اللمعات

اللمعة الرابعة: رسالة منهاج السُّنَّة.

[هذه اللمعة تتحدث عن آيةِ: ﴿قُل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المَودَّةَ في القربى﴾، وتُعرِّج على مسألة الإمامة مبيِّنةً اعتقادَ أهل السنة والجماعة في سيدنا علي، وتَرُدُّ على شبهات الشيعة في هذا الخصوص ]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

إنَّ إِظهارَ الرَّسولِ ﷺ شَفَقةً فائِقةً وأَهَمِّيّةً بالِغةً للحَسَنِ والحُسَينِ رَضِيَ الله عَنهُمَا في صِباهُما، لَيسَت هي شَفَقةً فِطرِيّةً ومَحَبّةً نابِعةً مِنَ الإِحساسِ بصِلةِ القُربَى وَحْدَها، بل نابِعةً أَيضًا مِن أَنَّهُما بِدايةُ سِلسِلةٍ نُورانيّةٍ تَتَولَّى مُهِمّةً مِن مُهِمّاتِ النُّبوّةِ العَظِيمةِ، وأنَّ كُلًّا مِنهُما مَنشَأُ جَماعةٍ عَظِيمةٍ مِن وارِثي النُّبوّةِ، ومُمَثِّلٌ عَنها وقُدوةٌ لَها.
إنَّ إِظهارَ الرَّسولِ ﷺ شَفَقةً فائِقةً وأَهَمِّيّةً بالِغةً للحَسَنِ والحُسَينِ رَضِيَ الله عَنهُمَا في صِباهُما، لَيسَت هي شَفَقةً فِطرِيّةً ومَحَبّةً نابِعةً مِنَ الإِحساسِ بصِلةِ القُربَى وَحْدَها، بل نابِعةً أَيضًا مِن أَنَّهُما بِدايةُ سِلسِلةٍ نُورانيّةٍ تَتَولَّى مُهِمّةً مِن مُهِمّاتِ النُّبوّةِ العَظِيمةِ، وأنَّ كُلًّا مِنهُما مَنشَأُ جَماعةٍ عَظِيمةٍ مِن وارِثي النُّبوّةِ، ومُمَثِّلٌ عَنها وقُدوةٌ لَها.

[اللمعة الرابعة‌]

اللمعة الرابعة

لقد ارْتُؤِي أن يُطلَق على هذه الرِّسالة اسمُ “منهاج السُّنّة”‌.

(إنَّ “مسألةَ الإمامة” مع كَونِها مسألةً فَرعيةً إلّا أنّ كَثرةَ الاهتمامِ بها جَعَلَتْها تَدخُل ضِمنَ مَباحثِ الإيمان في كُتُب عِلمِ الكلام وأصول الدِّين، وغَدَت من هذه الجِهة ذاتَ علاقةٍ بخِدْمَتِنا الأساسية، خِدمةِ القرآنِ والإيمان، فبُحِثَتْ بَحثًا جُزئيًّا)

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾، ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾.

سنُشِيرُ إلى جُملةٍ مِنَ الحَقائِقِ العَظِيمةِ الَّتي تَزْخَرُ بها هذه الآياتُ الجَلِيلةُ، وذلك ضِمْنَ مَقامَينِ اثنَينِ.

المقام الأول عبارةٌ عن أربعِ نِكاتٍ‌

[النكتة الأولى: كمال رحمته ورأفته ﷺ بأمته]

النُّكتة الأولَى:

وهي تُعبِّرُ عن كَمالِ رَأْفةِ الرَّسُولِ الأَكرَمِ ﷺ، وغايةِ رَحْمَتِه على بأُمَّتِه.

نعم، لقد وَرَدَت رِواياتٌ صَحِيحةٌ تُبيِّنُ مَدَى رَأْفتِه الكامِلةِ وشَفَقَتِه التّامّةِ بأُمَّتِه، بأنَّه ﷺ يَدعُو يَومَ الحَشْرِ الأَعظَمِ بـ”أُمَّتي أُمَّتي” في الوَقتِ الَّذي يَدعُو كلُّ أَحَدٍ، بل حتَّى الأَنبِياءُ عَلَيهِم السَّلَام بـ”نَفسِي نَفسِي” مِن هَوْلِ ذلك اليَومِ ورَهْبَتِه.

فكما تُبيِّنُ هذه الرِّواياتُ عَظِيمَ شَفَقَتِه على أُمَّتِه فقد سَمِعَتْ والِدَتُه مِنه عِندَ وِلادَتِه أنَّه يُناجِي: “أُمَّتي أُمَّتي”، كما هو مُصَدَّقٌ لَدَى أَهلِ الكَشْفِ مِنَ الأَوْلياءِ الصّالِحِين.

وكذا إنَّ سِيرَتَه العَطِرةَ كلَّها، وما نَشَرَه في الآفاقِ مِن مَكارِمِ الأَخلاقِ المُكَلَّلةِ بالشَّفَقةِ والرَّحْمةِ، تُبيِّنُ كَمالَ رَأْفَتِه وشَفَقَتِه، كما أنَّه أَظْهَر عَظِيمَ شَفَقَتِه على أُمَّتِه بإِظهارِ حاجَتِه الَّتي لا تُحَدُّ إلى صَلَواتِ أُمَّتِه علَيْه، فطَلَبُه تلك الصَّلَواتِ الَّتي لا تُحَدُّ يُبيِّنُ مَدَى عَلاقَتِه الرَّؤُوفةِ بجَمِيعِ سَعاداتِ أُمَّتِه.

ففي ضَوءِ هذه الرَّأْفةِ الشّامِلةِ وهذه الرَّحْمةِ الواسِعةِ لِهذا المُرْشِدِ الرَّؤُوفِ الرَّحِيمِ ﷺ، كم يكُونُ الإِعراضُ عن سُنَّتِه السَّنِيّة كُفْرانًا عَظِيمًا، بل مَوتًا للوِجْدانِ! قِسْ ذلك بنَفسِك وقَدِّرْ.

[النكتة الثانية: معنى اهتمام النبي ﷺ بالحسن والحسين رضي الله عنهما]

النُّكتة الثانية:

إنَّ الرَّسُولَ الأَكرَمَ ﷺ قد أَبدَى رَأْفةً عَظِيمةً تِجاهَ أُمُورٍ ومَوادَّ جُزئِيّةٍ خاصّةٍ، ضِمنَ مُهِمَّتِه النَّبَويّةِ العامّةِ الشّامِلةِ؛ فيَبدُو أنَّ صَرْفَ تلك الشَّفَقةِ العَظِيمةِ والرَّأفةِ الواسِعةِ إلى تلك الأُمُورِ الجُزئيّةِ والمَوادِّ الخاصّةِ لا يُناسِبُ -في ظاهِرِ الأَمرِ- عِظَمَ وَظِيفةِ النُّـبُوّة، ولا يُلائِمُها.. ولكِنَّ الواقِعَ والحَقِيقةَ أنَّ تلك المادّةَ الجُزئيّةَ والأَمْرَ الخاصَّ يُمَثِّلُ طَرَفَ سِلسِلةٍ تَتَولَّى في المُستَقبَل مُهِمّةً نَبَوِيّةً كُلِّيّةً، لِذا أُعطِيَ لِمُمَثِّلِها تلك الأَهَمِّيّةُ البالِغةُ.

مثالُ ذلك: إنَّ إِظهارَ الرَّسولِ ﷺ شَفَقةً فائِقةً وأَهَمِّيّةً بالِغةً للحَسَنِ والحُسَينِ رَضِيَ الله عَنهُمَا في صِباهُما، لَيسَت هي شَفَقةً فِطرِيّةً ومَحَبّةً نابِعةً مِنَ الإِحساسِ بصِلةِ القُربَى وَحْدَها، بل نابِعةً أَيضًا مِن أَنَّهُما بِدايةُ سِلسِلةٍ نُورانيّةٍ تَتَولَّى مُهِمّةً مِن مُهِمّاتِ النُّبوّةِ العَظِيمةِ، وأنَّ كُلًّا مِنهُما مَنشَأُ جَماعةٍ عَظِيمةٍ مِن وارِثي النُّبوّةِ، ومُمَثِّلٌ عَنها وقُدوةٌ لَها.

نعم.. إنَّ حَمْلَ الرَّسُولِ ﷺ الحَسَنَ رَضِيَ الله عَنهُ في حِضْنِه وتَقبِيلَه رَأْسَه بكَمالِ الشَّفَقة والرَّحْمةِ، هو لِأَجلِ الكَثِيرينَ مِن وَرَثةِ النُّبوّةِ الشَّبِيهِينَ بالمَهدِيِّ الحامِلِين للشَّرِيعةِ الغَرّاءِ المُتَسلْسِلِين مِن سُلالةِ الحَسَنِ المُنحَدِرِين مِن نَسلِه النُّورانِيِّ المُبارَك أَمثالَ الشَّيخِ الكَيلانِيِّ؛ فلَقد شاهَدَ الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ ببَصِيرةِ النُّبوّةِ ما يَضطَلِعُ به هؤلاء الأَكارِمُ في المُستَقبَلِ مِن مَهامَّ مُقَدَّسةٍ جَلِيلةٍ، فاستَحْسَن خِدْماتِهم وقَدَّر أَعمالَهم، فقَبَّل رَأْسَ الحَسَنِ رَضِيَ الله عَنهُ عَلامةً على التَّقدِيرِ والتَّشجِيعِ.

ثمَّ إنَّ الِاهتِمامَ العَظِيمَ الَّذي أَوْلاه الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ بالحُسَينِ رَضِيَ الله عَنهُ وعَطْفَه الشَّدِيدَ نَحوَه إنَّما هو لِلَّذِين يتَسَلسَلُون مِن نَسْلِه النُّورانِيِّ مِن أَئِمّةٍ عِظامٍ وارِثِينَ للنُّبوّةِ بحَقٍّ، وشَبِيهِينَ بالمَهْدِيِّ مِن أَمثالِ زَينِ العابِدِين وجَعفَرٍ الصّادِقِ.. نعم، فقد قَبَّل ﷺ عُنُقَ الحُسَينِ رَضِيَ الله عَنهُ، وأَظْهَر له بالِغَ شَفَقَتِه وكَمالَ اهتِمامِه لِأَجْلِ أُولَئِك الَّذين سيَرفَعُون شَأْنَ الإسلامِ، ويُؤَدُّون وَظِيفةَ الرِّسالةِ مِن بَعدِه.

نعم، إنَّ نَظَرَ الرَّسولِ ﷺ الَّذي يُشاهِدُ بقَلبِه الأَنِيسِ بالغَيبِ مَيدانَ الحَشرِ المُمتَدَّ في الأَبَديةِ وهو ما زالَ في الدُّنيا، في خَيرِ القُرونِ، والَّذي يَرَى الجَنّةَ في السّماواتِ العُلا، ويَنظُرُ إلى المَلائِكةِ هناك وهُو في الأَرضِ.. والَّذي يَرَى الأَحداثَ المُستَتِرةَ بحُجُبِ الماضِي المُظلِمةِ مُنذُ زَمَنِ سَيِّدِنا آدَمَ عَلَيهِ السَّلَام، بل حَظِيَ برُؤيَتِه تَعالَى.. إنَّ هذا النَّظَرَ النُّورانِيَّ والبَصِيرةَ النّافِذةَ للمُستَقبَلِ، لا رَيبَ أنَّه قد رَأَى الأَقطابَ العِظامَ وأَئِمّةَ وَرَثةِ النُّبوّةِ والمَهدِيِّين المُتَسَلسِلِين وَراءَ الحَسَنِ والحُسَينِ رَضِيَ الله عَنهُمَا، فقَبَّل رَأْسَيْهما باسمِ أُولَئِك جَمِيعًا.

نعم، إنَّ في تَقبِيلِه ﷺ رَأْسَ الحَسَنِ رَضِيَ الله عَنهُ حِصّةً عَظِيمةً للشَّيخِ الكَيلانِيِّ.

[النكتة الثالثة: حول معنى قوله تعالى: (إلا المودَّة في القربى)]

النُّكتة الثالثة:

إنَّ مَعنَى قَولِه تَعالَى: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ -على قَولٍ- هو: أنَّ الرَّسُولَ الأَكرَمَ ﷺ لَدَى قِيامِه بمُهِمّةِ الرِّسالةِ لا يَسأَلُ أَجْرًا مِن أَحَدٍ، إلّا مَحَبّةَ آلِ بَيتهِ فحَسْبُ.

وإذا قِيلَ: إنَّ أَجْرًا مِن حيثُ قَرابةُ النَّسْلِ قد أُخِذ بنَظَرِ الِاعتِبارِ حَسَبَ هذا المَعنَى، بَينَما الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ تَدُلُّ على أنَّ وَظيفةَ الرِّسالةِ تَستَمِرُّ مِن حيثُ التَّقَرُّبُ إلى اللهِ بالتَّقوَى لا مِن حَيثُ قَرابةُ النَّسْلِ.

الجَوابُ: إنَّ الرَّسُولَ ﷺ قد شاهَدَ بنَظَرِ النُّبوّةِ الأَنِيسِ بالغَيبِ: أنَّ آلَ بَيتِه سيَكُونُون بمَثابةِ شَجَرةٍ نُورانِيّةٍ عَظِيمةٍ تَمتَدُّ أَغصانُها وفُرُوعُها في العالَمِ الإِسلامِيّ، وأنَّ الغالِبِيّةَ العُظمَى مِمَّن سيُؤَدُّونَ وَظِيفةَ الإِرشادِ والهِدايةِ في دائِرةِ الكَمالاتِ الإِنسانِيّةِ لمُختَلِفِ طَبَقاتِ العالَمِ الإِنسانِيِّ سيَكُونُونَ مِن آلِ البَيتِ، وسيَظهَرُونَ بأَكثَرِيَّتِهِمُ المُطْلَقةِ مِنهُم.

وقد كَشَف عن قَبُولِ دُعاءِ أُمَّتِه بحَقِّ آلِ البَيتِ الوارِدِ في التَّشهُّدِ وهو: “اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعَلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيتَ عَلى إبرَاهِيمَ وعَلى آلِ إبراهِيمَ، في العالَمِين، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ”، أي: كما أنَّ مُعظَمَ المُرشِدِين الهادِين النُّورانيِّين مِن مِلّةِ إبراهِيمَ عَلَيهِ السَّلَام هم أَنبِياءُ مِن نَسْلِه وآلِه، كذلك رَأَى ﷺ أنَّ أَقطابَ آلِ بَيتِه يكُونُون كأَنبِياءِ بني إِسرائيلَ في الأُمّةِ المُحَمَّديّة، يُؤَدُّون وَظِيفةَ خِدمةِ الإسلامِ العَظِيمةِ في شَتَّى طُرُقِها ومَسالِكِها. ولِأَجْلِ هذا أُمِرَ ﷺ أن يقُولَ: ﴿لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، وطَلَب مَوَدّةَ أُمَّتِه لآلِ بَيتِه.

والَّذي يُؤَيِّدُ هذه الحَقِيقةَ هو ما جاء في رِواياتٍ أُخرَى أنَّه ﷺ قال: “يا أيُّها النّاسُ.. إنِّي قد تَرَكْتُ فيكُم ما إنْ أَخَذتُم به لن تَضِلُّوا: كِتابَ اللهِ وعِتْرَتي أَهلَ بَيتِي”، ذلك لأنَّ آلَ البَيتِ هم مَنبَعُ السُّنّةِ الشَّرِيفةِ، والمُحافِظُون علَيْها، والمُكَلَّفون أوَّلًا بالِالتِزامِ بها.

وهكذا وضَحَتْ حَقِيقةُ هذا الحَدِيثِ بِناءً على ما ذُكِر آنِفًا، أي: بالِاتِّباع التّامِّ للكِتابِ والسُّنّة الشَّرِيفةِ. أي: أنَّ المُرادَ مِن آلِ البَيتِ مِن حيثُ وَظيفةُ الرِّسالةِ هو اتِّباعُ السُّنّة النَّبوِيّةِ؛ فالَّذي يَدَعُ السُّنّةَ الشَّرِيفةَ لا يكُونُ مِن آلِ البَيتِ حَقِيقةً، كما لا يُمكِنُ أن يكُونَ مُوالِيًا حَقِيقِيًّا لآلِ البَيتِ.

ثمَّ إنَّ الحِكْمةَ في إرادَتِه ﷺ في جَمْعِ الأُمّةِ حَولَ آلِ البَيتِ هي: أنَّ الرَّسُولَ الكَرِيمَ ﷺ قد عَلِم بإِذنٍ إِلٰهِيٍّ أنَّ آلَ البَيتِ سيَكثُرُ نَسْلُهُم بمُرُورِ الزَّمَن، بَينَما الإسلامُ سيَؤُولُ إلى الضَّعْفِ، فيَلزَمُ والحالةُ هذه وُجُودُ جَماعةٍ مُتَرابِطةٍ مُتَسانِدةٍ في مُنتَهَى القُوّةِ والكَثْرةِ، لِتكُونَ مَرْكَزًا ومِحْوَرًا لِرُقيِّ العالَمِ الإسلاميِّ المَعنَويِّ، وقد تَفَكَّر ﷺ في هذا بإِذنٍ إِلٰهِيٍّ، فرَغِبَ في جَمْعِ أُمَّتِه حَولَ آلِ بَيتِه.

نعم، إنَّ أَفرادَ آلِ البَيتِ وإن لم يكُونُوا سابِقِين ومُتَقدِّمِين على غيرِهم في الإيمانِ والِاعتِقادِ كَثِيرًا، إلّا أنَّهم يَسبِقُونَهم كَثِيرًا في التَّسلِيمِ والِالتِزامِ والوَلاءِ للإسلامِ، لأنَّهم يُوالُون الإسلامَ فِطْرةً وطَبْعًا ونَسْلًا؛ فالمُوالاةُ الطَّبْعيةُ لا تُتْرَك ولو كانَت في ضَعفٍ وعَدَمِ شُهْرةٍ أو حتَّى على باطِلٍ، فكيف بالمُوالاةِ لِحَقيقةٍ ارتَبَطَت بها سِلسِلةُ أَجدادِه الَّذين ضَحَّوا بأَرواحِهم رَخِيصةً في سَبِيلِها فنالُوا الشَّرَفَ بها، فتلك الحَقِيقةُ هي في مُنتَهَى القُوّةِ وذِروةِ الشَّرفِ وعلى الحَقِّ المُبِينِ، أفيَستَطِيعُ مَن يَشعُرُ بَداهةً بمَدَى أَصالةِ هذه المُوالاةِ الفِطْرِيّةِ أن يَتْرُكَها؟!

فأَهلُ البَيتِ بهذا الِالتِزامِ الشَّدِيدِ للإسلامِ -وهو التِزامٌ فِطرِيٌّ- يَرَون الأَمارةَ البَسِيطةَ بجانِبِ الإسلامِ بُرهانًا قَوِيًّا، لِأَنَّهم يُوالُون الإسلامَ فِطْرةً، بَينَما غيرُهم لا يَلتَزِمُ إلّا بعدَ اقتِناعِه بالبُرهانِ القَوِيّ.

[النكتة الرابعة: مسألة الإمامة بين السنة والشيعة]

النُّكتةُ الرابعة:

لِمُناسَبةِ النُّكتةِ الثّالثةِ نُشِيرُ إشارةً قَصِيرةً إلى مَسأَلةٍ ضُخِّمَت إلى دَرَجةٍ كبيرةٍ بحَيثُ دَخَلَت كُتُبَ العَقائدِ وتَسَلْسَلَت معَ أُسُسِ الإيمانِ، تلك هي مَسأَلةُ النِّزاعِ بينَ أَهلِ السُّنّة والشِّيعة.

والمَسأَلةُ هي أنَّ أَهلَ السُّنّةِ والجَماعةِ يقُولُون: “إنَّ سَيِّدَنا عَلِيًّا رَضِيَ الله عَنهُ هو رابِعُ الخُلَفاء الرّاشِدِين، وإنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ الله عَنهُ هو أَفضَلُ مِنه وأَحَقُّ بالخِلافةِ، فتَسَلَّم الخِلافةَ أوَّلًا”.

والشِّيعةُ يقُولُون: “إنَّ حَقَّ الخِلافةِ كان لِعَليٍّ رَضِيَ الله عَنهُ إلّا أنَّه ظُلِمَ، وعليٌّ رَضِيَ الله عَنهُ أَفضَلُ مِنَ الكُلِّ”، وخُلاصةُ ما يُورِدُونه مِن أَدِلّةٍ لِدَعواهم هي أنَّهم يقُولُون: إنَّ وُرُودَ أَحاديثَ شَرِيفةٍ كَثِيرةٍ في فَضائِلِ سَيِّدِنا عليٍّ رَضِيَ الله عَنهُ وكَونَه مَرجِعًا للأَكثَرِيّةِ المُطلَقةِ مِنَ الأَولياءِ والطُّرُقِ الصُّوفيّة، حتَّى لُقِّبَ بسُلطانِ الأَولياءِ، معَ ما يَتَّصِفُ به مِن صِفاتٍ فائِقةٍ في العِلمِ والشَّجاعةِ والعَبادةِ، فَضْلًا عنِ العَلاقةِ القَوِيّةِ الَّتي يُظهِرُها الرَّسُولُ ﷺ به وبآلِ البَيتِ الَّذين يَأتُون مِن نَسْلِه.. كلُّ ذلك يَدُلُّ على أنَّه الأَفضَلُ، فالخِلافةُ كانَت مِن حَقِّه ولكِن اغتُصِبَت مِنه.

[الرد على دعوى الشيعة في أفضلية سيدنا علي رضي الله عنه وأحقيته بالخلافة]

الجَوابُ: إنَّ إقرارَ سَيِّدِنا عليٍّ رَضِيَ الله عَنهُ نَفسِه مِرارًا وتَكرارًا، واتِّباعَه الخُلَفاءَ الثَّلاثةَ طَوالَ عِشرِين سَنةً وأَكثرَ، وتَوَلِّيَه وَظِيفةً أَشبَهَ بوَظِيفةِ “شَيخِ الإِسلامِ”.. كلُّ ذلك يَجْرَحُ دَعوَى الشِّيعةِ.

ثمَّ إنَّ الفُتُوحاتِ الإسلاميّةَ وجِهادَ الأَعداءِ زَمَنَ الخُلَفاءِ الثَّلاثةِ، بخِلافِ ما حَدَث زَمَنَ خِلافةِ عليٍّ رَضِيَ الله عَنهُ مِن حَوادِثَ وفِتَنٍ، تَجْرَحُ أيضًا دَعوَى الشِّيعةِ مِن جِهةِ الخِلافةِ، أي إنَّ دَعوَى أَهلِ السُّنّة والجَماعةِ حَقٌّ.

[بين شيعة الولاية وشيعة الخلافة]

فإن قِيلَ: إنَّ الشِّيعةَ قِسمانِ: أَحَدُهما شِيعةُ الوِلايةِ، والآخَرُ شِيعةُ الخِلافةِ، فلْيَكُن هذا القِسمُ الثاني غيرَ مُحِقٍّ باختِلاطِ السِّياسةِ والأَغراضِ في دَعاواهم، ولكن لا أَغراضَ ولا أَطماعَ سِياسيّةً في القِسمِ الأوَّل؛ إلّا أنَّ شِيعةَ الوِلايةِ قد الْتَحَقَت بشِيعةِ الخِلافة، أي إنَّ قِسمًا مِنَ الأَولياءِ في الطُّرُقِ الصُّوفيّةِ يَرَوْن أنَّ سَيِّدَنا علِيًّا رَضِيَ الله عَنهُ هو الأَفضَلُ، فيُصَدِّقُون دَعوَى شِيعةِ الخِلافةِ الَّذين هم بجانِبِ السِّياسةِ.

[زاويتان للنظر إلى شخصية سيدنا علي رضي الله عنه]

الجَوابُ: إنَّه يَنبَغي النَّظَرُ إلى سَيِّدِنا عليٍّ رَضِيَ الله عَنهُ مِن زاوِيَتَينِ أو مِن جِهَتَينِ:

الجِهةُ الأُولَى: زاوِيةُ فَضائلِه الشَّخصِيّةِ ومَقامِه الشَّخصِيِّ الرَّفيعِ.

الجِهةُ الثّانيةُ: زاوِيةُ تَمثِيلِه الشَّخصَ المَعنَويَّ لآلِ البَيتِ، والشَّخصُ المَعنَويُّ لآلِ البَيتِ يَعكِسُ نَوعًا مِن ماهِيّةِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ.

فبِاعتِبارِ الجِهةِ الأُولَى: إنَّ جَمِيعَ أَهلِ الحَقِيقةِ وفي مُقدِّمَتِهم سَيِّدُنا عليٌّ رَضِيَ الله عَنهُ يُقَدِّمُون سَيِّدَنا أبا بَكرٍ وعُمرَ رَضِيَ الله عَنهُمَا، فقد رَأَوا مَقامَهُما أَكثَرَ رِفعةً في خِدمةِ الإسلامِ والقُرْبِ الإِلٰهِيِّ.

ومِن حيثُ الجِهةُ الثّانيةُ أي: كَونُ سَيِّدِنا عليٍّ رَضِيَ الله عَنهُ مُمَثِّلًا عنِ الشَّخصِ المَعنَويِّ لآلِ البَيتِ، فالشَّخصُ المَعنَويُّ لآلِ البَيتِ مِن حيثُ كَونُه مُمَثِّلًا للحَقِيقةِ المُحَمَّديّةِ، لا يُقارَنُ ولا يُوازَنُ بِشَيءٍ؛ وكَثرةُ الأَحادِيثِ النَّبَويّةِ الوارِدةِ في الثَّناءِ على سَيِّدِنا عليٍّ رَضِيَ الله عَنهُ وبَيانِ فَضائِلِه هي لِأَجْلِ هذه الجِهةِ الثّانيةِ؛ ومِمّا يُؤيِّدُ هذه الحَقِيقةَ رِوايةٌ صَحِيحةٌ بهذا المَعنَى: ” إنَّ نَسْلَ كلِّ نبيٍّ مِنه، وأنا نَسْلي مِن عَلِيٍّ “.‌

[ما سبب كثيرة أحاديث فضائل سيدنا علي رضي الله عنه]

أمّا سَبَبُ كَثْرةِ انتِشارِ الأَحادِيثِ بحَقِّ شَخْصِيّةِ سيِّدِنا عليٍّ رَضِيَ الله عَنهُ والثَّناءِ علَيْه أَكثَرَ مِن سائِرِ الخُلَفاءِ الرّاشِدِين، فهو أنَّ أَهلَ السُّنّةِ والجَماعةِ وهم أَهلُ الحَقِّ، قد نَشَروا الرِّواياتِ الوارِدةَ بحَقِّ سيِّدِنا عليٍّ رَضِيَ الله عَنهُ تِجاهَ هُجُومِ الأُمَويِّين والخَوارِجِ علَيْه، وتَنقِيصِهم مِن شَأْنِه ظُلْمًا، بَينَما الخُلَفاءُ الرّاشِدُون الآخَرُون لم يَكُونوا عُرْضةً لِهذه الدَّرَجةِ مِنَ النَّقْدِ والجَرْحِ، لِذا لم يَرَوا داعِيًا لنَشْرِ الأَحادِيثِ الذّاكِرةِ لفَضائِلِهم.

ثمَّ إنَّه ﷺ قد رَأَى بنَظَرِ النُّبوّةِ أنَّ سَيِّدَنا عَلِيًّا رَضِيَ الله عَنهُ سيَتَعرَّضُ لِحَوادثَ أَلِيمةٍ وفِتَنٍ داخِلِيّةٍ، فسَلّاه، وأَرْشَدَ الأُمّةَ بأَحادِيثَ شَرِيفةٍ مِن أَمثالِ: “مَن كُنتُ مَوْلاه فعَلِيٌّ مَوْلاه”، وذلك لِيُنقِذَ سَيِّدَنا عَلِيًّا مِنَ اليَأْسِ، ويُنجِيَ الأُمّةَ مِن سُوءِ الظَّنِّ به.

إنَّ المَحَبّةَ المُفرِطةَ الَّتي يُوْلِيها شِيعةُ الوِلايةِ لِسَيِّدنا علِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ وتَفضِيلَهم لَه مِن جِهةِ الطَّرِيقةِ لا يَجعَلُهم مَسؤُولين بمِثلِ مَسؤُوليّةِ شِيعةِ الخِلافةِ، لأنَّ أَهلَ الوِلايةِ يَنظُرُون نَظَرَ المَحَبّةِ إلى مُرشِدِيهم حَسَبَ مَسْلَكِهم؛ ومِن شَأْنِ المُحِبِّ الغُلُوُّ والإِفراطُ والرَّغبةُ في أن يَرَى مَحبُوبَه أَعلَى مِن مَقامِه؛ فهُم يَرَوْن الأَمرَ هكذا فِعلًا.. فأَهلُ الأَحوالِ القَلبِيّةِ يُمكِن أن يُعذَروا في أَثناءِ غَلَيانِ المَحبّةِ لَدَيهِم وغَلَبَتِها علَيهِم، ولكِن بِشَرطِ ألّا يَتَعدَّى تَفضِيلُهمُ النّاشِئُ مِنَ المَحبّةِ إلى ذَمِّ الخُلَفاءِ الرّاشِدِين وعَداوَتِهم، وألّا يَخرُجَ عن نِطاقِ الأُصُولِ الإسلامِيّةِ.

أمّا شِيعةُ الخِلافةِ فنَظَرًا لِدُخُولِ الأَغْراضِ السِّياسِيّةِ فيها، فلا يُمكِنُهم أن يَنجُوا مِنَ العَداءِ والأَغراضِ الشَّخْصِيّة، فيَفقِدُون حَقَّ الِاعتِذارِ لَهُم، ويُحرَمُون مِنه؛ حتَّى إنَّهم يُظهِرُون انتِقامَهُم مِن “عُمَرَ” في صُورةِ حُبِّ “عَلِيٍّ”، وذلك لأنَّ القَومِيّةَ الإِيرانيّةَ قد جُرِحَت بِيَدِ سَيِّدِنا عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُ، حتَّى أَصبَحُوا مِصْداقَ القَولِ: “لا لِحُبِّ عَلِيٍّ، بل لِبُغْضِ عُمَرَ”؛ وإنَّ خُرُوجَ عَمْرِو بنِ العاصِ على سَيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ وقِتالَ عُمَرَ بنِ سَعْدٍ سَيِّدَنا الحُسَينَ رَضِيَ الله عَنهُ في المَعرَكةِ الفَجِيعةِ المُؤْلِمةِ.. كلُّ ذلك أَوْرَث الشِّيعةَ غَيظًا شَدِيدًا وعَداءً مُفرِطًا لِاسمِ “عُمَرَ”.

أمّا شِيعةُ الوِلايةِ فليس لَهُم حَقُّ انتِقادِ أَهلِ السُّنّةِ والجَماعةِ، لأنَّ أَهلَ السُّنّة كما لا يَنتَقِصُون مِن شَأْنِ سَيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ فهُم يُحِبُّونه حُبًّا خالِصًا جادًّا، ولَكِنَّهُم يَحْتَرِزُون مِنَ الإفراطِ في الحُبِّ الوارِدِ ضَرَرُه وخَطَرُه في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ.

فإِنَّ الثَّناءَ النَّبَوِيَّ لِشِيعةِ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ كما وَرَد في أَحادِيثَ نَبَويّةٍ، إنَّما يَعُود إلى أَهْلِ السُّنّةِ والجَماعةِ، لأنَّهُم هُمُ المُتَّبِعُون لِسَيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ، على وَفْقِ الِاستِقامةِ، لِذا فهُم شِيعةُ سيِّدِنا عليٍّ رَضِيَ الله عَنهُ.

وقد جاءَ في حَدِيثٍ صَحِيحٍ صَراحةً: أنَّ خُطُورةَ الغُلُوِّ في مَحَبّة سَيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ كخُطُورةِ الغُلُوِّ في مَحَبّةِ سَيِّدِنا عِيسَى عَلَيهِ السَّلَام على النَّصارَى.

[حول المفاضلة بين سيدنا أبي وسيدنا علي رضي الله عنه]

فإن قالَت شِيعةُ الوِلايةِ: إنَّه بَعدَ قَبُولِ فَضائِلَ خارِقةٍ لِسَيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ لا يُمكِنُ قَبُولُ تَفضِيلِ سَيِّدِنا الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عَنهُ علَيْه.

الجَوابُ: إذا ما وُضِعَ في كِفّةِ مِيزانٍ الفَضائِلُ الشَّخصِيّةُ لِسَيِّدِنا أبي بَكرٍ رَضِيَ الله عَنهُ أو فَضائِلُ سَيِّدِنا عُمَرَ الفارُوقِ رَضِيَ الله عَنهُ، وما قامَ به كلٌّ مِنهُما مِن خِدْماتٍ جَلِيلةٍ مِن حَيثُ وِراثةُ النُّبوّةِ زَمَنَ خِلافَتِهما؛ ووُضِعَ في الكِفّةِ الأُخرَى المَزايا الخارِقةُ لِسَيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ ومُجاهَداتُ الخِلافةِ في زَمانِه وما اضْطُرَّ إلَيْه مِن مَعارِكَ داخِلِيّةٍ دامِيةٍ أَلِيمةٍ، وما تَعرَّضَ لَه بهذا مِن سُوءِ الظَّنِّ، فلا رَيبَ أنَّ كِفّةَ سَيِّدِنا الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عَنهُ أو كِفّةَ سَيِّدِنا عُمَرَ الفارُوقِ رَضِيَ الله عَنهُ أو كِفّةَ سَيِّدِنا ذِي النُّورَينِ رَضِيَ الله عَنهُ هي الَّتي تكُونُ راجِحةً؛ وهذا الرُّجْحانُ هو الَّذي شاهَدَه أَهلُ السُّنّةِ والجَماعةِ، وبَنَوا تَفضِيلَهم علَيْه.

ثمَّ إنَّ رُتبةَ النُّبوّةِ أَسْمَى وأَرْفَعُ بكَثِيرٍ مِن دَرَجةِ الوِلايةِ، بحَيثُ إنَّ جَلْوةً بوَزْنِ دِرْهَمٍ مِنَ النُّبوّةِ تَفْضُلُ رِطْلًا مِن جَلْوةِ الوِلايةِ، كما أَثبَتْناه في “الكَلِمةِ الثّانِيةَ عَشْرةَ والكَلِمةِ الرّابِعةِ والعِشرِين” مِنَ “الكَلِماتِ”، فمِن زاوِيةِ النَّظَرِ هذه، فإنَّ حِصّةَ كلٍّ مِنَ الصِّدِّيقِ والفارُوقِ رَضِيَ الله عَنهُمَا مِن حَيثُ وِراثةُ النُّبوّةِ وتَأْسِيسُ أَحكامِ الرِّسالةِ قد زِيدَتْ مِنَ الجانِبِ الإِلٰهِيِّ، فالتَّوفِيقُ الَّذي حالَفَهُما في زَمَنِ خِلافَتِهما قد صارَ دَلِيلًا على هذا لَدَى أَهلِ السُّنّة والجَماعةِ؛ وحيثُ إنَّ فَضائِلَ سَيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ الشَّخصِيّةَ لا تُسقِطُ مِن حُكْمِ تلك الحِصّةِ الزّائِدةِ الكَثِيرةِ الآتِيةِ مِن وِراثةِ النُّبوّة، فقد أَصْبَحَ سَيِّدُنا عَلِيٌّ رَضِيَ الله عَنهُ “شَيْخًا لِلإِسلامِ” للشَّيْخَينِ المُكَرَّمَينِ زَمَنَ خِلافَتِهما، وكان في طاعَتِهِما.

إنَّ أَهلَ الحَقِّ، أَهلَ السُّنّةِ والجَماعةِ الَّذين يُحِبُّون سَيِّدَنا عَلِيًّا رَضِيَ الله عَنهُ ويُوَقِّرُونه، كيف لا يُحِبُّون مَن كان سَيِّدُنا عَلِيٌّ رَضِيَ الله عَنهُ نَفسُه يُحِبُّهما ويُجِلُّهما؟!

لِنُوضِّحْ هذه الحَقِيقةَ بمِثالٍ: رَجُلٌ ثَرِيٌّ جِدًّا وُزِّع مِيراثُه وأَمْوالُه الطّائِلةُ على أَوْلادِه، فأُعطِيَ لأَحَدِهِم عِشرُونَ رِطلًا مِنَ الفِضّةِ وأَربَعةُ أَرطالٍ مِنَ الذَّهَبِ، وأُعطِيَ لِآخَرَ خَمْسةُ أَرطالٍ مِنَ الفِضّةِ وخَمْسةُ أَرطالٍ مِنَ الذَّهَبِ، وأُعطِيَ لِآخَرَ ثَلاثةُ أَرطالٍ مِنَ الفِضّةِ وخَمْسةُ أَرطالٍ مِنَ الذَّهَبِ؛ فلا شَكَّ أنَّ الأَخِيرَينِ رَغمَ أنَّهما قد قَبَضا أَقَلَّ مِنَ الأَوَّلِ كَمِيّةً إلّا أنَّهما قَبَضا أَعلَى مِنه نَوعِيّةً.

وهكذا في ضَوءِ هذا المِثالِ، إنَّ الزِّيادةَ القَلِيلةَ في حِصّةِ الشَّيخَينِ مِن ذَهَبِ حَقِيقةِ الأَقرَبِيّةِ الإِلٰهِيّةِ المُتَجلِّيةِ مِن وِراثةِ النُّبوّةِ وتَأْسِيسِ أَحكامِ الرِّسالةِ، تَرْجَحُ على الكَثِيرِ مِنَ الفَضائلِ الشَّخصِيّةِ وجَواهِرِ الوِلايةِ والقُرْبِ الإِلٰهِيِّ لِسَيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ؛ فيَنبَغِي في المُوازَنةِ النَّظَرُ مِن هذه الزّاوِيةِ وأَخْذُها بنَظَرِ الِاعتِبارِ، وإلّا تَتغَيَّرُ صُورةُ الحَقِيقةِ إن كانَتِ المُوازَنةُ تُعقَدُ معَ الشَّجاعةِ والعِلمِ الشَّخصِيِّ وجانِبِ الوِلايةِ.

ثمَّ إِنَّه لا يُمكِنُ المُقارَنةُ مِن حَيثُ الشَّخصِيّةِ المَعنَوِيّة لِآلِ البَيتِ المُتَمثِّلةِ في شَخصِ سَيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ، والحَقِيقةِ المُحَمَّدِيّةِ الَّتي تَتَجَلَّى في تلك الشَّخصِيّةِ المَعنَوِيّة مِن حيثُ الوِراثةُ المُطلَقةُ؛ وذلك لأنَّ السِّرَّ العَظِيمَ للرَّسُولِ الأَعظَمِ ﷺ في هذا الجانِبِ.

[نقيصةٌ مُخْجِلةٌ بحق سيدنا علي يُفضي إليها مذهب شيعة الخلافة]

أمَّا شِيعةُ الخِلافةِ فلا حَقَّ لَهُم غيرُ الخَجَلِ أَمامَ أَهلِ السُّنّة والجَماعةِ، لأنَّ هَؤُلاء يَنتَقِصُون من شَأْنِ سَيِّدِنا عليٍّ رَضِيَ الله عَنهُ في دَعواهُمُ الحُبَّ المُفرِطَ له، بل يُفضِي مَذهَبُهم إلى وَصْمِه بسُوءِ الخُلُق -حاشاه- حيثُ يَقُولُون: إنَّ سَيِّدَنا عَلِيًّا رَضِيَ الله عَنهُ قد ماشَى سَيِّدَنا الصِّدِّيقَ والفارُوقَ رَضِيَ الله عَنهُمَا مع أنَّهما غيرُ مُحِقَّينِ، واتَّقَى مِنهُما تُقاةً، وباصْطِلاحِ الشِّيعةِ: إنَّه عَمِلَ بـ”التَّقِيّةِ”، بمَعنَى أنَّه كان يَخافُهُما وكان يُرائِيهِما في أَعمالِه! إنَّ وَصْفَ مِثلِ هذا البَطَلِ الإسلاميِّ العَظِيمِ الَّذي نالَ اسمَ “أَسَدُ اللهِ”، وأَصبَحَ قائِدًا لِلصِّدِّيقِينَ ودَلِيلًا لَهُما.. أَقُولُ: إنَّ وَصْفَه بأنَّه كان يُرائي ويَخافُ ويَتَصنَّعُ بالحُبِّ لِمَن لا يُحِبُّهم حَقًّا، واتِّباعِه لِغَيرِ المُحِقِّين أَكثَرَ مِن عِشرِين عامًا ومُسايَرَتِهما تحتَ سَطْوةِ الخَوْفِ، ليس مِنَ المَحَبّةِ في شَيءٍ، وسَيِّدُنا عَلِيٌّ رَضِيَ الله عَنهُ يَتَبَرَّأُ مِن مِثلِ هذه المَحَبّةِ.

وهكَذا، فإنَّ مَذهَبَ أَهلِ الحَقِّ لا يَنقُصُ مِن شَأْنِ سَيِّدنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ بأَيّةِ جِهةٍ كانَت، ولا يَتَّهِمُه في أَخْلاقِه قَطْعًا، ولا يُسنِدُ إلى مِثلِ هذا البَطَلِ المِقْدامِ الخَوفَ، ويَقُولُون: لو لم يَكُن سيِّدُنا عَلِيٌّ رَضِيَ الله عَنهُ يَرَى الحَقَّ في الخُلَفاءِ الرَّاشِدِين لَمَا كان يُعطِيهمُ الوَلاءَ لِدَقيقةٍ واحِدةٍ، وما كان يَنقادُ لِحُكمِهم أَصْلًا.

بمَعنَى أنَّه رَضِيَ الله عَنهُ قد عَرَف أنَّهُم على حَقٍّ، وأَقَرَّ بفَضْلِهم، فبَذَل شَجاعَتَه الفائِقةَ في سَبِيلِ مَحَبّةِ الحَقِّ.

[مذهب أهل السنة والجماعة وسطٌ بين الإفراط والتفريط]

نُحَصِّلُ ممّا سَبَق: أنَّه لا خَيرَ في الإفراطِ والتَّفرِيطِ في كلِّ شَيءٍ، وإنَّ الِاستِقامةَ هي الحَدُّ الوَسَطُ الَّذي اختارَه أَهلُ السُّنّة والجَماعةِ، ولكِن معَ الأَسَفِ كما تَسَتَّرَت بعضُ أَفكارِ الخَوارِجِ والوَهّابيّةِ بسِتارِ أَهلِ السُّنّةِ والجَماعةِ، فإنَّ قِسمًا مِنَ المَفتُونِين بالسِّياسة أيضًا والمُلحِدِين يَنتَقِدُون سَيِّدَنا عَلِيًّا رَضِيَ الله عَنهُ ويقُولُون: “إنَّه لم يُوَفَّق كامِلًا في إدارةِ دَفّةِ الخِلافةِ لِجَهلِه -حاشاه- بالسِّياسةِ، فلم يَقْدِر على إدارةِ الأُمّةِ في زَمانِه”، فإِزاءَ هذا الِاتِّهامِ الباطِلِ مِن هؤلاء اتَّخَذ الشِّيعةُ طَوْرَ الغَيظِ والِاستِياءِ مِن أَهلِ السُّنّة؛ والحالُ أنَّ دَساتِيرَ أَهلِ السُّنّة وأُسُسَ مَذهَبِهم لا تَستَلزِمُ هذه الأَفكارَ بل تُثبِتُ عَكْسَها، لِذا لا يُمكِنُ إِدانةُ أَهلِ السُّنّةِ بأَفكارٍ تَرِدُ مِنَ الخَوارِجِ ومِنَ المُلحِدِين قَطْعًا، بل إنَّ أَهلَ السُّنّةِ هم أَكثرُ وَلاءً وحُبًّا مِنَ الشِّيعةِ لِسَيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ، فهُم في جَمِيعِ خُطَبِهِم ودَعَواتِهم يَذكُرُون سَيِّدَنا عَلِيًّا رَضِيَ الله عَنهُ بما يَستَحِقُّه مِنَ الثَّناءِ وعُلُوِّ الشَّأْنِ ولا سِيَّما الأَوْلِياءُ والأَصْفِياءُ الَّذين هُم بأَكثَرِيَّتِهمُ المُطلَقةِ على مَذْهَبِ أَهلِ السُّنّة والجَماعةِ، فهُم يَتَّخِذُونه مُرشِدَهم وسَيِّدَهم.. فما يَنبَغِي للشِّيعةِ أن يُجابِهوا أَهلَ السُّنّةِ بالعَداءِ تارِكِين الخَوارِجَ والمُلحِدِين الَّذين هُم أَعداءُ الشِّيعةِ وأَهلِ السُّنّة معًا، حتَّى يَترُكُ قِسمٌ مِنَ الشِّيعةِ السُّنّةَ النَّبـَويةَ عِنادًا لِأَهلِ السُّنّة!

وعلى كلِّ حالٍ فقد أَسْهَبْنا في هذه المَسأَلةِ حيثُ إنَّها قد بُحِثَت كَثِيرًا بينَ العُلَماء.

[نداء إلى السنة والشيعة]

فيا أَهلَ الحَقِّ الَّذين هُم أَهلُ السُّنّةِ والجَماعةِ..

ويا أيُّها الشِّيعةُ الَّذين اتَّخَذْتُم مَحَبّةَ أَهلِ البَيتِ مَسْلَكًا لكُم..

ارْفَعُوا فَوْرًا هذا النِّزاعَ فيما بَينَكُم، هذا النِّزاعَ الَّذي لا مَعنَى له ولا حَقِيقةَ فيه، وهُو باطِلٌ ومُضِرٌّ في الوَقْتِ نَفسِه؛ وإن لم تُزِيلُوا هذا النِّزاعَ فإنَّ الزَّندَقةَ الحاكِمةَ الآنَ حُكْمًا قَوِيًّا تَستَغِلُّ أَحَدَكُما ضِدَّ الآخَرِ وتَستَعمِلُه أَداةً لإِفناءِ الآخَرِ، ومِن بَعدِ إفنائِه تُحَطَّمُ تلك الأَداةُ أيضًا.

فيَلزَمُكُم نَبْذُ المَسائِلِ الجُزئيّةِ الَّتي تُثِيرُ النِّزاعَ، لأنَّكُم أَهلُ التَّوحِيدِ، بَينَكُم مِئاتُ الرَّوابِطِ المُقدَّسةِ الدّاعِيةِ إلى الأُخُوّةِ والِاتِّحادِ.

❀   ❀   ❀

المقام الثاني‌

سيُخَصَّصُ لِبَيانِ الحَقِيقةِ الثّانِيةِ لِلآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾1هذا المقامُ الثّاني قد أُلّفَ مُستَقِلًّا، وهو “اللَّمْعةُ الحادِيةَ عَشْرةَ”..

❀   ❀   ❀

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى