اللمعات

اللمعة الرابعة عشرة

[هذه اللمعة تتحدث عن تأويل بعض الأحاديث المتشابهة مع تطبيقه على حديث الثور والحوت، وبيان حديث أهل العباء، وجملة من أسرار البسملة]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

ولكِن كَيفَ الوُصُولُ إلى الرَّسُولِ الحَبِيبِ ﷺ، وما الوَسِيلةُ إلَيْه؟فاعْلَم أنَّ الوَسِيلةَ هي الصَّلاةُ علَيْه... نعم، الصَّلاةُ علَيْه تَعني الرَّحمةَ، فالصَّلاةُ علَيْه دُعاءٌ بالرَّحمةِ لِتِلك الرَّحمةِ المُجَسَّمةِ الحَيّةِ، وهِي وَسِيلةُ الوُصُولِ إلى مَن هو رَحمةٌ لِلعالَمِينَ. فيا أيُّها الإنسانُ، اجْعَلِ الصَّلاةَ علَيْه وَسِيلةَ الوُصُولِ إلَيْه، ثمَّ استَمْسِكْ به لِيُبَلِّغَك رَحمةَ الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ، فإنَّ الأُمّةَ جَمِيعَها بدُعائِها وصَلَواتِها على الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ إنَّما تُثبِتُ بوُضُوحٍ مَدَى قِيمةِ هذه الرَّحمةِ، ومَدَى أَهَمِّيّةِ هذه الهَدِيّةِ الإِلٰهِيّةِ، ومَدَى سَعَتِها وعَظَمَتِها. الخُلاصةُ: إنَّ حاجِبَ خَزِينةِ الرَّحمةِ الإِلٰهِيةِ وأَكرَمَ داعٍ إلَيْها هو الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ، كما أنَّ أَسمَى مِفتاحٍ لِتِلك الخَزِينةِ هو: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، وأَسْلَسَ ما يَفتَحُها هو الصَّلَواتُ على الرَّسُولِ الحَبِيبِ ﷺ.
الخُلاصةُ: إنَّ حاجِبَ خَزِينةِ الرَّحمةِ الإِلٰهِيةِ وأَكرَمَ داعٍ إلَيْها هو الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ، كما أنَّ أَسمَى مِفتاحٍ لِتِلك الخَزِينةِ هو: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، وأَسْلَسَ ما يَفتَحُها هو الصَّلَواتُ على الرَّسُولِ الحَبِيبِ ﷺ.

 

[اللمعة الرابعة عشرة]

 

اللمعة الرابعة عشرة

عبارة عن مقامَينِ

[المقام الأول جواب عن سؤالين]

المقام الأول: جوابٌ عن سؤالين‌.

﴿بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ﴾

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾

السَّلامُ علَيْكُم ورَحْمةُ اللهِ وبَرَكاتُه.‌

أَخِي العَزِيزَ الصّادِقَ الوَفِيَّ السَّيِّدَ رَأفَت..

[السؤال الأول: حول حديث الثور والحوت]

إنَّ ما سَأَلتُمُوه مِن سُؤالٍ حَولَ “الثَّورِ والحُوتِ” قد وَرَد جَوابُه في بَعضِ الرَّسائِلِ، وقد ذُكِر في “الغُصنِ الثّالِثِ مِنَ الكَلِمةِ الرّابِعةِ والعِشرِينَ” اثنا عَشَرَ قاعِدةً مُهِمّةً ضِمنَ اثنَيْ عشَرَ أَصلًا حَولَ هذا النَّوعِ مِنَ الأَسئِلةِ.. تلك القَواعِدُ تُمثِّلُ أُسُسًا مُهِمّةً لِدَفعِ الشُّبُهاتِ والأَوهامِ الوارِدةِ على الأَحادِيثِ الشَّرِيفةِ، فكلُّ قاعِدةٍ مِنها مَحَكٌّ جَيِّدٌ لِبَيانِ التَّأوِيلاتِ المُختَلِفةِ حَولَ الأَحادِيثِ النَّبوِيّةِ.

أَخِي.. هُناك حالاتٌ طارِئةٌ في الوَقتِ الحاضِرِ تَحُولُ معَ الأَسَفِ دُونَ اشتِغالي بالمَسائلِ العِلمِيّة -عَدا السَّوانِحِ القَلبِيّةِ- لِذلِك لا أَستَطِيعُ الإِجابةَ على سُؤالِكُم بجَوابٍ شافٍ؛ وإنْ وَفَّق اللهُ وفَتَح علَيْنا سَوانِحَ قَلبِيّةً أُضطَرُّ إلى الِانشِغالِ بها.. ورُبَّما يُجابُ عن أَسئِلةٍ لِتَوافُقِها مع السَّوانِحِ، فلا تَتَضايَقُوا، إذ لا أَستَطِيعُ الإِجابةَ عن كلٍّ مِن أَسئِلَتِكُم إِجابةً وافِيةً.. فلْأُجِبْ هذه المَرّةَ عن سُؤالِكُم: تَذكُرُونَ يا أَخِي في سُؤالِكُم أنَّ عُلَماءَ الدِّينِ يقُولُونَ: الأَرضُ تَقُومُ على الحُوتِ والثَّورِ، عِلمًا أنَّ الجُغْرافية تَراها كَوكبًا مُعَلَّقًا يَدُورُ في السَّماءِ كأَيِّ كَوكَبٍ آخَرَ، فلا ثَورَ ولا حُوتَ!

الجَوابُ: هُنالِك رِوايةٌ صَحِيحةٌ تُسنَدُ إلى ابنِ عَبّاسٍ رَضِيَ الله عَنهُمَا تقُولُ: سُئِلَ الرَّسُولُ ﷺ: على أيِّ شَيءٍ تَقُومُ الأَرضُ؟ أَجابَ: على الثَّورِ والحُوتِ. وفي رِوايةٍ أُخرَى قال مَرّةً: على الثَّورِ. ومَرّةً: على الحُوتِ. ولكِنَّ عَدَدًا مِنَ المُحَدِّثينَ طَبَّقوا هذه الرِّوايةَ على حِكاياتٍ خُرافيّةٍ وقَدِيمةٍ وَرَدَت مِنَ الإِسرائيلِيّاتِ، ولا سِيَّما مِن عُلَماءِ بَنِي إِسرائِيلَ الَّذِينَ أَسلَمُوا، فهَؤُلاءِ غيَّرُوا مَعنَى الحَدِيثِ وحَوَّلُوه إلى مَعنًى عَجِيبٍ غَرِيبٍ جِدًّا، حَيثُ طَبَّقُوا الحَدِيثَ على ما شاهَدُوه مِن حِكاياتٍ حَولَ الثَّورِ والحُوتِ في الكُتُبِ السّابِقةِ.

ونَحنُ هنا نُشِيرُ باختِصارٍ شَدِيدٍ إلى “ثَلاثةِ أُسُسٍ” و”ثَلاثةِ وُجُوهٍ” لَدَى الإِجابةِ على سُؤالِكُم:

[الأساس الأول: قاعدة في تمييز الإسرائيليات]

الأَساسُ الأوَّلُ: لقد حَمَل قِسمٌ مِن عُلَماءِ بَنِي إِسرائِيلَ بَعدَ إِسلامِهِم مَعلُوماتِهِمُ السّابِقةَ معَهُم إلى الإِسلامِ، فأَصبَحَت مِلْكَ الإِسلامِ، أي: ضِمنَ المَعارِفِ الإِسلامِيّةِ، عِلمًا أنَّ مَعلُوماتِهِم السّابِقةَ تَحوِي أَخطاءً، فتلك الأَخطاءُ بلا شَكٍّ تَعُودُ إلَيْهِم لا إلى الإِسلامِ.

[الأساس الثاني: التشبيهات تنقلب بيد الجهل حقائق]

الأَساسُ الثّاني: إنَّ التَّشبِيهاتِ والتَّمثِيلاتِ كلَّما انتَقَلَت مِنَ الخَواصِّ إلى العَوامِّ، أي: كلَّما سَرَت من يَدِ العِلمِ إلى يَدِ الجَهلِ عُدَّت حَقائِقَ مَلمُوسةً بمُرُورِ الزَّمَنِ.

فمَثلًا: حِينَما كُنتُ صَبِيًّا خُسِفَ القَمَرُ، فسَأَلتُ والِدَتي: ما هذا الَّذي حَدَث لِلقَمَرِ؟ قالَت: ابتَلَعَتْه الحَيّةُ. قُلتُ: ولكِنَّه يتَبيَّنُ! قالَت: إنَّ الحيَّاتِ في السَّماءِ شفّافةٌ كالزُّجاجِ تَشِفُّ عمّا في بَطنِها.

كُنتُ أَتَذكَّرُ هذه الحادِثةَ كَثِيرًا وأُسائِلُ نَفسِي: كَيفَ تَدُورُ خُرافةٌ بَعِيدةٌ عنِ الحَقِيقةِ إلى هذه الدَّرَجةِ على لِسانِ والِدَتِي الحَصِيفةِ الجادّةِ في كَلامِها؟ ولكِن حِينَما طالَعتُ عِلمَ الفَلَكِ، رَأَيتُ أنَّ الَّذِينَ يقُولُونَ كما تقُولُ والِدَتِي، قد تلَقَّوُا التَّشبِيهَ كحَقِيقةٍ واقِعيّةٍ، إِذ شَبَّهُوا القَوسَينِ النّاشِئَينِ مِن تَداخُلِ دائِرةِ الشَّمسِ، وهي مَنطِقةُ البُرُوجِ ومَدارُ دَرَجاتِها، معَ دائِرةِ القَمَرِ، وهِي مَيلُ القَمَرِ ومَدارُ مَنازِلِه، شبَّهُوهُما تَشبِيهًا لَطِيفًا بِحَيَّتَينِ ضَخمَتَينِ، وسمَّوْهُما تِنِّينَينِ، وأَطلَقُوا على إِحدَى نُقطتَي تَقاطُعِ تلك الدّائِرَتَينِ “الرَّأسَ” والأُخرَى “الذَّنَبَ”؛ فحِينَما يَبلُغُ القَمَرُ الرَّأسَ والشَّمسُ الذَّنَبَ تَحصُلُ حَيلُولةُ الأَرضِ -كما يَصطَلِحُ علَيْها الفَلَكِيُّونَ- أي: تَقَعُ الأَرضُ بَينَهُما تَمامًا، وعِندَها يُخسَفُ القَمَرُ، أي: كأنَّ القَمَرَ يَدخُلُ في فَمِ التِّنِّينِ، حَسَبَ التَّشبِيهِ السّابِقِ.

وهكَذا عِندَما سَرَى هذا التَّشبِيهُ العِلميُّ الرّاقي بمُرُورِ الزَّمَنِ إلى كَلامِ العَوامِّ غَدا التَّشبِيهُ تِنِّينًا عَظِيمًا مُجسَّمًا يَبتَلِعُ القَمرَ!

وكَذلِك المَلَكانِ العَظِيمانِ المُسَمَّيانِ بالثَّورِ والحُوتِ، قد أُطلِق علَيْهِما هذانِ الِاسمانِ في تَشبِيهٍ لَطِيفٍ سامٍ، وفي إِشارةٍ ذاتِ مَغزًى؛ ولكِن لَمّا انتَقَلَ التَّشبِيهُ اللَّطِيفُ مِن لِسانِ النُّبوّةِ البَلِيغِ السّامِي إلى لِسانِ العَوامِّ، بمُرُورِ الزَّمَن، انقَلَبَ التَّشبِيهُ إلى حَقِيقةٍ واقِعةٍ، فاتَّخَذ المَلَكانِ صُورةَ ثَورٍ ضَخمٍ وحُوتٍ هائِلٍ.

[الأساس الثالث: في الحديث متشابهات كما في القرآن]

الأَساسُ الثّالثُ: كما أنَّ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ مُتَشابِهاتٍ، يُوَضِّحُ المسائلَ الدَّقيقة العميقةَ للعَوامِّ بالتشبيهِ والتَّمثيل، كذلك للحديث الشريف مُتَشابِهاتٌ، فيُعبِّرُ عن الحَقائقِ الواسعة بتَشبيهاتٍ مأنوسةٍ لدى العَوامّ.

مثالُ ذلك ما ذكرناه في رسائلَ أُخرَى:

أنَّه عِندَما سُمِع دَوِيٌّ في مَجلِس الرَّسُولِ ﷺ قالَ: “هذا حَجَرٌ يَتدَحرَجُ مُنذُ سَبعِينَ سَنةً في جَهَنَّمَ، فالآنَ حِينَ وَصَل إلى قَعْرِها”، وبَعدَ مُضِيِّ دَقائِقَ جاءَ أَحَدُهُم وقالَ: “إنَّ المُنافِقَ الفُلانِيَّ المَعلُومَ الَّذي يَبلُغُ سَبعِينَ سَنةً مِنَ العُمُرِ قد ماتَ”، فأَعلَن عن الحَقِيقةِ الواقِعةِ بالتَّشبِيهِ البَلِيغِ الَّذي ذَكَرَه الرَّسُولُ ﷺ.

أمّا عن سُؤالِك يا أَخِي، فسنَذكُرُ له ثَلاثةَ وُجُوهٍ:

[الوجه الأول: الثور والحوت ملَكان موكَّلان بالأرض]

الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ اللهَ سُبحانَه قد عَيَّن أَربَعةً مِنَ المَلائِكةِ العِظامِ في العَرشِ والسَّماواتِ لِلإِشرافِ على سَلْطَنةِ رُبُوبيَّتِه، اسمُ واحِدٍ مِنهُم: “النَّسرُ”، واسمُ آخَرَ: “الثَّورُ”.

أمّا الأَرضُ الَّتي هي شَقِيقةٌ صَغِيرةٌ لِلسَّماواتِ ورَفِيقةٌ أَمِينةٌ لِلسَّيّاراتِ، فقد عُيِّن لها مَلَكانِ مُشرِفانِ يَحمِلانِها، يُطلَقُ على أَحَدِهِما: “الثَّورُ”، وعلى الآخَرِ: “الحُوتُ”؛ والحِكمةُ في تَسمِيَتِهما بهذَينِ الِاسمَينِ هي أنَّ الأَرضَ قِسمانِ: البَرُّ والبَحرُ، أي: اليابِسةُ والماءُ، فالَّذي يَعْمُرُ البَحرَ أوِ الماءَ هو الحُوتُ أوِ السَّمَكُ، أمّا الَّذي يَعْمُرُ البَرَّ والتُّرابَ فهُو الثَّورُ، حَيثُ إنَّ مَدارَ حَياةِ الإِنسانِ على الزِّراعةِ المَحمُولةِ على كاهِلِ الثَّورِ.

فالمَلَكانِ المُوكَّلانِ بالأَرضِ لِأنَّهُما قائِدانِ لها ومُشرِفانِ علَيْها، لِذا لَهُما تَعَلُّقٌ وارتِباطٌ ومُناسَبةٌ -مِن جِهةٍ- معَ طائِفةِ الحُوتِ ونَوعِ الثَّورِ؛ ولَرُبَّما -والعِلمُ عِندَ اللهِ- يَتَمثَّلانِ في عالَمِ المَلَكوتِ وفي عالَمِ المِثالِ على صُورةِ الحُوتِ والثَّورِ1نعم: إن الكُرةَ الأرضِيّةَ إنَّما هي كسَفِينةٍ تَمخَر عُبابَ بحرِ الفَضاءِ، فالذي يُجرِي هذه السَّفينةَ الضَّخمةَ التي لا شُعُورَ لها بانتِظامٍ دقيقٍ ويَسُوقُها لحِكمةٍ مُعيَّنة بالأمرِ الإِلٰهِيّ، أي: إنَّ قائدَ تلك السَّفينةِ ورُبّانَها إنَّما هو المَلَك الذي يُطلَق عليه اسمُ “الحُوت”. وهي أيضًا -أي: الأرضُ- كمَزرَعةٍ للآخِرة كما هو ثابتٌ في الحديثِ الشَّريفِ، فالذي يُشرِفُ على تلك المَزرَعة مِن الملائكةِ بالإذنِ الإِلٰهِيّ هو المَلَك الذي يُطلَق عليه اسمُ “الثَّورِ”، ولا يَخفَى ما لهذا الإطلاقِ الجَميلِ من انسِجامٍ لَطِيف..

فإِشارةً إلى هذه المُناسَبةِ والعَلاقةِ، وإِيماءً إلى ذَينِك النَّوعَينِ مِن مَخلُوقاتِ الأَرضِ، قال الَّذي أُوتِيَ جَوامِعَ الكَلِمِ ﷺ: “الأَرضُ على الثَّورِ والحُوتِ”، فأَفادَ بجُملةٍ واحِدةٍ وَجِيزةٍ بَلِيغةٍ عن حَقِيقةٍ عَظِيمةٍ عَمِيقةٍ قد لا يُعَبَّرُ عنها في صَحِيفةٍ كامِلةٍ.

[الوجه الثاني: الثور والحوت رمز إلى الموارد الزراعية والبحرية]

الوَجهُ الثَّاني: لو قِيلَ: بِمَ تقُومُ هذه الدَّولةُ؟ فالجَوابُ: على السَّيفِ والقَلَمِ: أي تَستَنِدُ إلى قُوّةِ سَيفِ الجَيشِ وشَجاعَتِه وإِقدامِه، وعلى دِرايةِ قَلَمِ المُوَظَّفِينَ وعَدالَتِه. وحَيثُ إِنَّ الأَرضَ مَسكَنُ الأَحياءِ، وسَيِّدُ الأَحياءِ الإِنسانُ، والقِسمُ الأَعظَمُ مِنَ النَّاسِ يَقطُنُونَ السَّواحِلَ ومَعِيشَتُهُم على السَّمَكِ، والباقُونَ تَدُورُ مَعِيشَتُهُم على الزِّراعةِ الَّتي هي على عاتِقِ الثَّورِ ومِحْوَرُ تِجارَتِهِم على السَّمَكِ؛ فمِثلَما يُمكِنُ القَولُ: إنَّ الدَّوْلةَ تَقُومُ على السَّيفِ والقَلَمِ، يُمكِنُ كَذلِك القَولُ: إِنَّ الأَرضَ تَقُومُ على الثَّورِ والحُوتِ؛ لِأنَّه متى أَحجَمَ الثَّورُ عنِ العَمَلِ، ولم يُلْقِ السَّمَكُ مَلايِينَ البُيُوضِ دَفعةً واحِدةً، فلا عَيشَ لِلإِنسانِ، وتَنهارُ الحَياةُ، ويُدمِّرُ الخالقُ الحَكِيمُ سُبحانَه الأَرضَ.

وهكَذا أَجابَ الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ عنِ السُّؤالِ بحِكمةٍ سامِيةٍ وببَلاغةٍ مُعجِزةٍ وبكَلِمتَينِ اثنتَينِ مُبيِّنًا حَقِيقةً واسِعةً تَتَعلَّقُ بمَدَى ارتِباطِ حَياةِ الإِنسانِ بالحَيَوانِ، فقال ﷺ: “الأَرضُ على الثَّورِ والحُوتِ”.‌

[الوجه الثالث: الثور والحوت منازل فلكية]

الوَجهُ الثَّالثُ: إنَّ الشَّمسَ في نَظَرِ عُلَماءِ الفَلَكِ القَدِيمِ تَدُورُ والأَرضُ ثابِتةٌ، وعَبَّرُوا عن كلِّ ثَلاثِينَ دَرَجةً مِن دَرَجاتِ الشَّمسِ بـ”البُرجِ”، فلو مُدَّت خُطُوطٌ افتِراضِيّةٌ بينَ نُجُومِ تلك البُرُوجِ لَحَصَل ما يُشبِهُ صُورةَ الأَسَدِ أَحيانًا، أو صُورةَ المِيزانِ، أو صُورةَ الثَّورِ، أو صُورةَ الحُوتِ.. لذا بَيَّنوا تلك البُرُوجَ بتلك الأَسماءِ.

أمّا عِلمُ الفَلَكِ الحاضِرُ فيَرَى أنَّ الشَّمسَ لا تَدُورُ حَولَ الأَرضِ، بلِ الأَرضُ تَدُورُ حَولَها، أي: يُعطِّلُ العَمَلَ في تلك البُرُوجِ، فلا بُدَّ أنَّ لِتِلك البُرُوجِ العاطِلةِ عنِ العَمَلِ والدَّوائرِ الهائِلةِ دَوائِرَ بمِقياسٍ أَصغَرَ في مَدارِ الأَرضِ السَّنَويِّ، أي: أَصبَحَتِ البُروجُ السَّماوِيّةُ تَتَمثَّلُ في مَدارِ الأَرضِ السَّنَويِّ، وعِندَئِذٍ تَدخُلُ الأَرضُ كلَّ شَهرٍ في ظِلِّ أَحَدِ البُرُوجِ، وتكُونُ ضِمنَ انعِكاسِه، فكأنَّ مَدارَ الأَرضِ السَّنَويَّ مِرآةٌ تَتَمثَّلُ فيها صُورةُ البُرُوجِ السَّماوِيّةِ.

وهكَذا بِناءً على هذا الوَجهِ -مِنَ المَسأَلةِ- فقد قالَ الرَّسُولُ الأَعظَمُ ﷺ كما ذَكَرنا سابِقًا: “على الثَّور” مرّةً و”على الحُوتِ” مرّةً أُخرَى.

نعم، إنه حَرِيٌّ بلِسانِ ذلك النَّبِيِّ الكَرِيمِ المُعجِزِ أنْ يقُولَ مرّةً: “على الثَّورِ” مُشِيرًا به إلى حَقِيقةٍ عَمِيقةٍ لا تُدرَكُ إلّا بعدَ قُرُونٍ عَدِيدةٍ، حَيثُ إنَّ الأَرضَ في ذلك الوَقتِ -أي: وَقتِ السُّؤالِ- كانَت في الصُّورةِ المِثاليّةِ لبُرجِ الثَّورِ، بَينَما عِندَما سُئلَ ﷺ السُّؤالَ نَفسَه بعدَ شَهرٍ قال: “على الحُوتِ”، لِأنَّ الأَرضَ كانَت في ظِلِّ بُرجِ الحُوتِ.

وهكَذا أَشارَ ﷺ بقَولِه: “على الثَّورِ والحُوتِ” إلى هذه الحَقِيقةِ العَظِيمةِ الَّتي ستَظهَرُ في المُستَقبَلِ وتَتَوضَّحُ.. وأَشارَ به إلى حَرَكةِ الأَرضِ وسِياحَتِها.. ورَمَزَ به إلى أنَّ البُرُوجَ السَّماوِيّةَ الحَقِيقيّةَ والعامِلةَ هي الَّتي في مَدارِ الأَرضِ السَّنَويِّ، والأَرضُ هي القائِمةُ بالوَظِيفةِ والسِّياحةِ في تلك البُرُوجِ، بَينَما الَّتي بالنِّسبةِ إلى الشَّمسِ عاطِلةٌ دُونَ أَجرامٍ سَيّارةٍ فيها. واللهُ أَعلَمُ بالصَّوابِ.

وأمّا ما جاءَ مِن حِكاياتٍ خارِجةٍ عن طَورِ العَقلِ في بَعضِ الكُتُبِ الإسلامِيّةِ حَولَ الثَّورِ والحُوتِ، فإمّا أنَّها مِنَ الإِسرائِيليّاتِ، أو هي تَشبِيهاتٌ وتَمثِيلاتٌ، أو أنَّها تَأوِيلاتُ بَعضِ الرُّواةِ، حَسِبَها الَّذِينَ لا يَتَحرَّونَ الدِّقّةَ مِنَ الحَدِيثِ نَفسِه، وأَسَندُوها إلى كَلامِ الرَّسُولِ ﷺ.

﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

❀   ❀   ❀

[السؤال الثاني: حول أهل العباء]

السُّؤالُ الثّاني: يَخُصُّ أَهلَ العَباءِ.

أَخِي.. سنَذكُرُ حِكْمةً واحِدةً فقط مِنَ الحِكَمِ الكَثِيرةِ الَّتي يَنطَوِي علَيْها سُؤالُكُم حَولَ “أَهلِ العَباءِ” الَّذي ظَلَّ بلا جَوابٍ، وهِي: أنَّ أَسرارًا وحِكَمًا كَثِيرةً في إِلقاءِ الرَّسُولِ ﷺ عَباءَتَه المُبارَكةَ الَّتي كانَ يَلبَسُها على عَلِيٍّ وفاطِمةَ والحَسَنِ والحُسَينِ رَضِيَ الله عَنهُم أَجمَعِينَ، ثمَّ دُعائِه لَهُم في هذا الوَضعِ وبهذه الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿… لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، ولكِنَّنا لا نَخُوضُ في أَسرارِه، ولا نَذكُرُ إلّا حِكْمةً مِن حِكَمِه الَّتي تَتَعلَّقُ بمُهِمّةِ الرِّسالةِ وهِي:

أنَّ الرَّسُولَ الكَرِيمَ ﷺ قد رَأَى بنَظَرِ النُّبوّةِ الأَنِيسِ بالغَيبِ، النّافِذِ إلى المُستَقبَلِ: أنَّه بَعدَ نَحوِ ثَلاثِينَ أو أَربَعِينَ سَنةً ستَقَعُ فِتَنٌ عَظِيمةٌ في صُفُوفِ الصَّحابةِ والتّابِعِينَ، وستُراقُ الدِّماءُ الزَّكيّةُ؛ فشاهَدَ أنَّ أَبرَزَ مَن فيها هُمُ الأَشخاصُ الثَّلاثةُ الَّذِينَ ستَرَهُم تَحتَ عَباءَتِه، فلِأَجلِ الإِعلانِ عن تَبْرِئةِ عَلِيٍّ في نَظَرِ الأُمّةِ.. وتَسلِيةِ الحُسَينِ وعَزائِه.. وتَهنِئةِ الحَسَنِ وإِظهارِ شَرَفِه ومَكانَتِه وعَظِيمِ نَفعِه لِلأُمّةِ برَفعِه فِتنةً كَبِيرةً بالصُّلحِ.. وطَهارةِ نَسلِ فاطِمةَ وشَرَفِهِم وأَهلِيَّتِهِم بلَقَبِ أَهلِ البَيتِ، ذلك العُنوانِ الشَّرِيفِ الرَّفيعِ.. لِأَجلِ كلِّ ذلك سَتَر ﷺ أُولَئِك الأَربَعةَ معَ نَفسِه تَحتَ تلك العَباءةِ الَّتي وَهَبَت لَهُم ذلك العُنوانَ المُشَرَّفَ: آلُ العَباءِ الخَمسةُ.

نعم، إنَّ سَيِّدَنا عَلِيًّا كانَ خَلِيفةً لِلمُسلِمِينَ بحَقٍّ، ولكِن لِأنَّ الدِّماءَ الزَّكِيّةَ الَّتي أُرِيقَت جَلِيلةٌ، فإنَّ بَراءَتَه مِنها وتَبْرِئَتَه في نَظَرِ الأُمّةِ لها أَهَمِّيَّتُها مِن حَيثُ وَظِيفةُ الرِّسالةِ؛ لذا يُبَرِّئُ الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ ساحَتَه بتِلك الصُّورةِ، فيَدعُو إلى السُّكُوتِ بحَقِّه كلَّ مَن يَنتَقِدُه ويُخَطِّئُه ويُضَلِّلُه مِنَ الخَوارِجِ والمُوالِينَ لِلأُمَويِّينَ المُتَجاوِزِينَ علَيْه.

نعم، إنَّ تَفرِيطَ الخَوارِجِ وأَتباعِ الأُمَويِّينَ المُغالِينَ في حَقِّ سَيِّدِنا عَلِيٍّ وتَضلِيلَهُم له، وإِفراطَ الشِّيعةِ وغُلُوَّهُم وبِدَعَهُم وتَبَرِّيَهُم مِنَ الشَّيخَينِ معَ وُقُوعِ الفاجِعةِ الأَلِيمةِ على الحُسَينِ، قد أَضَرَّ أَهلَ الإِسلامِ أيَّما ضَرَرٍ؛ فالرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ يُنجِي بهذا الدُّعاءِ والعَباءِ عَلِيًّا والحُسَينَ مِنَ المَسؤُوليّةِ والتُّهَمِ، ويُنقِذُ أُمَّتَه مِن سُوءِ الظَّنِّ في حَقِّهِما كما يُهَنِّئُ -مِن حَيثُ مُهِمّةُ الرِّسالةِ- الحَسَنَ الَّذي أَحسَنَ إلى الأُمّةِ بالصُّلحِ الَّذي قامَ به، ويُعلِنُ أنَّ النَّسلَ المُبارَكَ الَّذي يَتَسَلسَلُ مِن فاطِمةَ سيَنالُونَ شَرَفًا رَفِيعًا، وأنَّ فاطِمةَ ستكُونُ كَرِيمةً مِن حَيثُ ذُرِّيَّتُها كما قالَت أُمُّ مَريَمَ في قَولِه تَعالَى: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾

﴿اللَّهُمَّ صَلِّ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعلى آلِه الطَّيِّبِينَ الطّاهِرِينَ الأَبرارِ وعلى أَصحابِه المُجاهِدِينَ المُكرَمِينَ الأَخيارِ. آمِينَ﴾.

❀   ❀   ❀

[المقام الثاني حول أسرار البسملة]

المقامُ الثاني

يَضُمُّ هذا المقامُ سِتّةً من أُلوف أَسرارِ‌

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

  تَنبِيهٌ

لقد ظَهَر عن بُعدٍ لِعَقلِي الخامِدِ نُورٌ ساطِعٌ أَشرَقَ مِن أُفُقِ رَحْمةِ اللهِ في البَسمَلةِ، فأَرَدتُ تَسجِيلَه في صُورةِ مُلاحَظاتٍ ومُذكِّراتٍ خاصّةٍ بي، وقُمتُ بمُحاوَلةِ اقتِناصِ ذلك النُّورِ الباهِرِ بإِحاطَتِه بسُوْرٍ مِن أَسرارِه البالِغةِ نحوَ ثَلاثِينَ سِرًّا، كي يَسهُلَ حَصرُه ويَتيَسَّرَ تَدوِينُه، إلّا أنَّني معَ الأَسَفِ لم أُوَفَّق تَمامًا الآنَ في مَسْعايَ، فانحَسَرَتِ الأَسرارُ إلى سِتّةٍ فقط.

والخِطابُ في هذا المَقامِ مُوَجَّهٌ إلى نَفسِي بالذّاتِ، فحِينَما أَقُولُ: “أيُّها الإِنسانُ” فأَعنِي به نَفسِي.

فهذا الدَّرسُ معَ كَونِه خاصًّا بي، إلّا أنَّني أَعرِضُه لِلأَنظارِ الصّائِبةِ لِإخوَتي المُدَقِّقِينَ لِيَكُونَ “المَقامَ الثّانِيَ مِنَ اللَّمْعةِ الرّابِعةَ عَشْرةَ”، وعَلَّه يكُونُ مَوضِعَ فائِدةٍ لِمَنِ ارتَبَط بي برِباطٍ رُوحِيٍّ، والَّذي نَفسُه أَكثَرُ يَقَظةً مِنِّي وانتِباهًا.

هذا الدَّرسُ مُتَوجِّهٌ إلى القَلبِ أَكثَرَ مِنه إلى العَقلِ، ومُتَطلِّعٌ إلى الذَّوقِ الرُّوحِيِّ أَكثَرَ مِنه إلى الدَّلِيلِ المَنطِقِيِّ.

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ *

إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

سنَذكُرُ في هذا المَقامِ بِضْعةً مِنَ الأَسرارِ:

[السر الأول: البسملة عنوان على ثلاثة أختام للأحدية]

السِّرُّ الأوَّلُ:‌

في أَثناءِ تَأمُّلِي في البَسمَلةِ رَأَيتُ نُورًا مِن أَنوارِ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ على الصُّورةِ الآتِيةِ:

إنَّ هُنالِك ثَلاثَ عَلاماتٍ نيِّرةٍ ساطِعةٍ لِلرُّبُوبيّةِ على سِيماءِ الكائِناتِ، وعلى قَسَماتِ وَجهِ الأَرضِ، وعلى مَلامِحِ وَجهِ الإِنسانِ.. هذه العَلاماتُ الزّاهِرةُ والآياتُ السَّاطِعةُ مُتَداخِلٌ بَعضُها في البَعضِ الآخَرِ، حتَّى إنَّ كُلًّا مِنها يُبيِّنُ نَمُوذجَ الآخَرِ ومِثالَه.

فالعَلامةُ الأُولَى: هي عَلامةُ الأُلُوهِيّةِ، تلك الآيةُ الكُبْرَى، السَّاطِعةُ مِنَ التَّعاوُنِ والتَّسانُدِ والتَّعانُقِ والتَّجاوُبِ الجارِي في أَجزاءِ الكَونِ كُلِّه، بحَيثُ يَتَوجَّهُ ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ إلَيْها ويَدُلُّ علَيْها.

العَلامةُ الثَّانيةُ: هي عَلامةُ الرَّحْمانيّةِ، تلك الآيةُ العُظمَى، الزَّاهِرةُ مِنَ التَّشابُهِ والتَّناسُبِ والِانتِظامِ والِانسِجامِ واللُّطفِ والرَّحْمةِ السَّارِي في تَربِيةِ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ، بحَيثُ يَتَوجَّهُ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ﴾ إلَيْها ويَدُلُّ علَيْها.

ثمَّ العَلامةُ الثّالثةُ: وهِي عَلامةُ الرَّحِيمِيّةِ، تلك العَلامةُ السّامِيةُ، الظّاهِرةُ مِن لَطائِفِ رَأْفةِ اللهِ ودَقائِقِ شَفَقَتِه وأَشِعّةِ رَحْمَتِه المُنطَبِعةِ على سِيماءِ الماهِيّةِ الجامِعةِ لِلإِنسانِ، بحَيثُ يَتَوجَّهُ اسمُ “الرَّحِيمِ” الَّذي في ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إلَيْها ويَدُلُّ علَيْها.

أي: إنَّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ عُنوانٌ قُدسِيٌّ وخَطٌّ ساطِعٌ وخَيطٌ قَوِيٌّ لِثَلاثةٍ مِن أَختامِ الأَحَدِيّةِ الَّتي تُشَكِّلُ سَطرًا نُورانيًّا في صَحِيفةِ العالَمِ، أي إنَّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ نُزُولًا مِنَ المَلَإِ الأَعلَى يَرتَبِطُ طَرَفُه ونِهايَتُه بالإِنسانِ الَّذي هو ثَمَرةُ الكائِناتِ ونُسخةُ العالَمِ المُصَغَّرةُ، فيَربِطُ الفَرشَ بالعَرشِ الأَعظَمِ، ويكُونُ سَبِيلًا مُمَهِّدًا لِعُرُوجِ الإِنسانِ إلى عَرشِ كَمالاتِه.

[السر الثاني: البسملة إبراز للأحدية ضمن الواحدية]

السِّرُّ الثَّاني:‌

إنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ يُبيِّنُ دَومًا تَجَلِّيَ “الأَحَدِيّةِ” ضِمنَ تَجَلِّي “الواحِدِيّةِ”، لِيَحُولَ دُونَ غَرَقِ العُقُولِ وتَشَتُّتِها في تلك “الواحِدِيّةِ” الظّاهِرةِ في مَخلُوقاتٍ كَثِيرةٍ لا يَحصُرُها العَدُّ.

ولنُوَضِّحْ ذلك بمِثالٍ:‌

الشَّمسُ تُحِيطُ بضِيائِها بما لا يُحَدُّ مِنَ الأَشياءِ، فلِأَجلِ مُلاحَظةِ ذاتِ الشَّمسِ في مَجمُوعِ ضِيائِها يَلزَمُ أن يكُونَ هُناك تَصَوُّرٌ واسِعٌ جِدًّا ونَظَرٌ شامِلٌ؛ لذا تُظهِرُ الشَّمسُ ذاتَها بواسِطةِ انعِكاسِ ضَوئِها في كلِّ شَيءٍ شَفّافٍ، أي: يُظهِرُ كلُّ لَمَّاعٍ حَسَبَ قابِليَّتِه جَلْوةَ الشَّمسِ الذّاتيّةَ معَ خَواصِّها كالضِّياءِ والحَرارةِ، وذلك لِئَلَّا تُنسَى ذاتُ الشّمسِ.. ومِثلَما يُظهِرُ كلُّ لَمّاعٍ الشَّمسَ بجَمِيعِ صِفاتِها حَسَبَ قابِلِيَّتِه، تُحِيطُ أَيضًا كلُّ صِفةٍ مِن صِفاتِ الشَّمسِ كالحَرارةِ والضِّياءِ وأَلوانِه السَّبعةِ بكُلِّ ما يُقابِلُها مِن أَشياءَ.

ولا مُشاحّةَ في الأَمثالِ ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾، فكما أنَّ للهِ سُبحانَه الأَحَدِ الصَّمَدِ تَجَلِّيًا في كلِّ شَيءٍ بجَمِيعِ أَسمائِه الحُسنَى، ولا سِيَّما في الأَحياءِ، وبخاصّةٍ في مِرآةِ ماهِيّةِ الإِنسانِ؛ كَذلِك كلُّ اسمٍ مِن أَسمائِه الحُسنَى المُتَعلِّقةِ بالمَوجُوداتِ يُحِيطُ بالمَوجُوداتِ جَمِيعًا مِن حَيثُ الوَحْدةُ والواحِدِيّةُ، فيَضَعُ سُبحانَه وتَعالَى طابَعَ الأَحَدِيّةِ في الواحِدِيّةِ نُصْبَ عَينِ الإِنسانِ وأَمامَ نَظَرِه كَيْلا تَغرَقَ العُقُولُ وتَغِيبَ في سَعةِ الواحِدِيّةِ، ولِئَلّا تَنسَى القُلُوبُ وتُذهَلَ عنِ الذّاتِ الإِلٰهِيّةِ المُقَدَّسةِ.

فـ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ يَدُلُّ على ثَلاثٍ مِنَ العُقَدِ المُهِمّةِ لِذلِك الطَّابَعِ المُمَيَّزِ ويُبيِّنُها.

[السر الثالث: البسملة صلةٌ بالرحمة الإلهية]

السِّرُّ الثّالثُ:‌

إنَّه بَدِيهِيٌّ، بل مُشاهَدٌ أنَّ الرَّحْمةَ الإِلٰهِيّةَ هي الَّتي أَبهَجَتِ الكائِناتِ الَّتي لا يَحُدُّها حُدُودٌ..

وأنَّ الرَّحْمةَ نَفسَها هي الَّتي أَنارَت هذه المَوجُوداتِ المَغشِيّةَ بالظُّلُماتِ..

وأنَّ الرَّحْمةَ أَيضًا هي الَّتي رَبَّت في أَحضانِها هذه المَخلُوقاتِ المُتَقلِّبةَ في حاجاتٍ لا حَدَّ لها..

وأنَّ الرَّحْمةَ أَيضًا هي الَّتي وَجَّهَتِ الكائِناتِ مِن كلِّ صَوْبٍ وحَدْبٍ، وساقَتْها نَحوَ الإِنسانِ وسَخَّرَتْها له، بل جَعَلَتْها تَتَطلَّعُ إلى مُعاوَنَتِه وتَسعَى لِإمدادِه، كما تَتَوجَّهُ أَجزاءُ الشَّجَرةِ إلى ثَمَرتِها..

وأنَّ الرَّحْمةَ أَيضًا هي الَّتي عَمَرَت هذا الفَضاءَ الواسِعَ وزَيَّنَت هذا العالَمَ الخالِيَ..

وأنَّ الرَّحْمةَ نَفسَها هي الَّتي جَعَلَت هذا الإِنسانَ الفانِيَ مُرَشَّحًا لِلخُلُودِ والبَقاءِ، وأَهَّلَتْه لِتَلقِّي خِطابِ رَبِّ العالَمِينَ، ومَنَحَتْه فَضْلَ وِلايَتِه سُبحانَه.

فيا أيُّها الإِنسانُ.. ما دامَتِ الرَّحْمةُ مَحبُوبةً، ولها مِنَ القُوّةِ والجاذِبِيّةِ والإِمدادِ إلى هذا الحَدِّ، فاستَعصِمْ بتلك الحَقِيقةِ بقَولِك: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، وأَنقِذْ نَفسَك مِن هَولِ الوَحْشةِ المُطلَقةِ، وخَلِّصْها مِن آلامِ حاجاتٍ لا نِهايةَ لها، وتَقرَّبْ إلى ذِي العَرشِ المَجِيدِ، وكُن مُخاطَبًا أَمِينًا وخَلِيلًا صادِقًا له، بأَنوارِ تلك الرَّحْمةِ ورَأْفَتِها.

نعم، إنَّ حَشْدَ الكائِناتِ وجَمْعَها حَولَ الإِنسانِ ضِمنَ حِكْمةٍ مُقدَّرةٍ، وجَعْلَ كلٍّ مِنها يَمُدُّ يَدَ العَونِ إلَيْه لِدَفعِ حاجاتِه المُتَزايِدةِ، نابِعٌ بلا شَكٍّ مِن إِحدَى حالَتَينِ اثنَتَينِ: فإِمّا أنَّ كلَّ نَوعٍ مِن أَنواعِ الكائِناتِ يَعرِفُ الإِنسانَ ويَعلَمُ به فيُطِيعُه ويَسعَى لِخِدمَتِه، أي: أنَّ هذا الإِنسانَ الغارِقَ في عَجزٍ مُطلَقٍ يَملِكُ قُدرةَ سُلطانٍ مُطلَقٍ (وهذا بَعِيدٌ كلَّ البُعدِ عن مَنطِقِ العَقلِ فَضْلًا عَمّا فيه مِن مُحالاتٍ لا تُحَدُّ).. أو أنَّ هذا التَّعاوُنَ والإِمدادَ إنَّما يَتِمُّ بعِلمٍ مُحِيطٍ لِقادِرٍ مُطلَقٍ مُحتَجِبٍ وَراءَ الكائِناتِ.. إِذًا فأَنواعُ الكائِناتِ لا تَعرِفُ هذا الإِنسانَ لِتَمُدَّ له يَدَ العَونِ، وإنَّما هي دَلائِلُ على مَن يَعرِفُ هذا الإِنسانَ ويَرحَمُه، ويَعلَمُ بحالِه.. وهُو الخالِقُ الرَّحِيمُ.

فيا أيُّها الإِنسانُ، عُدْ إلى رُشْدِك.. أوَيُمكِنُ ألّا يَعلَمَ بك ولا يَراك هذا الرَّبُّ الرَّحِيمُ، وهُو الَّذي دَفَع المَخلُوقاتِ لِمُعاوَنَتِك مُلَبِّيةً جَمِيعَ حاجاتِك؟

فما دامَ سُبحانَه يَعلَمُ بك ويُعلِمُك بعِلمِه هذا بإِسباغِ رَحْمَتِه علَيْك، فما علَيْك إلّا بَذلُ الجُهدِ لِمَعرِفَتِه، والسِّعيُ لِإظهارِ مَعرِفَتِك له بتَوقيرِ أَوامِرِه.

واعْلَمْ يَقِينًا أنَّه لَيسَت إلّا حَقِيقةُ الرَّحْمةِ الإِلٰهِيّة -الَّتي تَسَعُ الحِكْمةَ والعِنايةَ والعِلمَ والقُدرةَ- قد سَخَّرَتْ لك هذه الكائِناتِ، وجَعَلَتْها طَوعَ إِرادَتِك، وأَنتَ المَخلُوقُ الضَّعِيفُ الصَّغِيرُ العاجِزُ الفَقِيرُ الفانِي.

فرَحْمةٌ عَظِيمةٌ إلى هذا الحَدِّ، واسِعةٌ إلى هذا القَدْرِ.. لا شَكَّ أنَّها تَطلُبُ مِنك شُكرًا كُلِّـيًّا خالِصًا، وتَعظِيمًا لا يَشوبُه شَيءٌ.

فاعْلَمْ أنَّه لا يُتَرجِمُ لك ذلك الشُّكرَ الكُلِّيَّ والتَّعظِيمَ الخالِصَ إلّا ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، فقُلْه، واتَّخِذْه وَسِيلةً لِبُلُوغِك تلك الرَّحْمةَ الواسِعةَ، واجْعَلْه شَفِيعًا لك لَدَى الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ.

حقًّا! إنَّ وُجُودَ الرَّحْمةِ وظُهُورَها أَظهَرُ مِنَ الشَّمسِ في كَبِدِ السَّماءِ، إذ كما يَحصُلُ نَسْجُ نَقْشٍ جَمِيلٍ في المَركَزِ مِن تَناسُقِ لُحْمَتِه وسَداه ومِنِ انتِظامِ أَوْضاعِ خُيُوطٍ تَمتَدُّ مِن كلِّ جِهةٍ نَحوَ المَركَزِ.. فإنَّ خُيُوطَ شُعاعِ النُّورِ النّابِعِ مِن تَجَلِّي أَلفِ اسمٍ واسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى، والمُمتَدّةِ إلى هذا الكَونِ الشّاسِعِ تَنسُجُ على سِيمائِه نَسِيجًا في غايةِ الرَّوْعةِ والجَمالِ ضِمنَ إِطارِ الرَّحْمةِ السّابِغةِ، حتَّى يُظهِرَ لِلعُقُولِ -أَوضَحَ مِنَ الشَّمسِ لِلعُيُونِ- خَتْمًا واضِحًا لِلرَّحِيمِيّةِ، ونَقْشًا رائِعًا لِلشَّفَقةِ والرَّأفةِ، وشِعارًا بَدِيعًا لِلعِنايةِ.

نعم، إنَّ الَّذي يُنَظِّمُ الشَّمسَ والقَمَرَ والعَناصِرَ والمَعادِنَ والنَّباتاتِ والحَيَواناتِ، ويُنَسِّقُها جَمِيعًا بأَشِعّةِ أَلفِ اسمٍ واسمٍ، كأنَّها لُحْمةُ نَقشٍ بَدِيعٍ وسَداه، وخُيُوطُه النُّورانيّةُ، ويُسَخِّرُها جَمِيعًا في خِدمةِ الحَياةِ.. والَّذي يُظهِرُ رَأفَتَه وشَفَقَتَه على الخَلقِ أَجمَعِينَ بما أَوْدَع في الوالِداتِ -مِن نَباتٍ وحَيَوانٍ- تلك الشَّفَقةَ الحُلْوةَ اللَّذِيذةَ تِجاهَ صِغارِها.. والَّذي أَظهَرَ أَسطَعَ تَجَلِّياتِ رَحْمَتِه، وأَجمَلَ نُقُوشِ رُبُوبيَّتِه سُبحانَه، بتَسخِيرِه الأَحياءَ لِحَياةِ الإِنسانِ، مُبيِّنًا به مَنزِلةَ الإِنسانِ لَدَيه وأَهَمِّيَّتَه عِندَه.. هو الرَّحمٰنُ ذُو الجَمالِ الَّذي جَعَل رَحْمَتَه الواسِعةَ هذه شَفِيعةً مَقبُولةً مَأنُوسةً لَدَى غِناه المُطلَقِ، يَتَشفَّعُ بها ذَوُو الحَياةِ والإِنسانُ المُفتَقِرُ فَقْرًا مُطلَقًا إلى تلك الرَّحْمةِ.

فيا أيُّها الإِنسانُ.. إنْ كُنتَ إِنسانًا حَقًّا، فقُلْ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ لِتَظفَرَ بذلك الشَّفِيعِ.

إنَّه بَدِيهِيٌّ، بل مُشاهَدٌ أنَّ الرَّحْمةَ هي الَّتي تُرَبِّي طَوائِفَ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ الَّتي تَربُو على أَربَعِ مِئةِ أَلفِ طائِفةٍ، رَغمَ تَبايُنِها وتَنَوُّعِها.. وهِي الَّتي تُدِيرُ أُمُورَها جَمِيعًا بلا التِباسٍ ولا نِسيانٍ ولا اختِلاطٍ، وفي أَنسَبِ وَقتٍ وأَكمَلِ نِظامٍ وأَتَمِّ حِكْمةٍ وأَوفَقِ عِنايةٍ، حتَّى وَضَعَتْ بهذه الإِدارةِ والتَّربِيةِ طابَعَ الأَحَدِيّةِ وخَتْمَها على سِيماءِ الأَرضِ.

نعم، إنَّ وُجُودَ تلك الرَّحْمةِ ثابِتٌ وقَطعِيٌّ كوُجُودِ المَوجُوداتِ المَبثُوثةِ على الأَرضِ، كما أنَّ دَلائِلَ تَحَقُّقِها بعَدَدِ تلك المَوجُوداتِ.

ومِثلَما نُشاهِدُ على وَجهِ الأَرضِ آيةَ الأَحَدِيّةِ وسِمَتَها وخَتْمَ الرَّحْمةِ وطابَعَها، فإنَّ على سِيماءِ الماهِيّةِ المَعنَوِيّةِ الإِنسانيّةِ أَيضًا طابَعَ الرَّحْمةِ.. هذا الطَّابَعُ والخَتْمُ ليس بأَقلَّ وُضُوحًا مِن ذلك الَّذي على وَجهِ الأَرضِ، ولا مِن ذلك الَّذي على وَجهِ الكائِناتِ.. بل إنَّ سِمَة هذه الرَّحْمةِ لها مِنَ الجامِعِيّةِ والشُّمُولِ حتَّى كأنَّها بُؤْرةٌ لَامّةٌ لِأَنوارِ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى.

فيا أيُّها الإِنسانُ.. إنَّ الَّذي وَهَب لك هذه السِّيماءَ، ووَضَع علَيْها الرَّحْمةَ وخَتَمَها بخَتْمِ الأَحَدِيّةِ، أَمِنَ المُمكِنِ أن يَتْرُكَك سُدًى، ولا يَكتَرِثَ بك ولا يَهتَمَّ ولا يُراقِبَ أَعمالَك وحَرَكاتِك؟ أوَمِنَ المُمكِنِ أن يَجعَلَ حَرَكةَ جَمِيعِ الكائِناتِ المُتَوجِّهةِ إلَيْك عَبَثًا لا طائِلَ مِن وَرائِها؟ أو يَجعَلَ شَجَرةَ الخِلْقةِ العَظِيمةَ شَجَرةً تافِهةً، وثَمَرتَها ثَمَرةً فاسِدةً؟ أم هل يُمكِنُ أن يَضَع رَحْمَتَه الظّاهِرةَ ظُهُورَ الشَّمسِ -والَّتي لا تَحتَمِلُ شَكًّا ولا رَيْبًا- ويَضَعَ حِكْمَتَه الواضِحةَ وُضُوحَ النُّورِ، مَوضِعَ الإِنكارِ والجُحُودِ؟ كلَّا.. ثمَّ كلَّا.. تَعالَى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كَبِيرًا.

فيا أيُّها الإِنسانُ.. اعْلَمْ أنَّ لِبُلُوغِ عَرشِ تلك الرَّحْمةِ مِعراجًا.. ذلك المِعراجُ هو: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.

فإن شِئتَ أن تَعرِفَ مَدَى أَهَمِّيّةِ هذا المِعراجِ ومَدَى عَظَمَتِه ومَكانَتِه، فانظُرْ إلى مُستَهَلِّ سُوَرِ القُرآنِ الكَرِيمِ البالِغةِ مِئةً وأَربَعَ عَشْرةَ سُورةً، وانظُرْ بِداياتِ كلِّ كِتابٍ قَيِّمٍ، ولاحِظْ بَدْءَ كلِّ أَمرٍ ذِي بالٍ.. حتَّى إنَّه يُعَدُّ حُجّةً قاطِعةً على عَظَمةِ البَسمَلةِ وعُلُوِّ قَدْرِها ما قالَه الإِمامُ الشّافِعِيُّ وأَمثالُه مِنَ المُجتَهِدِينَ العِظامِ: “إنَّ البَسمَلةَ رَغمَ أنَّها آيةٌ واحِدةٌ فإنَّها نَزَلَت في القُرآنِ مِئةً وأَربَعَ عَشْرةَ مَرّةً”.

[السر الرابع: البسملة تجمع من الشتات]

السِّرُّ الرّابعُ:‌

إنَّ تَجَلِّيَ الواحِدِيّةِ في مَخلُوقاتٍ لا حَدَّ لها، لا يُحِيطُ به كلُّ مَن يقُولُ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، حَيثُ يَتَشتَّتُ الفِكرُ ويَتِيهُ في تلك الكَثْرةِ، إذ يَلزَمُ لِمُلاحَظةِ ذاتِ اللهِ الأَحَدِ مِن خِلالِ مَجمُوعِ المَخلُوقاتِ لَدَى خِطابِ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وُجُودُ قَلبٍ واسِعٍ يَسَعُ الأَرضَ كُلَّها.

فبِناءً على هذا السِّرِّ الدَّقِيقِ فإنَّ اللهَ سُبحانَه يُبيِّنُ بجَلاءٍ طابَعَ الأَحَدِيّةِ في كُلِّ جُزءٍ مِثلَما يُظهِرُه في كلِّ نَوعٍ، وذلك لِتُشَدَّ الأَنظارُ إلى ذاتِ اللهِ الأَحَدِ، ولِيَتَمكَّنَ كلُّ شَخصٍ -مَهْما بَلَغَتْ مَرتَبَتُه- مِنَ التَّوجُّهِ المُباشَرِ في خِطابِه: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ إلى ذاتِ اللهِ الأَقدَسِ سُبحانَه مِن دُونِ تَكَلُّفٍ أو صُعُوبةٍ.

فتِبيانًا لِهذا السِّرِّ العَظِيمِ فإنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ عِندَما يَبحَثُ في آياتِ اللهِ في أَجواءِ الآفاقِ وفي أَوسَعِ الدَّوائِرِ إذا به يَذكُرُ أَصغَرَ دائِرةٍ مِن دَوائِرِ المَخلُوقاتِ وأَدَقَّ جُزئيّةٍ مِن جُزئيّاتِها، إِظهارًا لِطابَعِ الأَحَدِيّةِ بوُضُوحٍ في كلِّ شَيءٍ. مِثالُ ذلك: عِندَما يُبيِّنُ القُرآنُ الكَرِيمُ آياتِ خَلقِ السَّماواتِ والأَرضِ يُعقِبُها بآياتِ خَلقِ الإِنسانِ وبَيانِ دَقائِقِ النِّعمةِ في صَوتِه وبَدائِعِ الحِكْمةِ في مَلامِحِه، كَيْلا يَتَشتَّتَ الفِكرُ في آفاقٍ شاسِعةٍ، ولا يَغرَقَ القَلبُ في كَثْرةٍ غَيرِ مُتَناهِيةٍ، ولِتَبلُغَ الرُّوحُ مَعبُودَها الحَقَّ دُونَ واسِطةٍ.

فالآيةُ الكَرِيمةُ الآتِيةُ تُبيِّنُ الحَقِيقةَ السَّابِقةَ بَيانًا مُعجِزًا: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾.

نعم، إِنَّ آياتِ الوَحْدانيّةِ وأَختامَها معَ أنَّها قد وُضِعَت في المَخلُوقاتِ بكَثْرةٍ غَيرِ مُتَناهِيةٍ، ابتِداءً مِن أَوسَعِ الأَختامِ وأَكثَرِها كُلِّيّةً إلى أَصغَرِها جُزئيّةً، في دَوائِرَ مُتَداخِلةٍ وفي مَراتِبَ مُتَنوِّعةٍ وأَنواعٍ شَتَّى، إلّا أنَّ وُضُوحَ هذه الأَختامِ لِلوَحْدانيّةِ -مَهْما بَلَغ مِنَ الظُّهُورِ- فهُو وُضُوحٌ ضِمنَ كَثْرةٍ مِنَ المَخلُوقاتِ لا يُوفِي حَقَّ الوَفاءِ حَقِيقةَ الخِطابِ في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ،﴾ لِذا يَلزَمُ وُجُودُ طابَعِ الأَحَدِيّةِ في ثَنايا خَتْمِ الوَحْدانيّةِ، كي يَفتَحَ الطَّرِيقَ أَمامَ القَلبِ لِلوُصُولِ إلى ذاتِ اللهِ الأَقدَسِ مِن دُونِ أن يُذَكِّرَه بالكَثْرةِ.

ثمَّ، لِأَجلِ لَفْتِ الأَنظارِ إلى طابَعِ الأَحَدِيّةِ، وجَلْبِ القُلُوبِ نَحوَها، فقد وُضِعَ فَوقَ تلك السِّمةِ لِلأَحَدِيّةِ نَقشٌ بَدِيعٌ في مُنتَهَى الجاذِبِيّةِ، ونُورٌ باهِرٌ في مُنتَهَى السُّطُوعِ، وحَلاوةٌ لَذِيذةٌ في مُنتَهَى الذَّوقِ، وجَمالٌ مَحبُوبٌ في مُنتَهَى الحُسنِ، وحَقِيقةٌ رَصِينةٌ في مُنتَهَى القُوّةِ، تلك هي سِمَةُ الرَّحْمةِ وخَتْمُ الرَّحِيمِيّةِ.

نعم، إنَّ قُوّةَ تلك الرَّحْمةِ هي الَّتي تَجلُبُ أَنظارَ ذَوِي الشُّعُورِ نَحوَها فتُوصِلُها إلى طابَعِ الأَحَدِيّةِ، وتَجعَلُها تُلاحِظُ ذاتَ الأَحَدِ الأَقدَسِ، حتَّى تَجعَلُ الإِنسانَ يَحظَى بالخِطابِ الحَقِيقيِّ في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.

وهكَذا، فـ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ مِن حَيثُ إنَّه فِهرِسٌ لِفاتِحةِ الكِتابِ المُبِينِ وخُلاصةٌ مُجمَلةٌ له، قد أَصبَحَ عُنوانًا لِهذا السِّرِّ العَظِيمِ المَذكُورِ، وتَرجُمانًا له، فالَّذي يَتَمكَّنُ مِن أن يَنالَ هذا العُنوانَ يَستَطِيعُ أن يَجُولَ في طَبَقاتِ الرَّحْمةِ، والَّذي يَستَنطِقُ هذا التَّرجُمانَ يَتَعرَّفُ على أَسرارِ الرَّحْمةِ ويَتَعلَّمُها ويُشاهِدُ أَنوارَ الرَّحِيمِيّةِ والرَّأفةِ.

[السر الخامس: حديث “إن الله خلق آدم على صورته”]

السِّرُّ الخامِسُ:‌

لقد وَرَد في حَدِيثٍ شَرِيفٍ: “إنَّ اللهَ خَلَق آدَمَ على صُورةِ الرَّحمٰنِ” أو كما قالَ ﷺ.

فسَّرَ قِسمٌ مِن أَهلِ الطُّرُقِ الصُّوفيّةِ هذا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ تَفسِيرًا عَجِيبًا لا يَلِيقُ بالعَقائِدِ الإِيمانيّةِ، ولا يَنسَجِمُ معَها؛ بل بَلَغ بِبَعضٍ مِن أَهلِ العِشقِ أن نَظَرُوا إلى السِّيماءِ المَعنَوِيِّ لِلإِنسانِ نَظْرَتَهُم إلى صُورةِ الرَّحمٰنِ! ولَمّا كانَ في أَغلَبِ أَهلِ العِشقِ حالةٌ استِغراقيّةٌ ذاهِلةٌ والْتِباسٌ في الأُمُورِ، فلَرُبَّما يُعذَرُونَ في تَلَقِّياتِهِمُ المُخالِفةِ لِلحَقِيقةِ.. إلّا أنَّ أَهلَ الصَّحْوِ وأَهلَ الوَعْيِ والرَّشادِ يَرفُضُونَ رَفْضًا باتًّا تلك المَعانِيَ المُنافِيةَ لِأُسُسِ عَقائِدِ الإِيمانِ، ولا يَقبَلُونَها قَطْعًا؛ ولو رَضِيَ بها أَحَدٌ فقد سَقَط في خَطَأٍ وجانَبَ الصَّوابَ.

نعم، إنَّ الَّذي يُدَبِّرُ أُمُورَ الكَونِ ويُهَيمِنُ على شُؤُونِه بسُهُولةٍ ويُسرٍ كإِدارةِ قَصرٍ أو بَيتٍ.. والَّذي يُحَرِّكُ النُّجُومَ وأَجرامَ السَّماءِ كالذَّرّاتِ بمُنتَهَى الحِكْمةِ والسُّهُولةِ.. والَّذي تَنقادُ إلَيْه الذَّرّاتُ وتَأتَمِرُ بأَمرِه وتَخضَعُ لِحُكْمِه.. إنَّ الَّذي يَفعَلُ هذا كُلَّه هو اللهُ القُدُّوسُ سُبحانَه.. فكما أنَّه مُنَزَّهٌ ومُقَدَّسٌ عنِ الشِّركِ، فلا شَرِيكَ له، ولا نَظِيرَ، ولا ضِدَّ ولا نِدَّ، فلَيسَ له قَطْعًا مَثِيلٌ ولا مِثالٌ ولا شَبِيهٌ ولا صُورةٌ أَيضًا، وذلك بنَصِّ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ..﴾ إلّا أنَّ شُؤُونَه الحَكِيمةَ وصِفاتِه الجَلِيلةَ وأَسماءَه الحُسنَى يُنظَرُ إلَيْها بمِنظارِ التَّمثِيلِ والمَثَلِ حَسَبَ مَضمُونِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، أي إنَّ المَثَلَ والتَّمثِيلَ وارِدٌ في النَّظَرِ إلى شُؤُونِه الحَكِيمةِ سُبحانَه.

ولِهذا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ مَقاصِدُ جَلِيلةٌ كَثِيرةٌ، مِنها:

أنَّ الإِنسانَ مَخلُوقٌ على صُورةٍ تُظهِرُ تَجَلِّيَ اسمِ اللهِ “الرَّحمٰنِ” إِظهارًا تامًّا، فلَقد بَيَّنّا في الأَسرارِ السّابِقةِ أنَّه مِثلَما يَتَجلَّى اسمُ “الرَّحمٰنِ” مِن شُعاعاتِ مَظاهِرِ أَلفِ اسمٍ واسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى على وَجْهِ الكَونِ، ومِثلَما يُعْرَضُ اسمُ “الرَّحمٰنِ” بتَجَلِّياتٍ لا تُحَدُّ لِلرُّبُوبيّةِ المُطلَقةِ على سِيماءِ الأَرضِ، كَذلِك يُظهِرُ سُبحانَه التَّجَلِّيَ الأَتَمَّ لِذلِك الِاسمِ “الرَّحمٰنِ” في الصُّورةِ الجامِعةِ لِلإِنسانِ، يُظهِرُه بمِقياسٍ مُصَغَّرٍ بمِثلِ ما يُظهِرُه في سِيماءِ الأَرضِ وسِيماءِ الكَونِ بمِقياسٍ أَوسَعَ وأَكبَرَ.

وفي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ إِشارةٌ كَذلِك إلى أنَّ في الإِنسانِ والأَحياءِ مِنَ المَظاهِرِ الدّالّةِ على “الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ” ما هو بمَثابةِ مَرايا عاكِسةٍ لِتَجَلِّياتِه سُبحانَه، فدَلالةُ الإِنسانِ علَيْه سُبحانَه ظاهِرةٌ قاطِعةٌ جَلِيّةٌ، تُشبِهُ في قَطعِيَّتِها وجَلائِها دَلالةَ المِرآةِ السّاطِعةِ بصُورةِ الشَّمسِ وانعِكاسِها على الشَّمسِ نَفسِها.. فكما يُمكِنُ أن يُقالَ لِتِلك المِرآةِ: إنَّها الشَّمسُ، إِشارةً إلى مَدَى سُطُوعِها ووُضُوحِ دَلالَتِها علَيْها، كَذلِك يَصِحُّ أن يُقالَ -وقد قِيلَ في الحَدِيثِ -: إنَّ في الإِنسانِ صُورةَ “الرَّحمٰنِ”، إِشارةً إلى وُضُوحِ دَلالَتِه على اسمِ “الرَّحمٰنِ” وكَمالِ مُناسَبَتِه معَه ووُثُوقِ عَلاقَتِه به..

هذا، وإنَّ المُعتَدِلِينَ مِن أَهلِ وَحْدةِ الوُجُودِ قد قالُوا: “لا مَوجُودَ إلّا هُو” بِناءً على هذا السِّرِّ مِن وُضُوحِ الدَّلالةِ، وعُنوانًا على كَمالِ المُناسَبةِ.

﴿اللَّهُمَّ يا رَحمٰنُ يا رَحِيمُ بحَقِّ “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ” ارْحَمْنا كما يَلِيقُ بِرَحِيمِيَّتِك، وفَهِّمْنا أَسرارَ “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ” كما يَلِيقُ برَحْمانِيَّتِك.. آمِينَ﴾.

[السر السادس: الرحمة أعظم وسيلة وأرجى شفيع]

السِّرُّ السّادسُ:‌

أيُّها الإِنسانُ المُتقلِّبُ في خِضَمِّ عَجْزٍ لا نِهايةَ له وفَقرٍ لا حَدَّ له، إذا أَرَدتَ أن تَفْهَم كَيفَ أنَّ الرَّحمةَ أَعظَمُ وَسيلةٍ وأَرجَى شَفيعٍ، فاعْلَم:

أنَّ الرَّحمةَ أَقوَى وَسيلةٍ للوُصُولِ إلى سُلطانٍ عَظِيمٍ ذي جَلالٍ، تَنقادُ له النُّجُومُ والذَّرّاتُ مَعًا جُنُودًا مُطيعِينَ طاعةً تامّةً في انتِظامٍ تامٍّ.. ذلك السُّلطانُ ذُو الجَلالِ والإكرامِ، رَبُّ العالَمِينَ المُستَغنِي عنِ الخَلْقِ أَجمَعِينَ، الكَبِيرُ المُتَعالي عنِ المَوجُوداتِ، فلا حاجةَ له أَصلًا إلى المَوجُوداتِ، بل كلُّ شَيءٍ قد تَواضَعَ لِعَظَمَتِه واستَسْلَم لقُدرَتِه وذَلَّ لِعِزَّتِه وخَضَع لِهَيْبةِ جَلالِه.. فالرَّحمةُ أيُّها الإِنسانُ تَرفَعُك إلى دِيوانِ حُضُورِ ذلك الغَنِيِّ المُطلَقِ، وتَجعَلُك خَلِيلًا لِذلِك السُّلطانِ السَّرمَدِيِّ الأَعظَمِ، بل تَعرُجُ بك إلى مَقامِ خِطابِه الجَلِيلِ، وتَجعَلُك عَبْدًا مُكَرَّمًا مَحبُوبًا عندَه.

ولكِن، كما أنَّك لا تَصِلُ إلى الشَّمسِ لِبُعدِك عنها، بل لا يُمكِنُك الاقتِرابُ مِنها بحالٍ، فإنَّ ضَوْءَها يُسلِّمُ إلَيْك تَجَلِّيَها وصُورَتَها بواسِطةِ مِرآةِ ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾، فنَحنُ على الرَّغمِ مِن بُعدِنا المُطلَقِ عنِ اللهِ سُبحانَه وتعالَى، فإن نُورَ رَحمَتِه يُقرِّبُه إلَيْنا.

فيا أيُّها الإنسانُ، إنَّ مَن يَظفَرُ بهذه الرَّحمةِ فقد ظَفِرَ بكَنزٍ عَظِيمٍ لا يَفنَى، كَنزٍ مِلْؤُه النُّورُ؛ أمَّا طَرِيقُ الوُصولِ إلى ذلك الكَنزِ العَظِيمِ فاعْلَمْ: أنَّ أَسْطَعَ مِثالٍ للرَّحمةِ، وأَفضَلَ مَن يُمَثِّلُها، وأَبلَغَ لِسانٍ ناطِقٍ بها، وأَكرَمَ داعٍ إلَيْها، هو الَّذي سُمِّيَ في القُرآنِ الكَرِيمِ: ﴿رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، وهُو رَسُولُنا الحَبِيبُ ﷺ.. فالطَّرِيقُ الأَمثَلُ لِبُلُوغِ تلك الخَزِينةِ الأَبَديّةِ هو اتِّباعُ سُنَّتِه المُطهَّرةِ.

[وسيلة الوصول إلى الرسول ﷺ]

ولكِن كَيفَ الوُصُولُ إلى الرَّسُولِ الحَبِيبِ ﷺ، وما الوَسِيلةُ إلَيْه؟

فاعْلَم أنَّ الوَسِيلةَ هي الصَّلاةُ علَيْه… نعم، الصَّلاةُ علَيْه تَعني الرَّحمةَ، فالصَّلاةُ علَيْه دُعاءٌ بالرَّحمةِ لِتِلك الرَّحمةِ المُجَسَّمةِ الحَيّةِ، وهِي وَسِيلةُ الوُصُولِ إلى مَن هو رَحمةٌ لِلعالَمِينَ.

فيا أيُّها الإنسانُ، اجْعَلِ الصَّلاةَ علَيْه وَسِيلةَ الوُصُولِ إلَيْه، ثمَّ استَمْسِكْ به لِيُبَلِّغَك رَحمةَ الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ، فإنَّ الأُمّةَ جَمِيعَها بدُعائِها وصَلَواتِها على الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ إنَّما تُثبِتُ بوُضُوحٍ مَدَى قِيمةِ هذه الرَّحمةِ، ومَدَى أَهَمِّيّةِ هذه الهَدِيّةِ الإِلٰهِيّةِ، ومَدَى سَعَتِها وعَظَمَتِها.

الخُلاصةُ: إنَّ حاجِبَ خَزِينةِ الرَّحمةِ الإِلٰهِيةِ وأَكرَمَ داعٍ إلَيْها هو الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ، كما أنَّ أَسمَى مِفتاحٍ لِتِلك الخَزِينةِ هو: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، وأَسْلَسَ ما يَفتَحُها هو الصَّلَواتُ على الرَّسُولِ الحَبِيبِ ﷺ.

﴿اللَّهُمَّ بِحَقِّ أَسرَارِ “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”، صَلِّ وَسَلِّم عَلَى مَن أَرسَلتَه رَحمَةً لِلعَالَمِينَ، كَمَا يَلِيقُ بِرَحمَتِكَ وبِحُرمَتِه، وعَلَى آلِهِ وأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ؛ وارحَمنَا رَحمَةً تُغنِينَا بِهَا عَن رَحمَةِ مَن سِوَاكَ مِن خَلقِكَ.. آمِين﴾

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

❀   ❀   ❀

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى