اللمعات

اللمعة الحادية عشرة: مِرقاةُ السُّنة وتِرياقُ مرضِ البدعة

[هذه اللمعة تتحدث عن تعظيم قدر السنة النبوية السَّنِيّة وشرفِ اتباعها وما يكون لمُتَّبعِها من الهداية والنور والكرامة عند الله تعالى]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

فإن الله سبحانه وتعالى قد جَمَع أُصولَ الآداب وقَواعدَها في حَبيبه ﷺ؛ فالذي يَهجُرُ سُنَّتَه المُطَهَّرةَ ويُجافِيها فقد هَجَر مَنابِعَ الأَدَبِ وأُصُولَه، فيَحرِمُ نَفسَه مِن خَيرٍ عَظِيمٍ، ويَظلُّ مَحرُومًا مِن لُطفِ الرَّبِّ الكَرِيم.
فإن الله سبحانه وتعالى قد جَمَع أُصولَ الآداب وقَواعدَها في حَبيبه ﷺ؛ فالذي يَهجُرُ سُنَّتَه المُطَهَّرةَ ويُجافِيها فقد هَجَر مَنابِعَ الأَدَبِ وأُصُولَه، فيَحرِمُ نَفسَه مِن خَيرٍ عَظِيمٍ، ويَظلُّ مَحرُومًا مِن لُطفِ الرَّبِّ الكَرِيم.
المحتويات عرض

[اللمعة الحادية عشرة]

 

اللمعة الحادية عشرة

مرقاة السُّنَّة وتِرياق مَرَض البدعة

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾

  (المَقام الأوَّل لهذه الآية عبارةٌ عن “منهاج السُّنّة”‌، والمَقام الثاني هو “مِرقاةُ السُّنّة”)‌

﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾

سنُبيِّن إِحدَى عَشْرةَ نُكتةً دَقِيقةً، بَيانًا مُجمَلًا، مِن بينِ مِئاتِ المَسائِلِ الدَّقِيقةِ الَّتي تَتَضمَّنُها هاتانِ الآيَتانِ العَظِيمتانِ.

[النكتة الأولى: التمسك بالسنة جليل القدر عظيم الأجر]

النُّكتة الأُولى:‌

قال الرَّسُولُ ﷺ: “مَن تَمَسَّك بسُنَّتي عِندَ فَسادِ أُمَّتي فلَه أَجْرُ مِئةِ شَهِيدٍ”.

أَجَلْ، إنَّ اتِّباعَ السُّنّةِ المُطَهَّرةِ لَهُو حَتْمًا ذُو قِيمةٍ عالِيةٍ، ولا سِيَّما اتِّباعَها عِندَ استِيلاءِ البِدَعِ وغلَبَتِها، فإنَّ له قِيمةً أَعلَى وأَسمَى، وبالأَخَصِّ عِندَ فَسادِ الأُمّةِ، إذ تُشعِرُ مُراعاةُ أَبسَطِ الآدابِ النَّبَوِيّةِ بتَقوَى عَظِيمةٍ وإيمانٍ قَوِيٍّ راسِخٍ؛ ذلك لأنَّ الِاتِّباعَ المُباشَرَ للسُّنّةِ المُطَهَّرة يُذَكِّرُ بالرَّسُولِ الأَعظَمِ ﷺ، فهذا التَّذَكُّرُ النّاشِئُ مِن ذلك الِاتِّباعِ يَنقلِبُ إلى استِحضارِ الرَّقابةِ الإِلٰهِيّةِ، بل تَتَحوَّلُ في الدَّقائِقِ الَّتي تُراعَى فيها السُّنّةُ الشَّرِيفةُ أَبسَطُ المُعامَلاتِ العُرفيّةِ والتَّصَرُّفاتِ الفِطْرِيّةِ -كآدابِ الأَكلِ والشُّربِ والنَّومِ وغيرِها- إلى عَمَلٍ شَرعِيٍّ وعِبادةٍ مُثابٍ علَيْها، لأنَّ الإنسانَ يُلاحِظُ بذلك العَمَلِ المُعتادِ اتِّباعَ الرَّسُولِ ﷺ، فيَتصَوَّرُ أنَّه يقُومُ بأَدَبٍ مِن آدابِ الشَّرِيعةِ، ويَتَذكَّرُ أنَّه ﷺ صاحِبُ الشَّرِيعةِ، ومِن ثَمَّ يَتَوجَّهُ قَلبُه إلى الشَّارِعِ الحَقِيقيِّ وهو اللهُ سُبحانَه وتَعالَى، فيَغنَمُ سَكِينةً واطْمِئْنانًا ونَوْعًا مِنَ العِبادةِ.

وهكذا في ضَوْءِ ما تَقَدَّم، فإنَّ مَن يَجعَلُ اتِّباعَ السُّنّة السَّنِيّةِ عادَتَه، فقد حَوَّل عاداتِه إلى عِباداتٍ، ويُمكِنُه أن يَجعَلَ عُمُرَه كُلَّه مُثمِرًا، ومُثابًا علَيْه.

[النكتة الثانية: اتباع السنة عُمدة الطريق إلى الله]

النُّكتة الثانية:‌

لقد قال الإمامُ الرَّبّانِيُّ أَحمَدُ الفارُوقيُّ رَحِمَه اللهُ: “بَينَما كُنتُ أَقطَعُ المَراتِبَ في السَّيرِ والسُّلُوكِ الرُّوحانِيِّ، رَأَيتُ أنَّ أَسطَعَ ما في طَبَقاتِ الأَولياءِ، وأَرقَى مَن في مَراتِبِها وأَلطَفَهم وآمَنَهم وأَسلَمَهم هم أُولئِك الَّذين اتَّخَذُوا اتِّباعَ السُّنّة الشَّرِيفةِ أَساسًا للطَّرِيقةِ، حتَّى كان الأَولِياءُ العَوامُّ لتِلك الطَّبَقةِ يَظهَرُون أَكثَرَ بَهاءً واحتِشامًا مِنَ الأَولياءِ الخَواصِّ لِسائِرِ الطَّبَقاتِ”.

نعم، إنَّ الإمامَ الرَّبّانِيَّ مُجدِّدَ الأَلفِ الثّاني يَنطِقُ بالحَقِّ، فالَّذي يَتمَسَّكُ بالسُّنّة الشَّرِيفةِ ويَتَّخِذُها أَساسًا لَه، لَهُو أَهلٌ لِمَقامِ المَحبُوبِيّةِ في ظِلِّ حَبِيبِ اللهِ ﷺ.

[النكتة الثالثة: الاعتصام بالسنة أمانٌ ونورٌ ويَضع عنك الأعباء]

النُّكتة الثالثة:

عِندَما كان يَسعَى هذا السَّعِيدُ الفَقِيرُ إلى اللهِ، للخُرُوجِ مِن حالةِ “سَعِيدٍ القَدِيمِ” ارتَجَّ عَقْلِي وقَلْبِي وتَدَحْرَجا ضِمنَ الحَقائِقِ إزاءَ إِعصارٍ مَعنَوِيٍّ رَهِيبٍ، فقد شَعَرتُ كأنَّهما يَتدَحْرَجانِ هُبُوطًا تارةً مِنَ الثُّرَيّا إلى الثَّرَى وتارةً صُعُودًا مِنَ الثَّرَى إلى الثُّرَيّا، وذلك لِانعِدامِ المُرشِدِ، ولِغُرورِ النَّفْسِ الأَمّارةِ.

فشاهَدتُ حِينَئذٍ أنَّ مَسائِلَ السُّنّة النَّبوِيّةِ الشَّرِيفةِ بل حتَّى أَبسَطَ آدابِها، كلٌّ مِنها في حُكمِ مُؤَشِّرِ البُوصِلةِ الَّذي يُبيِّنُ اتِّجاهَ الحَرَكةِ في السُّفُنِ؛ وكلٌّ مِنها في حُكْمِ مِفتاحِ مِصباحٍ يُضِيءُ ما لا يُحصَرُ مِنَ الطُّرُقِ المُظلِمةِ المُضِرّةِ.

وبَينَما كُنتُ أَرَى نَفسِي في تلك السِّياحةِ الرُّوحِيّةِ أَرْزَحُ تحتَ ضَغطِ مُضايَقاتٍ كَثِيرةٍ وتَحتَ أَعباءِ أَثقالٍ هائِلةٍ، إذا بي أَشعُرُ بخِفّةٍ كلَّما تَتَبَّعتُ مَسائِلَ السُّنّةِ الشَّرِيفةِ المُتَعلِّقةِ بتلك الحالاتِ، وكأنَّها كانَت تَحمِلُ عنِّي جَمِيعَ الأَثقالِ وتَرفَعُ عن كاهِلِي تلك الأَعباءَ، فكُنتُ أَنجُو باستِسْلامٍ تامٍّ للسُّنّةِ مِن هُمُومِ التَّرَدُّدِ والوَساوِسِ مِثلِ: “هل في هذا العَمَلِ مَصلَحةٌ؟ تُرَى هل هُو حَقٌّ؟”.

وكُنتُ أَرَى متَى كَفَفتُ يَدِي عنِ السُّنّةِ تَشتَدُّ مَوْجاتُ المُضايَقاتِ وتَكثُرُ، والطُّرُقُ المَجهُولةُ تَتَوعَّرُ وتَغمُضُ، والأَحمالُ تَثقُلُ.. وأنا عاجِزٌ في غايةِ العَجْزِ ونَظَري قَصِيرٌ، والطَّرِيقُ مُظلِمةٌ؛ بَينَما كُنتُ أَشعُرُ متَى اعتَصَمتُ بالسُّنّةِ، وتَمَسَّكتُ بها، تتَنوَّرُ الطَّرِيقُ مِن أَمامي، وتَظهَرُ الطَّرِيقُ الآمِنةُ السَّالِمةُ والأَثقالُ تَخِفُّ والعَقَباتُ كَأَنَّها تَزُولُ.

نعم، هكذا أَحسَسْتُ في تلك المَرحَلةِ، فصَدَّقتُ حُكْمَ الإمامِ الرَّبّانِيّ بالمُشاهَدةِ.

[النكتة الرابعة: معنى إشاري لآية: (فإنْ تَولَّوا..)]

النُّكتة الرابعة:‌

غَمَرتْني -في مَرحَلةٍ مّا- حالةٌ رُوحِيّةٌ نَبَعَتْ مِنَ التَّأَمُّلِ في “رابِطةِ المَوتِ” ومِنَ الإيمانِ بقَضِيّةِ “المَوتُ حَقٌّ”، ومِن طُولِ التَّفَكُّرِ بزَوالِ العالَمِ وفَنائِه؛ فرَأَيتُ نَفسِي في عالَمٍ عَجِيبٍ، إذ نَظَرتُ فإذا أنا جَنازةٌ واقِفةٌ على رَأْسِ ثَلاثِ جَنائِزَ مُهِمّةٍ وعَظِيمةٍ:

الأُولَى: الجَنازةُ المَعنَوِيّةُ لمَجمُوعِ الأَحياءِ الَّتي لَها ارتِباطٌ بحَياتي الشَّخْصِيّةِ، والَّتي ماتَتْ ومَضَت ودُفِنَت في قَبْرِ الماضِي.. وما أنا إلّا كشاهِدِ قَبْرِها مَوضُوعًا على جُثَّتِها.

الثّانيةُ: جَنازةٌ عَظِيمةٌ تَطوِي مَجمُوعَ أَنواعِ الأَحياءِ المُتَعلِّقةِ بحَياةِ البَشَرِيّةِ قاطِبةً، والَّتي ماتَت ودُفِنَت في قَبْرِ الماضِي الَّذي يَسَعُ الكُرةَ الأَرضِيّةَ.. وما أنا إلّا نُقْطةٌ تُمحَى عاجِلًا، ونَملةٌ صَغِيرةٌ تَمُوتُ سَرِيعًا على وَجْهِ هذا العَصْرِ الَّذي هو شاهِدُ قَبْرِ تلك الجَنازةِ.

الثَّالثةُ: الجَنازةُ الضَّخْمةُ الَّتي تَطوِي هذا الكَونَ عِندَ قِيامِ السّاعةِ، وحَيثُ إنَّ مَوتَه عِندَئذٍ أَمرٌ مُحَقَّقٌ لا مَناصَ مِنه، فقد أَصبَحَ في نَظَرِي في حُكْمِ الواقِعِ الآنَ، فأَخَذَتِ الحَيرةُ جَوانِبَ نَفسِي، وبُهِتُّ مِن هَوْلِ سَكَراتِ تلك الجَنازةِ المَهُولةِ، وبَدَت وَفاتي الَّتي هي الأُخرَى آتِيةٌ لا مَحالةَ كأنَّها تَحدُثُ الآن، فأَدارَت جَمِيعُ المَوجُوداتِ وجَمِيعُ المَحبُوباتِ ظَهْرَها لي ومَضَت، وتَرَكَتْني وَحِيدًا فَرِيدًا، مِثلَما جاءَت في الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا… ﴾، وأَحْسَسْتُ كأنَّ رُوحِي تُساقُ إلى المُستَقبَلِ المُمتَدِّ نَحوَ الأَبَدِ الَّذي اتَّخَذ صُورةَ بَحرٍ عَظِيمٍ لا ساحِلَ لَه.. وكان لا بُدَّ مِن إِلقاءِ النَّفْسِ في خِضَمِّ ذلك البَحرِ العَظِيمِ طَوْعًا أو كَرْهًا.

وبَينَما أنا في هذا الذُّهُولِ الرُّوحِيِّ، والحُزنُ الشَّدِيدُ يَعصِرُ قَلبِي، إذا بمَدَدٍ يَأْتِيني مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ والإيمانِ، فمَدَّتْني الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾، حتَّى غَدَت هذه الآيةُ بمَثابةِ سَفِينةِ أَمانٍ في مُنتَهَى السَّلامِ والِاطمِئْنانِ؛ فدَخَلَتِ الرُّوحُ آمِنةً مُطمَئِنّةً في حِمَى هذه الآيةِ الكَرِيمةِ.. وفَهِمتُ في حِينِها أنَّ هُنالِك مَعنًى غيرَ المَعنَى الصَّرِيحِ لِهذه الآيةِ الكَرِيمةِ، وهُو المَعنَى الإشارِيُّ، فلَقد وَجَدتُ فيه سُلْوانًا لِرُوحِي، حيثُ وَهَب لي الِاطمِئْنانَ والسَّكِينةَ.

نعم، إنَّ المَعنَى الصَّرِيحَ للآيةِ الكَرِيمةِ يقُولُ للرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ: “إذا تَوَلَّى أَهلُ الضَّلالةِ عن سَماعِ القُرآنِ، وأَعرَضُوا عن شَرِيعَتِك وسُنَّتِك، فلا تَحزَنْ ولا تَغْتَمَّ، وقُل: حَسْبيَ اللهُ، فهو وَحْدَه كافٍ لي، وأنا أَتَوكَّلُ علَيْه؛ إذ هو الكَفِيلُ بأن يُقيِّضَ مَن يَتَّبِعُني بَدَلًا مِنكُم، فعَرشُه العَظِيمُ يُحِيطُ بكلِّ شَيءٍ، فلا العاصُون يُمكِنُهم أن يَهرُبُوا مِنه، ولا المُستَعِينُون به يَظلُّون بغَيرِ مَدَدٍ وعَوْنٍ مِنه”.

فكما أنَّ المَعنَى الصَّرِيحَ لِهذه الآيةِ الكَرِيمةِ يقُولُ هذا، فالمَعنَى الإشارِيُّ للآيةِ الكَرِيمةِ يقُولُ: “أيُّها الإنسانُ، ويا مَن يَتَولَّى قِيادةَ الإنسانِ وإرشادَه؛ لَئِن وَدَّعَتْك المَوجُوداتُ كلُّها وانعدَمَت ومَضَتْ في طَرِيقِ الفَناءِ.. وإن فارَقَتْك الأَحياءُ وجَرَت في طَرِيقِ المَوتِ.. وإن تَرَكَك النّاسُ وسَكَنُوا المَقابِرَ.. وإن أَعرَضَ أَهلُ الغَفلةِ والضَّلالةِ ولم يُصْغُوا إلَيْك وتَرَدَّوا في الظُّلُماتِ.. فلا تُبالِ بهم، ولا تَغْتَمَّ، وقُل: حَسْبيَ اللهُ. فهو الكافي، فإذْ هو مَوجُودٌ فكلُّ شَيءٍ مَوجُود.

وعلى هذا، فإنَّ أُولَئِك الرَّاحِلين لم يَذهَبُوا إلى العَدَم، وإنَّما يَنطَلِقُون إلى مَمْلَكةٍ أُخرَى لِرَبِّ العَرْشِ العَظِيمِ، وسيُرسِلُ بَدَلًا مِنهُم ما لا يُعدُّ ولا يُحصَى مِن جُنُودِه المُجَنَّدِين.. وإنَّ أُولَئِك الَّذين سَكَنُوا المَقابِرَ لم يَفنَوا أَبدًا، وإنَّما يَنتَقِلُون إلى عالَمٍ آخَرَ، وسيَبْعثُ بَدَلًا مِنهُم مُوَظَّفين آخَرِين يَعمُرُون الدُّنيا.. وهو القادِرُ على أن يُرسِلَ مَن يُطِيعُه ويَسلُكُ الطَّرِيقَ المُستَقِيمَ بَدَلًا مِمَّن وَقَعُوا في الضَّلالة.

فما دامَ الأَمرُ هكذا، فهو الكَفِيلُ، وهو الوَكِيلُ، وهو البَدِيلُ عن كلِّ شَيءٍ، ولن تُعوِّضَ جَمِيعُ الأَشياءِ عنه، ولن تكُونَ بَدِيلًا عن تَوَجُّهٍ واحِدٍ مِن تَوَجُّهاتِ لُطْفِه ورَحْمَتِه لِعِبادِه.

وهكذا انقَلَبَت بهذا المَعنَى الإِشاريِّ صُوَرُ الجَنازاتِ الثَّلاثِ الَّتي راعَتْني إلى شَكْلٍ آخَرَ مِن أَشكالِ الأُنسِ والجَمالِ وهو: أنَّ الكائِناتِ تَتَهادَى جِيئةً وذَهابًا في مَسِيرةٍ كُبْرَى، إنهاءً لِخِدْماتٍ مُستَمِرّةٍ، وإشغالًا لِواجِباتٍ مُجَدَّدةٍ دائِمةٍ، عَبرَ رِحْلةٍ ذاتِ حِكْمةٍ، وجَوْلةٍ ذاتِ عِبرةٍ، وسِياحةٍ ذاتِ مَهامَّ، في ظِلِّ إدارةِ الحَكِيمِ الرَّحِيمِ العادِلِ القَدِيرِ ذِي الجَلالِ، وضِمنَ رُبُوبيَّتِه الجَلِيلةِ وحِكْمَتِه البالِغةِ ورَحْمَتِه الواسِعةِ.

[النكتة الخامسة: اتباع السنة سبب محبة الله]

النُّكتة الخامسة:‌

قال تَعالَى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه﴾.

تُعلِنُ هذه الآيةُ العَظِيمةُ إعلانًا قاطِعًا عن مَدَى أَهَمِّيّةِ اتِّباع السُّنّةِ النَّبوِيّةِ ومَدَى ضَرُورَتِها.

نعم، إنَّ هذه الآيةَ الكَرِيمةَ أَقوَى قِياسٍ وأَثبَتُه مِن قِسمِ القِياسِ الِاستِثْنائِيِّ، ضِمنَ القياساتِ المَنطِقِيّة، إذ يَرِدُ فيه على وَجهِ المِثالِ: “إذا طَلَعَتِ الشَّمسُ فسيكُونُ النَّهارُ”، ويَرِد مِثالًا للنَّتِيجةِ الإيجابيّةِ: “طَلَعتِ الشَّمسُ فالنَّهارُ إذًا مَوجُودٌ”، ويَرِدُ مِثالًا للنَّتِيجةِ السَّلبِيّة: “لا نَهارَ فالشَّمسُ إذًا لم تَطلُعْ”، فهاتانِ النَّتِيجتانِ الإيجابيةُ والسلبيةُ ثابِتَتانِ وقاطِعَتانِ في المَنطِقِ.

وكذلك الأَمرُ في الآيةِ الكَرِيمةِ، فتَقُولُ: إنْ كان لَدَيكُم مَحَبّةُ اللهِ، فلا بُدَّ مِنَ الِاتِّباعِ لحَبِيبِ اللهِ ﷺ، وإن لم يكُن هُناك اتِّباعٌ، فلَيس لَدَيكُم إذًا مَحَبّةُ اللهِ، إذ لو كانَت هُناك مَحَبّةٌ حَقًّا فإنَّها تُوَلِّدُ حَتْمًا اتِّباعَ السُّنّة الشَّرِيفةِ لـ”حَبِيبِ اللهِ”.

أَجَل، إنَّ مَن يُؤْمِنُ باللهِ يُطِيعُه، ولا رَيبَ أنَّ أَقصَرَ طَرِيقٍ إلَيْه وأَكثَرَها قَبُولًا لَدَيه، وأَقوَمَها استِقامةً -ضِمنَ طُرُقِ الطَّاعةِ المُؤَدِّيةِ إلَيْه- لَهِي الطَّرِيقُ الَّتي سَلَكَها وبَيَّنها حَبِيبُ اللهِ ﷺ.

نعم، إنَّ الكَرِيمَ ذا الجَمالِ الَّذي مَلَأ هذا الكَونَ بنِعَمِه وآلائِه إلى هذا المَدَى، بَدِيهِيٌّ -بل ضَرُورِيٌّ- أن يَطلُبَ الشُّكْرَ مِن ذَوِي المَشاعِرِ تِجاهَ تلك النِّعَمِ.

وإنَّ الحَكِيمَ ذا الجَلالِ الَّذي زَيَّن هذا الكَونَ بمُعجِزاتِ صَنْعَتِه إلى هذا الحَدِّ، سيَجعَلُ بالبَداهةِ مَن هو المُختارُ المُمتازُ مِن أَربابِ الشُّعُورِ مُخاطَبًا لَه، وتَرجُمانًا لِأَوامِرِه، ومُبَلِّغًا لِعِبادِه، وإمامًا لَهُم.

وإنَّ الجَمِيلَ ذا الكَمالِ الَّذي جَعَل هذا الكَونَ مَظهَرًا لِما لا يُعَدُّ ولا يُحصَى مِن تَجلِّياتِ جَمالِه وكَمالِه سَيَهَبُ بالبَداهةِ لِمَن هُو أَجمَعُ نَمُوذَجٍ لِبَدائِعِ صَنْعَتِه، وأَكمَلُ مَن يُظهِر ما يُحِبُّه ويُرِيدُ إِظهارَه مِن جَمالٍ وكَمالٍ وأَسماءٍ حُسنَى.. سَيَهبُ لَه أَكمَلَ حالةٍ للعُبُودِيّةِ، جاعِلًا مِنه أُسْوةً حَسَنةً للآخَرِين ويَحُثُّهُم على اتِّباعِه، لِيَظهَرَ عِندَهم ما يُماثِلُ تلك الحالةَ اللَّطِيفةَ الجَمِيلةَ.

الخُلاصةُ: أنَّ مَحَبّةَ اللهِ تَستَلزِمُ اتِّباعَ السُّنّة المُطَهَّرةِ وتُنتِجُه.. فطُوبَى لِمَن كان حَظُّه وافِرًا مِن ذلك الِاتِّباعِ، ووَيْلٌ لِمَن لا يَقدُرُ السُّنّةَ الشَّرِيفةَ حَقَّ قَدْرِها فيَخُوضَ في البِدَعِ.

[النكتة السادسة: ليس بعد السنة إلا البدعة]

النُّكتة السادسة:‌

قال الرَّسُولُ ﷺ: “كُلُّ بِدْعةٍ ضَلالةٌ، وكُلُّ ضَلالةٍ في النّارِ”، أي: بعدَ أن كَمَلَتْ قَواعِدُ الشَّرِيعةِ الغَرّاءِ ودَساتِيرُ السُّنّةِ المُطَهَّرةِ، وأَخَذَت تَمامَ كَمالِها، بدَلالةِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، فإنَّ عَدَم استِحْسانِ تلك الدَّساتِيرِ بِمُحدَثاتِ الأُمُورِ، أو إيجادِ البِدَعِ الَّتي تُشعِرُ كأنَّ تلك القَواعِدَ ناقِصةٌ -حاشَ لله- ضَلالٌ ليس له مُستَقَرٌّ إلّا النّارَ.

[السُّنة المطهرة مراتب وأقسام]

إنَّ للسُّنّةِ المُطَهَّرةِ مَراتِبَ:

قِسمٌ مِنها “واجِبٌ” لا يُمكِنُ تَركُه، وهو مُبيَّنٌ في الشَّرِيعةِ الغَرّاءِ مُفَصَّلًا، وهو مِنَ المُحكَماتِ، أي لا يُمكِنُ بأَيّةٍ جِهةٍ كانَت أن تَتَبدَّلَ.

وقِسمٌ مِنها هو مِن قَبِيلِ “النَّوافِلِ“، وهذا بدَوْرِه قِسمانِ:

قِسمٌ مِنه هو السُّنَن الَّتي تَخُصُّ “العِبادات“، وهي مُبيَّنةٌ أَيضًا في كُتُبِ الشَّرِيعةِ؛ وتَغِييرُ هذه السُّنَنِ بِدعةٌ.

أمّا القِسمُ الآخَرُ فهو الَّذي يُطلَقُ علَيه “الآدابُ“، وهي المَذكُورةُ في كُتُب السِّيَرِ الشَّرِيفةِ، ومُخالَفتُها لا تُسمَّى بِدْعةً، إلّا أنَّها مِن نَوعِ مُخالَفةِ الآدابِ النَّبوِيّةِ، وعَدَمِ الِاستِفاضةِ مِن نُورِها، وعَدَمِ التَّأَدُّبِ بالأَدَبِ الحَقِيقيِّ.

فهذا القِسمُ هو اتِّباعُ أَفعالِ الرَّسُولِ ﷺ المَعلُومةِ بالتَّواتُرِ في العُرفِ والعاداتِ والمُعامَلاتِ الفِطْرِيّةِ، ككَثِيرٍ مِنَ السُّنَنِ الَّتي تُبيِّنُ قَواعِدَ أَدَبِ المُخاطَبة، وتُظهِرُ حالاتِ الأَكل والشُّرْبِ والنَّوم، أو الَّتي تَتَعلَّقُ بالمُعاشَرةِ؛ فمَنْ يَتَحرَّى أَمثالَ هذه السُّنَنِ الَّتي يُطلَقُ علَيْها “الآدابُ” ويتَّبِعُها، فإنَّه يُحَوِّلُ عاداتِه إلى عِباداتٍ، ويَستَفِيضُ مِن نُورِ ذلك الأَدَبِ النَّبَوِيِّ، لأنَّ مُراعاةَ أَبسَطِ الآدابِ وأَصغَرِها تُذَكِّرُ بالرَّسُولِ الأَعظَمِ ﷺ، مِمّا يَسكُبُ النُّورَ في القَلبِ.

إنَّ أَهَمَّ ما في السُّنّة المُطَهَّرة هي تلك السُّنَنُ الَّتي هي مِن نَوعِ عَلاماتِ الإسلامِ والمُتَعلِّقةُ بالشَّعائِرِ، إذِ الشَّعائِرُ هي عِبادةٌ مِن نَوعِ الحُقُوقِ العامّة الَّتي تَخُصُّ المُجتَمَعَ؛ فكَما أنَّ قِيامَ فَرْدٍ بها يُؤَدِّي إلى استِفادةِ المُجتَمَعِ كُلِّه، فإنَّ تَرْكَها يَجعَلُ الجَماعةَ كلَّها مَسؤُولةً. فمِثلُ هذه الشَّعائِرِ يُعلَنُ عنها، وهي أَرفَعُ مِن أن تَنالَها أَيدِي الرِّياءِ، وأَهَمُّ مِنَ الفَرائِضِ الشَّخْصِيّةِ ولو كانَت مِن نَوعِ النَّوافِلِ.

[النكتة السابعة: السنة النبوية أدبٌ وتربية]

النُّكتة السابعة:‌

إنَّ السُّنّة النبويِّة المُطهَّرة في حَقِيقةِ أَمْرِها لَهِيَ أدَبٌ عَظِيمٌ، فليس فيها مَسأَلةٌ إلَّا وتَنطَوِي على أَدَبٍ ونُورٍ عَظيمٍ؛ وصَدَق رسولُ الله ﷺ حين قال: “أدَّبَني ربِّي فأحسَنَ تأديبي”.

نعم، فمن يُمْعِنِ النَّظَرَ في السِّيرة النَّبويّة ويُحِطْ عِلمًا بالسُّنّة المُطهَّرة، يُدرِكْ يقينًا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد جَمَع أُصولَ الآداب وقَواعدَها في حَبيبه ﷺ؛ فالذي يَهجُرُ سُنَّتَه المُطَهَّرةَ ويُجافِيها فقد هَجَر مَنابِعَ الأَدَبِ وأُصُولَه، فيَحرِمُ نَفسَه مِن خَيرٍ عَظِيمٍ، ويَظلُّ مَحرُومًا مِن لُطفِ الرَّبِّ الكَرِيمِ، ويَقَعُ في سُوءِ أَدَبٍ وَبِيلٍ، ويكُون مِصداقَ القاعِدةِ:

﴿بِى أَدَبْ مَحْرُومْ بَاشَدْ أَزْ لُطْفِ رَبْ﴾

[كيف التأدب مع الله في أمورٍ شخصية خصوصية؟]

سُؤالٌ: كَيفَ نَتأَدَّبُ معَ عَلّامِ الغُيُوبِ، البَصِيرِ العَلِيمِ، الَّذي لا يَخفَى علَيْه شَيءٌ، فثَمّةَ حالاتٌ تَدعُو الإِنسانَ إلى الخَجَلِ، ولا يُمكِنُ إِخفاؤُها عنه سُبحانَه، ولا التَّسَتُّرُ مِنه، بَينَما سَتَرُ مِثلِ هذه الحالاتِ المُستَكْرَهةِ أَحَدُ أَنواعِ الأَدَبِ؟

الجَوابُ:

أَوَّلًا: كما أنَّ الصّانِعَ ذا الجَلالِ يُظهِرُ صَنْعَتَه إِظهارًا جَمِيلًا في نَظَرِ مَخلُوقاتِه، ويَأْخُذُ الأُمُورَ المُستَكرَهةَ تحتَ أَستارٍ وحُجُبٍ، ويُزيِّنُ نِعَمَه ويُجمِّلُها حتى تَشتاقَها الأَبصارُ؛ كذلك يَطلُب سُبحانَه مِن مَخلُوقاتِه وعِبادِه أن يَظهَرُوا أَمامَ ذَوِي الشُّعُورِ بأَجمَلِ صُوَرِهم وأَكثَرِها حُسْنًا، إذ إنَّ ظُهُورَهم للمَخلُوقاتِ في حالاتٍ مُزرِيةٍ قَبِيحةٍ، وأَوضاعٍ مُستَهْجَنةٍ، يكُونُ مُنافِيًا للأَدَبِ، ونَوْعًا مِنَ العِصيانِ تِجاهَ قُدْسِيّةِ أَسمائِه أَمثالَ: “الجَمِيلِ، المُزَيِّنِ، اللَّطِيفِ، الحَكِيمِ”، وهكذا فالأَدَبُ الَّذي في السُّنّة النَّبَوِيّةِ الطّاهِرةِ إنَّما هو تَأَدُّبٌ بالأَدَبِ المَحْضِ الَّذي هو ضِمْنَ الأَسماءِ الحُسنَى للصّانِعِ الجَلِيلِ.

ثانيًا: إنَّ الطَّبِيبَ لَه أن يَنظُرَ إلى أَشَدِّ الأَماكِنِ حُرْمةً لِمَن يَحْرُمُ علَيْه، مِن زاوِيةِ نَظَرِ الطِّبِّ والعِلاجِ، بل يَكشِفُ لَه -في حالاتِ الضَّرُورةِ- تلك الأَماكِنَ ولا يُعَدُّ ذلك خِلافًا للأَدَبِ، وإنَّما يُعتبَرُ ذلك مِن مُقتَضَياتِ الطِّبِّ، إلّا أنَّ ذلك الطَّبِيبَ نَفسَه لا يَجُوزُ لَه أن يَنظُرَ إلى تلك الأَماكِنِ المُحرَّمةِ مِن حيثُ كَونُه رَجُلًا أو واعِظًا أو عالِمًا، فلا يَسمَحُ الأَدَبُ قَطْعًا بإِظهارِها له بتلك العَناوِينِ والصِّفاتِ، بل يُعَدُّ ذلك انعِدامًا للحَياءِ.

﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ فإنَّ لِلصّانِعِ الجَلِيلِ أَسماءً حُسنَى كَثِيرةً، ولِكلِّ اسمٍ تَجَلِّيَه، فمَثلًا:

كما يَقتَضي اسمُ “الغَفّارِ” وُجُودَ الذُّنُوبِ، واسمُ “السَّتّار” وُجُودَ التَّقصِيراتِ، فإنَّ اسمَ “الجَمِيلِ” لا يَرضَى برُؤْيةِ القُبْحِ؛ وإنَّ الأَسماءَ الجَماليّةَ والكَماليّةَ، أَمثالَ: “اللَّطِيفِ، الكَرِيمِ، الحَكِيمِ، الرَّحِيمِ”، تَقتَضي أن تكُونَ المَوجُوداتُ في أَحسَنِ الصُّوَر، وفي أَفضَلِ الأَوضاعِ المُمْكِنة.. فتلك الأَسماءُ الجَماليّةُ والكَماليّةُ تَقتَضِي إِظهارَ جَمالِها بالأَوضاعِ الجَمِيلةِ للمَوجُوداتِ بِتأَدُّبِها بالآدابِ الحَسَنةِ، أَمامَ أَنظارِ المَلائِكةِ والعالَمِ الرُّوحانِيِّ والجِنِّ والإنسِ.

وهكذا، فالآدابُ الَّتي تَتَضَمَّنُها السُّنّة المُطَهَّرةُ إشارةٌ إلى هذه الآدابِ السّامِيةِ، ولَفْتةٌ إلى دَساتِيرِها ونَماذِجِها.

[النكتة الثامنة: السنة النبوية دواء لجميع الأدواء]

النُّكتة الثامنة:‌

تُبيِّنُ الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ..﴾ إلخ الآية كَمالَ شَفَقةِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ ومُنتَهَى رَأْفَتِه نحوَ أُمَّتِه، أمّا الَّتي تَعقُبُها: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ..﴾ فهي تقُولُ:

“أيُّها النّاسُ.. أيُّها المُسلِمُون.. اعْلَمُوا كم هو انعِدامٌ للوِجْدانِ وفِقْدانٌ للعَقلِ إعراضُكُم عن سُنّةِ هذا النَّبيِّ الرَّؤُوفِ الرَّحِيمِ، وعمّا بَلَّغ مِن أَحكامٍ، لِحَدِّ إِنكارِكُم شَفَقَتَه البَدِيهِيّةَ، واتِّهامِ رَأْفَتِه المُشاهَدةِ، وهو الَّذي أَرشَدَكُم برَأْفَتِه الواسِعةِ، وبَذَل كلَّ ما أُوتِيَ لِأَجلِ مَصالِحِكُم، مُداوِيًا جِراحاتِكُمُ المَعنَوِيّةَ ببَلْسَمِ سُنَنِه الطّاهِرةِ والأَحكامِ الَّتي أَتَى بها.

وأنتَ أيُّها الرَّسُولُ الحَبِيبُ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ.. إن لم يَعرِفْ هَؤُلاء شَفَقتَك العَظِيمةَ هذه لِبَلاهَتِهِم، ولم يُقَدِّرُوا رَأْفَتَك الواسِعةَ هذه، فأَدارُوا لك ظُهُورَهم، ولم يُعِيرُوا لك سَمْعًا.. فلا تُبالِ ولا تَهتَمَّ، فإنَّ رَبَّ العَرشِ العَظِيمِ الَّذي لَه جُنُودُ السَّماواتِ والأَرضِ، والَّذي تُهَيمِنُ رُبُوبِيَّتُه على العَرشِ الأَعظَمِ المُحِيطِ بكلِّ شَيءٍ، لَهُو كافٍ لك، وسيَجمَعُ حَوْلَك المُطِيعِين حقًّا، ويَجعَلُهم يُصغُون إلَيْك، ويَرضَوْن بأَحْكامِك”.

نعم، إنَّه لَيسَت في الشَّرِيعةِ المُحمَّديّةِ والسُّنّةِ الأَحمَديّة مَسأَلةٌ إلّا وفيها حِكَمٌ عَدِيدةٌ، فأنا هذا الفَقِيرُ إلى الله أَدَّعي هذا، رَغمَ كلِّ عَجْزِي وقُصُورِي؛ وأنا على استِعدادٍ لإثباتِ هذه الدَّعوَى، فما كَتَبتُه لِحَدِّ الآنَ مِن أَكثَرَ مِن سَبعِينَ رِسالةً مِن “رَسائِلِ النُّورِ” إنَّما هو بمَثابةِ سَبعِينَ شاهِدًا صادِقًا على مَدَى الحِكْمةِ والحَقِيقةِ الَّتي تَنطَوِي علَيْها السُّنّةُ الأَحمَدِيّةُ والشَّرِيعةُ المُحمَّدِيّةُ، فلو قُدِّر وكُتِب هذا المَوضُوعِ فلا تَكفِي سَبعُون رِسالةً ولا سَبعةُ آلافِ رِسالةٍ لإيفاءِ تلك الحِكَمِ حَقَّها.

ثمَّ إنِّي قد شاهَدتُ شَخْصِيًّا، وتَذَوَّقْتُ بنَفسِي، بل لي أَلفُ تَجرِبةٍ وتَجرِبةٍ: أنَّ دَساتِيرَ المَسائِلِ الشَّرعِيّةِ والسُّنّةِ النَّبوِيّةِ أَفضَلُ دَواءٍ وأَنفَعُه لِلأَمراضِ الرُّوحِيّةِ والعَقْلِيّةِ والقَلبِيّةِ، ولا سِيَّما الِاجتِماعيّةِ مِنها، فأنا أُعلِنُ بمُشاهَدَتي وإحساسِي هذا، وقد أَشعَرتُ الآخَرِين بشَيءٍ مِنها في الرَّسائِلِ بأنَّه لا يُمكِنُ أن تَسُدَّ مَسَدَّ تلك المَسائِلِ أيّةُ حُلُولٍ فَلسَفِيّةٍ ولا أيّةُ مَسأَلةٍ حَكِيمةٍ، فعلى الَّذين يَرتابُون في ادِّعائي هذا مُراجَعةُ أَجزاءِ “رَسائِلِ النُّورِ”.

فلْيُقَدَّرْ إذًا مَدَى الرِّبحِ العَظِيمِ في السَّعيِ لِاتِّباعِ سُنّةِ هذه الذّاتِ المُبارَكةِ والجِدِّ في طَلَبِها على قَدْرِ الِاستِطاعةِ، ومَدَى السَّعادةِ للحَياةِ الأَبدِيّةِ، ومَدَى النَّفعِ في الحَياةِ الدُّنيا.

[النكتة التاسعة: اتباع السنة ولو بالنية]

النُّكتة التاسعة:‌

قد لا يَتَيسَّرُ اتِّباعُ كلِّ نَوعٍ مِن أَنواعِ السُّنّةِ الشَّرِيفةِ اتِّباعًا فِعليًّا كامِلًا إلّا لِأَخَصِّ الخَواصِّ، ولكِن يُمكِنُ لِكُلِّ واحِدٍ الِاتِّباعُ عن طَرِيقِ النِّيّةِ والقَصْدِ والرَّغبةِ في الِالتِزامِ والقَبُولِ؛ ومِنَ المَعلُومِ أنَّه يَنبغَي الِالتِزامُ بأَقسامِ الفَرْضِ والواجِبِ، أمّا السُّنَنُ المُستَحَبَّةُ في العِبادةِ فتَرْكُها وإِهمالُها وإن لم يكُن فيه إثمٌ إلّا أنَّه ضَياعٌ لِثَوابٍ عَظِيمٍ، وفي تَغيِيرِها خَطَأٌ كَبِيرٌ؛ أمّا السُّنَنُ النَّبوِيّةُ في العاداتِ والمُعامَلاتِ فإنَّها تُصَيِّرُ العادةَ عِبادةً رَغمَ أنَّ تارِكَها لا يُلامُ، إلّا أنَّ استِفادَتَه تَقِلُّ وتَتَضاءَلُ مِن نُورِ الآدابِ الحَياتيّةِ لِحَبِيبِ اللهِ ﷺ.

[ما هي البدعة؟]

أمّا البِدَعُ فهِي: إِحداثُ أُمُورٍ في الأَحكامِ التَّعَبُّديّةِ، وهي مَرفُوضةٌ، حيثُ إنَّها تُنافي الآيةَ الكَرِيمةَ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾.

غيرَ أنَّ تلك الأُمُورَ المُستَحدَثةَ إن كانَت مِن قَبِيلِ الأَوْرادِ والأَذكارِ والمَشارِبِ -كالَّتي في الطُّرُقِ الصُّوفيّةِ- فهي لَيسَت ببِدعةٍ ما دامَتْ أُصولُها مُستَقاةً مِنَ الكِتابِ والسُّنّة، ولو كانَت على أَشكالٍ مُختَلِفةٍ وأَنماطٍ مُتَبايِنةٍ، إلّا أنَّها مَشرُوطةٌ بِعَدَمِ مُخالَفَتِها لِلأُصُولِ والأُسُسِ المُقرَّرةِ للسُّنّةِ النَّبوِيّةِ وبِعَدَمِ تَغيِيرِها لَها؛ وعلى الرَّغمِ مِن ذلك فقد أَدخَلَ قِسمٌ مِن أَهلِ العِلمِ بَعضًا مِن هذه الأُمُورِ ضِمنَ البِدَع، إلّا أنَّهم أَطلَقُوا علَيْها: “البِدعةُ الحَسَنةُ“، ولكنَّ الإمامَ الرَّبّانِيَّ يقُولُ: “كُنتُ أَرَى في سَيرِي عَبْرَ السُّلُوكِ الرُّوحانِيِّ أنَّ الكَلِماتِ المَرْوِيّةَ عنِ الرَّسُولِ الأَعظَمِ ﷺ مُنوَّرةٌ مُتألِّقة بشُعاعِ السُّنّةِ المُطَهَّرةِ، في حينِ كنتُ أَرَى الأَوْرادَ العَظِيمةَ والحالاتِ الباهِرةَ غيرَ المَروِيّةِ عنه ليس علَيْها ذلك النُّورُ والتَّألُّقُ؛ فما كان يَبلُغُ أَسْطَعُ ما في هذا القِسمِ الأَخِيرِ إلى أَقَلِّ القَلِيلِ لِما في السُّنّة.. ففَهِمتُ مِن هذا: أنَّ شُعاعَ السُّنّةِ المُطهَّرةِ لَهُو الإكسِيرُ النّافِذُ، فالسُّنّةُ المُطَهَّرةُ كافِيةٌ ووافِيةٌ لِمَن يَبتَغِي النُّورَ، فلا داعِيَ للبَحثِ عن نُورٍ خارِجَها…”.

إنَّ هذا الحُكْمَ الصَّادِرَ مِن هذا الرّائِدِ البَطَلِ مِن أَبطالِ الحَقِيقةِ والشَّرِيعةِ لَيُظهِرُ لَنا أنَّ السُّنّةَ السَّنِيّةَ هي الحَجَرُ الأَساسُ لِسَعادةِ الدّارَينِ ومَنبَعُ الكَمالِ والخَيرِ.

﴿اللَّهُمَّ ارزُقْنا اتِّباعَ السُّنّة السَّنِيّةِ﴾‌

﴿رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾

[النكتة العاشرة: أسمى مقصد للإنسان أن يكون أهلًا لمحبة الله]

النُّكتة العاشرة:‌

قال تَعالَى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه﴾.

في هذه الآيةِ الكَرِيمةِ إيجازٌ مُعجِزٌ، حيثُ إنَّ مَعانِيَ كَثِيرةً قدِ اندَرَجَت في هذه الجُمَلِ الثَّلاثِ:

تقُولُ الآيةُ الكَرِيمةُ: “إن كُنتُم تُؤمِنُون باللهِ، فإنَّكم تُحِبُّونه، فما دُمتُم تُحِبُّونه فستَعمَلُون وَفْقَ ما يُحِبُّه، وما ذاك إلَّا تَشَبُّهكُم بمَن يُحِبُّه؛ وتَشَبُّهكُم بمَحبُوبِه ليس إلّا في اتِّباعِه، فمَتَى اتَّبَعتُمُوه يُحبُّـكمُ اللهُ، ومِنَ المَعلُومِ أنَّـكم تُحِبُّون اللهَ كي يُحِبَّـكُمُ اللهُ”.

وهكذا، فهذه الجُمَلُ ما هي إلّا بعضُ المَعاني المُختَصَرةِ المُجمَلةِ للآيةِ، لِذا يَصِحُّ القَولُ: إنَّ أَسمَى مَقصَدٍ للإنسانِ وأَعلاه هو أن يكُونَ أَهلًا لِمَحبّةِ اللهِ.. فنَصُّ هذه الآيةِ يُبيِّنُ لَنا أنَّ طَرِيقَ ذلك المَقصَدِ الأَسنَى إنَّما هو في اتِّباعِ حَبِيبِ اللهِ والِاقتِداءِ بسُنَّتِه المُطهَّرةِ.. فإذا ما أَثبَتْنا في هذا المَقامِ ثَلاثَ نِقاطٍ فستَتَبيَّنُ الحَقِيقةُ المَذكُورةُ بوُضُوحٍ:

[ثلاث نقاط ]

[نقطة1: فطرة الإنسان تحب الجمال والكمال والنوال]

النُّقطةُ الأُولَى: لقد جُبِلَ هذا الإنسانُ على مَحَبّةٍ غيرِ مُتَناهِيةٍ لِخالقِ الكَونِ، وذلك لأنَّ الفِطْرةَ البَشَريّةَ تُكِنُّ حُبًّا للجَمالِ، ووُدًّا للكَمالِ، وافتِتانًا بالإحسانِ، وتَتَزايَدُ تلك المَحَبّةُ بحَسَبِ دَرَجاتِ الجَمالِ والكَمالِ والإحسانِ حتى تَصِلَ إلى أَقصَى دَرَجاتِ العِشقِ ومُنتَهاه.

نعم، يَستَقِرُّ في القَلبِ الصَّغِيرِ لِهذا الإنسانِ الصَّغِيرِ عِشقٌ بكِبَرِ الكَونِ، إذ إنَّ نَقْلَ مُحتَوَياتِ ما في مَكتَبةٍ كَبِيرةٍ مِن كُتُبٍ، وخَزْنَها في القُوّةِ الحافِظةِ للقَلبِ -وهي بحَجْمِ حَبّةِ عَدَسٍ- يُبيِّنُ أنَّ قَلبَ الإنسانِ يُمكِنُه أن يَضُمَّ الكَوْنَ، ويَستَطِيعُ أن يَحمِلَ حُبًّا بقَدْرِ الكَوْنِ.

فما دامَتِ الفِطْرةُ البَشَرِيّةُ تَملِكُ استِعدادًا غيرَ مَحدُودٍ للمَحبّةِ تِجاهَ الإحسانِ والجَمالِ والكَمالِ.. وأنَّ لِخالِقِ الكَونِ جَمالًا مُقدَّسًا غيرَ مُتَناهٍ، ثُبُوتُه مُتَحَقِّقٌ بَداهةً بآثارِه الظّاهِرةِ في الكائِناتِ.. وأنَّ لَه كَمالًا قُدسِيًّا لا حُدُودَ له، ثُبُوتُه مُحَقَّقٌ ضَرُورةً بنُقُوشِ صَنعَتِه الظّاهِرةِ في هذه المَوجُوداتِ.. وأنَّ له إِحسانًا غيرَ مَحدُودٍ ثابِتَ الوُجُودِ يَقِينًا، يُمكِنُ لَمْسُه ومُشاهَدَتُه ضِمنَ إنعامِه وآلائِه الظّاهِرةِ في جَمِيعِ أَنواعِ الأَحياءِ.. فلا بُدَّ أنَّه سُبحانَه يَطلُبُ مَحَبّةً لا حَدَّ لها مِنَ الإنسانِ الَّذي هو أَجمَعُ ذَوِي الشُّعُورِ صِفةً، وأَكثَرُهم حاجةً، وأَعظَمُهم تَفَكُّرًا، وأَشَدُّهم شَوْقًا.

نعم، كما أنَّ كلَّ إنسانٍ يَملِكُ استِعدادًا غيرَ مَحدُودٍ مِنَ المَحَبّةِ تِجاهَ ذلك الخالِقِ ذِي الجَلالِ، كذلك الخالِقُ سُبحانَه هو أَهلٌ لِيكُونَ مَحبُوبًا، لِأَجلِ جَمالِه وكَمالِه وإِحسانِه أَكثَرَ مِن أَيِّ أَحَدٍ كان، حتَّى إنَّ ما في قَلبِ الإنسانِ المُؤمنِ مِن أَنواعِ المَحَبّةِ ودَرَجاتِها للَّذِين يَرتَبِطُ بهم بعَلاقاتٍ مُعَيَّنة، ولا سِيَّما ما في قَلبِه مِن حُبٍّ تِجاهَ حَياتِه وبَقائِه، وتِجاهَ وُجُودِه ودُنياه، وتِجاهَ نَفسِه والمَوجُوداتِ بأَسْرِها، إنَّما هي تَرَشُّحاتٌ مِن تلك الِاستِعداداتِ للمَحبّة الإِلٰهِيّةِ؛ بل حتَّى أَشكالُ الإحساساتِ العَمِيقةِ عِندَ الإنسانِ ما هي إلّا تَحَوُّلاتٌ لِذلك الِاستِعدادِ، وما هي إلّا رَشَحاتُه الَّتي اتَّخَذَت أَشكالًا مُختَلِفةً.

ومِنَ المَعلُومِ أنَّ الإنسانَ مِثلَما يَتَلذَّذ بسَعادَتِه الذّاتيّةِ، فهو يَتَلذَّذ أيضًا بسَعادةِ الَّذين يَرتَبِطُ بهم بعَلاقةٍ ومَحَبّةٍ، ومِثلَما يُحِبُّ مَن يُنقِذُه مِنَ البَلاءِ، فهو يُحِبُّ مَن يُنجي مُحِبِّيه مِنَ المَصائِبِ أَيضًا.

وهكذا، فإذا ما فكَّرَ الإنسانُ ورُوحُه مُفعَمةٌ بالِامتِنانِ لله، في إحسانٍ واحِدٍ فقط مِمّا لا يُعَدُّ ولا يُحصَى مِنَ الإحساناتِ العَظِيمةِ الَّتي قد غَمَر بها اللهُ سُبحانَه وتَعالَى الإنسانَ وشَمِلَه بها، فإنَّه سيُفَكِّرُ على النَّحوِ الآتي:

إنَّ خالِقِي الَّذي أَنقَذَني مِن ظُلُماتِ العَدَمِ الأَبدِيّةِ، ومَنَحَني مِنحةَ الخَلْق والوُجُودِ، ووَهَب لي دُنيا جَمِيلةً أَستَمتِعُ بجَمالِها هنا على هذه الأَرضِ، فإنَّ عِنايتَه أَيضًا ستَمتَدُّ إلَيَّ حينَ يَحِينُ أَجَلي، فيُنقِذُني كذلك مِن ظُلُماتِ العَدَمِ الأَبدِيِّ والفَناءِ السَّرمَدِيِّ، وسيَهَبُ لي مِن فَضْلِ إِحسانِه عالَمًا أَبدِيًّا باهِرًا زاهِرًا في عالَمِ البَقاءِ في الآخِرةِ، وسيُنعِمُ علَيَّ سُبحانَه بحَواسَّ ومَشاعِرَ ظاهِرةٍ وباطِنةٍ لِتَستَمتِعَ وتَتَلذَّذ في تَنقُّلِها بينَ أَنواعِ مَلَذّاتِ ذلك العالَمِ الجَمِيلِ الطَّاهِرِ.. كما أنَّه سُبحانَه سيَجعَلُ جَمِيعَ الأَقارِبِ، وجَمِيعَ الأَحِبّة مِن بني جِنسِي الَّذين أُكِنُّ لَهُم حُبًّا عَمِيقًا وأَرتَبِطُ معَهُم بعَلاقةٍ وَثِيقةٍ، سيَجعَلُهم أَهلًا لِهذه الآلاءِ والإحساناتِ غيرِ المَحدُودةِ.. وهذا الإِحسانُ -مِن جِهةٍ- يَعُود علَيَّ كذلك، إذ إنَّني أَتلَذَّذُ بسَعادةِ أُولَئك، وأُسعَدُ بها.

فما دامَ في كلِّ فَردٍ حُبٌّ عَمِيقٌ وافتِتانٌ بالإِحسانِ كما في المَثَلِ: “الإنسانُ عَبدُ الإحسانِ” فلا بُدَّ أنَّ الإنسانَ أَمامَ هذا الإِحسانِ الأَبدِيِّ غيرِ المَحدُودِ سيقُولُ: لو كان لي قَلبٌ بسَعةِ الكَونِ لَاقْتَضَى أن يُملَأَ حُبًّا وعِشقًا تِجاهَ ذلك الإحسانِ الإِلٰهِيِّ، وأنا مُشتاقٌ لِمَلْئِه، ولكِن رَغمَ أنَّني لَستُ على مُستَوَى تلك المَحَبّةِ فِعلًا، إلّا أنَّني أَهلٌ لَها بالِاستِعدادِ والإيمانِ، وبالنِّيّةِ والقَبُولِ، وبالتَّقدِيرِ والِاشتِياقِ، وبالِالتِزامِ والإِرادةِ.

وهكذا، يَنبَغي قِياسُ ما يُظهِرُه الإنسانُ مِنَ المَحَبّة تِجاهَ “الجَمالِ” وتِجاهَ “الكَمالِ” بمِقياسِ ما أَشَرْنا إلَيْه مُجْمَلًا مِنَ المَحَبّةِ تِجاهَ “الإِحسانِ”.

أمّا الكافِرُ المُلحِدُ، فإنَّه يَحمِلُ عَداءً لا حَدَّ لَه، فهو يَستَخِفُّ بالمَوجُوداتِ مِن حَوْلِه، ويَستَهِينُ بها، ويَمتَهِنُها، ويُناصِبُها العَداءَ والكَراهِيةَ.

[نقطة2: محبة الله تستلزم اتباع السنة الطاهرة]

النُّقطة الثّانية: إنَّ مَحَبّةَ اللهِ تَستَلزِمُ اتِّباعَ السُّنّةِ الطّاهِرةِ لِمُحمَّد ﷺ، لأنَّ حُبَّ اللهِ هو العَمَلُ بمَرضِيّاتِه، وإنَّ مَرضاتَه تَتَجلَّى بأَفضَلِ صُوَرِها في ذاتِ مُحمَّدٍ ﷺ؛ والتَّشبُّهُ بذاتِه المُبارَكةِ في الحرَكاتِ والأَفعالِ يَأْتي مِن جِهَتَينِ:

إحداهُما: جِهةُ حُبِّ اللهِ سُبحانَه وإطاعةُ أَوامِرِه، والحَرَكةُ ضِمنَ دائِرةِ مَرضاتِه، وهذه الجِهةُ تَقتَضي ذلك الِاتِّباعَ، حيثُ إنَّ أَكمَلَ إمامٍ وأَمثَلَ قُدْوةٍ في هذا الأَمرِ هو مُحمَّدٌ ﷺ.

وثانِيَتُهما: جِهةُ ذاتِه المُبارَكةِ ﷺ الَّتي هي أَسمَى وَسِيلةٍ للإِحسانِ الإِلٰهِيِّ غيرِ المَحدُودِ للبَشَرِيّةِ، فهي إذًا أَهلٌ لِمَحبّةٍ غيرِ مَحدُودةٍ لِأَجلِ اللهِ وفي سَبِيلِه. والإنسانُ يَرغَبُ فِطْرةً في التَّشَبُّهِ بالمَحبُوبِ ما أَمكَنَ، لِذا فالَّذين يَسعَون في سَبِيلِ حُبِّ حَبِيبِ الله علَيهِم أن يَبذُلُوا جُهدَهم للتَّشَبُّه به باتِّباعِ سُنَّتِه الشَّرِيفةِ.

[نقطة3: لله تعالى محبةٌ غير متناهية]

النُّقطة الثالثة: كما أنَّ لله سُبحانَه وتَعالَى رَحْمةً غيرَ مُتَناهِيةٍ، فلَه سُبحانَه كذلك مَحَبّةٌ غيرُ مُتَناهِيةٍ؛ وكما أنَّه يُحبِّبُ نَفسَه إلى مَخلُوقاتِه -بصُورةٍ غيرِ مَحدُودةٍ- بمَحاسِنِ الكائِناتِ جَمِيعًا وبجَمالِها وزِينَتِها، فإنَّه كذلك يُحِبُّ مَخلُوقاتِه، ولا سِيَّما أَصحابَ الشُّعُورِ مِنهُمُ الَّذين يُقابِلُون تَحَبُّبَه لهم بالحُبِّ والتَّعظِيمِ.

لِذا فإنَّ أَسمَى مَقصَدٍ لِلإِنسانِ هو أن يَسعَى لِيَكُونَ مَوْضِعَ نَظَرِ مَحَبّةِ اللهِ الَّذي خَلَق الجَنّةَ بلَطائِفِها ومَحاسِنِها ولَذائِذِها ونِعَمِها بتَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ رَحْمَتِه.

وبما أنَّ أَحَدًا لا يُمكِنُه أن يكُونَ أَهلًا لِمَحبَّتِه سُبحانَه إلّا باتِّباعِ السُّنّة الأَحمَدِيّةِ كما نَصَّ علَيْه كَلامُه العَزِيزُ، إذًا فاتِّباعُ السُّنّةِ المُحمَّديّةِ هو أَعظَمُ مَقصَدٍ إنسانِيٍّ وأَهَمُّ وَظِيفةٍ بَشَريّةٍ.

[النكتة الحادية عشرة: ثلاث مسائل]

النُّكتة الحاديةَ عَشْرةَ:‌

وهي ثلاثُ مسائلَ:

[منابع السنة النبوية وأقسامها]

المسألةُ الأُولى:

إنَّ لِسُنَّةِ الرَّسُولِ الأَعظَمِ ﷺ ثلاثةَ مَنابِعَ، هي: أَقوالُه، وأَفعالُه، وأَحوالُه ﷺ.

وهذه الأَقسامُ الثَّلاثةُ هي كذلك ثَلاثةُ أَقسامٍ: الفَرائضُ، النَّوافلُ، عاداتُه ﷺ.

ففي قِسمِ الفَرائِضِ والواجِبِ لا مَناصَ مِنَ الِاتِّباعِ، والمُؤمِنُ مُجْبَرٌ على هذا الِاتِّباعِ بحُكْمِ إيمانِه؛ والجَمِيعُ بلا استِثْناءٍ مُكَلَّفون بأَداءِ الفَرْضِ والواجِبِ، ويَتَرتَّبُ على إهمالِه أو تَركِه عَذابٌ وعِقابٌ.

وأمّا في قِسمِ النَّوافِلِ فأَهلُ الإيمانِ هم مُكَلَّفُون به أَيضًا حَسَبَ الأَمرِ الِاستِحبابيِّ، ولكِن ليس في تَرْكِ النَّوافِلِ عَذابٌ ولا عِقابٌ؛ غيرَ أنَّ القِيامَ بها واتِّباعَها فيه أَجْرٌ عَظِيمٌ؛ وتَغيِيرَ النَّوافِلِ وتَبدِيلَها بِدعةٌ وضَلالةٌ وخَطَأٌ كَبِيرٌ.

وأمّا عاداتُه ﷺ وحَرَكاتُه وسَكَناتُه السّامِيةُ فمِنَ الأَفضَلِ والمُستَحْسَنِ جِدًّا تَقلِيدُها واتِّباعُها حِكْمةً ومَصْلَحةً سَواءٌ في الحَياةِ الشَّخصِيّةِ أوِ النَّوعِيّةِ أوِ الِاجتِماعيّةِ، لأنَّ في كلِّ حَرَكةٍ مِن حَرَكاتِه الِاعتِياديّةِ مَنافِعَ حَياتِيّةً كَثِيرةً جِدًّا، فَضْلًا عن أنَّه بالمُتابَعةِ تَصِيرُ تلك الآدابُ والعاداتُ بحُكْمِ العِبادةِ.

نعم، ما دامَ -علَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ- مُتَّصِفًا بأَسمَى مَراتِبِ مَحاسِنِ الأَخلاقِ، باتِّفاقِ الأَولياءِ والأَعداءِ.. وأنَّه ﷺ هو المُصطَفى المُختارُ مِن بينِ بَني البَشَرِ، وهو أَشهَرُ شَخصِيّةٍ فيهم باتِّفاقِ الجَمِيعِ.. وما دامَ هو أَكمَلَ إِنسانٍ، بل أَكمَلَ قُدوةٍ ومُرشِدٍ بدَلالةِ آلافِ المُعجِزاتِ، وبشَهادةِ العالَمِ الإسلامِيِّ الَّذي كوَّنَه، وبكَمالاتِه الشَّخصِيّةِ وبتَصدِيقِ حَقائِقِ ما بلَّغَه مِنَ القُرآنِ الحَكِيمِ.. وما دامَ مَلايِينُ مِن أَهلِ الكَمالِ قد سَمَوْا في مَراتِبِ الكَمالاتِ، وتَرَقَّوا فيها بثَمَراتِ اتِّباعِه، فوَصَلُوا إلى سَعادةِ الدّارَينِ… فلا بُدَّ أنَّ سُنّةَ هذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ ﷺ وحَرَكاتِه هي أَفضَلُ نَمُوذَجٍ للِاقتِداءِ، وأَكمَلُ مُرشِدٍ لِلِاتِّباعِ والسُّلُوكِ، وأَحكَمُ دُستُورٍ، وأَعظَمُ قانُونٍ، يَتَّخِذُه المُسلِمُ أَساسًا في تَنظِيمِ حَياتِه.

فالسَّعِيدُ المَحظُوظُ هو مَن له أَوفَرُ نَصِيبٍ من هذا الاتِّباعِ للسُّنّةِ الشَّرِيفةِ.

ومَن لم يتَّبِعِ السُّنّةَ فهو في خُسرانٍ مُبِينٍ إن كان مُتَكاسِلًا عنها، وفي جِنايةٍ كُبرَى إن كان غيرَ مُكتَرِثٍ بها، وفي ضَلالةٍ عَظِيمةٍ إن كان مُنتَقِدًا لها بما يُومِئُ التَّكذِيبَ بها.

[كان خُلُقه القرآن]

المَسأَلةُ الثّانية: لقد وَصَف اللهُ سُبحانَه وتَعالَى الرَّسُولَ ﷺ في القُرآنِ الحَكِيمِ بقَولِه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.

ووَصَفَه الصَّحْبُ الكِرامُ كما وَصَفَتْه الصَّحابِيّةُ الجَلِيلةُ الصِّدِّيقةُ عائِشةُ رَضِيَ الله عَنهَا قائِلةً: “كان خُلُقُه القُرآنَ“، أي “إنَّ مُحمَّدًا ﷺ هو المِثالُ النَّمُوذجُ لِما بَيَّنَه القُرآنُ الكَرِيمُ مِن مَحاسِنِ الأَخلاقِ، وهو أَفضَلُ مَن تَمثَّلَت فيه تلك المَحاسِنُ، بل إنَّه خُلِقَ فِطْرةً على تلك المَحاسِنِ”.

وإذ كان الواجِبُ أن يكُونَ كلٌّ مِن أَفعالِ هذا النَّبيِّ العَظِيمِ ﷺ وأَقوالِه وأَحوالِه، وكلٌّ مِن حَرَكاتِه نَمُوذَجَ اقْتِداءٍ للبَشَرِيّةِ، نُدرِكُ مَدَى تَعاسةِ أُولَئِك المُؤْمِنِينَ مِن أُمَّتِه الَّذين غَفَلُوا عن سُنَّتِه ﷺ مِمَّن لا يُبالُون بها أو يُرِيدُون تَغيِيرَها، فما أَتعَسَهم وما أَشْقاهُم!

[رسول الله صلى الله عليه وسلم أنموذج الكمال والاعتدال]

المَسأَلةُ الثّالثةُ: لَمّا كان الرَّسُولُ ﷺ قد خُلِق في أَفضَلِ وَضْعٍ وأَعدَلِه وفي أَكمَلِ صُورةٍ وأَتمِّها، فحَرَكاتُه وسَكَناتُه قد سارَت على وَفْقِ الِاعتِدالِ والِاستِقامةِ، وسِيرَتُه الشَّرِيفةُ تُبيِّنُ هذا بَيانًا قاطِعًا وبوُضُوحٍ تامٍّ، بأنَّه قد مَضَى وَفْقَ الِاعتِدالِ والِاستِقامةِ في كلِّ حَرَكةٍ مِن حَرَكاتِه مُتَجَنِّبًا الإفراطَ والتَّفْريطَ.

نعم لَمّا كان الرَّسُولُ ﷺ قدِ امْتَثَل امتِثالًا كامِلًا قَولَه تَعالَى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾، فالِاستِقامةُ تَظهَرُ في جَمِيعِ أَفعالِه وأَقوالِه وأَحوالِه ظُهُورًا لا لَبْسَ فيه.

فمَثلًا: إنَّ قُوَّتَه العَقْلِيّةَ قد سارَت دائِمًا ضِمنَ الحِكْمةِ الَّتي هي مِحْوَرُ الِاستِقامةِ والحَدُّ الوَسَطُ، مُبَرَّأةً عَمّا يُفسِدُها ويَكبِتُها مِن إفراطٍ وتَفرِيطٍ، أي: الغَباءِ والخِبِّ.

وإنَّ قُوَّتَه الغَضَبِيّةَ قد سارَت دائِمًا ضِمنَ الشَّجاعةِ السّامِيةِ الَّتي هي مِحْورُ الِاستِقامةِ والحَدُّ الوَسَطُ، مُنزَّهةً عمّا يُفسِدُها مِن إفراطٍ وتَفرِيطٍ، أي: الجُبْنِ والتَّهَوُّرِ.

وإنَّ قُوَّتَه الشَّهَوِيّةَ قدِ اتَّخَذَت مِحْورَ الِاستِقامةِ دائِمًا، وهي العِفّة، واستَقامَت علَيْها بأَسمَى دَرَجاتِ العِصْمةِ، فصَفَت مِن فَسادِ تلك القُوّةِ مِن إِفراطٍ وتَفرِيطٍ، أي: الخُمُودِ والفُجُورِ.

وهكذا، فإنَّه ﷺ قدِ اختارَ حَدَّ الِاستِقامةِ في جَمِيعِ سُنَنِه الشَّرِيفةِ الطّاهِرةِ، وفي جَمِيعِ أَحْوالِه الفِطْرِيّةِ، وفي جَمِيعِ أَحْكامِه الشَّرعِيّة، واجتَنبَ كُلِّـيًّا الظُّلمَ والظُّلُماتِ، أي: الإِفْراطَ والتَّفريطَ، والإسرافَ والتَّبذِيرَ، حتَّى إنَّه قدِ اتَّخَذ الِاقتِصادَ لَه دَلِيلًا مُتَجنِّـبًا الإسرافَ نِهائيًّا، في كَلامِه وفي أَكْلِه وفي شُرْبِه. وقد أُلِّفَت في تَفْصِيلِ هذه الحَقِيقةِ آلافُ المُجَلَّداتِ، إلّا أنَّنا اكْتَفَيْنا بهذه القَطْرةِ مِنَ البَحْرِ، إذِ “العارِفُ تَكفِيه الإشارةُ”.

اللَّهُمَّ صَلِّ على جامِعِ مَكارِمِ الأَخلاقِ، ومَظهَرِ سِرِّ ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، الَّذي قالَ: “مَن تَمَسَّك بسُنَّتي عِندَ فَسادِ أُمَّتي فلَه أَجْرُ مِئة شَهِيدٍ”.

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

❀   ❀   ❀

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى