اللمعات

اللمعة الثانية عشرة

[هذه اللمعة تجيب عن سؤالَين يتعلقان بآيتَين من القرآن: كيف يموت بعضُ الناس جوعًا مع أن الله تكفل بالرزق؟ وما تفسير الأرَضين السبع والسموات السبع؟]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

إنَّ التَّعَهُّدَ الرَّبّانِيَّ بالرِّزقِ وتكَفُّلَه له بنَفسِه حَقِيقةٌ ثابِتةٌ، فلا أَحَدَ يَمُوتُ مِن عَدَمِ الرِّزقِ، لِأنَّ الحَكِيمَ ذا الجَلالِ يَدَّخِرُ قِسمًا مِنَ الرِّزقِ الَّذي يُرسِلُه إلى جِسمِ الكائِنِ الحَيِّ احتِياطًا على هَيْئةِ الشُّحُومٍ والدُّهُونِ؛ بل يَدَّخَرُ قِسمًا مِنَ الرِّزقِ المُرسَلِ في زَوايا حُجَيراتِ الجِسمِ كي يُصرَفَ مِنه في واجِباتِ الجِسمِ عِندَ عَدَمِ مَجِيءِ الرِّزقِ مِنَ الخارِجِ.فالَّذِينَ يَمُوتُونَ إنَّما يَمُوتُونَ قَبلَ نَفادِ هذا الرِّزقِ الِاحتِياطِيِّ المُدَّخَرِ، أي إنَّ ذلك المَوتَ لا يَنجُمُ مِن عَدَمِ وُجُودِ الرِّزقِ، وإنَّما مِن مَرَضٍ ناشِئٍ مِن تَركِ عادةٍ اتَّخَذَها بسُوءِ الِاختِيارِ.
إنَّ التَّعَهُّدَ الرَّبّانِيَّ بالرِّزقِ وتكَفُّلَه له بنَفسِه حَقِيقةٌ ثابِتةٌ، فلا أَحَدَ يَمُوتُ مِن عَدَمِ الرِّزقِ، لِأنَّ الحَكِيمَ ذا الجَلالِ يَدَّخِرُ قِسمًا مِنَ الرِّزقِ الَّذي يُرسِلُه إلى جِسمِ الكائِنِ الحَيِّ احتِياطًا على هَيْئةِ الشُّحُومٍ والدُّهُونِ؛ بل يَدَّخَرُ قِسمًا مِنَ الرِّزقِ المُرسَلِ في زَوايا حُجَيراتِ الجِسمِ كي يُصرَفَ مِنه في واجِباتِ الجِسمِ عِندَ عَدَمِ مَجِيءِ الرِّزقِ مِنَ الخارِجِ.
فالَّذِينَ يَمُوتُونَ إنَّما يَمُوتُونَ قَبلَ نَفادِ هذا الرِّزقِ الِاحتِياطِيِّ المُدَّخَرِ، أي إنَّ ذلك المَوتَ لا يَنجُمُ مِن عَدَمِ وُجُودِ الرِّزقِ، وإنَّما مِن مَرَضٍ ناشِئٍ مِن تَركِ عادةٍ اتَّخَذَها بسُوءِ الِاختِيارِ.

[اللمعة الثانية عشرة]

اللمعة الثانية عشرة

تَخُصُّ نُكتتَينِ قُرآنيَّتينِ لمُناسبةِ سُؤالَينِ جُزئيَّينِ سألَهُما السيِّد رَأفَت‌

﴿بِاسمِهِ سُبحَانَهُ﴾

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾

 

السَّلامُ علَيكُم وعلى إِخوانِكُم ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه..‌

أَخِي الصَّادِقَ العَزِيزَ السَّيِّدَ رَأفَت، إنَّ أَسئِلَتَك في هذا الوَقتِ العَصِيبِ الَّذي أَعِيشُه، تَجعَلُني في وَضْعٍ مُحرِجٍ، لِأنَّ سُؤالَيْك -في هذه المَرّةِ- وإن كانا جُزئيَّينِ، إلّا أنَّني رَأَيتُهُما على جانِبٍ مِنَ الأهَمِّيّةِ، لِما لَهُما مِن عَلاقةٍ معَ نُكتَتَينِ قُرآنيَّتَينِ، ولِأنَّ سُؤالَكُم حَولَ الكُرةِ الأَرضِيّةِ يَتَعرَّضُ لِلشُّبُهاتِ الَّتي تَرِدُ مِن عِلمَيِ الجُغْرافيةِ والفَلَكِ حَولَ طَبَقاتِ الأَرضِ السَّبعِ والسَّبعِ الطِّباقِ.. لِذا نُبيِّنُ هُنا بَيانًا عِلْمِيًّا وكُلِّـيًّا ومُجمَلًا نُكتَتَينِ قُرآنيَّتَينِ بِغَضِّ النَّظَرِ عن جُزئيّةِ السُّؤالِ، وأنت بِدَوْرِك تَأخُذُ حِصَّتَك مِنه إِزاءَ سُؤالَيْك الجُزئيَّينِ.

[النكتة الأولى: سؤال حول الرزق]

النُّكتة الأولى: وهي عبارةٌ عن نقطتَينِ:

[النقطة الأولى: لا أحد يموت من عدم الرزق]

النُّقطة الأُولى:‌

قالَ تَعالَى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾.

بدَلالةِ هاتَينِ الآيتَينِ الكَرِيمَتَينِ: الرِّزقُ بِيَدِ القَدِيرِ الجَلِيلِ وَحْدَه، ويَخرُجُ مِن خَزِينةِ رَحْمَتِه دُونَ واسِطةٍ؛ فرِزقُ كلِّ ذِي حَياةٍ بعُهدةِ رَبِّه، فيَلزَمُ ألّا يَمُوتَ أَحَدٌ جُوعًا، ولكِن يَبدُو أنَّ الَّذِينَ يَمُوتُونَ جُوعًا، أو مِن فِقْدانِ الرِّزقِ كَثِيرُون!!

إنَّ حَلَّ هذا السِّرِّ وكَشفَ هذه الحَقِيقةِ هو أنَّ التَّعَهُّدَ الرَّبّانِيَّ بالرِّزقِ وتكَفُّلَه له بنَفسِه حَقِيقةٌ ثابِتةٌ، فلا أَحَدَ يَمُوتُ مِن عَدَمِ الرِّزقِ، لِأنَّ الحَكِيمَ ذا الجَلالِ يَدَّخِرُ قِسمًا مِنَ الرِّزقِ الَّذي يُرسِلُه إلى جِسمِ الكائِنِ الحَيِّ احتِياطًا على هَيْئةِ الشُّحُومٍ والدُّهُونِ؛ بل يَدَّخَرُ قِسمًا مِنَ الرِّزقِ المُرسَلِ في زَوايا حُجَيراتِ الجِسمِ كي يُصرَفَ مِنه في واجِباتِ الجِسمِ عِندَ عَدَمِ مَجِيءِ الرِّزقِ مِنَ الخارِجِ.

فالَّذِينَ يَمُوتُونَ إنَّما يَمُوتُونَ قَبلَ نَفادِ هذا الرِّزقِ الِاحتِياطِيِّ المُدَّخَرِ، أي إنَّ ذلك المَوتَ لا يَنجُمُ مِن عَدَمِ وُجُودِ الرِّزقِ، وإنَّما مِن مَرَضٍ ناشِئٍ مِن تَركِ عادةٍ اتَّخَذَها بسُوءِ الِاختِيارِ.

نعم، إنَّ الرِّزقَ الفِطْرِيَّ المُدَّخَرَ بصُورةِ شُحُومٍ في جِسمِ الكائِنِ الحَيِّ، إنَّما يَدُومُ ويَستَمِرُّ بمُعَدَّلِ أَربَعِينَ يَومًا كامِلًا، بل قد يَستَمِرُّ ضِعفَ ذلك، إِثرَ مَرَضٍ أوِ استِغراقٍ رُوحانِيٍّ، حتَّى كَتَبتِ الصُّحُفُ قَبلَ ثَلاثَ عَشْرةَ سَنةً -أصبح اليوم تِسعًا وثَلاثِينَ سَنةً- أنَّ رَجُلًا قد أَمضَى مُتَحدِّيًا سَبعِينَ يَومًا في سِجنِ لُندُن دُونَ أن يَذُوقَ شَيئًا وظَلَّ على صِحّةٍ وعافِيةٍ.

فما دامَ الرِّزقُ الفِطْرِيُّ يَدُومُ أَربَعِينَ يَومًا بل سَبعِينَ وثَمانِينَ يَومًا، وأنَّ تَجَلِّيَ اسمِ الرَّزّاقِ ظاهِرٌ على مَدِّ البَسِيطةِ بجَلاءٍ، وأنَّ الرِّزقَ يَتَدفَّقُ مِن حَيثُ لا يُحتَسَبُ مِنَ الأَثداءِ ويَخرُجُ مِنَ الأَكْمامِ؛ فلا بُدَّ أنَّ ذلك الِاسمَ يَمُدُّ الكائِنَ ويُسعِفُه ويَحُولُ بَينَه وبَينَ المَوتِ جُوعًا قبلَ انتِهاءِ الرِّزقِ الفِطْرِيِّ، ما لم يَتَدخَّلِ البَشَرُ المُتَلبِّسُ بالشَّرِّ بسُوءِ عَمَلِه.

ولِهذا فالَّذِينَ يَمُوتُونَ جُوعًا قَبلَ أَربَعِينَ يَومًا، لا يَمُوتُونَ بسَبَبِ عَدَمِ الرِّزقِ قَطْعًا، بل مِن عادةٍ ناشِئةٍ مِن سُوءِ الِاختِيارِ ومِن مَرَضٍ ناشِئٍ مِن تَركِ العادةِ، إذ: “تَركُ العاداتِ مِنَ المُهلِكاتِ” قاعِدةٌ مُطَّرِدةٌ. فيَصِحُّ القَولُ إِذًا: أنَّه لا مَوتَ مِنَ الجُوعِ.

[الرزق يتناسب عكسًا مع الاقتدار]

نعم، إنَّه مُشاهَدٌ أَمامَ الأَنظارِ أنَّ الرِّزقَ يَتَناسَبُ تَناسُبًا عَكسِيًّا معَ الِاقتِدارِ والِاختِيارِ، فمَثلًا: إنَّ الطِّفلَ قَبلَ أن يُولَدَ، ولَيسَ له مِنَ الِاختِيارِ والِاقتِدارِ شَيءٌ، ساكِنٌ في رَحِمِ الأُمِّ، يَسِيلُ إلَيْه رِزقُه دُونَ أن يَحتاجَ حتَّى إلى حَرَكةِ شَفَتَيه؛ وحِينَما يَفتَحُ عَينَيه لِلدُّنيا، ولا يَملِكُ اقتِدارًا ولا اختِيارًا، إلّا شَيئًا مِنَ القابِلِيّاتِ، وحِسًّا كامِنًا فيه، فإنَّه لا يَحتاجُ إلّا إلى حَرَكةِ إِلصاقِ فَمِه بالثَّدْيِ فحَسْبُ، وإذا بمَنابِـعِ الثَّدْيِ تَتَدفَّقُ برِزقٍ هو أَكمَلُ غِذاءٍ وأَسهَلُه هَضْمًا، وبأَلطَفِ صُورةٍ وأَعجَبِ فِطْرةٍ؛ ثمَّ كُلَّما نَما لَدَيه الِاقتِدارُ والِاختِيارُ احتَجَبَ عنه ذلك الرِّزقُ المَيسُورُ الجَمِيلُ شَيئًا فشَيئًا، حتَّى يَنقَطِعَ النَّبعُ ويَغُورَ، فيُرسَلُ إلَيْه رِزقُه مِن أَماكِنَ أُخرَى.. ولكِن لِأنَّ اقتِدارَه واختِيارَه لَيْسَا على استِعدادٍ بَعدُ لِتَتبُّعِ الرِّزقِ، فإنَّ الرَّزّاقَ الكَرِيمَ يَجعَلُ شَفَقةَ والِدَيه ورَحْمَتَهُما مُمِدّةً لِاختِيارِه ومُسعِفةً لِاقتِدارِه، ثمَّ عِندَما يَتَكامَلُ الِاقتِدارُ والِاختِيارُ، فلا يَعدُو الرِّزقُ نَحوَه، ولا يُساقُ إلَيْه، بل يَسكُنُ قائِلًا: تَعالَ اطْلُبْني، فَتِّشْ عنِّي وخُذنِي.

فالرِّزقُ إِذًا مُتَناسِبٌ تَناسُبًا عَكسِيًّا معَ الِاقتِدارِ والِاختِيارِ، بل إنَّ حَيَواناتٍ لا اقتِدارَ لَها ولا اختِيارَ تَعِيشُ أَفضَلَ وأَحسَنَ مِن غَيرِها كما أَوْضَحْنا ذلك في رَسائِلَ عِدّةٍ.

[النقطة الثانية: حول كرامةِ أحوال السيد البدوي]

النُّقطةُ الثَّانيةُ:‌

لِلإِمكانِ أَنواعٌ وأَقسامٌ هي: الإِمكانُ العَقلِيُّ، والإِمكانُ العُرفِيُّ، والإِمكانُ العادِيُّ.. فإن لم تَكُنِ الحادِثةُ الواقِعةُ ضِمنَ الإِمكانِ العَقلِيِّ، فإنَّها تُرَدُّ وتُرفَضُ؛ وإن لم تَكُن ضِمنَ الإِمكانِ العُرفِيِّ أَيضًا فإنَّها تكُونُ مُعجِزةً، ولا تكُونُ كَرامةً بيُسْرٍ؛ وإن لم يَكُن لها نَظِيرٌ عُرفًا وقاعِدةً فلا تُقبَلُ إلّا ببُرهانٍ قاطِعٍ بدَرَجةِ الشُّهُودِ.

فبِناءً على هذا، فإنَّ الأَحوالَ الخارِقةَ لِلعادةِ المَروِيّةَ عنِ السَّيِّدِ أَحمَدَ البَدَوِيِّ (قُدِّسَ سِرُّه) الَّذي لم يَذُق طَعامًا طَوالَ أَربَعِينَ يَومًا، إنَّما هي ضِمنَ دائِرةِ الإِمكانِ العُرفِيِّ، وتكُونُ كَرامةً له، بل رُبَّما هي عادةٌ خارِقةٌ له.

نعم، إنَّ رِواياتٍ مُتَواتِرةً تُنقَلُ عنِ السَّيِّدِ أَحمَدَ البَدَوِيِّ (قُدِّسَ سِرُّه) أنَّه في أَثناءِ استِغراقِه الرُّوحانِيِّ كانَ يَأكُلُ كلَّ أَربَعِينَ يَومًا مَرّةً واحِدةً؛ فالحادِثةُ وقَعَت فِعلًا، ولكِن لَيسَت دائِمًا، وإنَّما حَدَثَت بَعضَ الأَحيانِ مِن قَبِيلِ الكَرامةِ.. وهُناك احتِمالٌ أنَّ حالَتَه الِاستِغراقِيّةَ كانَت غَيرَ مُحتاجةٍ إلى طَعامٍ، لِذا أَصبَحَت بالنِّسبةِ إلَيْه في حُكمِ العادةِ.

وقد رُوِيَت حَوادِثُ كَثِيرةٌ مَوثُوقةٌ مِن هذا النَّوعِ مِنَ الأَعمالِ الخارِقةِ عن أَوْلِياءَ كَثِيرِينَ مِن أَمثالِ السَّيِّدِ أَحمَدَ البَدَوِيِّ (قُدِّسَ سِرُّه).

فإن كانَ الرِّزقُ المُدَّخَرُ يَدُومُ أَكثَرَ مِن أَربَعِينَ يَومًا -كما أَثبَتْنا في النُّقطةِ الأُولَى- وأنَّ الِانقِطاعَ عنِ الطَّعامِ طَوالَ تلك المُدّةِ مِنَ الأُمُوِر المُمكِنةِ عادةً، وأنَّه قد رُوِيَتْ تلك الحالاتُ رِوايةً مَوثُوقةً مِن أَشخاصٍ أَفذاذٍ، فلا بُدَّ ألّا تُنكَرَ قَطْعًا.

[السؤال الثاني: حول الأرض والسماوات السبع]

السُّؤالُ الثّاني: لِمُناسَبةِ هذا السُّؤالِ نُبيِّنُ مَسأَلتَينِ مُهِمَّتَينِ لِأنَّه: لَمّا عَجَز أَصحابُ عُلُومِ الجُغْرافيةِ والفَلَكِ بقَوانِينِها القاصِرةِ ودَساتِيرِها الضَّيِّقةِ ومَوازِينِها الصَّغِيرةِ عن أن يَرقَوْا إلى سَماواتِ القُرآنِ، وأن يَكشِفُوا عنِ الطَّبَقاتِ السَّبعِ لِمَعانِي نُجُومِ آياتِه الجَلِيلةِ، بَدَؤُوا يُحاوِلُونَ الِاعتِراضَ على الآيةِ الكَرِيمةِ وإِنكارَها بحَماقةٍ وبَلاهةٍ.

[المسألة الأولى: كون الأرض ذات طبقاتٍ سبع]

المَسأَلةُ المُهِمّةُ الأُولَى:‌

تَخُصُّ كَونَ الأَرضِ ذاتَ سَبعِ طَبَقاتٍ كالسَّماواتِ.

هذه المَسأَلةُ تَبدُو لِفَلاسِفةِ العَصرِ الحَدِيثِ غَيرَ ذاتِ حَقِيقةٍ، لا تَقبَلُها عُلُومُهُمُ الَّتي تَخُصُّ الأَرضَ والسَّماواتِ، فيتَّخِذُونَ مِن هذه المَسأَلةِ ذَرِيعةً لِلِاعتِراضِ على بَعضِ الحَقائِقِ القُرآنيّةِ، لِذا نَكتُبُ بِضعَ إِشاراتٍ مُختَصَرةً تَخُصُّ هذه المَسأَلةَ.

[الإشارة الأولى: الفرق بين المعنى وأفراد المعنى]

الأُولَى:‌

أوَّلًا: إنَّ مَعنَى الآيةِ شَيءٌ، وأَفرادَ ذلك المَعنَى وما يَشتَمِلُ علَيْه مِن تلك المَعانِي مِنَ الجُزئيّاتِ شَيءٌ آخَرُ؛ فإن لم يُوجَد فَردٌ مِن أَفرادٍ كَثِيرةٍ لِذلِك المَعنَى الكُلِّيِّ فلا يُنكَرُ ذلك المَعنَى الكُلِّيُّ.. عِلْمًا أنَّ هُنالِك سَبعةَ أَفرادٍ ظاهِرةٍ مُصَدِّقةٍ لِلأَفرادِ الكَثِيرةِ لِلمَعنَى الكُلِّيِّ لِلسَّماواتِ السَّبعِ والأَرَضِينَ السَّبعِ.

ثانيًا: إنَّ صَراحةَ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ..﴾ لا تَذكُرُ أنَّ الأَرضَ سَبعُ طَبَقاتٍ، بل ظاهِرُها يُفِيدُ: أنَّ اللهَ خَلَق الأَرضَ جاعِلًا مِنها مَسكَنًا لِمَخلُوقاتِه كالسَّماواتِ السَّبعِ، فلا تَقُولُ الآيةُ: خُلِقَتِ الأَرضُ سَبعَ طَبَقاتٍ.. أمّا المِثلِيّةُ (لِلسَّماواتِ) فهِي تَشبِيهٌ بها مِن حَيثُ كَونُها مَخلُوقةً ومَسكَنًا لِلمَخلُوقاتِ.

[الإشارة الثانية: معنى الطبقات السبع للأرض]

الإشارةُ الثّانيةُ:‌

إنَّ الأَرضَ مَهْما كانَت صَغِيرةً جِدًّا بالنِّسبةِ لِلسَّماواتِ، إلّا أنَّها تَعدِلُها وتُوازِيها مِن حَيثُ إنَّها في حُكمِ مَعرِضٍ لِلمَصنُوعاتِ الإِلٰهِيّةِ الَّتي لا تُحَدُّ ومَوضِعِ إِشهارِها ومَركَزِها؛ فهِي بهذا تَعدِلُ السَّماواتِ العَظِيمةَ وتُوازِيها كما يَعدِلُ قَلبُ الإِنسانِ الجَسَدَ، إذ هي كالقَلبِ والمَركَزِ المَعنَوِيِّ لِلسَّماواتِ.

ولِهذا فقد فُهِمَ مِنَ الآياتِ الكَرِيمةِ أنَّ الأَرضَ سَبعُ طَبَقاتٍ:

إذِ الأَرضُ سَبعةُ أَقالِيمَ مُنذُ القَدِيمِ بمِقياسٍ مُصَغَّرٍ.

ثمَّ هي سَبعُ قارّاتٍ وهِي المَعرُوفةُ باسمِ أَورُوبّا وإِفريقيا وأُوقْيانُوسيا (أُستُراليا) وآسِيَتَينِ وأَمرِيكيَّتَنِ.

ثمَّ هي سَبعُ قِطَعٍ مَعرُوفةٍ في هذا الوَجهِ وفي الوَجهِ الآخَرِ: العالَمِ الجَدِيدِ، وهِي الشَّرقُ والغَربُ والشَّمالُ والجَنُوبُ معَ البِحارِ.

ثمَّ هي سَبعُ طَبَقاتٍ مُتَّصِلةٍ مُتَبايِنةٍ ابتِداءً مِن مَركَزِها إلى قِشرَتِها الظّاهِرةِ، كما هو ثابِتٌ عِلْمًا.

ثمَّ هي ذاتُ عَناصِرَ سَبعةٍ مَشهُورةٍ يُعبَّرُ عنها بالطَّبَقاتِ السَّبعِ والمُتَضمِّنةِ لِسَبعِينَ عُنصُرًا مِنَ العَناصِرِ الجُزئيّةِ البَسِيطةِ الَّتي أَصبَحَت هي مَدارَ الحَياةِ.

ثمَّ الطَّبَقاتُ السَّبعُ والعَوالِمُ السَّبعةُ المُتَكوِّنةُ مِنَ العَناصِرِ الأَربَعةِ -الماءِ والهَواءِ والنّارِ والتُّرابِ- والمَوالِيدُ الثَّلاثةُ وهِي المَعادِنُ والنَّباتاتُ والحَيَواناتُ.

ثمَّ عَوالِمُ طَبَقاتِ الأَرضِ السَّبعِ، الثّابِتةُ بشَهادةِ كَثِيرٍ مِن أَهلِ الكَشفِ وأَصحابِ الشُّهُودِ والَّتي هي مَساكِنُ الجِنِّ والعَفارِيتِ ومَقَرّاتُ مَخلُوقاتٍ مُختَلِفةٍ أُخرَى ذَواتِ شُعُورٍ وحَياةٍ.

ثمَّ إنَّها سَبعُ طَبَقاتٍ إِشارةً إلى وُجُودِ سَبعِ كُراتٍ أُخرَى شَبِيهةٍ بكُرَتِنا الأَرضِيّةِ، هي مَساكِنُ ذَوِي الحَياةِ ومَقَرّاتٌ لها، أي: إنَّ كُرةَ الأَرضِ سَبعُ طَبَقاتٍ إِشارةً إلى وُجُودِ سَبعِ كُراتٍ أَرضِيّةٍ.

هكَذا فُهِمَ مِنَ الآياتِ هذه المَعانِي، فإذًا يَتَحقَّقُ وُجُودُ سَبعِ طَبَقاتٍ لِلأَرضِ في سَبعةِ أَنواعٍ مِنَ الطَّبَقاتِ وفي سَبعةِ أَشكالٍ وأَنماطٍ مِنها.

أمّا المَعنَى الثّامِنُ وهُو الأَخِيرُ فلَيسَ داخِلًا في المَعانِي السَّبعةِ المَعدُودةِ، وإنَّما له أَهَمِّيّةٌ مِن ناحِيةٍ أُخرَى.

[الإشارة الثالثة: لا إسراف في الخلق وجميع العوالم معمورة]

الإشارةُ الثّالثةُ:‌

لَمّا كانَ الخالِقُ الحَكِيمُ لا يُسرِفُ في شَيءٍ، ولا يَخلُقُ عَبَثًا، وأنَّ المَوجُوداتِ إنَّما وُجِدَت لِذَوِي الشُّعُورِ، وتَجِدُ كَمالَها بذَوِي الشُّعُورِ، بل تَعْمُرُ بِذَوِي الشُّعُورِ، لِتُنقَذَ مِنَ العَبَثِ؛ وأنَّ ذلك الحَكِيمَ المُطلَقَ والقَدِيرَ الجَلِيلَ يَعمُرُ عُنصُرَ الهَواءِ وعالَمَ الماءِ وطَبَقاتِ التُّرابِ بما لا يُحَدُّ مِن ذَوِي الحَياةِ، كما هو مُشاهَدٌ؛ وكما أنَّ الهَواءَ والماءَ لا يَحُولانِ دُونَ جَوَلانِ الحَيَواناتِ كَذلِك لا تَمنَعُ المَوادُّ الكَثِيفةُ كالتُّرابِ والحَجَرِ سَيرَ الكَهرَباءِ والأَشِعّةِ السِّينيّةِ (رُونتكِن).. فلا بُدَّ أنَّ ذلك الحَكِيمَ ذا الكَمالِ والصّانِعَ الباقِيَ لا يَتْرُكُ طَبَقاتِ الأَرضِ السَّبعَ الكُلِّيّةَ المُتَّصِلةَ ببَعضِها، ولا كُهُوفَها ومَيادِينَها الواسِعةَ وعَوالِمَها، خالِيةً خاوِيةً، ابتِداءً مِن مَركَزِها إلى قِشرَتِها الظّاهِرةِ الَّتي هي مَسكَنُنا.

فلا جَرَمَ أنَّه قد عَمَرَ تلك العَوالِمَ وخَلَق لها مَخلُوقاتٍ ذَواتَ شُعُورٍ تُناسِبُها وتُلائِمُها وأَسكَنَهُم فيها، ويَلزَمُ أن تكُونَ هذه المَخلُوقاتُ مِن أَجناسِ المَلائِكةِ والرُّوحانيّاتِ الَّتي تكُونُ أَكثَفَ الطَّبَقاتِ وأَصلَبَها بالنِّسبةِ إلَيْها كالبَحرِ إلى السَّمَكِ والهَواءِ إلى الطَّيرِ، بل يَقتَضِي أن تكُونَ نِسبةُ النّارِ الهائِلةِ المُرعِبةِ في مَركَزِ الأَرضِ إلى تلك المَخلُوقاتِ الشّاعِرةِ كنِسبةِ حَرارةِ الشَّمسِ إلَيْنا، وحَيثُ إنَّ الرُّوحانيّاتِ الشّاعِرةَ مَخلُوقاتٌ مِن نُورٍ، فالنَّارُ تكُونُ كالنُّورِ لَهُم.

[الإشارة الرابعة: مشهودات أهل الكشف لطبقات الأرض]

الإشارةُ الرّابعةُ:‌

لقد ذُكِرَ في “المَكتُوبِ الثّامِنَ عَشَرَ” مِثالٌ حَولَ تَصوِيراتٍ خارِجةٍ عن نِطاقِ العَقلِ بَيَّنَها أَهلُ الكَشفِ فيما يَخُصُّ عَجائِبَ طَبَقاتِ الأَرضِ، وخُلاصَتُه:‌

أنَّ كُرةَ الأَرضِ بِذْرةٌ في عالَمِ الشَّهادةِ، بَينَما هي في عالَمِ المِثالِ والبَرزَخِ كشَجَرةٍ ضَخْمةٍ تُضارِعُ عَظَمَتُها السَّماواتِ، فمُشاهَدةُ أَهلِ الكَشفِ لِطَبَقةِ الأَرضِ الخاصّةِ بالعَفارِيتِ في كُرةِ الأَرضِ بمَسافةِ أَلفِ سَنةٍ لَيسَت مُشاهَدَتُهُم لها في بِذْرةِ الأَرضِ الَّتي تَخُصُّ عالَمَ الشَّهادةِ، بل هي تَظاهُرٌ لِطَبَقاتِ الأَرضِ وفُرُوعِها المُمتَدّةِ في عالَمِ المِثالِ.

فإن كانَت طَبَقةٌ واحِدةٌ مِن طَبَقاتِ الأَرضِ لا أَهَمِّيةَ لها ظاهِرًا، قد حازَت هذه الأَهَمِّيّةَ العُظمَى في عالَمٍ آخَرَ، ألا يَصِحُّ أن يُقالَ إِذًا: إنَّ الأَرضَ هي سَبعُ طَبَقاتٍ تُقابِلُ سَبعَ سَماواتٍ؟ فالآياتُ الكَرِيمةُ تُشِيرُ بإِيجازٍ مُعجِزٍ إلى تلك النِّقاطِ المَذكُورةِ وتُنبِّهُ علَيْها، وذلك بإِظهارِها هذه الأَرضَ الصَّغِيرةَ جِدًّا مُكافِئةً لِطَبَقاتِ السَّماواتِ السَّبعِ.

[المسألة الثانية: في بيان ما هن السموات السبع]

المَسأَلةُ المُهِمّةُ الثّانيةُ:‌

قَولُه تَعالَى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ و ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.

هاتانِ الآيَتانِ وأَمثالُهُما مِنَ الآياتِ الكَرِيمةِ تُبيِّنُ أنَّ السَّماواتِ سَبعٌ، نَرَى مِنَ الأَنسَبِ اختِصارَ ما ذَكَرناه في تَفسِيرِ “إِشاراتِ الإِعجازِ” الَّذي أُلِّف في جَبْهةِ القِتالِ في السَّنةِ الأُولَى مِنَ الحَربِ العالَمِيّةِ الأُولَى، إذ جاءَت فيه هذه المَسأَلةُ في غايةِ الإِجمالِ والِاختِصارِ الشَّدِيدِ بسَبَبِ ظُرُوفِ الحَربِ.

إنَّ الحِكْمةَ القَدِيمةَ قد تَصَوَّرَت أنَّ السَّماواتِ تَسَعُ سَماواتٍ، فزادَت على السَّماواتِ السَّبعِ: العَرشَ والكُرسِيَّ الوارِدَينِ في الشَّرعِ، فكانَ تَصوِيرًا عَجِيبًا لها؛ ولقدِ استَوْلَت على البَشَرِيّةِ طَوالَ عُصُورٍ مَدِيدةٍ تلك التَّعابِيرُ الرَّنّانةُ لِفَلاسِفةِ الحِكْمةِ القَدِيمةِ وحُكَمائِها، حتَّى إنَّ مُفَسِّرِينَ كَثِيرِينَ اضطُرُّوا إلى إِمالةِ ظَواهِرِ الآياتِ إلى مَذهَبِهِم مِمّا أَدَّى إلى إِسدالِ سِتارٍ على إِعجازِ القُرآنِ، إلى حَدٍّ مّا.

أمّا الحِكْمةُ الجَدِيدةُ المُسَمّاةُ بالفَلسَفةِ الحَدِيثةِ فتَقُولُ بما يُفِيدُ إِنكارَ السَّماواتِ إِزاءَ ما كانَت تَدَّعِيه الفَلسَفةُ القَدِيمةُ مِن أنَّ السَّماواتِ غَيرُ قابِلةٍ لِلِاختِراقِ والِالتِئامِ، فقد فَرَّط هَؤُلاءِ كما أَفرَطَ أُولَئِك، وعَجَز الِاثنانِ عن بَيانِ الحَقِيقةِ بَيانًا شافِيًا.

أمّا حِكْمةُ القُرآنِ الكَرِيمِ المُقَدَّسةُ فإنَّها تَدَعُ ذلك الإِفراطَ والتَّفرِيطَ، مُتَّخِذةً الحَدَّ الوَسَطَ، فهِي تقُولُ:

إنَّ الصَّانِعَ جلَّ جَلالُه خَلَق سَبعَ سَماواتٍ طِباقًا، أمّا النُّجُومُ السَّيّارةُ فهِي تَسبَحُ وتُسَبِّحُ في السَّماءِ كالأَسماكِ في البَحرِ؛ وقد جاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: “إنَّ السَّماءَ مَوجٌ مَكفُوفٌ” أي: كبَحرٍ استَقَرَّت أَمواجُه.. هذه الحَقِيقةُ نُثبِتُها بسَبعِ قَواعِدَ وبسَبعةِ وُجُوهٍ مِنَ المَعانِي، وباختِصارٍ شَدِيدٍ:

[سبع قواعد لفهم المسألة]

القاعِدةُ الأُولَى: إنَّه قد ثَبَت عِلْمًا وحِكْمةً “فَلسَفةً” أنَّ الفَضاءَ الوَسِيعَ هذا الَّذي لا حَدَّ له مَملُوءٌ بمادّةٍ تُسَمَّى الأَثِيرَ، ولَيسَ فراغًا غَيرَ مُتَناهٍ.

الثّانيةُ: إنَّه ثابِتٌ عِلْمًا وعَقلًا بل مُشاهَدةً: أنَّ رابِطةَ قَوانِينِ الأَجرامِ العُلوِيّةِ -كالجاذِبِيّةِ والدّافِعةِ- وناشِرةَ القُوَى المَوجُودةِ في المادّةِ -كالضِّياءِ والحَرارةِ والكَهرَباءِ- وناقِلَتَها إنَّما هي مادّةٌ مَوجُودةٌ في ذلك الفَضاءِ مالِئةٌ له.

الثّالثةُ: إنَّه ثابِتٌ بالتَّجارِبِ أنَّ مادّةَ الأَثيرِ -معَ بَقائِها أَثِيرًا- لها أَنماطٌ مُختَلِفةٌ مِنَ الأَشكالِ، ولها صُوَرٌ مُتَنوِّعةٌ كسائِرِ المَوادِّ، فكما يَحصُلُ ثَلاثةُ أَنواعٍ مِن أَشكالِ المَوادِّ: الغازِيَّةِ والسَّائِلةِ والصُّلبةِ مِنَ المادّةِ نَفسِها كالبُخارِ والماءِ والثَّلجِ، كَذلِك لا مانِعَ عَقلًا مِن أن تكُونَ سَبعةُ أَنواعٍ مِنَ الطَّبَقاتِ مِن مادّةٍ أَثيرِيّةٍ، ولا اعتِراضَ علَيْه.

الرّابعةُ: إنَّه لو أُنعِمَ النَّظَرُ في الأَجرامِ العُلْويّةِ يُرَى في طَبَقاتِها تَخالُفٌ، فكَما أنَّ الطَّبَقةَ الَّتي تَحوِي دَربَ التَّبّانةِ المُشاهَدَ كسَحابٍ، لا تُشبِهُ طَبَقةَ النُّجُومِ الثَّوابِتِ البَتّةَ، حتَّى كأنَّ نُجُومَ طَبَقةِ الثَّوابِتِ ثِمارٌ ناضِجةٌ مُكتَمِلةٌ كفَواكِهِ الصَّيفِ، بَينَما نُجُومٌ لا تُحَدُّ لِدَربِ التَّبّانةِ المُشاهَدِ كسَحابٍ تَنعَقِدُ مُجَدَّدًا وتَتَكامَلُ؛ وطَبَقةُ الثَّوابِتِ نَفسُها لا تُشبِهُ أَيضًا المَنظُومةَ الشَّمسِيّةَ بحَدْسٍ صادِقٍ.. وهكَذا يُدرَكُ بالحَدْسِ والحِسِّ تَخَالُفُ المَنظُوماتِ السَّبعِ والطَّبَقاتِ السَّبعِ.

الخامِسةُ: لقد ثَبَت حَدْسًا وحِسًّا واستِقراءً وتَجرِبةً أنَّه إذا وَقَع التَّشكُّلُ والتَّنظِيمُ في مادّةٍ وصُنِعَت مِنها مَصنُوعاتٌ أُخرَى فإنَّها تَأخُذُ أَشكالًا مُختَلِفةً وطَبَقاتٍ مُتَباينةً.

فمَثلًا: حِينَما تَبدَأُ التَّشَكُّلاتُ في مَعدِنِ الأَلماسِ يَتَولَّدُ مِنه الرَّمادُ والفَحمُ والأَلماسُ، وحِينَما تَبدَأُ النّارُ بالتَّشَكُّلِ تَتَميَّزُ جَمْرًا ولَهَبًا ودُخانًا، وعِندَما يُمزَجُ مُولِّدُ الماءِ ومُوَلِّدُ الحُمُوضةِ يَتَشكَّلُ مِنهُما الماءُ والثَّلجُ والبُخارُ.

يُفهَمُ مِن هذا أنَّه إذا وَقَع التَّشَكُّلُ في مادّةٍ مّا تَنقَسِمُ إلى طَبَقاتٍ، لِذا فالقُدرةُ الفاطِرةُ لَمّا شَرَعَت بالتَّشكِيلِ في مادّةِ الأَثيرِ خَلَقَت مِنها سَبعةَ أَنواعٍ مِن سَماواتٍ على طَبَقاتٍ مُختَلِفةٍ كما جاءَ في قَولِه تَعالَى: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾.

السَّادِسةُ: إنَّ هذه الأَماراتِ المَذكُورةَ تَدُلُّ بالضَّرُورةِ على وُجُودِ السَّماواتِ وعلى تَعَدُّدِها، فما دامَتِ السَّماواتُ مُتَعدِّدةً قَطْعًا، وحَيثُ إنَّ المُخبِرَ الصَّادِقَ قد قالَ بلِسانِ القُرآنِ: هي سَبعةٌ، فهِي سَبعةٌ قَطْعًا.

السَّابعةُ: أنَّ التَّعابِيرَ: (سَبعةٌ، وسَبعُونَ وسبعُ مِئةٍ) وأَمثالَها تُفِيدُ الكَثْرةَ في أَسالِيبِ اللُّغةِ العَرَبيّةِ، أي: يُمكِنُ أن يَضُمَّ تلك الطَّبَقاتِ السَّبعَ الكُلِّيّةَ طَبَقاتٌ كَثِيرةٌ جِدًّا.

حاصِلُ الكَلامِ: إنَّ القَدِيرَ ذا الجَلالِ خَلَق سَبعَ سَماواتٍ طِباقًا مِن مادّةِ الأَثِيرِ، وسَوّاها ونَظَّمَها بنِظامٍ عَجِيبٍ دَقِيقٍ، وزَرَع فيها النُّجُومَ؛ ولَمّا كانَ القُرآنُ الكَرِيمُ خِطابًا أَزلِيًّا لِلجِنِّ والإِنسِ بطَبَقاتِهِم كافّةً، فكُلُّ طَبَقةٍ مِنَ البَشَرِ تَأخُذُ إِذًا حِصَّتَها مِن كلِّ آيةٍ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ، وكلُّ آيةٍ أَيضًا تُشبِعُ أَفهامَ كلِّ طَبَقةٍ مِنَ النّاسِ، أي: لِكُلِّ آيةٍ مَعانٍ مُتَنوِّعةٌ مُتَعدِّدةٌ ضِمْنًا وإِشارةً.

نعم، إنَّ سَعةَ خِطابِ القُرآنِ وشُمُولَ مَعانِيه وإِشاراتِه، ومُراعاتَه دَرَجاتِ أَفهامِ الطَّبَقاتِ عامّةً ومَداركِهِم -مِن أَدنَى العَوامِّ إلى أَخَصِّ الخَواصِّ- تُبيِّنُ أنَّ كلَّ آيةٍ لها وَجْهٌ مُتَوجِّهٌ إلى كلِّ طَبَقةٍ مِنَ النّاسِ.

[سبع معانٍ لكون السموات سبعًا]

ولِأَجلِ هذا فقد فَهِمَتْ سَبعُ طَبَقاتٍ بَشَرِيّةٍ سَبعَ طَبَقاتٍ مُختَلِفةٍ مِنَ المَعانِي ضِمنَ المَعنَى الكُلِّيِّ لِلآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ كالآتي:

يَفهَمُ ذَوُو النَّظَرِ القاصِرِ والفِكرِ المَحدُودِ مِنَ النّاسِ أنَّها: طَبَقاتُ الهَواءِ النَّسِيمِيّةُ.

والَّذِينَ اغتَرُّوا بعِلمِ الفَلَكِ يَفهَمُونَها: النُّجُومَ المَعرُوفةَ بالسَّيّاراتِ السَّبعِ ومَداراتِها لَدَى النّاسِ.

ومِنَ النّاسِ مَن يَفهَمُها: سَبعَ كُراتٍ سَماوِيّةٍ أُخرَى شَبِيهةٍ بأَرضِنا الَّتي هي مَقَرُّ ذَوِي الحَياةِ.

وتَفهَمُها طائِفةٌ مِنَ البَشَرِ: سَبعَ مَنظُوماتٍ شَمسِيّةٍ أُولَاها مَنظُومَتُنا هذه، وانقِسامَ المَنظُومةِ الشَّمسِيّةِ إلى سَبعِ طَبَقاتٍ.

وطائِفةٌ أُخرَى مِنَ البَشَرِ تَفهَمُها: انقِسامَ تَشَكُّلاتِ الأَثِيرِ إلى سَبعِ طَبَقاتٍ.

وطَبَقةٌ أُخرَى واسِعةُ الإِدراكِ والفَهمِ، تَفهَمُ: أنَّ السَّماواتِ المَرئِيّةَ كلَّها، المُرَصَّعةَ بالنُّجُومِ لَيسَت إلّا سَماءً واحِدةً وهِي السَّماءُ الدُّنيا، وهُناك سِتُّ سَماواتٍ أُخرَى فَوقَها لا تُرَى.

وطَبَقةٌ سامِيةٌ مِنَ النّاسِ وهُمُ الطَّبَقةُ السّابِعةُ ذَوُو إِدراكٍ عالٍ لا يَرَونَ انحِصارَ سَبعِ سَماواتٍ في عالَمِ الشَّهادةِ فقط، بل هي سَبعُ سَماواتٍ تَسْقُفُ وتُحِيطُ بالعَوالِمِ الأُخرَوِيّةِ والغَيبِيّةِ والدُّنيَوِيّةِ والمِثاليّةِ.

[صِدقُ فردٍ واحدٍ من المعنى كافٍ في صدق الآية]

وهكَذا، ففي كُلِّـيّةِ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ مَعانٍ جُزئيّةٌ أُخرَى كَثِيرةٌ جِدًّا مِثلُ هذه الطَّبَقاتِ السَّبعِ المَذكُورةِ مِنَ المَعانِي الَّتي تُراعِي أَفهامَ سَبعِ طَبَقاتٍ مِنَ النّاسِ؛ فكُلٌّ يَستَفِيضُ بقَدْرِ استِعدادِه مِن فَيضِ القُرآنِ، ويَأخُذُ رِزقَه مِنَ المائِدةِ السَّماوِيّةِ العامِرةِ.

فما دامَت هذه الآيةُ الكَرِيمةُ تَحوِي مَعانِيَ مُصادِقةً لها إلى هذا الحَدِّ، فإنَّ إِنكارَ الفَلاسِفةِ الحاليِّينَ المَحرُومِينَ مِنَ العَقلِ، وجُحُودَ عُلَماءِ الفَلَكِ المَخمُورِينَ السَّماواتِ، واتِّخاذَ هذا الإِنكارِ وَسِيلةَ تَعَرُّضٍ لِأَمثالِ هذه الآيةِ الجَلِيلةِ، إن هو إلّا كَرَمْيِ الصِّبيانِ الفاسِدِي المِزاجِ النُّجُومَ العَواليَ بالحِجارةِ بُغيةَ إِسقاطِ واحِدةٍ مِنها! ذلك:

لِأنَّ مَعنًى واحِدًا لِهذِه الآيةِ مِن بينِ تلك المَعانِي الكَثِيرةِ إنْ كان صِدْقًا فإنَّ المَعنَى الكُلِّيَّ يكُونُ صِدْقًا وصَوابًا، حتَّى لو كان فَردٌ واحِدٌ مِن تلك المَعانِي، وليس له وُجُودٌ في الواقِعِ إلّا في أَلْسِنةِ النّاسِ، لَصَحَّ أن يكُونَ داخِلًا ضِمنَ ذلك المَعنَى الكُلِّيِّ، رِعايةً لِأَفكارِ العامّةِ؛ فكَيفَ ونَحنُ نَرَى كَثِيرًا جِدًّا مِن أَفرادِه صِدْقًا وحَقِيقةً.

ألا تَرَى هَؤُلاءِ المَغمُورِينَ بسُكْرِ الجُغْرافيةِ وعِلمِ الفَلَكِ الَّذِينَ لا يُنصِفُونَ، كَيفَ يَقَعُونَ في خَطَأٍ فيُغمِضُونَ عُيُونَهُم عنِ المَعنَى الكُلِّيِّ الَّذي هو حَقٌّ وحَقِيقةٌ وصِدْقٌ، فلا يَرَوْنَ مُصَدِّقاتِ الآيةِ الكَثِيرةِ جِدًّا، ويَتَوهَّمُونَ مَعنَى الآيةِ مُنحَصِرًا في فَردٍ خَياليٍّ عَجِيبٍ؛ فرَشَقُوا الآيةَ الكَرِيمةَ بالحِجارةِ، فارتَدَّت على رُؤُوسِهِم فكَسَرَتْها، ففَقَدُوا صَوابَهُم وإِيمانَهُم.

مُحَصَّلُ الكَلامِ: لَمّا عَجَز أَربابُ الأَفكارِ المادِّيّةِ المُلحِدةِ كالشَّياطِينِ والجِنِّ، مِنَ الصُّعُودِ إلى الطَّبَقاتِ السَّبعِ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ النَّازِلِ على القِراءاتِ السَّبعِ والوُجُوهِ السَّبعةِ والمُعجِزاتِ السَّبعِ والحَقائِقِ السَّبعِ والأَركانِ السَّبعةِ، جَهِلُوا ما في الآياتِ مِن مَعانٍ، فيُخبِرُونَ أَخبارًا كاذِبةً خاطِئةً، فيَنزِلُ على رُؤُوسِهِم شِهابٌ رَصَدٌ مِن نُجُومِ تلك الآياتِ كالتَّحقِيقاتِ العِلمِيّةِ المَذكُورةِ فتُحرِقُهُم.

نعم، إنَّه لا يُمكِنُ الرُّقيُّ إلى تلك السَّماواتِ القُرآنيّةِ بفَلسَفةِ فَلاسِفةٍ يَحمِلُونَ أَفكارًا شَيْطانيّةً خَبِيثةً، وإنَّما يُمكِنُ الصُّعُودُ إلى نُجُومِ تلك الآياتِ بمِعراجِ الحِكْمةِ الحَقِيقيّةِ، ويُمكِنُ الطَّيَرانُ إلَيْها بجَناحِ الإِيمانِ والإِسلامِ.

﴿اللَّهُمَّ صَلِّ على شَمسِ سَماءِ الرِّسالةِ وقَمَرِ فَلَكِ النُّبوّةِ، وعلى آلِه وصَحبِه نُجُومِ الهُدَى لِمَنِ اهتَدَى﴾

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

﴿اللَّهُمَّ يا رَبَّ السَّماواتِ والأَرَضِينَ، زَيِّنْ قُلُوبَ كاتِبِ هذه الرِّسالةِ ورُفَقائِه بنُجُومِ حَقائِقِ القُرآنِ والإِيمانِ… آمِينَ﴾

❀   ❀   ❀

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى