اللمعة السادسة عشرة
[هذه اللمعة تتحدث عن تفسير آيات ذي القرنين ويأجوج ومأجوج، وآية المغيَّبات الخمس، وكشوفات أهل الولاية وسبب اجتناب السياسة]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

[اللمعة السادسة عشرة]
اللمعة السادسة عشرة
﴿بِاسمِهِ.. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
إِخوَتي الأَعِزّاءَ الصِّدِّيقِينَ: العالِمَ صَبْرِي، الحافِظَ عَلِيّ، مَسعُود.
المُصطَفَونَ، خُسرَو، رَأفَت، بَكْر بِك، رُشدِي.
لُطفِيُّونَ، الحافِظُ أَحمَد، الشَّيخُ مُصطَفَى وآخَرُونَ.
[أربع مسائل صغيرة لكنها مهمة]
لقد أَحسَستُ إِحساسًا قَلبِيًّا أن أُبيِّنَ لكُم باختِصارٍ أَربَعَ مَسائِلَ صَغِيرةٍ ولكِنَّها مُهِمّةٌ، تلك الَّتي أَصبَحَت مَوضِعَ تَساؤُلٍ.. أُبيِّنُها لكُم لِلعِلمِ والِاطِّلاعِ.
[السؤال الأول: كشوفاتٌ لأهل الولاية لم تتحقق]
السُّؤالُ الأوَّل المُثِيرُ:
أَخبَرَ أَحَدُ إِخوانِنا وهُو السَّيِّدُ “عبدُ اللهِ چابرا زاده” كما أَخبَرَ أُناسٌ آخَرُونَ أَيضًا: أنَّ أَهلَ الكَشفِ قد قالُوا بحُدُوثِ بِشاراتٍ وفُتُوحٍ لِأَهلِ السُّنّةِ والجَماعةِ وكَشفِ الغُمَّةِ عَنهُم في رَمَضانَ الماضِي، ولكِن لم يَظهَر شَيءٌ مِن هذا القَبِيلِ.
فسَألُونِي: كَيفَ يُخبِرُ أَمثالُ هَؤُلاءِ مِن أَهلِ الوِلايةِ والكَشفِ عَمَّا هو خِلافُ الواقِعِ؟
وخُلاصةُ ما أَجَبتُهُم مُباشَرةً، وهُو مِن سَوانِحِ القَلبِ، هي:
أنَّه وَرَد في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ ما مَعناه: أنَّ البَلاءَ يَنزِلُ وتُقابِلُه الصَّدَقةُ فتَرُدُّه.
يَتبيَّنُ مِن هذا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ أنَّ المُقَدَّراتِ عِندَما تَأتِي مِنَ الغَيبِ لِلوُقُوعِ، تَأتِي مُرتَبِطةً بِبَعضِ الشُّرُوطِ، فتَتأَخَّرُ عنِ الوُقُوعِ بتَأخُّرِ الشُّرُوطِ؛ فتَتأَخَّرُ أَيضًا المُقَدَّراتُ الَّتي اطَّلَع علَيْها الأَولِياءُ مِن أَصحابِ الكَشفِ، إذ لَيسَت مُقَدَّراتٍ مُطلَقةً، بل مُقيَّدةً بِبَعضِ الشُّرُوطِ، فلِعَدَمِ حُدُوثِ تلك الشُّرُوطِ لا تَقَعُ تلك الحادِثةُ، لكن تلك الحادِثةُ كالأَجَلِ المُعَلَّقِ، قد كُتِبَت في لَوحِ المَحوِ والإِثباتِ، الَّذي هو نَوعٌ مِن أَنواعِ سِجِلِّ اللَّوحِ الأَزَليِّ؛ فالكَشفُ قَلَّما يَرقَى إلى اللَّوحِ الأَزَليِّ، بل لا يَستَطِيعُ مُعظَمُ الكُشُوفِ الرُّقيَّ إلى هُناك.. فبِناءً على هذا:
إنَّ الأَخبارَ الَّتي أُخبِرَ عنها في شَهرِ رَمَضانَ الفائِتِ وعِيدِ الأَضحَى وفي أَوقاتٍ أُخرَى، وبِناءً على الِاستِنباطِ أو بنَوعٍ مِنَ الكَشفِيّاتِ، لم تَجِد شُرُوطَها المُعَلَّقةَ بها، لِذا لم تَأتِ إلى مَيدانِ الواقِعِ؛ فالمُخبِرُونَ عنها لا يُكذَّبُونَ، لِأنَّ تلك الحَوادِثَ كانَت مُقَدَّرةً، إلّا أنَّها لا تَقَعُ إلّا بمَجِيءِ شُرُوطِها، وإذ لم تَأتِ الشُّرُوطُ فلا تَقَعُ الحادِثةُ.
نعم، إنَّ الدُّعاءَ الخالِصَ الَّذي يَرفَعُه مُعظَمُ أَهلِ السُّنّةِ والجَماعةِ في رَمَضانَ المُبارَكِ دَفْعًا لِلبِدَعِ، كانَ شَرطًا وسَبَبًا مُهِمًّا له، ولكِنَّ دُخُولَ البِدَعِ في الجَوامِعِ في الشَّهرِ المُبارَكِ معَ الأَسَفِ حَجَبَتِ الِاستِجابةَ والقَبُولَ، فلم تُفرَّجِ الكُربةُ ولم تُكشَفِ الغُمّةُ، إذ كما تَدفَعُ الصَّدَقةُ البَلاءَ -بدَلالةِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ- فالدُّعاءُ الخالِصُ مِنَ الأَكثَرِينَ يَجذِبُ الفَرَجَ العامَّ الشّامِلَ.. ولكِن لِأنَّ القُوّةَ الجاذِبةَ لم تَأتِ إلى الوُجُودِ، فلم يُكتَبْ لَها الفَتحُ.
[السؤال الثاني: لماذا لا تمارس السياسة؟]
السُّؤال الثَّاني المُثِيرُ:
بَينَما كانَ يَنبَغِي القِيامُ بمُحاوَلةٍ، والشُّرُوعُ بتَدبِيرٍ، إِزاءَ وَضعٍ سِياسِيٍّ مُهَيِّجٍ، في غُضُونِ هذَينِ الشَّهرَينِ، إذ كانَت تُؤَدِّي تلك المُحاوَلةُ -باحتِمالٍ قَوِيٍّ- إلى ما يُفرِحُني ويُدخِلُ البَهْجةَ في قُلُوبِ الكَثِيرِينَ مِن إِخوَتِي المُقرَّبِينَ؛ لم أَعبَأْ بذلك الوَضعِ، بل قُمتُ -خِلافًا له- أَحمِلُ فِكرًا في صالِحِ أَهلِ الدُّنيا الَّذِينَ يُضايِقُونَني! فظَلَّ البَعضُ في حَيرةٍ مُضاعَفةٍ مِن أَمرِي، إذ قالُوا: كَيفَ تَجِدُ السِّياسةَ الَّتي يَتَّبِعُها هَؤُلاءِ المُبتَدِعُونَ وثُلّةٌ مِمَّنَ يُقاسِيك العَذابَ مِنَ الرُّؤَساءِ المُنافِقِينَ، كَيفَ تَجِدُها حتَّى لا تُهاجِمَها؟!
وخُلاصةُ جَوابِي: إِنَّ أَعظَمَ خَطَرٍ على المُسلِمِينَ في هذا الزَّمانِ هو فَسادُ القُلُوبِ وتَزَعزُعُ الإِيمانِ بضَلالٍ قادِمٍ مِنَ الفَلسَفةِ والعُلُومِ، وإنَّ العِلاجَ الوَحِيدَ لِإصلاحِ القَلبِ وإِنقاذِ الإِيمانِ إنَّما هو النُّورُ وإِراءةُ النُّورِ؛ فلو عُمِل بِهِراوةِ السِّياسةِ وصَوْلَجانِها وأُحرِزَ النَّصرُ، تَدَّنى أُولَئِك الكُفَّارُ إلى دَرَكِ المُنافِقِينَ.. والمُنافِقُ -كما هو مَعلُومٌ- أَشَدُّ خَطَرًا مِنَ الكافِرِ وأَفسَدُ مِنه، فصَوْلَجانُ السِّياسةِ إِذًا لا يُصلِحُ القَلبَ في مِثلِ هذا الوَقتِ، حَيثُ يُنزِلُ الكُفرَ إلى أَعماقِ القَلبِ ويَتَستَّرُ هُناك ويَنقَلِبُ نِفاقًا.
ثمَّ إنَّ شَخصًا عاجِزًا مِثلِي، لا يُمكِنُه أن يَستَعمِلَ النُّورَ والهِراوةَ مَعًا في هذا الوَقتِ، لِذا فأَنا مُضطَـرٌّ إلى الِاعتِصامِ بالنُّورِ بما أَملِكُ مِن قُوّةٍ، فيَلزَمُ عَدمُ الِالتِفاتِ إلى هِراوةِ السِّياسةِ أيًّا كانَ نَوعُها؛ أمّا ما يَقتَضِيه الجِهادُ المادِّيُّ، فتِلك الوَظِيفةُ لَيسَت مُناطةً بِنا حاليًّا.. نعم، إنَّ الهِراوةَ هي لِوَقفِ تَجاوُزِ الكافِرِ أوِ المُرتَدِّ عِندَ حَدِّه، ولكِن لا نَملِكُ سِوَى يَدَينِ، بل لو كانَت لنا مِئةٌ مِنَ الأَيدِي ما كانَت تَكفِي إلّا لِلنُّورِ فلا يَدَ لَنا تُمسِكُ بِهِراوةِ السِّياسةِ.
[السؤال الثالث: لا نوالي الأجانب على أعدائنا من أبناء الوطن]
السُّؤالُ الثّالثُ المُثِيرُ:
إنَّ هُجُومَ الأَجانِبِ كإِنكِلتِرا وإِيطاليا على هذه الحُكُومةِ في الآوِنةِ الأَخِيرةِ يُؤَدِّي إلى إِثارةِ الحَمِيّةِ الإِسلامِيّةِ، وهِي رَكِيزةٌ حَقِيقيّةٌ ومَنبَعُ قُوّةٍ مَعنَوِيّةٍ لِحُكُوماتٍ خَلَت في هذا الوَطَنِ مُنذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ، وستُصبِحُ وَسِيلةً لِإحياءِ الشَّعائِرِ الإِسلامِيّةِ -إلى حَدٍّ مّا- ولِدَفعِ شَيءٍ مِنَ البِدَعِ.. فلِمَ عارَضْتَ هذه الحَربَ بِشِدّةٍ وسَأَلتَ اللهَ أن تُحَلَّ القَضِيّةُ بسَلامٍ وأَمانٍ، فقد أَصبَحتَ مُنحازًا لِحُكُومةِ المُبتَدِعِينَ، وهذا بذاتِه وبنَتائِجِه مُوالاةٌ لِلبِدَعِ؟
الجَوابُ: نَحنُ نَسأَلُ اللهَ الفَرَجَ والبِشارةَ والسُّرُورَ والفَتحَ، ولكِن لَيسَ بسَيفِ الكُفّارِ.. فسُحقًا لِسُيُوفِهِم ولتَكُن وَبالًا علَيهِم.. نَحنُ لَسنا بِحاجةٍ ولا نَرجُو الفائِدةَ مِن سُيُوفِهِم، لِأنَّ أُولَئِك الأَجانِبَ المُتَمرِّدِينَ هُمُ الَّذِينَ سَلَّطُوا المُنافِقِينَ على أَهلِ الإِيمانِ، وهُمُ الَّذِينَ رَبَّوُا الزَّنادِقةَ في أَحضانِهِم.
أمّا مُصِيبةُ الحَربِ وبَلاؤُها، فهِي ضَرَرٌ بالِغٌ لِخِدمَتِنا القُرآنيّةِ، لِأنَّ مُعظَمَ إِخوانِنا العامِلِينَ المُضَحِّينَ الفُضَلاءِ لا تَتَجاوَزُ أَعمارُهُمُ الخامِسةَ والأَربَعِينَ، فيُضطَـرُّونَ إلى الذَّهابِ لِلحَربِ تارِكِينَ الخِدمةَ القُرآنيّةَ المُقدَّسةَ.. ولو أنَّ لي مَبلَغًا مِنَ المالِ، لَكُنتُ أَدفَعُه -بكُلِّ رِضايَ- لِأَجلِ إِنقاذِ هَؤُلاءِ الإِخوةِ الأَكارِمِ، حتَّى لو كانَ البَدَلُ النَّقدِيُّ أَلفَ لَيرةٍ! إنَّ انخِراطَ مِئاتٍ مِن إِخوانِنا العامِلِينَ في الجُندِيّةِ، ومُزاوَلَتَهُمُ الجِهادَ المادِّيَّ خَسارةٌ فادِحةٌ لِخِدمَتِنا، أَشعُرُ أنَّها تَعدِلُ أَكثَرَ مِن مِئةِ أَلفِ لَيرةٍ، بل إنَّ ذَهابَ “ذَكائي” إلى الجُندِيّةِ خِلالَ السَّنَتَينِ الماضِيَتَينِ، أَفقَدَنا أَكثَرَ مِن أَلفِ لَيرةٍ مِنَ الفَوائِدِ المَعنَوِيّةِ.
وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ القَدِيرَ ذا الجَلالِ الَّذي يُطَهِّرُ وَجهَ السَّماءِ المُلَبَّدَ بالغُيُومِ، ويُبْرِزُ الشَّمسَ السّاطِعةَ في وَجهِ السَّماءِ اللّامِعِ خِلالَ دَقِيقةٍ واحِدةٍ، هو القادِرُ أَيضًا على أن يُزِيلَ هذه الغُيُومَ السَّوداءَ المُظلِمةَ الفاقِدةَ لِلرَّحمةِ، ويُظهِرَ حَقائِقَ الشَّرِيعةِ كالشَّمسِ المُنِيرةِ بكُلِّ يُسرٍ وسُهُولةٍ وبغَيرِ خَسارةٍ.
إنَّنا نَرجُو هذا مِن رَحمَتِه الواسِعةِ، ونَسأَلُه سُبحانَه ألّا يُكَلِّفَنا ذلك ثَمَنًا غالِيًا، وأن يَمنَحَ رُؤُوسَ الرُّؤَساءِ العَقلَ، ويَهَبَ لِقُلُوبِهِمُ الإِيمانَ.. وهذا حَسْبُنا، وحِينَها تَتَعدَّلُ الأُمُورُ بنَفسِها وتَستَقِيمُ.
[السؤال الرابع: لماذا تتحفظون على نشر بعض الأنوار بين العامة؟]
السُّؤالُ الرّابعُ المُثِيرُ:
يقُولُونَ: ما دامَ الَّذي في أَيدِيكُم نُورًا، ولَيسَ هِراوةً وصَوْلَجانًا، فالنُّورُ لا يُعارَضُ ولا يُهرَبُ مِنه، ولا يَنجُمُ مِن إِظهارِه ضَرَرٌ؛ فلِمَ إذًا تُوصُونَ أَصدِقاءَكُم بأَخذِ الحَذَرِ وتَمنَعُونَهُم مِن إِبرازِ رَسائِلَ نيِّرةٍ كَثِيرةٍ لِلنّاسِ كافّةً؟
مَضمُونُ جَوابِ هذا السُّؤالِ باختِصارٍ هو: أنَّ رُؤُوسَ كَثِيرٍ مِنَ الرُّؤَساءِ مَخمُورةٌ، لا يَقرَؤُونَ، وإذا قَرَؤُوا لا يَفهَمُونَ، فيُؤوِّلُونَه إلى مَعنًى خَطَأٍ، ويَعتَرِضُونَ ويُهاجِمُونَ.. ولِسَدِّ الطَّرِيقِ في وَجهِ هُجُومِهِم يَنبَغِي عَدَمُ إِظهارِ النُّورِ لَهُم لِحِينِ إِفاقَتِهِم واستِرجاعِ رُشدِهِم.. ثمَّ إنَّ هُنالك غَيرَ مُنصِفِينَ كَثِيرينَ، يُنكِرُونَ النُّورَ، أو يُغمِضُونَ أَعيُنَهُم دُونَه، لِأَغراضٍ شَخصِيّةٍ خاصّةٍ، أو خَوفًا أو طَمَعًا. ولِأَجلِ هذا أُوصِي إِخوَتِي أَيضًا لِيَأخُذُوا حِذْرَهُم ويَحتاطُوا لِلأَمرِ، وعلَيهِم ألّا يُعطُوا الحَقائِقَ أَحَدًا مِن غَيرِ أَهلِها، وألّا يَقُومُوا بعَمَلٍ يُثِيرُ أَوهامَ أَهلِ الدُّنيا وشُبُهاتِهِم علَيهِم1حادثةٌ لَطيفةٌ يُمكن أن تكونَ وسيلةً لِمسألةٍ جادّةٍ: جاءَني أوَّلَ أمسِ السَّيِّد محمَّد وهو صِهرُ أحدِ أَصدِقائي، وقال مَسرُورًا ومُبشِّرًا: لقد طَبَعوا في إِسبارطةَ كتابًا مِن كتُبِك، وكثيرٌ مِن النّاسِ يقرَؤُونه! قلتُ: ذلك ليس طَبعةً مَحظُورةً، وإنَّما هو ما أُخِذ مِن النُّسَخ، فلا تَعتَرِضُ عليه الدَّولةُ. وقلتُ له أيضًا: إيّاك أن تُحدِّثَ بهذا الخبَرِ صَدِيقَيك المُنافِقَينِ، إذ هما يَتَحرَّيانِ أمثالَ هذه الأُمُورِ لِيَجعلُوها وسيلةً لِلهُجُوم. وهكذا فيا إِخوتي، على الرَّغمِ مِن أنَّ هذا الشَّخصَ صِهرُ أحدِ أَصدِقائي، فيُعَدُّ مِن أَحبابي بهذه العلاقةِ، إلّا أنَّه بحُكمِ مِهنَتِه (الحِلاقة) صَدِيقٌ للمُعلِّم الفاقِد لِلوِجدانِ ولِلمُديرِ المُنافقِ. وقد أَخبَرَه بهذا الخَبَر أحدُ إِخوانِنا هناك دُونَ عِلمٍ مِنه. وحَسَنًا فَعَل أن أَخبَرَني أوَّلًا فنبَّهتُه، وبدَورِي نبَّهتُ الإخوةَ أيضًا، وسَدَّ بذلك الفَسادَ. ونشَرَتْ آلةُ الرُّونيُو أُلُوفَ النُّسَخ تحتَ هذا السِّتارِ..
❀ ❀ ❀
[خاتمة: حول شعرات اللحية النبوية الشريفة]
خاتمة
تَسَلَّمتُ اليَومَ رِسالةً مِنَ السَّيِّدِ “رَأفَت”، ولِمُناسَبةِ سُؤالِه عنِ اللِّحيةِ النَّبوِيّةِ الشَّرِيفةِ أَقُولُ: إنَّه ثابِتٌ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ أنَّ عَدَدَ الشَّعَراتِ الَّتي سقَطَت مِن لِحيَتِه الشَّرِيفةِ ﷺ مَحدُودٌ، وهُو عَدَدٌ قَلِيلٌ، يَتَراوَحُ بينَ ثَلاثِينَ إلى أَربَعِينَ، أو لا يَتَجاوَزُ الخَمسِينَ والسِّتِّينَ مِنَ الشَّعَراتِ، ولكِنَّ وُجُودَ الشَّعَراتِ في أُلُوفِ الأَماكِنِ، استَوقَفَنِي ودَفَعَنِي إلى التَّأمُّلِ والتَّفكُّرِ في حِينِه، فوَرَد إلى خاطِرِي في ذلك الوَقتِ:
إنَّ شَعَراتِ اللِّحيةِ الشَّرِيفةِ المَوجُودةَ الآنَ في كلِّ مكانٍ، لَيسَت هي شَعَراتِ اللِّحيةِ الشَّرِيفةِ وَحْدَها، بل رُبَّما شَعَراتٌ مِن رَأسِه المُبارَكِ ﷺ، إذِ الصَّحابةُ الكِرامُ الَّذِينَ ما كانُوا لِيُضيِّعُوا شَيئًا مِنه ﷺ قد حافَظُوا على تلك الشَّعَراتِ المُنَوَّرةِ المُبارَكةِ كُلَّما حَلَقَ، والَّتي تَبقَى دائِمًا، فتِلك الشَّعَراتُ تَربُو على الأُلُوفِ، وهذا يُمكِنُ أن يكُونَ مُكافِئًا لِلمَوجُودِ الحاضِرِ.
ووَرَد أَيضًا إلى خاطِرِي: تُرَى! هلِ الشَّعرُ المَوجُودُ في كلِّ جامِعٍ بسَنَدٍ صَحِيحٍ هو ثابِتٌ أَيضًا أنَّه مِن شَعرِه ﷺ حتَّى تكُونَ زِيارَتُنا له مَقبُولةً؟
فسَنَح بِبالِي فَجْأةً: أنَّ زِيارةَ تلك الشَّعَراتِ إنَّما هي وَسِيلةٌ، وهِي سَبَبٌ لِقِراءةِ الصَّلَواتِ على الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ، وهِي مَدارُ مَحَبَّتِه وتَوقِيرِه؛ فلا يُنظَرُ إلى ذاتِ الوَسِيلةِ، وإنَّما إلى جِهةِ كَونِها وَسِيلةً، لِذا فإن لم تكُن هي شَعرةً حَقِيقيّةً مِن شَعَراتِه ﷺ فهِي تُؤدِّي وَظِيفةَ تلك الوَسِيلةَ ما دامَت تُحسَبُ -في الظّاهِرِ- هكذا، وتَلَقّاها النّاسُ شَعرةً مِن شَعَراتِه ﷺ؛ فتكُونُ تلك الشَّعرةُ وَسِيلةً لِتَوقِيرِه ﷺ ومَحَبَّتِه وأَداءِ الصَّلَواتِ علَيْه، فلا يَلزَمُ السَّنَدُ القَطعِيُّ لِتَشخِيصِ ذاتِ الشَّعرِ وتَعيِينِه، بل يَكفِي ألّا يكُونَ هُناك دَليلٌ قاطِعٌ على خِلافِه، لِأنَّ ما يَتَلقّاه النّاسُ وما قَبِلَتْه الأُمّةُ ورَضِيَتْ به يكُونُ في حُكمِ نَوعٍ مِنَ الحُجّةِ.
وحتَّى لَوِ اعتَرَض بَعضُ أَهلِ التَّقوَى على مِثلِ هذه الأُمُورِ سَواءٌ مِن جِهةِ التَّقوَى أوِ الأَخذِ بالأَحوَطِ أوِ العَمَلِ بالعَزِيمةِ، فإنَّما يَعتَرِضُونَ بِصُورةٍ خُصُوصِيّة.
ولو قِيلَ: إنَّها بِدعةٌ. فإنَّها داخِلةٌ ضِمنَ البِدعةِ الحَسَنةِ، لِأنَّها الوَسِيلةُ لِلصَّلَواتِ على الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ.
ويقُولُ السَّيِّدُ “رَأفَت” في رِسالَتِه: “إنَّ هذه المَسأَلةَ قد أَصبَحَت مَثارَ المُناقَشةِ بَينَ الإِخوانِ”، فأُوصِي إِخوانِي أَلّا يخُوضُوا في نِقاشٍ يُمكِنُ أن يَنجُمَ عنه الِانشِقاقُ والِافتِراقُ، وإنَّما علَيْهِم أن يَتَعلَّمُوا بَحثَ الأُمُورِ مِن دُونِ نِزاعٍ، وعلى نَمَطِ تَداوُلٍ في الأَفكارِ.
❀ ❀ ❀
[ثلاث مسائل]
﴿بِاسمِهِ سُبحَانَه.. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾
﴿السَّلامُ علَيكُم ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه..﴾
إِخوَتي الأَعِزّاءَ مِن “سِنِرْكَنْت” السَّادة: إِبراهيم، شُكري، الحافِظ بَكْر، الحافِظ حُسَين، الحافِظ رَجَب.
إنَّ المَسائلَ الثَّلاثَ الَّتي أَرسَلتُمُوها بيَدِ الحافِظِ تَوفيق، يَعتَرِضُ علَيها المُلحِدُون مُنذُ أَمَدٍ بَعيدٍ:
[السؤال الأول: ما معنى: “في عين حمئة”]
أُولاها: إنَّ المَعنَى الظَّاهِرِيَّ لِقَولِه تَعالَى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ هو أنَّه رَأَى غُرُوبَ الشَّمسِ في ماءِ عَينٍ ذِي طِينٍ وحَرارةٍ.
ثانيَتُها: أينَ يَقَعُ سَدُّ ذِي القَرنَينِ؟
ثالثَتُها: نُزُولُ سيِّدِنا عِيسَى عَلَيهِ السَّلَام وقَتلُه الدَّجَّالَ في آخِرِ الزَّمانِ.
إنَّ أَجوِبةَ هذه الأَسئِلةِ طَوِيلةٌ، إلّا أنَّنا نُشِيرُ إلَيها باختِصارٍ فنقُولُ:
إنَّ آياتِ القُرآنِ الكَريمِ مَبنِيّةٌ على أَساليبِ اللُّغةِ العَرَبيّةِ، وبوَجهٍ يَفهَمُه عُمُومُ النّاسِ بظاهِرِ النَّظَرِ، لِذا كَثيرًا ما بَيَّنَتِ المَسائِلَ بالتَّشبِيهِ والتَّمثِيلِ.
فقَولُه تَعالَى: ﴿تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ يعني: أنَّ ذا القَرنَينِ قد شاهَدَ الشَّمسَ تَغرُبُ فيما يُشبِهُ عَينًا مُوحِلةً وحامِيةً، عندَ ساحِلِ البَحرِ المُحيطِ الغَربيِّ، أو شاهَدَ غُرُوبَها في عَينِ جَبَلٍ بُركانِيٍّ ذِي لَهِيبٍ ودُخانٍ.
أي: إنَّه شاهَدَ في ظاهِرِ النَّظَرِ غُرُوبَها في سَواحِلِ البَحرِ المُحِيطِ الغَربيِّ، وفي جُزءٍ مِنه الَّذي تَراءَى له مِن بَعيدٍ كأنَّه بِرْكةٌ أو حَوْضُ عَينٍ واسِعةٌ، فشاهَدَ غُرُوبَها الظّاهِرِيَّ خَلفَ الأَبخِرةِ الكَثيفةِ المُتَصاعِدةِ مِن مِياهِ المُستَنقَعاتِ الواقِعةِ عندَ سَواحِلِ البَحرِ المُحيطِ الغَربيِّ، لِشِدّةِ حَرارةِ شَمسِ الصَّيفِ؛ أو شاهَدَ اختِفاءَ الشَّمسِ الَّتي هي عَينُ السَّماءِ في عَينٍ مُلتَهِبةٍ انفَلَقَت حَدِيثًا على قِمّةِ جَبَلٍ بُركانِيٍّ تَقذِفُ بحُمَمِها مازِجةً التُّرابَ والصُّخُورَ والمَعادِنَ السّائِلةَ.
نعم، إنَّ تَعابِيرَ القُرآنِ الكَريمِ البَليغةَ المُعجِزةَ تُرشِدُ بهذه الجُملةِ إلى مَسائِلَ كَثيرةٍ:
فأوًّلًا: إنَّ سِياحةَ ذِي القَرنَينِ إلى جِهةِ الغَربِ كانَت في وَقتٍ عَزَّ فيه الحَرُّ، ونَحوَ المُستَنقَعاتِ، ومُوافَقَتُها أَوانَ غُرُوبِ الشَّمسِ، وحِينَ انفِلاقِ جَبَلٍ بُركانِيٍّ.. كلُّ هذا تُشِيرُ به الآيةُ الكَرِيمةُ إلى مَسائِلَ مَلِيئةٍ بالعِبَرِ، مِنها استِيلاءُ ذِي القَرنَينِ على إفرِيقِيّةَ استِيلاءً تامًّا.
ومِنَ المَعلُومِ أنَّ الحَرَكةَ المَشهُودةَ للشَّمسِ إنَّما هي حَرَكةٌ ظاهِرِيّةٌ، وهي دَليلٌ على حَرَكةِ الأَرضِ الخَفِيّةِ غيرِ المَحسُوسِ بها وهي تُخبِرُ عن تلك الحَرَكةِ، وليس المُرادُ حَقيقةَ الغُرُوبِ.
ثمَّ إنَّ كَلِمةَ ﴿عَيْنٍ﴾ إنَّما هي للتَّشبِيهِ، إذِ البَحرُ العَظِيمُ يُرَى مِن بَعيدٍ كحَوضٍ صَغِيرٍ، فتَشبِيهُ البَحرِ المُشاهَدِ مِن خَلفِ الضَّبابِ والأَبخِرةِ المُتَولِّدةِ مِنَ المُستَنقَعاتِ والبِرَكِ بلَفْحِ الحَرارةِ بـ ﴿عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ أي: عَينٍ تَنبُعُ مِن طِينٍ، وكذا استِعمالُ كَلِمةِ ﴿عَيْنٍ﴾ الَّتي تَعني في اللُّغةِ العَرَبيّةِ: اليُنبُوعَ والشَّمسَ والبَصَرَ، يَنطَوِي على سِرٍّ بَلاغِيٍّ دَقيقٍ وعَلاقةٍ وَثيقةٍ2إنَّ التَّعبيرَ بـ ﴿عَيْنٍ﴾ في قولِه تعالى: ﴿عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ يُذَكِّر برَمزٍ إلى مَعنًى لَطيفٍ وسِرٍّ دقيقٍ مِن أَسرارِ البَلاغةِ، وهو: أنَّ وَجهَ السَّماءِ بعدَ مُشاهَدَتِه بعَينِ الشَّمسِ جَمالَ رَحمَتِه تَعَالى عَلى وَجهِ الأَرضِ، وأنَّ وَجهَ الأَرضِ عَقِبَ رُؤيَتِه بعَينِ البَحرِ عَظَمَتَه تَعَالى في السَّماء، فعندما تُطبِقُ العَينانِ إحدَاهُما في الأُخرَى، تُغمَضُ العُيُونُ التي عَلى وَجهِ الأَرضِ.. فالآيةُ الكريمةُ تُذكِّرُ بكَلِمةٍ واحِدةٍ وبإعجازٍ جَميلٍ هذا المَعنَى اللَّطيفَ مُشِيرةً إلى ما يُنهي وَظيفة العُيُونِ. فكما بَدا الغُرُوبُ لِنَظَرِ ذِي القَرنَينِ مِن بُعدٍ هكذا، فإنَّ الخِطابَ القُرآنِيَّ النّازِلَ مِنَ العَرشِ الأَعظَمِ المُهَيمِنِ على الأَجرامِ السَّماوِيّةِ، حَرِيٌّ بهذا الخِطابِ السَّماوِيِّ، ومُنسَجِمٌ معَ عَظَمَتِه ورِفعَتِه قَولُه بأنَّ الشَّمسَ المُسَخَّرةَ سِراجًا في مَضِيفٍ رَحمانِيٍّ، تَختَفي في “عَينٍ” رَبّانيّةٍ وهي البَحرُ المُحِيطُ الغَربيُّ، مُعَبِّرًا بأُسلُوبِه المُعجِزِ أنَّ البَحرَ “عَينٌ” حامِيةٌ. نعم هكذا يَبدُو البَحرُ للعُيُونِ السَّماوِيّةِ.
حاصِلُ الكَلامِ: إنَّ التَّعبِيرَ بـ ﴿عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ للبَحرِ المُحِيطِ الغَربيِّ إنَّما هو بالنِّسبةِ لِذِي القَرنَينِ الَّذي رَأَى مِن بُعدٍ ذلك البَحرَ العَظيمَ كأنَّه عَينُ ماءٍ؛ أمّا النَّظَرُ القُرآنِيُّ الَّذي هو قَرِيبٌ إلى كلِّ شيءٍ، فلا يَنظُرُ نَظَرَ ذِي القَرنَينِ مِن بَعيدٍ الَّذي يُداخِلُه خِداعُ البَصَرِ، بل لِأنَّه نَزَل مِنَ السَّماءِ مُطَّلعًا علَيها، ولِأنَّه يَرَى الأَرضَ مَيدانًا أو قَصْرًا وأَحيانًا مَهْدًا أو صَحِيفةً، فإنَّ تَعبِيرَه بـ ﴿عَيْنٍ﴾ للبَحرِ العَظِيمِ وهو المُحِيطُ الأَطلَسِيُّ الغَربيُّ المُغَطَّى بالضَّبابِ والأَبخِرةِ إنَّما يُبيِّنُ عُلُوَّه ورِفعَتَه وسُمُوَّه وعَظَمَتَه.
[السؤال الثاني: حول ذي القرنين ويأجوج ومأجوج]
سُؤالُكُم الثَّاني:
أَينَ يَقَعُ سَدُّ ذِي القَرنَينِ؟ ومَن يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ؟
الجَوابُ: لَقَد كَتَبتُ سابِقًا رِسالةً حَولَ هذه المَسأَلةِ، فأَلزَمْتُ الحُجّةَ مَلاحِدةَ ذلك الوَقتِ؛ إلّا أنَّني الآنَ لا أَملِكُ تلك الرِّسالةَ، فَضْلًا عن أنَّ حافِظَتِي لا تُمِدُّني بشَيءٍ فقد أَصابَها شَيءٌ مِن العَطَلِ؛ عَلاوةً على أنَّ هذه المَسأَلةَ قد تَطَرَّق إلَيْها “الغُصنُ الثّالِثُ مِنَ الكَلِمةِ الرّابِعةِ والعِشرِينَ”، لِهذا نُشِيرُ إِشارةً في غايةِ الِاختِصارِ إلى نُكتَتَينِ أو ثَلاثٍ فحَسْبُ، تَعُودُ إلى هذه المَسأَلةِ وهِي:
أنَّه بِناءً على ما بَيَّنَه أَهلُ العِلمِ المُحَقِّقُونَ، وابتِداءِ أَسماءِ عَدَدٍ مِن مُلُوكِ اليَمَنِ بكَلِمةِ “ذِي” -كـ”ذِي يَزَنَ”- وما يُشِيرُ إلَيْه عُنوانُ “ذِي القَرنَينِ”، فإنَّ ذا القَرنَينِ هذا لَيسَ هو الإِسكَندَرَ الرُّومِيَّ (المَقدُونِيَّ) وإنَّما هو أَحَدُ مُلُوكِ اليَمَنِ الَّذي عاصَرَ سَيِّدَنا إِبراهِيمَ عَلَيهِ السَّلَام وتَلقَّى الدَّرسَ مِن سَيِّدِنا الخَضِرِ عَلَيهِ السَّلَام. بَينَما جاءَ “الإِسكَندَرُ الرُّومِيُّ” قَبلَ المِيلادِ بحَوالَيْ ثَلاثِ مِئةِ سَنةٍ ودَرَس على يَدِ “أَرِسْطُو”.
إنَّ التّارِيخَ الَّذي دَوَّنَه الإِنسانُ يَضبِطُ الحَوادِثَ إلى حَدِّ ما قَبلَ ثَلاثةِ آلافِ عامٍ، لِذا فإنَّ نَظَرَ هذا التّارِيخِ النَّاقِصِ القاصِرِ لا يَستَطِيعُ أن يَحكُمَ بصَوابٍ على حَوادِثِ ما قَبلَ زَمَنِ سَيِّدِنا إِبراهِيمَ عَلَيهِ السَّلَام، فإمّا يَذكُرُها مَشُوبةً بالخُرافاتِ، أو يُنكِرُها أو يُورِدُها باختِصارٍ شَدِيدٍ.
أمّا سَبَبُ اشتِهارِ “ذِي القَرنَينِ” اليَمانِي هذا في التَّفاسِيرِ بالإِسكَندَرِ، فيَعُودُ إلى: أنَّ أَحَدَ أَسماءِ ذِي القَرنَينِ هو الإِسكَندَرُ، فهُو الإِسكَندَرُ الكَبِيرُ، والإِسكَندَرُ القَدِيمُ؛ أو نَظَرًا لِأنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ لَدَى ذِكرِه لِحَوادِثَ جُزئيّةِ يَذكُرُها لِكَونِها طَرَفًا لِحَوادِثَ كُلِّيّةٍ، فإنَّ الإِسكَندَرَ الكَبِيرَ الَّذي هو ذُو القَرنَينِ؛ مِثلَما أَسَّسَ سَدَّ الصِّينِ الشَّهِيرَ بإِرشاداتِه النَّبوِيّةِ بينَ الأَقوامِ الظّالِمةِ والمَظلُومةِ، ولِيَصُدَّ عَنهُم غاراتِهِم، فإنَّ قُوّادًا عِظامًا عَدِيدِينَ كالإِسكَندَرِ الرُّومِيِّ ومُلُوكًا أَقوِياءَ اقتَدَوا بِذِي القَرنَينِ في الجِهةِ المادِيّةِ، وأنَّ قِسمًا مِنَ الأَنبِياءِ والأَقطابِ الأَولِياءِ -وهُمُ مُلُوكٌ مَعنَوِيُّونَ لِلإِنسانيّةِ– سارُوا على أَثَرِه في الجِهةِ المَعنَوِيّةِ والإِرشادِ.. فهَؤُلاءِ أَسَّسُوا السُّدُودَ بينَ الجِبالِ، ثُمَّ بَنَوُا القِلاعَ في قِمَمِ الجِبالِ3هُنالِك سُدُودٌ اصطِناعيّةٌ على وَجهِ الأَرضِ تَحَوَّلَت بمُرُورِ الزَّمَنِ إلى هَيئةِ جِبالٍ حتَّى لا تُعرَفُ أنَّها كانَت سُدُودًا.، الَّتي هي مِنَ الوَسائِلِ المُهِمّةِ لِإنقاذِ المَظلُومِينَ مِن شَرِّ الظّالِمِينَ؛ فشَيَّدُوا تلك المَوانِعَ إمّا بقُوَّتِهِمُ المادِّيّةِ الذّاتيّةِ أو بإِرشاداتِهِم وتَوجِيهاتِهِم وتَدابِيرِهِم، حتى بَنَوُا الأَسوارَ حَولَ المُدُنِ والحُصُونِ في أَواسِطِها، إلى أن بَلَغ الأَمرُ استِعمالَ وَسِيلةٍ أَخِيرةٍ هي المَدافِعُ الثَّقِيلةُ والمُدَرَّعاتُ الشَّبِيهةُ بالقِلاعِ السَّيّارةِ.
فذَلِك السَّدُّ الَّذي بَناه ذُو القَرنَينِ وهُو أَشهَرُ سَدٍّ في العالَمِ، ويَبلُغُ طُولُه مَسِيرةَ أَيّام، إنَّما بَناه لِيَصُدَّ به هَجَماتِ أَقوامٍ شِرِّيرةٍ أَطلَقَ علَيهِمُ القُرآنُ الكَرِيمُ اسمَ “يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ”، ويُعبِّـرُ عَنهُمُ التّارِيخُ بقَبائِلِ المانَجُورِ والمَغُولِ الَّذِينَ دَمَّرُوا الحَضارةَ البَشَرِيّةَ مَرّاتٍ ومَرّاتٍ؛ وظَهَرُوا مِن وَراءِ جِبالِ “هَمَالايا”، فأَهلَكُوا العِبادَ وخَرَّبُوا البِلادَ شَرقًا وغَربًا.. فصارَ ذلك السَّدُّ المَبنِيُّ بينَ جَبَلَينِ قَرِيبَينِ مِن سِلسِلةِ “همالايا” مانِعًا أَمامَ هَجَماتِ هَؤُلاءِ الأَقوامِ الهَمَجِيّةِ، وحائِلًا دُونَ غاراتِهِمُ العَدِيدةِ على المَظلُومِينَ في الصِّينِ والهِندِ.. ومِثلَما أَسَّسَ ذُو القَرنَينِ هذا السَّدَّ، فقد بُنِيَت سُدُودٌ كَثِيرةٌ أُخرَى بِهِمّةِ مُلُوكِ إِيرانَ القُدَماءِ في جِبالِ القَفْقاسِ في مَنطِقةِ المَضِيقِ صَدًّا لِلنَّهبِ والسَّلبِ والغاراتِ الَّتي امتَهَنَتْها أَقوامُ التَّتارِ. وهُنالِك سُدُودٌ كَثِيرةٌ مِن هذا النَّوعِ.
فالقُرآنُ الكَرِيمُ لِأنَّه يُخاطِبُ البَشَرِيّةَ كافّةً، فإنَّه يَذكُرُ ظاهِرًا حادِثةً جُزئيّةً ويُذَكِّرُ بها أَحداثًا مُشابِهةً لها.
فمِن زاوِيةِ النَّظَرِ هذه تَختَلِفُ الرِّواياتُ وأَقوالُ المُفسِّرِينَ حَولَ السَّدِّ ويَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ.
ثمَّ إنَّ القُرآنَ الحَكِيمَ قد يَنتَقِلُ مِن حادِثةٍ إلى أُخرَى بَعِيدةٍ عَنْها، وذلك مِن حَيثُ المُناسَباتُ الكَلاميّةُ وعَلاقاتُها؛ فالَّذي لا يَعرِفُ هذه العَلاقاتِ يَظُنُّ أنَّ زَمانَيِ الحادِثَتَينِ قَرِيبانِ.. وهكذا فإِخبارُ القُرآنِ عن قِيامِ السّاعةِ عَقِبَ خَرابِ السَّدِّ، ليس هو لِقُربِ الزَّمانِ، وإنَّما لِأَجلِ نُكتَتَينِ مِن حَيثُ المُناسَباتُ الكَلاميّةُ، أي: كما أنَّ هذا السَّدَّ سيُدَمَّرُ فستُدَمَّرُ الدُّنيا كَذلِك.
وكما أَنَّ الجِبالَ الَّتي هي سُدُودٌ فِطْرِيّةٌ إِلٰهِيّةٌ راسِخةٌ وقَوِيّةٌ لا تُنسَفُ إلّا بقِيامِ السَّاعةِ، فهذا السَّدُّ أَيضًا قَوِيٌّ كالجِبالِ لا يُدَكُّ إلّا بقِيامِ السَّاعةِ، وسيَبقَى الكَثِيرُ مِنه ويَدُومُ حتَّى لو عَمِلَت فيه عَوامِلُ التَّغيِيرِ على مَدَى الزَّمانِ مِن خَرابٍ وهَدْمٍ.
نعم، إنَّ سَدَّ الصِّينِ الَّذي هو فَردٌ مِن كُلِّيّةِ سَدِّ ذِي القَرنَينِ ما زالَ باقِيًا مُشاهَدًا على الرَّغمِ مِن مُرُورِ أُلُوفِ السِّنِينَ، وإنَّه يُقرَأُ كسَطْرٍ طَوِيلٍ كُتِب بِيَدِ الإِنسانِ على صَحِيفةِ الأَرضِ، يُقرَأُ سَطْرًا مُجَسَّمًا مُتَحجِّرًا ذا مَغزًى مِنَ التَّارِيخِ القَدِيمِ.
[السؤال الثالث: حول قتل سيدنا عيسى للدجال]
سُؤالُكُم الثّالِثُ:
وهُو حَولَ قَتلِ عِيسَى عَلَيهِ السَّلَام لِلدَّجَّالِ، ففي “المَكتُوبِ الأوَّلِ والخامِسَ عَشَرَ” جَوابٌ شافٍ لَكُم وهُما في غايةِ الِاختِصارِ.
❀ ❀ ❀
﴿بِاسمِهِ.. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾
﴿السَّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه..﴾
[سؤال حول معرفة المغيَّبات الخمس]
أَخَوَيَّ الوَفيَّينِ الصِّدِّيقَينِ المُضَحِّيَينِ العَزِيزَينِ: العالِمَ صَبْرِي، والحافظَ عَلِيّ..
إنَّ سُؤالَكُما المُهِمَّ حَولَ المُغَيَّباتِ الخَمسةِ المَوجُودةِ في خِتامِ سُورةِ لُقْمانَ، يَحتاجُ إلى جَوابٍ في غايةِ الأَهَمِّيّةِ، إلّا أنَّني -معَ الأَسَفِ- أُعانِي مِن حالةٍ رُوحِيّةٍ وأَحوالٍ مادِّيّةٍ تَحُولُ بَينِي وبَينَ الجَوابِ الشَّافي؛ ومعَ هذا سأُشِيرُ إِشارةً فحَسْبُ في غايةِ الإِجمالِ إلى بِضعِ نِقاطٍ يَتَعلَّقُ بها سُؤالُكُما:
إنَّ فَحْوَى سُؤالِكُما هذا هو أنَّ المُلحِدِينَ يَعتَرِضُونَ على كَونِ وَقتِ نُزُولِ الغَيثِ ونَوعِيّةِ الجَنِينِ في الرَّحِمِ مِنَ المُغَيَّباتِ الخَمسِ فيَنتَقِدُونَ قائِلِينَ: إنَّ وَقتَ نُزُولِه يُكشَف عنه في المَراصِدِ الجَوِّيّةِ، فإِذًا يَعْلَمُه كَذلِك غَيرُ اللهِ، وإنَّ جِنسَ الجَنِينِ في رَحِمِ الأُمِّ يُمكِنُ مَعرِفَتُه، ذَكَرًا كانَ أم أُنثَى بأَشِعّةِ ( رُونْتكِن). بمَعنَى أنَّه يُمكِنُ الِاطِّلاعُ على المُغَيَّباتِ الخَمسِ!
[موعد نزول الغيث هل هو من المغيبات؟]
الجَوابُ: لَمَّا كانَ وَقتُ نُزُولِ الغَيثِ غَيرَ مُرتَبِطٍ بقاعِدةٍ مُطَّرِدةٍ، فإنَّه يَرتَبِطُ مُباشَرةً بالمَشِيئةِ الإِلٰهِيّةِ الخاصَّةِ، ويَتبَعُ الإِرادةَ الإِلٰهِيّةَ الخاصَّةَ، فيَنزِلُ مِن خَزِينةِ رَحمَتِه تَعالَى دُونَ واسِطةٍ؛ وإنَّ سِرَّ حِكمَتِه هو الآتي:
إنَّ أَهَمَّ حَقِيقةٍ في الكَونِ وأَثمَنَ ماهِيّةٍ فيه هي الوُجُودُ، الحَياةُ، النُّورُ، الرَّحمةُ. وإنَّ هذه الأَربَعةَ مُتَوجِّهةٌ مُباشَرةً ودُونَ وَسائِطَ وحُجُبٍ إلى القُدرةِ الإِلٰهِيّةِ ومَشِيئَتِها الخاصّةِ، بَينَما تَحجُبُ الأَسبابُ الظّاهِرةُ في المَصنُوعاتِ الإِلٰهِيّةِ الأُخرَى تَصَرُّفَ القُدرةِ الإِلٰهِيّة، وتَستُرُ القَوانِينُ المُطَّرِدةُ والقَواعِدُ الثّابِتةُ -إلى حَدٍّ مّا- الإِرادةَ الإِلٰهِيّةَ ومَشِيئَتَها، إلّا أنَّ تلك الحُجُبَ والأَستارَ لم تُوضَعْ أَمامَ الوُجُودِ والحَياةِ والنُّورِ والرَّحمةِ، لِعَدَمِ جَرَيانِ حِكمةِ وُجُودِها في تلك الأُمُورِ.
وحَيثُ إنَّ الرَّحمةَ والحَياةَ أَهَمُّ حَقِيقتَينِ في الوُجُودِ، وإنَّ الغَيثَ مَنشَأُ الحَياةِ ومَدارُ الرَّحمةِ، بل هو عَينُ الرَّحمةِ، فلا بُدَّ ألّا تكُونَ الوَسائِطُ حُجُبًا أَمامَها، ولا بُدَّ ألّا تَستُرَ القاعِدةُ المُطَّرِدةُ المَشِيئةَ الإِلٰهِيّةَ الخاصّةَ، وذلك لِيُضطَرَّ كلُّ فَردٍ في كلِّ وَقتٍ، وفي كلِّ أَمرٍ إلى الشُّكرِ وإِظهارِ العُبُودِيّةِ وإلى السُّؤالِ والتَّضرُّعِ والدُّعاءِ؛ إذ لو كانَت تلك الأُمُورُ على وَفقِ قاعِدةٍ مُعيَّنةٍ، لَانسَدَّ بابُ الشُّكرِ والرُّجاءِ مِنه تَعالَى استِنادًا إلى القاعِدةِ المُطَّرِدةِ؛ فطُلُوعُ الشَّمسِ معَ ما فيه مِن مَنافِعَ مَعلُومةٍ، لِأنَّه مُرتَبِطٌ بقاعِدةٍ مُعيَّنةٍ، فلا يُسأَلُ اللهُ سُبحانَه طُلُوعَها ولا يُشكَرُ علَيْه شُكرًا خاصًّا ولا يُعَدُّ ذلك مِن أُمُورِ الغَيبِ، لِأنَّ البَشَرَ يَعرِفُونَ بالعِلمِ الَّذي تَوصَّلُوا إلَيْه وبواسِطةِ تلك القاعِدةِ مَوعِدَ شُرُوقِ الشَّمسِ غَدًا.
ولكِنَّ جُزئيّاتِ الغَيثِ لَيسَت مُرتَبِطةً بقاعِدةٍ مُعيَّنةٍ، لِذا يَضطَرُّ النّاسُ في كلِّ وَقتٍ إلى التَّضرُّعِ والتَّوسُّلِ إلى رَحمَتِه تَعالَى؛ ولَمّا كانَ عِلمُ البَشَرِ لا يَستَطِيعُ أن يُحدِّدَ وَقتَ نُزُولِ الغَيثِ، فقد تَلَقّاه النّاسُ نِعمةً خاصّةً لا تَصدُرُ إلّا مِن خَزِينةِ الرَّحمةِ الإِلٰهِيّة، فيَشكُرُونَ رَبَّهُم شُكرًا حَقِيقيًّا علَيْها.
وهكذا، فهذه الآيةُ الكَرِيمةُ تُدخِلُ وَقتَ نُزُولِ الغَيثِ بينَ المُغيَّباتِ الخَمسِ مِن هذه الزّاوِيةِ الَّتي ذَكَرْناها؛ أمّا الإِحساسُ بالأَجهِزةِ في المَراصِدِ عن مُقدِّماتِ وَقتِ نُزُولِه، ومِن ثَمَّ تَعيِينُ وَقتِه، فهذا ليس عِلمًا بالغَيبِ، بل هو عِلمٌ بالِاطِّلاعِ على بَعضِ مُقدِّماتِ نُزُولِه حِينَما يَقتَرِبُ إلى عالَمِ الشَّهادةِ بعدَ صُدُورِه مِنَ الغَيبِ، مِثلَما يُعلَمُ بنَوعٍ مِن إِحساسٍ مُسبَقٍ أَخفَى الأُمُور الغَيبِيّةِ حِينَما تَحصُلُ، أو بعدَ قُربِها مِنَ الحُصُولِ، ولا يُعَدُّ ذلك مَعرِفةً بالغَيبِ، وإنَّما هو مَعرِفةٌ بذلك المَوجُودِ، أو بالمُقرَّبِ إلى الوُجُودِ.
حتَّى إنَّني أَشعُرُ أَحيانًا بشُعُورٍ مُرهَفٍ في أَعصابِي، بما سيَأتِي مِنَ الغَيثِ قبلَ مَجِيئِه بأَربعٍ وعِشرِينَ ساعةً؛ بمَعنَى أنَّ لِلغَيثِ مُقدِّماتٍ ومَبادِئَ، فتلك المَبادِئُ تُبدِي نَفسَها على صُورةِ رُطُوبةٍ تُشعِرُ بما وَراءَها مِنَ الغَيثِ، فتكُونُ هذه الحالُ وَسِيلةً لِوُصُولِ عِلمِ البَشَرِ كالقاعِدةِ المُطَّرِدةِ إلى أُمُورٍ قد صَدَرَت عنِ الغَيبِ وخَرَجَت مِنه، ولَمّا تَدخُلْ بعدُ إلى عالَمِ الشَّهادةِ.
أمّا مَعرِفةُ نُزُولِ الغَيثِ الَّذي لم تَطَأ قَدَمُه عالَمَ الشَّهادةِ، ولم يَخرُج بَعدُ مِنَ الرَّحمةِ الإِلٰهِيّةِ الخاصّةِ والمَشِيئةِ الرَّبّانِيّةِ الخاصّةِ، فإنَّما هو خاصٌّ بعِلمِ عَلّامِ الغُيُوبِ.
[معرفة جنس الجنين]
بَقِيَتِ المَسأَلةُ الثّانيةُ الَّتي هي: مَعرِفةُ جِنسِ الجَنِينِ في رَحِمِ الأُمِّ بأَشِعّةِ رُونْتكِن، هذه المَعرِفةُ لا تُنافِي قَطعًا ما تُفِيدُه الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ مِن مَعنَى الغَيبِ، لِأنَّ المُرادَ مِنَ العِلمِ المَذكُورِ فيها لا يَنحَصِرُ في ذُكُورةِ الجَنِينِ وأُنُوثَتِه، وإنَّما المُرادُ مِنه مَعرِفةُ الِاستِعداداتِ البَدِيعةِ الخاصًّةِ بذلك الطِّفلِ والَّتي هي مَبادِئُ المُقدَّراتِ الحَياتيّةِ، وهِي مَدارُ ما سيَكسِبُه في المُستَقبَلِ مِن أَوضاعٍ، وحتَّى مَعرِفةُ خَتمِ الصَّمَدِيّةِ وسِكَّتِها الرّائِعة البادِيةِ على سِيماه.. كلُّها مُرادةٌ في ذلك المَعنَى بحَيثُ إنَّ العِلمَ بالطِّفلِ وبهذه الوُجُوهِ مِنَ الأُمُورِ خاصٌّ بعِلمِ عَلّامِ الغُيُوبِ وَحدَه، فلوِ اتَّحَدَت مِئاتُ الأُلُوفِ مِن أَفكارِ البَشَرِ النّافِذةِ كأَشِعّةِ رُونْتكِن لَمَا كَشَفَت أَيضًا عن مَلامِحِ الطِّفلِ الحَقِيقيّةِ في وَجهِه وَحدَه، تلك المَلامِحِ الَّتي تَحمِلُ مِنَ العَلاماتِ الَّتي تُفرِّقُه وتُميِّـزُه عن كلِّ فَردٍ مِن أَفرادِ البَشَرِيّةِ قاطِبةً، فكَيفَ إِذًا يُمكِنُ كَشفُ السِّيماءِ المَعنَوِيّةِ في استِعداداتِه وقابِلِيّاتِه الَّتي هي خارِقةٌ بمِئاتِ الأُلُوفِ مِنَ المَرّاتِ عن مَلامِحِ الوَجهِ!
ولقد قُلنا في المُقدِّمةِ: إنَّ الوُجُودَ والحَياةَ والرَّحمةَ مِن أَهَمِّ حَقائِقِ الكَونِ، ولها أَعلَى مَقامٍ ومَرتَبةٍ فيه، لِذا تَتَوجَّهُ تلك الحَقِيقةُ الحَياتيّةُ الجامِعةُ بجَمِيعِ دَقائِقِها ولَطائِفِها إلى إِرادةِ اللهِ الخاصّةِ ورَحمَتِه الخاصّةِ ومَشِيئَتِه الخاصّةِ.
وأَحَدُ أَسرارِ ذلك هو أنَّ الحَياةَ بجَمِيعِ أَجهِزَتِها وجِهاتِها مَنشَأٌ لِلشُّكرِ، ومَدارٌ لِلعِبادةِ والتَّسبِيحِ، ولِذلِك لم تُوضَع دُونَها القاعِدةُ المُطَّرِدةُ الَّتي تَحجُبُ رُؤيةَ الإِرادةِ الإِلٰهِيّةِ الخاصّةِ ولا الوَسائِطُ الظّاهِرِيّةُ الَّتي تَستُرُ رَحمَتَه الخاصّةَ سُبحانَه.
إنَّ للهِ سُبحانَه وتَعالَى تَجَلِّيَينِ اثنَينِ في سِيماءِ الجَنِينِ المادِّيِّ والمَعنَوِيِّ:
الأوَّلُ: يَدُلُّ على وَحدَتِه سُبحانَه وأَحَدِيَّتِه وصَمَديَّتِه، إذِ الجَنِينُ يَشهَدُ على وَحدانيّةِ خالِقِه وصانِعِه بتَطابُقِ أَعضائِه الأَساسِ وتَوافُقِ أَجهِزَتِه الإِنسانيّةِ معَ سائِرِ البَشَرِ؛ فذلك الجَنِينُ يُنادِي بصَراحةِ هذا اللِّسانِ قائِلًا: إنَّ الَّذي وَهَب لي هذه السِّيماءَ في الأَعضاءِ هو ذلك الصَّانِعُ الَّذي وَهَب لِجَمِيعِ البَشَرِ الَّذِينَ يُشبِهُونَنِي في أَساساتِ الأَعضاءِ، وهُو سُبحانَه صانِعُ جَمِيعِ ذَوِي الحَياةِ.
فهذا اللِّسانُ الَّذي يَدُلُّ به الجَنِينُ على الصَّانِعِ الجَلِيلِ ليس لِسانًا غَيبِيًّا، بل هو مَعلُومٌ يُمكِنُ مَعرِفَتُه والوُصُولُ إلَيْه، حَيثُ إنَّه يَتبَعُ قاعِدةً مُطَّرِدةً ويَسِيرُ على وَفقِ نِظامٍ مُعَيَّنٍ ويَستَنِدُ إلى نَوعِيّةِ الجَنِينِ، فهذا العِلمُ لِسانٌ ناطِقٌ وغُصنٌ قد تَدَلَّى مِن عالَمِ الغَيبِ إلى عالَمِ الشَّهادةِ.
الجِهةُ الثَّانيةُ: وهِي أنَّ الجَنِينَ يُنادِي بلِسانِ سِيماءِ استِعداداتِه الخاصَّةِ وسِيماءِ وَجهِه الشَّخصِيّةِ فيَدُلُّ على اختِيارِ صانِعِه ومَشِيئتِه المُطلَقةِ وإِرادَتِه الخاصّةِ ورَحمَتِه الخاصَّةِ؛ فهذا اللِّسانُ لِسانٌ غَيبِيٌّ آتٍ مِن هُناك، فلا يَستَطِيعُ أن يَراه أَحَدٌ قَبلَ وُجُودِه غَيرُ العِلمِ الأَزليِّ، ولا يُمكِنُ أن يُحِيطَ به سِواه. ولا يُعلَمُ هذا اللِّسانُ بمُجَرَّدِ مُشاهَدةِ جِهازٍ مِن أَلفِ جِهازٍ مِن سِيماءِ جَنِينِه.
الحاصِلُ: أنَّ في سِيماءِ استِعداداتِ الجَنِينِ، وفي سِيماءِ وَجهِه دَليلُ الوَحدانيّةِ وحُجّةُ الِاختِيارِ والإِرادةِ الإِلٰهِيّةِ.
وستُكتَبُ إن وَفَّق اللهُ تَعالَى بِضعُ نِكاتٍ حَولَ المُغيَّباتِ الخَمسِ، إذ لا يَسمَحُ الوَقتُ الحاضِرُ ولا حالَتِي بأَكثَرَ مِن هذا. وأَختِمُ كَلامِي.
﴿الباقي هو الباقي﴾
سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
❀ ❀ ❀