ”؛ وحَيثُ إنَّ مَسْلَكَنا حَقِيقةٌ عِلْمِيّةٌ ولَيسَ طَرِيقةً صُوفِيّةً، فلا نَرَى أَنفُسَنا مُضطَرِّين مِثْلَهُم إلى مُباشَرةِ تلك الرّابِطةِ بالِافتِراضِ والخَيالِ؛ فَضْلًا عن أنَّ هذا الأُسلُوبَ لا يُلائِمُ مَنهَجَ الحَقِيقةِ، فأُسلُوبُنا في رابِطةِ المَوتِ ليس بِجَلْبِ المُستَقبَلِ إلى الحاضِرِ خَيالًا، بلِ بالذَّهابِ فِكْرًا مِنَ الحاضِرِ إلى المُستَقبَلِ، ومُشاهَدةِ المُستَقبَلِ مِن خِلالِ الحاضِرِ الواقِعِ كما الحَقِيقةُ، فلا حاجةَ إلى الخَيالِ، ولا يَلْزَمُ الِافتِراضُ، إذِ الإنسانُ يُمكِنُه مُشاهَدةُ جِنازَتِه وهي ثَمَرةٌ مَحمُولةٌ على شَجَرةِ عُمُرِه القَصِيرِ، وإذا ما حَوَّلَ نَظَرَه قَلِيلًا لا يَرَى مَوْتَه وَحْدَه، بل يَرَى أيضًا مَوْتَ عَصْرِه، حتَّى إذا جالَ بِنَظَرِه أَكثَرَ يَرَى مَوْتَ الدُّنيا ودَمارَها، وعِندَها يَنفَتِحُ أَمامَه الطَّرِيقُ إلى الإِخلاصِ التّامِّ.

[السبب الثاني: الإيمان التحقيقي]

والسَّبَبُ الثَّاني في إِحرازِ الإِخلاصِ هو: أن يَكسِبَ المَرءُ حُضُورًا وسَكِينةً بالإيمانِ التَّحقِيقيِّ وباللَّمَعاتِ الوارِدةِ عنِ “التَّفَكُّرِ الإيمانِيِّ في المَخلُوقاتِ”، هذا التَّأمُّلُ يَسُوقُ صاحِبَه إلى مَعرِفةِ الخالِقِ سُبحانَه، فتَنسَكِبُ الطُّمَأْنينةُ والسَّكِينةُ في القَلبِ.. حَقًّا إنَّ تَلَمُّعَ هذا النَّوعِ مِنَ التَّأَمُّلِ في فِكْرِ الإنسانِ يَجعَلُه يُفَكِّرُ دائِمًا في حُضُورِ الخالِقِ الرَّحِيمِ سُبحانَه ورُؤْيَتِه لَه، أي: أنَّه حاضِرٌ وناظِرٌ إلَيْه دائِمًا، فلا يَلْتَفِتُ عِندَئذٍ إلى غَيرِه، ولا يَستَمِدُّ مِن سِواه؛ حَيثُ إنَّ النَّظَرَ والِالتِفاتَ إلى ما سِواه في حُضُورِه يُخِلُّ بأَدَبِ ذلك الحُضُورِ.. وبهذا يَنجُو الإنسانُ مِنَ الرِّياءِ ويَتَخلَّصُ مِنه، فيَظْفَرُ بالإخلاصِ بإِذنِ اللهِ. وعلى كلِّ حالٍ ففي هذا “التَّأَمُّلِ” دَرَجاتٌ كَثِيرةٌ ومَراتِبُ عِدّةٌ. وحَظُّ كلِّ شَخْصٍ ما يَكسِبُه، ورِبْحُه ما يَستَفِيدُ مِنه حَسَبَ قابِلِيّاتِه وقُدُراتِه.

نَكتَفِي بهذا القَدْرِ ونُحِيلُ إلى “رَسائِلِ النُّورِ” حيثُ ذَكَرَت كَثِيرًا مِنَ الحَقائِقِ حَوْلَ النَّجاةِ مِنَ الرِّياءِ وإِحرازِ الإخلاصِ.

[موانع الإخلاص]

سنُبيِّنُ باختِصارٍ بَعْضًا مِنَ الأَسبابِ العَدِيدةِ الَّتي تُخِلُّ بالإِخلاصِ وتَمنَعُه، وتَسُوقُ إلى الرِّياءِ وتَدْفَعُ إلَيْه:‌

[المانع الأول: التنافس على الماديات]

المانِعُ الأَوَّلُ للإِخلاصِ:

التَّنافُسُ النّاشِئُ مِنَ المَنافِعِ المادِّيّةِ.. هذا التَّنافُسُ يُفسِدُ الإِخلاصَ تَدرِيجِيًّا، بل يُشَوِّهُ نَتائِجَ العَمَلِ، بل يُفَوِّتُ حتَّى تلك المَنافِعَ المادِّيّةَ أَيضًا.

نعم، لقد حَمَلَت هذه الأُمّةُ دائِمًا التَّوقِيرَ والتَّقدِيرَ للعامِلِين بِجِدٍّ للحَقِيقةِ والآخِرةِ، ومَدَّت لَهُم يَدَ العَوْنِ فِعْلًا، وذلك بنِيّةِ مُشارَكَتِهِم في تلك الأَعمالِ والخِدْماتِ الصَّادِقةِ الخالِصةِ لِوَجْهِ اللهِ، فقَدَّمَت لَهُم هَدايا وصَدَقاتٍ لِدَفْعِ حاجاتِهِمُ المادِّيّةِ ولِئَلَّا يَنشَغِلُوا بها عن خِدْماتِهِمُ الجَلِيلةِ، فأَظهَرُوا بذلك ما يُكِنُّونَه مِنِ احتِرامٍ للعامِلِين في سَبِيلِ اللهِ؛ إلَّا أنَّ هذه المُساعَداتِ والمَنافِعَ يَجِبُ ألّا تُطلَبَ قَطُّ، بل أن تُوهَبَ، فلا تُسألُ حتَّى بلِسانِ الحالِ كمَن يَنتَظِرُها قَلْبًا، وإنَّما تُعطَى مِن حَيثُ لا يُحتَسَبُ، وإلّا اختَلَّ إِخلاصُ المَرءِ وانتَقَضَ، وكادَ يَدخُلُ ضِمْنَ النَّهيِ الإِلٰهِيِّ في قَولِه تَعالَى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، فيَحبَطُ قِسمٌ مِن أَعمالِه..

فالرَّغبةُ في هذه المَنافِعِ المادِّيّةِ وتَرَقُّبُها بدافِعٍ مِن أَثَرةِ النَّفسِ الأَمّارةِ وحِرصِها على كَسْبِ المَنافِعِ لِذاتِها، تُثِيرُ عِرْقَ المُنافَسةِ وتُحَرِّكُ نَوازِعَه تِجاهَ أَخِيه الحَقِيقيِّ وصاحِبِه المُخلِصِ في الخِدْمةِ الإيمانيّةِ، فيَفسُدُ إِخلاصُه ويَفقِدُ قُدسِيّةَ دَعْوَتِه للهِ، ويَتَّخِذُ طَوْرًا مُنَفِّرًا لَدَى أَهلِ الحَقِيقةِ، بل يَفقِدُ المَنافِعَ المادِّيّةَ أَيضًا.. وعلى كُلِّ حالٍ فالمَسأَلةُ طَوِيلةٌ.

[مثالان لزيادة الإخلاص]

وسأَذكُرُ ما يَزِيدُ سِرَّ الإخلاصِ ويُدِيمُ الوِفاقَ الصَّادِقَ بينَ إِخوَتِي الصّادِقِين، أَذكُرُه ضِمْنَ مِثالَينِ:

[المثال الأول: ضم المساعي والتشارك الأخروي]

المِثالُ الأوَّلُ لإدامةِ الإخلاصِ: لقدِ اتَّخَذ أَربابُ الدُّنيا “الِاشتِراكَ في الأَموالِ” قاعِدةً يَستَرشِدُون بها لِأَجلِ الحُصُولِ على ثَرْوةٍ طائِلةٍ أو قُوّةٍ شَدِيدةٍ، بلِ اتَّخَذ مَن لَهُمُ التَّأثيرُ في الحَياةِ الِاجتِماعيّةِ -مِن أَشخاصٍ أو جَماعاتٍ أو بَعضِ السَّاسةِ- هذه القاعِدةَ رائِدًا لَهُم، وكَسَبُوا نَتِيجةَ اتِّباعِهِم هذه القاعِدةَ قُوّةً هائِلةً وانتَفَعُوا مِنها نَفْعًا عَظِيمًا، علمًا أَنَّ ماهِيّةَ الأَموالِ لا تَتَغيَّرُ بالِاشتِراكِ -معَ ما فيه مِن أَضْرارٍ واستِعمالاتٍ سَيِّئةٍ- فرَغمَ أَنَّ كُلَّ شَخْصٍ يَحسَبُ نَفسَه بمَثابةِ المالِكِ لِجَمِيعِ الأَموالِ مِن جِهةِ مُراقَبَتِه وإِشرافِه علَيْها، لكن لا يُمكِنُه أن يَنتَفِعَ مِنها جَمِيعًا.. وعلى كُلِّ حالٍ فإنَّ هذه القاعِدةَ إذا دَخَلَت في الأَعمالِ الأُخْرَوِيّةِ فستَكُونُ مِحْوَرًا لِمَنافِعَ جَلِيلةٍ بلا مَساوِئَ ولا ضَرَرٍ، لِأَنَّ جَمِيعَ تلك الأَموالِ الأُخرَوِيّةِ تَحمِلُ سِرَّ الدُّخُولِ بتَمامِها في حَوْزةِ كُلِّ فَرْدٍ مِن أُولَئِك الأَفرادِ المُشتَرِكِين فيها، دُونَ نُقْصانٍ أو تَجْزِئةٍ.

ولْنَفْهَمْ هذا بمِثالٍ: اشْتَرَك خَمْسةُ أَشخاصٍ في إِشعالِ مِصْباحٍ زَيْتيٍّ، فوَقَع على أَحَدِهم إِحضارُ النِّفْطِ، وعلى الآخَرِ الفَتِيلةُ، وعلى الثّالِثِ زُجاجةُ المِصْباحِ، وعلى الرّابعِ المِصْباحُ نَفسُه، وعلى الأَخِيرِ عُلْبةُ الكِبْرِيتِ.. فعِندَما أَشعَلُوا المِصْباحَ أَصبَحَ كُلٌّ مِنهُم مالِكًا لِمِصْباحٍ كامِلٍ؛ فلَو كان لِكُلٍّ مِن أُولَئِك المُشتَرِكِين مِرآةٌ كَبِيرةٌ مُعَلَّقةٌ بحائِطٍ، إذًا لَأَصبَحَ مُنعَكِسًا في مِرآتِه مِصْباحٌ كامِلٌ -معَ ما في الغُرفةِ- مِن دُونِ تَجَزُّؤٍ أو نَقْصٍ..

وهكذا الأَمرُ في الِاشتِراكِ في الأُمُورِ الأُخْرَوِيّةِ بسِرِّ الإِخلاصِ، والتَّسانُدِ بسِرِّ الأُخُوّةِ، وضَمِّ المَساعِي بسِرِّ الِاتِّحادِ؛ إذ سيَدْخُلُ مَجمُوعُ أَعمالِ المُشتَرِكِين، وجَمِيعُ النُّورِ النَّابعِ مِنها، سيَدْخُلُ بتَمامِه في دَفتَرِ أَعمالِ كُلٍّ مِنهُم.. وهذا أَمرٌ مَشهُودٌ وواقِعٌ بينَ أَهلِ الحَقِيقةِ، وهو مِن مُقتَضَياتِ سَعةِ رَحْمةِ اللهِ سُبحانَه وكَرَمِه المُطلَقِ.

فيا إِخْوَتي، آمُلُ ألَّا تَسُوقَكُمُ المَنافِعُ المادِّيّةُ إلى الحَسَدِ فيما بَينَكُم إن شاءَ اللهُ تَعالَى، إلّا أنَّكُم قد تَنخَدِعُون كما انخَدَع قِسْمٌ مِن أَهلِ الطُّرُقِ الصُّوفيّةِ، مِن بابِ المَنافِعِ الأُخرَوِيّةِ؛ ولكِن تَذَكَّرُوا.. أينَ الثَّوابُ الشَّخْصِيُّ والجُزئيُّ مِن ذلك الثَّوابِ العَظِيمِ النّاشِئِ في أُفُقِ الِاشتِراكِ في الأَعمالِ المَذكُورةِ في المِثالِ؟ وأينَ النُّورُ الجُزئيُّ مِن ذلك النُّورِ الباهِرِ؟

[المثال الثاني: توحيد المساعي وتقسيم الاعمال]

المِثالُ الثَّاني لِإدامةِ الإخلاصِ: يَحصُلُ الصِّناعِيُّون وأَهلُ الحِرَفِ على الإِنتاجِ الوَفيرِ وعلى ثَرْوةٍ هائِلةٍ نَتِيجةَ اتِّباعِهِم قاعِدةَ “المُشارَكةِ في الصَّنْعةِ والمَهارةِ”، وإلَيْك المِثالَ:

قامَ عَشَرةٌ مِن صَنّاعِي إِبَرِ الخِياطةِ بعَمَلِهم، كُلٌّ على انفِرادٍ، فكانَتِ النَّتِيجةُ ثَلاثَ إِبَرٍ فقط لِكُلٍّ مِنهُم في اليَوْمِ الواحِدِ.. ثمَّ اتَّفَق هَؤُلاءِ الأَشخاصُ حَسَبَ قاعِدةِ “تَوحِيدِ المَساعِي وتَوزِيعِ الأَعمالِ”، فأَتَى أَحَدُهُم بالحَدِيدِ والآخَرُ بالنّارِ، وقامَ الثّالِثُ بثَقْبِ الإِبْرةِ والآخَرُ بإِدخالِها النّارَ والرّابِعُ بَدَأَ يَحُدُّها.. وهكذا، فلَم يَذهَبْ وَقْتُ أَحَدٍ مِنهُم سُدًى، حَيثُ انصَرَف كُلٌّ مِنهُم إلى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ وأَنجَزَه بسُرعةٍ، لأَنَّه عَمَلٌ جُزْئيٌّ بَسِيطٌ أَوَّلًا ولِاكتِسابِه الخِبْرةَ والمَهارةَ فيه ثانيًا.. وحِينَما وَزَّعُوا حَصِيلةَ جُهُودِهِم رَأَوْا أنَّ نَصِيبَ كُلٍّ مِنهُم في يَومٍ واحِدٍ ثَلاثُ مِئةِ إِبرةٍ بَدَلًا مِن ثَلاثِ إِبَرٍ.. فذَهَبَت هذه الحادِثةُ أُنشُودةً يَتَرنَّمُ بها أَهلُ الصِّناعةِ والحِرَفِ الَّذين يَدْعُون إلى تَوحِيدِ المَساعِي وتَوزِيعِ الأَعمالِ.

فيا إِخْوَتِي، ما دامَت تَحصُلُ مِثلُ هذه الفَوائِدِ العَظِيمةِ نَتِيجةَ الِاتِّحادِ والِاتِّفاقِ في أُمُورٍ دُنيَوِيّةٍ وفي مَوادَّ كَثِيفةٍ، فكم يكُونُ ثَوابُ أَعمالٍ أُخرَوِيّةٍ ونُورانيّةٍ! وكم يكُونُ الثَّوابُ المُنعَكِسُ مِن أَعمالِ الجَماعةِ كُلِّها بالفَضْلِ الإِلٰهِيِّ في مِرآةِ كُلِّ فَرْدٍ مِنها! تلك الأَعمالِ الَّتي لا تَحتاجُ إلى تَجْزِئةٍ ولا انقِسامٍ.. فلَكُم أن تُقَدِّرُوا ذلك الرِّبْحَ العَظِيمَ، فإنَّ مِثْلَ هذا الرِّبحِ العَظِيمِ لا يُفَوَّتُ بالحَسَدِ وعَدَمِ الإخلاصِ..!

[المانع الثاني: مسايرة أنانية النفس الأمّارة]

المانِعُ الثّاني للإخلاصِ:

هو إِعطاءُ ما يُداعِبُ أَنانيّةَ النَّفْسِ الأَمّارةِ بالسُّوءِ وما تَستَشْرِفُه مِن مَنزِلةٍ ومَكانةٍ تَتَوجَّهُ إلَيْها الأَنظارُ، وحُبِّ إِقبالِ النّاسِ وطَلَبِ تَوَجُّهِهِم، بدافِعٍ مِن حُبِّ الشُّهْرةِ وذِياعِ الصِّيتِ النّاشِئِ مِنَ التَّطَلُّعِ إلى الجاهِ وحُبِّه؛ فكما أنَّ هذا داءٌ رُوحِيٌّ وَبِيلٌ، فهو بابٌ إلى “الشِّرْكِ الخَفِيِّ” الَّذي هو الرِّياءُ والإِعجابُ بالنَّفْسِ الماحِقُ للإِخلاصِ.

يا إِخوَتي..‌

لَمَّا كان مَسلَكُنا في خِدْمةِ القُرآنِ الكَرِيمِ مَبْنِيًّا على الحَقِيقةِ وعلى الأُخُوّةِ، وسِرُّ الأُخُوّةِ مُتحقِّقًا في إِفْناءِ الفَرْدِ شَخْصِيَّتَه في شَخْصِيّةِ إِخْوانِه2نعم، إنَّ السَّعِيدَ هو مَن يَرمِي شَخْصِيَّتَه، ويُذِيبُ أَنانيَّتَه الَّتي هي كقِطْعةِ ثَلْجٍ في الحَوْضِ العَظِيمِ اللَّذِيذِ المُتَرشِّحِ مِن كَوْثَرِ القُرآنِ الكَرِيمِ كي يَغنَمَ ذلك الحَوْضَ. وإِيثارِهِم على نَفْسِه، فما يَنبَغِي أن يُؤَثِّرَ فِينا مِثلُ هذا التَّنافُسِ النَّاجِمِ مِن حُبِّ الجاهِ، حَيثُ هو مُنافٍ كُلِّـيًّا لِمَسْلَكِنا، إذ ما دامَت كَرامةُ جَمِيعِ الإِخوانِ وشَرَفُهُم يَعُودانِ إلى كُلِّ أَخٍ في الجَماعةِ، فلا يُمكِنُ أن يُضَحَّى بتلك المَنزِلةِ الرَّفيعةِ والكَرامةِ الفائِقةِ والشَّرَفِ المَعنَوِيِّ السّامِي للجَماعةِ، لِأَجْلِ شُهْرةٍ جُزْئيّةٍ وعِزّةٍ شَخْصِيّةٍ ناجِمةٍ مِنَ الأَنانيّةِ والتَّنافُسِ.. فأَنا على ثِقةٍ وأَمَلٍ أنَّ ذلك بَعِيدٌ كُلَّ البُعْدِ عن طُلّابِ النُّورِ.

نعم، إنَّ قُلُوبَ طُلَّابِ النُّورِ وعُقُولَهُم وأَرواحَهُم لا تَنحَدِرُ إلى مِثل هذه الأُمُورِ السَّافِلةِ، إلّا أنَّه ما مِن أَحَدٍ إلّا يَحْمِلُ نَفْسًا أَمّارةً بالسُّوءِ، وقد تَسْرِي أُمُورٌ ونَوازِعُ نَفْسانيّةٌ في العُرُوقِ وتَتَعلَّقُ بالأَعصابِ وتُنفِذُ حُكمَها رَغمًا عن العَقْل والقَلْبِ والرُّوح؛ فاعتِمادًا على ما تَتْرُكُه “رَسائِلُ النُّورِ” فيكُم مِن آثارٍ، فلا أَتَّهِمُ قُلُوبَكُم وعُقُولَكُم وأَرْواحَكُم، إلّا أنَّ النَّفْسَ والهَوَى والحِسَّ والوَهْمَ قد تَخدَعُ؛ لِذا يَأْتِيكُمُ التَّحْذِيرُ والتَّنبِيهُ أَحْيانًا بشِدّةٍ وعُنْفٍ، فتِلك الشِّدّةُ مُوَجَّهةٌ إلى النَّفْسِ والهَوَى والحِسِّ والوَهْمِ، فكُونُوا على حَذَرٍ دائِمًا.

نعم، لو كان مَسْلَكُنا طَرِيقةً خاصّةً ومَشْيَخةً، لَكان إِذًا مَقامٌ واحِدٌ، أو عَدَدٌ مَحْدُودٌ مِنه، ولَكان مُرَشَّحُون كَثِيرُون لِذَلِك المَقامِ، وعِندَها كان يُمكِنُ أن تَحْدُثَ الأَنانيّةُ المَشُوبةُ بالغِبطةِ في النُّفُوسِ؛ ولكِنَّ مَسْلَكَنا هُو الأُخُوّةُ، لا غَيرُ، فلا يُمكِنُ لِلأَخِ أن يَدَّعِيَ على أَخِيه الأُبُوّةَ، ولا أن يَتَزَيَّا بِزِيِّ المُرشِدِ لَه، فالمَقامُ هُنا في الأُخُوّةِ فَسِيحٌ واسِعٌ، لا مَجالَ فيه لِلمُزاحَمةِ بالغِبطةِ، وإن كان لا بُدَّ فالأَخُ مُعاوِنٌ لِأَخِيه مُكَمِّلٌ لِعَمَلِه، وظَهِيرٌ لَه.

ومِمّا يَدُلُّ على أنَّ في المَسالِكِ الَّتي فيها مَقامُ الأُبُوّةِ والإِرشادِ والأُستاذِيّةِ نَتائِجَ خَطِرةً مُهْلِكةً تَنجُمُ مِنَ الغِبطةِ حِرْصًا على الثَّوابِ وتَطَلُّعًا إلى عُلُوِّ الهِمّةِ، أَقُولُ: إنَّ الدَّلِيلَ على ذلك هو تلك الِاختِلافاتُ والمُشاحَناتُ الدَّائِرةُ في ثَنايا المَزايا الجَلِيلةِ والمَنافِع العَظِيمةِ الَّتي يَتَمتَّعُ بها أَهلُ الطُّرُقِ الصُّوفيّةِ، والَّتي أَدَّت بهم إلى نَتائِجَ وَخِيمةٍ جَعَلَت قُواهُمُ السّامِيةَ الهائِلةَ لا تَثبُتُ أَمامَ أَعاصِيرِ البِدَعِ.

[المانع الثالث: الخوف والطمع]

المانِعُ الثّالثُ:

هو الخَوْفُ والطَّمَعُ. نُحِيلُ إلى رِسالةِ “الهَجَماتِ السِّتِّ” حَيثُ شَرَحَت هذا المانِعَ معَ مَوانِعَ أُخْرَى بوُضُوحٍ تامٍّ.

  نَسأَلُ اللهَ الرَّحمٰنَ الرَّحِيمَ سُبحانَه مُشَفِّعِينَ جَمِيعَ أَسمائِه الحُسنَى أن يُوَفِّقَنا إلى الإِخلاصِ التَّامِّ. آمِينَ.‌

﴿اللَّهُمَّ بِحَقِّ سُورَةِ الإِخْلاصِ اجْعَلنَا مِن عِبَادِكَ المُخْلِصِينَ المُخْلَصِينَ. آمِينَ.. آمِينَ﴾

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

❀   ❀   ❀

[رسالة خاصة إلى بعض طلاب النور]

رسالةٌ خاصّة إلى قسمٍ من إخواني‌

سأَذكُرُ نُكتةً لَطِيفةً لِحَدِيثَينِ شَرِيفَينِ لِأُولَئِك الإِخوةِ الَّذِينَ يَمَلُّونَ مِن كِتابةِ “رَسائِلِ النُّورِ”، والَّذِينَ يُفَضِّلُونَ قِراءةَ الأَورادِ في الشُّهُورِ الثَّلاثة -وهِي شُهُورُ العِباداتِ- على كِتابةِ “رَسائِلِ النُّورِ” الَّتي تُعَدُّ عِبادةً بخَمسِ جِهات3 لقد سأَلْنا أُستاذَنا عنِ الأنواعِ الخَمسةِ مِن العِبادةِ الَّتي أشارَ إليها في هذه الرِّسالةِ القيِّمةِ، نُدرِجُ إيضاحَه أدناه:

١ـ إنَّها جهادٌ معنويٌّ تجاهَ أهلِ الضَّلالة، ذلك الجِهادُ الأهَمُّ.

٢ـ إنَّها خِدمةٌ لِأستاذِه ومُعاونةٌ له على نَشرِ الحقيقةِ.

٣ـ إنَّها خدمةٌ لِلمُسلِمين كافّةً مِن حيثُ الإيمانُ.

٤ـ إنَّها تَحصِيلٌ للعِلمِ بالكِتابة.

٥ـ إنَّها عِبادةٌ فِكرية قد تكُونُ ساعةٌ مِنها بمَثابة سنةٍ مِن العِبادة.

رُشدي، خُسرَو، رأفت
.

الحَدِيثُ الأوَّلُ:

﴿”يُوزَنُ مِدادُ العُلَماءِ بدِماءِ الشُّهَداءِ”﴾ أو كما قال ﷺ

أي: إنَّ ما يَصرِفُه عُلَماءُ الحَقِيقةِ مِن حِبْرٍ يُوزَنُ يَومَ القِيامةِ معَ دِماءِ الشُّهَداءِ ويُعادِلُها.

الحَدِيثُ الثَّاني:

﴿”مَن تَمَسَّكَ بسُنَّتي عِندَ فَسادِ أُمَّتِي فلَه أَجرُ مِئةِ شَهِيدٍ”﴾ أو كما قال ﷺ.

أي: إنَّ مَن يَتَمسَّكُ بالسُّنّةِ الشَّرِيفةِ والحَقائِقِ القُرآنيّةِ ويَعمَلُ لِأَجلِها عِندَ استِيلاءِ البِدَعِ وتَغَلُّبِ الضَّلالةِ، فلَه أَجرُ مِئةِ شَهِيدٍ. فيا مَن يَمَلُّ تَكاسُلًا عنِ الكِتابةِ، ويا أيُّها الإِخوةُ الَّذِينَ يَنحُونَ مَنحَى التَّصَوُّفِ.. إنَّ حَصِيلةَ مَفهُومَيِ الحَدِيثَينِ الشَّرِيفَينِ هي أنَّ دِرهمًا مِمّا يَقطُرُ مِن نُورٍ أَسوَدَ وماءٍ باعِثٍ لِلحَياةِ مِنَ الأَقلامِ المُبارَكةِ الزَّكِيّةِ الَّتي تَخدُمُ حَقائِقَ الإِيمانِ وأَسرارَ الشَّرِيعةِ والسُّنّةَ النَّبوِيّةَ الشَّرِيفةَ في مِثلِ هذه الظُّرُوفِ يُمكِنُ أن يُفِيدَكُم كمِئةِ دِرهَمٍ مِن دَمِ الشُّهَداءِ يَومَ الحَشرِ الأَكبَرِ.

فاسْعَوْا يا إِخوَتِي لِتَظفَرُوا بهذا الثَّوابِ العَظِيمِ.

فإن قُلتُم: إنَّ ما وَرَد في الحَدِيثِ هو بخُصُوصِ العالِمِ، بَينَما قِسمٌ مِنّا كُتّابٌ فحَسْبُ؟

الجَوابُ: إنَّ الَّذي يَقرَأُ هذه الرَّسائِلَ وهذه الدُّرُوسَ في غُضُونِ سَنةٍ واحِدةٍ ويَفهَمُها ويَقبَلُ بها، يُمكِنُ أن يكُونَ عالِمًا مُهِمًّا ذا حَقِيقةٍ لِهذا الزَّمانِ؛ وإن هو قَرَأَها ولم يَفهَمْها، فإنَّ طُلّابَ النُّورِ الَّذِينَ لَهُم شَخصِيّةٌ مَعنَوِيّةٌ، لا شَكَّ أنَّ هذه الشَّخصِيّةَ هي بمَثابةِ عالِمٍ مِن عُلَماءِ هذا الزَّمانِ.

أمّا أَقلامُكُم فهِي أَصابعُ تلك الشَّخصِيّةِ الحَقِيقيّةِ، وهَبْ أنَّكُم قدِ ارتَبَطتُم بهذا الفَقِيرِ ومَنَحتُمُوه بحُسنِ ظَنِّكُم مَكانةَ عالِمٍ وأُستاذٍ في نَظَرِكُم وإن كُنتُ أَرَى أنَّني لا أَستَحِقُّها، ولكِن لَمّا كُنتُ أُمِّيًّا لا أُجِيدُ الكِتابةَ، فإنَّ أَقلامَكُم تُعَدُّ أَقلامِي أنا، فتُثابُونَ بالأَجرِ المُبَيَّنِ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ.

  سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ

❀   ❀   ❀

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى