رسالة التلويحات التسعة

هذه الرسالة هي القسم التاسع من المكتوب التاسع والعشرين.

[هذه الرسالة تتحدث عن السير والسلوك إلى الله، وماهية الطرق الصوفية، وغايتها، وثمراتها، وما يعتريها من ورطات يجب الحذر منها]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

ومِن ثمرات الطريقة: جَعْلُ الإِنسانِ عاداتِه اليَومِيّةَ بحُكمِ العِباداتِ، وأَعمالَه الدُّنيَوِيّةَ بمَثابةِ أَعمالٍ أُخرَوِيّةٍ، والإِحسانُ في استِغلالِ دَقائِقِ رَأسِ مالِ عُمُرِه مِنَ الحَياةِ، وجَعْلُها بُذُورًا تَتَفتَّحُ عن زَهَراتِ الحَياةِ الأُخرَوِيّةِ وسَنابِلِها؛ وذلك بدَوامِ الذِّكرِ القَلبِيِّ، والتَّأَمُّلِ العَقلِيِّ، معَ الحُضُورِ القَلبِيِّ الدَّائِمِ والِاطمِئْنانِ، ودَوامِ شَحْذِ الإِرادةِ، والنِّيّةِ الصَّافِيةِ، والعَزِيمةِ الصَّادِقةِ الَّتي تُلَقِّنُها الطَّرِيقةُ.
المحتويات عرض
1. [رسالة التلويحات التسعة]

[رسالة التلويحات التسعة]

 

التَلوِيحَات التِّسعَة

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

هذا القِسم يَخصُّ طرُق الوِلاية، وهي تِسعَة تَلوِيحَات‌.

[التلويح الأول: حول التصوف والطريقة]

التَلوِيح الأوَّل

تَحتَ عَناوِينِ “التَّصَوُّفِ، والطَّرِيقةِ، والوِلايةِ، والسَّيرِ والسُّلُوكِ” حَقِيقةٌ رُوحانيّةٌ نُورانيّةٌ مُقدَّسةٌ، طافِحةٌ باللَّذّةِ والنَّشوةِ، أَعلَن عنها كَثِيرٌ مِن عُلَماءِ أَربابِ الكَشفِ والأَذواقِ، وتَناوَلُوها بالدَّرسِ والتَّمحِيصِ والتَّعرِيفِ، فكَتَبُوا آلافَ المُجَلَّداتِ حَولَها فأَخبَرُوا الأُمّةَ وأَخبَرُونا بها، جَزاهُمُ اللهُ خَيرًا كَثِيرًا.

ونَحنُ هنا سنُبيِّنُ بِضعَ رَشَحاتٍ في ضَوءِ ما تُلجِئُنا إلَيْه الأَحوالُ الحاضِرةُ، فهِي بمَثابةِ بِضْعِ قَطَراتٍ مِن بَحرِ تلك الحَقِيقةِ الزّاخِرِ.

سُؤالٌ: ما الطَّرِيقةُ؟

الجَوابُ: إنَّ غايةَ “الطَّرِيقةِ” وهَدَفَها مَعرِفةُ الحَقائِقِ الإِيمانيّةِ والقُرآنيّةِ، ونَيلُها عَبْرَ السَّيرِ والسُّلُوكِ الرُّوحانِيِّ في ظِلِّ المِعراجِ الأَحمَدِيِّ وتَحتَ رايَتِه، بخُطُواتِ القَلبِ، وُصُولًا إلى حالةٍ وِجْدانيّةٍ وذَوْقيّةٍ بما يُشبِهُ الشُّهُودَ؛ فالطَّرِيقةُ والتَّصَوُّفُ سِرٌّ إِنسانِيٌّ رَفِيعٌ وكَمالٌ بَشَرِيٌّ سامٍ. أَجَل، لَمَّا كانَ الإِنسانُ خُلاصةً جامِعةً لِهذا الكَونِ، فإنَّ قَلبَه بمَثابةِ خَرِيطةٍ مَعنَوِيّةٍ لِآلافِ العَوالِمِ، إذ كما أنَّ دِماغَ الإِنسانِ -الشَّبِيهَ بمُجَمَّعٍ مَركَزِيٍّ لِلبَثِّ والِاستِقبالِ السِّلكِيِّ واللَّاسِلكِيِّ- بمَثابةِ مَركَزٍ مَعنَوِيٍّ لِهذا الكَونِ، يَستَقبِلُ ما في الكَونِ مِن عُلُومٍ وفُنُونٍ، ويَكشِفُ عنها ويَبُثُّها أَيضًا، فإنَّ قَلبَ الإِنسانِ كَذلِك هو مِحْوَرٌ لِما في الكَونِ مِن حَقائِقَ لا تُحَدُّ، ومُظهِرٌ لها، بل هو نَواتُها، كما بَيَّن ذلك مَن لا يَحصُرُهُمُ العَدُّ مِن أَهلِ الوِلايةِ فيما سَطَّرُوه مِن مَلايِينِ الكُتُبِ الباهِرةِ.

فما دامَ قَلبُ الإِنسانِ ودِماغُه لَهُما هذه المَنزِلةُ والمَوقِعُ، وقد أُدرِجَت في القَلبِ آلافُ الماكِيناتِ الأُخرَوِيّةِ الضَّخْمةٍ وأَجهِزَتُها الأَبَدِيّةُ، كاندِراجِ أَجهِزةِ الشَّجَرةِ الضَّخْمةِ في بِذْرَتِها، فإنَّ فاطِرَ ذلك القَلبِ الَّذي خَلَقَه على هذه الصُّورةِ قد أَرادَ تَشغِيلَ هذا القَلبِ وتَحرِيكَه والكَشفَ عن قُدُراتِه والِانتِقالَ به مِن طَوْرِ “القُوَّةِ” إلى طَوْرِ “الفِعْلِ”.

فما دامَ سُبحانَه وتَعالَى قد أَرادَ هكذا، فعَلَى القَلبِ إِذًا أن يقُومَ بعَمَلِه الَّذي خُلِقَ مِن أَجلِه، كما يقُومُ العَقلُ بعَمَلِه، ولا شَكَّ أنَّ أَعظَمَ وَسِيلةٍ لِعَمَلِ القَلبِ وتَشغِيلِه هي التَّوجُّهُ إلى الحَقائِقِ الإِيمانيّةِ بالإِقبالِ على ذِكرِ اللهِ ضِمنَ مَراتِبِ الوِلايةِ عَبْرَ سَبِيلِ “الطَّرِيقةِ”.

[التلويح الثاني: مفاتيح السير والسلوك]

التَلوِيح الثَّاني

إنَّ مَفاتِيحَ هذا السَّيرِ والسُّلُوكِ القَلبِيِّ ووَسائِلَ التَّحَرُّكِ الرُّوحانِيِّ إنْ هي إلّا “ذِكرُ اللهِ” و”التَّفكُّرُ”، فمَحاسِنُ الذِّكرِ وفَضائِلُ التَّفكُّرِ لا تُحصَى؛ فلو صَرَفْنا النَّظَرَ عن فَوائِدِهِما الأُخرَوِيّةِ الَّتي لا حَدَّ لَها ونَتائِجِهِما في رُقيِّ الإِنسانيّةِ إلى الكَمالاتِ، وأَخَذْنا بنَظَرِ الِاعتِبارِ فائِدةً واحِدةً مِن فَوائِدِهِما الجُزئِيّةِ الَّتي يَعُودُ نَفعُها على الإِنسانِ في هذه الحَياةِ الدُّنيَوِيّةِ المُضطَرِبةِ نَرَى:

أنَّ أيَّ إِنسانٍ كانَ لا بُدَّ أن يَبحَثَ عن سُلْوانٍ، ويُفتِّشَ عن ذَوْقٍ ويَتَحرَّى عن أَنِيسٍ يَستَطِيعُ أن يُزِيلَ عنه وَحْشَتَه ويُخَفِّفَ عنه ثِقَلَ هذه الحَياةِ، ويَتَخفَّفَ مِن غَلْوائِها، ولو جُزئِيًّا. وحَيثُ إنَّ ما يُهَيِّئُه المُجتَمَعُ الحَضارِيُّ مِنَ الوَسائِلِ المُسَلِّيةِ والأُنسِ بالآخَرِينَ قد تَمنَحُ واحِدًا أوِ اثنَينِ مِن عَشَرةٍ مِنَ النَّاسِ أُنسًا مُؤَقَّتًا بل ذا غَفْلةٍ وذُهُولٍ، والثَّمانِينَ بالمِئةِ مِنَ النَّاسِ إمَّا أنَّهُم يَحْيَوْنَ مُنفَرِدِينَ بَينَ الجِبالِ والوِدْيانِ، أو ساقَتْهُم هُمُومُ العَيشِ إلى أَماكِنَ نائِيةٍ مُوحِشةٍ، أوِ ابتُلُوا بالمَصائِبِ أوِ الشَّيخُوخةِ النَّذِيرةِ بالآخِرةِ.. فهَؤُلاءِ جَمِيعًا يَظَلُّونَ مَحرُومِينَ مِنَ الأُنسِ، فلا يَأنَسُونَ ولا يَجِدُونَ العَزاءَ بوَسائِلِ المُجتَمَعِ الحَضارِيّةِ!.. لِذا فالسُّلوانُ الكامِلُ لِأَمثالِ هَؤُلاءِ، والأُنسُ الخالِصُ لَهُم ليس إلَّا في تَشغِيلِ القَلبِ بوَسائِلِ الذِّكرِ والتَّفكُّرِ.. ففي الأَصقاعِ النَّائِيةِ، وبَينَ شِعابِ الجِبالِ، وعَبْرَ مَهاوِي الوِديانِ يَتَوجَّهُ إلى قَلبِه مُرَدِّدًا: “اللهُ.. اللهُ” مُستَأنِسًا بهذا الذِّكرِ، ومُتَفكِّرًا فيما حَوْلَه مِنَ الأَشياءِ الَّتي يَتَوجَّسُ مِنها خِيفةً وتُوحِي إلَيْه بالوَحْشةِ، فإذا بالذِّكرِ يُضفِي علَيْها الأُنسَ والمَوَدّةَ، وإذا بالذّاكِرِ يقُولُ: “إنَّ لِخالِقِي الَّذي أَذكُرُه عِبادًا لا حَدَّ لَهُم مُنتَشِرِينَ في جَمِيعِ الأَرجاءِ، فهُم كَثِيرُونَ جِدًّا.. إِذًا فأنا لَستُ وَحِيدًا، فلا داعِيَ لِلِاستِيحاشِ، ولا مَعنَى له”.. وبذَلِك يَذُوقُ مَعنَى الأُنسِ في هذه الحَياةِ الإِيمانيّةِ، ويَلمِسُ سَعادةَ الحَياةِ، فيَزدادُ شُكرُه لِرَبِّه.

[التلويح الثالث: الولاية حجةٌ للرسالة والطريقة برهانٌ للشريعة]

التَلوِيح الثَّالِث

إنَّ الوِلايةِ حُجَّةُ الرِّسالةِ، وإنَّ الطَّرِيقةَ بُرهانُ الشَّرِيعةِ، ذلك لِأنَّ ما بَلَّغَتْه الرِّسالةُ مِنَ الحَقائِقِ الإِيمانيّةِ تَراها “الوِلايةُ” بدَرَجةِ “عَينِ اليَقِينِ” بشُهُودٍ قَلبِيٍّ وتَذَوُّقٍ رُوحانِيٍّ فتُصَدِّقُها؛ وتَصدِيقُها هذا حُجّةٌ قاطِعةٌ لِأَحَقِّيّةِ الرِّسالةِ.

وإنَّ ما جاءَت به “الشَّرِيعةُ” مِن حَقائِقِ الأَحكامِ، فإنَّ “الطَّرِيقةَ” بُرهانٌ على أَحَقِّيّةِ تلك الأَحكامِ، وعلى صُدُورِها مِنَ الحَقِّ تَبارَكَ وتَعالَى بما استَفاضَت مِنها واستَفادَت بكَشفِيَّاتِها وأَذواقِها.

نعم، فكما أنَّ “الوِلايةَ والطَّرِيقةَ” هُما حُجَّتانِ على أَحَقِّيّةِ “الرِّسالةِ والشَّرِيعةِ” ودَلِيلانِ علَيْهِما، فإنَّهُما كَذلِك سِرُّ كَمالِ الإِسلامِ، ومِحوَرُ أَنوارِه، وهُما مَعدِنُ سُمُوِّ الإِنسانيّةِ ورُقِيِّها ومَنبَعُ فُيُوضاتِها بأَنوارِ الإِسلامِ وتَجَلِّياتِ أَضوائِه. ولكِن على الرَّغمِ مِمّا فِيهِما مِن أَهَمِّيّةٍ قُصوَى فقدِ انحازَ قِسمٌ مِنَ الفِرَقِ الضَّالَّةِ إلى إِنكارِ أَهَمِّيَّتِهِما، فحَرَمُوا الآخَرِينَ مِن أَنوارٍ هم مَحرُومُونَ مِنها؛ ومِمَّا يُؤسَفُ له بالِغَ الأَسَفِ أنَّ عَدَدًا مِن عُلَماءِ أَهلِ السُّنّةِ والجَماعةِ الَّذِينَ يَحكُمُونَ على الظَّاهِرِ، وقِسمًا مِن أَهلِ السِّياسةِ الغافِلِينَ المَنسُوبِينَ إلى أَهلِ السُّنّةِ والجَماعةِ يَسعَوْنَ لِإيصادِ أَبوابِ تلك الخَزِينةِ العُظمَى، خَزِينةِ الوِلايةِ والطَّرِيقةِ، مُتَذرِّعِينَ بما يَرَونَه مِن أَخطاءِ قِسمٍ مِن أَهلِ الطَّرِيقةِ وسُوءِ تَصَرُّفاتِهِم، بل يَبذُلُونَ جُهدَهُم لِهَدمِها وتَدمِيرِها وتَجفِيفِ ذلك النَّبعِ الفَيَّاضِ بالكَوثَرِ الباعِثِ على الحَياةِ، عِلمًا أنَّه يَندُرُ أن يُوجَدَ في الأَشياءِ أو في المَناهِجِ أوِ المَسالِكِ ما هو مُبَرَّأٌ مِنَ النَّقصِ والقُصُورِ، وأن تكُونَ جَوانِبُه كُلُّها حَسَنةً صالِحةً، فلا بُدَّ إِذًا مِن حُدُوثِ نَقصٍ وأَخطاءٍ وسُوءِ تَصَرُّفٍ، إذ ما دَخَل أَمرًا مَن لَيسُوا مِن أَهلِه إلّا أَسَاؤُوا إلَيْه.

ولكِنَّ اللهَ تَعالَى يُظهِرُ عَدالَتَه الرَّبَّانيَّةَ في الآخِرةِ على وَفقِ مُوازَنةِ الأَعمالِ وتَقوِيمِها، برُجْحانِ الحَسَناتِ أوِ السَّيِّئاتِ، فمَن رَجَحَت حَسَناتُه وثَقُلَت فله الثَّوابُ الحَسَنُ وتُقبَلُ أَعمالُه، ومَن رَجَحَت سَيِّئاتُه وخَفَّت حَسَناتُه فله العِقابُ وتُرَدُّ أَعمالُه، عِلمًا أنَّه لا تُؤخَذُ “كَمِيّةُ” الأَعمالِ بنَظَرِ الِاعتِبارِ في هذه المُوازَنةِ مِثلَما يُنظَرُ إلى “النَّوعِيّةِ”؛ فرُبَّ حَسَنةٍ واحِدةٍ تَرجَحُ أَلفَ سَيِّئةٍ بل قد تَذهَبُ بها وتَمحُوها وتكُونُ سَبَبًا في إِنقاذِ صاحِبِها.

فما دامَتِ العَدالةُ الإِلٰهِيّةُ تَحكُمُ على وَفقِ هذا المِيزانِ، والحَقِيقةُ تَراها عَينَ الحَقِّ، فلا رَيبَ أنَّ حَسَناتِ الطَّرِيقةِ الَّتي هي ضِمنَ دائِرةِ السُّنّةِ المُطَهَّرةِ لَهِي أَرجَحُ مِن سَيِّئاتِها.

ولا أَدَلَّ على ذلك مِنِ احتِفاظِ أَهلِ الطَّرِيقةِ بإِيمانِهِم أَثناءَ هُجُومِ أَهلِ الضَّلالةِ، حتَّى إنَّ مُنتَسِبًا اعتِيادِيًّا مُخلِصًا مِن أَهلِ الطَّرِيقةِ يُحافِظُ على نَفسِه أَكثَرَ مِن أَيِّ مُدَّعٍ كانَ لِلعِلمِ، إذ يُنقِذُ إِيمانَه بما حَصَل علَيْه مِنَ الذَّوقِ الرُّوحِيِّ في الطَّرِيقةِ وبما يَحمِلُه مِن حُبٍّ تِجاهَ الأَولياءِ، فحَتَّى بِارتِكابِه الكَبائِرَ لا يكُونُ كافِرًا وإنَّما يكُونُ فاسِقًا، إذ لا يَلِجُ صُفُوفَ الزَّندَقةِ بِيُسْرٍ، ولَيسَت هُنالِك قُوّةٌ تَستَطِيعُ أن تَجرَحَ ما ارتَضاه مِن وَلاءٍ تِجاهَ سِلسِلةِ أَقطابِ المَشايِخ الَّذِينَ ارتَبَط بهم بمَحَبّةٍ شَدِيدةٍ واعتِقادٍ جازِمٍ، وحَيثُ إنَّ الضَّلالةَ لا تَستَطِيعُ أن تُفَنِّدَ أو تُفسِدَ ما لَدَيه مِنَ الثِّقةِ والِاطمِئْنانِ بهم، فلن تَحُلَّ ما لَدَيه مِنَ الثِّقةِ والرِّضَا بهم، ولن يَدخُلَ الكُفرَ والإِلحادَ ما لم يَفقِد تلك الثِّقةَ بهم؛ فالَّذي ليس له حَظٌّ مِنَ الطَّرِيقةِ، ولم يَشرَع قَلبُه بالحَرَكةِ، مِنَ الصُّعُوبةِ بمَكانٍ -في هذا الوَقتِ- أن يُحافِظَ على نَفسِه مُحافَظةً تامّةً أَمامَ دَسائِسِ الزَّنادِقةِ الحاليِّينَ، ولو كانَ عالِمًا مُدَقِّقًا.

بَقِيَ أَمرٌ آخَرُ هو: أنَّه لا يُمكِنُ أن تُدانَ “الطَّرِيقةُ” ولا يُحكَمَ علَيْها بسَيِّئاتِ مَذاهِبَ ومَشارِبَ أَطلَقَت على نَفسِها ظُلمًا اسمَ “الطَّرِيقةِ”، ورُبَّما اتَّخَذَت لها صُورةً خارِجَ دائِرةِ التَّقوَى بل خارِجَ نِطاقِ الإِسلامِ.

فلو صَرَفْنا النَّظَرَ عنِ النَّتائِجِ السَّامِيةِ الَّتي تُوصِلُ إلَيْها الطَّرِيقةُ سَواءٌ مِنها الدِّينِيّةُ أوِ الأُخرَوِيّةُ أوِ الرُّوحِيّةُ، ونَظَرْنا فقط إلى نَتِيجةٍ واحِدةٍ مِنها ضِمنَ نِطاقِ العالَمِ الإِسلامِيِّ، نَرَى أنَّ “الطَّرِيقةَ” هي في مُقدِّمةِ الوَسائِلِ الإِيمانيّةِ الَّتي تُوَسِّعُ مِن دائِرةِ الأُخُوّةِ الإِسلامِيّةِ بَينَ المُسلِمِينَ، وتَبسُطُ لِواءَ رابِطَتِها المُقَدَّسةِ في أَرجاءِ العالَمِ الإِسلامِيِّ.

وقد كانَتِ الطُّرُقُ الصُّوفيّةُ وما زالَت كَذلِك إِحدَى القِلاع الثَّلاثِ الَّتي تَتَحطَّمُ على جُدْرانِها الصَّلْدةِ هَجَماتُ النَّصارَى بسِياساتِهِم ومَكايِدِ الَّذِينَ يَسعَوْنَ لِإطفاءِ نُورِ الإِسلامِ.. فيَجِبُ ألّا نَنسَى فَضلَ أَهلِ الطُّرُقِ في المُحافَظةِ على مَركَزِ الخِلافةِ الإِسلامِيَّةِ “إِسطَنبُولَ” طَوالَ خَمسِ مِئةٍ وخَمسِينَ سَنةً رَغمَ هَجَماتِ عالَمِ الكُفرِ وصَلِيبِيّةِ أَورُوبَّا، فالقُوَّةُ الإِيمانيّةُ، والمَحَبّةُ الرُّوحانيَّةُ، والأَشواقُ المُتَفجِّرةُ مِنَ المَعرِفةِ الإِلٰهِيّةِ لِأُولَئِك الَّذِينَ يُرَدِّدُونَ “الله.. الله..” في الزَّوايا والتَّكايا المُتَمِّمةِ لِرِسالةِ الجَوامِعِ والمَساجِدِ، والرَّافِدةِ لَهُما بجَداوِلِ الإِيمانِ حَيثُ كانَت تَنبَعِثُ أَنوارُ التَّوحِيدِ في خَمسِ مِئةِ مَكانٍ، لَتُشَكِّلُ بمَجمُوعِها أَعظَمَ نُقطةِ ارتِكازٍ لِلمُؤمِنِينَ في ذَلك المَركَزِ الإِسلامِيِّ.

فيا أَدعِياءَ الحَمِيّةِ ويا سَماسِرةَ القَومِيّةِ المُزَيَّفِينَ.. ألا تَقُولُونَ أيّةُ سَيِّئةٍ مِن سَيِّئاتِ الطَّرِيقةِ تُفسِدُ هذه الحَسَنةَ العَظِيمةَ في حَياتِكُمُ الِاجتِماعِيّةِ؟!

[التلويح الرابع: مصاعب طريق الولاية]

التَّلوِيح الرَّابع

إنَّ سُلُوكَ طَرِيقِ الوِلايةِ معَ سُهُولَتِه هو ذُو مَصاعِبَ، ومعَ قِصَرِه فهُو طَوِيلٌ جِدًّا، ومعَ نَفاسَتِه وعُلُوِّه فهُو مَحفُوفٌ بالمَخاطِرِ، ومعَ سَعَتِه فهُو ضَيِّقٌ جِدًّا.

فلِأَجلِ هذه الأَسرارِ الدَّقِيقةِ، قد يَغرَقُ السَّالِكُونَ في هذه السَّبِيلِ، وقد يَتَعثَّرُونَ ويَتَأذَّوْنَ، بل قد يَنكُصُونَ على أَعقابِهِم ويُضِلُّونَ الآخَرِينَ؛ فعلى سَبِيلِ المِثالِ: هناك “السَّيرُ الأَنفُسِيُّ” و”السَّيرُ الآفاقِيُّ”، وهُما مَشرَبانِ ونَهجانِ في الطَّرِيقةِ.

فالسَّيرُ الأَنفُسِيُّ يَبدَأُ مِنَ النَّفْسِ، ويَصرِفُ صاحِبُ هذا السَّيرِ نَظَرَه عنِ الخارِجِ، ويُحدِقُ في القَلبِ مُختَرِقًا أَنانيَّتَه، ثمَّ يَنفُذُ مِنها ويَفتَحُ في القَلبِ ومِنَ القَلبِ سَبِيلًا إلى الحَقِيقةِ؛ ومِن هُناك يَنفُذُ إلى الآفاقِ الكَونيّةِ فيَجِدُها مُنَوَّرةً بنُورِ قَلبِه، فيَصِلُ سَرِيعًا، لِأنَّ الحَقِيقةَ الَّتي شاهَدَها في دائِرةِ النَّفسِ يَراها بمِقياسٍ أَكبَرَ في الآفاقِ؛ وأَغلَبُ طُرُقِ المُجاهَدةِ الخَفِيّةِ تَسِيرُ وَفقَ هذه السَّبِيلِ.

وأَهَمُّ أُسُسِ هذا السُّلُوكِ هو كَسرُ شَوكةِ الأَنانيّةِ وتَحطِيمُها، وتَركُ الهَوَى وإِماتةُ النَّفسِ.

أمّا النَّهجُ الثَّاني فيَبدَأُ مِنَ الآفاقِ، ويُشاهِدُ صاحِبُ هذا النَّهجِ تَجَلِّياتِ أَسماءِ اللهِ الحُسنَى وصِفاتِه الجَلِيلةِ في مَظاهِرِ تلك الدَّائِرةِ الآفاقيّةِ الكَونِيّةِ الواسِعةِ، ثمَّ يَنفُذُ إلى دائِرةِ النَّفسِ، فيَرَى أَنوارَ تلك التَّجَلِّياتِ بمَقايِيسَ مُصَغَّرةٍ في آفاقِ كَونِه القَلبِيِّ، فيَفتَحُ في هذا القَلبِ أَقرَبَ طَرِيقٍ إلَيْه تَعالَى؛ ويُشاهِدُ أنَّ القَلبَ حَقًّا مِرآةُ الصَّمَدِ، فيَصِلُ إلى مَقصُودِه، ومُنتَهَى أَمَلِه.

وهكذا، ففي المَشرَبِ الأَوَّلِ إنْ عَجَز السَّالِكُ عن قَتل النَّفسِ الأَمَّارةِ، ولم يَتَمكَّن مِن تَحطِيمِ الأَنانيّةِ بتَركِ الهَوَى، فإنَّه يَسقُطُ مِن مَقامِ الشُّكرِ إلى مَوقِعِ الفَخرِ، ومِنه يَتَردَّى إلى الغُرُورِ؛ وإذا ما اقتَرَن هذا بما يُشبِهُ السُّكْرَ النَّاشِئَ مِنِ انجِذابٍ آتٍ مِنَ المَحَبّةِ، فسَوفَ يَصدُرُ عنه دَعاوَى أَكبَرُ مِن حَدِّه، وأَعظَمُ مِن طَوْقِه، تلك الَّتي يُطلَقُ علَيْها “الشَّطَحاتُ”، فيَضُرُّ نَفسَه ويكُونُ سَبَبًا في الإِضرارِ بالآخَرِينَ. إنَّ مَثَلَ صاحِبِ الشَّطَحاتِ كمَثَلِ ضابِطٍ صَغِيرٍ برُتبةِ مُلازِمٍ، تَستَخِفُّه نَشْوةُ القِيادةِ وأَذواقُها في مُحِيطِ دائِرَتِه الصُّغرَى، فيَتَخيَّلُ نَفسَه في لَحْظةِ انتِشاءٍ وكأنَّه المُشِيرُ الَّذي يَقُودُ الفَيالِقَ والجَحافِلَ، فتَختَلِطُ في ذِهنِه الأُمُورُ، ويَلتَبِسُ علَيْه أَمرُ القِيادةِ ضِمنَ دائِرَتِه الصُّغرَى معَ القِيادةِ الكُلِّيّةِ الواسِعةِ ضِمنَ دائِرَتِها الكُبْرَى، تَمامًا كما تَلتَبِسُ في النَّظَرِ على بَعضِ النّاسِ صُورةُ الشَّمسِ المُنعَكِسةِ مِن مِرآةٍ صَغِيرةٍ، معَ صُورَتِها المُنعَكِسةِ مِن سَطحِ البَحرِ الشَّاسِعِ، مِن حَيثُ تَشابُهُهُما في صُورةِ الِانعِكاسِ، رَغمَ اختِلافِهِما في السَّعةِ والكِبَرِ.

وكَذلِك فإنَّ في كَثِيرٍ مِن أَهلِ الوِلايةِ مَن يَرَى نَفسَه أَكبَرَ وأَعظَمَ بكَثِيرٍ مِمَّن هُم أَرقَى وأَسمَى مِنه، بل مِمَّن نِسبَتُه إلَيْهِم كنِسبةِ الذُّبابِ إلى الطَّاوُوسِ.

ولكِنَّه -أي: صاحِبَ الدَّعاوَى- يَرَى نَفسَه كما يَصِفُ، ويَراها كما يقُولُ، ويَظُنُّ نَفسَه مُحِقًّا في رُؤيَتِه؛ حتَّى إِنَّني رَأَيتُ مَن يَتَقلَّدُ شاراتِ القُطبِ الأَعظَمِ ويَدَّعِي حالاتِه، ويَتَقمَّصُ أَطوارَه، ولَيسَ له مِن صِفاتِ القُطبِيّةِ إلّا انتِباهُ القَلبِ وصَحْوَتُه، وسِوَى الشُّعُورِ بسِرِّ الوِلايةِ مِن بَعِيدٍ، فقُلتُ له:

يا أَخِي، كما أنَّ قانُونَ السَّلطَنةِ له مَظاهِرُ عَدِيدةٌ جُزئيّةٌ أو كُلِّيّةٌ على نَمَطٍ واحِدٍ في جَمِيعِ دَوائِرِ الدَّولةِ، ابتِداءً مِن رِئاسةِ الوِزارةِ إلى إِدارةِ ناحِيةٍ صَغِيرةٍ، فإنَّ الوِلايةَ والقُطبِيّةَ كَذلِك لها دَوائِرُ مُختَلِفةٌ ومَظاهِرُ مُتَنوِّعةٌ، ولِكُلِّ مَقامٍ ظِلالٌ كَثِيرةٌ؛ فأَنتَ قد شاهَدتَ الجَلْوةَ العُظمَى والمَظهَرَ الأَعظَمَ لِلقُطبِيّةِ الشَّبِيهةِ برِئاسةِ الوِزارةِ ضِمنَ دائِرَتِك الصَّغِيرةِ الشَّبِيهةِ بإِدارةِ النَّاحِيةِ، فالْتَبَسَ علَيْك الأَمرُ وانخَدَعْتَ، إذ إنَّ ما شاهَدتَه صَوابٌ وصِدقٌ، إلَّا أنَّ حُكْمَك هو الخَطَأُ، حَيثُ إنَّ غُرفةً مِنَ الماءِ بالنِّسبةِ لِلذُّبابةِ بَحرٌ واسِعٌ.

فانْتَبَه ذلك الأَخُ بكَلامِي، ونَجا مِن تلك الوَرْطةِ بمَشِيئةِ اللهِ.

ورَأَيتُ كَذلِك عَدَدًا مِنَ النّاسِ يَعُدُّونَ أَنفُسَهُم مُقارِبِينَ أو مُشابِهِينَ “لِلمَهدِيِّ”، ويقُولُ كُلٌّ مِنهُم: سأُصبِحُ “المَهدِيَّ”! هَؤُلاءِ لَيسُوا كاذِبِينَ ولا مُخادِعِينَ، ولكِنَّهُم يَنخَدِعُونَ، إذ يَظُنُّونَ ما يَرَونَه هو الحَقَّ، ولكِن كما أنَّ الأَسماءَ الحُسنَى لها تَجَلِّياتُها ابتِداءً مِنَ العَرشِ الأَعظَمِ وحتَّى الذَّرّةِ، فإنَّ مَظاهِرَ هذه التَّجَلِّياتِ في الأَكوانِ والنُّفُوسِ تَتَفاوَتُ بالنِّسبةِ نَفسِها، وإنَّ مَراتِبَ الوِلايةِ الَّتي هي نَيلُ مَظاهِرِها والتَّشَرُّفُ بها هي الأُخرَى مُتَفاوِتةٌ.

وأَهَمُّ سَبَبٍ لِهذا الِالتِباسِ هو كَونُ بَعضِ مَقاماتِ الأَولِياءِ فيه شَيءٌ مِن خَواصِّ “المَهدِيِّ” ووَظائِفِه، ويُشاهَدُ فيه انتِسابٌ خاصٌّ معَ القُطبِ الأَعظَمِ وعَلاقةٌ خاصَّةٌ بـ”الخَضِرِ”، فهُناك مَقاماتٌ لها عَلاقاتٌ ورَوابِطُ معَ بَعضِ المَشاهِيرِ، حتَّى يُطلَقُ على تلك المَقاماتِ “مَقامُ الخَضِرِ” و”مَقامُ أُوَيسٍ” و”مَقامُ المَهدِيّةِ”؛ وعلَيْه فالواصِلُونَ إلى ذلك المَقامِ، وإلى جُزءٍ مِنه، أو إلى ظِلٍّ مِن ظِلالِه، يَتَصوَّرُونَ أَنفُسَهُم أنَّهُم هم أُولَئِك الأَفذاذُ المَشهُورُونَ، فيَعتَبِرُ الواحِدُ مِنهُم أنَّه هو الخَضِرُ أوِ المَهدِيُّ، أو يَتَخيَّلُ أنَّه القُطبُ الأَعظَمُ.

فإن كانَتِ الأَنانيّةُ فيه قد مُحِقَت حتَّى لم يَعُد لها استِشرافٌ وتَطَلُّعٌ لِحُبِّ الجاهِ والتَّفاخُرِ على الآخَرِينَ فلا يُدانُ، ونَعتَبِرُ دَعاواه الخارِجةَ عن حَدِّه “شَطَحاتٍ” قد لا يكُونُ مَسؤُولًا عنها، ويُمكِنُ التَّجاوُزُ عنها.

أمَّا هذه الدَّعاوَى عِندَ الشَّخصِ الَّذي ما زالَتِ الأَنانيّةُ فيه مُتَوفِّزةً، مُتَطلِّعةً لِحُبِّ الجاهِ، فستَغلِبُه هذه الأَنانيّةُ وتَأخُذُ بيَدِه إلى مَنازِلِ الفَخرِ مُخَلِّفًا وَراءَه مَقامَ الشُّكرِ، ومِن هُناك يَتَردَّى تَدرِيجِيًّا إلى هاوِيةِ الغُرُورِ الماحِقِ لِلحَسَناتِ، فإمَّا أن يَتَردَّى إلى الجُنُونِ، أو يَضِلُّ ضَلالًا بَعِيدًا، وذلك لِأنَّه جَعَل نَفسَه في عِدادِ أُولَئِك الأَولِياءِ العِظامِ، وهذا بحَدِّ ذاتِه سُوءُ ظَنٍّ بِهِم، لِأنَّه يَخلَعُ ما في نَفسِه مِن قُصُورٍ -تُدرِكُه النَّفسُ مَهْما اغتَرَّت- على أُولَئِك الأَولِياءِ الأَفذاذِ الَّذِينَ يَراهُم بمِنظارِ نَفسِه القاصِرةِ، فيَتَوهَّمُ أنَّ أُولَئِك العِظامَ مُقَصِّرُونَ مِثلَه، فيَقِلُّ احتِرامُه لَهُم، وبالتَّالي قد يَقِلُّ احتِرامُه حتَّى لِلأَنبِياءِ عَلَيهِم السَّلَام.

فيَجِبُ على هَؤُلاءِ المُتَلبِّسِينَ أن يُمسِكُوا مِيزانَ الشَّرِيعةِ بأَيدِيهِم لِيَزِنُوا أَعمالَهُم، ويَقِفُوا عِندَ حُدُودِ ما حَدَّه عُلَماءُ أُصُولِ الدِّينِ مِن دَساتِيرَ، ويَستَرشِدُوا بتَعلِيماتِ “الإِمامِ الغَزّالِيِّ” و”الإِمامِ الرَّبّانِيِّ” وأَمثالِهِم مِنَ الأَولِياءِ المُحَقِّقِينَ العُلَماءِ، وأن يَضَعُوا أَنفُسَهُم دائِمًا مَوضِعَ التُّهمةِ، ويَعرِفُوا أنَّ القُصُورَ والعَجزَ والفَقرَ مُلازِمٌ لِلنُّفُوسِ مَهْما ارتَقَت وتَسامَت.

فما في هذا المَشرَبِ مِن شَطَحاتٍ عِندَ بَعضِ السَّالِكِينَ، مَنبَعُه حُبُّ النَّفسِ، حتَّى لَيَتَعاظَمُ هذا الحُبُّ فيَظُنُّ الواحِدُ مِنهُم نَفسَه قِطعةَ أَلماسٍ رَغمَ أنَّها لَيسَت إلّا قِطعةَ زُجاجٍ تافِهةً في الحَقِيقةِ، إذ عَينُ الرِّضَا كَلِيلةٌ عنِ العُيُوبِ.

هذا، وإنَّ أَخطَرَ المَهالِكِ في هذا النَّوعِ مِنَ الشَّطَحاتِ هو: أنَّ المَعانِيَ الجُزئيّةَ الَّتي تَرِدُ على قَلبِ السَّالِكِ بشَكلِ إِلهامٍ، يَتَخيَّلُها هذا السَّالِكُ كَلامَ اللهِ، ويُعبِّرُ عن كُلِّ إِلهامٍ وارِدٍ بـ”آية”، فيَمتَزِجُ بهذا الوَهْمِ عَدَمُ احتِرامٍ لِتِلك المَرتَبةِ السَّامِيةِ العُليا لِلوَحيِ.

نعم، إنَّ كلَّ إِلهامٍ ابتِداءً مِن إِلهامِ النَّحلِ والحَيَواناتِ إلى إِلهامِ عَوامِّ النَّاسِ وإلى إِلهامِ خَواصِّ البَشَرِيّةِ، وإلى إِلهامِ عَوامِّ المَلائِكةِ، وإلى إِلهامِ المُقَرَّبِينَ الخَواصِّ مِنهُم، إنَّما هو نَوعٌ مِنَ الكَلِماتِ الرَّبَّانيّةِ، ولكِنَّ الكَلامَ الرَّبَّانِيَّ هو تَجَلِّي الخِطابِ الرَّبّانِيِّ المُتَنوِّعِ المُتَلمِّعِ مِن خِلالِ سَبعِينَ أَلفَ حِجابٍ حَسَبَ قابِلِيّاتِ المَظاهِرِ والمَقاماتِ.

أمَّا “الوَحْيُ” فهُو الِاسمُ الخاصُّ لِكَلامِ اللهِ جلَّ وعَلا، وأَبْهَرُ مِثالِه المُشَخَّصِ هو الَّذي أُطلِقَ على نُجُومِ القُرآنِ، وكلُّ مُنَجَّمةٍ مِنه “آيةٌ” كما وَرَد تَوقِيفًا؛ فتَسمِيةُ هذه الأَنواعِ مِنَ الإِلهامِ بـ(الآياتِ) خَطَأٌ مَحضٌ، إذ بمِقدارِ النِّسبةِ بَينَ صُورةِ الشَّمسِ الصَّغِيرةِ الخافِتةِ المُتَستِّرةِ المُشاهَدةِ في المِرآةِ المُلَوَّنةِ في أَيدِينا معَ الشَّمسِ الحَقِيقيّةِ المَوجُودةِ في السَّماءِ، تكُونُ النِّسبةُ بَينَ الإِلهامِ المَوجُودِ في قُلُوبِ أُولَئِك الأَدعِياءِ وبَينَ آياتِ شَمسِ القُرآنِ الكَرِيمِ الَّتي هي كَلامٌ إِلٰهِيٌّ مُباشَرٌ (كما بَيَّنّا وأَثبَتْنا ذلك في كلٍّ مِنَ الكَلِماتِ الثَّانِيةَ عَشْرةَ والخامِسةِ والعِشرِينَ والحادِيةِ والثَّلاثِينَ مِن كِتابِ “الكَلِماتِ”).

نعم، إذا قِيلَ: إنَّ صُورةَ الشَّمسِ الظَّاهِرةَ في مِرآةٍ هي صُورَتُها حَقًّا وذاتُ عَلاقةٍ معَ الشَّمسِ الحَقِيقيّةِ، فهذا الكَلامُ لا غُبارَ علَيْه وهُو حَقٌّ، إلَّا أنَّه لا يُمكِنُ رَبطُ الكُرةِ الأَرضِيَّةِ الضَّخْمةِ بهذه الشُّمُوسِ “المِرآتيَّةِ” المُصَغَّرةِ، ولا يُمكِنُ شَدُّها إلى جاذِبِيَّتِها.

[التلويح الخامس: مسألة وحدة الوجود]

التَّلوِيح الخَامس

تُعتَبَرُ “وَحْدةُ الوُجُودِ” الَّتي تَضُمُّ “وَحْدةَ الشُّهُودِ” مِنَ المَشارِبِ الصُّوفيّةِ المُهِمَّةِ، وهِي تَعنِي: حَصْرَ النَّظَرِ في وُجُودِ “واجِبِ الوُجُودِ”، أي: أنَّ المَوجُودَ الحَقَّ هو: “واجِبُ الوُجُودِ” سُبحانَه فحَسْبُ، وأنَّ سائِرَ المَوجُوداتِ ظِلالٌ باهِتةٌ وزَيْفٌ ووَهْمٌ لا تَستَحِقُّ إِطلاقَ صِفةِ الوُجُودِ علَيْها حِيالَ “واجِبِ الوُجُودِ”؛ لِذا فإنَّ أَهلَ هذا المَشرَبِ يَذهَبُونَ إلى اعتِبارِ المَوجُوداتِ خَيالًا ووَهْمًا، ويَتَصوَّرُونَها عَدَمًا في مَرتَبةِ تَركِ ما سِواه، أي: “تَركِ ما سِوَى اللهِ تَعالَى”، حتَّى إِنَّهُم يَتَطرَّفُونَ ويَذهَبُونَ إلى حَدِّ اعتِبارِ المَوجُوداتِ مَرايا خَياليّةً لِتَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى.

إنَّ أَهَمَّ حَقِيقةٍ يَحتَوِيها هذا المَشرَبُ هي: أنَّ وُجُودَ المُمكِناتِ يَصغُرُ ويَتَضاءَلُ عِندَ أَصحابِه مِن كِبارِ الأَولِياءِ الَّذِينَ وَصَلُوا إلى مَرتَبةِ حَقِّ اليَقِينِ بقُوّةِ إِيمانِهِم بحَيثُ تَنزِلُ عِندَهُم إلى دَرَجةِ العَدَمِ والوَهْمِ، أي: أنَّهُم يُنكِرُونَ وُجُودَ الكَونِ بجانِبِ وُجُودِ اللهِ تَعالَى الَّذي هو واجِبُ الوُجُودِ.

غَيرَ أنَّ هُنالِك مَحاذِيرَ ومَخاطِرَ عِدَّةً لِهذا المَشرَبِ، أَوَّلُها وأَهَمُّها:

إنَّ أَركانَ الإِيمانِ سِتّةٌ، فعَدا رُكنِ الإِيمانِ باللهِ ثَمّةَ أَركانٌ أُخرَى كالإِيمانِ بالآخِرةِ، فهذه الأَركانُ تَستَدعِي وُجُودَ المُمكِناتِ، أي: أنَّ هذه الأَركانَ المُحكَمةَ لا يُمكِنُ أن تَقُومَ على أَساسٍ خَيالِيٍّ.

فعلى صاحِبِ هذا المَشرَبِ ألَّا يَصحَبَ مَعَه هذا المَشرَبَ، وألَّا يَعمَلَ بمُقتَضاه عِندَما يُفِيقُ مِن عالَمِ الِاستِغراقِ والنَّشوةِ؛ ثمَّ إنَّ علَيْه ألّا يَقلِبَ هذا المَشرَبَ القَلبِيَّ والوِجْدانِيَّ والذَّوقِيَّ إلى أُسُسٍ عَقلِيّةٍ وقَوليّةٍ وعِلمِيّةٍ، ذلك لِأنَّ الدَّساتِيرَ العَقلِيّةَ، والقَوانِينَ العِلمِيّةَ، وأُصُولَ عِلمِ الكَلامِ النَّابِعةَ مِنَ الكِتابِ والسُّنّةِ المُطَهَّرَينِ لا يُمكِنُها أن تَتَحمَّلَ هذا المَشرَبَ، ولا تَتَّسِعَ لِإمكانيّةِ تَطبِيقِه، لِذا فلا يُرَى هذا المَشرَبُ في أَهلِ الصَّحْوةِ الإِيمانيّةِ مِنَ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ، والأَئِمّةِ المُجتَهِدِينَ، والعُلَماءِ العامِلِينَ مِن أَجيالِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِن هذه الأُمّةِ.. إِذًا فلَيسَ هذا المَشرَبُ في أَعلَى المَراتِبِ وأَسماها، بل قد يكُونُ ذا عُلُوٍّ إلَّا أنَّه ناقِصٌ في عُلُوِّه، وقد يكُونُ ذا حَلاوةٍ مُغرِيةٍ ولكِنَّه لاذِعُ المَذاقِ؛ ولِظاهِرِ حَلاوَتِه، ولِجَمالِ إِيحائِه لا يَرغَبُ الدَّاخِلُونَ فيه في الخُرُوجِ مِنه، ويَتَوهَّمُونَ -باستِشرافاتِ نُفُوسِهِم- أنَّه أَعلَى المَراتِبِ وأَسمَاهَا.

ولِكَونِنا قد تَناوَلْنا شَيئًا مِن أُسُسِ هذا المَشرَبِ وماهِيَّتِه في رِسالةِ “نُقطةٌ مِن نُورِ مَعرِفةِ اللهِ جَلَّ جَلالُه” وفي “الكَلِماتِ” و”المَكتُوباتِ”، فإِنَّنا نَكتَفِي بذلك، ونَقصُرُ الكَلامَ هنا على بَيانِ وَرْطةٍ خَطِرةٍ قد يَقَعُ فيها قِسمٌ مِنَ الحائِمِينَ حَولَ “وَحْدةِ الوُجُودِ” وهي:

إنَّ هذا المَشرَبَ يَصلُحُ لِأَخصِّ الخَواصِّ عِندَ حالاتِ الِاستِغراقِ المُطلَقِ، ولِلمُتَجرِّدِينَ مِنَ الأَسبابِ المادِّيّةِ، ومِنَ الَّذِينَ قد قَطَعُوا عَلائِقَهُم بما سِوَى اللهِ مِنَ المُمكِناتِ والأَشياءِ.

ولكِن إذا نَزَل هذا المَشرَبُ مِن عَلْياءِ الأَذْواقِ والمَواجِيدِ، والأَشواقِ القَلبِيّةِ إلى دائِرةِ المَذاهِبِ الفِكرِيّةِ والعِلمِيّةِ، وعُرِضَ بشَكلِه العِلمِيِّ والعَقلانِيِّ على أَنظارِ الَّذِينَ استَهْوَتْهُمُ الحَياةُ الدُّنيا، وغَرِقُوا في الفَلسَفاتِ المادِّيّةِ والطَّبِيعِيّةِ، فإنَّه سيَكُونُ إِغراقًا في الطَّبِيعةِ والمادّةِ، وإِبعادًا عن حَقِيقةِ الإِسلامِ.

فالشَّخصُ المادِّيُّ المُتَعلِّقُ بالأَسبابِ، والمُغرَمُ بالدُّنيا، يَتَشوَّقُ إلى إِضفاءِ صِفةِ الخُلُودِ على هذه الدُّنيا الفانِيةِ، لِأنَّه يَعُزُّ علَيْه أن يَرَى مَحبُوبَتَه وهي تَتَبخَّرُ بَينَ يَدَيه وتَذُوبُ، فيُسبِغُ صِفةَ البَقاءِ والوُجُودِ الدَّائِمِ على دُنياه، انطِلاقًا مِن فِكرةِ “وَحْدةِ الوُجُودِ”، فلا يَتَورَّعُ -عِندَئذٍ- مِن رَفعِ محبُوبَتِه -الدُّنيا- إلى دَرَجةِ المَعبُودِ بَعدَ أن أَسبَغَ علَيْها صِفاتِ الدَّوامِ والخُلُودِ والبَقاءِ الأَبدِيِّ، فيَنفَتِحُ المَجالُ أَمامَه إلى إِنكارِ اللهِ سُبحانَه، والعِياذُ باللهِ.

ولَمَّا كانَ الفِكرُ المادِّيُّ قد تَرَسَّخَت دعائِمُه في هذا العَصرِ، واستَوْلَى على غالِبِيّةِ النَّشاطاتِ العَقلِيّةِ والعِلمِيّةِ، حتَّى غَدَتِ المادّةُ -عِندَ أَصحابِه- هي أَصلَ كلِّ شَيءٍ ومَرجِعَه؛ لِذا فإنَّ تَروِيجَ مَذهَبِ “وَحْدةِ الوُجُودِ” في هذا العَصرِ -الَّذي يَرَى فيه أَهلُ الإِيمانِ الخَواصُّ المادِّيّاتِ تافِهةً إلى حَدِّ العَدَمِ- رُبَّما يُعطِي لِلمادِّيِّينَ حُجّةً لِيَكُونُوا دُعاةً لِلمَذهَبِ نَفسِه، فيُخاطِبُوا أَصحابَه مِن أَهلِ الإِيمانِ: “نَحنُ وأَنتُم سَواءٌ، نَحنُ أَيضًا نقُولُ هكذا ونُفكِّرُ هكذا”، عِلمًا أنَّه لا يُوجَدُ مَشرَبٌ في العالَمِ بَعِيدٌ عن مَنهَجِ المادِّيِّين وعَبَدةِ الطَّبِيعةِ مِن مَشرَبِ “وَحْدةِ الوُجُودِ”، ذلك لِأنَّ أَصحابَه يُؤمِنُونَ باللهِ إِيمانًا عَمِيقًا إلى دَرَجةٍ يَعُدُّونَ الكَونَ وجَمِيعَ المَوجُوداتِ مَعدُومًا بجانِبِ حَقِيقةِ الوُجُودِ الإلٰهِيِّ، بَينَما المادِّيُّونَ يُولُونَ المَوجُوداتِ مِنَ الأَهَمِّيّةِ إلى حَدِّ أنَّهُم يُنكِرُونَ مَعَها وُجُودَ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى.. فأَينَ هَؤُلاءِ مِن أُولَئِك؟!

[التلويح السادس: اتباع السنة هو طريق الولاية الكبرى]

التَّلوِيح السَّادِس

وهُو ثَلاثُ نِقَاط:

النُّقطةُ الأُولَى: إنَّ اتِّباعَ السُّنّةِ النَّبوِيّةِ المُطَهَّرةِ هو أَجمَلُ وأَلمَعُ طَرِيقٍ مُوصِلةٍ إلى مَرتَبةِ الوِلايةِ مِن بَينِ جَمِيعِ الطُّرُقِ، بل أَقوَمُها وأَغناها؛ والِاتِّباعُ يَعنِي: تَحَرِّيَ المُسلِمِ السُّنّةَ السَّنِيّةَ وتَقلِيدَها في جَمِيعِ تَصَرُّفاتِه وأَعمالِه، والِاستِهداءَ بالأَحكامِ الشَّرعِيّةِ في جَمِيعِ مُعامَلاتِه وأَفعالِه، فإنَّ أَعمالَه اليَومِيّةَ ومُعامَلاتِه العُرفِيّةَ وتَصَرُّفاتِه الفِطرِيّةَ الِاعتِيادِيّةَ تَأخُذُ بهذا الِاتِّباعِ شَكلَ العِبادةِ، فَضْلًا عن أنَّ اتِّباعَ السُّنّةِ وتَحَرِّيَ شَرع اللهِ في شُؤُونِ المُؤمِنِ جَمِيعِها يَجعَلُه في صَحْوةٍ دائِمةٍ، وتَذَكُّرٍ لِلشَّرعِ مُستَمِرٍّ؛ وتَذَكُّرُ الشَّرعِ هذا يُؤدِّي إلى ذِكرِ صاحِبِ الشَّرعِ الَّذي يُؤَدِّي إلى تَذَكُّرِ اللهِ سُبحانَه، وذِكرُ اللهِ سَبَبٌ لِسَكِينةِ القَلبِ واطمِئْنانِه، أي: أنَّ سَاعَاتِ العُمُرِ ودَقائِقَه يُمكِنُ أنْ تَنقَضِيَ كلُّها في عِبادةٍ دائِمةٍ مُطمَئِنّةٍ.

لِذلِك فإنَّ اتِّباعَ السُّنّةِ المُطَهَّرةِ هو طَرِيقُ الوِلايةِ الكُبْرَى، وهُو طَرِيقُ وَرَثةِ النُّبوّةِ مِنَ الصَّحابةِ الكِرامِ والسَّلَفِ الصَّالِحِ.

النُّقطةُ الثَّانِية: الإِخلاصُ، هو أَهَمُّ أَساسٍ لِجَمِيعِ طُرُقِ الوِلايةِ وسُبُلِ الطَّرِيقةِ، ذلك لِأنَّ الإِخلاصَ هو الطَّرِيقُ الوَحِيدُ لِلخَلاصِ مِنَ الشِّركِ الخَفِيِّ؛ فمَن لم يَحمِل إِخلاصًا في ثَنايا قَلبِه فلا يَستَطِيعُ أن يَتَجوَّلَ في تلك الطُّرُقِ، كما أنَّ “المَحَبّةَ” تُشكِّلُ أَمضَى قُوّةٍ في تلك الطُّرُقِ.

نعم، المَحَبّة! فالمُحِبُّ لا يَبحَثُ عن نَقصٍ، بل لا يَرغَبُ في أن يَرَى نَقْصًا في مَحبُوبِه، بل يَرَى أَضعَفَ الدَّلائِلِ والأَماراتِ على كَمالِ مَحبُوبِه مِن أَقوَى الأَدِلّةِ والحُجَجِ، لِكَونِه جانِبَ مَحبُوبِه على الدَّوامِ.

وبِناءً على هذا السِّرِّ، فإنَّ الَّذِينَ يَتَوجَّهُونَ بقُلُوبِهِم إلى مَعرِفةِ اللهِ عن طَرِيقِ المَحَبّةِ، لا يُصغُونَ إلى الِاعتِراضاتِ ويُجاوِزُونَ سَرِيعًا العَقَباتِ والشُّبُهاتِ، ويُنقِذُونَ أَنفُسَهُم بسُهُولةٍ ويُحَصِّنُونَها مِنَ الظُّنُونِ والأَوهامِ، حتَّى لوِ اجتَمَع علَيْهِم آلافُ شَياطِينِ الأَرضِ، فلن يَستَطِيعُوا أن يُزِيلُوا أَمارةً أو عَلامةً واحِدةً تَدُلُّ على كَمالِ مَحبُوبِه الحَقِيقيِّ وسُمُوِّه؛ ومِن دُونِ هذه المَحَبّةِ يَتَلوَّى الإِنسانُ تَحتَ وَساوِسِ نَفسِه وشَيطانِه، ويَنهارُ أَمامَ ما تَنفُثُه الشَّياطِينُ مِنِ اعتِراضاتٍ وشُبَهٍ، ولَمَا عَصَمَه شَيءٌ سِوَى مَتانةِ إِيمانِه وقُوَّتِه، وشِدّةِ انتِباهِه وحَذَرِه.

إذًا، فالمَحَبّةُ النَّابِعةُ مِن مَعرِفةِ اللهِ هي جَوهَرُ جَمِيعِ مَراتِبِ الوِلايةِ وإِكسِيرُها، إلّا أنَّ هُناك وَرْطةً كَبِيرةً لِلمَحَبّةِ، وهي:

أنَّه يُخشَى أنْ يَنقَلِبَ المُحِبُّ مِنَ التَّضَرُّعِ والتَّذَلُّلِ للهِ -اللَّذَينِ هُما سِرُّ العُبُودِيّةِ- إلى الدّلّالِ والطَّلَبِ والدَّعاوَى، فيَطِيشُ صَوابُه ويَتَحرَّكُ مُختالًا بمَحَبَّتِه دُونَ ضَوابِطَ أو مَوازِينَ.. ويُخشَى كَذلِك أن تَتَحوَّلَ المَحَبّةُ لَدَيه مِنَ “المَعنَى الحَرفِيِّ” إلى “المَعنَى الِاسمِيِّ” أَثناءَ تَوَجُّهِه بالمَحَبّةِ إلى ما سِوَى اللهِ، فتَنقَلِبَ عِندَئِذٍ مِن دَواءٍ شافٍ إلى سُمٍّ زُعافٍ، إذ بَينَما كان يتَوَجَّبُ علَيْه عِندَ التَّوَجُّهِ بالحُبِّ لِما سِوَى اللهِ أن يكُونَ هذا الحُبُّ في اللهِ وللهِ، رابِطًا قَلبَه بالمَحبُوبِ مِن حَيثُ كَونُه مِرآةً لِتَجَلِّي أَسماءِ اللهِ الحُسنَى؛ فيَحدُثُ أَحيانًا أنَّ المُحِبَّ يَتَوجَّهُ إلى صِفاتِ المَحبُوبِ -مِن دُونِ اللهِ- وإلى كَمالِه الشَّخصِيِّ وجَمالِه الذَّاتِيِّ، فيَكُونُ الحُبُّ بمَعناه الِاسمِيِّ لِذاتِه، أي: قد يُحِبُّه مِن دُونِ تَذَكُّرِ اللهِ ورَسُولِه أَيضًا. فمِثلُ هذا الحُبِّ بالمَعنَى الِاسمِيِّ لا يكُونُ وَسِيلةً لِحُبِّ اللهِ، بل سِتارًا مِن دُونِه؛ بَينَما الحُبُّ بالمَعنَى الحَرفِيِّ يكُونُ وَسِيلةً إلى زِيادةِ حُبِّ اللهِ، بل يَصِحُّ القَولُ: إنَّه جَلوةٌ مِن مَحَبَّتِه سُبحانَه.

النُّقطةُ الثَّالثة: إنَّ الدُّنيا هي دارُ العَمَلِ ودارُ الحِكْمةِ، ولَيسَت دارًا لِلمُكافَأةِ والجَزاءِ؛ فجَزاءُ الأَعمالِ والبِرِّ الَّتي تُؤدَّى هُنا يكُونُ في الحَياةِ البَرزَخِيّةِ والدَّارِ الآخِرةِ، فتُؤتِي هُناك أُكُلَها وثَمَراتِها؛ فما دامَتِ الحَقِيقةُ هكذا فيَجِبُ عَدَمُ المُطالَبةِ بثَمَراتِ الأَعمالِ الأُخرَوِيّةِ وجَزائِها في هذه الدُّنيا، ولو أُعطِيَتْ فيَجِبُ أَخذُها وقَبُولُها بحُزنِ، ولَيسَ بفَرَحٍ وسُرُورٍ، ذلك لِأنَّه ليس مِنَ الحِكْمةِ تَناوُلُ ثَمَراتِ الأَعمالِ -الَّتي لن تَنفَدَ عِندَ تَناوُلِها في الجَنّةِ- في مِثلِ هذه الحَياةِ الفانِيةِ، إذ يُشبِهُ ذلك العُزُوفُ عن مِصباحٍ خالِدِ النُّورِ والإِضاءةِ والتَّعَلُّقِ بمِصباحٍ لا يَتَوهَّجُ نُورُه إلّا دَقِيقةً ثمَّ يَنطَفِئُ!

وبِناءً على هذا السِّرِّ الدَّقِيقِ -أي: انتِظارِ الأَجرِ في الحَياةِ الآخِرةِ- فإنَّ الأَولِياءَ يَستَعذِبُونَ مَشاقَّ الأَعمالِ ومَصاعِبَها والمَصائِبَ والبَلايا، فلا يَشكُونَ ولا يَتَذمَّرُونَ، بل لِسانُهُم دائِمًا وأَبدًا يُرَدِّدُ: “الحَمدُ للهِ على كلِّ حالٍ”، وإذا وَهَب اللهُ لَهُم كَرامةً أو كَشْفًا أو نُورًا أو ذَوْقًا فإنَّهُم يَتَناوَلُونَه بأَدَبٍ جَمٍّ ويَعُدُّونَه التِفاتًا وتَكَرُّمًا مِنه سُبحانَه إلَيْهِم، فيُحاوِلُونَ سَتْرَ الكَرامةِ وإِخفاءَها ولا يُظهِرُونَها ولا يُفاخِرُونَ بها، بل يُسارِعُونَ إلى زِيادةِ شُكرِهِم وتَعمِيقِ عُبُودِيَّتِهِم؛ وكَثِيرُونَ مِنهُم يَجأَرُونَ إلى اللهِ أن يَحجُبَ هذه الأَحوالَ عَنهُم ويَحجُبَهُم عنها، ويَتَمنَّون ذَهابَها واختِفاءَها خَوفًا مِن أن يَتَعرَّضَ الإِخلاصُ في عَمَلِهِم لِلخَلَلِ.

حَقًّا: إنَّ أَفضَلَ نِعمةٍ إِلٰهِيّةٍ يُمكِنُ أن يَنالَها شَخصٌ مَقبُولٌ عِندَ اللهِ هي الَّتي تُوهَبُ له مِن دُونِ أن يَشعُرَ بها، لِكَيلا يَتَحوَّلَ مِن حالِ التَّضَرُّعِ والدُّعاءِ إلى حالِ الإِدلالِ بعِباداتِه وطَلَبِ الأَجرِ علَيْها، ولِئَلَّا يَتَحوَّلَ مِن مَوقِعِ الشُّكرِ والحَمْدِ إلى مَوقِعِ الدَّلِّ والفَخْرِ.

فاستِنادًا إلى هذه الحَقِيقةِ فإنَّ الَّذِينَ يَرغَبُونَ في سُلُوكِ طَرِيقِ الوِلايةِ والطَّرِيقةِ إنْ كانُوا يَرغَبُونَ في تَناوُلِ بَعضِ الثَّمَراتِ الجانِبِيّةِ لِلوِلايةِ، أَمثالَ اللَّذَّاتِ المَعنَوِيّةِ أوِ الكَراماتِ، ويَتَوجَّهُونَ إلَيْها ويَطلُبُونَها ويَلتَذُّونَ بها.. فإنَّ هذا يَعنِي رَغبَتَهُم في تَناوُلِ تلك الثَّمَراتِ في هذه الحَياةِ الفانِيةِ.. وبذلك يَفقِدُونَ في أَعمالِهِم الإِخلاصَ الَّذي هو أَساسُ الوِلايةِ، فيُمَهِّدُونَ السَّبِيلَ لِفِقدانِ الوِلايةِ نَفسِها.

[التلويح السابع: الطريقة والحقيقة أجزاءٌ للشريعة]

التَّلوِيح السَّابِع

يَتَضمَّنُ أَربَعَ نِكاتٍ:

[نكتة 1: أعلى درجات الطريقة والحقيقة أجزاءٌ من كلية الشريعة]

النُّكتةُ الأُولَى: إنَّ الشَّرِيعةَ هي نَتِيجةُ الخِطابِ الإلٰهِيِّ الصَّادِرِ مُباشَرةً -دُونَ حاجِزٍ أو سِتارٍ- مِنَ الرُّبُوبيّةِ المُطلَقةِ المُتَفرِّدةِ بالأَحَدِيّةِ.

لِذا فإنَّ أَعلَى مَراتِبِ الطَّرِيقةِ وأَسمَى دَرَجاتِ الحَقِيقةِ لا يَعدُوانِ كَونَهُما أَجزاءً مِن كُلِّيّةِ الشَّرِيعةِ، أمّا نَتائِجُهُما وما يَؤُولانِ إلَيْه فهِي الأَوامِرُ الشَّرعِيّةُ المُحكَمةُ، فهُما دائِمًا وأَبدًا يَظَلَّانِ بحُكمِ الخادِمِ لِلشَّرِيعةِ ووَسِيلةً إلَيْها ومُقدِّمةً لها.

فالسَّالِكُ في الطَّرِيقةِ يَرتَفِعُ تَدرِيجِيًّا إلى أَعلَى المَراتِبِ الَّتي يَنالُ فيها ما في الشَّرِيعةِ نَفسِها مِن مَعنَى الحَقِيقةِ وسِرِّ الطَّرِيقةِ؛ وعِندَئِذٍ تكُونُ الطَّرِيقةُ والحَقِيقةُ أَجزاءَ الشَّرِيعةِ الكُبْرَى.. لِذا فلَيسَ صَحِيحًا ما يَتَصوَّرُه قِسمٌ مِنَ المُتَصوِّفةِ مِن أنَّ الشَّرِيعةَ قِشرٌ ظاهِرِيٌّ، والحَقِيقةُ هي لُبُّها ونَتِيجَتُها وغايَتُها.

نعم، يَتَنوَّعُ انكِشافُ الأَحكامِ الشَّرعِيّةِ ويَختَلِفُ بالنِّسبةِ لِمُستَوَياتِ النَّاسِ وفَهمِهِم وطَبَقاتِ مَدارِكِهِم، فما يَظهَرُ مِنها ويَنكَشِفُ لِلعَوامِّ هو غَيرُ ما يَظهَرُ ويَنكَشِفُ لِلخَواصِّ..

إنَّه مِنَ الخَطَأِ تَوَهُّمُ ما يَظهَرُ مِنَ الشَّرِيعةِ لِلعَوامِّ هو حَقِيقةَ الشَّرِيعةِ، وإِطلاقُ اسمِ “الحَقِيقةِ” و”الطَّرِيقةِ” على مَرتَبةِ الشَّرِيعةِ المُنكَشِفةِ لِلخَواصِّ.. فالشَّرِيعةُ لها مَراتِبُ مُتَوجِّهةٌ إلى جَمِيعِ طَبَقاتِ البَشَرِ.

وبِناءً على هذا السِّرِّ، فإنَّ أَهلَ الطَّرِيقةِ، وأَصحابَ الحَقِيقةِ كُلَّما تَقَدَّمُوا في مَسلَكِهِم وارْتَقَوا في مَعارِجِهِم، وَجَدُوا أَنفُسَهُم مُنجَذِبِينَ أَكثَرَ إلى الحَقائِقِ الشَّرعِيّةِ، مُتَّبِعِينَ لها، مُندَرِجِينَ ضِمنَ غاياتِها ومَقاصِدِها.. حتَّى إنَّهُم يَتَّخِذُونَ أَبسَطَ أَنواعِ السُّنّةِ النَّبوِيّةِ الشَّرِيفةِ كأَعظَمِ مَقصَدٍ وغايةٍ، ويَسعَونَ إلى اتِّباعِها وتَقلِيدِها.

لِأنَّه بمِقدارِ سُمُوِّ الوَحيِ وعُلُوِّه على الإِلهامِ، فالآدابُ الشَّرعِيّةُ الَّتي هي ثَمَرةُ الوَحيِ هي أَسمَى وأَعلَى مِن آدابِ الطَّرِيقةِ الَّتي هي ثَمَرةُ الإِلهامِ، لِذا فإنَّ أَهَمَّ أَساسٍ لِلطَّرِيقةِ هو اتِّباعُ السُّنّةِ النَّبوِيّةِ المُطَهَّرةِ.

[نكتة 2: الطريقة والحقائق وسيلتان لا غايتان]

النُّكتةُ الثَّانية: لا يَنبَغي أن تَتَحوَّلَ الطَّرِيقةُ والحَقِيقةُ مِن كَونِهِما وَسِيلَتَينِ إلى غايَتَينِ بحَدِّ ذاتِهِما (تَستَحوِذانِ على قَلبِ السَّالِكِ وفِكرِه ووِجْدانِه)، فإذا أَصبَحَتا -الطَّرِيقةُ والحَقِيقةُ- مَقصُودَتَينِ بالذَّاتِ، فإنَّ الأَعمالَ الشَّرعِيّةَ المُحكَمةَ، وآدابَ السُّنّةِ السَّنِيّةِ، تَنحَسِرُ حتَّى تَأخُذَ الدَّرَجةَ الثَّانيةَ مِنَ الِاهتِمامِ لَدَى السَّالِكِ، وتُصبِحَ صُورِيَّةً شَكلِيَّةً بانشِغالِ القَلبِ بالتَّوجُّهِ إلى آدابِ الطَّرِيقةِ ورُسُومِها.. أي إنَّ المَرءَ -عِندَئِذٍ- يُفكِّرُ بحَلْقةِ الذِّكرِ أَكثَرَ مِن تَفكِيرِه بالصَّلاةِ، ويَنجَذِبُ إلى أَوْرادِه أَكثَرَ مِنِ انجِذابِه إلى الفَرائِضِ، ويُلزِمُ نَفسَه بِتَجَنُّبِ مُخالَفةِ آدابِ الطَّرِيقةِ أَكثَرَ مِنِ التِزامِه بتَجَنُّبِ الكَبائِرِ، والحالُ أنَّ أَداءَ فَرِيضةٍ واحِدةٍ التِزامًا بالأَوامِرِ الشَّرعِيَّةِ لا يُمكِنُ أن تُوازِيَها أَورادُ الطَّرِيقةِ أو تَحُلَّ مَحَلَّها.

فآدابُ الطَّرِيقةِ، وأَورادُ التَّصَوُّفِ، وما يَحصُلُ لِلسَّالِكِ مِنهُما مِن أَذواقٍ يَنبَغِي أن تكُونَ مَدخَلًا لِأَذواقٍ أَحلَى وأَعلَى وأَسمَى، يَحصُلُ علَيْها هذا السَّالِكُ مِن أَداءِ الفَرائِضِ والسُّنَنِ.

أي إنَّ ما يَأخُذُه المَرءُ مِنَ التَّكِيّةِ مِن أَذواقٍ، لا بُدَّ أن تكُونَ استِهلالًا لِأَذواقِ الصَّلاةِ الَّتي يُؤَدِّيها في الجامِعِ، بقِيامِه بأَركانِها وأَدائِها على الوَجهِ المَطلُوبِ، وإلَّا فالَّذي تَشغَلُه أَذواقُه في التَّكِيّةِ عن صَلاتِه في الجامِعِ، فيُؤَدِّيها بخِفّةٍ وسُرعةٍ صُورِيَّةٍ وشَكلِيَّةٍ لا حَرارةَ فيها ولا رُوحَ، إنَّما يَبتَعِدُ عنِ الحَقِيقةِ.

[نكتة 3: هل توجد طريقة خارج نطاق السنة؟]

النُّكتةُ الثَّالثة:

سُؤالٌ: هل يُمكِنُ أنْ تُوجَدَ طَرِيقةٌ خارِجَ نِطاقِ السُّنّةِ النَّبوِيّةِ الشَّرِيفةِ وأَحكامِ الشَّرِيعةِ؟

الجَوابُ: نعم ولا!

نعم، لِأنَّ عَدَدًا مِنَ الأَولِياءِ الكامِلِينَ قد أُعدِمُوا بسَيفِ الشَّرِيعةِ.

ولا، لِأنَّ الأَولِياءَ المُحَقِّقِينَ قدِ اتَّفَقُوا على القاعِدةِ الَّتي ذَكَرها “سَعدِي الشِّيرازِيّ” شِعرًا:

مُحَالَسْتِ سَعْدِى بَرَاهِ صَفَا * ظَفَرْ بُرْدَنْ جُزْ دَرْ پَىَ مُصْطَفٰى‌

أي: “مُحالٌ أن يَصِلَ أَحَدٌ إلى الأَنوارِ الحَقِيقيّةِ لِلحَقِيقةِ خارِجَ الصِّراطِ الَّذي اختَطَّه الرَّسُولُ ﷺ، ومِن دُونِ اتِّباعٍ لِخُطُواتِه”.

وسِرُّ هذه المَسأَلةِ هو الآتي: ما دامَ الرَّسُولُ ﷺ هو خاتَمَ الأَنبِياءِ والمُرسَلِينَ وقد خاطَبَه اللهُ سُبحانَه باسمِ البَشَرِيّةِ ومُمَثِّلًا عنها، فلا بُدَّ ألّا تَسِيرَ البَشَرِيّةُ خارِجَ الصِّراطِ الَّذي بَيَّنَه، فالِانضِواءُ تَحتَ لِوائِه ضَرُورِيٌّ.

ولكِن ما دامَ أَهلُ الجَذبِ والِاستِغراقِ لَيسُوا مَسؤُولِينَ عن مُخالَفاتِهِم، وما دامَ في الإِنسانِ مِن لَطائِفَ لا تَرضَخُ لِلتَّكالِيفِ الشَّرعِيّةِ، فعِندَما تَتَحكَّمُ فيه تلك اللَّطِيفةُ لا يَبقَى مَسؤُولًا أَمامَ التَّكالِيفِ الشَّرعِيّةِ؛ وما دامَ في الإِنسانِ لَطائِفُ أُخرَى لا تَرضَخُ لِإرادةِ الإِنسانِ كعَدَمِ رُضُوخِها لِلتَّكالِيفِ، بل لا تَنقادُ لِتَدبِيرِ العَقلِ ولا تُذعِنُ لِأَوامِرِ القَلبِ والعَقلِ.. فلا بُدَّ أنَّ تلك اللَّطِيفةَ عِندَما تَستَحوِذُ على شَخصٍ مَّا فإنَّه لا يَسقُطُ مِن مَرتَبةِ الوِلايةِ بمُخالَفَتِه الشَّرعَ، وإنَّما يُعَدُّ مَعذُورًا -في تلك الأَثناءِ فقط- بشَرطِ ألَّا يَصدُرَ عنه شَيءٌ يُنافِي حَقائِقَ الشَّرعِ وقَواعِدَ الإِيمانِ إِنكارًا أو تَزيِيفًا أوِ استِخفافًا.. ويَنبَغِي أن يُصَدِّقَ بأَحَقِّيّةِ الشَّرعِ وإن لم يكُن يُؤَدِّي أَحكامَه حَقَّ الأَداءِ.. وإلّا إذا غَلَبَت علَيْه الحالُ، وصَدَر عنه ما يُشَمُّ مِنه التَّكذِيبُ والإِنكارُ لِتِلك الحَقائِقِ المُحكَمةِ -نَعُوذُ باللهِ- فذلك عَلامةُ الهَلاكِ.

حاصِلُ الكَلامِ: إنَّ أَهلَ الطَّرِيقةِ الَّذِينَ هم خارِجَ دائِرةِ الشَّرعِ قِسمانِ:

قِسمٌ مِنهُم كما ذَكَرناه آنِفًا، فهَؤُلاءِ إمَّا أن يكُونَ قد غَلَب علَيْه الحالُ والِاستِغراقُ والجَذْبُ والسُّكْرُ، أو يكُونَ مَغلُوبًا لِسَيطَرةِ لَطائِفَ لا تَنقادُ لِلتَّكالِيفِ ولا تُعِيرُ بالًا لِلإِرادةِ، فيَخرُجُ مِن دائِرةِ الشَّرعِ.

ولكِن هذا الخُرُوجُ لا يَنشَأُ مِن عَدَمِ الرِّضا بالشَّرعِ، أو مِن رَفضِ الأَحكامِ الشَّرعِيَّةِ، بل يَتْرُكُ تلك الأَحكامَ اضطِرارًا دُونَ إِرادةٍ مِنه، فهُنالِك أَولِياءُ مِن هذا القِسمِ، فَضْلًا عن أنَّ أَولِياءَ كِبارًا قد قَضَوْا مُدّةً بَينَهُم مُتَلبِّسِينَ بهذه الحالِ، بل مِن هذا النَّوعِ مَن حَكَم علَيْهِم أَولِياءُ مُحَقِّقُونَ أنَّهُم لَيسُوا خارِجِينَ عن دائِرةِ الشَّرعِ وَحْدَها، بل مِنهُم مَن هو خارِجٌ عن دائِرةِ الإِسلامِ، إلَّا بشَرطِ ألّا يُكَذِّبُوا بجَمِيعِ ما جاءَ به الرَّسُولُ ﷺ مِن أَحكامٍ، معَ أنَّهُم لا يُؤَدُّونَ حَقَّها، إمَّا لِعَدَمِ تَفَكُّرِهِم بها، أو لِعَدَمِ استِطاعَتِهِمُ التَّوَجُّهَ إلَيْها، أو لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِم مِن مَعرِفَتِها، أو عَدَمِ فَهمِها؛ ولكِن إذا عَرَفَها أَحَدٌ مِنهُم ورَفَضَها فقد هَلَك.

أمَّا القِسمُ الثَّاني: فهُمُ المُنجَذِبُونَ لِنَشوةِ الأَذواقِ البَرَّاقةِ لِلطَّرِيقةِ والحَقِيقةِ فلا يُبالُونَ بالحَقائِقِ الشَّرعِيّةِ الَّتي هي أَرقَى مِن مُستَوَى مَذاقِهِم؛ ويَعتَبِرُها أَحَدُهُم غَيرَ ذاتِ مَذاقٍ لِعَجزِه عن بُلُوغِها، فيُؤَدِّيها صُورِيّةً شَكلِيّةً، وهكذا يَبلُغُ به الأَمرُ تَدرِيجِيًّا إلى أن يَظُنَّ أنَّ الشَّرِيعةَ مُجَرَّدُ قِشرٍ ظاهِرِيٍّ، وأنَّ ما وَجَدَه مِنَ الحَقِيقةِ هو الأَساسُ والغايةُ والقَصدُ، فيَقُولُ: “حَسبِي ما وَجَدتُه”، فيَقُومُ بأَفعالٍ مُخالِفةٍ لِما يَأمُرُ به الشَّرعُ! فالَّذِينَ لم يَفقِدُوا شُعُورَهُم وعُقُولَهُم مِن هذا القِسمِ مَسؤُولُونَ عن أَعمالِهِم، ويُدانُونَ، بل يَهلِكُونَ، حتَّى يكُونَ قِسمٌ مِنهُم مَوضِعَ هُزءٍ وسُخرِيةٍ لِلشَّيطانِ.

[النكتة الرابعة: كيف تتقبل الأمة أشخاصًا من الفرق الضالة والمبتدعة؟]

النُّكتةُ الرَّابعةُ: إنَّ أَشخاصًا مِنَ الفِرَقِ الضَّالَّةِ والمُبتَدِعةِ يكُونُونَ مِنَ المَقبُولِينَ بنَظَرِ الأُمّةِ، غَيرَ أنَّ أَمثالَهُم تَرُدُّهُمُ الأُمّةُ وتَرفُضُهُم دُونَ أن يكُونَ هُنالِك فَرقٌ ظاهِرِيٌّ بَينَهُما!

كُنتُ في حَيرةٍ مِن هذا الأَمرِ، فـ”الزَّمَخشَرِيُّ” المُعتَزِليُّ الشَّدِيدُ التَّعَصُّبِ لِمَذهَبِه لا يُكفِّرُه أَهلُ التَّحقِيقِ مِن أَهلِ السُّنّةِ ولا يُدرِجُونَه في صُفُوفِ الضَّالِّينَ على الرَّغمِ مِنِ اعتِراضاتِه القاسِيةِ علَيْهِم، بل يَجِدُونَ له مُبَرِّرًا ومَجالًا لِلنَّجاةِ، إلّا أنَّ “أبا عَلِيٍّ الجُبَّائيَّ” وهُو أَيضًا مِن أَئِمّةِ المُعتَزِلةِ يَطرُدُه أَهلُ السُّنّةِ المُحَقِّقُونَ ويَعُدُّونَ آراءَه مَردُودةً معَ أنَّه أَخَفُّ تَعَصُّبًا مِنَ السَّابِقِ بكَثِيرٍ، كان هذا يَأخُذُ قِسطًا كَبِيرًا مِن تَفكِيرِي.

ثمَّ فَهِمتُ بلُطفٍ إِلٰهِيٍّ أنَّ اعتِراضاتِ “الزَّمَخشَرِيِّ” على أَهلِ السُّنّةِ نابِعةٌ مِن مَحَبّةِ الحَقِّ الَّذي يَدعُو إلَيْه مَسلَكُه الَّذي يَظُنُّه حَقًّا، كقَولِه: “إنَّ التَّنزِيهَ الحَقِيقيَّ للهِ سُبحانَه هو بأن يكُونَ الأَحياءُ -في نَظَرِه- هم خالِقِينَ لِأَفعالِهِم”، لِذا فلِمَحَبَّتِه النَّاشِئةِ مِن تَنزِيهِ الحَقِّ سُبحانَه يَرُدُّ قاعِدةَ أَهلِ السُّنّةِ في خَلقِ الأَفعالِ؛ أمَّا سائِرُ أَئِمّةِ الِاعتِزالِ المَرفُوضِينَ فإنَّهُم ما أَنكَرُوا سَبِيلَ أَهلِ السُّنّةِ لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِمُ الحَقَّ، وإنَّما لِقُصُورِ عُقُولِهِم عن دَساتِيرِ أَهلِ السُّنّةِ السّامِيةِ، وعَجْزِ عُقُولِهِمُ الضَّيِّقةِ عنِ استِيعابِ قَوانِينِ أَهلِ السُّنّةِ الواسِعةِ، لِذا فإنَّ أَقوالَهُم مَردُودةٌ وهُم مَطرُودُونَ.

فكما أنَّ مُخالَفةَ المُعتَزِلةِ هذه لِأَهلِ السُّنَّةِ في كُتُبِ عِلمِ الكَلامِ هي بشَكلَينِ، فإنَّ مُخالَفةَ أَهلِ الطَّرِيقةِ الخارِجِينَ عنِ السُّنّةِ المُطَهَّرةِ لها أَيضًا جِهَتَانِ:

الأُولَى: أن يَنجَذِبَ الوَلِيُّ لِحالِه ونَهجِه كانجِذابِ “الزَّمَخشَرِيِّ” لِمَذهَبِه غَيرَ مُهتَمٍّ إلى حَدٍّ ما بآدابِ الشَّرعِ الَّتي لم يَبلُغ أَذْواقَها بَعدُ.

الثَّانية: أن يَنظُرَ الوَلِيُّ إلى آدابِ الشَّرِيعةِ أنَّها غَيرُ ذاتِ أَهَمِّيّةٍ أَصلًا بالنِّسبةِ إلى دَساتِيرِ الطَّرِيقةِ وقَواعِدِها -حَاشَ للهِ- لِكَونِه قد عَجَز عن أن يَستَوعِبَ تلك الأَذواقَ الواسِعةَ، فمَقامُه القَصِيرُ لا يَستَطِيعُ أن يَبلُغَ تلك الآدابَ الرَّفِيعةَ.

[التلويح الثامن: ثماني ورطات قد يقع فيها سالك الطريقة]

التَّلوِيح الثَّامن

وفيه ثَمانيةُ مَزالِقَ ووَرَطاتٍ:

[الورطة الأولى: توهم أرجحية الولاية على النبوة]

الأُولَى: إنَّ الوَرْطةَ الَّتي يَسقُطُ فيها سالِكُونَ مِنَ الطُّرُقِ الصُّوفيّةِ -مِمَّن لا يَتَّبِعُونَ السُّنّةَ النَّبوِيّةَ على الوَجهِ الصَّحِيحِ- هي اعتِقادُهُم بأَرجَحِيّةِ الوِلايةِ على النُّبوّةِ! ولقد أَثبَتْنا مَدَى سُمُوِّ النُّبوّةِ على الوِلايةِ وخُفُوتِ ضَوءِ الأَخِيرةِ أَمامَ نُورِ النُّبوّةِ السَّاطِعِ في “الكَلِمةِ الرَّابِعةِ والعِشرِينَ” و”الكَلِمةِ الحادِيةِ والثَّلاثِينَ” مِن كِتابِ “الكَلِماتِ”.

[الورطة الثانية: تفضيل الأولياء على الصحابة]

الثَّانية: وهِي تَفضِيلُ قِسمٍ مِنَ المُفرِطِينَ الأَولِياءَ على الصَّحابةِ الكِرامِ رِضوانُ اللهِ علَيْهِم، بل رُؤيَتُهُم في مرَتَبةِ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلام؛ وقد شَرَحْنا في “الكَلِمةِ الثَّانِيةَ عَشْرةَ” و”الكَلِمةِ السَّابِعةِ والعِشرِين” وفي ذَيلِها الخاصِّ بالصَّحابةِ كَيفَ أنَّ لِلصَّحابةِ الكِرامِ خَواصَّ مُتَميِّزةً بسَبَبِ الصُّحبةِ النَّبوِيّةِ، بحَيثُ لا يُمكِنُ لِلأَولياءِ أن يَبلُغُوا مَرتَبتَهُم أَصلًا، فَضْلًا عن أن يَتَفوَّقُوا علَيْهِم، ولا يُمكِنُهُم أن يَبلُغُوا قَطْعًا مَرتَبةَ الأَنبِياءِ.

[الورطة الثالثة: ترجيح أوراد الطريقة على أذكار السنة]

الثَّالثة: وهِي تَرجِيحُ بَعضِ المُتَطرِّفينَ والمُتَعصِّبِينَ جِدًّا لِلطَّرِيقةِ لِأَورادِ طَرِيقَتِهِم وآدابِها على أَذكارِ السُّنّةِ النَّبوِيّةِ الشَّرِيفةِ، فيَسقُطُونَ بذلك إلى مُنزَلَقِ مُخالَفةِ السُّنّةِ النَّبوِيّةِ وتَركِها، في الوَقتِ الَّذي يَظَلُّونَ مُتَشبِّثينَ بأَورادِ طَرِيقَتِهِم، أي: أنَّهُم يَسلُكُونَ سُلُوكَ غَيرِ المُبالِي بآدابِ السُّنّةِ النَّبوِيّةِ الشَّرِيفةِ، فيَهوُونَ في الوَرْطةِ، وكما أَثبَتْنا في “كَلِماتٍ” كَثِيرةٍ، وكما أَكَّد كِبارُ مُحَقِّقي الطُّرُقِ كالإِمامِ الغَزَّاليِّ والإِمامِ الرَّبَّانِيِّ:

“إنَّ اتِّباعَ سُنَّةٍ واحِدةٍ مِنَ السُّنَنِ النَّبوِيّةِ يكُونُ مَقبُولًا عِندَ اللهِ أَعظَمَ مِن مِئةٍ مِنَ الآدابِ والنَّوافِلِ الخاصَّةِ، إذ كما أنَّ فَرضًا واحِدًا يَرجَحُ أَلفًا مِنَ السُّنَنِ، فإنَّ سُنَّةً واحِدةً مِنَ السُّنَنِ النَّبوِيَّةِ تَرجَحُ أَلفًا مِن آدابِ التَّصَوُّفِ”.

[الورطة الرابعة: الظن بأن الإلهام كالوحي]

الرَّابعة: إنَّ بَعضَ المُتَطرِّفينَ مِن أَهلِ التَّصَوُّفِ يَظُنُّونَ خَطَأً أنَّ “الإِلهامَ” بمَرتَبةِ “الوَحْيِ”، كما يَعتَبِرُونَ الإِلهامَ نَوْعًا مِن أَنواعِ الوَحْيِ، فيَسقُطُونَ في هذا المَزلَقِ الخَطِيرِ، وقد بَرْهَنَّا سابِقًا في “الكَلِمةِ الثَّانِيةَ عَشْرةَ” و”الكَلِمةِ الخامِسةِ والعِشرِينَ” المُتَعلِّقةِ بإِعجازِ القُرآنِ وفي رَسائِلَ أُخرَى، كَيفَ أنَّ الوَحْيَ سامٍ وعالٍ، وساطِعٌ وَضَّاءٌ، وكُلِّيٌّ شامِلٌ، بَينَما الإِلهامُ بالنِّسبةِ إلَيْه جُزئِيٌّ وخافِتٌ.

[الورطة الخامسة: التعلق بالكرامات والأذواق]

الخَامِسة: إنَّ بَعضَ المُتَصوِّفِينَ مِمَّن لم يُدرِكُوا تَمامًا سِرَّ الطَّرِيقةِ -في كَونِها وَسِيلةً ولَيسَت غايةً بحَدِّ ذاتِها- قد يَنجَذِبُونَ ويَتَوجَّهُونَ إلى ما يُفاضُ علَيْهِم مِنَ الكَراماتِ والأَذواقِ والأَنوارِ، تلك الَّتي تُوهَبُ ولا تُسأَلُ، إذ يَمنَحُها اللهُ سُبحانَه تَقوِيةً لِلضُّعفاءِ، وتَشجِيعًا للمُتَكاسِلِينَ، وتَخفِيفًا مِنَ المَشَقَّةِ والسَّأَمِ -الَّذي يَعتَرِيهِم مِن شِدَّةِ الإِجهادِ في العِبادةِ- فيَنجَرُّونَ إلى تَفضِيلِ تلك الكَراماتِ والأَذواقِ والأَنوارِ على فُرُوضِ الدِّينِ والخِدمةِ تَحتَ لِوائِه وقِراءةِ الأَذكارِ والأَورادِ، فيَسقُطُونَ في هذا المَزلَقِ.

وقد سَبَق أن أَجمَلْنا في النُّقطةِ الثَّالِثةِ مِنَ “التَّلوِيحِ السَّادِسِ” وفي “كَلِماتٍ” أُخرَى، بأنَّ هذه الدُّنيا هي دارُ خِدمةٍ وعَمَلٍ ولَيسَت دارَ ثَوابٍ ومُكافَأةٍ، فالَّذِينَ يَرغَبُونَ في قَطفِ ثِمارِ أَعمالِهِم في هذه الحَياةِ الفانِيةِ، إنَّما يَستَبدِلُونَ المُكافَأةَ الدُّنيَوِيّةَ الفانِيةَ بثِمارِ الآخِرةِ الأَبدِيّةِ الباقِيةِ، فَضْلًا عن أنَّ هذا يَدُلُّ على بَقايا تَعَلُّقٍ بالدُّنيا ورَغبةٍ في الِاستِمتاعِ بها، ويكُونُ هذا سَبَبًا في خُفُوتِ شَوقِهِم وتَطَلُّعِهِم إلى الحَياةِ البَرزَخِيّةِ، بل يُرِيدُونَ هذه الحَياةَ، إذ يَجِدُونَ فيها نَوْعًا مِن ثِمارِ الآخِرةِ.

[الورطة السادسة: اختلاط المقام الظِّلِّي بالأصلي]

السَّادسة: وهِي المُنزَلَقُ الَّذي يَقَعُ فيه قِسمٌ مِن سالِكِي الطُّرُقِ الصُّوفيّةِ مِن غَيرِ أَهلِ الحَقِيقةِ عِندَما يَلتَبِسُ علَيْهِمُ الأَمرُ، فيَتَوهَّمُونَ بأنَّ ظِلالَ مَقاماتِ الوِلايةِ ونَماذِجَها المُصَغَّرةَ كأنَّها هي المَقامُ الحَقِيقيُّ والكُلِّيُّ والأَصلِيُّ.

ولقد أَثبَتْنا في الغُصنِ الثَّاني مِنَ “الكَلِمةِ الرَّابِعةِ والعِشرِينَ” وفي “كَلِماتٍ” أُخرَى بما لاشَكَّ فيه: أنَّ الشَّمسَ وإن تَعَدَّدَت صُوَرُها بتَعدُّدِ المَرايا الَّتي تَنعَكِسُ علَيْها، فهذه الصُّوَرُ تَملِكُ ضِياءَ الشَّمسِ وحَرارَتَها، ولكِنَّها باهِتةُ الأَنوارِ بالنِّسبةِ إلى الشَّمسِ الحَقِيقيّةِ. كَذلِك فإنَّ لِمَقامِ النُّبوّةِ ولِمَقامِ كِبارِ الأَولِياءِ شَيئًا مِنَ الظِّلالِ الَّتي يُمكِنُ لِأَهلِ الطُّرُقِ أن يَستَظِلُّوا بها، ولكِنَّهُم يَظُنُّونَ أَثناءَ دُخُولِهِم فيها أنَّهُم أَعظَمُ دَرَجةً مِن كِبارِ الأَولِياءِ، بل حتَّى مِنَ الأَنبِياءِ -والعِياذُ باللهِ- فيَسقُطُونَ في مَزلَقٍ.

ولِإنقاذِ أَنفُسِهِم مِن جَمِيعِ هذه المَزالِقِ المَذكُورةِ سابِقًا علَيْهِم أن يَضَعُوا أُصُولَ الإِيمانِ وأُسُسَ الشَّرعِ نُصْبَ أَعيُنِهِم، ويَتَّخِذُوها مُرشِدًا دائِمًا لَهُم، وأن يُخالِفُوا أَذواقَهُم ومَشهُوداتِهِم ويَتَّهِمُوها عِندَ تَعارُضِها معَ تلك الأُسُسِ.

[الورطة السابعة: الميل إلى الدعوى والشطح بدلًا من العبدية والافتقار]

السَّابعة: وهِي المَزلَقُ الَّذي يَقَعُ فيه قِسمٌ مِن أَهلِ الأَذواقِ والأَشواقِ مِن أَصحابِ الطُّرُقِ عِندَما يَنصَرِفُونَ إلى الفَخرِ والِادِّعاءِ وإِشاعةِ الشَّطَحاتِ وطَلَبِ تَوَجُّهِ النَّاسِ ونَيلِ المَرجِعِيَّاتِ الدِّينيّةِ، ويُفَضِّلُونَ هذه العُجالاتِ على الشُّكرِ والتَّضَرُّعِ والحَمدِ والِاستِغناءِ عنِ النَّاسِ، بَينَما عُبُودِيّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ هي أَسمَى مَرتَبةٍ في العُبُودِيّةِ، تلك العُبُودِيّةِ الَّتي نَستَطِيعُ وَصْفَها بالمَحبُوبِيّةِ.

فأَساسُ العُبُودِيّةِ وسِرُّها هو التَّضَرُّعُ والحَمدُ والدُّعاءُ والخُشُوعُ والعَجزُ والفَقرُ والِاستِغناءُ عنِ النَّاسِ، وبهذا فقط يُمكِنُ الوُصُولُ إلى كَمالِ تلك الحَقِيقةِ: حَقِيقةِ العُبُودِيّةِ.

نعم، إنَّ عَدَدًا مِنَ الأَولِياءِ الكِبارِ اضطَرُّوا -دُونَ اختِيارٍ مِنهُم لِغَلَبةِ الحالِ وبِشَكل مُؤَقَّتٍ فقط- إلى الخُرُوجِ إلى ساحةِ الفَخرِ والطَّلَبِ والشَّطَحاتِ، لِذا فلا يَجُوزُ اتِّباعُهُمُ اختِيارًا في حالِهِم هذه، فهُم مُهتَدُونَ، ولكِنَّهُم هنا وفي هذه النُّقطةِ بالذَّاتِ لَيسُوا قُدْوةً في الهِدايةِ، لِذا لا يُمكِنُ السَّيرُ وَراءَهُم أوِ الِاقتِداءُ بهم.

[الورطة الثامنة: استعجال قطف ثمرات الولاية]

الثَّامنة: وهِي الوَرْطةُ الَّتي يَتَورَّطُ فيها قِسمٌ مِنَ المُتَعجِّلِينَ والقاصِدِينَ المَنافِعَ الذَّاتيَّةَ مِن أَهلِ الطُّرُقِ مِنَ الَّذِينَ يَرغَبُونَ أَثناءَ سُلُوكِهِم في تَناوُلِ ثَمَراتِ الوِلايةِ في الدُّنيا بَدَلًا مِن قَطْفِها في الآخِرةِ؛ والحالُ أنَّ آياتٍ كَثِيرةً في القُرآنِ الكَرِيمِ مِن أَمثالِ: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ تَدُلُّ بوُضُوحٍ على ما أَثبَتْناه سابِقًا في عِدّةِ “كَلِماتٍ” مِن أنَّ ثَمَرةً واحِدةً مِن ثَمَراتِ عالَمِ البَقاءِ تَرجَحُ أَلفَ بُستانٍ في هذه الحَياةِ الفانِيةِ، لِذا فالأَفضَلُ عَدَمُ تَناوُلِ تلك الثَّمَراتِ المُبارَكةِ هنا، وإن أُعطِيَت دُونَ تَوَجُّهٍ ورَغبةٍ فيها، فيَجِبُ إِبداءُ الحَمدِ والشُّكرِ في قَبُولِها -لا على أنَّها مُكافَأةٌ- بل على أنَّها إِحسانٌ وفَضلٌ مِنَ الله وُهِبَت لِلتَّشوِيقِ.

[التلويح التاسع: تسعُ ثمراتٍ للطريقة]

التَّلوِيح التَّاسِع

نَذكُرُ هنا مُجمَلًا تِسعَ ثَمَراتٍ مِنَ الثِّمارِ الوَفِيرةِ لِلطَّرِيقةِ وفَوائِدِها:

[الثمرة الأولى: انجلاء الحقائق الإيمانية]

الأُولَى: هي ظُهُورُ الحَقائِقِ الإِيمانيّةِ وانكِشافُها ووُضُوحُها إلى دَرَجةِ عَينِ اليَقِينِ بواسِطةِ الطَّرِيقةِ الصَّحِيحةِ المُستَقِيمةِ، هذه الحَقائِقُ الَّتي هي مَنابِعُ خَزائِنَ أَبدِيّةٍ وسَعادةٍ دائِمةٍ وكُنُوزُها ومَفاتِيحُها.

[الثمرة الثانية: تحقق حقيقة الإنسان]

الثَّانية: هي تَحقِيقُ الوُجُودِ الحَقِيقيِّ لِلإِنسانِ بانسِياقِ لَطائِفِه جَمِيعًا إلى ما خُلِقَت لِأَجلِه، وذلك بأن تكُونَ الطَّرِيقةُ واسِطةً لِتَحرِيكِ قَلبِ الإِنسانِ الَّذي يُعتَبَرُ مَركَزًا لِكَيانِه ولَوْلَبًا لِحَرَكَتِه وتَوَجُّهِه إلى اللهِ، فيَندَفِعُ بهذا كَثِيرٌ مِنَ اللَّطائِفِ الإِنسانيّةِ إلى الحَرَكةِ والظُّهُورِ، فتَتَحقَّقُ حَقِيقةُ الإِنسانِ.

[الثمرة الثالثة: الأنس المعنوي]

الثَّالثة: التَّخَلُّصُ مِن وَحْشةِ الِانفِرادِ والوَحْدةِ في السَّيرِ والسُّلُوكِ، والشُّعُورُ بالأُنسِ المَعنَوِيِّ في الحَياةِ الدُّنيا والبَرزَخِ، بالِالتِحاقِ بإِحدَى سَلاسِلِ الطَّرِيقةِ عِندَ سَيرِه وتَوَجُّهِه وسَفَرِه نَحوَ الحَياةِ البَرزَخِيّةِ ونَحوَ الحَياةِ الأُخرَوِيّةِ، وعَقدُ أَواصِرِ الصَّداقةِ والمَحَبّةِ بتلك القافِلةِ النُّورانيّةِ في طَرِيقِ أَبَدِ الآبادِ، فتَندَفِعُ الأَوهامُ والشُّبَهُ عنِ النَّفسِ باستِنادِ المُرِيدِ إلى إِجماعِهِم واتِّفاقِهِم باعتِبارِ كلِّ أُستاذٍ مُرشِدٍ حُجَّةً قَوِيّةً وسَنَدًا لا يَضعُفُ في دَفعِ الأَضالِيلِ والأَوهامِ الَّتي تَرِدُ إلى الذِّهنِ.

[الثمرة الرابعة: محبة الله ومعرفته]

الرَّابِعة: وهِي خَلاصُ الإِنسانِ مِنَ الوَحْشةِ الهائِلةِ الَّتي تَكتَنِفُه في حَياتِه الدُّنيا، والِانسِلالُ مِنَ الغُربةِ الأَلِيمةِ الَّتي يُحِسُّها إِزاءَ الكَونِ، وذلك بما تَقُومُ به الطَّرِيقةُ الصَّائِبةُ الصَّافِيةُ مِن تَفجِيرِ يَنابِيعِ مَحَبَّةِ اللهِ ومَعرِفَتِه في الإِيمانِ. وقد سَبَق أن أَثبَتْنا في “كَلِماتٍ” عِدَّةٍ بأنَّ سَعادةَ الدَّارَينِ، واللَّذّةَ الَّتي لا يَشُوبُها أَلَمٌ، والأُنسَ الَّذي لا تُخالِطُه وَحْشةٌ، والسَّعادةَ الحَقِيقيّةَ لا تُوجَدُ إلّا في حَقائِقِ الإِيمانِ والإِسلامِ الَّتي تَسعَى الطَّرِيقةُ لِلوُصُولِ إلَيْها، كما أَنَّنا بَيَّنّا في “الكَلِمةِ الثّانِيةِ” بأنَّ الإِيمانَ يَحمِلُ بِذْرةَ شَجَرةِ طُوبَى في الجَنَّةِ.

نعم، فبِالتَّربِيةِ المَوجُودةِ في الطَّرِيقةِ تَنمُو تلك البِذْرةُ وتَكبُرُ.

[الثمرة الخامسة: الإقبال على الطاعة بمعرفة وشوق]

الخَامِسة: الشُّعُورُ بالحَقائِقِ اللَّطِيفةِ في التَّكالِيفِ الشَّرعِيّةِ وتَقدِيرُها بواسِطةِ القَلبِ المُتَنبِّه بدَوامِ ذِكرِ اللهِ، كما يُعِينُه على ذلك المَنهَجُ التَّربَوِيُّ لِلطَّرِيقةِ؛ وبذلك تكُونُ الطّاعةُ والعِبادةُ مَثارَ اشتِياقٍ وحُبٍّ، لا مَثارَ تَعَبٍ وتَكلِيفٍ.

[الثمرة السادسة: التوكل والتسليم]

السَّادِسة: نَيلُ مَقامِ التَّوكُّلِ، ودَرَجةِ الرِّضَا، ومَرتَبةِ التَّسلِيمِ.. هذه المَقاماتُ هي السَّبِيلُ إلى تَذَوُّقِ السَّعادةِ الحَقِيقيّةِ والتَّسلِيةِ الخالِصةِ واللَّذّةِ الَّتي لا يَشُوبُها حُزنٌ، والأُنسُ الَّذي لا تَقرَبُه وَحْشةٌ.

[الثمرة السابعة: الخلاص من الشرك الخفي]

السَّابِعة: وهِي نَجاةُ الإِنسانِ مِنَ الشِّركِ الخَفِيِّ والرِّياءِ والتَّصَنُّعِ وأَمثالِها مِنَ الرَّذائِلِ، وذلك بالإِخلاصِ الَّذي هو أَهَمُّ شَرطٍ لَدَى سالِكِ الطَّرِيقةِ وأَهَمُّ نَتِيجةٍ لها؛ وكذا التَّخَلُّصُ مِن أَخطارِ النَّفسِ الأَمَّارةِ بالسُّوءِ ومِن أَدْرانِ الأَنانيّةِ بتَزكِيةِ النَّفسِ الَّتي هي السُّلُوكُ العَمَلِيُّ في الطَّرِيقةِ.

[الثمرة الثامنة: تحويل العادات إلى عبادات]

الثَّامِنة: هي جَعْلُ الإِنسانِ عاداتِه اليَومِيّةَ بحُكمِ العِباداتِ، وأَعمالَه الدُّنيَوِيّةَ بمَثابةِ أَعمالٍ أُخرَوِيّةٍ، والإِحسانُ في استِغلالِ دَقائِقِ رَأسِ مالِ عُمُرِه مِنَ الحَياةِ، وجَعْلُها بُذُورًا تَتَفتَّحُ عن زَهَراتِ الحَياةِ الأُخرَوِيّةِ وسَنابِلِها؛ وذلك بدَوامِ الذِّكرِ القَلبِيِّ، والتَّأَمُّلِ العَقلِيِّ، معَ الحُضُورِ القَلبِيِّ الدَّائِمِ والِاطمِئْنانِ، ودَوامِ شَحْذِ الإِرادةِ، والنِّيّةِ الصَّافِيةِ، والعَزِيمةِ الصَّادِقةِ الَّتي تُلَقِّنُها الطَّرِيقةُ.

[الثمرة التاسعة: العمل لبلوغ مرتبة الإنسان الكامل]

التَّاسِعة: وهِي العَمَلُ لِلوُصُولِ إلى مَرتَبةِ الإِنسانِ الكامِلِ، وذلك بالتَّوَجُّهِ القَلبِيِّ إلى اللهِ طَوالَ سَيْرِه وسُلُوكِه، وأَثناءَ مُجاهَداتِه الرُّوحِيّةِ الَّتي تَسمُو بحَياتِه المَعنَوِيّةِ، أي: الوُصُولُ إلى مَرتَبةِ المُؤمِنِ الحَقِّ والمُسلِمِ الصَّادِقِ، أي: نَيلُ حَقِيقةِ الإِيمانِ والإِسلامِ لا صُورَتَيهِما، ثمَّ أن يكُونَ الإِنسانُ عَبدًا خالِصًا لِرَبِّ العالَمِينَ، ومَوضِعَ خِطابِه الجَلِيلِ، ومُمَثِّلًا عنِ الكائِناتِ مِن جِهةٍ، ووَلِيًّا للهِ وخَلِيلًا له، حتَّى كأَنَّه مِرآةٌ لِتَجَلِّياتِه سُبحانَه، وفي أَحسَنِ تَقوِيمٍ حَقًّا، فيُقِيمُ الحُجّةَ على أَفضَلِيّةِ بَنِي آدَمَ على المَلائِكةِ.

وهكذا يَطِيرُ بجَناحَيِ الشَّرِيعةِ الإِيمانِيِّ والعَمَلِيِّ إلى المَقاماتِ العُليا، والتَّطَلُّعِ مِن هذه الدُّنيا إلى السَّعادةِ الأَبدِيّةِ بلِ الدُّخُولِ فيها.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

﴿اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى الغَوْثِ الأكبَرِ في كُلِّ العُصُورِ، والقُطبِ الأعظَمِ في كُلِّ الدُّهُورِ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الَّذي تَظَاهَرَتْ حِشْمَةُ وَلَايَتِه ومَقَامُ مَحْبُوبِيَّتِه في مِعْرَاجِه، وانْدَرَجَ كُلُّ الوَلَايَاتِ في ظِلِّ مِعْرَاجِه، وعَلَى آلِه وصَحْبِه أجمَعِينَ.. آمِينَ.﴾

﴿والحَمدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ﴾

❀   ❀   ❀

‌[ذيل في بيان أقصر طريق إلى الله]

ذيل‌

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

هذا الذيلُ القصير جدًّا له أهمِّيةٌ عظيمة ومنافعُ للجميع..

لِلوُصُولِ إلى اللهِ سُبحانَه وتَعالَى طَرائِقُ كَثِيرةٌ، وسُبُلٌ عَدِيدةٌ؛ ومَورِدُ جَمِيعِ الطُّرُقِ الحَقّةِ ومَنهَلُ السُّبُلِ الصّائِبةِ هو القُرآنُ الكَرِيمُ، إلّا أنَّ بَعضَ هذه الطُّرُقِ أَقرَبُ مِن بَعضٍ وأَسلَمُ وأَعَمُّ.

وقدِ استَفَدتُ مِن فَيضِ القُرآنِ الكَرِيمِ -بالرَّغمِ مِن فَهْمِي القاصِرِ- طَرِيقًا قَصِيرًا وسَبِيلًا سَوِيًّا هو:

طَرِيقُ العَجْزِ، الفَقْرِ، الشَّفَقةِ، التَّفَكُّرِ.

نعم، إنَّ العَجْزَ كالعِشقِ طَرِيقٌ مُوصِلٌ إلى اللهِ، بل أَقرَبُ وأَسلَمُ، إذ هو يُوصِلُ إلى المَحبُوبِيّةِ بطَرِيقِ العُبُودِيّةِ.

والفَقْرُ مِثلُه يُوصِلُ إلى اسمِ اللهِ “الرَّحمٰنِ”.

وكَذلِك الشَّفَقةُ كالعِشقِ مُوصِلٌ إلى اللهِ، إلّا أنَّه أَنفَذُ مِنه في السَّيرِ وأَوسَعُ مِنه مَدًى، إذ هُو يُوصِلُ إلى اسمِ اللهِ “الرَّحِيم”.

والتَّفَكُّرُ أَيضًا كالعِشقِ، إلّا أنَّه أَغنَى مِنه وأَسطَعُ نُورًا وأَرحَبُ سَبِيلًا، إذ هو يُوصِلُ السّالِكَ إلى اسمِ اللهِ “الحَكِيم”.

وهذا الطَّرِيقُ يَختَلِفُ عمّا سَلَكَه أَهلُ السُّلُوكِ في طُرُقِ الخَفاءِ ذاتِ الخُطُواتِ العَشرِ -كاللَّطائِفِ العَشرِ- وفي طُرُقِ الجَهرِ ذاتِ الخُطُواتِ السَّبعِ -حَسَبَ النُّفُوسِ السَّبعةِ- فهذا الطَّرِيقُ عِبارةٌ عن أَربَعِ خُطُواتٍ فحَسْبُ، وهُو حَقِيقةٌ شَرعِيّةٌ أَكثَرَ مِمّا هو طَرِيقةٌ صُوفيّةٌ.

ولا يَذهَبَنَّ بكُم سُوءُ الفَهمِ إلى الخَطَأِ، فالمَقصُودُ بالعَجْزِ والفَقْرِ والتَّقصِيرِ إنَّما هو إِظهارُ ذلك كُلِّه أَمامَ اللهِ سُبحانَه، ولَيسَ إِظهارَه أَمامَ النّاسِ.

أمّا أَوْرادُ هذا الطَّرِيقِ القَصِيرِ وأَذكارُه فتَنحَصِرُ في اتِّباعِ السُّنّةِ النَّبوِيّةِ، والعَمَلِ بالفَرائِضِ، ولا سِيَّما إِقامةِ الصَّلاةِ باعتِدالِ الأَركانِ، والعَمَلِ بالأَذكارِ عَقِبَها، وتَركِ الكَبائِرِ.

أمّا مَنابِعُ هذه الخُطُواتِ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ فهي:

﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ تُشِيرُ إلى الخُطْوةِ الأُولَى.

﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ تُشِيرُ إلى الخُطْوةِ الثّانِيةِ.

﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ تُشِيرُ إلى الخُطْوةِ الثّالِثةِ.

﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ تُشِيرُ إلى الخُطْوةِ الرّابِعةِ.

وإِيضاحُ هذه الخُطُواتِ الأَربَعِ بإِيجازٍ شَدِيدٍ هو:

[الخطوة الأولى: فلا تزكوا أنفسكم]

الخُطْوة الأُولَى:

كما تُشِيرُ إلَيْها الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ وهي: عَدَمُ تَزكِيةِ النَّفسِ، ذلك لِأنَّ الإِنسانَ حَسَبَ جِبِلَّتِه، وبمُقتَضَى فِطْرَتِه، مُحِبٌّ لِنَفسِه بالذّاتِ، بل لا يُحِبُّ إلّا ذاتَه في المُقدِّمةِ؛ ويُضَحِّي بكُلِّ شَيءٍ مِن أَجلِ نَفسِه، ويَمدَحُ نَفسَه مَدْحًا لا يَلِيقُ إلّا بالمَعبُودِ وَحدَه، ويُنزِّهُ شَخْصَه ويُبَرِّئُ ساحةَ نَفسِه، بل لا يَقبَلُ التَّقصِيرَ لِنَفسِه أَصلًا، ويُدافِعُ عنها دِفاعًا قَوِيًّا بما يُشبِهُ العِبادةَ، حتَّى كأنَّه يَصرِفُ ما أَوْدَعَه اللهُ فيه مِن أَجهِزةٍ لِحَمْدِه سُبحانَه وتَقدِيسِه إلى نَفسِه، فيُصِيبُه وَصْفُ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ فيُعجَبُ بنَفسِه ويَعتَدُّ بها.. فلا بُدَّ إذًا مِن تَزكِيَتِها، فتَزكِيَتُها في هذه الخُطْوةِ وتَطهِيرُها: بعَدَمِ تَزكِيَتِها.

[الخطوة الثانية: ولا تكونوا كالذين نسوا الله]

الخُطوة الثَّانية: كما تُلَقِّنُه الآيةُ الكَرِيمةُ مِن دَرسِ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾، وذلك: أنَّ الإِنسانَ يَنسَى نَفسَه ويَغفُلُ عنها، فإذا ما فَكَّر في المَوتِ صَرَفَه إلى غَيرِه، وإذا ما رَأَى الفَناءَ والزَّوالَ دَفَعَه إلى الآخَرِينَ، وكأَنَّه لا يَعنِيه بشَيءٍ، إذ مُقتَضَى النَّفسِ الأَمَّارةِ أنَّها تَذكُرُ ذاتَها في مَقامِ أَخذِ الأُجرةِ والحُظُوظِ وتَلتَزِمُ بها بشِدَّةٍ، بَينَما تَتَناسَى ذاتَها في مَقامِ الخِدْمةِ والعَمَلِ والتَّـكلِيفِ.. فتَزكِيَتُها وتَطْهِيرُها وتَربِيَتُها في هذه الخُطْوةِ هي: العَمَلُ بعَكسِ هذه الحالةِ، أي: عَدَمُ النِّسيانِ في عَينِ النِّسيانِ، أي: نِسيانُ النَّفسِ في الحُظُوظِ والأُجرةِ، والتَّفكُّرُ فيها عِندَ الخِدْماتِ والمَوتِ.

[الخطوة الثالثة: قد أفلح من زكاها]

والخُطوة الثَّالثة: هي ما تُرشِدُ إلَيْه الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾، وذلك أنَّ ما تَقتَضِيه النَّفسُ دائِمًا أنَّها تَنسُبُ الخَيرَ إلى ذاتِها، مِمّا يَسُوقُها هذا إلى الفَخرِ والعُجْبِ؛ فعلى المَرءِ في هذه الخُطْوةِ ألّا يَرَى مِن نَفسِه إلّا القُصُورَ والنَّقْصَ والعَجْزَ والفَقْرَ، وأن يَرَى كلَّ مَحاسِنِه وكَمالاتِه إِحسانًا مِن فاطِرِه الجَلِيلِ، ويَتَقبَّلَها نِعَمًا مِنه سُبحانَه، فيَشكُرُ عِندَئِذٍ بَدَلَ الفَخرِ، ويَحمَدُ بَدَلَ المَدْحِ والمُباهاةِ.. فتَزكِيةُ النَّفسِ في هذه المَرتَبةِ هي في سِرِّ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾، وهي أنْ تَعلَمَ بأنَّ كَمالَها في عَدَمِ كَمالِها، وقُدرَتَها في عَجْزِها، وغِناها في فَقْرِها، (أي: كَمالُ النَّفسِ في مَعرِفةِ عَدَمِ كَمالِها، وقُدرَتُها في عَجْزِها أَمامَ اللهِ، وغِناها في فَقْرِها إلَيْه).

[الخطوة الرابعة: كل شيء هالك إلا وجهه]

الخُطوة الرَّابِعة: هي ما تُعَلِّمُه الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾، ذلك لأنَّ النَّفسَ تَتَوهَّمُ نَفسَها حُرّةً مُستَقِلّةً بذاتِها، لِذا تَدَّعِي نَوعًا مِنَ الرُّبُوبيّةِ، وتُضمِرُ عِصْيانًا حِيالَ مَعبُودِها الحَقِّ؛ فبِإدراكِ الحَقِيقةِ الآتِيةِ يَنجُو الإِنسانُ مِن ذلك، وهي: كلُّ شَيءٍ بحَدِّ ذاتِه، وبمَعناه الِاسمِيِّ: زائِلٌ، مَفقُودٌ، حادِثٌ، مَعدُومٌ.. إلّا أنَّه في مَعناه الحَرفِيِّ، وبجِهةِ قِيامِه بدَوْرِ المِرآةِ العاكِسةِ لِأَسماءِ الصَّانِعِ الجَلِيلِ، وبِاعتِبارِ مَهامِّه ووَظائِفِه: شاهِدٌ، مَشهُودٌ، واجِدٌ، مَوجُودٌ.

فتَزكِيَتُها في هذه الخُطْوةِ هي مَعرِفةُ أنَّ عَدَمَها في وُجُودِها ووُجُودَها في عَدَمِها، أي: إذا رَأَت ذاتَها وأَعطَت لِوُجُودِها وُجُودًا، فإنَّها تَغرَقُ في ظُلُماتِ عَدَمٍ يَسَعُ الكائِناتِ كُلَّها.. يَعنِي إذا غَفَلَتْ عن مُوجِدِها الحَقِيقيِّ وهو اللهُ، مُغتَرّةً بوُجُودِها الشَّخصِيِّ فإنَّها تَجِدُ نَفسَها وَحِيدةً غَرِيقةً في ظُلُماتِ الفِراقِ والعَدَمِ غيرِ المُتَناهِيةِ، كأنَّها اليَراعةُ في ضِيائِها الفَردِيِّ الباهِتِ في ظُلُماتِ اللَّيلِ البَهِيمِ. ولكِن عِندَما تَتْرُكُ الأَنانيّةَ والغُرُورَ وتَرَى نَفسَها حَقًّا لا شَيءَ بالذَّاتِ، وإنَّما هي مِرآةٌ تَعكِسُ تَجَلِّياتِ مُوجِدِها الحَقِيقيِّ، فتَظفَرُ بوُجُودٍ غَيرِ مُتَناهٍ، وتَربَحُ وُجُودَ جَمِيعِ المَخلُوقاتِ.

نعم، مَن يَجِدُ اللهَ فقد وَجَدَ كلَّ شَيءٍ، فما المَوجُوداتُ جَمِيعُها إلَّا تَجَلِّياتُ أَسمائِه الحُسنَى جَلَّ جَلالُه.

[‌خاتمة في مزايا هذا الطريق المختصر]

خاتمة

إنَّ الخُطُواتِ الأَربَعَ لطَرِيقِ العَجزِ والفَقرِ والشَّفَقةِ والتَّفكُّرِ قد سَبَقَ إِيضاحُها في “الكَلِماتِ السِّتِّ والعِشرِينَ” السَّابِقةِ مِن كِتابِ “الكَلِمات” الَّذي يَبحَثُ في عِلمِ الحَقِيقةِ: حَقِيقةِ الشَّرِيعةِ، حِكْمةِ القُرآنِ الكَرِيمِ.. إلَّا أنَّنا نُشِيرُ هنا إِشارةً قَصِيرةً إلى بِضْعِ نِقاطٍ، وهي:

إنَّ هذا الطَّرِيقَ هو أَقصَرُ وأَقرَبُ مِن غَيرِه، لِأنَّه عِبارةٌ عن أَربَعِ خُطُواتٍ؛ فالعَجزُ إذا ما تَمَكَّنَ مِنَ النَّفسِ يُسَلِّمُها مُباشَرةً إلى “القَدِيرِ” ذِي الجَلالِ، بَينَما إذا تَمَكَّنَ العِشقُ مِنَ النَّفسِ -في طَرِيقِ العِشقِ الَّذي هو أَنفَذُ الطُّرُقِ المُوصِلةِ إلى اللهِ- فإنَّها تَتَشبَّثُ بالمَعشُوقِ المَجازِيِّ، وعِندَما تَرَى زَوالَه تَبلُغُ المَحبُوبَ الحَقِيقِيَّ.

ثمَّ إنَّ هذا الطَّرِيقَ أَسلَمُ مِن غَيرِه، لِأنَّه لَيسَ لِلنَّفسِ فيه شَطَحاتٌ أوِ ادِّعاءاتٌ فَوقَ طاقَتِها، إذِ المَرءُ لا يَجِدُ في نَفسِه غَيرَ العَجزِ والفَقرِ والتَّقصِيرِ كي يَتَجاوَزَ حَدَّه.

ثمَّ إنَّ هذا الطَّرِيقَ طَرِيقٌ عامٌّ وجادّةٌ كُبْرَى، لِأنَّه لا يُضطَرُّ إلى إِعدامِ الكائِناتِ ولا إلى سَجْنِها، حَيثُ إنَّ أَهلَ “وَحْدةِ الوُجُودِ” تَوَهَّمُوا الكائِناتِ عَدَمًا، فقالُوا: “لا مَوجُودَ إلّا هُو” لِأَجلِ الوُصُولِ إلى الِاطمِئْنانِ والحُضُورِ القَلبِيِّ؛ وكذا أَهلُ “وَحْدةِ الشُّهُودِ” حَيثُ سَجَنُوا الكائِناتِ في سِجنِ النِّسيانِ، فقالُوا: “لا مَشهُودَ إلّا هو” لِلوُصُولِ إلى الِاطمِئْنانِ القَلبِيِّ.

بَينَما القُرآنُ الكَرِيمُ يَعفُو الكائِناتِ بكُلِّ وُضُوحٍ مِنَ الإِعدامِ، ويُطلِقُ سَراحَها مِنَ السِّجنِ؛ فهذا الطَّرِيقُ على نَهجِ القُرآنِ يَنظُرُ إلى الكائِناتِ أنَّها مُسَخَّرةٌ لِفاطِرِها الجَلِيلِ وخادِمةٌ في سَبِيلِه، وأنَّها مَظاهِرُ لِتَجلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى كأَنَّها مَرايا تَعكِسُ تلك التَّجَلِّياتِ. أي: أنَّه يَستَخدِمُها بالمَعنَى الحَرفِيِّ ويَعزِلُها عنِ المَعنَى الِاسمِيِّ مِن أن تكُونَ خادِمةً ومُسَخَّرةً بنَفسِها، وعِندَها يَنجُو المَرءُ مِنَ الغَفْلةِ، ويَبلُغُ الحُضُورَ الدَّائِمِيَّ على نَهجِ القُرآنِ الكَرِيمِ، فيَجِدُ إلى الحَقِّ سُبحانَه طَرِيقًا مِن كُلِّ شَيءٍ.

وزُبدةُ الكَلامِ: إنَّ هذا الطَّرِيقَ لا يَنظُرُ إلى المَوجُوداتِ بالمَعنَى الِاسمِيِّ، أي: لا يَنظُرُ إلَيْها على أنَّها مُسَخَّرةٌ لِنَفسِها ولِذاتِها، بل يَعزِلُها عن هذا ويُقلِّدُها وَظِيفةَ كَونِها مُسَخَّرةٌ للهِ سُبحانَه.

❀   ❀   ❀

 

Exit mobile version