اللمعة الثالثة عشرة: حكمة الاستعاذة
[هذه اللمعة تتحدث عن الشياطين: إثبات وجودهم، وحكمة خلقهم، وأخطر دسائسهم، وحكمة الاستعاذة منهم]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

[اللمعة الثالثة عشرة]
اللمعة الثالثة عشرة
تَخُصُّ حِكْمةَ «أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ»
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾
هذا البَحثُ يَخُصُّ حِكْمةَ الِاستِعاذةِ مِنَ الشَّيطانِ.. ستُكتَبُ ثَلاثَ عَشْرةَ إِشارةً بشَكلٍ مُجمَلٍ، حَيثُ إنَّ قِسمًا مِنه قد أُثبِتَ ووُضِّح في “الكَلِمةِ السّادِسةِ والعِشرِينَ”، وفي رَسائِلَ أُخرَى بصُورةٍ مُتَفرِّقةٍ.
[الإشارة الأولى: لماذا الاستعاذة من الشيطان وليس له دخل في الخلق والإيجاد؟]
الإشارةُ الأُولَى:
سُؤالٌ: إنَّ الشَّياطِينَ ليس لَهُم تَدَخُّلٌ في شُؤُونِ الخَلقِ والإِيجادِ في الكَونِ، وإنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى -برَحْمَتِه وعِنايتِه- ظَهِيرٌ لِأَهلِ الحَقِّ، فَضْلًا عن أنَّ جَمالَ الحَقِّ وحُسْنَه يُشَوِّقُ أَهلَه ويُؤيِّدُهُم، بعَكسِ الضَّلالةِ المُستَهجَنةِ بقُبحِها المُنفِّرِ، فما الحِكْمةُ في أنَّ حِزبَ الشَّيطانِ هو الغالِبُ في أَكثَرِ الأَحوالِ، وما السِّرُّ في استِعاذةِ أَهلِ الحَقِّ في كُلِّ حِينٍ باللهِ سُبحانَه مِن شَرِّ الشَّيطانِ؟
الجَوابُ: السِّرُّ والحِكْمةُ هُما كما يَأتِي:
إنَّ الضَّلالةَ والشَّرَّ بأَكثَرِيَّتِها المُطلَقةِ شَيءٌ عَدَميٌّ وسَلبِيٌّ وغَيرُ أَصِيلٍ، وهِي إِخلالٌ وتَخرِيبٌ؛ أمّا الهِدايةُ والخَيرُ فهِي بأَكثَرِيَّتِها المُطلَقةِ ذاتُ وُجُودٍ وشَيءٌ إِيجابيٌّ وأَصِيلٌ، وهِي إِعمارٌ وبِناءٌ؛ ومِنَ المَعلُومِ أنَّه يَتَمكَّنُ رَجُلٌ واحِدٌ في يَومٍ واحِدٍ أن يَهدِمَ ما بَناه عِشرُونَ رَجُلًا في عِشرِينَ يَومًا؛ وأنَّ حَياةَ الإِنسانِ الَّتي تَبقَى باستِمرارِ أَعضائِه الأَساسِ ضِمنَ شَرائِطِ الحَياةِ، معَ أنَّها تَخُصُّ قُدْرةَ الخالِقِ جَلَّ وعَلا، إلّا أنَّها تَتَعرَّضُ لِلمَوتِ الَّذي هو عَدَمٌ بالنِّسبةِ إلَيْها، إذا ما قَطَع ظالِمٌ عُضوًا مِن جِسمِ ذلك الإِنسانِ، ولِهذا سارَ المَثَلُ: “التَّخرِيبُ أَسهَلُ مِنَ التَّعمِيرِ”.
فهذا هو السِّرُّ في أنَّ أَهلَ الضَّلالةِ بقُدرَتِهِمُ الضَّعِيفةِ حَقًّا يَغلِبُونَ أَحيانًا أَهلَ الحَقِّ الأَقوِياءَ جِدًّا.
ولكِن لِأَهلِ الحَقِّ قَلْعةٌ مَنِيعةٌ ما إن يَتَحصَّنُونَ بها ويَلُوذُونَ بها، فلا يَجرُؤُ أنْ يَتَقرَّبَ إلَيْهِم أُولَئِك الأَعداءُ المُخِيفُونَ، ولا يُمكِنُهُم أن يَمَسُّوهُم بسُوءٍ؛ ولَئِن أَصابَهُم شَيءٌ مِنهُم -مُؤقَّتًا- فالفَوزُ والثَّوابُ الأَبدِيُّ الَّذي يَنتَظِرُهُم في بُشرَى القُرآنِ الكَرِيمِ: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ يُذهِبُ أَثَرَ ذلك الضُّرِّ والقَرْحِ.
وتلك القَلْعةُ الشَّامِخةُ، وذلك الحِصنُ المَنِيعُ هو الشَّرِيعةُ الإِلٰهِيّةُ وسُنّةُ النَّبِيِّ ﷺ.
[الإشارة الثانية: كيف تسمح الرحمة والجمال بهذا الشر والقبح؟]
الإشارة الثانية:
وهِي المَسأَلةُ الَّتي تَخطُرُ في أَذهانِ الكَثِيرِينَ:
إنَّ خَلْقَ الشَّياطِينِ وهُمُ الشَّرُّ المَحضُ وتَسلِيطَهُم على أَهلِ الإِيمانِ، وسَوْقَهُم كَثِيرًا مِنَ النّاسِ إلى الكُفرِ، ودُخُولَهُمُ النّارَ بمَكايِدِهِم، هو قُبحٌ ظاهِرٌ، وأَمرٌ مُرعِبٌ؛ فيا تُرَى كَيفَ تَرضَى رَحْمةُ ذلك الرَّحِيمِ المُطلَقِ، ويَسمَحُ جَمالُ ذلك الجَمِيلِ المُطلَقِ وهُو الرَّحمٰنُ ذُو الجَمالِ، بهذا القُبحِ غَيرِ المُتَناهِي والمُصِيبةِ العُظمَى؟!
الجَوابُ: إنَّه إِزاءَ الشُّرُورِ الجُزئيّةِ لِلشَّياطِينِ، يَكمُنُ في وُجُودِهِم كَثِيرٌ مِنَ المَقاصِدِ الخَيِّرةِ الكُلِّيّةِ وكَمالاتٌ تَرقَى بالإِنسانِ في سُلَّمِ الكَمالِ.
نعم، كما أنَّ هُنالِك مَراتِبَ كَثِيرة بَدْءًا مِنَ البِذْرةِ إلى الشَّجَرةِ الباسِقةِ، كَذلِك لِلاستِعداداتِ الفِطْرِيّةِ الكامِنةِ في ماهِيّةِ الإِنسانِ مِنَ المَراتِبِ والدَّرَجاتِ ما يَفُوقُ ذلك، بل قد تَصِلُ إلى المَراتِبِ المَوجُودةِ بَينَ الذَّرّةِ والشَّمسِ؛ ولِكَي تَظهَرَ هذه الِاستِعداداتُ وتَنبَسِطَ لا بُدَّ لها مِن حَرَكةٍ، ولا بُدَّ لها مِن تَفاعُلٍ وتَعامُلٍ، فحَرَكةُ لَوْلَبِ الرُّقيِّ ونابِضِ السُّمُوِّ في ذلك التَّعامُلِ هي “المُجاهَدةُ“، ولا تَحصُلُ هذه “المُجاهَدةُ” إلّا بوُجُودِ الشَّياطِينِ والأَشياءِ المُضِرّةِ، إذ لولا تلك “المُجاهَدةُ” لَظَلَّت مَرتَبةُ الإِنسانِ ثابِتةً كالمَلائِكةِ، وعِندَها ما كانَت لِتَظهَرَ تلك الأَصنافُ السّامِيةُ مِنَ النّاسِ الَّتي هي بحُكْمِ الآلافِ مِنَ الأَنواعِ في النَّوعِ الإِنسانِيِّ؛ وحَيثُ إنَّه ليس مِنَ الحِكْمةِ والعَدالةِ بشَيءٍ أن يُترَكَ الخَيرُ الكَثِيرُ جِدًّا تَجَنُّـبًا لِحُصُولِ شَرٍّ جُزئيٍّ، فإنَّ انزِلاقَ كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ باتِّباعِ خُطُواتِ الشَّيطانِ، لا يَحمِلُ أَهَمِّيّةً كَبِيرةً ما دامَ التَّقوِيمُ والأَهَمِّيّةُ يَأخُذُ “النَّوعِيّةَ” بنَظَرِ الِاعتِبارِ ولا يَنظُرُ إلى الكَمِّيّةِ إلّا قَلِيلًا، بل قد لا يَنظُرُ إلَيْها.
مِثالُ ذلك: شَخصٌ لَدَيه أَلفٌ وعَشْرٌ مِنَ البُذُورِ، زَرَعَها في التُّرابِ، فجَعَلَها تَتَعرَّضُ لِلتَّفاعُلاتِ الكِيمياوِيّةِ؛ فإذا أَنبَتَت عَشَرةٌ مِن تلك البُذُورِ وأَينَعَت، فإنَّ المَنافِعَ الحاصِلةَ مِنها تَفُوقُ -بلا شَكٍّ- خَسارةَ الأَلفِ بِذْرةٍ الَّتي تَعَرَّضَت لِلتَّلَفِ والفَسادِ.
وهكَذا، فإنَّ المَنافِعَ والمَنزِلةَ والأَهَمِّيّةَ الَّتي حازَتْها البَشَرِيّةُ مِن عَشَرةِ أَشخاصٍ كامِلِينَ يَتَلألَؤُونَ كالنُّجُومِ في سَمائِها، والَّذِينَ أَخَذُوا بِيَدِ الإِنسانيّةِ إلى مَراقِي الفَلاحِ، وأَضاؤُوا السُّبُلَ أَمامَهُم وأَخرَجُوهُم إلى النُّورِ بمُجاهَدَتِهِم لِلنَّفسِ والشَّيطانِ.. لا شَكَّ أنَّها تَحجُبُ ما يَلحَقُ بها مِن أَثَرِ الضَّرَرِ النّاجِمِ مِن كَثرةِ الدّاخِلِينَ في حَمْأةِ الكُفرِ مِنَ الضَّالِّينَ الَّذِينَ يُعَدُّونَ مِن جِنسِ الحَشَراتِ لِتَفاهَتِهِم ودَناءَتِهِم.. لِهذا فقد سَمَحَتِ العَدالةُ الإِلٰهِيّةُ والحِكْمةُ والرَّحْمةُ الرَّبّانيّةُ بوُجُودِ الشَّياطِينِ وتَسَلُّطِها.
فيا مَعشَرَ أَهلِ الإِيمانِ، إنَّ دِرعَكُمُ المَنِيعَ لِصَدِّ أُولَئِك الأَعداءِ، هو التَّقوَى المَصنُوعةُ في دَوْحةِ القُرآنِ الكَرِيمِ؛ وإنَّ خَنادِقَكُمُ الحَصِينةَ هي سُنّةُ نَبِيِّكُم علَيْه أَفضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ.. وأمّا سِلاحُكُم فهُو الِاستِعاذةُ والِاستِغفارُ والِالتِجاءُ إلى الحِرزِ الإِلٰهِيِّ.
[الإشارة الثالثة: ما حكمة الوعيد العظيم على فعل شرٍّ جزئي؟]
الإشارة الثالثة:
سُؤالٌ: أَينَ يَكمُنُ السِّرُّ والحِكْمةُ في وَعِيدِ القُرآنِ المُرعِبِ وتَهدِيدِه لِأَهلِ الضَّلالةِ تِجاهَ عَمَلٍ جُزئيٍّ صَدَر مِنهُم، مِمّا لا يَتَناسَبُ بظاهِرِ العَقلِ معَ بَلاغَتِه الَّتي تَتَّسِمُ بالعَدالةِ والِانسِجامِ وأُسلُوبِه المُعجِزِ الرَّزِينِ، إذ كأنَّه يَحشُدُ الجُيُوشَ الهائِلةَ تِجاهَ شَخصٍ عاجِزٍ لا حَظَّ له في المُلكِ، فيُكسِبُه مَنزِلةَ شَرِيكٍ مُتَجاوِزٍ حَدَّه ويَشتَكي مِنه؟
الجَوابُ: إنَّ سِرَّ ذلك وحِكْمَتَه أنَّ في وُسْعِ الشَّياطِينِ ومَن تَبِعَهُم أن يقُومُوا بتَخرِيبٍ مُدَمِّرٍ بحَرَكةٍ بَسِيطةٍ تَصدُرُ مِنهُم، لِأنَّهُم يَسلُكُونَ طَرِيقَ الضَّلالةِ، فيُلحِقُونَ بفِعلٍ جُزئيٍّ يَصدُرُ مِنهُم خَسائرَ جَسِيمةً بحُقُوقِ الكَثِيرِ مِنَ المَخلُوقاتِ، مَثَلُهُم في هذا كمَثَلِ رَجُلٍ رَكِبَ سَفِينةً تِجارِيّةً عامِرةً لِلمَلِكِ ثمَّ خَرَقَها خَرْقًا بَسِيطًا، أو تَرَك واجِبًا كان علَيْه أن يُؤَدِّيَه، فأَهدَرَ بفِعلِه هذا جُهدَ مَن في السَّفِينةِ، وأَفسَدَ علَيْهِم جَنْيَ ثِمارِ عَمَلِهِم فيها، وأَبطَلَ نَتائِجَ أَعمالِ كلِّ مَن له عَلاقةٌ بها، لذا سيُهَدِّدُه المَلِكُ الَّذي يَملِكُ السَّفِينةَ تَهدِيداتٍ عَنِيفةً، بِاسمِ جَمِيعِ رَعاياه في السَّفِينةِ وجَمِيعِ المُتَضرِّرِينَ فيها، وسيُعاقِبُه أَشَدَّ العِقابِ حَتْمًا، لا لِحَرَكَتِه الجُزئيّةِ أو تَركِه الواجِبَ، وإنَّما لِلنَّتائِجِ المُتَرتِّبةِ على تلك الحَرَكةِ أوِ التَّركِ البَسِيطِ، ولَيسَ لِتَجاوُزِه حِمَى المَلِكِ، وإنَّما لِتَعَدِّيه على حُقُوقِ الرَّعِيّةِ جَمِيعِها.
وكَذلِك سَفِينةُ الأَرضِ، ففيها معَ المُؤمِنِينَ أَهلُ الضَّلالِ مِن حِزبِ الشَّيطانِ مِمَّن يُشَكِّلُونَ سَبَبًا لإِلغاءِ نَتائِجِ الوَظائِفِ الحَكِيمةِ لِلمَوجُوداتِ الرّائِعةِ، فيُحَقِّرُونَ بذلك جَمِيعَها، مِمّا يُشَكِّلُ بخَطِيئاتِهِم ومَعاصِيهِمُ الجُزئيّةِ في الظّاهِرِ تَجاوُزًا واضِحًا وتَعَدِّيًا صارِخًا على حُقُوقِ المَوجُوداتِ كافّةً؛ لِذا فإنَّ اللهَ سُبحانَه وهُو مَلِكُ الأَزَلِ والأَبدِ يَحشُدُ التَّهدِيداتِ المُرَوِّعةَ ضِدَّ ذلك التَّدمِيرِ الصّادِرِ مِن أَهلِ الضَّلالةِ.. وهذا هو الِانسِجامُ التّامُّ في أُسلُوبِ القُرآنِ الكَرِيمِ والتَّوافُقُ الرّائِعُ، وهُو الحِكْمةُ البالِغةُ الخالِصةُ المُستَتِرةُ في رُوحِ البَلاغةِ الَّتي هي مُطابَقةُ الكَلامِ لِمُقتَضَى الحالِ، وهِي بَعِيدةٌ كلَّ البُعدِ ومُنزَّهةٌ كلَّ التَّنزِيهِ عنِ المُبالَغةِ الَّتي هي الإِسرافُ في الكَلامِ.
فيا هَلاكَ ويا ضَياعَ مَن لا يُحَصِّنُ نَفسَه بحِصنٍ مَنِيعٍ مِن أُولَئِك الأَعداءِ الأَلِدّاءِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بتَخرِيبٍ مُرَوِّعٍ وتَدمِيرٍ هائِلٍ بحَرَكاتِهِمُ الجُزئيّةِ.
فيا أَهلَ الإِيمانِ، أَمامَكُمُ الحِصْنُ السَّماوِيُّ المَنِيعُ.. إنَّه القُرآنُ الكَرِيمُ.. ادخُلُوا فيه، وأَنقِذُوا أَنفُسَكُم.
[الإشارة الرابعة: الخير وجودي، والشر عدميّ]
الإشارة الرابعة:
لقدِ اتَّفقَ العُلَماءُ المُحَقِّقُونَ وأَهلُ الكَشفِ على أنَّ العَدَمَ شَرٌّ مَحضٌ.. والوُجُودَ خَيرٌ مَحضٌ.
نعم، إنَّ الخَيرَ والمَحاسِنَ والكَمالاتِ -بأَكثَرِيَّتِها المُطلَقةِ- تَستَنِدُ إلى الوُجُودِ وتعُودُ إلَيْه، فأَساسُها إِيجابيٌّ ووُجُوديٌّ، وإن بَدَت ظاهِرًا سَلبِيّةً وعَدَميّةً.
وإنَّ أَساسَ الضَّلالةِ والشَّرِّ والمَعاصِي وأَصلَ المَصائِبِ والبَلايا وأَمثالِها مِنَ المَكارِهِ هو عَدَمٌ وسَلبِيٌّ، وما فيها مِنَ القُبحِ والسُّوءِ فناجِمانِ مِن عَدَميَّتِها، وإن بَدَت ظاهِرًا إِيجابيّةً ووُجُودًا، إِلّا أنَّ أَساسَها عَدَمٌ ونَفيٌ، أي: بلا أَساسٍ وبلا فِعلٍ إِيجابيٍّ.
ثمَّ إنَّ وُجُودَ البِناءِ يَتَقرَّرُ بوُجُودِ جَمِيعِ أَجزائِه كما هو ثابِتٌ بالمُشاهَدةِ، بَينَما عَدَمُه ودَمارُه يُمكِنُ أن يَحصُلَ بتَهَدُّمِ أَحَدِ أَركانِه وعَدَمِه.
وإنَّ الوُجُودَ يَحتاجُ إلى عِلّةٍ مَوجُودةٍ، ولا بُدَّ أن يَستَنِدَ إلى سَبَبٍ حَقِيقيٍّ، بَينَما العَدَمُ يُمكِنُ أن يَستَنِدَ إلى أُمُورٍ عَدَميّةٍ، ويكُونَ الأَمرُ العَدَميُّ عِلّةً لِشَيءٍ مَعدُومٍ.
فبِناءً على هاتَينِ القاعِدَتَينِ: فإنَّ شَياطِينَ الإِنسِ والجِنِّ ليس لَهُم ولو بمِقدارِ ذَرّةٍ واحِدةٍ نَصِيبٌ في الخَلقِ والإِيجادِ وما تكُونُ لَهُم أيّةُ حِصّةٍ في المُلكِ الإِلٰهِيِّ، معَ أنَّ لَهُم آثارًا مُخِيفةً وأَنواعًا مِنَ الكُفرِ والضَّلالةِ وأَعمالًا شِرِّيرةً ودَمارًا هائِلًا، إذ لا يقُومُونَ بتلك الأُمُورِ بقُدُراتِهِم وقُوَّتِهِمُ الذّاتيّةِ، بل إنَّ أَغلَبَ أَعمالِهِم ليس فيها فِعلٌ وقُدرةٌ حَقِيقيّةٌ، وإنَّما هي مِن نَوعِ تَركِ الفِعلِ، وتَعطِيلِ العَمَلِ، وصَدِّ الخَيرِ، فيَعمَلُونَ الشَّرَّ بالصَّرفِ عنِ الخَيرِ، فتَحصُلُ الشُّرُورُ؛ لِأنَّ الشُّرُورَ والمَهالِكَ هي مِن نَوعِ الهَدْمِ والتَّخرِيبِ، فلا يَلزَمُ أن تكُونَ عِلَّتُها إِيجادًا فاعِلًا، ولا قُدْرةً مُوجِدةً، إذ يُمكِنُ التَّخرِيبُ الهائِلُ بأَمرٍ عَدَميٍّ، وبإِفسادِ شَرطٍ..
ولِعَدَمِ وُضُوحِ هذا السِّرِّ عِندَ المَجُوسِ فقدِ اعتَقَدُوا بوُجُودِ خالِقٍ لِلخَيرِ وأَسمَوْه “يَزدانَ”، وخالِقٍ لِلشَّرِّ وأَسمَوْه “أَهرِيمانَ”، بَينَما لا يَعدُو هذا الإلٰهُ المَوهُومُ لِلشَّرِّ سِوَى الشَّيطانِ الَّذي يكُونُ سَبَبًا لِلشُّرُورِ ووَسِيلةً لها، بالإِرادةِ الجُزئيّةِ وبالكَسبِ، دُونَ الإِيجادِ.
فيا أَهلَ الإِيمانِ، إنَّ أَمضَى سِلاحِكُم ضِدَّ هذه المَهالِكِ المُفزِعةِ لِلشَّياطِينِ وأَهَمَّ وَسِيلَتِكُم لِلإِصلاحِ والتَّرمِيمِ هو الِاستِغفارُ والِالتِجاءُ إلى اللهِ سُبحانَه وتَعالَى بقَولِكُم: “أَعُوذُ باللهِ”.. واعْلَمُوا أنَّ قَلعَتَكُم هي سُنّةُ رَسُولِكُم علَيْه أَفضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ.
[الإشارة الخامسة: لماذا يَضعُف أهل الإيمان أمام دسائس حزب الشيطان ؟]
الإشارة الخامسة:
إنَّه على الرَّغمِ مِن تَوَفُّرِ أَسبابِ الهِدايةِ والِاستِقامةِ ووَسائِلِ الإِرشادِ أَمامَ أَهلِ الإِيمانِ بما بَيَّنه اللهُ سُبحانَه لَهُم في كُتُبِه المُقدَّسةِ كافّةً مِن مَثُوبةٍ وهِي نَعِيمُ الجَنّةِ ومِن عِقابٍ أَلِيمٍ وهُو نارُ جَهَنَّمَ ومعَ ما كَرَّرَه سُبحانَه مِن تَوجِيهٍ وتَنبِيهٍ وتَرغِيبٍ وتَحذِيرٍ.. يُغلَبُ أَهلُ الإِيمانِ أَمامَ الدَّسائِسِ الدَّنيئةِ والضَّعيفةِ التّافِهةِ الصّادِرةِ عن حِزبِ الشَّيطانِ.
كان هذا يَأخُذُ قِسطًا كَبِيرًا مِن تَفكِيرِي، إذ كَيفَ لا يَهتَمُّ صاحِبُ الإِيمانِ بذلك الوَعِيدِ المُخِيفِ مِن رَبِّ العالَمِينَ؟! وكَيفَ لا يَزُولُ إِيمانُه وهُو يَعصِي رَبَّه مُتَّبِعًا خُطُواتِ الشَّيطانِ ومَكايِدَه الضَّعِيفةَ كما في قَولِه تَعالَى: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾؟!
حتَّى إنَّ بَعضًا مِن أَصدِقائي المُقرَّبِينَ بَعدَ أن سَمِع مِنِّي مِئةً مِن دُرُوسِ الحَقائِقِ الإِيمانيّةِ وصَدَّق بها تَصدِيقًا قَلبِيًّا، ومعَ شِدّةِ عَلاقَتِه وحُسنِ ظَنِّه بي فقدِ انجَرَف لِثَناءٍ تافِهٍ ورَخِيصٍ مِن رَجُلٍ فاسِدٍ مَيِّتِ القَلبِ، فانجَذَب إلَيْه، مِمّا دَفَعَه لِيَكُونَ في الصَّفِّ المُعادِي لي؛ فقُلتُ في نَفسِي: يا سُبحانَ اللهِ! هل يُمكِنُ لِلإِنسانِ أن يَهوِيَ إلى هذا الدَّرَكِ؟ كم كانَ هذا الرَّجُلُ ذا مَعدِنٍ رَخِيصٍ! فأَثِمتُ مِنِ اغتِيابِ هذا المِسكِينِ.
ثمَّ انكَشَفَت وللهِ الحَمدُ حَقائِقُ الإِشاراتِ السّابِقةِ فأَنارَت كَثِيرًا مِنَ الأُمُورِ الغامِضةِ.. فعَلِمتُ بذلك النُّورِ أن تَكرارَ التَّرغِيبِ والحَثِّ في القُرآنِ الكَرِيمِ ضَرُورِيٌّ جِدًّا، ومُناسِبٌ ومُلائِمٌ لِلحالِ.. وأنَّ انخِداعَ أَهلِ الإِيمانِ بمَكايِدِ الشَّيطانِ لا يَنجُمُ عن عَدَمِ الإِيمانِ، ولا مِن ضَعفِه.. وأنَّه لا يُكَفَّرُ مَنِ ارتَكَبَ الكَبائِرَ؛ فالمُعتَزِلةُ وقِسمٌ مِنَ الخَوارِجِ قد أَخطَؤُوا حِينَ كَفَّرُوا مُرتَكِبَ الكَبائِرِ أو جَعَلُوه في مَنزِلةٍ بَينَ المَنزِلَتَينِ.. وأنَّ صَدِيقي المِسكِينَ الَّذي ضَحَّى بتلك الدُّرُوسِ الإِيمانيّةِ بثَناءِ شَخصٍ تافِهٍ، لم يَسقُط في الهاوِيةِ كَثِيرًا، ولم يَنحَطَّ إلى الحَضِيضِ كُلِّـيًّا كما تَصَوَّرتُ، فشَكَرتُ اللهَ سُبحانَه الَّذي أَنقَذَني مِن تلك الوَرْطةِ.
ذلك لِأنَّ الشَّيطانَ -كما قُلنا سابِقًا- بأَمرٍ سَلبِيٍّ جُزئيٍّ مِنه يُورِدُ الإِنسانَ المَهالِكَ الخَطِيرةَ.. وإنَّ النَّفسَ الَّتي بَينَ جَنبَيِ الإِنسانِ دائِمةُ الإِنصاتِ إلى الشَّيطانِ.. وإنَّ قُوَّتَه الشَّهْوانيّةَ والغَضَبِيّةَ هُما بمَثابةِ جِهازٍ لاقِطٍ وجِهازِ تَوصِيلٍ لِمَكايِدِ الشَّيطانِ؛ ولِذلِك فقد خَصَّصَ اللهُ سُبحانَه وتَعالَى اسمَينِ مِن أَسمائِه الحُسنَى “الغَفُورُ، الرَّحِيمُ” لِيتَجَلَّيا بالتَّجَلِّي الأَعظَمِ ويَتَوجَّها إلى أَهلِ الإِيمانِ، وأَوضَحَ في القُرآنِ الكَرِيمِ أنَّ أَعظَمَ إِحسانٍ له لِلأَنبِياءِ عَلَيهِم السَّلَام هو: المَغفِرةُ.. فدَعاهُم إلى: الِاستِغفارِ؛ وأنَّه سُبحانَه بتَكرارِه ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وجَعْلِها بَدْءًا لِكُلِّ سُورةٍ ولِكُلِّ أَمرٍ ذِي بالٍ، جَعَل رَحْمَتَه الَّتي وَسِعَت كلَّ شَيءٍ هي المَلاذَ والمَلجَأَ لِأَهلِ الإِيمانِ، وهِي الأَمانَ والنَّجاةَ لَهُم مِنَ الشَّيطانِ؛ وجَعَل الحاجِزَ المانِعَ لَهُم مِنَ الشَّيطانِ ودَسائِسِه هو “أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ”، وذلك بأَمرِه: ﴿فَاسْتَعِذْ﴾.
[الإشارة السادسة: أخطر دسائس الشيطان]
الإشارة السّادسة:
إنَّ أَخطَرَ دَسائِسِ الشَّيطانِ هو أنَّه يُلبِسُ على بَعضِ ذَوِي القُلُوبِ الصّافِيةِ والحِسِّ المُرهَفِ: تَخَيُّلَ الكُفرِ بتَصدِيقِ الكُفرِ، ويُظهِرُ لَهُم تَصَوُّرَ الضَّلالةِ تَصدِيقًا لِلضَّلالةِ نَفسِها، ويَجلُبُ إلى خَيالِهِم خَواطِرَ قَبِيحةً في حَقِّ الأَشخاصِ والأُمُورِ المُنزَّهةِ المُقَدَّسةِ، ويُوهِمُهُم بالشَّكِّ في بَعضِ يَقِينيّاتِ الإِيمانِ بجَعلِ “الإِمكانِ الذّاتِيِّ” في صُورةِ “الإِمكانِ العَقلِيِّ”؛ وعِندَئِذٍ يَظُنُّ هذا المِسكِينُ المُرهَفُ الحِسِّ أنَّه قد هَوَى في الكُفرِ والضَّلالةِ، ويَتَوهَّمُ أنَّه قد زالَ يَقِينُه الإِيمانِيُّ، فيَقَعُ في اليَأسِ والقُنُوطِ، ويكُونُ بِيَأسِه هذا أُضحُوكةً لِلشَّيطانِ الَّذي يَنفُثُ في يَأسِه القاتِلِ، ويَضرِبُ دَومًا على وَتَرِه الحَسّاسِ، ويَنفُخُ في التِباساتِه ويُثِيرُها، فإمّا أن يَختَلَّ عَقلُه أو يقُولَ: قُضِيَ الأمرُ ولا يُمكِنُ فِعلُ شَيءٍ. فيَدفَعُ بِنَفسِه إلى هاوِيةِ الضَّلالةِ.
وقد بَحَثْنا في بَعضِ الرَّسائِلِ مَدَى تَفاهةِ هذه الهَمَزاتِ والوَساوِسِ، وكَيفَ أنَّها لا سَنَدَ لها ولا أَساسَ، أمّا هنا فسنُجمِلُها بما يَأتِي:
كما أنَّ صُورةَ الحَيّةِ في المِرآةِ لا تَلدَغُ، وانعِكاسَ النّارِ فيها لا يُحرِقُ، وظِلَّ النَّجَسِ فيها لا يُنَجِّسُ، كَذلِك ما يَنعَكِسُ على مِرآةِ الخَيالِ أوِ الفِكرِ مِن صُوَرِ الكُفرِ والشِّركِ، وظِلالِ الضَّلالةِ، وخَيالاتِ الكَلِماتِ النّابِيةِ والشَّتمِ، لا تُفسِدُ العَقِيدةَ واليَقِينَ ولا تُغيِّرُ الإِيمانَ، ولا تَثلُمُ أَدَبَ التَّوقِيرِ والِاحتِرامِ، ذلك لِأنَّه مِنَ القَواعِدِ المُقرَّرةِ: “تَخَيُّلُ الشَّتمِ ليس شَتْمًا، وتَخَيُّلُ الكُفرِ لَيسَ كُفرًا، وتَصَوُّرُ الضَّلالةِ ليس ضَلالةً“.
أمّا مَسأَلةُ الشَّكِّ في الإِيمانِ، فإنَّ الِاحتِمالاتِ النّاشِئةَ مِنَ “الإِمكانِ الذّاتِيِّ” لا تُنافِي اليَقِينَ وتُخِلُّ به، إذ مِنَ القَواعِدِ المُقرَّرةِ في عِلمِ أُصُولِ الدِّينِ: “أنَّ الإِمكانَ الذّاتِيَّ لا يُنافِي اليَقِينَ العِلمِيَّ“.
فمَثلًا: نَحنُ على يَقِينٍ مِن أنَّ بُحَيرةَ “بارْلا” مَملُوءةٌ بالماءِ ومُستَقِرّةٌ في مَكانِها، إلّا أنَّه يُمكِنُ أن تُخسَفَ في هذه اللَّحْظةِ؛ فهَذا إِمكانٌ ذاتِيٌّ واحتِمالٌ، وهُو مِنَ المُمكِناتِ؛ ولكِن لِأنَّه لم يَنشَأ مِن أَمارةٍ أو دَليلٍ، فلا يكُونُ “إِمكانًا ذِهنِيًّا” حتَّى يُوجِبَ الشَّكَّ، لِأنَّ القاعِدةَ المُقَرَّرةَ في عِلمِ أُصُولِ الدِّينِ أنَّه: “لا عِبرةَ لِلِاحتِمالِ غَيرِ النّاشِئِ عن دَليلٍ” بمَعنَى: لا يكُونُ الِاحتِمالُ الذّاتِيُّ الَّذي لم يَنشَأ عن أَمارةٍ إِمكانًا ذِهنِيًّا، فلا أَهَمِّيّةَ له كي يُوجِبَ الشَّكَّ..
فبِمِثلِ هذه الإِمكاناتِ والِاحتِمالاتِ الذَّاتيّةِ يَظُنُّ المِسكِينُ المُبتَلَى أنَّه قد فَقَد يَقِينَه بالحَقائِقِ الإِيمانيّةِ، فتَخطُرُ بِبالِه مَثلًا خَواطِرُ كَثِيرةٌ مِنَ الإِمكانِ الذّاتِيِّ مِن جِهةِ بَشَرِيّةِ الرَّسُولِ ﷺ، ولا شَكَّ أنَّها لا تُخِلُّ بيَقِينِه وجَزمِه الإِيمانِيِّ، ولكِنَّ ظَنَّه أن هذا يَضُرُّ هو الَّذي يُسَبِّبُ له الضَّرَرَ.
وأَحيانًا أُخرَى تُلقِي لَمَّةُ الشَّيطانِ -الَّتي هي على القَلبِ- كَلامًا لا يَلِيقُ بجَلالِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، فيَظُنُّ صاحِبُه أنَّ قَلبَه هو الَّذي فَسَد فصَدَر عنه هذا الكَلامُ، فيَضطَرِبُ ويَتَألَّمُ.. والحالُ أنَّ اضطِرابَه وخَوفَه وعَدَمَ رِضاه دَليلٌ على أنَّ تلك الكَلِماتِ لم تكُن صادِرةً مِن قَلبِه، وإنَّما هي مِنَ اللَّمّةِ الشَّيطانيّةِ، أو أنَّ الشَّيطانَ يُخَيِّلُها إلَيْه ويُذَكِّرُه بها.
وكَذلِك فإِنَّ مِن بَينِ اللَّطائِفِ الإِنسانيّةِ -وهِي بِضعُ لَطائِفَ لم أَستَطِع تَشخِيصَها- ما لا تَرضَخُ لِلإِرادةِ والِاختِيارِ، ولا تَدخُلُ تَحتَ وَطْأةِ المَسؤُوليّةِ، فتَتَحكَّمُ أَحيانًا وتُسَيطِرُ دُونَ أن تُنصِتَ لِنِداءِ الحَقِّ، وتَلِجُ في أُمُورٍ خاطِئةٍ، وعِندَئِذٍ يُلقِي الشَّيطانُ في رَوْعِ هذا الإِنسانِ المُبتَلَى: “إنَّ فِطْرَتَك فاسِدةٌ لا تَنسَجِمُ معَ الإِيمانِ والحَقِّ، ألا تَرَى أنَّك تَلِجُ بلا إِرادةٍ في مِثلِ هذه الأُمُورِ الباطِلةِ؟ إذًا فقد حَكَم علَيْك قَدَرُك بالتَّعاسةِ وقَضَى علَيْك بالشَّقاءِ!”، فيَهلِكُ ذلك المِسكِينُ في هذا اليَأسِ المُدَمِّرِ.
وهكَذا، فإنَّ حِصنَ المُؤمِنِ الحَصِينَ مِنَ الدَّسائِسِ الشَّيطانيّةِ المُتَقدِّمةِ هي المُحْكَماتُ القُرآنيّةُ والحَقائِقُ الإِيمانيّةُ المَرسُومةُ حُدُودُها بدَساتِيرِ العُلَماءِ المُحَقِّقينَ والأَصفِياءِ الصّالِحِينَ؛ أمّا الدَّسائِسُ الأَخِيرةُ فإنَّها تُرَدُّ بالِاستِعاذةِ باللهِ سُبحانَه وتَعالَى وبإِهمالِها، لِأنَّ مِن طَبِيعةِ الوَساوِسِ أنَّها تَكبُرُ وتَتَضخَّمُ كُلَّما زادَ الِاهتِمامُ بها، فالسُّنّةُ المُحَمَّدِيّةُ لِلمُؤمِنِ هي البَلسَمُ الشَّافي لِمِثلِ هذه الجِراحاتِ الرُّوحِيّةِ.
[الإشارة السابعة: خلق الشر ليس شرًّا، وارتكاب الكبائر ليس كفرًا]
الإشارة السابعة:
سُؤالٌ: إنَّ أَئِمّةَ المُعتَزِلةِ عِندَما اعتَبَرُوا أنَّ إِيجادَ الشَّرِّ شَرٌّ، لم يَرُدُّوا إلى اللهِ سُبحانَه خَلْقَ الكُفرِ والضَّلالةِ، فكأَنَّهُم بهذا يُنزِّهُونَه سُبحانَه ويُقدِّسُونَه، فقالُوا: “إنَّ البَشَر هو خالِقٌ لِأَفعالِه”، فضَلُّوا بذلك؛ وكَذلِك قالُوا: “يَزُولُ إِيمانُ مَنِ ارتَكَب الكَبائِرَ، لِأنَّ صِدقَ العَقِيدةِ في اللهِ لا يَتَلاءَمُ وارتِكابَ مِثلِ هذه الخَطايا والذُّنُوبِ، حَيثُ إنَّ الإِنسانَ الَّذي يَحذَرُ مُخالَفةَ القَوانِينِ في الدُّنيا رَهبةً مِنَ السِّجنِ الوَقتِيِّ، إنِ ارتَكَب الكَبائِرَ دُونَ أن يُبالِيَ بغَضَبِ الخالِقِ العَظِيمِ، ولا بعَذابِ جَهَنَّمَ الأَبدِيِّ، لا بُدَّ أن يكُونَ ذلك دَليلَ عَدَمِ إِيمانِه”.
[خلق الشر ليس شرًّا، وإنما كسب الشر شَرٌّ]
جَوابُ الشِّقِّ الأَوَّلِ مِنَ السُّؤالِ: هو ما أَوْضَحْناه في “رِسالةِ القَدَرِ” وهُو:
أنَّ خَلقَ الشَّرِّ ليس شَرًّا، وإنَّما كَسْبُ الشَّرِّ شَرٌّ، لِأنَّ الخَلقَ والإِيجادَ يَنظُرُ إلى جَمِيعِ النَّتائِجِ، فوُجُودُ شَرٍّ واحِدٍ، إنْ كانَ مُقدِّمةً لِنَتائِجَ خَيِّرةٍ كَثِيرةٍ، فإنَّ إِيجادَه يُصبِحُ خَيرًا باعتِبارِ نَتائِجِه، أي: يَدخُلُ في حُكمِ الخَيرِ.
فمَثلًا: النّارُ لها فَوائِدُ ومَنافِعُ كَثِيرةٌ جِدًّا، فلا يَحِقُّ لِأَحدٍ أن يقُولَ: إنَّ إِيجادَ النّارِ شَرٌّ إذا ما أَساءَ استِعمالَها باختِيارِه وجَعَلَها شَرًّا ووَبالًا على نَفسِه.
وكَذلِك خَلقُ الشَّياطِينِ وإِيجادُهُم فيه نَتائِجُ كَثِيرةٌ ذاتُ حِكمةٍ لِلإِنسانِ، كسُمُوِّه في سُلَّمِ الكَمالِ والرُّقيِّ؛ فلا يَسِيغُ لِمَنِ استَسلَمَ لِلشَّيطانِ -باختِيارِه وكَسْبِه الخاطِئِ- أن يقُولَ: إن خَلْقَ الشَّيطانِ شَرٌّ، إذ هو الَّذي جَعَلَه شَرًّا لِنَفسِه بكَسْبِه الذّاتِيِّ.
أمّا الكَسْبُ الَّذي هو مُباشَرةٌ جُزئيّةٌ لِلأَمرِ، فإنَّه يُصبِحُ شَرًّا لِأنَّه وَسِيلةٌ تُفضِي إلى شَرٍّ خاصٍّ مُعَيَّنٍ، فيَكُونُ كَسْبُ الشَّرِّ بذلك شَرًّا، بَينَما لا يكُونُ الإِيجادُ شَرًّا، بل يكُونُ خَيرًا، لِأنَّه يَنظُرُ إلى جَمِيعِ النَّتائِجِ، فلا يكُونُ إِذًا خَلقُ الشَّرِّ شَرًّا.
وهكَذا، ولِعَدَمِ إِدراكِ المُعتَزِلةِ هذا السِّرَّ ضَلُّوا، إذ قالُوا: “إنَّ خَلْقَ الشَّرِّ شَرٌّ، وإِيجادَ القُبحِ قُبحٌ”، فلم يَرُدُّوا الشَّرَّ إلى اللهِ سُبحانَه وتَعالَى تَقدِيسًا وتَنزِيهًا له، وتَأوَّلُوا الرُّكنَ الإِيمانِيَّ: “وبالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه مِنَ اللهِ تَعالَى”.
[ارتكاب الكبائر لا يستلزم الكفر]
أمّا الشِّقُّ الثّاني: وهُو كَيفَ يَبقَى مُؤمِنًا مَنِ ارتَكَب الكَبائِرَ؟
فجَوابُه:
أوَّلًا: لقد أَوْضَحَتِ الإِشاراتُ السّابِقةُ أَخطاءَهُم بصُورةٍ قاطِعةٍ فلا حاجةَ لِلإِعادةِ.
[مبحث مهم في طبيعة عمل النفس والعقل والقلب ومسؤولية كلٍّ منها]
ثانيًا: إنَّ النَّفسَ الإِنسانيّةَ تُفَضِّلُ دِرهَمًا مِنَ اللَّذّةِ الحاضِرةِ المُعَجَّلةِ على رِطْلٍ مِنَ اللَّذّةِ الغائِبةِ المُؤَجَّلةِ، وهِي تَتَحاشَى صَفْعةً حاضِرةً أَكثَرَ مِن تَحاشِيها سَنةً مِن عَذابٍ في المُستَقبَلِ؛ وعِندَما تَهِيجُ أَحاسِيسُ الإِنسانِ لا تَرضَخُ لِمَوازِينِ العَقلِ، بلِ الهَوَى هو الَّذي يَتَحكَّمُ، فيُرَجِّحُ عِندَئذٍ لَذّةً حاضِرةً ضَئِيلةً جِدًّا على ثَوابٍ عَظِيمٍ في العُقبَى، ويَتَجنَّبُ ضِيقًا جُزئيًّا حاضِرًا أَكثَرَ مِن تَجَنُّبِه عَذابًا أَلِيمًا مُؤَجَّلًا؛ إِذِ الدَّوافِعُ النَّفسانيّةُ لا تَرَى المُستَقبَلَ بل قد تُنكِرُه، وإن كانَ ثمّةً حَثٌّ لها مِنَ النَّفسِ وعَوْنٌ، فإنَّ القَلبَ والعَقلَ اللَّذَينِ هُما مَحَلُّ الإِيمانِ، يَسكُتانِ، فيُغلَبُ على أَمرِهِما، فلا يكُونُ عِندَئذٍ ارتِكابُ الكَبائِرِ ناتِجًا مِن عَدَمِ الإِيمانِ، بل مِن غَلَبةِ الهَوَى وسَيطَرةِ الوَهْمِ والحِسِّ المادِّيِّ، وانهِزامِ العَقلِ والقَلبِ وغَلَبةِ كلِّ أُولَئِك علَيْهِما.
ولقد فُهِم مِنَ الإِشاراتِ السّابِقةِ أنَّ طَرِيقَ الفَسادِ والهَوَى سَهلةٌ جِدًّا، لِأنَّها تَخرِيبٌ وهَدمٌ، لِذا يَسُوقُ شَيطانُ الإِنسِ والجِنِّ الإِنسانَ إلَيْها بكُلِّ سُهُولةٍ ويُسرٍ.
وإنَّه لَمُحَيِّرٌ جِدًّا أن تَرَى قِسمًا مِنَ النّاسِ الضُّعَفاءِ يَتَّبِعُونَ خُطُواتِ الشَّيطانِ لِتَفضِيلِهِم لَذّةً زائِلةً -بمِقدارِ جَناحِ بَعُوضةٍ- في هذه الدُّنيا الفانِيةِ، على لَذائِذِ ذلك النَّعِيمِ الخالِدِ؛ في حِينِ يَفُوقُ نُورٌ أَبدِيٌّ بمِقدارِ جَناحِ بَعُوضةٍ مِن ذلك العالِمِ السَّرمَدِيِّ الخالِدِ جَمِيعَ اللَّذّاتِ والنِّعَمِ الَّتي اكتَسَبَها الإِنسانُ طَوالَ حَياتِه، كما هو ثابِتٌ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ.
وهكَذا، مِن أَجلِ هذه الحِكَم والأَسرارِ، كَرَّر القُرآنُ الكَرِيمُ التَّرغِيبَ والتَّرهِيبَ وأَعادَهُما لِيَزجُرَ المُؤمِنَ ويُجَنِّبَه الذُّنُوبَ والآثامَ ويَحُثَّه على الخَيرِ والصَّلاحِ.
[لطيفة: تكرار تنبيه القرآن للمؤمنين ألا تجرح مشاعرهم؟]
ولقد جالَ في ذِهنِي يَومًا سُؤالٌ حَولَ هذا التَّكرارِ في التَّوجِيهِ والإِرشادِ القُرآنِيِّ وهُو: ألَا تكُونُ هذه التَّنبِيهاتُ المُستَمِرّةُ مَدْعاةً لِجَرحِ شُعُورِ المُؤمِنِينَ في ثَباتِهِم وأَصالَتِهِم، وإِظهارِهِم في مَوقِفٍ لا يَلِيقُ بكَرامةِ الإِنسانِ؟ لِأنَّ تَكرارَ الأَمرِ الواحِدِ على المُوظَّفِ مِن آمِرِه يَجعَلُه في مَوقِفٍ يَظُنُّ كأنَّه مُتَّهمٌ في إِخلاصِه ووَلائِه، بَينَما القُرآنُ الكَرِيمُ يُكرِّرُ أَوامِرَه بإِصرارٍ على المُؤمِنِينَ المُخلِصِينَ.
وحِينَما كانَ هذا السُّؤالُ يَعصِرُ ذِهنِي، كانَ معِي جَمعٌ مِنَ الأَصدِقاءِ المُخلِصِينَ، فكُنتُ أُذكِّرُهُم وأُنبِّهُهُم باستِمرارٍ كَيْلا تَغُرَّهُم دَسائِسُ شَياطِينِ الإِنسِ، فلم أَرَ امتِعاضًا أوِ اعتِراضًا مِنهُم قَطُّ، ولم يَقُل أَحَدٌ مِنهُم: إنَّك تتَّهِمُنا في إِخلاصِنا.. ولكِنِّي كُنتُ أُخاطِبُ نَفسِي وأَقُولُ: أَخشَى أنَّني قد أَسخَطتُهُم بتَوجِيهاتِي المُتَكرِّرةِ لَهُم وكأنِّي اتَّهَمتُهُم في وَفائِهِم وثَباتِهِم. وبَينَما أنا في هذه الحالةِ انكَشَفَتِ الحَقائِقُ المُثبَتةُ والمُوضَّحةُ في الإِشاراتِ السّابِقةِ، فعَلِمتُ أنَّ أُسلُوبَ القُرآنِ الحَكِيمِ في تَكرارِ التَّنبِيهِ مُطابِقٌ لِمُقتَضَى الحالِ، وضَرُورِيٌّ جِدًّا، ولَيسَ فيه أيّةُ مُبالَغةٍ ولا إِسرافٍ قَطُّ، ولا اتِّهامٍ لِلمُخاطَبِينَ، حاشَ للهِ، بل هو حِكْمةٌ خالِصةٌ، وبَلاغةٌ مَحْضةٌ.. وعَلِمتُ كَذلِك لِمَ لَمْ يَمتَعِضْ ويَتَكدَّرْ أُولَئِك الأَصدِقاءُ الأَعِزّاءُ مِن تَردِيدِي النُّصحَ لَهُم؟
وخُلاصةُ تلك الحَقِيقةِ: أنَّ الفِعلَ الجُزئيَّ القَلِيلَ الَّذي يَصدُرُ عنِ الشَّياطِينِ يكُونُ سَبَبًا لِحُصُولِ شُرُورٍ كَثِيرةٍ، لِأنَّه تَخرِيبٌ وهَدمٌ، لِذا كانَ لا بُدَّ لِأُولَئِك الَّذِينَ يَسلُكُونَ طَرِيقَ الحَقِّ والهِدايةِ أن يُجَنَّـبُوا ويُنَبَّهُوا كَثِيرًا، ويَأخُذُوا حِذْرَهُم وتُمَدَّ لَهُم يَدُ العَونِ دائِمًا لِكَثرةِ حاجَتِهِم إلَيْها.. لِهذا يُقَدِّمُ اللهُ سُبحانَه وتَعالَى في ذلك التَّـكرارِ عَوْنًا وتَأيِيدًا لَهُم بعَدَدِ أَلفِ اسمٍ مِن أَسمائِه الحُسنَى، ويَمُدُّهُم بآلافٍ مِن أَيادِي الرَّحْمةِ والشَّفَقةِ لِإسنادِهِم وإِمدادِهِم، فلا يَقدَحُ به كَرامةَ المُؤمِنِ بل يَقِيه ويَحفَظُه، ولا يُهَوِّنُ شَأنَ الإِنسانِ بل يُظهِرُ ضَخامةَ شَرِّ الشَّيطانِ.
فيا أَهلَ الحَقِّ وأَهلَ الهِدايةِ.. دُونَكُم سَبِيلَ النَّجاةِ والخَلاصِ مِن مَكايِدِ شَيطانِ الجِنِّ والإِنسِ المَذكُورةِ فاسلُكُوها.. اجْعَلُوا مُستَقَرَّكُم طَرِيقَ الحَقِّ وهُو طَرِيقُ أَهلِ السُّنّةِ والجَماعةِ.. وادْخُلُوا القَلعةَ الحَصِينةَ لِمُحكَماتِ القُرآنِ المُعجِزِ البَيانِ.. واجْعَلُوا رائِدَكُمُ السُّنّةَ النَّبوِيّةَ الشَّرِيفةَ، تَسلَمُوا وتَنجُوا بإِذنِ اللهِ.
[الإشارة الثامنة: الكفر والضلالة قسمان من حيث السهولة]
الإشارة الثامنة:
سُؤالٌ: لقد أَثبَتَّ في الإِشاراتِ السَّابِقةِ أنَّ طَرِيقَ الضَّلالةِ تَجاوُزٌ وتَعَدٍّ وتَخرِيبٌ، وسُلُوكَها سَهلٌ ومَيسُورٌ لِلكَثِيرِينَ، بَينَما أَورَدتَ في رَسائِلَ أُخرَى دَلائِلَ قَطعِيّةً على أنَّ طَرِيقَ الكُفرِ والضَّلالةِ فيها مِنَ الصُّعُوبةِ والمُشكِلاتِ ما لا يُمكِنُ أن يَسلُكَها أَحَدٌ، وطَرِيقَ الإِيمانِ والهِدايةِ فيها مِنَ السُّهُولةِ والوُضُوحِ بحَيثُ يَنبَغِي أن يَسلُكَها الجَمِيعُ؟!
الجَوابُ: إنَّ الكُفرَ والضَّلالةَ قِسمانِ:
الأوَّلُ: هو نَفيٌ لِلأَحكامِ الإِيمانيّةِ نَفْيًا عَمَلِيًّا وفَرعِيًّا، فهذا الطِّرازُ مِنَ الضَّلالةِ سَهلٌ سُلُوكُه وقَبُولُه لِأنَّه “عَدَمُ قَبُولِ الحَقِّ”، فهُو تَركٌ وعَدَمٌ ليس إلّا، وهذا القِسمُ هو الَّذي وَرَد بَيانُ سُهُولةِ قَبُولِه في الرَّسائِلِ.
أمّا القِسمُ الثَّاني: فهُو حُكمٌ اعتِقادِيٌّ وفِكرِيٌّ ولَيسَ بعَمَليٍّ ولا فَرعِيٍّ، ولا نَفيٌ لِلإِيمانِ وَحْدَه، بل سُلُوكٌ لِطَرِيقٍ مُضادٍّ لِلإِيمانِ، وقَبُولٌ لِلباطِلِ وإِثباتُ نَقِيضِ الحَقِّ.. فهذا هو خِلافُ الإِيمانِ وضِدُّه، لِذا فهُو ليس “بعَدَمِ قَبُولٍ” كي يكُونَ سَهلًا، وإنَّما هو “قَبُولٌ لِلعَدَم”.. وحَيثُ إنَّه لا يَتِمُّ إلّا بَعدَ الإِثباتِ، أي: إِثباتِ العَدَمِ، و”العَدَمُ لا يَثبُتُ” قاعِدةٌ أَساسِيّةٌ، فلَيسَ مِنَ السَّهلِ إِذًا إِثباتُه وقَبُولُه.
وهكَذا، فإنَّ هذا القِسمَ مِن طَرِيقِ الكُفرِ والضَّلالةِ هو الَّذي بُيِّنَ في سائِرِ الرَّسائِلِ أنَّه عَسِيرٌ وذو إِشكالٍ، بل مُمتَنِعٌ سُلُوكُه بحَيثُ لا يَسلُكُه مَن له أَدنَى شُعُورٍ.
وكَذلِك أُثبِتَ في الرَّسائِلِ إِثباتًا قاطِعًا أنَّ في هذه الطَّرِيقِ مِنَ الآلامِ المُخِيفةِ والظُّلُماتِ الخانِقةِ ما لا يُمكِنُ أن يَطلُبَه مَن عِندَه ذَرّةٌ مِنَ العَقلِ والإِدراكِ.
[الكفر طريقٌ صعبٌ مظلم، فلماذا يسلكها كثيرون؟]
وإذا قِيلَ: إن كانَت هذه الطَّرِيقُ المُلتَوِيةُ مُظلِمةً ومُؤلِمةً وعَوِيصةً إلى هذا الحَدِّ، فلِمَ يَسلُكُها الكَثِيرُونَ؟
فالجَوابُ: إنَّهُم ساقِطُون فيها، فلا يُمكِنُهُمُ الخُرُوجُ مِنها، ولا يَرغَبُونَ في الخُرُوجِ مِمّا هُم فيه، فيَتَسلَّوْن بلَذّةٍ حاضِرةٍ مُؤَقَّتةٍ، لِأنَّ قُوَى الإِنسانِ النَّباتيّةَ والحَيَوانيّةَ لا تُفكِّرُ في العاقِبةِ ولا تَراها، وإنَّها تَتَغلَّبُ على لَطائِفِه الإِنسانيّةِ.
[كيف يستمتع الكافر باللذائذ ومصيرُه مرعب؟]
سُؤالٌ: لَمّا كانَ في الكُفرِ هذا الأَلَمُ الشَّدِيدُ وهذا الخَوفُ الدّاهِمُ، وإنَّ الكافِرَ -باعتِبارِه إِنسانًا- حَرِيصٌ على حَياتِه ومُشتاقٌ إلى ما لا يُحصَى مِنَ الأَشياءِ وهُو يَرَى بكُفرِه: أنَّ مَوتَه عَدَمٌ وفِراقٌ أَبدِيٌّ، ويَرَى دَوْمًا بعَينِه أنَّ المَوجُوداتِ وجَمِيعَ أَحِبّائِه سائِرُونَ إلى العَدَمِ والفِراقِ الأَبدِيِّ؛ فكُلُّ شَيءٍ أَمامَه -بهذا الكُفرِ- إِذًا إلى زَوالٍ.. فالَّذي يَرَى بالكُفرِ هذا، كَيفَ لا يَتفَطَّرُ قَلبُه ولا يَنسَحِقُ تَحتَ ضَغطِ هذا الأَلَمِ؟ بل كَيفَ يَسمَحُ له كُفرُه أن يَتَمتَّعَ بالحَياةِ ويَتَذوَّقَها؟
الجَوابُ: إنَّه يَعِيشُ مُخادِعًا نَفسَه بمُغالَطةٍ شَيطانيّةٍ عَجِيبةٍ، ظانًّا نَفسَه في لَذَّةٍ صُورِيَّةٍ، وسنُشِيرُ إلى ماهِيَّتِها بمِثالٍ مُتَداوَلٍ:
يُحكَى أنَّه قِيلَ لِلنَّعامةِ “طائرِ الجَمَلِ”: لِماذا لا تَطِيرِينَ؟ فإنَّكِ تَملِكِينَ الجَناحَ، فقَبَضَت جَناحَيْها وطَوَتْهُما قائِلةً: أنا لَستُ بطائِرٍ بل جَمَلٌ، فوَقَعَت في فَخِّ الصَّيّادِ، فأَدخَلَت رَأسَها في الرَّملِ تارِكةً جَسَدَها الضَّخمَ لِلصَّيّادِ فاستَهدَفَها.. ثمَّ قالُوا لها: فاحْمِلي لنا إِذًا هذا الحِمْلَ إن كُنتِ جَمَلًا كما تَدَّعِينَ! فعِندَها صَفَّت جَناحَيْها ونَشَرَتهُما قائِلةً: أنا طائِرٌ. وتَفلَّتَت مِن تَعَبِ الحَمْلِ.. ولكِن ظَلَّت فَرِيدةً وَحِيدةً دُونَ غِذاءٍ ولا حِمايةٍ مِن أَحَدٍ وهَدَفًا لِلصَّيّادِينَ.
وهكَذا الكافِرُ، بَعدَ أن تَزَحزَحَ مِن كُفرِه المُطلَقِ أَمامَ النُّذُرِ السَّماوِيّةِ القُرآنيّةِ تَرَدَّى في كُفرٍ مَشكُوكٍ، فإذا سُئِلَ: كَيفَ تَستَطِيعُ العَيشَ وأَمامَك المَوتُ والزَّوالُ اللَّذانِ تَدَّعِي أنَّهُما انعِدامٌ أَبدِيٌّ؟ فهل يَتَمكَّنُ مِنَ الحَياةِ ويَتَمتَّعُ بها مَن كانَ يَسِيرُ بخُطاه إلى حَبلِ المِشنَقةِ؟ يُجِيبُ: لا، ليس المَوتُ عَدَمًا، بل هُنالِك احتِمالٌ لِلبَقاءِ بَعدَه، ذلك بَعدَما أَخَذ حَظَّه مِن شُمُولِ نُورِ القُرآنِ لِلعالَمِينَ ورَحْمَتِه لَهُم، فبَدَأ يَتَشكَّكُ في كُفرِه المُطلَقِ، أو أنَّه يَدُسُّ رَأسَه في رَمْلِ الغَفْلةِ كالنَّعامةِ، كَيْلا يَراه الأَجَلُ ولا يَنظُرَ إلَيْه القَبْرُ، ولا يَرمِيَه الزَّوالُ بسَهمٍ!
والخُلاصةُ: إنَّ الكافِرَ شَأنُه شَأنُ النَّعامةِ، فهُو حِينَما يَرَى المَوتَ والزَّوالَ عَدَمًا يُحاوِلُ أن يُنقِذَ نَفسَه مِن تلك الآلامِ بالتَّمَسُّكِ والتَّشَبُّثِ بما أَخبَر به القُرآنُ الكَرِيمُ والكُتُبُ السَّماوِيّةُ جَمِيعهُا إِخبارًا قاطِعًا مِنَ “الإِيمانِ بالآخِرةِ” والَّذي وَلَّد عِندَه احتِمالًا لِلحَياةِ بَعدَ المَوتِ..
وإذا ما قِيلَ له: فما دامَ المَصِيرُ إلى عالَمِ البَقاءِ، فيَتَوجَّبُ إذًا تَحَمُّلُ ثِقَلِ الواجِباتِ الدِّينيّةِ كي تُسعَدَ في ذلك العالَمِ؟ يُجِيبُ مِن زاوِيةِ كُفرِه المَشكُوكِ: رُبَّما ليس هُناك عالَمٌ آخَرُ، فلِمَ إِذًا أُرهِقُ نَفسِي؟! بمَعنَى أنَّه يُنقِذُ نَفسَه مِن آلامِ الإِعدامِ الأَبدِيِّ في المَوتِ بما وَعَد القُرآنُ بالحَياةِ الباقِيةِ، فعِندَما تُواجِهُه مَشَقّةُ التَّكالِيفِ الدِّينيّةِ، يَتَراجَعُ ويَتَشبَّثُ باحتِمالاتِ كُفرِه المَشكُوكِ ويَتَخلَّصُ مِن تلك التَّكالِيفِ.
أي إنَّ الكافِرَ -مِن هذه الزّاوِيةِ- يَظُنُّ أنَّه يَتَمتَّعُ أَكثَرَ مِنَ المُؤمِنِ في حَياتِه الدُّنيا، لِأنَّه يُفلِتُ مِن عَناءِ التَّكالِيفِ الدِّينيّةِ باحتِمالاتِ كُفرِه؛ وفي الوَقتِ نَفسِه لا يَدخُلُ تَحتَ قَساوةِ الآلامِ الأَبدِيّةِ باحتِمالِه الإِيمانِيِّ.. والحالُ أنَّ هذه المُغالَطةَ الشَّيطانِيّةَ سَطحِيّةٌ ومُؤَقَّتةٌ وتافِهةٌ بلا فائِدةٍ.
[في القرآن رحمةٌ حتى للكافرين]
ومِن هنا يَتَّضِحُ كَيفَ أنَّ هُنالِك جانِبًا مِنَ الرَّحْمةِ الشَّامِلةِ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ حتَّى على الكُفَّارِ، وذلك بتَشكِيكِه إيّاهُم في كُفرِهِمُ المُطلَقِ؛ فنَجّاهُم -إلى حَدٍّ مّا- مِن حَياةٍ كالجَحِيمِ وجَعَلَهُم يَستَطِيعُونَ العَيشَ في الحَياةِ الدُّنيا بنَوعٍ مِنَ الشَّكِّ في كُفرِهِمُ المُطلَقِ، وإلّا كانُوا يُقاسُونَ آلامًا مَعنَوِيّةً تُذَكِّرُ بعَذابِ الجَحِيمِ وقد تَدفَعُهُم إلى الِانتِحارِ.
فيا أَهلَ الإِيمانِ، احتَمُوا بحِمايةِ القُرآنِ الكَرِيمِ الَّذي أَنقَذَكُم مِنَ العَدَمِ المُطلَقِ ومِن جَحِيمِ الدُّنيا والآخِرةِ بكُلِّ يَقِينٍ وثِقةٍ واطمِئْنانٍ، وادخُلُوا بالتَّسلِيمِ الكامِلِ في الظِّلالِ الوارِفةِ لِلسُّنّةِ المُحمَّدِيّةِ بكُلِّ استِسلامٍ وإِعجابٍ.. وأَنقِذُوا أَنفُسَكُم مِن شَقاءِ الدُّنيا وعَذابِ الآخِرةِ.
[الإشارة التاسعة: لماذا يُغلَب أهل الهداية أحيانًا أمام أهل الضلالة؟]
الإشارة التاسعة:
سُؤالٌ: لِمَ غُلِبَ أَهلُ الهِدايةِ وهُم حِزبُ اللهِ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحيانِ أَمامَ أَهلِ الضَّلالةِ الَّذِينَ هُم حِزبُ الشَّيطانِ؟ برَغمِ أنَّهُم مُحاطُونَ بعِنايةٍ إِلٰهِيّةٍ ورَحْمةٍ رَبّانيّةٍ، ويَتَقدَّمُ صُفُوفَهُمُ الأَنبِياءُ الكِرامُ عَلَيهِم السَّلَام ويَقُودُ الجَمِيعَ فَخرُ الكائِناتِ مُحمَّدٌ علَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ؟
وما بالُ قِسمٍ مِن أَهلِ المَدِينةِ المُنَوَّرةِ مَرَدُوا على النِّفاقِ وأَصَرُّوا على الضَّلالةِ ولم يَسلُكُوا الصِّراطَ السَّوِيَّ، رَغمَ أنَّهُم كانُوا يُجاوِرُونَ الرَّسُولَ الأَعظَمَ ﷺ الَّذي تَسطَعُ نُبوَّتُه ورِسالتُه كالشَّمسِ، وهو يُذَكِّرُهُم بالقُرآنِ المُعجِزِ الَّذي يُؤثِّرُ في النُّفُوسِ كالإِكسِيرِ الأَعظَمِ، ويُرشِدُهُم بحَقائِقِه الَّتي تَشُدُّ الجَمِيعَ بقُوّةٍ أَعظَمَ مِن جاذِبِيّةِ الكَونِ؟
الجَوابُ: لِلإجابةِ عن شِقَّيْ هذا السُّؤالِ المُحَيِّرِ، علَيْنا أوَّلًا أن نُبيِّنَ أَساسًا راسِخًا مَتِينًا وهُو: أنَّ خالِقَ الكَونِ جَلَّ وعَلا له مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى أَسماءٌ جَلاليّةٌ وأَسماءٌ جَماليّةٌ؛ وحَيثُ إنَّ كُلًّا مِنها يُظهِرُ حُكمَه بتَجَلِّياتٍ مُختَلِفةٍ عنِ الأُخرَى، لِذا فإنَّ الخالِقَ سُبحانَه وتَعالَى قد مَزَجَ الأَضدادَ ببَعضِها وجَعَل كُلًّا مِنها يُقابِلُ الآخَرَ، وأَعطَى كُلًّا مِنها صِفةَ التَّدافُعِ والتَّجاوُزِ، فأَوْجَد بذلك مُبارَزةً حَكِيمةً ذاتَ مَنافِعَ، بما أَوجَدَ مِنَ الِاختِلافاتِ والتَّغيُّراتِ النّاشِئةِ مِن تَجاوُزِ تلك الأَضدادِ لِحُدُودِ بَعضِها بَعضًا.
فاقْتَضَت حِكْمَتُه سُبحانَه أن يُسَيِّرَ هذا الكَونَ ضِمنَ دُستُورِ السُّمُوِّ والكَمالِ وحَسَبَ قانُونِ التَّغيُّرِ والتَّحوُّلِ؛ لِذا جَعَل الإِنسانَ -وهُو الثَّمَرةُ الجامِعةُ لِشَجَرةِ الخَلِيقةِ- يَتَّبِعُ ذلك القانُونَ، أي: قانُونَ التَّدافُعِ والمُبارَزةِ، اتِّباعًا شَدِيدَ الغَرابةِ، حَيثُ فَتَح أَمامَه بابَ “المُجاهَدةِ” الَّتي يَدُورُ علَيْها رُقيُّ جَمِيعِ الكَمالاتِ الإِنسانيّةِ؛ فمِن أَجلِ هذا أَعطَى الحَقُّ سُبحانَه وتَعالَى حِزبَ الشَّيطانِ شَيئًا مِنَ الأَجهِزةِ والوَسائِلِ لِيَتَمكَّنَ مِن مُواجَهةِ حِزبِ اللهِ ويُقابِلَه في مَيدانِ المَعرَكةِ.. وهذا هو السَّبَبُ في تَمَكُّنِ أَهلِ الضَّلالةِ -وهُم في أَشَدِّ الضَّعفِ والوَهنِ والعَجزِ- مِن مُقاوَمةِ أَهلِ الحَقِّ الأَقوِياءِ مَعنَوِيًّا الَّذِينَ يَتَقدَّمُهُمُ الأَنبِياءُ عَلَيهِم السَّلَام والتَّغلُّبِ علَيْهِم تَغلُّبًا مُؤقَّتًا.
أمّا سِرُّ الحِكْمةِ في هذه المُقاوَمةِ الغَرِيبةِ فهِي: أنَّ في الضَّلالةِ والكُفرِ عَدَمًا وتَركًا، وهُو سَهلٌ لا يَحتاجُ إلى دَفعٍ ولا إلى تَحرِيكٍ.. وفيها تَخرِيبٌ كَذلِك، وهُو سَهلٌ وهَيِّنٌ أَيضًا، إذ تَكفِيه حَرَكةٌ قَلِيلةٌ.. وفيها تَجاوُزٌ وتَعَدٍّ، فعَمَلٌ قَلِيلٌ ويَسِيرٌ مِنه يُؤَدِّي إلى ضَرَرٍ بالكَثِيرِينَ، فيُوهِمُ الآخَرِينَ أنَّهُم على شَيءٍ، فيَستَخِفُّونَ بهم ويَستَعْلُونَ علَيْهِم بإِرهابِهِم وفِرعَونيَّتِهِم.. وفيها تَطمِينٌ لِما في الإِنسانِ مِن حَواسَّ مادِّيّةٍ وقُوًى نَباتيّةٍ وحَيَوانيّةٍ لا تَرَى العاقِبةَ ولا تُفكِّرُ فيها، وهِي مَفتُونةٌ بالتَّذَوُّقِ الآنِيِّ والتَّلذُّذِ الحاضِرِ.. فتَلَذُّذُ هذه القُوى، وإِشباعُ نَهَمِها وانطِلاقُها مِن عِقالِها وتَحَرُّرُها يَجعَلُ اللَّطائِفَ الإِنسانيّةَ كالعَقلِ والقَلبِ تَعدِلُ عن وَظائِفِها الأَساسِ الَّتي هي المَشاعِرُ الإِنسانيّةُ السّامِيةُ السّاعِيةُ لِلعُقبَى.
أمّا طَرِيقُ أَهلِ الهِدايةِ والمَسلَكِ السّامِي لِلأَنبِياءِ عَلَيهِم السَّلَام -وفي المُقدِّمةِ حَبِيبُ رَبِّ العالَمِينَ: الرَّسُولُ الأَكرَمُ ﷺ- فهِي: وُجُودِيّةٌ وإِيجابِيّةٌ وتَعمِيرٌ، كما أنَّها حَرَكةٌ واستِقامةٌ على الطَّرِيقِ والحُدُودِ، وهِي تَفَكُّرٌ بالعُقبَى، وعُبُودِيّةٌ خالِصةٌ للهِ، كما أنَّها سَحْقٌ لِفِرعَوْنيّةِ النَّفسِ الأَمّارةِ بالسُّوءِ وكَبْحٌ لِجِماحِها؛ لِذا أَصبَحَ مُنافِقُو المَدِينةِ المُنَوَّرةِ في ذلك الوَقتِ أَمامَ هذه الأُسُسِ الإِيجابيّةِ المَتِينةِ وأَمثالِها كالخَفافِيشِ أَمامَ تلك الشَّمسِ السّاطِعةِ والسِّراجِ المُنِيرِ فأَغمَضُوا أَعيُنَهُم عنها، فارْتَمَوْا في أَحضانِ القُوّةِ الدّافِعةِ الشَّيطانيّةِ، وظَلُّوا في الضَّلالةِ.
[كيف غُلِب رسول الله ﷺ في نهاية أُحد وأول حُنَين؟]
وإذا قِيلَ: لَمّا كانَ الرَّسُولُ الأَكرَمُ ﷺ حَبِيبَ رَبِّ العالَمِينَ ولا يَنطِقُ إلّا بالحَقِّ ولا يَملِكُ إلّا الحَقِيقةَ، وقد أَمَدَّه اللهُ في غَزَواتِه بمَلائِكةٍ جُنُودًا مُسَوِّمِينَ، وارتَوَى جَيشٌ كامِلٌ مِن غَرْفةٍ مِن ماءٍ تَفَجَّر مِن بَينِ أَصابِعِه، وشَبِعَ أَلفٌ مِنَ النّاسِ بشاةٍ مَطبُوخةٍ وحَفَناتٍ مِن قَمحٍ، وهَزَم الكُفّارَ بقَبْضةٍ مِن تُرابٍ رَماها على عُيُونِهِم، ودَخَلَت تلك القَبضةُ مِنَ التُّرابِ في عَينِ كلِّ كافِرٍ.. إنَّ قائِدًا رَبّانيًّا يَملِكُ أَمثالَ هذه المُعجِزاتِ الباهِرةِ وكَثِيرًا غَيرَها، كَيفَ يُغلَبُ في نِهايةِ “أُحُدٍ” وبِدايةِ “حُنَينٍ” ؟!
الجَوابُ: إنَّ الرَّسُولَ ﷺ قد أُرسِلَ إلى البَشَرِيّةِ كافّةً، قُدْوةً وإِمامًا ورائِدًا، كي تَتَعلَّمَ مِنه مَناهِجَ الحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ والشَّخصِيّةِ ودَساتِيرَها، وتَتَعوَّدَ على الِانقِيادِ لِقَوانِينِ الإِرادةِ الإِلٰهِيّةِ الحَكِيمةِ وتَنسَجِمَ معَ دَساتِيرِها الرَّبّانيّةِ.. فلو كانَ الرَّسُولُ ﷺ مُستَنِدًا إلى المُعجِزاتِ وخَوارِقِ العاداتِ في جَمِيعِ أَفعالِه الشَّخصِيّةِ مِنها والِاجتِماعِيّةِ لَمَا تَسَنَّى له أن يكُونَ إِمامًا مُطلَقًا ولا قُدْوةً كامِلةً حَسَنةً لِلبَشَرِيّةِ قاطِبةً.
ولِهذا السَّبَبِ لم يُظهِر ﷺ المُعجِزاتِ إلّا تَصدِيقًا لِدَعْواه، بشَكلٍ مُتَفرِّقٍ، عِندَ الحاجةِ، لِكَسرِ عِنادِ المُنكِرينَ؛ أمّا في سائِرِ الأَوْقاتِ فقد كانَ ﷺ مُراعِيًا بكلِّ دِقّةٍ لِقَوانِينِ عادةِ اللهِ ولِسُنَنِه الجارِيةِ، ومُطِيعًا طاعةً كامِلةً لِنَوامِيسِه المُؤسَّسةِ على الحِكْمةِ الرَّبَّانيّةِ والمَشِيئةِ الإِلٰهِيّةِ، كطاعَتِه ومُراعاتِه لِلأَوامِرِ الإِلٰهِيّةِ؛ لِذا كانَ ﷺ يَلبَسُ الدِّرعَ في الحُرُوبِ، ويَأمُرُ الجُنُودَ بالتَّتْرُّسِ بالمَوانِعِ ضِدَّ الأَعداءِ، ويُجرَحُ ويَتَأذَّى ويَتَحمَّلُ المَشَقّاتِ.. كلُّ ذلك لِكَي يُبيِّنَ مَدَى طاعَتِه الكامِلةِ ومُراعاتِه لِلقَوانِينِ الإِلٰهِيّةِ الحَكِيمةِ، وانقِيادِه التّامِّ لِشَرِيعةِ الفِطْرةِ الكَونيّةِ ونَوامِيسِها.
[الإشارة العاشرة: من دسائس إبليس أنه يجعل أتباعه ينكرون وجوده]
الإشارة العاشرة:
إنَّ لِإبلِيسَ دَسِيسةً كُبْرَى هي أنَّه يَجعَلُ الَّذِينَ اتَّبعُوه يُنكِرُونَ وُجُودَه. سنَذكُرُ شَيئًا حَولَ هذه المَسأَلةِ البَدِيهِيّةِ: وُجُودُ الشَّياطِينِ، حَيثُ يَتَردَّدُ في عَصرِنا هذا في قَبُولِها أُولَئِك الَّذِينَ تَلوَّثَت أَفكارُهُم بالفَلسَفةِ المادِّيّةِ، فنقُولُ:
أوَّلًا: مِثلَما هو ثابِتٌ بالمُشاهَدةِ ثُبُوتًا قَطعِيًّا وُجُودُ أَرواحٍ خَبِيثةٍ في أَجسادٍ بَشَرِيّةٍ في عالَمِ الإِنسانِ، تُنجِزُ وَظِيفةَ الشَّيطانِ وأَعمالَه؛ كَذلِك ثابِتٌ ثبُوتًا قَطعِيًّا وُجُودُ أَرواحٍ خَبِيثةٍ بلا أَجسادٍ في عالَمِ الجِنِّ، فلو أنَّ هَؤُلاءِ أُلبِسُوا أَجسادًا مادِّيّةً لَأَصبَحُوا تَمامًا مِثلَ أُولَئِك البَشَرِ الأَشرارِ؛ وكَذلِك لو تَمَكَّن شَياطِينُ الإِنسِ الَّذِينَ هم على صُوَرٍ بَشَرِيّةٍ مِن نَزعِ أَجسادِهِم لَأَصبَحُوا أَبالِسةَ الجِنِّ.
فبِناءً على هذه العَلاقةِ الوَطِيدةِ ذَهَب أَحَدُ المَذاهِبِ الباطِلةِ الفاسِدةِ إلى “أنَّ الأَرواحَ الخَبِيثةَ الشِّرِّيرةَ المُتَجسِّدةَ بصُورةِ أَناسِيَّ تَتَحوَّلُ إلى شَياطِينَ بَعدَ مَوتِها”!
ومِنَ المَعلُومِ أنَّه إذا ما فَسَد الشَّيءُ الثَّمِينُ يكُونُ فَسادُه أَشَدَّ مِن فَسادِ الشَّيءِ الرَّخِيصِ، كما هو في فَسادِ اللَّبَنِ أوِ الحَلِيبِ حَيثُ يُمكِنُ أن يُؤكَلا، أمّا إذا فَسَدَ الدُّهنُ فلا يُمكِنُ أَكلُه، إذ قد يكُونُ كالسُّمِّ؛ وهكَذا الإِنسانُ الَّذي هو أَكرَمُ المَخلُوقاتِ بل ذِروَتُها وقِمَّتُها، إذا فَسَد فإنَّه يكُونُ أَفسَدَ وأَحَطَّ مِنَ الحَيَوانِ الفاسِدِ نَفسِه، فيكُونُ كالحَشَراتِ الَّتي تَأنَسُ بالعُفُونةِ وتُرِيحُها الرَّوائِحُ الكَرِيهةُ، وكالحَيّاتِ الَّتي تَلْتَذُّ بلَدْغِ الآخَرِينَ؛ بل يَتَباهَى بتَلَذُّذِه بالأَخلاقِ الدَّنِيئةِ النّابِتةِ في مُستَنقَعِ الضَّلالةِ، ويَستَمرِئُ الأَضرارَ والجَرائِمَ النَّاجِمةَ في ظُلُماتِ الظُّلمِ، فيكُونُ إِذًا قَرِينًا لِلشَّيطانِ ومُتَقمِّصًا لِماهِيَّتِه.
نعم، إنَّ الدَّليلَ القاطِعَ على وُجُودِ شَياطِينِ الجِنِّ هو وُجُودُ شَياطِينِ الإِنسِ.
ثانيًا: إنَّ مِئاتِ الدَّلائِلِ القَطعِيّةِ في “الكَلِمةِ التّاسِعةِ والعِشرِينَ” لِإثباتِ وُجُودِ المَلائِكةِ والعالَمِ الرُّوحانِيِّ، هي بدَوْرِها دَلائِلُ لِإثباتِ وُجُودِ الشَّياطِينِ أَيضًا.. نُحِيلُ إلَيْها.
ثالثًا: إنَّ وُجُودَ المَلائِكةِ الَّذِينَ هم بحُكمِ المُمثِّلِينَ والمُشرِفِينَ على ما في أُمُورِ الخَيرِ المَوجُودةِ في الكَونِ مِن قَوانِينَ، كما أنَّه ثابِتٌ باتِّفاقِ الأَديانِ، كَذلِك وُجُودُ الشَّياطِينِ والأَرواحِ الخَبِيثةِ الَّذِينَ هم مُمثِّلُو الأُمُورِ الشِّرِّيرةِ ومُنَفِّذُوها وتَدُورُ حَولَهُم قَوانِينُها، فإِنَّه قَطعِيُّ الثُّبُوتِ حِكْمةً وحَقِيقةً، بل وُجُودُ سَبَبٍ وسِتارٍ مِن كائِنٍ ذِي شُعُورٍ في مُمارَسةِ الأُمُورِ الشِّرِّيرةِ أَكثَرُ ضَرُورةً، وذلك لِعَجزِ كلِّ شَخصٍ عن أن يَرَى الحُسنَ الحَقِيقيَّ لِجَمِيعِ الأُمُورِ، كما ذَكَرنا في مُستَهَلِّ “الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِينَ”، فلِأَجلِ ألّا تُحَدِّثَه نَفسُه باعتِراضٍ على أُمُورِ الخالِقِ سُبحانَه بما يَتَوهَّمُ مِن نَقصٍ أو شَرٍّ ظاهِرِيَّينِ، ويَتَّهِمَ رَحْمَتَه أو يَنتَقِدَ حِكْمَتَه أو يَشكُوَ بغَيرِ حَقٍّ، جَعَل الخالِقُ الكَرِيمُ الحَكِيمُ العَلِيمُ وَسائِطَ وأَسبابًا ظاهِرِيّةً مادِّيّةً سِتارًا لِأُمُورِ قَدَرِه، وحُجُبًا لِتَتَوجَّهَ إلَيْها الِاعتِراضاتُ والِانتِقاداتُ والشَّكاوَى، ولا تَتَوجَّهَ إلَيْه سُبحانَه وتَعالى.
فقد جَعَل الأَمراضَ والمَصائِبَ مَثلًا أَسبابًا وسِتارًا لِلأَجَلِ، لكَيْلا تَتَوجَّه الِاعتِراضاتُ وتَصِلَ إلى مَلَك المَوتِ “عَزْرائِيلَ عَلَيهِ السَّلَام”؛ وجَعَل مَلَكَ المَوتِ نَفسَه حِجابًا لِقَبضِ الأَرواحِ، لِئَلّا تَتَوجَّه الشَّكاوَى والِانتِقاداتُ -النَّاتِجةُ مِنَ الأُمُورِ الَّتي يُتَوهَّمُ أنَّها بغَيرِ رَحْمةٍ- إلَيْه سُبحانَه وتَعالَى.. وهكَذا وبقَطْعِيّةٍ أَكثَرَ اقتَضَتِ الحِكْمةُ الرَّبّانيّةُ وُجُودَ الشَّياطِينِ لِتَتَوجَّه إلَيْهِمُ الِاعتِراضاتُ النّاشِئةُ مِنَ الشُّرُورِ والأَضرارِ والفَسادِ.
رابِعًا: كما أنَّ الإِنسانَ عالَمٌ صَغِيرٌ، كَذلِك العالَمُ إِنسانٌ كَبِيرٌ، فهذا الإِنسانُ يُمَثِّلُ خُلاصةَ الإِنسانِ الكَبِيرِ وفِهرِسَه، فالنَّماذِجُ المُصَغَّرةُ في الإِنسانِ لا بُدَّ أنَّ أُصُولَها الكَبِيرةَ المُعَظَّمةَ مَوجُودةٌ في الإِنسانِ الأَكبَرِ بالضَّرُورةِ.
فمَثلًا: إنَّ وُجُودَ القُوّةِ الحافِظةِ في الإِنسانِ دَليلٌ قَطعِيٌّ على وُجُودِ اللَّوحِ المَحفُوظِ في العالَمِ، وكَذلِك يَشعُرُ كلٌّ مِنّا ويُحِسُّ أنَّ في قَرارةِ نَفسِه وفي زاوِيةٍ مِن زَوايا قَلبِه آلةً وعُضْوًا لِلوَسوَسةِ وهِي اللَّمّةُ الشَّيطانيّةُ الَّتي هي لِسانٌ شَيطانِيٌّ يَتَكلَّمُ بتَلقِيناتِ القُوّةِ الواهِمةِ، هذه القُوّةُ قد تَحَوَّلَت بفَسادِها إلى شَيطانٍ مُصَغَّرٍ، لِأنَّها لا تَتَحرَّكُ إلّا ضِدَّ اختِيارِ الإِنسانِ وإِرادَتِه وخِلافَ رَغَباتِه الحَقِيقيّةِ.. إنَّ هذا الَّذي يَشعُرُ به كلُّ إِنسانٍ حِسًّا وحَدْسًا في نَفسِه دَليلٌ قَطعِيٌّ على وُجُودِ الشَّياطِينِ الكَبِيرةِ في العالَمِ الكَبِيرِ.. ثمَّ إنَّ هذه اللَّمّةَ الشَّيطانيّةَ وتلك القُوّةَ الواهِمةَ لِكَونِهِما أُذُنًا ولِسانًا تُشعِرانِ بوُجُودِ نَفسٍ شِرِّيرةٍ خارِجِيّةٍ تَنفُثُ في الأُولَى وتَستَنطِقُ الثّانيةَ.
[الإشارة الحادية عشرة: غضب الموجودات كافة على أهل الضلالة]
الإشارة الحاديةَ عشرةَ:
يُعَبِّرُ القُرآنُ الكَرِيمُ بأُسلُوبٍ مُعجِزٍ عن غَضَبِ الكائِناتِ وتَغَيُّظِ عَناصِرِ الكَونِ جَمِيعِها وتَهَيُّجِ المَوجُوداتِ كافّةً مِن شَرِّ أَهلِ الضَّلالةِ، عِندَما يَصِفُ اشتِراكَ السَّماءِ والأَرضِ بالهُجُومِ على قَومِ “نُوحٍ عَلَيهِ السَّلَام” في الطُّوفانِ، وعَصْفَ الرِّياحِ بقَومِ “عادٍ”، والصَّيحةَ على “ثَمُودَ”، وهَيَجانَ الماءِ على قَومِ فِرعَونَ، ونِقْمةَ الأَرضِ على قارُونَ.. عِندَ رَفضِهِمُ الإِيمانَ حتَّى إنَّ جَهَنَّمَ ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ..﴾ وهكَذا يُبيِّنُ القُرآنُ الكَرِيمُ غَضَبَ المَوجُوداتِ وحِدَّتَها على أَهلِ الضَّلالةِ والعِصيانِ ويَزجُرُهُم بهذا الأُسلُوبِ الإِعجازِيِّ الفَرِيدِ.
[لماذا تغضب الكائنات بعظَمتها على الكافر وهو شخص تافه]
سُؤالٌ: لِمَ تَجلُبُ هذه الأَعمالُ التّافِهةُ الصّادِرةُ عن أَشخاصٍ لا وَزْنَ لَهُم باقتِرافِهِم ذُنُوبًا شَخصِيّةً، سَخَطَ الكَونِ وغَضَبَه؟
الجَوابُ: لقد أَثبَتْنا في الإِشاراتِ السَّابِقةِ وفي رَسائِلَ مُتَفرِّقةٍ أُخرَى أنَّ الكُفرَ والضَّلالةَ تَجاوُزٌ شَنِيعٌ وتَعَدٍّ رَهِيبٌ، وجَرِيمةٌ تَتَعلَّقُ بجَمِيعِ المَوجُوداتِ، ذلك لِأنَّ أَهلَ الكُفرِ والضَّلالةِ يَرفُضُونَ الغايةَ السّامِيةَ لِخَلقِ الكائِناتِ ونَتِيجَتَها العُظمَى، أَلا وهي عُبُودِيّةُ الإِنسانِ وتَوَجُّهُه بالإِيمانِ والطّاعةِ والِانقِيادِ لِلرُّبُوبيّةِ الإِلٰهِيّةِ؛ فإِنكارُهُم هذه النَّتيجةَ العُظمَى لِلكَونِ -الَّتي هي العِلّةُ الغائِيّةُ وسَبَبُ بَقاءِ المَوجُوداتِ- نَوعٌ مِن تَعَدٍّ على حُقُوقِ جَمِيعِ المَخلُوقاتِ.
وحَيثُ إنَّ المَوجُوداتِ قاطِبةً تَتَجلَّى فيها الأَسماءُ الإِلٰهِيّةُ الحُسنَى، وكأنَّ كلَّ جُزءٍ مِنها مِرآةٌ تَعكِسُ تَجَلِّياتِ أَنوارِ تلك الأَسماءِ المُقَدَّسةِ، فيَكتَسِبُ ذلك الجُزءُ أَهَمِّيّةً بها ويَرتَفِعُ مَنزِلةً، فإنَّ إِنكارَ الكافِرِ لِتِلك الأَسماءِ الحُسنَى ولِتِلك المَنزِلةِ الرَّفيعةِ لِلمَوجُوداتِ وأَهَمِّيَّتِها هو إِهانةٌ عَظِيمةٌ وتَحقِيرٌ شَدِيدٌ فَوقَ كَونِه تَشوِيهًا ومَسْخًا وتَحرِيفًا إِزاءَ تلك الأَسماءِ.
وكَذلِك فإنَّ كلَّ مَخلُوقٍ في هذا الكَونِ قد أُوكِلَ إلَيْه وَظِيفةٌ، وكلَّ جُزءٍ أُنِيطَ به أَمرٌ، أي إنَّ لِكُلِّ شَيءٍ في الوُجُودِ مَهامَّ مُعَيَّنةً، فهُو إِذًا بمَثابةِ مَأمُورٍ ومُوَظَّفٍ رَبّانِيٍّ؛ فالكافِرُ بكُفرِه يَسلُبُه تلك الوَظِيفةَ المُهِمّةَ ويَجعَلُه جامِدًا لا مَعنَى له، وفانِيًا لا غايةَ له، فيُهِينُه بذلك ويُحَقِّرُه.. وهكَذا يَظهَرُ تَعَدِّي الكُفرِ ويَتبيَّنُ تَجاوُزُه على حُقُوقِ المَوجُوداتِ جَمِيعِها.
ولَمَّا كانَتِ الضَّلالةُ بأَنواعِها المُختَلِفةِ -كلٌّ حَسَبَ دَرَجَتِها- تُنكِرُ الحِكْمةَ الرَّبَّانيّةَ في خَلقِ الكائِناتِ، وتَرفُضُ المَقاصِدَ الإِلٰهِيّةَ في بَقاءِ العالَمِ، فإنَّ المَوجُوداتِ بدَوْرِها تَتَهيَّجُ، والمَخلُوقاتِ تَثُورُ، والكائِناتِ تَغضَبُ على الكُفرِ وأَهلِه.
فيا أَيُّها الإِنسانُ العاجِزُ المِسكِينُ، ويا مَن جِسمُه صَغِيرٌ وذَنْبُه جَسِيمٌ وظُلْمُه عَظِيمٌ.. إنْ كُنتَ راغِبًا في النَّجاةِ مِن غَضْبةِ العالَمِ ونُفُورِ المَخلُوقاتِ وثَوْرةِ المَوجُوداتِ، فدُونَك سَبِيلَ النَّجاةِ، وهُو الدُّخُولُ في دائِرةِ القُرآنِ الحَكِيمِ المُقَدَّسةِ.. واتِّباعُ المُبَلِّغِ الأَمِينِ ﷺ في سُنَّتِه المُطَهَّرةِ.. ادْخُلْ.. واتَّبِعْ.
[الإشارة الثانية عشرة: جواب عن أربعة أسئلة]
الإشارة الثانيةَ عشْرةَ:
جَوابٌ على أَربَعةِ أَسئِلةٍ:
[السؤال الأول: أين العدل في العذاب الأبدي على ذنب محدود]
السُّؤالُ الأوَّلُ: أَينَ وَجْهُ العَدالةِ في عَذابٍ مُقِيمٍ في جَهَنَّمَ لِذُنُوبٍ مَحدُودةٍ في حَياةٍ مَحدُودةٍ؟
الجَوابُ: لقد فُهِم بشَكلٍ واضِحٍ مِنَ الإِشاراتِ السّابِقةِ ولا سِيَّما الإشارةِ الحادِيةَ عَشْرةَ: أنَّ جَرِيمةَ الكُفرِ والضَّلالةِ لَيسَت مَحدُودةً، وإنَّما هي جِنايةٌ لا نِهايةَ لها واعتِداءٌ على حُقُوقٍ لا حَدَّ لها.
[السؤال الثاني: كيف أن الجنة فضل وجهنم عدل؟]
السُّؤالُ الثّاني: ما سِرُّ الحِكْمةِ فيما جاءَ في الشَّرعِ: إنَّ جَهَنَّمَ جَزاءُ عَمَلٍ، أمّا الجَنّةُ فهِي فَضْلٌ إِلٰهِيٌّ؟
الجَوابُ: لقد تَبيَّنَ في الإِشاراتِ السَّابِقةِ أنَّ الإِنسانَ يكُونُ سَبَبًا لِتَدمِيرٍ هائِلٍ وشُرُورٍ كَثِيرةٍ بإِرادةٍ جُزئيّةٍ بلا إِيجادٍ، وبكَسْبٍ جُزئيٍّ، وبتَشكِيلِه أَمرًا عَدَمِيًّا أوِ اعتِبارِيًّا وإِعطاءِ الثُّبُوتِ له؛ ولِأنَّ نَفسَه وهَواه يَمِيلانِ إلى الأَضرارِ والشُّرُورِ دائِمًا، لِذا يَتَحمَّلُ هو مَسؤُوليّةَ السَّيِّئاتِ النّاتِجةِ مِن ذلك الكَسْبِ الجُزئيِّ اليَسِيرِ، ذلك لِأنَّ نَفسَه هي الَّتي أَرادَت، وكَسْبَه الذّاتِيَّ هو المُسَبِّبُ، ولِأنَّ ذلك الشَّرَّ عَدَمِيٌّ أَصبَحَ العَبدُ فاعِلًا له، واللهُ سُبحانَه خَلَقَه فصارَ الإِنسانُ مُستَحِقًّا لِتَحَمُّلِ مَسؤُوليّةِ تلك الجَرِيمةِ غَيرِ المَحدُودةِ بعَذابٍ غَيرِ مَحدُودٍ.
أمّا الحَسَناتُ فما دامَت وُجُودِيّةً أَصِيلةً، لا يكُونُ الكَسْبُ الإِنسانِيُّ والإِرادةُ الجُزئيّةُ عِلّةً مُوجِدةً لها، فالإِنسانُ ليس فاعِلًا حَقِيقيًّا لها، وإِنَّ نَفسَ الإِنسانِ الأَمّارةَ بالسُّوءِ لا تَمِيلُ إلى الحَسَناتِ، بلِ الرَّحْمةُ الإِلٰهِيّةُ هي الَّتي تُرِيدُها، وقُدرَتُه سُبحانَه هي الَّتي تَخلُقُها، إلّا أنَّ الإِنسانَ يُمكِنُ أن يكُونَ مالِكًا لِتِلك الحَسَناتِ بالإِيمانِ وبالرَّغبةِ وبالنِّيّةِ؛ وأمّا بَعدَ تَمَلُّكِها فإنَّ تلك الحَسَناتِ هي بذاتِها شُكرٌ لِلنِّعَمِ الإِلٰهِيّةِ غَيرِ المَحدُودةِ الَّتي أَسبَغَها اللهُ سُبحانَه وتَعالَى على الإِنسانِ، وفي مُقدِّمَتِها نِعمةُ الوُجُودِ ونِعمةُ الإِيمانِ؛ أي: إنَّ تلك الحَسَناتِ شُكرٌ لِلنِّعَمِ السّابِقةِ، لِذا فالجَنّةُ الَّتي وَعَدَها اللهُ لِعِبادِه تُوهَبُ بفَضْلٍ رَحْمانِيٍّ خالِصٍ، فهِي وإن كانَت ظاهِرًا مُكافَأةً لِلمُؤمِنِ، إلّا أنَّها في حَقِيقَتِها تَفَضُّلٌ مِنه سُبحانَه وتَعالَى.
إِذًا فالنَّفسُ الإِنسانيّةُ لِكَونِها المُسَبِّبةَ لِلسَّيِّئاتِ، فهِي الَّتي تَستَحِقُّ الجَزاءَ؛ أمّا في الحَسَناتِ فلَمّا كانَ السَّبَبُ مِنَ اللهِ سُبحانَه وكَذلِك العِلّةُ مِنه وامتَلَكَها الإِنسانُ بالإِيمانِ وَحْدَه، فلا يُمكِنُه أن يُطالِبَ بثَوابِها، بل يَرجُو الفَضْلَ مِنه سُبحانَه.
[السؤال الثالث: لماذا لا تضاعف السيئات مع أنها تتعدى]
السُّؤالُ الثّالثُ: لَمّا كانَتِ السَّيِّئاتُ تَتَعدَّدُ بالتَّجاوُزِ والِانتِشارِ كما تَبيَّنَ فيما سَبَق، كانَ المَفرُوضُ أن تُكتَبَ كلُّ سَيِّئةٍ بأَلفٍ، أمّا الحَسَناتُ فلِأَنَّها إِيجابِيّةٌ ووُجُودِيّةٌ فلا تَتَعدَّدُ مادِّيًّا، ولِأنَّها لا تَحصُلُ بإِيجادِ العَبدِ ولا برَغبةِ النَّفسِ، فكانَ يَجِبُ ألّا تُكتَبَ، أو تُكتَبَ حَسَنةً واحِدةً؛ فلِمَ تُكتَبُ السَّيِّئةُ بمِثلِها والحَسَنةُ بعَشرِ أَمثالِها أو أَحيانًا بأَلفٍ؟
الجَوابُ: إنَّ اللهَ جَلَّ وعَلا يُبيِّنُ لنا -بهذه الصُّورةِ- كَمالَ رَحْمَتِه وسَعَتَها وجَمالَ رَحِيمِيَّتِه بعِبادِه.
[السؤال الرابع: انتصارات أهل الضلالة ما مستندها؟]
السُّؤالُ الرّابعُ: إنَّ الِانتِصاراتِ الَّتي يُحرِزُها أَهلُ الضَّلالةِ والقُوّةَ والصَّلابةَ الَّتي يُظهِرُونَها، وتَغَلُّبَهُم على أَهلِ الهِدايةِ تُظهِرُ لنا أنَّهُم يَستَنِدُونَ إلى حَقِيقةٍ ويَركَنُونَ إلى قُوّةٍ، فإمّا أنَّ هُنالِك ضَعْفًا ووَهْنًا في أَهلِ الهِدايةِ، أو أنَّ في هَؤُلاءِ الضّالِّينَ حَقِيقةً وأَصالةً!
الجَوابُ: كلَّا ثمَّ كلَّا.. فلَيسَ في أَهلِ الهِدايةِ ضَعفٌ ولا في أَهلِ الضَّلالةِ حَقِيقةٌ، ولكِن معَ الأَسَفِ يُبتَلَى جَمْعٌ مِن قَصِيرِي النَّظَرِ -مِنَ السُّذَّجِ الَّذِينَ لا يَملِكُونَ مَوازِينَ- بالتَّردُّدِ والِانْهِزامِ، فيُصِيبُ عَقِيدَتَهُمُ الخَلَلُ بقَولِهِم: لو أنَّ أَهلَ الحَقِّ على صِدقٍ وصَوابٍ لَمَا كانَ يَنبَغِي أن يُغلَبُوا ولا يُذَلُّوا إلى هذا الحَدِّ، إذِ الحَقِيقةُ قَوِيّةٌ، وإنَّ القاعِدةَ الأَساسِيّةَ هي: “الحَقُّ يَعلُو ولا يُعلَى علَيْه“، ولو لم يَكُن أَهلُ الباطِلِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ ويَغلِبُونَ أَهلَ الحَقِّ على قُوّةٍ حَقِيقيّةٍ وقاعِدةٍ رَصِينةٍ ونُقطةِ استِنادٍ مَتِينةٍ، لَمَا كانُوا يَغلِبُونَ أَهلَ الحَقِّ ويَتَفوَّقُونَ علَيْهِم إلى هذه الدَّرَجةِ.
وجَوابُ ذلك: لقد أَثبَتْنا في الإِشاراتِ السَّابِقةِ إِثباتًا قاطِعًا أنَّ انْهِزامَ أَهلِ الحَقِّ أَمامَ أَهلِ الباطِلِ لا يَتَأتَّى مِن أنَّهُم لَيسُوا على حَقِيقةٍ ولا مِن أنَّهُم ضُعَفاءُ، وأنَّ انتِصارَ أَهلِ الضَّلالةِ وتَغَلُّبَهم ليس ناشِئًا مِن قُوَّتِهِم ولا مِن وُجُودِ مُستَنَدٍ لَهُم. فمَضمُونُ تلك الإِشاراتِ السّابِقةِ بأَجمَعِها هو جَوابُ هذا السُّؤالِ، ولكِنَّنا نَكتَفِي هنا بالإِشارةِ إلى دَسائِسِهِم وشَيءٍ مِن أَسلِحَتِهِمُ المُستَعمَلةِ.
لقد شاهَدتُ مِرارًا بنَفسِي أنَّ عَشَرةً في المِئةِ مِن أَهلِ الفَسادِ يَغلِبُونَ تِسعِينَ في المِئةِ مِن أَهل الصَّلاحِ، فكُنتُ أَحارُ في هذا الأَمرِ، ثمَّ بإِمعانِ النَّظَرِ فيه، فَهِمتُ يَقِينًا أنَّ ذلك التَّغلُّبَ والسَّيطَرةَ لم يَكُونا نَتِيجةَ قُوّةٍ ولا قُدْرةٍ يَمتَلِكُها أَهلُ الباطِلِ، وإنَّما مِن طَرِيقَتِهِمُ الفاسِدةِ، وسَفالَتِهِم ودَناءَتِهِم، وعَمَلِهِمُ التَّخرِيبِيِّ، واغتِنامِهِمُ اختِلافَ أَهلِ الحَقِّ وإِلقاءَ الخِلافاتِ والحَزازاتِ فيما بَينَهُم، واستِغلالِ نِقاطِ الضَّعفِ عِندَهُم والنَّفْثِ فيها، وإِثارةِ الغَرائِزِ الحَيَوانِيّةِ والنَّفسانِيّةِ والأَغراضِ الشَّخصِيّةِ عِندَهُم، واستِخدامِهِمُ الِاستِعداداتِ المُضِرّةَ الَّتي هي كالمَعادِنِ الفاسِدةِ الكامِنةِ في سَبِيكةِ فِطْرةِ الإِنسانِ، والتَّربِيتِ على فِرعَونيّةِ النَّفسِ بِاسمِ الشُّهرةِ والرُّتبةِ والنُّفُوذِ.. وخَوْفِ النّاسِ مِن تَخرِيباتِهِمُ الظّالِمةِ المُدَمِّرةِ.. وأَمثالُ هذه الدَّسائِسِ الشَّيطانيّةِ يَتَغلَّبُونَ بها على أَهلِ الحَقِّ تَغَلُّبًا مُؤَقَّتًا، ولكِن هذا الِانتِصارُ الوَقتِيُّ لَهُم لا قِيمةَ له ولا أَهَمِّيّةَ أَمامَ بُشرَى اللهِ تَعالَى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ..﴾ والسِّرُّ الكامِنُ في “الحَقُّ يَعلُو ولا يُعلَى علَيْه”، إذ يُصبِحُ سَبَبًا لِدُخُولِهِمُ النّارَ وفَوزِ أَهلِ الحَقِّ بالجَنّةِ.
فلِأَجلِ ظُهُورِ الضَّعِيفِ الهَزِيلِ في الضَّلالةِ بمَظهَرِ القُوّةِ، واكتِسابَ التَّافِهِينَ فيها شُهرةً وصِيتًا، يَسلُكُها كلُّ أَنانِيٍّ مُراءٍ مُولَعٍ بالشُّهرةِ، فيقُومُ بإِرهابِ الآخَرِينَ والِاعتِداءِ علَيْهِم وإِضرارِهِم، لِلحُصُولِ على مَنزِلةٍ وكَسْبِ شُهرةٍ، فيَقِفُ في صَفِّ المُعادِينَ لِأَهلِ الحَقِّ لِيَستَرعِيَ انتِباهَ النّاسِ ويَجلُبَ أَنظارَهُم، ولِيَذكُرُوه بإِسنادِهِم أَعمالَ التَّخرِيبِ إلَيْه، تلك الَّتي لم تَنشَأ مِن قُوّةٍ وقُدرةٍ له، بل مِن تَركِه الخَيرَ وتَعطِيلِه له، حتَّى سارَ مَثَلًا: أنَّ أَحَدَ المُغرَمِينَ بالشُّهرةِ قد لَوَّث المَسجِدَ الطّاهِرَ حتَّى يَذكُرَه النّاسُ، وقد ذَكَرُوه فِعلًا.. ولكِن باللَّعنةِ، إلّا أنَّ حُبَّه الشَّدِيدَ لِلشُّهرةِ زَيَّن له هذا الذِّكرَ اللَّعِينَ فرَآه حَسَنًا.
فيا أَيُّها الإِنسانُ المِسكِينُ المَخلُوقُ لِعالَمِ الخُلُودِ والمُبتَلَى بهذه الدُّنيا الفانِيةِ.. أَمعِنِ النَّظَرَ في الآيةِ الكَرِيمةِ وأَنصِتْ إلَيْها: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾، وانظُرْ ماذا تُفِيدُ؟ إنَّها تُعلِنُ صَراحةً أنَّ السَّماواتِ والأَرضَ الَّتي لها عَلاقةٌ بالإِنسانِ لا تَبكِي على جِنازةِ أَهلِ الضَّلالةِ عِندَ مَوتِهِم.. أي إنَّها راضِيةٌ بفِراقِهِم مُرتاحةٌ بمَوتِهِم؛ وإنَّها تُشِيرُ ضِمْنًا أنَّ السَّماواتِ والأَرضَ تَبكِي على جِنازةِ أَهلِ الهِدايةِ عِندَ مَوتِهِم، فلا تَتَحمَّلُ فِراقَهُم، إذ إنَّ الكائِناتِ جَمِيعًا مُرتَبِطةٌ معَ أَهلِ الإِيمانِ، وذاتُ عَلاقةٍ بهم، وإنَّها راضِيةٌ عَنهُم، لِأنَّهُم يَعرِفُونَ -بالإِيمانِ- رَبَّ العالَمِينَ فيَحمِلُونَ حُبًّا لِلمَوجُوداتِ ويُقَدِّرُونَ قِيمَتَها، ولَيسُوا كأُولَئِك الضّالِّينَ الَّذِينَ يُضمِرُونَ العَداءَ لِلمَوجُوداتِ ويُحَقِّرُونَها.
فيا أيُّها الإِنسانُ، تَأمَّل في عاقِبَتِك، وفَكِّر في مَصِيرِك، فأَنتَ لا مَحالةَ صائِرٌ إلى المَوتِ، فإن كُنتَ مِمَّن جَعَل هَواه تَبَعًا لِلشَّيطانِ، فإنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ حَوْلَك مِنَ الجِيرانِ حتَّى الأَقارِبَ سيُسَرُّونَ بنَجاتِهِم مِن شُرُورِك، وإن كُنتَ مُستَعِيذًا باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ ومُتَّبِعًا لِأَوامِرِ القُرآنِ الكَرِيمِ وسُنّةِ حَبِيبِ رَبِّ العالَمِينَ ﷺ فستَحزَنُ علَيْك السَّماواتُ والأَرضُ، وتَبكِي مَعنًى لِفِراقِك المَوجُوداتُ جَمِيعُها، فيُشَيِّعُونَك بهذا المَأْتَمِ العُلوِيِّ والنَّعْيِ الشّامِلِ إلى بابِ القَبْرِ، مُعبِّرِينَ بذلك عمّا أُعِدَّ لك مِن حُسنِ الِاستِقبالِ حَسَبَ دَرَجَتِك في عالَمِ البَقاءِ.
[الإشارة الرابعة عشرة: ثلاث نقاط]
الإشارة الثَّالثةَ عشْرةَ:
تَتَضمَّنُ ثَلاثَ نِقاطٍ:
[النقطة الأولى: كيد الشيطان بخصوص عظَمة الحقائق الإيمانية]
النُّقطةُ الأُولَى: إنَّ أَعظَمَ كَيدٍ لِلشَّيطانِ هو خِداعُه لِضَيِّقي الصَّدرِ، وقاصِرِي الفِكرِ مِنَ النّاسِ، مِن جِهةِ عَظَمةِ الحَقائِقِ الإِيمانيّةِ بقَولِه: كَيفَ يُمكِنُ تَصدِيقُ ما يُقالُ: أنَّ واحِدًا أَحَدًا هو الَّذي يُدَبِّرُ ضِمنَ رُبُوبيَّتِه شُؤُونَ جَمِيعِ الذَّرّاتِ والنُّجُومِ والسَّيّاراتِ وسائِرِ المَوجُوداتِ ويُدِيرُ أُمُورَها بأَحوالِها كافّةً؟ فكَيفَ تُصَدَّقُ وتَقَرُّ في القَلبِ هذه المَسأَلةُ العَجِيبةُ العَظِيمةُ؟ وكَيفَ يَقنَعُ بها الفِكرُ؟.. مُثِيرًا بذلك حِسًّا إِنكارِيًّا مِن نُقطةِ عَجزِ الإِنسانِ وضَعفِه.
الجَوابُ: “اللهُ أَكبَرُ” هو الجَوابُ الحَقِيقيُّ المُلجِمُ لِهذِه الدَّسِيسةِ الشَّيطانيّةِ وهُو المُسكِتُ لها.
نعم، إنَّ كَثرةَ تَكرارِ “اللهُ أَكبَرُ” وإِعادَتِها في جَمِيعِ الشَّعائِرِ الإِسلامِيّةِ، هو لِأَجلِ القَضاءِ على هذا الكَيدِ الشَّيطانِيِّ، لِأنَّ الإِنسانَ بقُوَّتِه العاجِزةِ وقُدرَتِه الضَّعِيفةِ وفِكرِه المَحدُودِ يَرَى تلك الحَقائِقَ الإِيمانيّةَ غَيرَ المَحدُودةِ ويُصَدِّقُها بنُورِ “اللهُ أَكبَرُ”، ويَحمِلُ تلك الحَقائِقَ بقُوّةِ “اللهُ أَكبَرُ”، وتَستَقِرُّ عِندَه ضِمنَ دائِرةِ “اللهُ أَكبَرُ” فيُخاطِبُ قَلبَه المُبتَلَى بالوَسوَسةِ قائِلًا: إنَّ تَدبِيرَ شُؤُونِ هذه الكائِناتِ وإِدارَتَها بهذا النِّظامِ الرَّائِعِ الَّذي يَراه كلُّ ذِي بَصَرٍ لا تُفسَّرُ إلّا بطَرِيقَتَينِ:
الأُولَى: وهِي المُمكِنةُ، ولكِنَّها مُعجِزةٌ خارِقةٌ، لِأنَّ أَثَرًا كهَذا الأَثَرِ المُعجِزِ لا شَكَّ أنَّه ناتِجٌ مِن عَمَلٍ خارِقٍ وبطَرِيقةٍ مُعجِزةٍ أَيضًا؛ وهذه الطَّرِيقةُ هي أنَّ المَوجُوداتِ قاطِبةً لم تُخلَق إلّا برُبُوبيّةِ الأَحَدِ الصَّمَدِ وبإِرادَتِه وقُدرَتِه، وهِي شاهِدةٌ على وُجُودِه سُبحانَه بعَدَدِ ذَرّاتِها.
الثّانيةُ: وهِي طَرِيقُ الكُفرِ والشِّركِ، المُمتَنِعةُ والصَّعبةُ مِن جَمِيعِ النَّواحِي، وغَيرُ المَعقُولةِ إلى دَرَجةِ الِاستِحالةِ، لِأنَّه يَلزَمُ أن يكُونَ لِكُلِّ مَوجُودٍ في الكَونِ، بل في كلِّ ذَرّةٍ فيه، أُلُوهِيّةٌ مُطلَقةٌ وعِلمٌ مُحِيطٌ واسِعٌ، وقُدرةٌ شامِلةٌ غَيرُ مُتَناهِيةٍ كي تَظهَرَ إلى الوُجُودِ نُقُوشُ الصَّنعةِ البَدِيعةِ المُتَكامِلةِ بهذا النِّظامِ والإِتقانِ الرّائِعَينِ المُشاهَدَينِ، وبهذا التَّقدِيرِ والتَّمَيُّزِ الدَّقيقَينِ.. وتلك هي ما بَيَّنّا امتِناعَها واستِحالَتَها وأَثبَتْناها بدَلائِلَ قاطِعةٍ كما في “المَكتُوبِ العِشرِينَ” و”الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِينَ” وفي رَسائِلَ أُخرَى كَثِيرةٍ.
والخُلاصةُ: لو لم تَكُن رُبُوبيّةٌ ذاتُ عَظَمةٍ وكِبْرِياءَ لائِقةٌ لِتَدبِيرِ الشُّؤُونِ، لَوَجَب حِينَئذٍ سُلُوكُ طَرِيقٍ مُمتَنِعٍ وغَيرِ مَعقُولٍ مِن جَمِيعِ الجِهاتِ؛ فحتَّى الشَّيطانُ نَفسُه لن يُكلِّفَ أَحَدًا الدُّخُولَ في هذا المُحالِ المُمتَنِعِ بتَركِ تلك العَظَمةِ والكَبْرِياءِ اللّائِقةِ المُستَحَقّةِ الضَّرُورِيّةِ.
[النقطة الثانية: دسيسة إثارة الأنا وعدم الاعتراف بالذنب]
النُّقطةُ الثّانيةُ: إنَّ دَسِيسةً مُهِمّةً لِلشَّيطانِ هي: دَفعُ الإِنسانِ إلى عَدَمِ الِاعتِرافِ بتَقصِيرِه، كي يَسُدَّ علَيْه طَرِيقَ الِاستِغفارِ والِاستِعاذةِ، مُثِيرًا فيه أَنانيّةَ النَّفسِ لِتُدافِعَ كالمُحامِي عن ذاتِها، وتُنزِّهَها عن كلِّ نَقصٍ.
نعم، إنَّ نَفْسًا تُصغِي إلى الشَّيطانِ لا تَرغَبُ في أنْ تَنظُرَ إلى تَقصِيرِها وعُيُوبِها، حتَّى إذا رَأَتْها فإنَّها تُؤَوِّلُها بتَأوِيلاتٍ عَدِيدةٍ، فتَنظُرُ إلى ذاتِها وأَعمالِها بعَينِ الرِّضا، كما قالَ الشّاعِرُ:
وعَيْنُ الرِّضا عَن كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلةٌ…
فلا تَرَى عَيْبًا، لِذا لا تَعتَرِفُ بتَقصِيرِها، ومِن ثَمَّ فلا تَستَغفِرُ اللهَ ولا تَستَعِيذُ به، فتكُونُ أُضحُوكةً لِلشَّيطانِ.. وكَيفَ يُوثَقُ بهذه النَّفسِ الأَمّارةِ بالسُّوءِ ويُعتَمَدُ علَيْها وقد ذَكَرَها القُرآنُ الكَرِيمُ بلِسانِ نَبِيٍّ عَظِيمٍ: يُوسُفَ عَلَيهِ السَّلَام: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾، فمَن يَتَّهِمُ نَفسَه يَرَى عُيُوبَها وتَقصِيرَها، ومَنِ اعتَرَفَ بتَقصِيرِ نَفسِه يَستَغفِرُ رَبَّه، ومَن يَستَغفِرُ رَبَّه يَستَعِيذُ به مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ، وعِندَها يَنجُو مِن شُرُورِه.. وإنَّه لَتَقصِيرٌ أَكبَرُ ألّا يَرَى الإِنسانُ تَقصِيرَه، وإنَّه لَنَقصٌ أَعظَمُ كَذلِك ألّا يَعتَرِفَ بنَقصِه.. ومَن يَرَى عَيبَه وتَقصِيرَه فقدِ انتَفَى عنه العَيبُ، حتَّى إذا ما اعتَرَف يُصبِحُ مُستَحِقًّا لِلعَفوِ.
[النقطة الثالثة: دسيسة معاداة المؤمن لعيبٍ فيه دون سائر محاسنه]
النُّقطةُ الثّالثةُ: إنَّ ما يُفسِدُ الحَياةَ الِاجتِماعِيّةَ لِلإِنسانِ هي الدَّسِيسةُ الشَّيطانيّةُ الآتِيةُ:
إنَّه يَحجُبُ بسَيِّئةٍ واحِدةٍ لِلمُؤمِنِ جَمِيعَ حَسَناتِه، فالَّذِينَ يُلقُونَ السَّمعَ إلى هذا الكَيدِ الشَّيطانِيِّ مِن غَيرِ المُنصِفِينَ يُعادُونَ المُؤمِنَ؛ بَينَما اللهُ سُبحانَه وتَعالَى عِندَما يَزِنُ أَعمالَ المُكلَّفِينَ بمِيزانِه الأَكبَرِ وبعَدالَتِه المُطلَقةِ يَومَ الحَشرِ فإنَّه يَحكُمُ مِن حَيثُ رُجْحانُ الحَسَناتِ أوِ السَّيِّئاتِ؛ وقد يَمحُو بحَسَنةٍ واحِدةٍ ويُذهِبُ ذُنُوبًا كَثِيرةً، حَيثُ إنَّ ارتِكابَ السَّيِّئاتِ والآثامِ سَهلٌ ويَسِيرٌ ووَسائِلُها كَثِيرةٌ.. فيَنبَغِي إِذًا التَّعامُلُ في هذه الدُّنيا والقِياسُ بمِثلِ مِيزانِ العَدلِ الإِلٰهِيِّ، فإن كانَت حَسَناتُ شَخصٍ أَكثَرَ مِن سَيِّئاتِه كَمِّيّةً أو نَوعِيّةً فإنَّه يَستَحِقُّ المَحَبّةَ والِاحتِرامَ، بل يَنبَغِي أَن يُنظَرَ إلى كَثِيرٍ مِن سَيِّئاتِه بعَينِ العَفوِ والمَغفِرةِ والتَّجاوُزِ لِحَسَنةٍ واحِدةٍ ذاتِ نَوعِيّةٍ خاصّةٍ.
غَيرَ أنَّ الإِنسانَ يَنسَى بتَلقِينٍ مِنَ الشَّيطانِ، وبما يَكمُنُ مِنَ الظُّلمِ في جِبِلَّتِه، مِئاتٍ مِن حَسَناتِ أَخِيه المُؤمِنِ لِأَجلِ سَيِّئةٍ واحِدةٍ بَدَرَت مِنه فيَبدَأُ بمُعاداتِه، ويَدخُلُ في الآثامِ؛ فكما أنَّ وَضْعَ جَناحِ بَعُوضةٍ أَمامَ العَينِ مُباشَرةً يَحجُبُ رُؤيةَ جَبَلٍ شاهِقٍ، فالحِقدُ كَذلِك يَجعَلُ السَّيِّئةَ الَّتي هي بحَجمِ جَناحِ بَعُوضةٍ، تَحجُبُ رُؤيةَ حَسَناتٍ كالجَبَلِ الشّامِخِ، فيَنسَى الإِنسانُ حِينَذاك ذِكرَ الحَسَناتِ ويَبدَأُ بعَداءِ أَخِيه المُؤمِنِ، ويُصبِحُ عُضوًا فاسِدًا وآلةَ تَدمِيرٍ في حَياةِ المُؤمِنِينَ الِاجتِماعِيّةِ.
[دسيسة إبطال مئات الدلائل بشبهة واحدة]
وهُناك دَسِيسةٌ أُخرَى مُشابِهةٌ لِهذه ومُماثِلةٌ لها في إِفسادِ سَلامةِ تَفكِيرِ المُؤمِنِ والإِخلالِ باستِقامَتِها وبصِحّةِ النَّظْرةِ إلى الحَقائِقِ الإِيمانيّةِ، وهِي أنَّه يُحاوِلُ إِبطالَ حُكمِ مِئاتِ الدَّلائِلِ الثُّبُوتيّةِ -حَولَ حَقِيقةٍ إِيمانيّةٍ- بشُبهةٍ تَدُلُّ على نَفيِها.. عِلْمًا أنَّ القاعِدةَ هي: أنَّ مُثبِتًا واحِدًا يُرَجَّحُ على الكَثِيرِ مِنَ النّافِينَ، وأنَّ حُكمَ شاهِدٍ مُثبِتٍ لِقَضِيّةٍ ما يُقدَّمُ على مِئاتِ النّافِينَ.
ولْنُوَضِّحْ هذه الحَقِيقةَ في ضَوءِ هذا المِثالِ:
قَلعةٌ عَظِيمةٌ لها مِئاتٌ مِنَ الأَبوابِ المُقفَلةِ، يُمكِنُ الدُّخُولُ فيها بفَتحِ بابٍ واحِدٍ مِنها، وعِندَها تُفتَحُ بَقِيّةُ الأَبوابِ، ولا يَمنَعُ بقاءُ قِسمٍ مِنَ الأَبوابِ مُقفَلًا مِنَ الدُّخُولِ في القَلعةِ؛ فالحَقائِقُ الإِيمانيّةُ هي كتِلك القَلعةِ العَظِيمةِ، وكلُّ دَليلٍ ثُبُوتِيٍّ هو مِفتاحٌ يَفتَحُ بابًا مُعَيَّنًا، فلا يُمكِنُ إِنكارُ تلك الحَقِيقةِ الإِيمانيّةِ أو العُدُولُ عنها بمُجَرَّدِ بَقاءِ بابٍ واحِدٍ مَسدُودٍ مِن بَينِ تلك المِئاتِ مِنَ الأَبوابِ المَفتُوحةِ.. ولكِنَّ الشَّيطانَ يُقنِعُ جَماعةً مِنَ النّاسِ بقَولِه لَهُم: لا يُمكِنُ الدُّخُولُ إلى هذه القَلعةِ، مُشِيرًا إلى أَحَدِ تلك الأَبوابِ المَسدُودةِ بِأَسبابٍ كالجَهلِ أوِ الغَفْلةِ، ليُسقِطَ مِنَ الِاعتِبارِ جَمِيعَ الأَدِلّةِ الثُّبوتِيّةِ، فيُغرِيهِم بقَولِه: إنَّ هذا القَصرَ لا يُمكِنُ الدُّخُولُ فيه أَبدًا، فأَنتَ تَحسَبُه قَصرًا وهُو ليس بقَصرٍ، وليس فيه شَيءٌ!
فيا أَيُّها الإِنسانُ المِسكِينُ، المُبتَلَى بدَسائِسِ الشَّيطانِ وكَيدِه.. إن كُنتَ تَرجُو سَلامةَ حَياتِك الدِّينيّةِ وحَياتِك الشَّخصِيّةِ وحَياتِك الِاجتِماعِيّةِ، وتَطلُبُ صِحّةَ الفِكرِ واستِقامةَ الرُّؤيةِ وسَلامةَ القَلبِ، فزِنْ أَعمالَك وخَواطِرَك بمَوازِينِ القُرآنِ المُحكَمةِ والسُّنّةِ المُحَمَّدِيّةِ الشَّرِيفةِ، واجْعَلْ رائِدَك القُرآنَ الكَرِيمَ ومُرشِدَك السُّنّةَ النَّبوِيّةَ الشَّرِيفةَ، وتَضَرَّعْ إلى اللهِ العَلِيِّ القَدِيرِ بقَولِك: “أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ”. فتِلك ثَلاثَ عَشْرةَ إِشارةً، وهِي ثَلاثةَ عَشَرَ مِفتاحًا لِتَفتَحَ بها القَلعةَ المَتِينةَ والحِصنَ الحَصِينَ لِآخِرِ سُورةٍ مِنَ القُرآنِ المُعجِزِ البَيانِ في المُصحَفِ الشَّرِيفِ.. وهِي كَنزُ الِاستِعاذةِ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ وشَرحٌ مُفَصَّلٌ لها.. فافتَحْها بهذه المَفاتِيحِ.. وادْخُل فيها تَجِدِ السَّلامةَ والِاطمِئْنانَ والأَمانَ.
﴿أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ﴾
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾
❀ ❀ ❀