اللمعات

اللمعة التاسعة عشرة: لمعة الاقتصاد

[هذه اللمعة تتحدث عن خصلة الاقتصاد: فضلها وأهميتها لكونها إحدى خصال النبوة، وكيفية التخلق بها ونتائجها]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

إنَّ الِاقتِصادَ كما هو شُكْرٌ مَعنَوِيٌّ، فهُو تَوْقِيرٌ لِلرَّحْمةِ الإِلٰهِيّةِ الكامِنةِ في النِّعَمِ والإِحسانِ.. وهُو سَبَبٌ حاسِمٌ لِلبَرَكةِ.. وهُو مَدارُ صِحّةِ الجَسَدِ كالحِمْيةِ.. وهُو سَبِيلٌ إلى العِزّةِ بالِابتِعادِ عن ذُلِّ الِاستِجْداءِ المَعنَوِيِّ.. وهُو وَسِيلةٌ قَوِيّةٌ لِلإِحساسِ بما في النِّعَمِ والآلاءِ مِن لَذّةٍ.. وهُو سَبَبٌ مَتِينٌ لِتَذَوُّقِ اللَّذائِذِ المُخَبَّأَةِ في ثَنايا نِعَمٍ تَبدُو غَيرَ لَذِيذةٍ.
إنَّ الِاقتِصادَ كما هو شُكْرٌ مَعنَوِيٌّ، فهُو تَوْقِيرٌ لِلرَّحْمةِ الإِلٰهِيّةِ الكامِنةِ في النِّعَمِ والإِحسانِ.. وهُو سَبَبٌ حاسِمٌ لِلبَرَكةِ.. وهُو مَدارُ صِحّةِ الجَسَدِ كالحِمْيةِ.. وهُو سَبِيلٌ إلى العِزّةِ بالِابتِعادِ عن ذُلِّ الِاستِجْداءِ المَعنَوِيِّ.. وهُو وَسِيلةٌ قَوِيّةٌ لِلإِحساسِ بما في النِّعَمِ والآلاءِ مِن لَذّةٍ.. وهُو سَبَبٌ مَتِينٌ لِتَذَوُّقِ اللَّذائِذِ المُخَبَّأَةِ في ثَنايا نِعَمٍ تَبدُو غَيرَ لَذِيذةٍ.

[اللمعة التاسعة عشرة]

 

اللمعة التاسعة عشرة‌

رسالة الاقتصاد‌

“هذه الرِّسالةُ تَحُضُّ على الِاقتِصادِ والقَناعةِ، وتُحَذِّرُ مِن مَغَبّةِ الإسرافِ والتَّبذِيرِ”‌

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾

هذه الآيةُ الكَرِيمةُ تُلَقِّنُ دَرْسًا في غايةِ الأَهَمِّيّةِ، وتُرشِدُ إِرشادًا حَكِيمًا بَلِيغًا بصِيغةِ الأَمرِ الجازِمِ إلى الِاقتِصادِ، والنَّهيِ الصَّرِيحِ عنِ الإِسرافِ.

تَتَضمَّنُ هذه المَسأَلةُ سَبْعَ نِكات:

[النكتة الأولى: سبع مزايا للاقتصاد]

النُّكتة الأُولى

إنَّ الخالِقَ الرَّحِيمَ سُبحانَه يَطلُبُ مِنَ البَشَرِيّةِ شُكْرًا وحَمْدًا إِزاءَ ما أَغدَقَ علَيْها مِنَ النِّعَمِ والآلاءِ، إلّا أَنَّ الإِسرافَ مُنافٍ لِلشُّكرِ، وهُو استِخْفافٌ خاسِرٌ ووَخِيمٌ تِجاهَ النِّعْمةِ، بَينَما الِاقتِصادُ تَوْقيرٌ مُربِحٌ إِزاءَ النِّعْمةِ.

أَجَل، إنَّ الِاقتِصادَ كما هو شُكْرٌ مَعنَوِيٌّ، فهُو تَوْقِيرٌ لِلرَّحْمةِ الإِلٰهِيّةِ الكامِنةِ في النِّعَمِ والإِحسانِ.. وهُو سَبَبٌ حاسِمٌ لِلبَرَكةِ.. وهُو مَدارُ صِحّةِ الجَسَدِ كالحِمْيةِ.. وهُو سَبِيلٌ إلى العِزّةِ بالِابتِعادِ عن ذُلِّ الِاستِجْداءِ المَعنَوِيِّ.. وهُو وَسِيلةٌ قَوِيّةٌ لِلإِحساسِ بما في النِّعَمِ والآلاءِ مِن لَذّةٍ.. وهُو سَبَبٌ مَتِينٌ لِتَذَوُّقِ اللَّذائِذِ المُخَبَّأَةِ في ثَنايا نِعَمٍ تَبدُو غَيرَ لَذِيذةٍ.. ولِكَوْنِ الإِسرافِ يُخالِفُ الحِكَمَ المَذكُورةَ آنِفًا باتَت عَواقِبُه وَخِيمةً.

[النكتة الثانية: الفم مجرد بواب فلا تجعله سيدًا]

النُّكتة الثانية

لقد خَلَق الفاطِرُ الحَكِيمُ جِسمَ الإِنسانِ بما يُشبِهُ قَصْرًا كامِلَ التَّقوِيمِ، وبما يُماثِلُ مَدِينةً مُنتَظِمةَ الأَجزاءِ، وجَعَل حاسّةَ الذَّوْقِ المَغرُوزةَ في فَمِه كالبَوّابِ الحارِسِ، والأَعصابَ والأَوْعِيةَ بمَثابةِ أَسْلاكِ هاتِفٍ وتِلغرافٍ، تَتِمُّ خِلالَها دَوْرةُ المُخابَرةِ الحَسّاسةِ بَينَ القُوّةِ الذّائِقةِ والمَعِدةِ الَّتي هي في مَركَزِ كِيانِ الإِنسانِ، بحَيثُ تَقُومُ حاسّةُ الذَّوقِ تلك بإِبلاغِ ما حَلَّ في الفَمِ مِنَ المَوادِّ، وتَحْجُزُ عنِ البَدَنِ والمَعِدةِ الأَشياءَ الَّتي لا حاجةَ لِلجِسمِ لَها قائِلةً: “مَمنُوعٌ الدُّخُولُ” نابِذةً إِيَّاها، أَمّا إِذا كانَت ضارّةً ومُرّةً وغَيرَ نافِعةٍ لِلبَدَنِ كما يَحدُثُ أَحيانًا، فإِنَّها تَنبِذُها وتَمُجُّها فَورًا إلى الخارِج، وتَبْصُقُ في وَجْهِها.

ولَمّا كانَتِ القُوّةُ الذّائِقةُ في الفَمِ تُؤَدِّي دَوْرَ البَوّابِ، والمَعدِةُ هي سَيِّدةُ الجَسَدِ وحاكِمَتُه مِن حَيثُ الإِدارةُ، فلو بَلَغَت قِيمةُ هَدِيّةٍ تُقَدَّمُ إلى حاكِمِ القَصرِ مِئةَ دَرَجةٍ، فإنَّ خُمُسًا مِنها فقط يَجُوزُ أن يُعطَى هِبةً لِلبَوّابِ لا أَكثَرُ، كيلا يَختالَ الحارِسُ ويَنسَى وَظِيفَتَه ويُقحِمَ في القَصرِ كلَّ مُخِلٍّ عابِثٍ يَرشُوه قِرْشًا أَكثَرَ.

وهكذا، بِناءً على هذا السِّرِّ، نَفتَرِضُ الآنَ أَمامَنا لُقْمَتانِ: لُقْمةٌ مِنها مِن مادّةٍ مُغَذِّيةٍ -كالجُبنِ والبَيضِ مَثلًا – يُقَدَّرُ ثَمَنُها بقِرشٍ واحِدٍ، واللُّقْمةُ الأُخرَى حَلْوَى مِن نَوعٍ فاخِرٍ يُقَدَّرُ ثَمَنُها بعَشَرةِ قُرُوشٍ؛ فهاتانِ اللُّقْمَتانِ مُتَساوِيَتانِ قَبلَ دُخُولِهِما الفَمَ ولا فَرقَ بَينَهُما، وهُما مُتَساوِيَتانِ كذلك مِن حَيثُ إِنماءُ الجِسمِ وتَغذِيَتُه بَعدَ مُرُورِهِما مِنَ البُلْعُوم؛ بل قد يُغَذِّي الجُبنُ الَّذي هُو بقِرشٍ واحِدٍ تَغذِيةً أَفضَلَ وتَنمِيةً أَقوَى مِنَ اللُّقْمةِ الأُخرَى.. إِذًا لَيسَ هُنالِك مِن فَرقٍ إلّا مُلاطَفةُ القُوّةِ الذّائِقةِ في الفَمِ الَّتي لا تَستَغرِقُ سِوَى نِصفِ دَقِيقةٍ، فلْيُقَدَّرْ إِذًا مَدَى ضَرَرِ الإِسرافِ ومَدَى التَّفاهةِ في صَرْفِ عَشَرةِ قُرُوشٍ بَدَلًا عن قِرشٍ واحِدٍ في سَبِيلِ الحُصُولِ على لَذّةٍ تَستَغرِقُ نِصفَ دَقِيقةٍ!

وهكذا، فإنَّ إِثابةَ البَوّابِ تِسعةَ أَضعافِ ما يُقَدَّمُ إلى حاكِمِ القَصرِ مِن هَدايا تُفضِي به لا مَحالةَ إلى الغُرُورِ والجَشَعِ، وتَدفَعُه بالتّالي إلى القَوْلِ: إنَّما أنا الحاكِمُ.

فمَن كافَأَه بِهِبةٍ أَكثَرَ ولَذّةٍ أَزْيَدَ دَفَعَه إلى الدّاخِلِ، مُسَبِّبًا إِخلالَ النِّظامِ القائِمِ هُناك، مُضْرِمًا فيه نارًا مُستَعِرةً ومُلزِمًا صاحِبَه الِاستِغاثةَ صارِخًا: هَيّا أَسرِعُوا إليَّ بالطَّبِيبِ حالًا لِيُخَفِّفَ شِدّةَ حَرارَتي ويُطفِئَ لَظَى نارِها.

فالِاقتِصادُ والقَناعةُ مُنسَجِمانِ انسِجامًا تامًّا معَ الحِكْمةِ الإِلٰهِيّةِ، إذ يَتَعامَلانِ معَ القُوّةِ الذّائِقةِ مُعامَلةَ البَوّابِ، ويُوقِفانِها عِندَ حَدِّها ويُكافِئانِها حَسَبَ تلك الوَظِيفةِ؛ أمّا الإِسرافُ فلِأَنَّه يَسلُكُ سُلُوكًا مُخالِفًا لِتِلك الحِكْمةِ، فسَرْعانَ ما يَتَلقَّى المُسْرِفُ صَفَعاتٍ مُوجِعةً، إذ تَحدُثُ الِاختِلاطاتُ المُؤْلِمةُ في المَعِدةِ الَّتي تُؤَدِّي إلى فِقْدانِ الشَّهِيّةِ الحَقِيقيّةِ نَحوَ الأَكلِ، فيَأكُلُ بشَهِيّةٍ كاذِبةٍ مُصْطَنَعةٍ بتَنوِيعِ الأَطعِمةِ، مِمّا يُسَبِّبُ عُسْرًا في الهَضْمِ، فيُسَبِّبُ المَرَضَ.

[النكتة الثالثة: للقوة الذائقة وظيفة معنوية]

النُّكتة الثالثة

قُلنا في النُّكْتةِ الثّانيةِ آنِفًا: إنَّ القُوّةَ الذّائِقةَ تُؤَدِّي دَوْرَ البَوّابِ. نعم، هي كَذلِك عِندَ الغافِلِينَ الَّذين لم يَسْمُوا بَعدُ رُوحِيًّا، والَّذين لم يَتَقدَّمُوا في مِضْمارِ الشُّكْرِ ولم يَعرُجُوا في مَدارِجِه.

نعم، إنَّه لا يَنبَغِي اللُّجُوءُ إلى الإِسرافِ -كصَرْفِ عَشَرةِ أَضعافِ الثَّمَنِ – لِأَجلِ تَلَذُّذِ تلك الحاسّةِ البَوّابةِ، ولكِنَّ القُوّةَ الذّائِقةَ لَدَى الشّاكِرِينَ حَقًّا ولَدَى أَهلِ الحَقِيقةِ وأَهلِ القُلُوبِ وأُولي الأَبصارِ بمَثابةِ راصِدةٍ وناظِرةٍ مُفَتِّشةٍ لِمَطابِخِ الرَّحْمةِ الإِلٰهِيّةِ (كما وُضِّحَ ذلك في المُقارَنةِ المَعقُودةِ في الكَلِمةِ السّادِسةِ)، وإنَّ ما يَتِمُّ في تلك القُوّةِ الذَّائِقةِ مِن عَمَلِيّةِ تَقدِيرِ قِيمةِ النِّعَمِ الإِلٰهِيّةِ ومِنَ التَّعَرُّفِ علَيْها بأَنواعِها المُختَلِفةِ بما فيها مِن مَوازِينَ دَقِيقةٍ حَسّاسةٍ عَدِيدةٍ بعَدَدِ الأَطعِمةِ، إنَّما هو لِإِبلاغِ الجَسَدِ والمَعِدةِ بما يَنُمُّ عن شُكْرٍ مَعنَوِيٍّ.

فلا تَقتَصِرُ وَظِيفةُ القُوّةِ الذّائِقةِ على رِعايةِ الجَسَدِ رِعايةً مادِّيّةً وَحْدَها، بل هي أَيضًا تَتَوَجَّهُ إلى القَلبِ والرُّوحِ والعَقلِ، فلَها حُكمٌ ولها مَقامٌ أَرقَى مِن َ المَعِدةِ، عِلْمًا أنَّها تَستَطِيعُ أن تَمضِيَ في سَبِيلِ الحُصُولِ على لَذَّتِها  -بشَرطِ عَدَمِ الإِسرافِ- إِنجازًا لِمُهِمّةِ الشُّكْرِ الخالِصِ المُقَدَّرةِ لَها، وبِنِيّةِ التَّعَرُّفِ والِاطِّلاعِ على أَنواعِ النِّعَمِ الإِلٰهِيّةِ بتَذَوُّقِها والشُّعُورِ بها بِشَرطِ مَشرُوعِيَّتِها وعَدَمِ كَوْنِها وَسِيلةً لِلتَّذَلُّل والِاستِجداءِ، أي: يُمكِنُه أن يُفَضِّلَ الأَطعِمةَ اللَّذِيذةَ لِأَجلِ استِعمالِ ذلك اللِّسانِ الحامِلِ لِلقُوّةِ الذّائِقةِ في الشُّكْرِ.

وإِشارةً إلى هذه الحَقِيقةِ: إلَيْكُم هذه الحادِثةَ، وهي كَرامةٌ مِن كَراماتِ الشَّيخِ الكَيْلانِيِّ “قُدِّسَ سِرُّه”:

كان لِعَجُوزٍ رَقِيقةٍ لَطِيفةٍ ابنٌ وَحِيدٌ يَتَربَّى على يَدِ الشَّيخِ، دَخَلَت تلك العَجُوزُ المُوَقَّرةُ ذاتَ يَوْمٍ على ابنِها فوَجَدَته يَأْكُلُ مِن كِسرةِ خُبزٍ يابِسٍ أَسمَرَ، مُزاوِلًا رِياضةً رُوحِيّةً حتَّى ضَعُفَ ونَحُلَ جِسمُه؛ أَثارَت هذه الحالةُ شَفَقةَ والِدَتِه الرَّؤُومِ ورَقَّت لِحالِه، فذَهَبَت لِتَشتَكِيَه إلى الشَّيخِ الكَيْلانِيِّ، وإذا بها تَرَى الشَّيخَ يَأْكُلُ دَجاجًا مَشوِيًّا، ولِشِدّةِ رِقَّتِها ولَطافَتِها قالَت: أيُّها الشَّيخُ، إن ابْنِي يَكادُ يَمُوتُ جُوعًا، وها أَنتَ ذا تَأْكُلُ الدَّجاجَ! فخاطَبَ الشَّيخُ الدَّجاجَ قائِلًا: “قُمْ بإِذنِ اللهِ”، فوَثَب ذلك الدَّجاجُ المَطْبُوخُ إلى خارِجِ الوِعاءِ بَعدَ أَنِ اكتَمَل دَجاجًا حَيًّا بالْتِئامِ عِظامِه.. لقد نَقَل هذا الخَبَرَ بالتَّواتُرِ المَعنَوِيِّ ثِقاتٌ كَثِيرُونَ إِظهارًا لِكَرامةٍ واحِدةٍ مِن صاحِبِ الكَراماتِ المَشهُورةِ في العالَمِ الشَّيخِ الكَيْلانِيِّ قُدِّسَ سِرُّه؛ ومِمّا قالَه الشَّيخُ لِتِلك العَجُوزِ: مَتَى بَلَغ ابنُكِ هذه الدَّرَجةَ، فلْيَأْكُلِ الدَّجاجَ هُو الآخَرُ.

فمَغْزَى هذا الأَمرِ الصَّادِرِ مِنَ الشَّيخِ الكَيْلانِيِّ هُو: مَتَى حَكَمَتْ رُوحُ ابنِك جَسَدَه، وهَيْمَنَ قَلبُه على نَفسِه، وسادَ عَقْلُه مَعِدَتَه، والْتَمَسَ اللَّذّةَ لِأَجلِ الشُّكْرِ.. عِندَئِذٍ يُمكِنُه أن يَتَناوَلَ ما لَذَّ وطابَ مِنَ الأَطعِمةِ.

[النكتة الرابعة: ما عال مَن اقتصد]

النُّكتة الرابعة

إنَّ المُقتَصِدَ لا يُعاني فاقةَ العائِلةِ وعَوَزَها كما هو مَفهُومُ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: “ما عالَ مَنِ اقْتَصَدَ”، أَجَل، هُنالك دَّلائِلُ قاطِعةٌ لا يَحصُرُها العَدُّ بأنَّ الِاقتِصادَ سَبَبٌ جازِمٌ لِإِنزالِ البَرَكةِ، وأَساسٌ مَتِينٌ لِلعَيشِ الأَفضَلِ.. أَذكُرُ مِنها ما رَأَيتُه في نَفسِي وبِشَهادةِ الَّذين عاوَنُوني في خِدْمَتِي وصادَقُوني بإِخلاصٍ، فأَقُولُ:

لقد حَصَلتُ أَحيانًا وحَصَل أَصدِقائي على عَشَرةِ أَضعافٍ مِنَ البَرَكةِ بسَبَبِ الِاقتِصادِ، حتَّى إنَّه قَبلَ تِسعِ سَنَواتٍ عِندَما أَصَرَّ عَلَيَّ قِسمٌ مِن رُؤَساءِ العَشائِرِ المَنفِيِّين مَعِي إلى “بُورْدُورَ” على قَبُولِ زَكاتِهِم كي يَحُولُوا بَيني وبَينَ وُقُوعي في الذِّلّةِ والحاجةِ لِقِلّةِ ما كانَ لَدَيَّ مِنَ النُّقُودِ، فقُلتُ لِأُولَئِك الرُّؤَساءِ الأَثرِياءِ: رَغمَ أنَّ نُقُودِي قَلِيلةٌ جِدًّا إلّا أَنَّني أَملِكُ الِاقتِصادَ، وقد تَعَوَّدتُ على القَناعةِ، فأنا أَغنَى مِنكُم بكَثِيرٍ. فرَفَضتُ تَكلِيفَهُمُ المُتكَرِّرَ المُلِحَّ.

ومِنَ الجَدِيرِ بالمُلاحَظةِ أنَّ قِسمًا مِن أُولَئِك الَّذين عَرَضُوا علَيَّ زَكاتَهُم قد غَلَبَهُمُ الدَّينُ بَعدَ سَنَتَينِ، لِعَدَمِ الْتِزامِهِم بالِاقتِصادِ، وأَنَّ تلك النُّقُودَ الضَّئِيلةَ قد كَفَتْني -وللهِ الحَمْدُ- بِبَرَكةِ الِاقتِصادِ إلى ما بَعدَ سَبعِ سَنَواتٍ، فلم يُرَقْ مِنِّي ماءُ الوَجْهِ، ولم يَدفَعْنِي لِعَرْضِ حاجَتِي على النّاسِ، ولم يُفسِدْ علَيَّ ما اتَّخَذتُه دُستُورًا لِحَياتي، وهُو “الِاستِغناءُ عنِ النَّاسِ”.

نعم، إنَّ مَن لا يَقتَصِدُ، مَدعُوٌّ لِلسُّقُوطِ في مَهاوِي الذِّلّةِ، ومُعَرَّضٌ لِلِانزِلاقِ إلى الِاستِجْداءِ والهَوانِ مَعنًى.

إنَّ المالَ الَّذي يُستَعمَلُ في الإِسرافِ في زَمانِنا هذا لَهُو مالٌ غالٍ وباهِظٌ جِدًّا، حَيثُ تُدفَعُ أَحيانًا الكَرامةُ والشَّرَفُ ثَمَنًا ورِشْوةً له، بل قد تُسلَبُ المُقَدَّساتُ الدِّينِيّةُ لِأَجلِ الحُصُول على نُقُودٍ مَنحُوسةٍ مَشؤُومةٍ، أي: يَقبِضُ الإِنسانُ بِضْعةَ قُرُوشٍ مِن نُقُودٍ مادِّيّةٍ، على حِسابِ مِئاتِ اللَّيراتِ مِنَ النُّقُودِ المَعنَوِيّةِ؛ بَينَما لوِ اقتَصَر على الحاجاتِ الضَّرُورِيّةِ واختَصَرَها وحَصَر هَمَّه فيها، فسيَجِدُ رِزْقًا يَكْفُلُ عَيْشَه مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ، وذلك بمَضْمُونِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾، وإنَّ صَراحةَ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ تَتَعهَّدُ بذلك تَعَهُّدًا قاطِعًا.

[الرزق قسمان]

نعم، إنَّ الرِّزقَ قِسمانِ:

[الرزق الحقيقي]

القِسمُ الأَوَّلُ: وهُو الرِّزقُ الحَقِيقيُّ الَّذي تَتَوقَّفُ علَيْه حَياةُ المَرْءِ، وهُو تَحتَ التَّعَهُّدِ الرَّبّانِيِّ بحُكْمِ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ، فيَستَطِيعُ المَرْءُ الحُصُولَ على ذلك الرِّزقِ الضَّرُورِيِّ مَهْما كانَتِ الأَحوالُ إنْ لم يَتَدَخَّل سُوءُ اختِيارِ البَشَرِ دُونَ أن يُضطَرَّ إلى فِداءِ دِينِه ولا التَّضحِيةِ بشَرَفِه وعِزَّتِه.

[الرزق المجازي]

القِسمُ الثّاني: هُو الرِّزقُ المَجازِيُّ، فالَّذي يُسِيءُ استِعمالَه لا يَستَطِيعُ أن يَتَخلَّى عنِ الحاجاتِ غيرِ الضَّرُورِيّةِ الَّتي غَدَت ضَرُورِيّةً عِندَه نَتِيجةَ الِابتِلاءِ بِبَلاءِ التَّقلِيدِ؛ وثَمَنُ الحُصُولِ على هذا الرِّزقِ باهِظٌ جِدًّا ولا سِيَّما في هذا الزَّمانِ، حَيثُ لا يَدخُلُ ضِمنَ التَّعَهُّدِ الرَّبّانِيِّ، إذ قد يَتَقاضَى ذلك المالَ لِقاءَ تَضحِيَتِه بعِزَّتِه سَلَفًا راضِيًا بالذُّلِّ، بل قد يَصِلُ به حَدَّ السُّقُوطِ في هاوِيةِ الِاستِجداءِ المَعنَوِيِّ، والتَّنازُلِ إلى تَقبِيلِ أَقدامِ أُناسٍ مُنحَطِّينَ وَضِيعِينَ، لا بل قد يَحصُلُ على ذلك المالِ المَنحُوسِ المَمحُوقِ بالتَّضحِيةِ بمُقَدَّساتِه الدِّينيّةِ الَّتي هي نُورُ حَياتِه الخالِدةِ.

ثمَّ إنَّ الأَلَمَ الَّذي يَنْتابُ ذَوِي الوِجْدانِ مِن حَيثُ العاطِفةُ الإِنسانيّةُ -بما يَرَوْنَه مِن آلامٍ يُقاسِيها المُحتاجُونَ البائِسُونَ في هذا الزَّمانِ الَّذي خَيَّم علَيْه الفَقرُ والحاجةُ- يَشُوبُ لَذَّتَهُمُ الَّتي يُحَصِّلُونَها بأَموالٍ غَيرِ مَشرُوعةٍ، إن كانَت لَهُم ضَمائِرُ..

إنَّه يَنبَغِي في هذا الزَّمانِ العَجِيبِ الِاكتِفاءُ بحَدِّ الضَّرُورةِ في الأَموالِ المُرِيبةِ، لِأَنَّه حَسَبَ قاعِدةِ “الضَّرُورةُ تُقَدَّرُ بقَدْرِها” يُمكِنُ أن يُؤْخَذَ بِاضطِرارٍ مِنَ المالِ الحَرامِ حَدُّ الضَّرُورةِ، ولَيسَ أَكثَرُ مِن ذلك، نعم، لَيسَ لِلمُضطَرِّ أن يَأْكُلَ مِنَ المَيْتةِ إلى حَدِّ الشِّبَعِ، بل له أن يَأْكُلَ بمِقْدارِ ما يَحُولُ بَينَه وبَينَ المَوْتِ؛ وكذا لا يَأْكُلُ الطَّعامَ بشَراهةٍ أَمامَ مِئةٍ مِنَ الجائِعِينَ.

نُورِدُ هُنا حادِثةً واقِعِيّةً لِلدَّلالةِ على كَوْنِ الِاقتِصادِ سَبَبَ العِزّةِ والكَمالِ:‌

أَقامَ “حاتِمٌ الطّائيُّ” المَشهُورُ بِكَرَمِه وسَخائِه ضِيافةً عَظِيمةً ذاتَ يَومٍ، وأَغدَقَ هَدايا ثَمِينةً على ضُيُوفِه؛ ثمَّ خَرَج لِلتَّجْوالِ في الصَّحْراءِ، فرَأَى شَيْخًا فَقِيرًا يَحمِلُ على ظَهْرِه حِمْلًا ثَقِيلًا مِنَ الحَطَبِ والكَلَأِ والشَّوْكِ، والدَّمُ يَسِيلُ مِن بَعضِ جِسْمِه.. فخاطَبَه قائِلًا:

أَيُّها الشَّيخُ، إنَّ حاتِمًا الطّائيَّ يُقِيمُ اليَومَ ضِيافةً كَرِيمةً، ويُوَزِّعُ هَدايا ثَمِينةً، بادِرْ إلَيْه لَعَلَّك تَنالُ مِنه أَموالًا أَضعافَ أَضعافِ ما تَنالُه مِن هذا الحِمْلِ!

قال له ذلك الشَّيخُ المُقتَصِدُ: سأَحْمِلُ حِمْلي هذا بعِزّةِ نَفسِي وعَرَقِ جَبِينِي، ولا أَرضَى أن أَقَع تَحتَ مِنّةِ حاتِمٍ الطّائيِّ.

ولَمّا سُئِلَ حاتِمٌ الطّائيُّ يَوْمًا: مَنْ مِنَ النّاسِ وَجَدتَه أَعَزَّ مِنك وأَكرَمَ؟

قال: ذلك الشَّيخُ المُقتَصِدُ الَّذي لَقِيتُه في المَفازةِ ذاتَ يَومٍ، لقد رَأَيتُه حَقًّا أَعَزَّ مِنِّي وأَكرَمَ.

[النكتة الخامسة: لكل عبد نصيب من اللذة]

النُّكتة الخامسة

إنَّ مِن كَمالِ كَرَمِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى: أنَّه يُذِيقُ لَذّةَ نِعَمِه لِأَفقَرِ النّاسِ، كما يُذِيقُها أَغناهُم، فالفَقِيرُ يَستَشعِرُ اللَّذّةَ ويَتَذَوَّقُها كالسُّلطانِ.

نعم، إنَّ اللَّذّةَ الَّتي يَنالُها فَقِيرٌ مِن كِسْرةِ خُبزٍ أَسوَدَ يابِسٍ بسَبَبِ الجُوعِ والِاقتِصادِ تَفُوقُ ما يَنالُه السُّلطانُ أوِ الثَّرِيُّ مِن أَكلِه الحَلْوَى الفاخِرةَ بالمَلَلِ وعَدَمِ الشَّهِيّةِ النّابِعَينِ مِنَ الإِسرافِ.

ومِنَ العَجَبِ حَقًّا أن يَجْرُؤَ بَعضُ المُسرِفِينَ والمُبَذِّرِينَ على اتِّهامِ المُقتَصِدِينَ بالخِسّةِ.. حاشَ للهِ، بلِ الِاقتِصادُ هو العِزّةُ والكَرَمُ بعَينِه، بَينَما الخِسّةُ والذِّلّةُ هُما حَقِيقةُ ما يَقُومُ به المُسرِفُونَ والمُبَذِّرُونَ مِن سَخاءٍ ظاهِرِيٍّ.

وثَمَّ حادِثةٌ جَرَت في غُرفَتِي في “إِسبارْطةَ” في السَّنةِ الَّتي تَمَّ فيها تَأْليفُ هذه الرِّسالةِ، تُؤَيِّدُ هذه الحَقِيقةَ، وهي أنَّه أَصَرَّ أَحَدُ طُلّابي إِصرارًا شَدِيدًا على أن أَقْبَلَ هَدِيَّتَه الَّتي تَزِنُ أُوقيَّتَينِ ونِصفَ الأُوقِيّةِ مِنَ العَسَلِ، خَرْقًا لِدُستُورِ حَياتي،  ورَغمَ مُحاوَلاتٍ عِدّةٍ لبَيانِ ضَرُورةِ التَّمَسُّكِ بقاعِدَتي، إلّا أنَّه لم يَقْنَعْ، فاضطُرِرْتُ إلى قَبُولِها مُرغَمًا على نِيّةِ أن يَشتَرِكَ ثَلاثةُ إِخوةٍ مَعِي في الغُرفةِ فيها، ويَأْكُلُوا مِنه باقتِصادٍ طَوالَ أَربَعِينَ يَوْمًا مِن شَهرَيْ شَعْبانَ ورَمَضانَ المُبارَكِ، لِيَكسِبَ صاحِبُه المُهدِي ثَوابًا، ولا يَبقَوْا دُونَ حَلاوةٍ، لِذا أَوْصَيتُهُم بقَبُولِ الهَدِيّةِ لَهُم، عِلْمًا أنَّه كانَ عِندِي أُوقِيّةٌ مِنَ العَسَلِ.

ورَغمَ أنَّ أَصدِقائي الثَّلاثةَ كانُوا على استِقامةٍ حَقًّا، ومِمَّن يَقدُرُونَ الِاقتِصادَ حَقَّ قَدْرِه، فإنَّهُم -على كُلِّ حالٍ- نَسُوه نَتِيجةَ قِيامِهِم بإِكرامِ بَعضِهِم بَعْضًا ومُراعاتِهِم شُعُورَ الآخَرِينَ والإِيثارَ فيما بَينَهُم، وأَمثالَها مِنَ الخِصالِ الحَمِيدةِ، فأَنفَدُوا ما عِندَهُم مِنَ العَسَلِ في ثَلاثِ لَيالٍ فقط، فقُلتُ مُبتَسِمًا:

لقد كانَت نِيَّتي أن أَجعَلَكُم تَتَذوَّقُونَ طَعْمَ العَسَلِ ثَلاثِينَ يَوْمًا أو أَكثَرَ، ولَكِنَّكُم أَنفَدْتُمُوه في ثَلاثةِ أَيّامٍ فقط، فهَنِيئًا لكُم.. في حِينِ أَنَّني بِتُّ أَصرِفُ ما كُنتُ أَملِكُه مِنَ العَسَلِ بالِاقتِصادِ، فتَناوَلتُه طَوالَ شَهرَيْ شَعبانَ ورَمَضانَ، فَضْلًا عن أنَّه أَصبَحَ -وللهِ الحَمدُ- سَبَبًا لِثَوابٍ عَظِيمٍ، حَيثُ أَعطَيتُ كُلَّ واحِدٍ مِن أُولَئِك الإِخوةِ مِلْعَقةً واحِدةً مِنه ﴿(حاشية): أي: مِلعَقةَ شايٍ كبيرةً.﴾ وَقتَ الإِفطارِ.

ولَرُبَّما حَسِبَ الَّذين شاهَدُوا حالي تلك أنَّها خِسّةٌ، واعتَبَرُوا أَوْضاعَ أُولَئِك الإِخوةِ في اللَّيالي الثَّلاثِ حالةً عَزِيزةً مِنَ الكَرَمِ، ولكِن شاهَدْنا تَحتَ تلك الخِسّةِ الظّاهِرِيّةِ عِزّةً عالِيةً وبَرَكةً واسِعةً وثَوابًا عَظِيمًا مِن زاوِيةِ الحَقِيقةِ، وتَحتَ ذلك الكَرَمِ والإِسرافِ -إن لم يَكُن قد تُرِك- استِجْداءً وتَرَقُّبًا لِما في أَيدِي الآخَرِينَ بطَمَعٍ.. وأَمثالِها مِنَ الحالاتِ الَّتي هي أَدنَى بكَثِيرٍ مِنَ الخِسّةِ.

[النكتة السادسة: الفرق بين الاقتصاد والخسة]

النُّكتة السّادسة

هُنالك بَوْنٌ شاسِعٌ وفَرقٌ هائِلٌ بَينَ الِاقتِصادِ والخِسّةِ، فكما أنَّ التَّواضُعَ الَّذي هُو مِنَ الأَخلاقِ المَحمُودةِ يُخالِفُ مَعنَى التَّذَلُّلِ الَّذي هُو مِنَ الأَخلاقِ المَذمُومةِ معَ أنَّه يُشابِهُه صُورةً؛ وكما أنَّ الوَقارَ الَّذي هُو مِنَ الخِصالِ الحَمِيدةِ يُخالِفُ مَعنَى التَّكَبُّرِ الَّذي هُو مِنَ الأَخلاقِ السَّيِّئةِ معَ أنَّه يُشابِهُه صُورةً..

فكذا الحالُ في الِاقتِصادِ الَّذي هُو مِنَ الأَخلاقِ النَّبوِيّةِ السّامِيةِ، بل هُو مِنَ المَحاوِرِ الَّتي يَدُورُ علَيْها نِظامُ الحِكْمةِ الإِلٰهِيّةِ المُهَيمِنُ على الكَوْنِ، لا عَلاقةَ له أَبدًا بالخِسّةِ الَّتي هي مَزِيجٌ مِنَ السَّفالةِ والبُخْلِ والجَشَعِ والحِرْصِ، بل لَيسَت هُنالك مِن رابِطةٍ بَينَهُما قَطْعًا، إلّا ذلك التَّشابُهَ الظّاهِرِيَّ.. وإلَيْكُم هذا الحَدَثَ المُؤيِّدَ لِهذه الحَقِيقةِ:

دَخَل عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ رَضِيَ الله عَنهُمَا وهُو أَكبَرُ أَبناءِ الفارُوقِ الأَعظَمِ خَلِيفةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وأَحَدُ العَبادِلةِ السَّبعةِ المَشهُورِينَ، ومِنَ البارِزِينَ بَينَ عُلَماءِ الصَّحابةِ الأَجِلّاءِ، دَخَل هذا الصَّحابيُّ الجَلِيلُ يَوْمًا في مُناقَشةٍ حادّةٍ لَدَى تَعامُلِه في السُّوقِ على شَيءٍ لا يُساوِي قِرْشًا واحِدًا، حِفاظًا على الِاقتِصادِ وصَوْنًا لِلأَمانةِ والِاستِقامةِ اللَّتَينِ تَدُورُ علَيْهِما التِّجارةُ.

في هذه الأَثناءِ رَآه صَحابيٌّ آخَرُ، فظَنَّ فيه شَيْئًا مِن خِسّةٍ، فاستَعْظَمَها مِنه، إذ كَيفَ يَصدُرُ هذا الأَمرُ مِنِ ابنِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وخَلِيفةِ الأَرضِ؟! فتَبِعَه إلى بَيتِه لِيَفهَمَ شَيْئًا مِن أَحوالِه، فوَجَد أنَّه قَضَى بَعضَ الوَقتِ معَ فَقِيرٍ عِندَ البابِ، ثُمَّ انصَرَف، ثمَّ خَرَج مِنَ البابِ الثّاني وتَجاذَبَ أَطرافَ الحَدِيثِ معَ فَقِيرٍ آخَرَ هُناك وانصَرَف. أَثارَ هذا الأَمرُ لَهْفةَ ذلك الصَّحابيِّ، فأَسرَعَ إلى الفَقِيرَينِ لِلِاستِفسارِ مِنهُما: هَلّا تُفهِمانِني ماذا فَعَل ابنُ عُمَرَ حِينَما وَقَف مَعَكُما؟

لقد أَعطَى كُلًّا مِنّا قِطْعةَ ذَهَبٍ.

فراعَه الأَمرُ وقال دَهِشًا: يا سُبحانَ اللهِ! ما أَعجَبَ هذا الأَمرَ! إنَّه يَخُوضُ في السُّوقِ في نِقاشٍ شَدِيدٍ لِأَجلِ قِرشٍ واحِدٍ، ثمَّ ها هُو ذا يُغدِقُ في بَيتِه مِئاتِ أَضعافِه على مُحتاجَينِ اثنَينِ عن رِضًا دُونَ أن يَشعُرَ به أَحَدٌ! فسارَ نَحوَ ابنِ عُمرَ رَضِيَ الله عَنهُمَا لِيَسأَلَه:

أَيُّها الإِمامُ: ألا تَحُلُّ لي مُعضِلَتي هذه؟ لقد فَعَلْتَ في السُّوقِ كذا وكذا، وفي البَيتِ كذا وكذا؟! فرَدَّ علَيْه قائِلًا:

إنَّ ما حَدَث في السُّوقِ هو نَتِيجةُ الِاقتِصادِ والحَصافةِ، فَعَلْتُه صَوْنًا لِلأَمانةِ وحِفْظًا لِلصِّدْقِ اللَّذَينِ هُما أَساسُ المُبايَعةِ ورُوحُها، ولَيسَ هو بخِسّةٍ ولا ببُخْلٍ، وإنَّ ما بَدَر مِنِّي في البَيتِ نابِعٌ مِن رَأْفةِ القَلبِ ورِقَّتِه ومِن سُمُوِّ الرُّوحِ واكْتِمالِها.. فلا ذاك خِسّةٌ ولا هذا إِسرافٌ.

وإِشارةً إلى هذا السِّرِّ قال الإِمامُ الأَعظَمُ أَبُو حَنِيفةَ النُّعمانُ رَضِيَ الله عَنهُ: «لا إِسرافَ في الخَيرِ، كما لا خَيرَ في الإِسرافِ».

أي: كما لا إِسرافَ في الخَيرِ والإِحسانِ لِمَن يَستَحِقُّه، كذلك لا خَيرَ في الإِسرافِ قَطُّ.

[النكتة السابعة: الإسراف ينتِج الحرص]

النُّكتة السابعة

[ثلاث نتائج للحرص]

إنَّ الإِسرافَ يُنتِجُ الحِرْصَ، والحِرْصُ يُوَلِّدُ ثَلاثَ نَتائِجَ:

[1: عدم القناعة]

أُوْلاها: عَدَمُ القَناعةِ.

وعَدَمُ القَناعةِ هذا يَثْنِي الشَّوْقَ عنِ السَّعيِ وعنِ العَمَلِ، بما يَبُثُّ في نَفسِ الحَرِيصِ مِنَ الشَّكْوَى بَدَلًا مِنَ الشُّكْرِ، قاذِفًا به إلى أَحضانِ الكَسَلِ، فيَتْرُكُ المالَ الزَّهِيدَ النّابِعَ مِنَ الكَسْبِ الحَلالِ1إذ بسَبَبِ الِابتِعادِ عنِ الِاقتِصادِ، يَكثُرُ المُستَهلِكُونَ، ويَقِلُّ المُستَحصِلُونَ، ويَبدَأُ الجَمِيعُ يَشُدُّونَ نَظَرَهُم إلى بابِ الحُكُومةِ، وحِينَها تَنتَكِسُ وتَتَناقَصُ الصِّناعةُ والتِّجارةُ والزِّراعةُ الَّتي هي مِحْوَرُ الحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ ومَدارُها، ويَنهارُ المُجتَمَعُ ويَتَدنَّى بدَوْرِه ويَغدُو فَقِيرًا مُعدِمًا.، ويُبادِرُ بالبَحثِ عَمّا لا مَشَقّةَ ولا تَكْلِيفَ فيه مِن مالٍ غَيرِ مَشرُوعٍ، فيُهدِرُ في هذه السَّبِيلِ عِزَّتَه بل كَرامَتَه.

[2: الخيبة والخسران]

النَّتِيجةُ الثَّانيةُ لِلحِرصِ: الخَيْبةُ والخُسْرانُ.

إذ يَفُوتُ مَقصُودُ الحَرِيصِ ويَتَعرَّضُ لِلِاستِثْقالِ، ويُحْرَمُ مِنَ التَّيسِيرِ والمُعاوَنةِ حتَّى يكُونَ مِصْداقَ القَوْلِ المَشهُورِ: “الحَرِيصُ خائِبٌ خاسِرٌ”.‌

إنَّ تَأْثِيرَ الحِرْصِ والقَناعةِ يَجْرِي في عالَمِ الأَحْياءِ على وَفْقِ دُستُورٍ شامِلٍ وسُنّةٍ مُطَّرِدةٍ، فمَثَلًا: كما أنَّ القَناعَةَ الفِطْرِيّةَ تَسُوقُ الرِّزقَ إلى الأَشجارِ المُحتاجةِ إِلَيْه، فإِنَّ سَعْيَ الحَيَواناتِ بنَفْسِها بالحِرْصِ وَراءَ الحُصُولِ على رِزْقِها في عَناءٍ ونَقْصٍ، يُبدِيانِ مَدَى الضَّرَرِ الجَسِيمِ الكامِنِ في الحِرْصِ، ومَدَى النَّفْعِ العَظِيمِ الكامِنِ في القَناعةِ.

وإنَّ سَيَلانَ الحَلِيبِ -ذلك الغِذاءِ اللَّطِيفِ- إلى أَفْواهِ الصِّغارِ الضُّعَفاءِ عامّةً ومِن حَيثُ لا يَحتَسِبُونَ بما يُبدُونَه مِن قَناعةٍ يَنطِقُ بها لِسانُ حالِهِم؛ وانقِضاضَ الوُحُوشِ بحِرْصٍ وجَشَعٍ على أَرزاقِها النّاقِصةِ المُلَوَّثةِ، يُثبِتُ ما نَدَّعِيه إِثباتًا ساطِعًا.

وإِنَّ أَوْضاعَ الأَسماكِ البَدِينةِ البَلِيدةِ الَّتي تَنُمُّ عنِ القَناعةِ الباعِثةِ لِوُصُولِ أَرزاقِها إلَيْها كامِلةً، وعَجْزَ الحَيَواناتِ الذَّكِيّةِ كالثَّعالِبِ والقِرَدةِ عن تَحصِيلِ غِذائِها كامِلًا معَ حِرْصِها سَعْيًا وَراءَها، وبَقاءَها هَزِيلةً نَحِيفةً، لَيُبيِّنُ كذلك مَدَى ما يُسَبِّبُه الحِرْصُ مِنَ المَشَقّةِ والعَناءِ، ومَدَى ما تُسَبِّبُه القَناعةُ مِنَ الرّاحةِ والهَناءِ.

ثُمَّ إِنَّ حُصُولَ اليَهُودِ على أَرْزاقِهِم كَفافًا بطُرُقٍ غَيرِ مَشرُوعةٍ مَمْزُوجًا بالذُّلِّ والمَسْكَنةِ بِسَبَبِ حِرْصِهِم وتَعامُلِهِم بالرِّبا واتِّباعِهِم أَسالِيبَ المَكْرِ والخِداعِ، وحُصُولَ البَدَوِيِّينَ المُتَحَلِّينَ بالقَناعةِ على رِزْقِهِمُ الكافي وعَيْشِهِمُ العَيشَ الكَرِيمَ العَزِيزَ يُؤيِّدُ دَعْوانا أَيضًا تَأْيِيدًا كامِلًا.

ثُمِّ إنَّ تَرَدِّيَ كَثِيرٍ مِنَ العُلَماءِ2سَأَل أَنُوشِروانُ حاكِمُ إِيرانَ العادِلُ الحَكِيمَ بُزُرْجُمِهْرَ: لِماذا يُشاهَدُ العُلَماءُ بأَبوابِ الأُمَراءِ ولا يُشاهَدُ الأُمَراءُ بأَبوابِ العُلَماءِ، والعِلمُ يَفُوقُ الإمارةَ؟ فأَجابَ: ذلك مِن عِلمِ العُلَماءِ، وجَهلِ الأُمَراءِ. أي: إنَّ الأُمَراءَ لا يَعلَمُون قَدْرَ العِلمِ، فلا يَأْتُونَ أَبوابَ العُلَماءِ لِطَلَبِه، بَينَما العُلَماءُ يَعلَمُون قَدْرَه، فيَطلُبُون قِيمَتَه بأَبواب الأُمَراءِ. فهذا الجَوابُ اللَّطِيفُ تَأْويلٌ ظَرِيفٌ لِحِرصِ العُلَماءِ النّابعِ مِن ذَكائِهِم المُؤَدِّي بهم إلى الذُّلِّ والفَقرِ. (خُسْرَوْ). والأُدَباءِ3هُنالك حادِثةٌ تُؤيِّد هذا الحُكْمَ.. إنَّ الأُدَباءَ في فَرَنسا يُمنَحُون وَثيقةَ التَّسَوُّلِ لِإجادَتِهم له. (سُلَيمان رُشدي). بما يَمنَحُهُم ذَكاؤُهُم ودَهاؤُهُم مِنَ الحِرْصِ في فَقْرٍ مُدقِعٍ وعَيشٍ كَفافٍ، وغَناءَ أَكثَرِ الأَغبِياءِ العاجِزِينَ وإِثراءَهُم لِما لَهُم مِن حالةٍ فِطْرِيّةٍ قَنُوعةٍ، لَيُثبِتُ إِثباتًا قاطِعًا: أنَّ الرِّزقَ الحَلالَ يَأْتي حَسَبَ العَجْزِ والِافتِقارِ لا بالِاقْتِدارِ والِاختِيارِ، بل هُو يَتَناسَبُ تَناسُبًا عَكْسِيًّا معَ الِاقتِدارِ والِاختِيارِ، ذلك أنَّ أَرْزاقَ الأَطفالِ تَتَضاءَلُ وتَبتَعِدُ ويَصعُبُ الوُصُولُ إلَيْها كُلَّما ازْدادُوا اختِيارًا وإِرادةً واقتِدارًا.

نعم، إنَّ القَناعةَ كَنزٌ لِلعَيشِ الهَنِيءِ الرَّغِيدِ، ومَبعَثُ الرّاحةِ في الحَياةِ، بَينَما الحِرصُ مَعدِنُ الخُسْرانِ والسَّفالةِ كما يَتَبيَّنُ ذلك مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: (القَنَاعةُ كَنْزٌ لَا يَفْنَى).

[3: إفساد الإخلاص]

النَّتِيجةُ الثّالثةُ: إنَّ الحِرْصَ يُتلِفُ الإِخلاصَ ويُفسِدُ العَمَلَ الأُخرَوِيَّ، لِأَنَّه لو وُجِدَ حِرْصٌ في مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ لَرَغِبَ في تَوَجُّهِ النّاسِ وإِقبالِهِم علَيْه، ومَن يَرقُبُ تَوَجُّهَ النّاسِ ويَنتَظِرُه لا يَبْلُغُ الإخلاصَ التّامَّ قَطْعًا، ولا يُمكِنُه الحُصُولُ علَيْه.. فهذه النَّتِيجةُ ذاتُ أَهَمِّيّةٍ عُظْمَى، وجَدِيرةٌ بالدِّقّةِ والمُلاحَظةِ. مُحَصَّلُ الكَلامِ: إنَّ الإِسرافَ يُنتِجُ عَدَمَ القَناعةِ، وعَدَمُ القَناعةِ يُخْبِتُ وَهْجَ الشَّوْقِ والتَّطَلُّعِ إلى العَمَلِ، ويَقذِفُ بالإِنسانِ إلى التَّقاعُسِ والكَسَلِ، ويَفتَحُ أَمامَه أَبوابَ الشَّكْوَى والحَسْرةِ في حَياتِه حتَّى لَيَجْعَلُه يَئِنُّ دَوْمًا تَحتَ مَضَضِ الشَّكْوَى والسَّأَمِ4نعم، إذا قابَلتَ مُسرِفًا فستَسمَعُ مِنه حَتْمًا الشَّكاوَى العَرِيضةَ، ومهما كان غَنِيًّا فلِسانُه يَشكُو لا محالة، بَينَما إذا قابَلتَ فَقِيرًا قانِعًا فلا تَسمَعُ مِنه إلّا الحَمْدَ والشُّكرَ لله.؛ كما أنَّه يُفسِدُ إِخلاصَه ويَفتَحُ دُونَه بابًا لِلرِّياءِ والتَّصَنُّعِ، بل ويَكسِرُ عِزَّتَه ويُرِيه طَرِيقَ الِاستِجداءِ والِاستِخذاءِ.

أمّا الِاقتِصادُ فإنَّه يُثمِرُ القَناعةَ، والقَناعةُ تُنتِجُ العِزّةَ، استِنادًا إلى الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: “عَزَّ مَن قَنَعَ، وذَلَّ مَن طَمِعَ”؛ كما أنَّه يَشحَذُ الشَّوْقَ لِلسَّعْيِ والعَمَلِ، ويَحُثُّ علَيْهِما ويَسُوقُ سَوْقًا إلى الكَدِّ وبَذْلِ الجُهْدِ فيهِما؛ لِأَنَّه إذا ما سَعَى المَرءُ في يَومٍ مّا وتَقاضَى أَجْرَه مَساءً، فسَيَسْعَى في اليَومِ التّالي له بسِرِّ القَناعةِ الَّتي تَوافَرَت لَدَيه؛ أمّا المُسْرِفُ فإنَّه لا يَسعَى في يَوْمِه الثّاني لِعَدَمِ قَناعَتِه، وحتَّى إذا سَعَى فإِنَّه يَسعَى دُونَ شَوْقٍ.

وكذا، فإنَّ القَناعةَ المُستَفاضةَ مِنَ الِاقتِصادِ تَفتَحُ بابَ الشُّكْرِ وتُوصِدُ بابَ الشَّكْوَى، فيَظَلُّ الإِنسانُ في شُكْرٍ وحَمْدٍ مَدَى حَياتِه؛ وبالقَناعةِ لا يَلتَفِتُ إلى تَوَجُّه النّاسِ إلَيْه لِاستِغْنائِه عَنهُم، فيَنفَتِحُ أَمامَه بابُ الإِخلاصِ ويَنغَلِقُ بابُ الرِّياءِ.

ولقد شاهَدتُ الأَضرارَ الجَسِيمةَ والخَسائِرَ الفادِحةَ الَّتي تُسفِرُ عنِ الإِسرافِ وعَدَمِ الِاقتِصادِ، شاهَدتُها مُتَجسِّدةً في نِطاقٍ واسِعٍ مُمتَدٍّ، وهي كما يَأْتي:

جِئْتُ إلى مَدِينةٍ مُبارَكةٍ -قَبلَ تِسعِ سَنَواتٍ- كان المَوْسِمُ شِتاءً، فلم أَتَمكَّنْ مِن رُؤْيةِ مَنابِعِ الثَّرْوةِ وجَوانِبِ الإِنتاجِ في تلك المَدِينةِ، فقال لي مُفْتِيها رَحِمَهُ اللهُ: إنَّ أَهاليَنا فُقَراءُ مَساكِينُ. أَعادَ قَوْلَه هذا مِرارًا.. أَثَّر فِيَّ هذا القَولُ تَأْثيرًا بالِغًا مِمّا أَجاشَ عَطْفِي، فبِتُّ أَستَرْحِمُ وأَتأَلَّم لِأَهالي تلك المَدِينةِ فيما يَقرُبُ مِن سِتِّ سَنَواتٍ؛ وبَعدَ ثَماني سَنَواتٍ عُدتُ إلَيْها وهي في أَجْواءِ الصَّيْفِ، وأَجَلْتُ نَظَرِي في بَساتِينِها، فتَذَكَّرتُ قَوْلَ المُفْتِي رَحِمَهُ اللهُ، وقُلتُ مُتَعجِّبًا: سُبحانَ اللهِ! إنَّ مَحاصِيلَ هذه البَساتِينِ وغَلّاتِها تَفُوقُ حاجةَ المَدِينةِ بِأَسْرِها كَثِيرًا، وكان حَرِيًّا بأَهالِيها أن يَكُونُوا أَثْرِياءَ جِدًّا! بَقِيتُ في حَيْرةٍ مِن هذا الأَمرِ.. ولكِن أَدْرَكتُ بحَقِيقةٍ لا تَخدَعُني أَستَرشِدُ بها في إِدْراكِ الحَقائِقِ: أنَّ البَرَكةَ قد رُفِعَت مِن هذه المَدِينةِ بسَبَبِ الإِسرافِ وعَدَمِ الِاقتِصادِ؛ مِمّا حَدا بالمُفتِي رَحِمَهُ اللهُ إلى القَوْلِ: “إنَّ أَهاليَنا فُقَراءُ ومَساكِينُ”، رَغمَ هذا القَدْرِ الواسِعِ مِن مَنابِعِ الثَّرْوةِ وكُنُوزِ المَوارِدِ.

نعم، إنَّه ثابِتٌ بالتَّجْرِبةِ وبالرُّجُوعِ إلى وَقائِعَ لا تُحَدُّ: أنَّ دَفْعَ الزَّكاةِ والأَخْذَ بالِاقتِصادِ سَبَبانِ لِبَرَكةِ المالِ واستِزادتِه، بَينَما الإِسرافُ ومَنعُ الزَّكاةِ يَرْفَعانِ البَرَكةَ.

ولقد فَسَّر “ابنُ سِينا” -وهُو أَفْلاطُونُ فَلاسِفةِ المُسلِمِينَ وشَيخُ الأَطِبّاءِ وأُستاذُ الفَلاسِفةِ- هذه الآيةَ الكَرِيمةَ: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ مِن زاوِيةِ نَظَرِ الطِّبِّ فقط بالأَبياتِ الآتيةِ:

جَمَعْتُ الطِّبَّ في بَيْتَيْنِ جَمْعًا  *  وحُسْنُ القَوْلِ في قَصْرِ الكَلامِ

فقَلِّلْ إنْ أَكَلْتَ وبَعْدَ أَكْلٍ  *  تَجَنَّبْ، والشِّفَاءُ في الِانْهِضامِ

﴿ولَيسَ عَلَى النُّفُوسِ أَشَدُّ حَالًا  *  مِنِ ادْخَالِ الطَّعامِ عَلَى الطَّعام5أي: إنَّ أَضَرَّ شَيءٍ للجِسمِ هو عَدَمُ إِعطاءِ مُهلةٍ بين وَجَباتِ الطَّعامِ تَتَراوَحُ بينَ أَربعِ أو خَمسِ ساعاتٍ، أو ملْءُ المَعِدةِ بإدخالِ الطَّعامِ بالتَّعاقُبِ لِأَجلِ التَّلَذُّذِ.

❀   ❀   ❀

[توافقٌ عجيب]

وإلَيْكُم هذا التَّوافُقَ الغَرِيبَ الباعِثَ على الحَيْرةِ والجالِبَ لِلعِبْرةِ‌

إنَّه مَعَ قِيامِ خَمْسةٍ وسِتّةٍ مِنَ المُستَنسِخِينَ المُختَلِفِينَ -ثَلاثةٌ مِنهُم لا يُتقِنُونَ الكِتابةَ- باستِنساخِ “رِسالةِ الِاقتِصادِ”، فقد تَوافَقَ كلُّ (واحِدٍ وخَمسِينَ) أَلِفًا مِن أَلِفاتِ كُلِّ نُسخةٍ خاليةً مِنَ الدُّعاءِ -وكلُّ (ثَلاثةٍ وخَمسِينَ) أَلِفًا مَعَ دُعاءٍ – رَغمَ اختِلافِ أَمكِنةِ أُولَئِك المُستَنسِخِينَ واختِلافِ النُّسَخِ الَّتي كانُوا يَنقُلُونَ مِنها واختِلافِ خَطِّهِم في الكِتابةِ، ومَعَ عَدَمِ التَّفَكُّرِ في تِلكُمُ الأَلِفاتِ إِطلاقًا! فإنَّ تَوافُقَ عَدَدِ الأَلِفاتِ مَعَ تارِيخِ تَأْلِيفِ “رِسالةِ الِاقتِصادِ” واستِنساخِها وهُو بالتَّارِيخِ الرُّوميِّ واحِدٌ وخَمسُونَ (١٣٥١)، وبالتَّارِيخِ الهِجْرِيِّ ثَلاثٌ وخَمسُونَ (١٣٥٣)، لا يُمكِنُ أن يُحالَ ذلك إلى الصُّدْفةِ دُونَ رَيبٍ، بل هُو إِشارةٌ إلى صُعُودِ البَرَكةِ الكامِنةِ في الِاقتِصادِ إلى دَرَجةِ الكَرامةِ.. وإنَّه لَحَرِيٌّ حَقًّا أن يُطلَقَ على هذا العامِ: “عامُ الِاقتِصادِ”.

نعم، لقد أَثبَتَ الزَّمانُ فِعْلًا هذه الكَرامةَ الِاقتِصادِيّةَ، وذلك عِندَما شَهِدَتِ البَشَرِيّةُ بَعدَ عامَينِ الحَرْبَ العالَمِيّةَ الثّانيةَ، تلك الحَربَ الَّتي بَثَّتِ الجُوعَ والتَّخرِيبَ وضُرُوبَ الإِسرافِ المَقِيتِ في كُلِّ أَنحاءِ العالَمِ مِمّا أَرغَمَ البَشَرِيّةَ على التَّشَبُّثِ بالِاقتِصادِ والِالتِفافِ حَوْلَه عَنْوةً.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

❀   ❀   ❀

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى