اللمعة السابعة: إخباراتٌ غيبية في آياتٍ قرآنية.
[هذه اللمعة تتحدث عن نوع إعجازٍ يتمثل في سبع نبوءاتٍ غيبيةٍ أخبرت بها الآيات الأخيرة من سورة الفتح وتحققت بتمامها، وفي إشارةِ آيةٍ من سورة النساء إلى الخلفاء الراشدين ومَن بعدَهم]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

[اللمعة السابعة]
اللمعة السَّابعة
[إعجازٌ في إخبارٍ بمغيَّباتٍ من سبعة وجوه]
(تَخُصُّ سبعةَ أَنواعٍ مِن إخبارِ الآياتِ التي في خِتامِ سُورةِ الفَتحِ بالغَيبِ)
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾.
هذه الآياتُ الثَّلاثُ في سُورةِ الفَتحِ لها وُجُوهٌ إعجازِيّةٌ كَثيرةٌ جِدًّا، فوَجهٌ مِنَ الوُجُوهِ الكُلِّيّةِ العَشَرةِ لإعجازِ القُرآنِ هو الإخبارُ عنِ الغَيبِ الَّذي يَظهَرُ في هذه الآياتِ الكَرِيمةِ بسَبعةِ أو ثَمانيةِ وُجُوهٍ:
[الوجه الأول: الإخبار بفتح مكة]
الوَجهُ الأوَّلُ:
قَولُه تَعالَى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا..﴾ إلى آخِر الآية، تُخبِرُ إخبارًا قاطِعًا عن فَتحِ مَكّةَ قبلَ وُقُوعِه، وقد فُتِحَت فِعلًا بعدَ سَنَتَينِ كما أَخبَرَت هذه الآيةُ.
[الوجه الثاني: الإخبار بفتحِ صلح الحديبية]
الوَجهُ الثَّاني:
قَولُه تَعالَى: ﴿فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾؛ تُنبِئُ هذه الآيةُ أنَّ صُلحَ الحُدَيبِيّةِ وإن بَدا ظاهِرًا أنَّه ليس في صالِحِ المُسلِمين وأنَّ لِقُرَيشٍ ظُهُورًا على المُسلِمين إلى حَدٍّ مّا، إلّا أنَّه سيكُونُ بمَثابةِ فَتْحٍ مَعنَوِيٍّ مُبِينٍ، ومِفتاحًا لِبَقيّةِ الفُتُوحات.
والحَقُّ أنَّ السُّيُوفَ المادِّيّةَ وإن دَخَلَت أَغمادَها مُؤَقَّتًا، إلّا أنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ قد سَلَّ سَيفَه الأَلْماسِيَّ البارِقَ وفَتَحَ القُلُوبَ والعُقُولَ، إذ بسَبَبِ الصُّلحِ اندَمَجَتِ القَبائلُ فيما بَينَها واختَلَطَت فاستَوْلَت فَضائلُ الإسلامِ على العِنادِ، فمَزَّقَت أَنوارُ القُرآنِ حُجُبَ التَّعَصُّبِ القَومِيِّ الذَّميمِ.
فمَثلًا: إنَّ داهِيةَ الحَربِ خالِدَ بنَ الوَليدِ وداهِيةَ السِّياسةِ عَمْرَو بنَ العاصِ اللَّذَينِ يَأبَيانِ أن يُغلَبا، غَلَبَهما سَيفُ القُرآنِ الَّذي سَطَع في صُلحِ الحُدَيبِيّةِ، حتَّى سارا معًا إلى المَدِينةِ المُنَوَّرةِ وسَلَّما الإسلامَ رِقابَهما، وانقادا إلَيه انقِيادَ خُضُوعٍ وطاعةٍ حتَّى أَصبَحَ خالِدُ بنُ الوَليدِ سَيفَ اللهِ المَسلُولَ تُفتَحُ به الفُتُوحاتُ الإسلاميّةُ.
[ما الحكمة من هزيمة الصحابة في بعض الغزوات؟]
سُؤالٌ مُهِمٌّ: إنَّ صَحابةَ الرَّسُولِ الكَرِيمِ، وهو حَبِيبُ رَبِّ العالَمِين وسَيِّدُ الكَونَينِ ﷺ، قد غُلِبُوا أَمامَ المُشرِكين في نِهايةِ مَعرَكةِ أُحُدٍ وبِدايةِ مَعرَكةِ حُنَينٍ، فما الحِكمةُ في هذا؟
الجَوابُ: لأنَّه حِينَذاك كان بينَ المُشرِكين كَثيرُون مِن أَمثالِ خالِدِ بنِ الوَليدِ، مِمَّن سيَكُونُون في المُستَقبَلِ مِثلَ كِبارِ الصَّحابةِ في ذلك الزَّمانِ، فلِأَجلِ ألّا تُكْسَرَ عِزَّتُهم كُلِّـيًّا اقتَضَت حِكمةُ اللهِ أنْ تُكافِئَهم مُكافَأةً عاجِلةً لِحَسَناتِهِمُ المُستَقبَليّةِ، بمَعنَى أنَّ صَحابةً في الماضِي غُلِبُوا أَمامَ صَحابةٍ في المُستَقبَلِ، لِئَلّا يَدخُلَ هؤلاء -أي: صَحابةُ المُستَقبَل- في الإسلامِ خَوْفًا مِن بَرِيقِ السُّيُوفِ، بل شَوْقًا إلى بارِقةِ الحَقيقةِ، ولِئَلّا تَذُوقَ شَهامَتُهمُ الفِطرِيّةُ الهَوانَ كَثِيرًا.
[الوجه الثالث: الإخبار بالأمن التام برغم إحاطة الأعداء]
الوَجهُ الثّالثُ:
إنَّ الآيةَ الكَريمةَ تُخبِرُ بقَيدِ ﴿لَا تَخَافُونَ﴾ بأنَّكم ستَدخُلُون البَيتَ الحَرامَ وتَطُوفُون حَولَ الكَعبةِ بأَمانٍ تامٍّ، عِلْمًا أنَّ مُعظَمَ قَبائلِ الجَزِيرةِ العَرَبيّةِ ومَن هم حَوالَي مَكّةَ المُكَرَّمةِ وغالبِيّةَ قُرَيشٍ كلَّهم أَعداءٌ للمُسلِمين، فهذا الإخبارُ يَدُلُّ على أنَّـكم تَدخُلُون في أَقرَبِ وَقْتٍ المَسجِدَ وتَطُوفُون دُونَ أن يُداخِلَكمُ الخَوفُ، وأنَّ الجَزِيرةَ ستَدِينُ لكم بالطّاعةِ، وأنَّ قُريشًا تكُونُ في حَظِيرةِ الإسلامِ ويَعُمُّ الأَمنُ والأَمانُ. فوَقَع كما أَخبَرَتِ الآيةُ.
[الوجه الرابع: الإخبار بظهور الإسلام على سائر الأديان]
الوَجهُ الرّابعُ:
قَولُه تَعالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾؛ هذه الآيةُ تُخبِرُ إخبارًا قاطِعًا أنَّ الدِّينَ الَّذي جاءَ به الرَّسُولُ الكَريمُ ﷺ سيَظهَرُ على الأَديانِ كُلِّها، عِلْمًا أنَّ النَّصرانيّةَ واليَهُودِيّةَ والمَجُوسِيّةَ الَّتي يَعتَنِقُها مِئاتُ المَلايِينِ مِنَ النّاسِ كانَت أَديانًا رَسمِيّةً لِدُوَلٍ كُبْرَى كالصِّينِ وإيرانَ ورُوما، والرَّسُولَ الكَريمُ ﷺ لم يَظهَرْ بَعدُ ظُهُورًا تامًّا على قَبِيلَتِه نَفسِها.
فالآيةُ الكَريمةُ تُخبِرُ عن ظُهُورِ دِينِه على الأَديانِ كافّةً وعلى الدُّوَلِ كافّةً، بل تُخبِرُ عن هذا الظُّهُورِ بكلِّ يَقينٍ وجَزْمٍ إخبارًا قاطِعًا؛ ولقد صَدَّقَ المُستَقبَلُ هذا الخَبَرَ الغَيبيَّ بامتِدادِ سَيفِ الإسلامِ مِن بَحرِ المُحِيطِ الشَّرقيِّ (الهادِي) إلى بَحرِ المُحِيطِ الغَربيِّ (الأَطلَسِيّ).
[الوجه الخامس: الإخبار بترتيب الخلفاء الأربعة]
الوَجهُ الخامِسُ:
﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا..﴾ إلى آخِر الآية: هذه الآيةُ صَرِيحةٌ في مَعناها مِن أنَّ الصَّحابةَ الكِرامَ هم أَفضَلُ بَني الإنسانِ بعدَ الأَنبِياءِ عَلَيهِم السَّلَام لِمَا يَتَحَلَّون به مِن سَجايا سامِيةٍ ومَزايا راقيةٍ، وفي الوَقتِ نَفسِه تُبيِّنُ ما تَتَّصِفُ به طَبَقاتُ الصَّحابةِ في المُستَقبَلِ مِن صِفاتٍ مُمتازةٍ مُختَلِفةٍ خاصّةٍ بهم، كما تُومِئُ بالمَعنَى الإشارِيِّ -لَدَى أَهلِ التَّحقيق- إلى تَرتِيبِ الخُلَفاءِ الَّذين سيَخلُفُون مَقامَ النَّبيِّ ﷺ بعدَ وَفاتِه، فَضْلًا عن إخبارِها عن أَبرَزِ صِفةٍ خاصّةٍ بكلٍّ مِنهم مِمّا اشتَهَرُوا به.
وذلك أنَّ قَولَه تَعالَى: ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ يَدُلُّ على سيِّدِنا الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عَنهُ المُتَّصِفِ بالمَعِيّةِ المَخصُوصةِ والصُّحبةِ الخاصّةِ، بل بوَفاتِه أوَّلًا دَخَل ضِمنَ مَعِيَّتِه أيضًا.
كما أنَّ قَولَه تَعالَى: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ يَدُلُّ على سيِّدِنا عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُ الَّذي سيَهُزُّ دُوَلَ العالَمِ ويُرعِبُهم بفُتُوحاتِه، وسيَشتَهِرُ بعَدالَتِه على الظّالِمِين كالصَّاعِقةِ.
وتُخبِرُ الآيةُ بلَفظِ: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ عن سيِّدِنا عُثمانَ رَضِيَ الله عَنهُ الَّذي لم يَرْضَ بإِراقةِ الدِّماءِ بينَ المُسلِمين حِينَما كانَت تَتَهيَّأُ أَعظَمُ فِتنةٍ في التّارِيخِ، ففَضَّلَ بكَمالِ رَحمَتِه ورَأفَتِه أن يُضَحِّيَ برُوحِه ويُسَلِّمَ نَفسَه للمَوتِ، واستُشهِدَ مَظلُومًا وهو يَتلُو القُرآنَ الكَريمَ.
كما أنَّ قَولَه تَعالَى: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ يُشِيرُ إلى أَوضاعِ سيِّدِنا عَليٍّ رَضِيَ الله عَنهُ في المُستَقبَلِ الَّذي باشَرَ مَهامَّ الخِلافةِ بكَمالِ الِاستِحقاقِ والأَهلِيّةِ وهو في كَمالِ الزُّهدِ والعِبادةِ والفَقرِ والِاقتِصادِ، واختارَ الدَّوامَ على السُّجُودِ والرُّكُوعِ كما هو مُصَدَّقٌ عندَ النّاسِ.. فَضْلًا عن إخبارِها أنَّه لا يكُونُ مَسؤُولًا عن حُرُوبِه الَّتي خاضَها في تلك الفِتَنِ، والَّتي كان يَبتَغِي فيها فَضْلًا مِنَ اللهِ ورِضْوانًا.
[الوجه السادس: الإخبار بوصف الصحابة في التوراة]
الوَجهُ السّادسُ:
﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾؛ هذه الفِقرةُ فيها إخبارٌ غَيبيٌّ بجِهَتَينِ:
الجِهةُ الأُولى: أنَّها تُخبِرُ عن أَوصافِ الصَّحابةِ الوارِدةِ في التَّوراةِ، وهي في حُكمِ الغَيبِ بالنِّسبةِ لرَسُولٍ أُمِّيٍّ ﷺ، إذ قد وُضِّحَ في “المَكتُوبِ التّاسِعَ عَشَرَ” أنَّ في التَّوراةِ وَصْفًا لِصَحابةِ الرَّسُولِ الَّذي سيَأتي في آخِرِ الزَّمانِ “معَه أُلُوفُ الأَطهارِ”، في يَمِينِه أو “معَه راياتُ القِدِّيسِين” بمَعنَى أنَّ أَصحابَه مُطِيعُون وعُبّادٌ صالِحُون وأَولياءُ للهِ حتَّى يُوصَفُون بالقِدِّيسِين الأَطهارِ.
فبِرَغمِ ما طَرَأَ مِن تَحرِيفاتٍ كَثيرةٍ على التَّوراةِ بسَبَبِ تَرجَماتِها العَديدةِ لِأَلسِنةٍ مُتَنوِّعةٍ، فإنَّها ما زالَتْ تُصَدَّقُ بآياتٍ كَثيرةٍ مِنها هذه الآيةُ الكَريمةُ في خِتامِ سُورةِ الفَتحِ.. ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾.
الجِهةُ الثّانية مِن الإخبارِ الغَيبيِّ هي أنَّ ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ تُخبِرُ أنَّ الصَّحابةَ الكِرامَ والتّابِعِين سيَبلُغُون مَرتَبةً مِنَ العِبادةِ بحيثُ إنَّ ما في أَرواحِهم مِن نُورٍ سيُشِعُّ على وُجُوهِهم، وستَظهَرُ على جِباهِهم عَلامةُ وِلايَتِهم وصَلاحِهم بكَثرةِ السُّجُودِ للهِ.
نعم، فلَقد صَدَّقَ المُستَقبَلُ هذا بكلِّ يَقينٍ ووُضُوحٍ وجَلاءٍ، فإنَّ زَينَ العابِدِين رَضِيَ الله عَنهُ الَّذي كان يُصَلِّي أَلفَ رَكعةٍ لَيلًا ونَهارًا، وطاوُوسًا اليَمانِي رَضِيَ الله عَنهُ الَّذي صَلَّى الفَجرَ بوُضُوءِ العِشاءِ طَوالَ أَربَعين سَنةً، رَغمَ التَّقَلُّباتِ السِّياسِيّةِ والأَوضاعِ المُضطَرِبةِ، وكَثيرِين كَثيرِين أَمثالَهما قد بَيَّنُوا سِرًّا مِن أَسرارِ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾.
[الوجه السابع: الإخبار بوصف الصحابة في الإنجيل]
الوَجهُ السّابعُ:
﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾؛ هذه الفِقرةُ أيضًا فيها إخبارٌ غَيبيٌّ بجِهَتَينِ:
الجِهةُ الأُولَى: إخبارٌ بأَخبارِ الإنجِيلِ عن أَوْصافِ الصَّحابةِ الكِرامِ الَّذي هو في حُكمِ الغَيبِ بالنِّسبةِ لِنَبِيٍّ أُمِّيٍّ ﷺ.
نعم، لقد وَرَدَت آياتٌ في الإنجِيلِ تَصِفُ الرَّسُولَ الَّذي سيَأتي في آخِرِ الزَّمانِ، مِثلُ: “ومعَه قَضِيبٌ مِن حَديدٍ وأُمَّتُه كذلك”، بمَعنَى أنَّه صاحِبُ سَيفٍ ومَأْمُورٌ بالجِهادِ، وأَصحابُه كذلك أَصحابُ سُيُوفٍ ومَأمُورُون بالجِهادِ، وليس كسيِّدِنا عِيسَى عَلَيهِ السَّلَام الَّذي لم يَكُ صاحِبَ سَيفٍ؛ فَضْلًا عن أنَّ ذلك المَوصُوفَ بـ”معَه قَضِيبٌ مِن حَديدٍ” سيُصبِحُ سَيِّدَ العالَمِ، لأنَّ آيةً في الإنجِيلِ تقُولُ: “سأَذهَبُ كي يَجِيءَ سَيِّدُ العالَمِ“.
فنَفهَمُ مِن هاتَينِ الفِقْرَتَينِ مِنَ الإنجِيلِ أنَّ الصَّحابةَ الكِرامَ وإن بَدَا علَيهم في بادِئِ الأَمرِ ضَعْفٌ وقِلّةٌ، إلّا أنَّهم سيَنمُون نُمُوَّ البِذْرةِ النّابِتةِ، وسيَعْلُون كالنَّباتِ النّامِي النّاشِئِ ويَقْوَوْن حتَّى يَغتاظَ مِنهُمُ الكُفّارُ، بل يُخضِعُونَ العالَمَ بسُيُوفِهم فيُثبِتُون أنَّ سَيِّدَهمُ الرَّسُولَ الكَريمَ هو سَيِّدُ العالَمِ.. وهذا المَعنَى الَّذي تُفِيدُه آيةُ الإنجِيلِ هو مَعنَى الآيةِ في خِتامِ سُورةِ الفَتحِ.
الوَجهُ الثّاني: تُفِيدُ هذه الفِقْرةُ أنَّ الصَّحابةَ الكِرامَ وإن كانُوا قد قَبِلُوا بصُلْحِ الحُدَيبِيّةِ، لِقِلَّتِهم وضَعْفِهم آنَذاك، فإنَّهم بعدَ مُدّةٍٍ وَجيزةٍ يَكسِبُون بسُرعةٍ قُوّةً رَهيبةً بحيثُ إنَّ البَشَرِيّةَ الَّتي أَنبَتَتْها يَدُ القُدرةِ الإِلٰهِيّةِ في مَزرَعةِ الأَرضِ تكُونُ سَنابِلُها قَصِيرةً وناقِصةً ومَمحُوقةً بسَبَبِ غَفْلَتِهم إزاءَ سَنابِلِهمُ العاليةِ الشَّامِخةِ القَوِيّةِ المُثمِرةِ المُبارَكةِ، حتَّى إنَّهم يكُونُون مِنَ القُوّةِ والكَثْرةِ بحيثُ يَتْرُكُون دُوَلًا كُبْرَى تَتَلظَّى بنارِ غَيظِها وحَسَدِها.. نعم، إنَّ المُستَقبَلَ قد بَيَّن هذا الإخبارَ الغَيبيَّ بأَسْطَعِ صُورةٍ.
[إخبارٌ بهفواتٍ تقع من جراء حدوث فتن بين الصحابة]
وفي هذا الإخبارِ الغَيبيِّ إيماءٌ خَفِيٌّ أيضًا، وهو أنَّه لَمّا أَثنَى على الصَّحابةِ الكِرامِ بِمَا يَتَحَلَّون به مِن خِصالٍ فاضِلةٍ مُهِمّةٍ، كان المَقامُ يَقتَضِي الوَعْدَ بثَوابٍ عَظِيمٍ ومُكافَأةٍ جَليلةٍ لهم، إلّا أنَّه يُشِيرُ بكَلِمةِ “مَغفِرةً” إلى أنَّه ستَقَعُ أَخطاءٌ وهَفَواتٌ مُهِمّةٌ مِن جَرّاءِ فِتَنٍ تَحدُثُ بينَ الصَّحابةِ، إذِ المَغفِرةُ تَدُلُّ على وُجُودِ تَقصِيرٍ في شَيءٍ، وحِينَذاك سيَكُونُ أَعظَمُ مَطلُوبٍ لهم وأَفضَلُ إحسانٍ علَيهم هو المَغفِرةَ، وأَعظَمُ إثابةٍ هي العَفوَ وعَدَمَ العِقابِ.
فكما أنَّ كَلِمةَ “مَغفِرةٌ” تَدُلُّ على هذا الإيماءِ اللَّطيفِ، كذلك فهي ذاتُ عَلاقةٍ مع ما في بِدايةِ السُّورةِ: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾، فالمَغفِرةُ هنا لَيسَت مَغفِرةَ ذُنُوبٍ حَقيقيّةً لِأَنَّ في النُّبوّةِ العِصمةَ، فليس ثَمّةَ ذَنْبٌ، وإنَّما هي بُشرَى المَغفِرةِ بما يُناسِبُ مَقامَ النُّبوّةِ؛ وما في خِتامِ السُّورةِ مِن تَبشِيرِ الصَّحابةِ الكِرامِ بالمَغفِرةِ يَضُمُّ لَطافةً أُخرَى إلى ذلك الإِيماءِ.
وهكذا، فوُجُوهُ الإعجازِ العَشَرةُ للآياتِ الكَرِيمةِ الثَّلاثِ في خِتامِ سُورةِ الفَتحِ، لم نَبحَثْ فيها إلّا عن وَجهِ الإعجازِ في إخبارِها الغَيبيِّ، بل لم نَبحَثْ إلَّا في سَبْعِ وُجُوهٍ مِنَ الوُجُوهِ الكَثِيرةِ جِدًّا عن هذا النَّوعِ مِنَ الإخبارِ.
[وجوه أخرى من الإعجاز في الآية]
وقد أُشِيرَ إلى لَمْعةِ إعجازٍ مُهِمّةٍ في أَوضاعِ حُرُوفِ هذه الآيةِ الأَخيرةِ في خِتامِ “الكَلِمةِ السَّادِسةِ والعِشرِين” الخاصّةِ بالقَدَرِ والجُزءِ الِاختِيارِيِّ، فهذه الآيةُ مُوَجَّهةٌ بجُمَلِها إلى الصَّحابةِ الكِرامِ كما تَشمَلُ بقُيُودِها أَحوالَهم أيضًا؛ ومِثلَما تُفِيدُ بأَلفاظِها أَوصافَ الصَّحابة، فهي تُشِيرُ بحُرُوفِها وتَكرارِ أَعدادِها إلى أَصحابِ بَدْرٍ وأُحُدٍ وحُنَينٍ وأَصحابِ الصُّفّةِ وبَيعةِ الرِّضوانِ وأَمثالِهم مِن طَبَقاتِ الصَّحابةِ الكِرامِ؛ كما تُفيدُ أَسرارًا كَثيرةً بحِسابِ الحُرُوفِ الأَبجَدِيّةِ والتَّوافُقِ الَّذي يُمَثِّلُ نَوعًا مِن عِلمِ الجَفْرِ ومِفتاحَه.
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
❀ ❀ ❀
[إشارات غيبية إلى الخلفاء الراشدين في آيةٍ من سورة النساء]
إنَّ الإخبارَ الغَيبيَّ الَّذي تُخبِرُ به آياتُ خِتامِ سُورةِ الفَتحِ بالمَعنَى الإشارِيِّ، تُخبِرُ به كذلك هذه الآيةُ الآتيةُ وتُشِيرُ إلى المَعنَى نَفسِه، لِذا نَتَطرَّقُ إلَيها هنا.
تَتِمّةٌ
﴿… وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾
نُشِيرُ إلى نُكتَتَينِ فَقَط مِن بينِ أُلُوفِ نِكاتِ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ:
[نكتة أولى: طبقات معاني الآيات القرآنية]
النُّكتةُ الأُولَى: إنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ مِثلَما يُبيِّنُ الحَقائقَ بمَفاهِيمِه وبمَعناه الصَّرِيح، يُفيدُ كذلك مَعانِيَ إشارِيّةً كَثيرةً بأَساليبِه وهَيْئاتِه، فلِكُلِّ آيةٍ طَبَقاتٌ كَثيرةٌ مِنَ المَعاني؛ ولِأنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ قد نَزَل مِنَ العِلمِ المُحِيطِ، فيُمكِنُ أن تكُونَ جَميعُ مَعانيه مُرادةً، إذ مَعاني القُرآنِ لا تَنحَصِرُ في واحِدٍ أوِ اثنَينِ مِنَ المَعاني كما يَنحَصِرُ كَلامُ الإنسانِ الحاصِلُ بإرادَتِه الشَّخصِيّةِ وبفِكْرِه الجُزئيِّ المَحدُودِ.
وبِناءً على هذا السِّرِّ فقد بَيَّن المُفَسِّرُون ما لا يُحَدُّ مِنَ الحَقائقِ لِآياتِ القُرآنِ.
وهناك حَقائقُ كَثيرةٌ جِدًّا لم يُبَيِّنْها المُفَسِّرُون بَعدُ، ولا سِيَّما حُرُوفُ القُرآنِ وإشاراتُه، ففيها عُلُومٌ مُهِمّةٌ سِوَى مَعانيه الصَّرِيحةِ.
[نكتة ثانية: فئات أصحاب الصراط المستقيم]
النُّكتةُ الثّانية: تُبيِّنُ هذه الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ أنَّ أَهلَ الصِّراطِ المُستَقِيمِ والمُنعَمَ علَيهم بالنِّعَمِ الإِلٰهِيّةِ حَقًّا هم طائِفةُ الأَنبِياءِ، وقافِلةُ الصِّدِّيقين، وجَماعةُ الشُّهَداءِ، وأَصنافُ الصّالِحِين، وأَنواعُ التّابِعِين؛ فكما تُبيِّنُ الآيةُ هذه الحَقيقةَ فهي تُفِيدُ صَراحةً أَكمَلَ مَن في تلك الأَقسامِ الخَمسةِ في عالَمِ الإسلامِ، وتَدُلُّ على أَئمّةِ تلك الأَقسامِ الخَمسةِ وعلى رُؤَسائِهِمُ المُتَقدِّمين بذِكرِ صِفاتِهِمُ المَشهُورةِ، ثمَّ تُعيِّنُ بجِهةٍ من خلال لَمعةِ إعجازٍ أَئمّةَ تلك الأَقسامِ في المُستَقبَلِ وأَوضاعَهُم بنَوعٍ مِن إخبارٍ غَيبيٍّ.
نعم، كما أنَّ لَفظَ ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ يَنظُرُ صَراحةً إلى الرَّسُولِ الكَريمِ ﷺ، فإنَّ فِقْرةَ ﴿وَالصِّدِّيقِينَ﴾ تَنظُرُ إلى أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، مُشِيرةً إلى أنَّه الشَّخصُ الثَّاني بعدَ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ، وأَوَّلُ مَن يَخلُفُه؛ وأنَّ اسمَ الصِّدِّيقِ عُنوانُه الخاصُّ الَّذي لُقِّبَ به وهو المَعرُوفُ لَدَى الأُمّةِ جَميعًا، وأنَّه سيَكُونُ على رَأسِ الصِّدِّيقين.
كما تُشِيرُ بكَلِمةِ ﴿وَالشُّهَدَاءِ﴾ إلى عُمَرَ وعُثمانَ وعَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُم أَجمَعِين، وتُفِيدُ إفادةً غَيبِيّةً أنَّ هَؤُلاءِ الثَّلاثةَ سيَنالُون الخِلافةَ بعدَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عَنهُ، وأنَّهم سيُستَشْهَدُون.. مِمّا يَزِيدُ فَضِيلةً إلى فَضائِلِهم.
وكما تُشِيرُ بكَلِمةِ ﴿وَالصَّالِحِينَ﴾ إلى أَصحابِ الصُّفّةِ وبَدْرٍ، وبَيعةِ الرِّضوانِ، وتُشَوِّقُ بجُملةِ ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ بمَعناها الصَّرِيحِ على اتِّباعِهِم، وتُبيِّنُ جَمالَ اتِّباعِ التّابِعين لهم وحُسْنَه مُشِيرةً بالمَعنَى الإشارِيِّ إلى الحَسَنِ رَضِيَ الله عَنهُ أنَّه خامِسُ الخُلَفاءِ الأَربَعةِ، مُصادِقًا على حُكمِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: “الخِلافةُ بَعدِي في أُمَّتي ثَلاثُون سَنةً”، فمعَ قِصَرِ مُدّةِ خِلافَتِه فهي عَظِيمةُ الشَّأْنِ.
الحاصِلُ: أنَّ الآيةَ الأَخيرةَ مِن سُورةِ الفَتحِ تَنظُرُ إلى الخُلَفاءِ الأَربَعةِ، كما تَنظُرُ هذه الآيةُ وتُشِيرُ إلى مُستَقبَلِ أَوضاعِهم وتُؤَيِّدُها بنَوعٍ مِنَ الإخبارِ الغَيبِيِّ.
فالإخبارُ الغَيبِيُّ الَّذي هو أَحَدُ أَنواعِ إعجازِ القُرآنِ له لَمَعاتٌ إعجازِيّةٌ كَثيرةٌ وكَثيرةٌ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، فإنَّ حَصْرَ أَهلِ الظَّاهِرِ تلك الإخباراتِ الغَيبِيّةَ في أَربَعِين أو خَمسِين آيةً فَقَط إنَّما هو ناشِئٌ مِن نَظَرٍ ظاهِرِيٍّ سَطْحِيٍّ، بَينَما في الحَقيقةِ هناك ما يَربُو على الأَلفِ مِنها، بل قد تكُونُ في آيةٍ واحِدةٍ فقط أَربَعةُ أو خَمسةُ إِخباراتٍ غَيبِيّةٍ.
﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
❀ ❀ ❀
[تفصيل البيان لآية سورة النساء]
توضيحٌ ثانٍ لهذه التَّتمّة1لقد وَجَد إخواني أنَّ كِلا التَّوضِيحَينِ مُفيدٌ، فأَدرَجُوا الِاثنَينِ معًا، علمًا أنَّ أيًّا مِنهما كافٍ..
إنَّ آيةَ: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ تُؤيِّدُ الإِشارةَ الغَيبِيّةَ الورِادَ ذِكرُها في خِتامِ سُورةِ الفَتحِ، وتُعرِّفُ أَصحابَ الصِّراطِ المُستَقِيمِ في الفاتِحةِ الشَّرِيفةِ، وتُبيِّنُ المَقصُودِينَ بِالآيةِ: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾؛ وتُظهِرُ قافِلةَ الرِّفاقِ النُّورانيِّينَ الأَشَدَّ أُنسًا والأَكثَرَ عَدَدًا ورَغْبةً في طَرِيقِ أَبدِ الآبادِ، وتَدفَعُ أَهلَ الإِيمانِ وأَصحابَ الشُّعُورِ وتَسُوقُهُم بشَكلٍ مُعجِزٍ لِاتِّباعِ هذه القافِلةِ والِالتِحاقِ برَكْبِها.
كما أنَّها تُشِيرُ -كما في آخِر آيةٍ مِن سُورةِ الفَتحِ- بما يُعبَّرُ عنه في عِلمِ البَلاغةِ بـ”مَعارِيضِ الكَلامِ” و”مُستَتبَعاتِ التَّراكِيبِ” إلى مَعانٍ مُغايِرةٍ لِمَعانِيها المَقصُودةِ، أي: تُشِيرُ بمَعانٍ رَمزِيّةٍ إِشارِيّةٍ إلى الخُلَفاءِ الأَربَعةِ، وإلى الخَلِيفةِ الخامِسِ “الحَسَنِ” رَضِيَ الله عَنهُ، وتُخبِرُ عن أُمُورٍ غَيبِيّةٍ مِن جِهاتٍ عِدّةٍ، هي على النَّحوِ التّالي:
تُعرِّفُ الآيةُ الكَرِيمةُ بمَنطُوقِها الصَّرِيحِ بأَصحابِ الصِّراطِ المُستَقِيمِ وبالمُنعَمِ علَيهِم بالنِّعَمِ الإِلٰهِيّةِ مِن بَينِ بَنِي البَشَرِ، مِن قافِلةِ الأَنبِياءِ، وطائِفةِ الصِّدِّيقِينَ، وجَماعةِ الشُّهَداءِ، وأَنواعِ الصّالِحِينَ، وأَصنافِ التّابِعِينَ (المُحسِنِينَ)؛ وهِي إذ تُعبِّرُ عن هذه الحَقيقةِ، تُشِيرُ كَذلِك بإِخبارٍ غَيبِيٍّ إلى وُجُودِ أَكمَلِهِم وأَفضَلِهِم في العالَمِ الإِسلامِيِّ، وهُم طائِفةُ وَرَثةِ الأَنبِياءِ المُتَسَلسِلِينَ مِن سِرِّ نُبوّةِ نَبِيِّ آخِرِ الزَّمانِ ﷺ، وقافِلةُ الصِّدِّيقِينَ المُتَسَلسِلِينَ مِن مَعدِنِ صِدِّيقيِّةِ الصِّدِّيقِ الأَكبَرِ رَضِيَ الله عَنهُ، وقافِلةُ الشُّهَداءِ المُتَّصِلِينَ بمَرتَبةِ شَهادةِ الخُلَفاءِ الثَّلاثِ، وجَماعةُ الصّالِحِينَ المُرتَبِطِينَ بسِرِّ: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ وأَصنافُ التّابِعِينَ المُمتَثِلِينَ أَمرَ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه﴾ والماضِينَ برُفقةِ الصَّحابةِ والخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ.
كما تُخبِرُ بإِشارةٍ مَعنَوِيّةٍ بكَلِمةِ: ﴿وَالصِّدِّيقِينَ﴾ عن أَبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ، وأنَّه الرَّجُلُ الثَّاني بَعدَ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ، وأَوَّلُ مَن يَخلُفُه، وأنَّ اسمَ الصِّدِّيقِ عُنوانُه الخاصُّ الَّذي لُقِّبَ به وعُرِف لَدَى الأُمّةِ جَمِيعًا، وأنَّه سيَكُونُ على رَأسِ الصِّدِّيقِينَ.
كما تُخبِرُ بكَلِمةِ: ﴿وَالشُّهَدَاءِ﴾ عنِ استِشهادِ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ الثَّلاثة، وأنَّهُم سيَتَقلَّدُون الخِلافةَ بعدَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عَنهُ، لِأنَّ كَلِمةَ “شُهَداء” جَمْعٌ، وأَقلُّ الجَمعِ ثَلاثٌ، ما يَعنِي أنَّ عُمَرَ وعُثمانَ وعَلِيًّا رَضِيَ الله عَنهُم سيَتَولَّوْن خِلافةَ المُسلِمِينَ بَعدَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عَنهُ، وسيَرتَقُونَ شُهَداءَ؛ وقد حَصَل هذا الإِخبارُ الغَيبِيُّ تَمامًا.
وتُخبِرُ بقَيدِ: ﴿وَالصَّالِحِينَ﴾ إلى كَثْرةِ أَهلِ الصَّلاحِ والتَّقوَى والعِبادةِ في المُستَقبَلِ أَمثالَ أَصحابِ الصُّفّةِ الَّذين أَثنَتْ علَيهِمُ التَّوراةُ على طاعَتِهِم وعِبادَتِهِم.
وتُشِيرُ بجُملةِ: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ إلى جَمالِ أَتْباعِ التّابِعِينَ الَّذين صاحَبُوا الصَّحابةَ واتَّبعُوهُم في العِلمِ والعَمَلِ، كما تُبيِّنُ مَحاسِنَ وجَمالَ رُفْقةِ هذه القَوافِلِ الأَربَعةِ في طَرِيقِ الأَبدِ.
ولِتَصدِيقِ الإِخبارِ النَّبوِيِّ الغَيبِيِّ كانَت خِلافةُ الحَسَنِ رَضِيَ الله عَنهُ في الظّاهِرِ مُدّةً قَصِيرةً لا تَتَجاوَزُ بِضْعةَ أَشهُرٍ قَلِيلةٍ، وذلك بمُوجَبِ حُكمِ: “الخِلافةُ بَعدِي في أُمَّتي ثَلاثُون سَنةً”؛ ومِصداقًا للإِخبارِ النَّبوِيِّ الغَيبِيِّ الوارِدِ في حَدِيثِ: “إنَّ ابنِي حَسَنٌ هذَا سَيِّدٌ، سَيُصلِحُ اللهُ بِهِ بَينَ فِئَتَينِ عَظِيمَتَينِ”، قامَ الحَسَنُ رَضِيَ الله عَنهُ بالإِصلاحِ بَينَ جَيشَينِ وجَماعَتَينِ إِسلامِيَّتَينِ عَظِيمَتَينِ، وأَزالَ الخِلافَ الواقِعَ بَينَهُما، فكانَت خِلافَتُه القَصِيرةُ هذه ذاتَ أَهَمِّيّةٍ عَظِيمةٍ؛ ومِن خِلالِ السِّرِّ المُعبَّرِ عنه في عِلمِ البَلاغةِ بـ”مُستَتبَعاتِ التَّراكِيبِ” أَرشَدَت بالمَعنَى الإِشارِيِّ إلى اسمِ الخَلِيفةِ الخامِسِ، وذلِك بكَلِمةِ: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾، لِتُومِئَ بإِخبارٍ غَيبِيٍّ إلى أنَّه الخَلِيفةُ الخامِسُ بعدَ الخُلَفاءِ الأَربَعةِ.
إنَّ ثَمّةَ أَسرارًا كَثِيرةً مِن أَمثالِ الأَخبارِ الإِشارِيّةِ المَذكُورةِ، لكِنْ لم يُفتَحِ البابُ لَنا لِأنَّ ذلك لا يُناسِبُ مَوضُوعَنا؛ وفي القُرآنِ الحَكِيمِ آياتٌ كَثِيرةٌ تَنطَوِي كلُّ آيةٍ مِنها على نَوعٍ مِنَ الإِخبارِ الغَيبِيِّ بجِهاتٍ عِدّةٍ، وإنَّ الأَخبارَ الغَيبِيّةَ القُرآنيّةَ الَّتي مِن هذا القَبِيلِ تُعَدُّ بالآلافِ.
﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
❀ ❀ ❀
خاتمة
لم تترجم
❀ ❀ ❀