المكتوبات

المكتوب التاسع والعشرون: تسعة مباحث مهمة.

[هذا المكتوب يحتوي المباحث التالية: مباحث قرآنية عالية، رسالة رمضان وحكمة الصيام، الإعجاز التوافقي في القرآن، تفسير آية النور، رسالة الهجمات الستة من الشياطين على دعاة الدين، التحذير من تحريف الشعائر، التلويحات التسعة حول التصوف]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

إنَّ الحُرُوفَ المُقَطَّعةَ في أَوائِلِ السُّوَرِ، شِفْراتٌ إلٰهِيّةٌ، يُعطِي بها سُبحانَه بعضَ الإشاراتِ الغَيبِيّةِ إلى عَبدِه الخاصِّ، ومِفتاحُ تلك الشِّفرةِ لَدَى ذلك العَبدِ الخاصِّ، ولَدَى وَرَثَتِه.
المحتويات عرض

المكتوب التاسع والعشرون‌

هذا “المكتوبُ التاسعُ والعِشرُون” عبارةٌ عن تِسعةِ أَقسام.‌

[القسم الأول: مباحث قرآنية نفيسة]

وهذا القِسمُ هو الأوَّلُ مِنه، يتَضَمَّنُ تِسعَ نِكاتٍ.‌

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾

أَخِي العَزيزَ الوَفِيَّ الصّادِقَ، وصاحِبِي الخالِصَ الجادَّ في الخِدمةِ القُرآنيّةِ..

إنَّكم تَطلُبُون في رِسالَتِكم هذه المَرَّةَ جَوابًا عن مَسأَلةٍ مُهِمَّةٍ، لا يَسمَحُ به وَقتِي وأَحوالي.

أخي، لقدِ ازدادَ كَثِيرًا هذه السَّنةَ عَدَدُ الَّذين يَكتُبُون “رَسائِلَ النُّورِ” والحَمدُ للهِ، ويَأْتي إليَّ التَّصحِيحُ الثَّاني فأَنشَغِلُ به بصُورةٍ سَرِيعةٍ طَوالَ اليَومِ، لِذا يَتَأَخَّرُ كَثِيرٌ مِن أُمُورِي المُهِمّةِ، إذ أَرَى أنَّ هذه الوَظِيفةَ أَهَمُّ مِن غَيرِها، ولا سِيَّما في شَهرَيْ شَعبانَ ورَمَضانَ، حيثُ للقَلبِ حَظٌّ أَكبَرُ مِنَ العَقلِ، وتَشرَعُ الرُّوحُ بالحَرَكةِ.. لِهذا أُؤَجِّلُ هذه المَسأَلةَ الجَليلةَ إلى وَقتٍ آخَرَ بمَشِيئةِ اللهِ، فمَتَى ما سَنَحَ للقَلبِ شَيءٌ بفَضلِ رَحمَتِه تَعالَى، أَكتُبُه إلَيكم شَيئًا فشَيئًا. والآنَ أُبيِّنُ ثَلاثَ نِكاتٍ1وأَخِيرًا تمَّت في تِسعِ نِكاتٍ.

[النكتة الأولى: حول عدم تناهي معاني القرآن]

النُّكتة الأولى:

“لا تُعرَفُ أَسرارُ القُرآنِ مَعرِفةً كامِلةً، ولم يُدرِكِ المُفَسِّرُون حَقِيقَتَه”. هذا المَفهُومُ له وَجهانِ، والقائِلُون به طائِفَتانِ:

الطَّائفةُ الأولَى: هم أَهلُ الحَقِّ والعِلمِ والتَّدقيقِ. فهم يقُولُون: إنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ كَنزٌ عَظِيمٌ لا يَنفَدُ، وإنَّ كلَّ عَصرٍ يَأْخُذُ حَظَّه مِن حَقائقِه الخَفيّةِ الَّتي هي مِن قَبِيلِ التَّتِمَّاتِ، مع التَّسلِيمِ بنُصُوصِ القُرآنِ ومُحْكَماتِه مِن دُونِ أنْ يَتَعرَّضَ أو يَمَسَّ ما خَفِيَ مِنَ الحَقائقِ مِن حَظِّ أَهلِ العُصُورِ الأُخرَى.

وحَقًّا إنَّ حَقائِقَ القُرآنِ تَتَوضَّحُ أَكثَرَ كلَّما مَضَى الزَّمانُ، ولا يَعنِي هذا أَبَدًا إلقاءَ ظِلِّ الشُّبهةِ على ما بَيَّنَه السَّلَفُ الصّالِحُ مِن حَقائقِ القُرآنِ الظَّاهِرةِ، لأنَّها نُصُوصٌ قاطِعةٌ وأُسُسٌ وأَركانٌ لا بُدَّ مِنَ الإيمانِ بها؛ وقَولُه تَعالَى: ﴿عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ يُوَضِّحُ أنَّ مَعنَى القُرآنِ واضِحٌ مُبِينٌ، فالخِطابُ الإلٰهِيُّ مِن أَوَّلِه إلى آخِرِه يَدُورُ حَولَ تلك المَعاني ويُقَوِّيها حتَّى يَجْعَلَها بدَرَجةِ البَداهةِ؛ لِذا فإنَّ رَفْضَ تلك المَعاني المَنصُوصِ علَيها يُؤَدِّي إلى تَكذِيبِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى (حاشَ للهِ)، وإلى تَزيِيفِ فَهْمِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ (حاشاه). بمَعنَى أنَّ المَعانِيَ المَنصُوصَ علَيها قدِ استُقِيَت مِن مَنبَعِ الرِّسالةِ مُسنَدةً مُتَسلسِلةً، حتَّى إنَّ “ابنَ جَرِيرٍ الطَّبَريَّ” قد أَلَّف تَفسِيرَه الكَبِيرَ الجَليلَ مُسنِدًا مَعانِيَ القُرآنِ جَمِيعَها إلى مَنبَعِ الرِّسالةِ.

الطَّائفةُ الثَّانية: وهم أَصدِقاءُ حَمْقَى، يُفسِدُون أَكثَرَ مِمَّا يُصلِحُون، أو أنَّهم أَعداءٌ ذَوُو دَهاءٍ شَيْطانِيٍّ، يُرِيدُون أن يَتَصَدَّوا للأَحكامِ الإسلامِيّةِ ويُعارِضُوا الحَقائِقَ الإيمانيّةَ، ويُحاوِلُون أن يَجِدُوا مَنفَذًا مِنَ السُّوَرِ القُرآنيّةِ الَّتي كلٌّ مِنها سُورٌ فُولاذِيٌّ لِحِصْنِ القُرآنِ الكَرِيمِ -حَسَبَ تَعبِيرِكم- فهَؤُلاء يُشِيعُون أَمثالَ هذه الأَقوالِ لِيُلْقُوا الشُّبُهاتِ حَولَ الحَقائقِ الإيمانيّةِ والقُرآنيّةِ (حَاشَ لله).

[النكتة الثانية: أسرار القَسَم في القرآن]

النُّكتة الثَّانية:

لقد أَقسَمَ اللهُ سُبحانَه وتَعالَى في القُرآنِ الكَرِيمِ بكَثِيرٍ مِنَ الأَشياءِ، وفي الأَقسامِ القُرآنيّةِ نِكاتٌ عَظِيمةٌ جِدًّا وأَسرارٌ كَثِيرةٌ جِدًّا:

مِنها: أنَّ القَسَمَ في ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ يُشِيرُ إلى إظهارِ الكَونِ كقَصرٍ عَظِيمٍ ومَدِينةٍ عامِرةٍ، والَّذي هو أَساسُ التَّمثِيلِ الرَّائِعِ الوارِدِ في “الكَلِمةِ الحادِيةَ عَشْرةَ”. ومِنها: القَسَمُ في ﴿يسٓ * وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ﴾ يُذَكِّرُ به قُدسِيّةَ إعجازِ القُرآنِ، وأنَّه بدَرَجةٍ مِنَ الأَهَمِّيّةِ بحَيثُ يُقسَمُ به.

والقَسَمُ في ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ يُشِيرُ إلى أنَّ سُقُوطَ النُّجُومِ عَلامةٌ على انقِطاعِ الأَخبارِ الغَيبِيّةِ عنِ الجِنِّ والشَّياطِينِ مَنْعًا لِوُرُودِ شُبهةٍ على الوَحْيِ الإلٰهِيِّ؛ وفي الوَقتِ نَفسِه فإنَّ القَسَم في ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ يُذَكِّرُ بعَظَمةِ القُدرةِ وكَمالِ الحِكمةِ في وَضْعِ النُّجُومِ في مَواقِعِها بكَمالِ الِانتِظامِ معَ ضَخامَتِها الهائِلةِ، وتَدوِيرِ السَّيَّاراتِ الجَسِيمةِ بسُرعةٍ عَظِيمةٍ.

ويُذَكِّرُ القَسَمُ في ﴿وَالذَّارِيَاتِ﴾ وفي ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ﴾ بالحِكَمِ الجَليلةِ الَّتي في تَمَوُّجاتِ الهَواءِ وتَصرِيفِ الرِّياحِ، إذ يُقسِمُ سُبحانَه بالمَلائكةِ المَأمُورِين بوَظيفةِ تَصرِيفِ الرِّياح، فيَلفِتُ النَّظَرَ إلى أنَّ الأُمُورَ الَّتي قد يُظَنُّ أنَّها تَجرِي مُصادَفةً تُنفِّذُ حِكَمًا دَقيقةً وتُؤَدِّي وَظائِفَ جَليلةً.

وهكذا، فلِكُلِّ مَوقِعٍ مِن مَواقِعِ القَسَمِ نُكتَتُه البَلِيغةُ وفائِدَتُه. ولَمَّا كان الوَقتُ لا يَسمَحُ لنا بالتَّفصِيلِ، فسنُشِيرُ إشارةً مُجمَلةً إلى نُكتةٍ واحِدةٍ مِنَ النِّكاتِ الكَثِيرةِ الَّتي يَتَضمَّنُها القَسَمُ في ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾، وذلك أنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى يُذَكِّرُ بالقَسَمِ بالتِّينِ والزَّيتُونِ عَظَمةَ قُدرَتِه وكَمالَ رَحمَتِه وعَظِيمَ نِعمَتِه، فيَصرِفُ وَجْهَ الإنسانِ المُتَرَدِّي إلى أَسفَلِ سافِلِينَ ويُحَوِّلُه عن ذلك التَّرَدِّي والهاوِيةِ، مُشِيرًا إلَيه أنَّه بإمكانِه أن يَنالَ مَراتِبَ مَعنَوِيَّةً رَفيعةً، بل يَتَرقَّى إلى أَعلَى عِلِّيِّينَ بالشُّكرِ والفِكرِ والإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ.

أمَّا تَخصِيصُ التِّينِ والزَّيتُونِ بالقَسَمِ مِن بينِ النِّعَمِ الأُخرَى، فهو أنَّ هاتَينِ الفاكِهَتَينِ نافِعَتانِ مُبارَكَتانِ.. وأنَّ خَلْقَهما وما فِيهِما مِن نِعَمٍ عَظِيمةٍ يَبعَثُ على المُلاحَظةِ، لأنَّ الزَّيتُونَ يُشَكِّلُ أَساسًا مُهِمًّا في الحَياةِ الِاجتِماعيّةِ والتِّجارِيّةِ، وفي وَسائِلِ التَّنوِيرِ، وفي تَغذِيةِ الإنسانِ؛ كما أنَّ في خَلْقِ التِّينِ ما يُبيِّنُ مُعجِزةً خارِقةً مِن مُعجِزاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ، كدَرْجِ أَجهِزةِ شَجَرةِ التِّينِ العَظِيمةِ وضَمِّها في بُذَيرةٍ مُتَناهِيةٍ في الصِّغَرِ؛ كما يُذَكِّرُ بالقَسَمِ به بالنِّعَمِ الإلٰهِيّةِ في طَعْمِه، وفي مَنافِعِه، وفي دَوامِه، خِلافَ أَكثَرِ الثِّمارِ؛ وفي الوَقتِ نَفسِه يُرشِدُ الإنسانَ -إزاءَ هذه النِّعَمِ- إلى ما يَحُولُ دُونَ تَرَدِّيه إلى أَسفَلِ سافِلِينَ، بالإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ.

[النكتة الثالثة: حول الحرف المقطَّعة في أوائل بعض السُّوَر]

النُّكتة الثَّالِثة:

إنَّ الحُرُوفَ المُقَطَّعةَ المَوجُودةَ في أَوائِلِ السُّوَرِ، شِفْراتٌ إلٰهِيّةٌ، يُعطِي بها سُبحانَه بعضَ الإشاراتِ الغَيبِيّةِ إلى عَبدِه الخاصِّ، ومِفتاحُ تلك الشِّفرةِ لَدَى ذلك العَبدِ الخاصِّ، ولَدَى وَرَثَتِه.

ولَمَّا كان القُرآنُ الحَكِيمُ يُخاطِبُ جَمِيعَ الطَّوائِفِ البَشَرِيّةِ في كلِّ وَقتٍ وحِينٍ، فهو يَتَضمَّنُ مِنَ المَعاني المُتَنوِّعةِ والوُجُوهِ الكَثِيرةِ الجامِعةِ ما يكُونُ حَظَّ كُلِّ طائِفةٍ في كلِّ عَصرٍ مِنَ العُصُورِ؛ وأنَّ أَصفَى المَعاني والوُجُوهِ هي تلك الَّتي بَيَّنَها السَّلَفُ الصَّالِحُ بَيانًا واضِحًا.. وقد وَجَد الأَولياءُ والمُحَقِّقُون إشاراتِ مُعامَلاتٍ غَيبِيّةٍ في تلك المُقَطَّعاتِ فيما يَخُصُّ السَّيرَ والسُّلُوكَ الرُّوحانِيَّ.

وقد بَحَثْنا نُبذةً عن تِلك المُقطَّعاتِ في تَفسِير “إشَاراتِ الإعجَازِ” في أَوائِلِ تَفسِيرِ “سُورةِ البَقَرةِ” فليُراجَعْ.

[النكتة الرابعة: لا يمكن ترجمة القرآن ترجمة حقيقية]

النُّكتة الرَّابِعة:

لقد أَثبَتَتِ “الكَلِمةُ الخامِسةُ والعِشرُون”، أنَّه لا يُمكِنُ تَرجَمةُ القُرآنِ الكَرِيمِ تَرجَمةً حَقيقِيّةً، ولا يُمكِنُ قَطْعًا تَرجَمةُ أُسلُوبِه الرَّفيعِ في إعجازِه المَعنَوِيِّ، وأنَّه مِنَ الصُّعُوبةِ جِدًّا إفهامُ الذَّوقِ، وبَيانُ الحَقيقةِ، النَّابِعَينِ مِن ذلك الأُسلُوبِ الرَّفيعِ في إعجازِه المَعنَوِيِّ، إلَّا أنَّنا نُشِيرُ للدَّلالةِ فحَسْبُ إلى جِهةٍ أو جِهَتَينِ مِنه، وذلك بقَولِه تَعالَى:

﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾، ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾، ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾، ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾، ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾، ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾، ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.

هذه الآياتُ الكَرِيمةُ وأَمثالُها تَضَعُ نُصْبَ الخَيالِ تَصَوُّرَ حَقيقةِ الخَلَّاقِيّةِ، في أُسلُوبٍ رَفيع مُعجِزٍ وفي جَمعٍ خارِقٍ بَدِيعٍ، إذ تُبيِّنُ أنَّ صانِعَ العالَمِ وبانِيَ الكَونِ مِثلَما يُمَكِّنُ الشَّمسَ والقَمَرَ في مَواقِعِهما، يُمَكِّنُ الذَّرّاتِ أَيضًا في مَواضِعِها في بُؤبُؤِ عَينِ الأَحياءِ مَثلًا، فيُمَكِّنُ كُلًّا مِنها في مَوضِعِها بالآلةِ نَفسِها، في اللَّحظةِ نَفسِها.. وإنَّه مِثلَما يُنَظِّمُ السَّماواتِ طِباقًا ويَفتَحُها أَبوابًا ويُنَسِّقُها تَنسِيقًا، يُنَظِّمُ طَبَقاتِ العَينِ ويَفتَحُ أَغطِيَتَها بالمِيزانِ بالأَداةِ نَفسِها والآلةِ المَعنَوِيّةِ نَفسِها، في اللَّحظةِ نَفسِها.. وإنَّه مِثلَما يُسَمِّرُ النُّجُومَ في السَّماواتِ، يُنَقِّشُ ما لا يُحَدُّ مِن نِقاطِ العَلاماتِ الفارِقةِ في وَجهِ الإنسانِ ويَشُقُّ فيه الحَواسَّ الظَّاهِرةَ والبَاطِنةَ، بآلةِ القُدرةِ المَعنَوِيّةِ نَفسِها.

بمَعنَى أنَّ ذلك الصَّانِعَ الجَلِيلَ لِأَجلِ إراءةِ أَفعالِه مِلْءَ البَصَرِ والسَّمْعِ وإظهارِ مُباشَرَتِه أَفعالَه، يَطرُقُ بكَلِمةٍ مِن آياتِه القُرآنيّةِ طَرْقةً على الذَّرَّةِ فيُثبِتُها في مَوضِعِها، ويَطرُقُ بكَلِمةٍ أُخرَى مِنَ الآيةِ نَفسِها طَرْقةً على الشَّمسِ ويُثبِتُها في مَركَزِها، فيُبَيِّنُ الوَحدانيّةَ في عَينِ الأَحَدِيّةِ، ومُنتَهَى الجَلالِ في مُنتَهَى الجَمالِ، ومُنتَهَى العَظَمةِ في مُنتَهَى الخَفاءِ، ومُنتَهَى السَّعةِ في مُنتَهَى الدِّقّةِ، ومُنتَهَى الهَيبةِ في مُنتَهَى الرَّحمةِ، ومُنتَهَى البُعدِ في مُنتَهَى القُربِ. أي: يُظهِرُ أَبعَدَ مَراتِبِ جَمْعِ الأَضدادِ -الَّذي يُعَدُّ مُحالًا- في صُورةِ دَرَجةِ الواجِبِ، مُثْبِتًا ذلك بأَبلَغِ أُسلُوبٍ وأَرفَعِه.

وهذا الأُسلُوبُ المُعجِزُ هو الَّذي يُخضِعُ رِقابَ فَطاحِلِ الأُدَباءِ فيَخِرُّون لِبَلاغَتِه سُجّدًا.

ومَثلًا: قَولُه تَعالَى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ تُبيِّنُ هذه الآيةُ الكَرِيمةُ عَظَمةَ رُبُوبيَّتِه سُبحانَه في أُسلُوبٍ عالٍ رَفِيعٍ، وذلك: أنَّ السَّماواتِ والأَرضَ بمَثابةِ مُعَسكَرَينِ في أَتَمِّ طاعةٍ وانقِيادٍ، وفي صُورةِ ثُكْنةٍ لِجَيشَينِ عَظِيمَينِ على أَتَمِّ نِظامٍ وانتِظامٍ؛ وما فيهما مِن مَوجُوداتٍ راقِدةٍ تحتَ غِطاءِ الفَناءِ وسِتارِ العَدَمِ تَمتَثِلُ بسُرعةٍ تامّةٍ وطاعةٍ كامِلةٍ أَمرًا واحِدًا أو إشارةً مِن نَفْخٍ في صُوْرٍ، لِتَخرُجَ إلى مَيدانِ الحَشرِ والِامتِحانِ.. فانظُرْ كيف عَبَّـرَتِ الآيةُ الكَرِيمةُ عنِ الحَشْرِ والقِيامةِ بأُسلُوبٍ مُعجِزٍ رَفيعٍ، وكيف أَشارَت إلى دَليلٍ إقناعِيٍّ في ثَنايا المُدَّعَى، مِثلَما تَخرُجُ البُذُورُ الَّتي تَستَّرَت في جَوْفِ الأَرضِ كالمَيتةِ، والقَطَراتِ الَّتي انتَشَرَت مُستَتِرةً في جَوِّ السَّماءِ وانتَشَرَت في كُرةِ الهَواءِ، وتُحشَرُ بانتِظامٍ كامِلٍ وفي سُرعةٍ تامّةٍ، فتَخرُجُ إلى مَيدانِ التَّجرِبةِ والِامتِحانِ في كلِّ رَبيعٍ، حتَّى تَتَّخِذُ الحُبُوبُ في الأَرضِ والقَطَراتُ في السَّماءِ صُورةَ الحَشرِ والنُّشُورِ، كما هو مُشاهَدٌ.. وهكذا الأَمرُ في الحَشرِ الأَكبَرِ وبالسُّهُولةِ نَفسِها؛ وإذ تُشاهِدُونَ هذا هنا، فلا تَقدِرُون على إنكارِ الحَشرِ.

وهكذا، فلَكُم أن تَقِيسُوا على هذه الآيةِ ما في الآياتِ الأُخرَى مِن دَرَجةِ البَلاغةِ.

فهل يُمكِنُ يا تُرَى تَرجَمةُ أَمثالِ هذه الآياتِ الكَرِيمةِ تَرجَمةً حَقِيقيّةً؟ لا شَكَّ أنَّها غَيرُ مُمكِنةٍ.

فإن كان ولا بُدَّ، فإمّا أن تُعطَى مَعَانٍ إجمَاليّةٌ مُختَصَرةٌ للآيةِ الكَرِيمةِ، أو يَلْزَمَ تَفسِيرُ كلِّ جُملةٍ مِنها في حَوالَي سِتّةِ أَسطُرٍ.

[النكتة الخامسة: كل حرفٍ من كتاب الله خزينةُ حقائق]

النُّكتة الخَامِسة:

لِنَأْخُذْ مَثلًا جُملةً قُرآنيّةً واحِدةً، وهي: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: فإنَّ أَقصَرَ مَعنًى مِن مَعانيها كما تَقتَضِيه قَواعِدُ عِلمِ النَّحوِ والبَيانِ، هو:

( كُلُّ فَردٍ مِن أَفرادِ الحَمدِ مِن أَيِّ حامِدٍ صَدَرَ وعلى أيِّ مَحمُودٍ وَقَع مِنَ الأَزَلِ إلى الأَبَدِ خاصٌّ ومُستَحِقٌّ للذَّاتِ الوَاجِبِ الوُجُودِ المُسَمَّى باللهِ)‌

فقَولُنا: “كلُّ فَردٍ مِن أَفرادِ الحَمدِ” ناشِئٌ مِن “أل” الِاستِغراقِ.

و”مِن أيِّ حامِدٍ كان” فقد صَدَر مِن كَونِ “الحَمدِ” مَصْدَرًا، فيُفيدُ العُمُومَ في مِثلِ هذا المَقامِ، لأنَّ فاعِلَه مَتْرُوكٌ.

“وعلَى أيِّ مَحمُودٍ وَقَع” يُفيدُ العُمُومَ والكُلِّيّةَ، في مَقامِ الخِطابِ، لِتَركِ المَفعُولِ.

أمّا “مِنَ الأَزَلِ إلى الأَبَدِ”، فيُفِيدُه الدَّوامُ والثَّباتُ، حَسَبَ قاعِدةِ انتِقالِ الجُملةِ الفِعلِيّةِ إلى جُملةٍ اسمِيّةٍ. وأنَّ لامَ الجَرِّ في “للهِ” تُفيدُ مَعنَى: “خاصًّا ومُستَحِقًّا”، لأنَّ تلك اللّامَ للِاختِصاصِ والِاستِحقاقِ.

أمّا “لِلذَّاتِ الواجِبِ الوُجُودِ المُسَمَّى باللهِ” فإنَّ لَفظَ “الله” يَدُلُّ دَلالةً الْتِزاميّةً على “الواجِبِ الوُجُودِ” لأنَّه لَفْظٌ جامِعٌ لِسائِرِ الأَسماءِ والصِّفاتِ، وهُو الِاسمُ الأَعظَمُ، ولِأنَّ “واجِبَ الوُجُودِ” لازِمٌ ضَرُورِيٌّ للأُلُوهيّةِ، وهو عُنوانٌ لِمُلاحَظَةِ الذّاتِ الجَليلةِ.

فلَئِن كان أَقصَرُ المَعاني الظّاهِرِيّةِ لِجُملةِ “الحَمدُ للهِ” على هذه الصُّورةِ، كما اتَّفَق علَيها عُلَماءُ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ، فكيف بتَرجَمةِ القُرآنِ الكَرِيمِ إلى لُغةٍ أُخرَى بنَفسِ الإعجازِ وبالقُوّةِ نَفسِها؟

ثمَّ إنَّ هناك لُغةً نَحوِيّةً واحِدةً فقط مِن بينِ أَلْسِنةِ العالَمِ ولُغاتِه مِمَّا سِوَى اللُّغةِ العَرَبيّةِ، وهي لا تَبلُغُ قَطْعًا جامِعِيّةَ اللُّغةِ العَرَبيّةِ وشُمُوليَّتِها.

إنَّ كَلِماتِ القُرآنِ الَّتي جاءَت بِهذِه اللُّغةِ النَّحوِيّةِ الجامِعةِ الخارِقةِ، وفي صُورةِ مُعجِزةٍ، وصادِرةٍ مِن عِلمٍ مُحِيطٍ بكُلِّ شَيءٍ يُدِيرُ الجِهاتِ كُلَّها، كيف تُوَفِّي حَقَّها كَلِماتُ أَلسِنةٍ أُخرَى تَركيبِيّةٌ وتَصرِيفيّةٌ في تَرجَمةِ مَن هو جُزئيُّ الذِّهنِ قاصِرُ الشُّعُورِ، مُشَوَّشُ الفِكرِ، مُظلِمُ القَلبِ؟ أم كيف تَملَأُ كَلِماتُ تَرجَمةٍ مَحَلَّ تلك الكَلِماتِ المُقَدَّسةِ؟ حتى أَستَطِيعُ القَولَ، وأُثبِتُ أيضًا: أنَّ كلَّ حَرفٍ مِن حُرُوفِ القُرآنِ الكَرِيمِ بمَثابةِ خَزِينةٍ مِن خَزائِنِ الحَقائِقِ، بل قد يَحوِي حَرفٌ واحِدٌ فقط مِنَ الحَقائِقِ ما يَملَأُ صَحِيفةً كامِلةً.

[النكتة السادسة: مثال على سعة المعاني في “نون” “نعبد”]

النُّكتة السَّادِسة:

لِأَجلِ تَنوِيرِ هذا المَعنَى سأَذكُرُ لكم ما جَرَى علَيَّ مِن حالةٍ نُورانيّةٍ خاصَّةٍ ومِن خَيالٍ ذي حَقيقةٍ، تَوضِيحًا لِمَعنَى كَلِمةِ ﴿نَعْبُدُ﴾، وتِبيانًا لِجانِبٍ خَفِيٍّ مِن سِرِّها:

تَأَمَّلتُ ذاتَ يومٍ في “نُونِ” المُتَكلِّمِ معَ الغَيرِ في: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وتَحَرَّى قَلبِي وبَحَث عن سَبَبِ انتِقالِ صِيغةِ المُتَكلِّمِ الواحِدِ إلى صِيغةِ الجَمعِ: ﴿نَعْبُدُ﴾، فبَرَزَتْ فَجْأةً فَضِيلةُ صَلاةِ الجَماعةِ وحِكْمَتُها مِن تلك “النُّونِ”، إذ رَأَيتُ أنَّه بسَبَبِ مُشارَكَتِي للجَماعةِ في الصَّلاةِ الَّتي أَدَّيتُها في جامِعِ “بايَزِيدَ” يكُونُ كلُّ فَردٍ مِنها بمَثابةِ شَفِيعٍ لي.

ورَأيتُ أنَّ كلَّ فَردٍ مِن أفرَادِ تِلك الجَمَاعة شَاهدٌ ومؤيدٌ لِما أظهرتُه مِن أحكَام وقَضَايَا في قِراءتي. فَوَلَّد ذَلك عِندي الشَّجاعةَ الكَافِية لِكي أُقدِّمَ عِبَادَتي النَّاقِصة، وأرفَعَها مَضمُومةً مَع العِبادةِ الهائِلةِ لتلك الجَمَاعةِ إلى الحَضْرةِ الإلٰهِيّةِ المُقَدَّسةِ.

وبَينَما كُنتُ أَتأَمَّلُ في هذا، إذا بسِتارٍ آخَرَ يُرفَعُ، ورَأَيتُ أنَّ جَمِيعَ “مَساجِدِ إسطَنبُولَ” قدِ اتَّصَلَت وتَرابَطَ بَعضُها ببَعضٍ، فأَصبَحَت تلك المَدِينةُ كهذا الجامِعِ، واستَشْعَرْتُ بشَرَفِ أَدعِيَتِهم جَمِيعًا بل تَصدِيقِهم كَذَلك.

وهناك رَأَيتُ نَفسِي مَحشُورًا في تِلك الصُّفُوفِ الدَّائِرِيّةِ على مَسجِدِ سَطْحِ الأَرضِ المُتَحلِّقةِ حَلَقاتٍ حَوْلَ الكَعبةِ المُشَرَّفةِ، فحَمِدتُ اللهَ كَثِيرًا وقُلتُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أنَّ لي كلَّ هذه الكَثْرةِ الكاثِرةِ مِنَ الشُّفَعاءِ، ومِمَّن يُرَدِّدُون معي، ويُصَدِّقُونَني في كلِّ ما أَقُولُه في الصَّلاةِ.

وقُلتُ: ما دامَ السِّتارُ قد رُفِع هكذا خَيالًا، وأَصبَحَتِ الكَعبةُ المُشَرَّفةُ بحُكمِ مِحرابٍ لِأَهلِ الأَرضِ، فلْأَغتَنِمْ إذًا هذه الفُرصةَ، ولْأَدَعْ فيها خُلاصةَ الإيمانِ الَّتي أَذكُرُها في التَّشَهُّدِ وهي: “أَشهَدُ أنْ لا إلٰهَ إلَّا اللهُ، وأَشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ”، وأُسَلِّمْها أَمانةً عندَ الحَجَرِ الأَسوَدِ، مُتَّخِذًا الصُّفُوفَ شُهَداءَ علَيها.

وهنا انكَشَفَت حالةٌ أُخرَى، إذ رَأَيتُ أنَّ الجَماعةَ الَّتي انضَمَمْتُ إلَيها قد أَصبَحَت ثَلاثَ جَماعاتٍ ودَوائِرَ:

الأُولَى: هي الجَماعةُ الكُبْرَى المُؤَلَّفةُ مِنَ المُؤمِنين المُوَحِّدِين على وَجهِ الأَرضِ قاطِبةً.

الثَّانية: هي جَماعةُ المَوجُوداتِ كافَّةً حيثُ ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾، فرَأَيتُ نَفسِي معَ صَلاتِها الكُبْرَى وفي تَسبِيحاتِها العُظمَى.. وأنَّ ما يُسَمَّى وَظائِفَ الأَشياءِ وأَعمالَها، إنْ هو إلَّا عَناوِينُ عِباداتِها وعُبُودِيَّتِها.. فطَأْطَأْتُ رَأْسِي حائِرًا أَمامَ هذه العَظَمةِ قائلًا: “اللهُ أَكبَرُ” وتَأَمَّلتُ في نفسي وفي الدَّائِرةِ:

الثَّالثة: ورَأَيتُ عالَمًا يَبدَأُ مِن ذَرَّاتِ وُجُودي، ويَنتَهي إلى حَواسِّي الظَّاهِرةِ؛ فهو عالَمٌ صَغيرٌ وصَغيرٌ، إلّا أنَّه عَظِيمٌ جِدًّا يَدعُو إلى الحَيْرةِ والإعجابِ، وهو عالَمٌ ظاهِرُه مُتَناهٍ في الصِّغَرِ إلّا أنَّ حَقِيقتَه عَظِيمةٌ، ووَظائِفَه جَليلةٌ.

نعم، رَأَيتُ أنَّ كلَّ جَماعةٍ مِن جَماعاتِ هذا العالَمِ مُنهَمِكةٌ بوَظائِفِ عُبُودِيَّتِها وواجِباتِ شُكْرِها، ورَأَيتُ في تلك الدَّائرةِ أنَّ اللَّطِيفةَ الرَّبَّانيّةَ الَّتي في قَلبِي تُرَدِّدُ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ باسمِ هَذه الجَماعةِ، مِثلَما رَدَّدها لِساني بنِيّةِ الجَماعتَينِ العَظِيمَتَينِ الأُولَيَيْنِ.

والخُلاصةُ: أنَّ (نُونَ) ﴿نَعْبُدُ﴾ تُشِيرُ إلى هذه الجَمَاعَاتِ الثَّلاثِ وتَدُلُّ علَيها.

وبَينَما أنا في هذه الحَالةِ، إذا بالشَّخصِيّةِ المَعنَوِيّةِ المُبارَكةِ لِمُبَلِّغِ القُرآنِ الكَرِيمِ قد تَمَثَّلَت أَمَامي بعَظَمَتِه ووَقارِه، وهو ﷺ عَلى مِنبَرِه المَعنَوِيِّ (المَدِينةِ المُنَوَّرةِ)، وأَسمَعُ مِنه -كما سَمِعَ غَيري- خِطابًا إلٰهِيًّا مُوَجَّهًا ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ..﴾، فرَأَيتُ خَيالًا أنَّ كلَّ مَن في تِلك الجَمَاعاتِ الثَّلاثِ يَتَجاوَبُ مِثلي معَ ذلك الخِطابِ الرَّبّانِيِّ العَظِيمِ قائلًا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، وهناك تَمَثَّلَتْ حَقِيقةٌ أُخرَى أمَامَ الفِكرِ، حَسَبَ قاعِدةِ: “إذا ثَبَتَ الشَّيءُ ثَبَتَ بلَوازِمِه” وهي:

ما دَامَ رَبُّ العالَمِين يَتَكلَّمُ مَع جَمِيعِ المَوجُوداتِ مُتَّخِذًا الإنسانَ مُخاطَبًا له، وهذا الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ قد قَامَ بتَبلِيغِ ذلك الخِطابِ الرَّبّانِيِّ الجَليلِ إلى جَمِيعِ البَشَرِ بل إلى جَمِيعِ ذَوِي الشُّعُورِ، وإلى جَمِيعِ ذَوِي الأَرواحِ، فلا بُدَّ أنَّ الماضِيَ والمُستَقبَلَ معًا قَد أَصبَحا بحُكْمِ الزَّمَنِ الحاضِرِ، وغَدَتِ البَشَرِيّةُ كافّةً مَجلِسًا واحِدًا وجَماعةً واحِدةً في صُفُوفٍ مُختَلِفةٍ مُتَنوِّعةٍ، حيثُ الخِطابُ مُوَجَّهٌ إلَيهم جَمِيعًا.

هناك بَدا لي أنَّ كلَّ آيةٍ مِن آياتِ القُرآنِ الكَرِيمِ في قِمّةِ البَلاغةِ ومُنتَهَى الجَزالةِ، وفي غايةِ الإعجازِ الَّذي يُشِعُّ نُورُه السَّاطِعُ، حيثُ إنَّ الآيةَ تَكسِبُ عُلُوَّها وسُمُوَّها وقُوَّتَها لِصُدُورِها:

مِن ذلك المَقامِ السَّامي الرَّفيعِ الَّذي لا نِهايةَ لِعَظَمَتِه، ولا غَايةَ لِسَعَتِه، ولا مُنتَهَى لِسُمُوِّه.. مِن ذِي الجَلالِ والعَظَمةِ المُطلَقةِ.. مِنَ المُتَكلِّمِ الأَزَليِّ جَلَّ جَلالُه..

ومِن مُبَلِّغِها الَّذي هَو في مَقامِ المَحبُوبيّةِ العُظمَى صَاحِبِ المَنزِلةِ الرَّفيعةِ والدَّرَجةِ العاليةِ.. ومِن تَوَجُّهِها إلى المُخاطَبِين الَّذين هم في مُنتَهَى الكَثْرةِ والأَهَمِّيّةِ والتَّبايُنِ.

لِذا، تَحَقَّق عِندي أنَّه لَيس القُرآنُ بمَجمُوعِه وَحْدَه مُعجِزةً، بل كلُّ سُورةٍ مِن سُوَرِه مُعجِزةٌ، وكلُّ آيةٍ مِن آياتِه مُعجِزةٌ، بَل حتَّى كلُّ كَلِمةٍ فيه بحُكْمِ مُعجِزةٍ.

لِذا قُلتُ: “الحَمدُ للهِ على نُورِ الإيمانِ والقُرآنِ”.

وبهذا خَرَجتُ مِن ذلك الخَيالِ الَّذي هو عَينُ الحَقِيقةِ، كَما دَخَلتُ فيه مِن (نُونِ) ﴿نَعْبُدُ﴾، وفَهِمتُ أنَّه: لَيسَت آياتُ القُرآنِ ولا كَلِماتُه مُعجِزةً وَحدَها، وإنَّما كَذلك حُرُوفُ القُرآنِ -كَما في (نُونِ) ﴿نَعْبُدُ﴾- هي مَفاتِيحُ نُورانيّةٌ لِحَقائِقَ عُظمَى.

وبَعدَما خَرَج القَلبُ والخَيالُ مِن (نُونِ) ﴿نَعْبُدُ﴾ قابَلَهما العَقلُ قَائلًا:

إنَّني أُطالِبُ بحَظِّي ونَصِيبي مِمّا أَنتُم فيه، فَلا أَتمَكَّنُ مِنَ التَّحلِيقِ مِثلَكم، ولا أَستَطِيعُ السَّيرَ إلّا بأَقدامِ الأَدِلّةِ والحُجَجِ.. أَرُوني مَا فِي ﴿نَعْبُدُ﴾ ونَسْتَعِينُ﴾ مِنَ الطَّرِيقِ المُوصِلِ إلى (المَعبُودِ الحَقِيقيِّ) و(المُستَعانِ الحَقِيقيِّ) حتَّى أَتَمكَّنَ مِن مُرافَقَتِكم.

وعِندَها خَطَر للقَلبِ أنْ: قُل لِذلك العَقلِ الحَائِرِ أن يَتَأَمَّلَ في جَمِيعِ مَوجُوداتِ العَالَمِ سَواءٌ مِنها الحَيُّ وغَيرُ الحَيِّ، فلِكُلٍّ مِنهَا عُبُودِيّةٌ عَلى شَكلِ وَظِيفةٍ مِنَ الوَظائِفِ عَلَى وَفْقِ نِظامٍ دَقيقٍ، وضِمنَ إطَاعةٍ تَامَّةٍ.

ومع أنَّ قِسمًا مِن تَلك المَوجُوداتِ دُونَ شُعُورٍ وإحسَاسٍ، فإنَّه يُنجِزُ أَعمالَه ووَظائِفَه في غَايةِ العُبُودِيّةِ والنِّظامِ والشُّعُورِ. إذًا لا بُدَّ أنَّ مَعبُودًا حَقِيقيًّا وآمِرًا مُطلَقًا، يُسَخِّرُ هذه المَوجُوداتِ ويَسُوقُها إلى العُبُودِيّةِ.

وقُلْ له: لِيَتأَمَّلْ كذلك في جَمِيعِ المَوجُوداتِ ولا سِيَّما الأَحياءِ مِنها، فلِكُلٍّ مِنها حَاجاتٌ كَثِيرةٌ مُتَنوِّعةٌ، ولِكُلٍّ مِنها مَطالِبُ عِدّةٌ ومُختَلِفةٌ لإدامةِ حَياتِها وبَقاءِ نَوعِها؛ وبَينَما لا تَصِلُ أَيدِيها إلى أَبسَطِ تلك الحَاجاتِ والمَطالِبِ، ولَيسَت هَي في طَوْقِها، إذا بنا نُشاهِدُ أنَّ تَلك المَطالِبَ الَّتي لا تُحَدُّ، تَأْتِيها رَغَدًا مِن كلِّ مَكانٍ، بل تَأْتِيها في أَفضَلِ وَقتٍ وأَنسَبِه. فَهذا الِافتِقارُ والحَاجةُ غيرُ مُتَناهِيَيْنِ للمَوجُوداتِ، وهذه الإعاناتُ الغَيبِيّةُ والإمداداتُ الرَّحمانيّةُ تَدُلُّ بَداهةً على أنَّ لها رَزَّاقًا يَحمِيها، وهو غَنِيٌّ مُطلَقٌ.. كَرِيمٌ مُطلَقٌ.. قَدِيرٌ مُطلَقٌ.. بحيثُ يَستَعِينُ به كلُّ شَيءٍ، وكلُّ حَيٍّ، طَالبًا مِنه العَوْنَ والمَدَدَ. أي: أنَّ كلَّ شَيءٍ في الوُجُودِ يقُولُ ضِمنًا ومَعنًى: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.﴾ وهناك استَسْلَمَ العَقلُ وقال: آمَنّا وصَدَّقْنا.

[النكتة السابعة: ألفاظ الوحي نابضة بالحياة]

النُّكتة السَّابِعة:

وبعدَ ذلك وأنا أَتلُو: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، نَظَرتُ إلى قَوافِلِ البَشَرِيّةِ الرَّاحِلةِ إلى الماضي، فرَأَيتُ أنَّ رَكْبَ الأَنبِياءِ المُكْرَمين والصِّدِّيقين والشُّهَداءِ والأَولياءِ والصَّالِحِين أَنْوَرُ تلك القَوافِلِ وأَسطَعُها، حتَّى إنَّ نُورَهُم يُبَدِّدُ ظُلُماتِ المُستَقبَلِ، إذ إنَّهم ماضُون في جادّةٍ مُستَقِيمةٍ كُبْرَى تَمتَدُّ إلى الأَبَدِ.. وإنَّ هَذه الجُملةَ تُبَصِّرُني طَرِيقَ اللَّحاقِ بذلك الرَّكبِ المَيمُونِ، بل تُلحِقُني به..

فقُلتُ: يا سُبحانَ اللهِ، ما أفدحَ خَسارة، وما أعظمَ هلاكَ مَن تَرك الالتحاق بهذه القَافِلة النُّورَانية العُظمَى! والَّتي مَضَت بسَلامٍ وأَمانٍ وأَزالَت حُجُبَ الظُّلُماتِ، ونَوَّرَتِ المُستَقبَلَ.. إنَّ مَن يَملِكُ ذَرّةً مِن شُعُورٍ لا بُدَّ أن يُدرِكَ هذا.. وإنَّ مَن يَنحَرِفُ عن طَرِيقِ تلك القَافِلةِ العُظمَى بإحداثِ البِدَعِ، أين سيَلْتَمِسُ النُّورَ لِيَستَضِيءَ، وأيُّ طَرِيقٍ يُمكِنُه أن يَسلُكَ؟

فلقد قال قُدْوَتُنا الرَّسُولُ الأَكرَمُ ﷺ: «كُلُّ بِدْعةٍ ضَلالةٌ، وكُلُّ ضَلالةٍ في النَّارِ». فالَّذين استَحَقُّوا أن يُطلَقَ علَيهِمُ اسمُ “عُلَماءِ السُّوءِ” أُولَئك الشُّقاةُ، أيّةُ مَصلَحةٍ يَجِدُونَها إزاءَ هذا الحَدِيثِ في فَتوَى يُفتُونَها، يُعارِضُون بها بَدِيهِيّاتِ الشَّعائِرِ الإسلامِيّةِ، بما فيه ضَرَرٌ ومِن غيرِ ضَرُورةٍ، ويَرَوْن أنَّ تلك الشَّعائِرَ قابِلةٌ للتَّبدِيلِ! فإن كان ثَمّةَ شَيءٌ، فلَرُبَّما انتِباهٌ مُؤَقَّتٌ ناشِئٌ مِن سُطُوعِ المَعنَى المُؤَقَّتِ هو الَّذي خَدَعَهم.

مَثلًا: لو سُلِخَ جِلْدُ حَيَوانٍ، أو نُزِعَ غِلافُ ثَمَرةٍ، فإنَّ ظَرافةً مُؤَقَّتةً تَبدُو مِنَ اللَّحمِ والثَّمَرةِ، ولكن بعدَ مُدّةٍ قَلِيلةٍ يَسْوَدُّ ذلك اللَّحمُ الظَّرِيفُ، والثَّمَرةُ اللَّطِيفةُ، وذلك بتَأْثيرِ ما يُغَلِّفُهما مِن غِلافٍ عَرَضِيٍّ غَرِيبٍ كَثِيفٍ مُلَوَّثٍ، فيَتَعَفَّنانِ.

كذلك التَّعابِيرُ الإلٰهِيّةُ والنَّبَوِيّةُ الَّتي هي في الشَّعائِرِ الإسلامِيّةِ، فهي بمَثابةِ جِلدٍ حَيٍّ مُثابٍ علَيه؛ ولَدَى انتِزاعِه يَظهَرُ شَيءٌ مِن نُورِ المَعاني مُؤَقَّتًا، وتَطِيرُ أَرواحُ تلك المَعاني المُبارَكةِ -بمِثلِ ذَهابِ لَطافةِ الثَّمَرةِ المَنزُوعِ عنها الغِلافُ- تارِكةً أَلفاظَها البَشَرِيّةَ في القُلُوبِ والعُقُولِ المُظلِمةِ. ثمَّ تُغادِرُ، ويَذهَبُ النُّورُ ولا يَبقَى غيرُ الدُّخانِ.. وعلى كلِّ حالٍ..

[النكتة الثامنة: شعائر الدين من “الحقوق العامة”]

النُّـكتة الثَّامِنة:

يَنبَغي بيانُ دُستُورٍ مِن دَساتيرِ الحَقيقةِ الَّذي يَخُصُّ هذا الأَمرَ، وهُو: كما أنَّ هُنالِك نَوعَينِ مِنَ الحُقُوقِ: “حُقُوقٌ شَخصِيّةٌ” و”حُقُوقٌ عامّةٌ”، والَّتي هي مِن نَوعِ “حُقُوقِ اللهِ”، كَذلِك فإِنَّ مِنَ المَسائِلِ الشَّرعِيّةِ ما يَتَعلَّقُ بالأَشخاصِ، ومِنها ما يَتَعلَّقُ بالنَّاسِ عامَّةً، أي: يَتَعلَّقُ بهم مِن حَيثُ العُمُومُ، فيُطلَقُ على هذا القِسمِ اسمُ “الشَّعائِرِ الإسلامِيّةِ”.

فالنَّاسُ كُلُّهم لهم حِصّةٌ مِن هذا القِسمِ، حيثُ يَتَعلَّقُ بالعُمُومِ، وإنَّ أيَّ تَدَخُّلٍ في هذا القِسمِ مِنَ الشَّعائِرِ وأيَّ مَسٍّ بها، يُعتَبَرُ تَعَدِّيًا على حُقُوقِ أُولَئك النّاسِ عامّةً إن لم يكُونُوا راضِين عنه؛ وإنَّ أَصغَرَ مَسأَلةٍ مِن تلك الشَّعائرِ (ولْتَكُنْ مِن قَبِيلِ السُّنّةِ) على جانِبٍ عَظِيمٍ مِنَ الأَهَمِّيّةِ، كأَيّةِ مَسأَلةٍ جَلِيلةٍ، لأنَّها تَتَعلَّقُ مُباشَرةً بالعالَمِ الإسلاميِّ كافّةً.

ألا فلْيُدرِكْ أُولَئك الَّذين يَسْعَوْن لِقَطْعِ تلك السَّلاسِلِ النُّورانيّةِ الَّتي ارتَبَطَ بها جَمِيعُ أَعاظِمِ الإسلامِ منذُ خَيرِ القُرُونِ إلى يَومِنا هذا، ويُعاوِنُون على تَحرِيفِها وهَدْمِها. فلْيَنظُروا أيُّ خَطَأٍ عَظِيمٍ يَرتَكِبُون، ولْيَرتَعِدُوا إنْ كانَت لَدَيهِم ذَرّةٌ مِن شُعُورٍ!

[النكتة التاسعة: التعبديات لا تُعلَّل]

النُّكتة التَّاسِعة:

يُطلَقُ على قِسمٍ مِنَ المَسائلِ الشَّرعِيّةِ اسمُ “المَسائِلِ التَّعَبُّدِيّةِ”، هذا القِسمُ لا يَرتَبِطُ بمُحاكَماتٍ عَقلِيّةٍ، ويُفعَلُ لأنَّه أُمِرَ به، إذ إنَّ عِلَّتَه هي الأَمرُ الإلٰهِيُّ.

ويُعبَّرُ عنِ القِسمِ الآخَرِ بـ”مَعقُولِ المَعنَى” أي: إنَّ له حِكمةً ومَصلَحةً، صارَت مُرَجِّحةً لِتَشرِيعِ ذلك الحُكْمِ. ولكن لَيسَت سَبَبًا ولا عِلّةً، لأنَّ العِلّةَ الحَقِيقيّةَ هي الأَمرُ والنَّهيُ الإلٰهِيُّ.

فالقِسمُ التَّعَبُّدِيُّ مِنَ الشَّعائِرِ لا تُغيِّرُه الحِكمةُ والمَصلَحةُ قَطْعًا، لأنَّ جِهةَ التَّعَبُّدِ فيه هي الَّتي تَتَرجَّحُ، لِذا لا يُمكِنُ أن يُتَدخَّلَ فيه أو يُمَسَّ بشَيءٍ، حتَّى لو وُجِدَت مِئةُ أَلفِ مَصلَحةٍ وحِكمةٍ، فلا يُمكِنُ أن تُغَيِّرَ مِنها شيئًا؛ وكذلك لا يُمكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ فَوائِدَ الشَّعائِرِ هي المَصالِحُ المَعلُومةُ وَحدَها.. فهذا مَفهُومٌ خَطَأٌ، بل إنَّ تلك المَصالِحَ المَعلُومةَ، رُبَّما هي فائِدةٌ واحِدةٌ مِن بينِ حِكَمِها الكَثِيرةِ.

فمَثلًا: لو قالَ أَحَدُهم: إنَّ الحِكمةَ مِنَ الأَذانِ هي دَعوةُ المُسلِمين إلى الصَّلاةِ، فإذًا يَكفِي بهذه الحالةِ إطلاقُ طَلْقةٍ مِن بُندُقيّةٍ! ولا يَعرِفُ ذلك الأَبلَهُ أنَّ دَعوةَ المُسلِمين هي مَصلَحةٌ واحِدةٌ مِن بينِ أُلُوفِ المَصالِح في الأَذانِ.. حتَّى لو أَعطَى ذلك الصَّوْتُ تلك المَصلَحةَ فإنَّه لا يَسُدُّ مَسَدَّ الأَذانِ الَّذي هو وَسِيلةٌ لإِعلانِ التَّوحِيدِ الَّذي هو النَّتيجةُ العُظمَى لِخَلْقِ العالَمِ، وخَلْقِ نَوعِ البَشَرِ، وواسِطةٌ لإظهارِ العُبُودِيّةِ إزاءَ الرُّبُوبيّةِ الإلٰهِيّةِ باسمِ النَّاسِ في تلك البَلْدةِ أو باسمِ البَشَرِيّةِ قاطِبةً.

حاصِلُ الكَلام: إنَّ جَهَنَّمَ لَيسَت زائِدةً عنِ الحاجةِ، فإنَّ كَثِيرًا مِنَ الأُمُورِ تَدعُو بكُلِّ قُوّةٍ: لِتَعِشْ جَهَنَّمُ. وكذا الجَنّةُ لَيسَت رَخِيصةً بل تَطلُبُ ثَمَنًا غَاليًا.

﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾

❀   ❀   ❀

 

[القسم الثاني: رسالة رمضان]

القِسم الثَّاني وهَو الرِّسَالة الثَّانِية

رِسَالة رَمضَان

لقد تَحَدَّثْنا بنُبذةٍ مُختَصَرةٍ عنِ الشَّعائرِ الإِسلاميّةِ في خِتامِ القِسمِ الأوَّلِ، لِذا سيُذكَرُ في هذا القِسمِ الثَّانِي عَدَدٌ مِنَ الحِكَمِ الَّتي تَخُصُّ صِيامَ شَهرِ رَمَضان المُبارَكِ، الَّذي هو أَسطَعُ الشَّعائرِ الإِسلاميّةِ وأَجَلُّها.

[تسع نكات تبين تسع حِكَمٍ لصوم رمضان]

هذا البَحثُ عِبارةٌ عن تِسعِ نِكاتٍ دَقِيقةٍ ومَسائِلَ لَطِيفةٍ تُبيِّنُ تِسعًا مِنَ الحِكَمِ الكَثِيرةِ لِصِيامِ شَهرِ رَمَضانَ المُبارَكِ.

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾

[النكتة الأولى: تجلي ربوبية الله تعالى]

النُّكتة الأُولى:

إنَّ صِيامَ شَهرِ رَمَضانَ يَأْتي بَينَ أَوائِلِ الأَركانِ الخَمسةِ لِلإسلامِ، ويُعَدُّ مِن أَعاظِمِ الشَّعائِرِ الإِسلاميّةِ.

إنَّ أَكثَرَ الحِكَمِ المُتَمخِّضةِ عن صَوْمِ رَمَضانَ تَتَوجَّهُ إلى إِظهارِ رُبُوبيّةِ الحَقِّ تَبارَكَ وتَعالَى، كما تَتَوجَّهُ إلى حَياةِ الإِنسانِ الِاجتِماعِيّةِ وإلى حَياتِه الشَّخصِيّةِ، وتَتَوجَّهُ أَيضًا إلى تَربِيةِ النَّفسِ وتَزكِيَتِها، وإلى القِيامِ بالشُّكرِ تِجاهَ النِّعَمِ الإلٰهِيّةِ.

نَذكُرُ حِكْمةً واحِدةً مِن بَينِ الحِكَمِ الكَثِيرةِ جِدًّا، مِن حَيثُ تَجَلِّي رُبُوبيّةِ الحَقِّ تَبارَك وتَعالَى مِن خِلالِ الصَّوْمِ، وهي أنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى قد خَلَق وَجْهَ الأَرضِ مائِدةً مُمتَدّةً عامِرةً بالنِّعَمِ الَّتي لا يَحصُرُها العَدُّ، وأَعَدَّها إِعدادًا بَدِيعًا مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُه الإنسانُ؛ فهُو سُبحانَه يُبيِّنُ بهذا الوَضْعِ كَمالَ رُبُوبيَّتِه ورَحْمانيَّتِه ورَحِيمِيَّتِه، بَيْدَ أنَّ الإِنسانَ لا يُبصِرُ تَمامًا -تَحتَ حِجابِ الغَفْلةِ وضِمْنَ سَتائِرِ الأَسبابِ- الحَقِيقةَ البَاهِرةَ الَّتي يُفِيدُها ويُعبِّرُ عنها هذا الوَضْعُ، وقد يَنسَاها..

أمّا في رَمَضانَ المُبارَكِ فالمُؤْمِنُونَ يُصبِحُونَ فَوْرًا في حُكْمِ جَيشٍ مُنَظَّمٍ، يَتَقلَّدُون جَمِيعًا وِشاحَ العُبُودِيّةِ للهِ، ويَكُونُونَ في وَضْعٍ مُتَأَهِّبٍ قُبَيلَ الإِفطارِ لِتَلبِيةِ أَمرِ السُّلْطانِ الأَزَليِّ: “تَفَضَّلُوا” إلى مائِدةِ ضِيافَتِه الكَرِيمةِ.. فيُقابِلُون -بوَضْعِهِم هذا- تلك الرَّحمةَ الجَلِيلةَ الكُلِّيّةَ بعُبُودِيّةٍ واسِعةٍ مُنَظَّمةٍ عَظِيمةٍ.. تُرَى! هل يَستَحِقُّ أُولَئِك الَّذين لم يَشتَرِكُوا في مِثلِ هذه العُبُودِيّةِ السّامِيةِ، وفي مِثلِ هذه الكَرامةِ الرَّفيعةِ أن يُطلَقَ علَيْهِمُ اسمُ الإِنسانِ؟

[النكتة الثانية: شكر النعمة]

النُّكتة الثَّانِية:

إنَّ إِحدَى الحِكَمِ الوَفِيرةِ لِصِيامِ رَمَضانَ المُبارَكِ مِن حَيثُ تَوَجُّهُه إلى الشُّكْرِ على النِّعَمِ الَّتي أَسبَغَها البَارِي علَيْنا، هي أنَّ الأَطعِمةَ الَّتي يَأْتِي بها خَادِمٌ مِن مَطْبَخِ سُلْطانٍ لَها ثَمَنُها -كما ذُكِرَ في “الكَلِمةِ الأُولَى”- ويُعَدُّ مِنَ البَلاهةِ تَوَهُّمُ الأَطعِمةِ النَّفِيسةِ تافِهةً غَيرَ ذاتِ قِيمةٍ، وعَدَمُ مَعرِفةِ مُنعِمِها الحَقِيقيِّ، في الوَقْتِ الَّذي يُمنَحُ الخَادِمُ هِباتٍ وعَطَايَا لِأَجْلِها؛ وكَذلك الأَطعِمةُ والنِّعَمُ غَيرُ المَعدُودةِ الَّتي بَثَّها اللهُ سُبحانَه في وَجْهِ الأَرضِ، فإنَّه يَطلُبُ مِنّا حَتْمًا ثَمَنَها، ألا وهُو القِيامُ بالشُّكرِ له تِجاهَ تلك النِّعَمِ.

والأَسبَابُ الظَّاهِرِيَّةُ الَّتي تُحمَلُ علَيْها تلك النِّعَمُ وأَصحابُها الظَّاهِرُونَ هم بمَثابةِ خَدَمةٍ لها، فنَحنُ نَدْفَعُ لِلخُدَّامِ ما يَستَحِقُّونَه مِنَ الثَّمَنِ، ونَظَلُّ تَحتَ فَضْلِهم ومِنَّتِهِم، بل نُبْدِي لَهُم مِنَ التَّوقِيرِ والشُّكرِ أَكثَرَ مِمَّا يَستَحِقُّونَه؛ والحالُ أنَّ المُنعِمَ الحَقِيقيَّ سُبحانَه يَستَحِقُّ -ببَثِّه تلك النِّعَمَ- أن نُقَدِّمَ له غايةَ الشُّكْرِ والحَمْدِ، ومُنتَهَى الِامتِنانِ والرِّضَا، وهُو الأَهلُ لِكُلِّ ذلك، بل أَكثَرُ.. إذًا فتَقْدِيمُ الشُّكْرِ للهِ سُبحانَه إنَّما يكُونُ بمَعرِفةِ صُدُورِ تلك النِّعَمِ والآلاءِ مِنه مُباشَرةً، وبِتَقدِيرِ قِيمَتِها، وبشُعُورِ الحاجةِ إلَيْها.

لِذا فإنَّ صِيامَ رَمَضانَ المُبارَكِ لَهُو مِفْتاحُ شُكْرٍ حَقِيقيٍّ خَالِصٍ، وحَمْدٍ عَظِيمٍ عَامٍّ للهِ سُبحانَه، وذَلك لِأَنَّ أَغلَبَ النَّاسِ لا يُدْرِكُونَ قِيمةَ نِعَمٍ كَثِيرةٍ هم غَيرُ مُضطَرِّينَ إلَيْها في سَائِرِ الأَوْقاتِ، لِعَدَمِ تَعَرُّضِهِم لِقَساوةِ الجُوعِ الحَقِيقيِّ وأَوْضارِه؛ فلا يُدرِكُ -مَثلًا- دَرَجةَ النِّعمةِ الكامِنةِ في كِسْرةِ خُبزٍ يابِسٍ أُولَئِك المُتْخَمُونَ بالشِّبَعِ، وبخاصّةٍ إن كَانُوا أَثرِياءَ مُنَعَّمِينَ، بَينَما يُدرِكُها المُؤْمِنُ عِندَ الإِفطارِ أنَّها نِعمةٌ إِلٰهِيّةٌ ثَمِينةٌ، وتَشهَدُ على ذَلك قُوَّتُه الذّائِقةُ، لِذا يَنالُ الصَّائِمُونَ في رَمَضانَ -ابتِداءً مِنَ السُّلْطانِ وانتِهاءً بأَفقَرِ فَقِيرٍ- شُكْرًا مَعنَوِيًّا للهِ تَعالَى مُنبَعِثًا مِن إِدراكِهِم قِيمةَ تَلك النِّعَمِ العَظِيمةِ؛ أمّا امتِناعُ الإِنسانِ عن تَناوُلِ الأَطعِمةِ نَهارًا فإنَّه يَجعَلُه يَتَوصَّلُ إلى أن يُدرِكَ بأنَّها نِعْمةٌ حَقًّا، إذ يُخاطِبُ نَفسَه قائِلًا:

“إنَّ هذه النِّعَمَ لَيسَت مِلكًا لي، فأنَا لَستُ حُرًّا في تَناوُلِها، فَهِي إذًا تَعُودُ إلى أَحَدٍ غَيرِي، وهي أَصلًا مِن إِنعامِه وكَرَمِه علَيْنا، وأنا الآنَ في انتِظارِ أَمرِه”.. وبهذا يكُونُ قد أَدَّى شُكْرًا مَعنَوِيًّا حِيالَ تلك النِّعَمِ.

وبَهذه الصُّورةِ يُصبِحُ الصَّومُ في حُكْمِ مِفتاحٍ للشُّكْرِ مِن جِهاتٍ شَتَّى، ذلك الشُّكْرِ الَّذي هو الوَظِيفةُ الحَقِيقيّةُ لِلإنسانِ.

[النكتة الثالثة: الشعور بأحاسيس الفقير]

النُّكتة الثَّالثة:

إنَّ حِكْمةً واحِدةً لِلصَّوْمِ مِن بَينِ حِكَمِه الغَزِيرةِ المُتَوجِّهةِ إلى الحَياةِ الِاجتِماعِيّة لِلإنسانِ هي أنَّ النَّاسَ قد خُلِقُوا على صُوَرٍ مُتَبايِنةٍ مِن حَيثُ المَعِيشةُ، وعلَيْه يَدْعُو اللهُ سُبحانَه الأَغنِياءَ لِمَدِّ يَدِ المُعاوَنةِ لِإخوانِهِمُ الفُقَراءِ؛ ولا جَرَمَ أنَّ الأَغنِياءَ لا يَستَطِيعُونَ أن يَستَشعِرُوا شُعُورًا كامِلًا حالاتِ الفَقْرِ الباعِثةِ على الرَّأْفةِ، ولا يُمكِنُهُم أن يُحِسُّوا إِحسَاسًا تامًّا بجُوعِهِم إلَّا مِن خِلالِ الجُوعِ المُتَولِّدِ مِنَ الصَّومِ.. فلَوْلا الصَّومُ لَمَا تَمَكَّن كَثِيرٌ مِنَ الأَغنِياءِ التَّابِعِينَ لِأَهوائِهِم مِن أن يُدرِكُوا مَدَى أَلَمِ الجُوعِ والفَقْرِ، ومَدَى حَاجةِ الفُقَراءِ إلى الرَّأْفةِ والرَّحْمةِ.. لِذا تُصبِحُ الشَّفَقةُ على بَنِي الجِنسِ -المَغرُوزةُ في كِيانِ الإِنسانِ- هي إِحدَى الأُسُسِ الباعِثةِ على الشُّكْرِ الحَقِيقيِّ، حَيثُ يُمكِنُ أن يَجِدَ كُلُّ فَرْدٍ أيًّا كان مَنْ هو أَفقَرُ مِنه مِن جِهةٍ، فهُو مُكَلَّفٌ بالإِشفاقِ علَيْه.

فَلو لَم يكُن هُنالِك اضطِرارٌ لِإِذاقةِ النَّفسِ مَرارةَ الجُوعِ، لَمَا قامَ أَحَدٌ أَصْلًا بإِسداءِ الإِحسانِ إلى الآخَرِينَ، والَّذي يَتَطلَّبُه التَّعاوُنُ المُكَلَّفُ به برابِطةِ الشَّفَقةِ على بَنِي الجِنسِ، وحتَّى لو قامَ به لَمَا أَتقَنَه على الوَجْهِ الأَكمَلِ، ذلك لِأَنَّه لا يَشعُرُ بتلك الحَالةِ في نَفسِه شُعُورًا حَقِيقيًّا.

[النكتة الرابعة: تربية النفس على أنها مملوكة لا مالكة]

النُّكتة الرَّابِعة:

إنَّ صَوْمَ رَمَضانَ يَحْوِي مِن جِهةِ تَربِيةِ النَّفسِ البَشَرِيّةِ حِكَمًا عِدّةً، إِحدَاها هي أنَّ النَّفْسَ بطَبِيعَتِها تَرغَبُ في الِانفِلاتِ مِن عِقالِها حُرّةً طَلِيقةً، وتَتَلقَّى ذاتَها هكذا.. حتَّى إنَّها تَطلُبُ لِنَفسِها رُبُوبيّةً مَوْهُومةً، وحَرَكةً طَلِيقةً كيفما تَشاءُ، فهِي لا تُرِيدُ أن تُفَكِّرَ في كَوْنِها تَنمُو وتَتَرَعرَعُ وتُرَبَّى بنِعَمٍ إِلٰهِيّةٍ لا حَدَّ لَها، وبخاصَّةٍ إذا كانَت صاحِبةَ ثَرْوةٍ واقتِدارٍ في الدُّنيا، والغَفْلةُ تُسانِدُها وتُعاوِنُها؛ لِذا تَزْدَرِدُ النِّعَمَ الإلٰهِيّة كالأَنعامِ دُونَ إِذنٍ ورُخْصةٍ.

ولكِن تَبدَأُ نَفسُ كلِّ شَخْصٍ بالتَّفَطُّنِ في ذاتِها في رَمَضانَ المُبارَكِ، ابتِداءً مِن أَغنَى غَنِيٍّ إلى أَفقَرِ فَقِيرٍ، فتُدرِكُ أنَّها لَيسَت مالِكةً، بل هي مَملُوكةٌ؛ ولَيسَت حُرّةً طَلِيقةً، بل هي عَبدةٌ مَأْمُورةٌ؛ فلا تَستَطِيعُ أن تَمُدَّ يَدَها إلى أَدنَى عَمَلٍ مِن غَيرِ أَمرٍ، بل حتَّى لا تَستَطِيعُ أن تَمُدَّها إلى ماءٍ.. وبهذا يَنكَسِرُ غُرُورُ رُبُوبِيَّتِها المَوهُومةِ، فتَتَقلَّدُ رِبْقةَ العُبُودِيّةِ للهِ تَعالَى، وتَدخُلُ ضِمنَ وَظِيفَتِها الأَسَاسِ وهي “الشُّكْرُ”.

[النكتة الخامسة: تهذيب النفس وضبطها]

النُّكتة الخَامِسة:

إنَّ لِصَوْمِ رَمَضان حِكَمًا كَثِيرةً مِن حَيثُ تَوَجُّهُه إلى تَهذِيبِ النَّفسِ الأَمّارةِ بالسُّوءِ، وتَقْوِيمِ أَخَلاقِها وجَعْلِها تَتَخلَّى عن تَصَرُّفاتِها العَشْوائيّةِ.. نَذكُرُ مِنها حِكْمةً واحِدةً: إنَّ النَّفسَ الإنسانيّةَ تَنسَى ذاتَها بالغَفْلةِ، ولا تَرَى ما في ماهِيَّتِها مِن عَجْزٍ غَيرِ مَحدُودٍ، ومِن فَقْرٍ لا يَتَناهَى، ومِن تَقْصِيراتٍ بالِغةٍ، بَل لا تُرِيدُ أن تَرَى هذه الأُمُورَ الكامِنةَ في ماهِيَّتِها، فلا تُفَكِّرُ في غَايةِ ضَعْفِها، ومَدَى تَعَرُّضِها لِلزَّوالِ، ومَدَى استِهْدافِ المَصائِبِ لَها، كَما تَنسَى كَوْنَها مِن لَحمٍ وعَظمٍ يَتَحلَّلانِ ويَفسُدانِ بسُرعةٍ، فتَتَصرَّفُ واهِمةً كأنَّ وُجُودَها مِن فُولاذٍ، وأنَّها مُنَزَّهةٌ عنِ المَوتِ والزَّوالِ، وأنَّها خالِدةٌ أَبَدِيّةٌ، فتَراها تَنقَضُّ على الدُّنيا وتَرمِي نَفسَها في أَحْضانِها حامِلةً حِرْصًا شَدِيدًا وطَمَعًا هائِلًا، وتَرتَبِطُ بعَلاقةٍ حَمِيمةٍ ومَحَبّةٍ عارِمةٍ مَعَها، وتَشُدُّ قَبْضَتَها على كلِّ ما هُو لَذِيذٌ ومُفِيدٌ، ومِن ثَمَّ تَنسَى خالِقَها الَّذي يُرَبِّيها بكَمالِ الشَّفَقةِ والرَّأْفةِ، فتَهْوِي في هَاوِيةِ الأَخلَاقِ الرَّدِيئةِ، نَاسِيةً عَاقِبةَ أَمرِهَا وعُقْبَى حَياتِها وحَياةَ أُخْراها.

ولكِنَّ صَوْمَ رَمَضان يُشعِرُ أَشَدَّ النَّاسِ غَفْلةً وأَعتاهُم تَمَرُّدًا بضَعْفِهِم وعَجْزِهِم وفَقْرِهِم، فبِواسِطةِ الجُوعِ يُفكِّرُ كلٌّ مِنهُم في نَفسِه وفي مَعِدَتِه الخاوِيةِ، ويُدرِكُ الحاجةَ الَّتي في مَعِدَتِه، فيَتَذكَّرُ مَدَى ضَعْفِه، ومَدَى حاجَتِه إلى الرَّحْمةِ الإلٰهِيّة ورَأْفَتِها، فيَشعُرُ في أَعماقِه تَوْقًا إلى طَرْقِ بَابِ المَغفِرةِ الرَّبّانيّةِ بعَجْزٍ كامِل وفَقْرٍ ظاهِرٍ، مُتَخلِّيًا عن فَرْعَنةِ النَّفسِ، مُتَهيِّئًا بذلك لِطَرْقِ بابِ الرَّحْمةِ الإلٰهِيّةِ بِيَدِ الشُّكْرِ المَعنَوِيِّ (إن لم تُفسِدِ الغَفْلةُ بَصِيرَتَه).

[النكتة السادسة: النهيؤ لاستقبال الخطاب القرآني العُلوي]

النُّكتة السَّادِسة:

إنَّ مِنَ الحِكَمِ الوَفيرةِ في صِيامِ رَمَضانَ المُبارَكِ مِن حَيثُ تَوَجُّهُه إلى نُزُولِ القُرآنِ الكَرِيمِ، ومِن حَيثُ إنَّ شَهْرَ رَمَضانَ هو أَهَمُّ زَمانٍ لِنُزُولِه، نُورِدُ حِكْمةً واحِدةً هي:

لَمَّا كَان القُرآنُ الكَرِيمُ قد نَزَل في شَهْرِ رَمَضانَ المُبارَكِ، فلا بُدَّ مِنَ التَّجَرُّدِ عنِ الحَاجِيّاتِ الدَّنِيئةِ لِلنَّفسِ، ونَبْذِ سَفاسِفِ الأُمُورِ وتُرَّهاتِها، استِعْدادًا لِلقِيامِ باستِقبالِ ذلك الخِطابِ السَّماوِيِّ استِقْبالًا طَيِّبًا يَلِيقُ به، وذلك باستِحضارِ وَقْتِ نُزُولِه في هذا الشَّهْرِ، والتَّشَبُّهِ بحالاتٍ رُوحانيّةٍ مَلائِكِيّةٍ، بتَركِ الأَكلِ والشُّربِ، والقِيامِ بتِلاوةِ ذلك القُرآنِ الكَرِيمِ تِلاوةً كأنَّ الآياتِ تَتَنزَّلُ مُجَدَّدًا، والإِصغاءِ إلَيْه بهذا الشُّعُورِ بخُشُوعٍ كامِلٍ، والِاستِماعِ إلى مَا فيه مِنَ الخِطابِ الإلٰهِيِّ، لِلسُّمُوِّ إلى نَيلِ مَقامٍ رَفِيعٍ وحالةٍ رُوحِيّةٍ سامِيةٍ، كأنَّ القارِئَ يَسمَعُه مِنَ الرَّسُولِ الأَكرَمِ ﷺ، بل يَشُدُّ السَّمْعَ إلَيْه كأنَّه يَسمَعُه مِن جِبْرِيلَ عَليهِ السَّلام، بل مِنَ المُتَكلِّمِ الأَزَليِّ سُبحانَه وتَعالَى، ثمَّ القِيامِ بتَبلِيغِ القُرآنِ الكَرِيمِ وتِلاوَتِه لِلآخَرِينَ تِبْيانًا لِحِكْمةٍ مِن حِكَمِ نُزُولِه.

إنَّ العالَمَ الإِسلامِيَّ في رَمَضانَ المُبارَكِ يَتَحوَّلُ إلى ما يُشبِهُ المَسجِدَ، ويا لَه مِن مَسجِدٍ عَظِيم تَعُجُّ كلُّ زاوِيةٍ مِن زَواياه، بل كلُّ رُكْنٍ مِن أَركانِه، بمَلايِينِ الحُفَّاظِ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ، يُرَتِّلُونَ ذلك الخِطابَ السَّماوِيَّ على مَسامِعِ الأَرضِيِّينَ، ويُظهِرُونَ بصُورةٍ رائِعةٍ بَرّاقةٍ مِصْداقَ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ…﴾، مُثْبِتِينَ بذلك أنَّ شَهْرَ رَمَضانَ هو حَقًّا شَهْرُ القُرآنِ؛ أمّا الأَفرادُ الآخَرُونَ مِن تلك الجَماعةِ العُظْمَى فمِنهُم مَن يُلقِي السَّمْعَ إلَيْهِم بكُلِّ خُشُوعٍ وهَيْبةٍ، ومِنهُم مَن يُرتِّلُ تلك الآياتِ الكَرِيمةَ لِنَفسِه.

ألا ما أَقْبَحَ وما أَزْرَى الِانسِلاخَ مِن هذا المَسجِدِ المُقَدَّسِ الَّذي لَه هذا الوَضْعُ المَهِيبُ، لَهاثًا وَراءَ الأَكلِ والشُّربِ تَبَعًا لِهَوَى النَّفسِ الأَمّارةِ بالسُّوءِ! وكم يكُونُ ذلك الشَّخْصُ هَدَفًا لِاشمِئْزازٍ مَعنَوِيٍّ مِن قِبَلِ جَماعةِ المَسجِدِ! وهكذا الأَمرُ في الَّذين يُخالِفُونَ الصَّائِمِينَ في رَمَضانَ المُبارَكِ، فيُصبِحُونَ هَدَفًا لِازْدِراءٍ وإِهانةٍ مَعنَوِيَّينِ -بتلك الدَّرَجةِ- مِن قِبَلِ العالَمِ الإِسلاميِّ كُلِّه.

[النكتة السابعة: شهر التجارة القدسية الرابحة]

النُّكتة السَّابعة:

إنَّ صِيامَ رَمَضانَ مِن حَيثُ تَطَلُّعُه لِكَسْبِ الإِنسانِ -الَّذي جاءَ إلى الدُّنيا لِأَجْل مُزاوَلةِ الزِّراعةِ الأُخْرَوِيّةِ وتِجارَتِها- له حِكَمٌ شَتَّى، إلَّا أنَّنا نَذكُرُ واحِدةً مِنها هي أنَّ ثَوابَ الأَعمالِ في رَمَضانَ المُبارَكِ يُضاعَفُ الواحِدُ إلى الأَلْفِ؛ ومِنَ المَعلُومِ أنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنَ القُرآنِ الحَكِيمِ له عَشْرُ إِثاباتٍ، ويُحْسَبُ عَشْرَ حَسَناتٍ، ويَجلُبُ عَشرَ ثِمارٍ مِن ثَمَراتِ الجَنَّةِ كما جاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، ففي رَمَضانَ يُولِّدُ كُلُّ حَرفٍ أَلْفًا مِن تلك الثَّمَراتِ الأُخرَوِيّةِ بَدَلًا مِن عَشرٍ مِنها، وكلُّ حَرفٍ مِن حُرُوفِ آياتٍ -كآيةِ الكُرسِيِّ- يَفتَحُ البابَ أَمامَ الأُلُوفِ مِن تلك الحَسَناتِ، لِتَتَدلَّى في الآخِرةِ ثِمارًا حَقِيقيّةً.

وتَزدادُ تلك الحَسَناتُ باطِّرادٍ أيَّامَ الجُمَعِ في رَمَضانَ، وتَبلُغُ الثَّلاثِينَ أَلْفًا مِنَ الحَسَناتِ لَيْلةَ القَدْرِ.

نعم، إنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ الَّذي يَهَبُ كلُّ حَرفٍ مِنه ثَلاثِينَ أَلفًا مِنَ الثَّمَراتِ الباقِيةِ يكُونُ بمَثابةِ شَجَرةٍ نُورانيّةٍ كشَجَرةِ طُوبَى الجَنّةِ، بحَيثُ يُغنِمُ المُؤْمِنِينَ في رَمَضانَ المُبارَكِ تلك الثَّمَراتِ الدَّائِمةَ الباقِيةَ الَّتي تُعَدُّ بالمَلايِينِ.. تَأَمَّلْ هذه التِّجارةَ المُقدَّسةَ الخالِدةَ المُربِحةَ وأَجِلِ النَّظَرَ فيها، ثمَّ تَدَبَّرْ في أَمرِ الَّذين لا يُقَدِّرُونَ قِيمةَ هذه الحُرُوفِ المُقدَّسةِ حَقَّ قَدْرِها، ما أَعظَمَ خَسارَتَهُم وما أَفْدَحَها!

وهكذا، فإنَّ شَهْرَ رَمَضانَ المُبارَكِ أَشبَهُ ما يكُونُ بمَعرِضٍ رائِعٍ لِلتِّجارةِ الأُخرَوِيّةِ، أو هو سُوقٌ في غايةِ الحَرَكةِ والرِّبحِ لِتلك التِّجارةِ، وهُو كالأَرضِ المُنبِتةِ في غايةِ الخُصُوبةِ والغَناءِ لِإِنتاجِ المَحاصِيلِ الأُخرَوِيّةِ.. وهُو كالغَيثِ النَّازِلِ في نَيسانَ لِإِنماءِ الأَعمالِ وبَرَكاتِها.. وهُو بمَثابةِ مِهْرَجانٍ عَظِيمٍ وعِيدٍ بَهِيجٍ مُقَدَّسٍ لِعَرْضِ مَراسِيمِ العُبُودِيّةِ البَشَرِيّةِ تِجاهَ عَظَمةِ الرُّبُوبيّةِ وعِزَّةِ الأُلُوهِيّةِ.

لِأَجلِ كلِّ ذلك فقد أَصبَحَ الإِنسانُ مُكَلَّفًا بالصَّوْمِ، لِئَلّا يَلِجَ في الحاجاتِ الحَيَوانيّةِ، كالأَكلِ والشُّربِ مِن حاجاتِ النَّفسِ بالغَفْلةِ، ولِكي يَتَجنَّبَ الِانغِماسَ في شَهَواتِ الهَوَى وما لا يَعنِيه مِنَ الأُمُورِ.. وكأَنَّه أَصبَحَ بصَوْمِه مِرآةً تَعكِسُ “الصَّمَدانيّةَ” حَيثُ قد خَرَج مُؤَقَّتًا مِنَ الحَيَوانيّةِ ودَخَل إلى وَضْعٍ مُشابِهٍ لِلمَلائكِيّةِ، أو أَصبَحَ شَخْصًا أُخرَوِيًّا ورُوحًا ظاهِرةً بالجَسَدِ، بدُخُولِه في تِجارةٍ أُخرَوِيّةٍ وتَخَلِّيه عنِ الحاجاتِ الدُّنيَوِيّةِ المُؤَقَّتةِ.

نعم، إنَّ رَمَضانَ المُبارَكَ يُكسِبُ الصَّائِمَ في هذه الدُّنيا الفانيةِ وفي هذا العُمُرِ الزَّائِلِ وفي هذه الحَياةِ القَصِيرةِ عُمُرًا باقِيًا وحَياةً سَرمَدِيَّةً مَدِيدةً، ويَتَضمَّنُ كُلَّها؛ فيُمكِنُ لِشَهرِ رَمَضانَ واحِدٍ فقط أن يَمنَحَ الصَّائِمَ ثَمَراتِ عُمُرٍ يُناهِزُ الثَّمانِينَ سَنةً، وكَونُ لَيْلةِ القَدْرِ خَيْرًا مِن أَلفِ شَهرٍ -بنَصِّ القُرآنِ الكَرِيم- حُجَّةٌ قاطِعةٌ لِهذا السِّرِّ.

فكما يُحَدِّدُ سُلطانٌ أَيَّامًا مُعيَّنةً في مُدَّةِ حُكْمِه، أو في كلِّ سَنةٍ، سَواءٌ باسمِ تَسَنُّمِه عَرشَ الحُكْمِ أو أيِّ يَومٍ آخَرَ مِنَ الأَيَّامِ الزَّاهِرةِ لِدَوْلَتِه، جاعِلًا مِن تلك الأَيّامِ مُناسَباتٍ وأَعيادًا لِرَعِيَّتِه، فتَراه لا يُعامِلُ رَعِيَّتَه الصَّادِقِينَ المُستَحِقِّينَ في تلك الأَيَّامِ بالقَوانِينِ المُعتادةِ، بل يَجعَلُهُم مَظْهَرًا لِإِحسانِه وإِنعامِه وأَفضالِه الخاصّةِ، فيَدعُوهُم إلى دِيوانِه مُباشَرةً دُونَ حُجُبٍ، ويَخُصُّهُم برِعايَتِه الخاصّةِ، ويُحِيطُهُم بِكَرَمِه وبإِجراءاتِه الِاستِثْنائيّةِ، ويَجُودُ علَيْهِم بتَوَجُّهاتِه الكَرِيمةِ.. كذلك القادِرُ الأَزَليُّ ذُو الجَلالِ والإِكرامِ -وهو سُلْطانُ الأَزَلِ والأَبدِ، وهو السُّلطانُ الجَلِيلُ لِثَمانِيةَ عَشَرَ أَلفَ عالَمٍ مِنَ العَوالِمِ- قد أَنزَلَ سُبحانَه في شَهرِ رَمَضانَ أَوامِرَه الحَكِيمةَ السّامِيةَ وقُرآنَه الحَكِيمَ المُتَوجِّهَ إلى تلك الأُلُوفِ مِنَ العَوالِمِ، لِذا فإنَّ دُخُولَ ذلك الشَّهرِ المُبارَكِ في حُكْمِ عِيدٍ ومُناسَبةٍ إِلٰهِيّةٍ خاصَّةٍ بَهِيجةٍ، وفي حُكْمِ مَعرِضٍ بَدِيعٍ رَبَّانِيٍّ، ومَجلِسٍ مَهِيبٍ رُوحانِيٍّ، هو مِن مُقتَضَى الحِكْمةِ.

[حَواسُّ الإنسان لها صيامُها أيضًا]

فما دامَ شَهرُ رَمَضانَ قد تَمَثَّـلَ بتلك المُناسَبةِ البَهِيجةِ وذلك العِيدِ المُفرِحِ، فلا بُدَّ أن يُؤمَرَ فيه بالصَّومِ، لِيَسْمُوَ النَّاسُ -إلى حَدٍّ مّا- على المَشاغِلِ الحَيَوانيّةِ السَّافِلةِ؛ فالكَمالُ في ذلك الصَّومِ هو جَعْلُ جَمِيعِ حَواسِّ الإِنسانِ كالعَينِ والأُذُنِ والقَلبِ والخَيالِ والفِكْرِ على نَوعٍ مِنَ الصَّومِ، كما تَقُومُ به المَعِدةُ، أي: تَجنِيبُ تلك الحَواسِّ مِنَ المُحَرَّماتِ والسَّفاهاتِ وما لا يَعنِيها مِن أُمُورٍ، وسَوْقُها إلى عُبُودِيّةٍ خاصّةٍ لِكُلٍّ مِنها.

فمَثلًا: يُرَوِّضُ الإِنسانُ لِسانَه على الصَّومِ مِنَ الكَذِبِ والغِيبةِ والعِباراتِ النَّابِيةِ ويَمنَعُه عنها، ويُرَطِّبُ ذلك اللِّسانَ بتِلاوةِ القُرآنِ الكَرِيمِ وذِكْرِ اللهِ سُبحانَه والتَّسبِيحِ بحَمْدِه والصَّلَواتِ والسَّلامِ على الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ والِاستِغفارِ، وما شابَهَه مِن أَنواعِ الأَذكارِ. ومَثلًا: يَغُضُّ بَصَرَه عنِ المُحَرَّماتِ، ويَسُدُّ أُذُنَه عنِ الكَلامِ البَذِيءِ، ويَدفَعُ عَيْنَه إلى النَّظَرِ بعِبْرةٍ وأُذُنَه إلى سَماعِ الكَلامِ الحَقِّ والقُرآنِ الكَرِيمِ؛ ويَجعَلُ سائِرَ حَواسِّه على نَوْعٍ مِنَ الصِّيامِ.

ومِنَ المَعلُومِ أنَّ المَعِدةَ الَّتي هي مَصنَعٌ كَبِيرٌ جِدًّا إن عُطِّلَت أَعمالُها بالصِّيامِ، فإنَّ تَعطِيلَ المَعامِلِ الصَّغِيرةِ الأُخرَى يكُونُ سَهْلًا مَيسُورًا.

[النكتة الثامنة: الصيام علاج مادي ومعنوي]

النُّكتة الثَّامنة:

إنَّ حِكْمةً مِنَ الحِكَمِ الكَثِيرةِ لِصِيامِ رَمَضانَ المُبارَكِ المُتَعلِّقةِ بالحَياةِ الشَّخصِيّةِ للإِنسانِ تَتَلخَّصُ بما يَأْتي:

إنَّ في الصَّومِ نَوْعًا مِن أَنواعِ العِلاجِ النَّاجِعِ لِلإنسانِ، وهو “الحِمْيةُ”، سَواءٌ المادِّيّةُ مِنها أوِ المَعنَوِيّةُ، فالحِمْيةُ ثابِتةٌ طِبًّا، إذ إنَّ الإِنسانَ كُلَّما سَلَكَت نَفسُه سُلُوكًا طَلِيقًا في الأَكلِ والشُّربِ سَبَّب له أَضْرارًا مادِّيّةً في حَياتِه الشَّخصِيّةِ؛ وكذلك الحالُ في حَياتِه المَعنَوِيّةِ، إذ إنَّه كُلَّما الْتَهَم ما يُصادِفُه دُونَ النَّظَرِ إلى ما يَحِلُّ له ويَحرُمُ علَيْه تَسَمَّمَت حَياتُه المَعنَوِيّةُ وفَسَدَت، حتَّى يَصِلَ به الأَمرُ أن تَستَعصِيَ نَفسُه على طاعةِ القَلبِ والرُّوحِ فلا تَخضَعَ لَهُما، فتَأْخُذُ زِمامَها بِيَدِها وهي طائِشةٌ حُرّةٌ طَلِيقةٌ، وتَسُوقُ الإِنسانَ إلى شَهَواتِها دُونَ أن تكُونَ تَحتَ سَيْطَرةِ الإِنسانِ وتَسخِيرِه.

أمَّا في رَمَضانَ المُبارَكِ فإنَّ النَّفسَ تَعتادُ على نَوْعٍ مِنَ الحِمْيةِ بوَاسِطةِ الصَّومِ، وتَسعَى بِجِدٍّ في سَبِيلِ التَّزكِيةِ والتَّروِيضِ، وتَتَعلَّمُ طاعةَ الأَوامِرِ، فلا تُصابُ بأَمراضٍ ناشِئةٍ مِنِ امتِلاءِ المَعِدةِ المِسكِينةِ وإِدخالِ الطَّعامِ على الطَّعامِ؛ وتَكسِبُ قابِلِيّةَ الإِصغاءِ إلى الأَوامِرِ الوارِدةِ مِنَ العَقلِ والشَّرِيعةِ، وتَتَحاشَى الوُقُوعَ في الحَرامِ بتَخَلِّيها عنِ الحَلالِ انقِيادًا لِأَمرِ اللهِ، وتَجِدُّ في عَدَمِ الإِخلالِ بالحَياةِ المَعنَوِيّةِ وتَكدِيرِ صَفْوِها.

ثمَّ إنَّ الأَكثَرِيّةَ المُطلَقةَ مِنَ البَشَرِيّةِ يُبتَلَوْنَ بالجُوعِ في أَغلَبِ الأَحيانِ، فهُم بِحاجةٍ إلى تَرْوِيضٍ، وذلك بالجُوعِ الَّذي يُعَوِّدُ الإِنسانَ على الصَّبْرِ والتَّحَمُّلِ؛ وصِيامُ رَمَضانَ هو تَروِيضٌ وتَعوِيدٌ وصَبْرٌ على الجُوعِ يَدُومُ خَمسَ عَشْرةَ ساعةً أو أَربَعًا وعِشرِينَ ساعةً لِمَن فاتَه السُّحُورُ؛ فالصَّومُ إذًا عِلاجٌ ناجِعٌ لِهَلَعِ الإِنسانِ وقِلّةِ صَبْرِه، اللَّذَينِ يُضاعِفانِ مِن مُصِيبةِ الإِنسانِ وبَلاياه.

والمَعِدةُ كذلك هي نَفسُها بمَثابةِ مَعمَلٍ لَها عُمَّالٌ وخَدَمَةٌ كَثِيرُونَ، وفي الإِنسانِ أَجهِزةٌ ذاتُ عَلاقاتٍ وارتِباطاتٍ مَعَها، فإن لم تُعَطِّلِ النَّفسُ مَشاغِلَها وَقتَ النَّهارِ مُؤَقَّتًا لِشَهرٍ مُعَيَّنٍ ولم تَدَعْها، فإنَّها تُنسِي أُولَئِك العُمّالَ والخَدَمةَ عِباداتِهِمُ الخاصَّةَ بهم، وتُلهِيهِم جَمِيعًا بِذاتِها، وتَجعَلُهُم تَحتَ سَيْطَرَتِها وتَحَكُّمِها، فتُشَوِّشُ الأَمرَ على تلك الأَجهِزةِ والحَواسِّ، وتُنَغِّصُ علَيْها بضَجِيجِ دَوالِيبِ ذلك المَصنَعِ المَعنَوِيِّ وبدُخانِه الكَثِيفِ، فتَصرِفُ أَنظارَ الجَمِيعِ إلَيْها، وتُنسِيهِم وَظائِفَهُمُ السَّامِيةَ مُؤَقَّتًا.. ومِن هُنا كان كَثِيرٌ مِنَ الأَولياءِ الصَّالِحِينَ يَعكُفُونَ على تَروِيضِ أَنفُسِهِم على قَلِيلٍ مِنَ الأَكلِ والشُّربِ، لِيَرقَوْا في سُلَّمِ الكَمالِ.

ولكِن بحُلُولِ شَهرِ رَمَضانَ يُدرِكُ أُولَئِك العُمَّالُ أنَّهُم لم يُخلَقُوا لِأَجلِ ذلك المَصنَعِ وَحْدَه، بل تَتَلذَّذُ أَيضًا تلك الأَجهِزةُ والحَواسُّ بلَذائِذَ سامِيةٍ، وتَتَمتَّعُ تَمَتُّعًا مَلائِكِيًّا ورُوحانيًّا في رَمَضانَ المُبارَكِ، ويَصرِفُونَ أَنظارَهُم إلَيْها بَدَلًا مِنَ اللَّهوِ الهابِطِ لِذلك المَصنَعِ؛ لِذلك تَرَى المُؤْمِنِينَ في رَمَضانَ المُبارَكِ يَنالُونَ مُختَلِفَ الأَنوارِ والفُيُوضاتِ والمَسَرّاتِ المَعنَوِيّةِ -كلٌّ حَسَبَ دَرَجَتِه ومَنزِلَتِه- فهُناك تَرَقِّياتٌ كَثِيرةٌ وفُيُوضاتٌ جَمّةٌ لِلقَلبِ والرُّوحِ والعَقلِ والسِّرِّ، وأَمثالُها مِنَ اللَّطائِفِ الإِنسانيّةِ في ذلك الشَّهرِ المُبارَك.. وعلى الرَّغمِ مِن بُكاءِ المَعِدةِ ونَحِيبِها فإنَّ تلك اللَّطائِفَ يَضْحَكْنَ ببَراءةٍ ولُطْفٍ.

[النكتة التاسعة: كسرُ الربوبية الموهومة للنفس]

النُّكتة التَّاسِعة:

إنَّ صَوْمَ رَمَضانَ مِن حَيثُ كَسْرُه الرُّبُوبيّةَ المَوهُومةَ لِلنَّفسِ كَسْرًا مُباشَرًا، ومِن ثُمَّ تَعرِيفُها عُبُودِيَّتَها وإِظهارُ عَجزِها أَمامَها، فيه حِكَمٌ كَثِيرةٌ، مِنها: أنَّ النَّفسَ لا تُرِيدَ أن تَعرِفَ رَبَّها، بل تُرِيدُ أن تَدَّعِيَ الرُّبُوبيّةَ بفِرْعَوْنِيّةٍ طاغِيةٍ؛ فمَهْما عُذِّبَت وقُهِرَت فإنَّ عِرْقَ تلك الرُّبُوبيّةِ المَوهُومةِ يَظَلُّ باقِيًا فيها، فلا يَتَحطَّمُ ذلك العِرْقُ ولا يَركَعُ إلَّا أَمامَ سُلْطانِ الجُوعِ.

وهكذا، فصِيامُ رَمَضانَ المُبارَكِ يُنزِلُ ضَربةً قاضِيةً مُباشَرةً على النَّاحِيةِ الفِرْعَوْنيَّةِ لِلنَّفسِ، فيَكسِرُ شَوْكَتَها مُظْهِرًا لَها عَجْزَها، وضَعْفَها، وفَقْرَها، ويُعَرِّفُها عُبُودِيَّتَها.

وقد جاءَ في إِحدَى رِواياتِ الحَدِيثِ: أنَّ اللهَ سُبحانَه قال لِلنَّفسِ: “مَن أَنا؟ وما أَنتِ؟”، أَجابَتِ النَّفسُ: “أنا أنا، أنتَ أنتَ”، فعَذَّبَها الرَّبُّ سُبحانَه وأَلْقاها في جَهَنَّمَ، ثمَّ سَأَلَها مَرّةً أُخرَى فأَجابَت: “أنا أنا، أنتَ أنتَ”، ومَهْما أَذاقَها مِن صُنُوفِ العَذابِ لم تُردَعْ عن أَنانيَّتِها.. ثمَّ عَذَّبَها اللهُ تَعالَى بالجُوعِ، أي: تَرَكَها جائِعةً، ثمَّ سَأَلَها مَرّةً أُخرَى: “مَن أنا وما أَنتِ؟”، فأَجابَتِ النَّفسُ: “أَنتَ رَبِّي الرَّحِيمُ، وأنا عَبْدُك العاجِزُ”.

﴿اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَاةً تَكُونُ لَكَ رِضَاءً ولِحَقِّه أَدَاءً، بِعَدَدِ ثَوَابِ قِرَاءَةِ حُرُوفِ القُرآنِ في شَهرِ رَمَضَانَ، وعَلَى آلِه وصَحبِه وسَلِّم﴾

﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ آمينَ﴾.

[اعتذار]

اعتِذارٌ: لقد كُتِبَت هذه الرِّسالةُ على عَجَلٍ خِلالَ أَربَعِين دَقيقةً فقط، ولِكَوني وكاتبِ المُسَوَّدةِ مَرِيضَينِ ومُرهَقَينِ معًا، فلا غَرْوَ أن يَعتَرِيَ الرِّسالةَ شيءٌ مِنَ القُصُورِ، لِذا نَستَمِيحُ إِخوانَنا عُذرًا ونَرجُوهُم تَصحِيحَ ما يَرَونَه مُناسِبًا.

❀   ❀   ❀

[القسم الثالث: طبقات إعجاز القرآن وإعجاز التوافقات]

القِسم الثَّالِث وهُو الرِّسَالة الثَّالِثة

لقد كُتِبَ هذا القِسمُ لِاستِشارةِ إِخوانِي في خِدمةِ القُرآنِ، ولِيَكُونَ تَنبِيهًا لي، لِإنفاذِ ما كُنتُ أَحمِلُ مِن نِيّةٍ مُهِمّةٍ حَولَ كِتابةِ مُصحَفٍ شَرِيفٍ، يَظهَرُ فيه نَقشٌ إِعجازِيٌّ، وهُو قِسمٌ مِن مِئَتَيْ قِسمٍ مِن أَقسامِ إِعجازِ القُرآنِ الكَرِيمِ، فعَرَضتُ لَهُم تلك النِّيّةَ لِمَعرِفةِ آرائِهِم حَولَ كِتابةِ ذلك المُصحَفِ الشَّرِيفِ الَّذي يُبيِّنُ النَّقْشَ الإِعجازِيَّ، معَ الِاعتِمادِ على المُصحَفِ المَكتُوبِ بخَطِّ الحافِظِ عُثمانَ، واتِّخاذِ آيةِ “المُدايَنةِ” وَحْدةَ قِياسٍ لِطُولِ الصَّفحةِ و”سُورةُ الإِخلاصِ” لِطُولِ السَّطرِ.. وهذا القِسمُ الثّالِثُ عِبارةٌ عن تِسعِ مَسائِلَ:‌

المَسألة الأولى

لقد أُثبِتَ في “الكَلِمةِ الخَامِسةِ والعِشرِينَ” المُسَمّاةِ بـ”المُعجِزاتِ القُرآنيّةِ” بالبَراهِينِ القاطِعةِ أنَّ أَنواعَ إِعجازِ القُرآنِ الكَرِيمِ تَبلُغُ أَربَعِينَ نَوعًا، وقد بُيِّن بَعضُ أَنواعِه مُفَصَّلًا حتَّى إِزاءَ المُعانِدِينَ، بَينَما ظَلَّت أَنواعٌ أُخرَى بصُورةٍ مُجمَلةٍ.

وقد تَبيَّنَ كَذلِك في الإِشارةِ الثّامِنةَ عَشْرةَ مِنَ “المَكتُوبِ التّاسِعَ عَشَرَ” أنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ يُبْرِزُ إِعجازَه على وُجُوهٍ مُختَلِفةٍ إِزاءَ أَربَعِينَ طَبَقةً مِن طَبَقاتِ النّاسِ، وأَثبَتَت تلك الإِشارةُ لِعَشَرةٍ مِن تلك الطَّبَقاتِ حَظَّها مِنَ الإِعجازِ..

أمَّا الطَّبَقاتُ الثَّلاثُونَ الباقِيةُ، فقد أَظهَرَ القُرآنُ الكَرِيمُ إِعجازَه لِأَصحابِ المَشارِبِ المُختَلِفةِ مِنَ الأَوْلياءِ، ولِأَربابِ العُلُومِ المُتَنوِّعةِ، والدَّليلُ على ذلك إِيمانُهُمُ التَّحقِيقيُّ الَّذي بَلَغ دَرَجةَ عِلمِ اليَقِينِ، وعَينِ اليَقِينِ، وحَقِّ اليَقِينِ: بأنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ هو كَلامُ اللهِ حَقًّا. بمَعنَى أنَّ كلَّ واحِدٍ مِنهُم قد رَأَى وَجْهًا مِن وُجُوهِ الإِعجازِ.

نعم، إنَّ جَمالَ جَلَواتِ الإِعجازِ يَختَلِفُ باختِلافِ المَشارِبِ، إذِ الإِعجازُ الَّذي يَفهَمُه وَليٌّ مِنَ العارِفِينَ يَختَلِفُ عنِ الإِعجازِ الَّذي يُشاهِدُه وَليٌّ غارِقٌ في العِشقِ الإلٰهِيِّ؛ وإنَّ وَجهَ الإِعجازِ الَّذي يُشاهِدُه إِمامٌ مِن أَئِمّةِ أُصُولِ الدِّينِ غَيرُ الوَجهِ الَّذي يُشاهِدُه مُجتَهِدٌ في فُرُوعِ الشَّرِيعةِ.. وهكذا.

ولَمَّا كُنتُ لا أَقدِرُ على الإِيضاحِ المُفَصَّلِ لِكُلِّ وَجهٍ مِن تلك الوُجُوهِ المُختَلِفةِ، لقِصَرِ نَظَرِي عن رُؤْيَتِها، وضِيقِ ذِهنِي عنِ استِيعابِها، فقد أَوضَحتُ عَشْرَ طَبَقاتٍ مِنها فقط، فاكتَفَيتُ بالإِشارةِ المُجمَلةِ إلى بَقِيَّتِها.. ولكِن ظَلَّت حِينَها طَبَقتانِ مِنها في “المُعجِزاتِ الأَحمَدِيّةِ” بحاجةٍ إلى مَزِيدٍ مِنَ التَّوضِيحِ، فالآنَ نُوضِحُهُما:

الطَّبَقة الأولَى: وهُمُ الَّذِينَ يُدرِكُونَ الإِعجازَ بأَسماعِهِم، إذِ الشَّخصُ العامِّيُّ -مِن عَوامِّ النّاسِ- لا يَستَمِعُ لِلقُرآنِ إلّا بأُذُنِه، ولا يَفهَمُ إِعجازَه إلّا بالسَّمعِ. أي: أنَّه يقُولُ:

إنَّ هذا القُرآنَ الَّذي أَسمَعُه لا يُشبِهُ أيَّ كِتابٍ آخَرَ، فإمَّا أنَّه فَوقَ جَمِيعِها أو تَحتَ جَمِيعِها؛ وهذا الأَخِيرُ لا يَستَطِيعُ أن يقُولَ به أَحَدٌ قَطُّ، ولم يَقُله، بل حتَّى الشَّيطانُ نَفسُه لا يَستَطِيعُ أن يَتَفوَّه به؛ فهُو إِذًا فَوقَ الجَمِيعِ.. وقد جاءَ بهذا الإِجمالِ في “الإِشارةِ الثّامِنةَ عَشْرةَ”، ثمَّ وُضِّح هذا الإِجمالُ في “المَبحَثِ الأَوَّلِ” مِنَ “المَكتُوبِ السَّادِسِ والعِشرِينَ” المَعرُوفِ بـ”حُجّةُ القُرآنِ على حِزبِ الشَّيطانِ” الَّذي يُصَوِّرُ فَهْمَ تلك الطَّبَقةِ مِنَ الإِعجازِ ويُثبِتُه.

الطَّبَقة الثَّانية: وهُمُ الَّذِينَ لا يَرَونَ الإِعجازَ إلَّا بالعَينِ، أي: أنَّ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ إِشارةً إِعجازِيّةً تُشاهَدُ بالعَينِ، حتَّى مِن قِبَلِ عَوامِّ النّاسِ والمادِّيِّينَ الَّذِينَ سالَت عُقُولُهُم إلى عُيُونِهِم فلا يُؤمِنُونَ إلَّا بما يُشاهِدُونَ.. وقدِ ادُّعِيَ هذا الِادِّعاءُ في “الإِشارةِ الثَّامِنةَ عَشْرةَ”، وكانَ مِنَ الضَّرُورِيِّ أن يُوضَحَ أَكثَرَ لِإثباتِ تلك الدَّعوَى، ولكِن لم يَسمَحِ الوَقتُ بذلك، لِحِكْمةٍ رَبَّانيَّةٍ مُهِمَّةٍ، قد فَهِمْناها الآنَ.. لِأَجلِ هذا فقد أُشِيرَ إلى بَعضِ جِهاتِها الجُزئِيَّةِ إِشاراتٍ بَسِيطةً. والآنَ، بَعدَ أن تَوَضَّح سِرُّ تلك الحِكْمةِ اقتَنَعْنا اقْتِناعًا تامًّا بأنَّ تَأخِيرَه كانَ هو الأَوْلَى، ولِتَيسِيرِ فَهْمِ تلك الطَّبَقةِ وتَسهِيلًا لَهُم لِيَتَذوَّقُوا نَوعَ الإِعجازِ لِلقُرآنِ، استَكْتَبْنا مُصحَفًا شَرِيفًا يُبيِّنُ ذلك الوَجهَ مِنَ الوُجُوهِ الأَربَعِينَ لِلإِعجازِ.

(إنَّ بَقِيّةَ مَسائِلِ هذا القِسمِ الثَّالِثِ معَ القِسمِ الرّابِعِ لم تُدرَج هنا، لِأنَّها تَخُصُّ التَّوافُقاتِ، فاكتَفَيْنا بالفِهرِسِ الخاصِّ لِلتَّوافُقاتِ، وإنَّما كُتِبَتِ النُّكتةُ الثَّالِثةُ مِنَ القِسمِ الرَّابعِ معَ تَنبِيهٍ.)

تنبيهٌ:

لقد كُتِبَت مِئةٌ وسِتُّونَ آيةً كَرِيمةً في صَدَدِ بَيانِ النُّكتةِ العَظِيمةِ في لَفظِ “الرَّسُولُ” الوارِدِ في القُرآنِ الكَرِيمِ، ومعَ أنَّ لِهذه الآياتِ الكَرِيمةِ خَواصَّ جَلِيلةً فإنَّ كُلًّا مِنها تُثبِتُ وتُكمِلُ الأُخرَى مِن حَيثُ المَعنَى، لِذا يُمكِنُ أن تكُونَ تلك الآياتُ حِزبًا قُرآنيًّا لِمَن يُرِيدُ أن يَحفَظَ آياتٍ مُختَلِفةً أو يَتلُوها.

وكَذلِك في الآياتِ “التِّسعِ والسِّتِّينَ” الوارِدِ فيها لَفظُ “القُرآنُ”، في صَدَدِ بَيانِ النُّكتةِ العَظِيمةِ لِلَفظِ “القُرآن”، يُلاحَظُ أنَّ بَلاغةَ هذه الآياتِ الجَلِيلةِ فائِقةٌ جِدًّا، وجَزالَتَها عالِيةٌ جِدًّا؛ ويُوصَى الإِخوانُ أن يَتَّخِذُوا مِنها حِزبًا قُرآنيًّا آخَرَ.

وكَلِمةُ “القُرآنُ” الوارِدةُ في المُصحَفِ الشَّرِيفِ، وَرَدَت في صُورةِ سَبعِ سَلاسِلَ، وظَلَّت كَلِمَتانِ مِنها خارِجَ السَّلاسِلِ، وكانَت تِلكُما الكَلِمتانِ بمَعنَى القِراءةِ، مِمَّا شَدَّ -بخُرُوجِهِما- مِن قُوّةِ النُّكتةِ.

أمّا لَفظُ “الرَّسُولُ” فإنَّ سُورةَ “مُحَمَّدٍ” وسُورةَ “الفَتحِ” هُما مِن أَكثَرِ السُّوَرِ القُرآنيّةِ ذاتِ العَلاقةِ.. ولِذلِك حَصَرنا نَظَرَنا في السَّلاسِلِ الظَّاهِرةِ في تِلكُما السُّورَتَينِ، ولم يُدرَج -في الوَقتِ الحاضِرِ- ما ظَلَّ مِنه خارِجَ السِّلسِلةِ.

وسيُكتَبُ بمَشِيئةِ اللهِ ما في لَفظِ “الرَّسُولُ” مِن أَسرارٍ إن سَنَح لنا الوَقتُ.

النُّكتة الثَّالثةُ: وهِي في أَربَعِ نِكاتٍ:

النُّكتة الأُولَى: إنَّ لَفظَ الجَلالةِ “الله” وَرَد في مَجمُوعِ القُرآنِ الكَرِيمِ بأَلفَينِ وثَمانِ مِئةٍ وسِتِّ مَرّاتٍ، ووَرَد لَفظُ “الرَّحمٰنِ” -معَ ما في البَسمَلةِ- مِئةً وتِسعًا وخَمسِينَ مَرّةً، ووَرَد لَفظُ “الرَّحِيم” مِئَتَينِ وعِشرِينَ مَرّةً، ولَفظُ “الغَفُور” إِحدَى وسِتِّينَ مَرَّةً، ولَفظُ “الرَّبِّ” ثَمانَ مِئةٍ وسِتًّا وأَربَعِينَ مَرَّةً، ولَفظُ “الحَكِيم” سِتًّا وثَمانِينَ مَرّةً، ولَفظُ “العَلِيم” مِئةً وسِتًّا وعِشرِينَ مَرّةً، ولَفظُ “القَدِير” إِحدَى وثَلاثِينَ مَرَّةً، ولَفظُ “هو” في “لا إِلٰهَ إلّا هو” سِتًّا وعِشرِينَ مَرّةً2إنَّ كَونَ مَجمُوعِ عَدَدِ آياتِ القُرآنِ الكَرِيمِ سِتَّةَ آلافٍ وسِتَّ مِئةٍ وسِتًّا وسِتِّينَ، ووُجُودَ عَلاقةٍ له معَ سِتّةِ أَرقامٍ مِن عَدَدِ الأَسماءِ الحُسنَى الوارِدةِ في هذه الصَّحِيفةِ، يُشِيرُ إلى سِرٍّ مُهِمٍّ، ولكِن ظَلَّ مُهمَلًا في الوَقتِ الحاضِرِ... وفي عَدَدِ لَفظِ الجَلالةِ “الله” أَسرارٌ ونِكاتٌ كَثِيرةٌ.

مِنها: أنَّ أَكثَرَ ما وَرَد في القُرآنِ هو لَفظُ “الله” و”الرَّبُّ” ويَلِيهِما عَدَدًا أَلفاظُ “الرَّحمٰن والرَّحِيم والغَفُور والحَكِيم”، وإنَّ عَدَدَ هذه الأَلفاظِ معَ لَفظِ “الله” هو نِصفُ عَدَدِ آياتِ القُرآنِ الكَرِيمِ.

وأنَّ لَفظَ الجَلالةِ “الله” معَ لَفظِ “الرَّبِّ” الوارِدِ بمَعنَى “الله” نِصفُ عَدَدِ آياتِ القُرآنِ أَيضًا، إذ إنَّ لَفظَ “الرَّبّ” المَذكُورَ ثَمانَ مِئةٍ وسِتًّا وأَربَعِينَ مَرّةً، خَمسُ مِئةٍ وبِضعٌ مِنها قد ذُكِرَت بَدَلًا عن لَفظِ الجَلالةِ “الله”، ومِئَتانِ وبِضعٌ مِنها لَيسَت بمَعنَى “الله”.

وأنَّ مَجمُوعَ عَدَدِ لَفظِ الجَلالةِ “الله” معَ عَدَدِ أَلفاظِ “الرَّحمٰنِ والرَّحِيمِ والعَلِيمِ” معَ عَدَدٍ مِن لَفظِ “هو” في “لا إِلٰهَ إلّا هو”، هو نِصفُ آياتِ القُرآنِ أَيضًا، والفَرقُ أَربَعةُ أَعدادٍ.

ومعَ لَفظِ “القَدِير” -عِوَضًا عن لَفظِ “هو”- هو نِصفُ عَدَدِ مَجمُوعِ الآياتِ أَيضًا، والفَرقُ تِسعةُ أَعدادٍ.

نَكتَفِي الآنَ بهذه النُّكتةِ، إذِ النِّكاتُ كَثِيرةٌ في مَجمُوعِ لَفظِ الجَلالةِ. النُّكتةُ الثَّانيةُ: وهي باعتِبارِ السُّوَرِ القُرآنيَّةِ، ولها أَيضًا نِكاتٌ كَثِيرةٌ، ولها تَوافُقاتٌ تَدُلُّ على انتِظامٍ وقَصدٍ وإِرادةٍ.

مِنها: أنَّ عَدَدَ لَفظِ الجَلالةِ “الله” في سُورةِ “البَقَرةِ” مُساوٍ لِعَدَدِ آياتِها، والفَرقُ أَربَعةُ أَعدادٍ؛ وهُنالِك أَربَعةُ أَلفاظٍ مِن “هو” بَدَلًا عن لَفظِ “الله” كما هو في “لا إِلٰهَ إلّا هو”، وبها يَتِمُّ التَّوافُقُ.

وأنَّ عَدَدَ لَفظِ الجَلالةِ “الله” في سُورةِ “آلِ عِمرانَ”، مُتَوافِقٌ معَ عَدَدِ آياتِها ويُساوِيها، ولكِنَّ لَفظَ “الله” وَرَد في مِئَتَينِ وتِسعِ آياتٍ بَينَما عَدَدُ آياتِ السُّورةِ مِئَتا آيةٍ، فالفَرقُ إِذًا تِسعُ آياتٍ، ولا تُخِلُّ الفُرُوقُ الصَّغِيرةُ في مِثلِ هذه المَزايا الكَلامِيّةِ والنِّكاتِ البَلاغِيّةِ، إذ تَكفِي التَّوافُقاتُ التَّقرِيبِيّةُ.

وأنَّ عَدَدَ آياتِ السُّوَرِ الثَّلاثِ “النِّساءِ والمائِدةِ والأَنعامِ” يَتَوافَقُ أَيضًا معَ مَجمُوعِ عَدَدِ ما في هذه السُّوَرِ الثَّلاثِ مِن لَفظِ الجَلالةِ “الله”، إذ إنَّ عَدَدَ الآياتِ في هذه السُّوَرِ أَربَعُ مِئةٍ وأَربَعٌ وسِتُّونَ، وعَدَدَ لَفظِ الجَلالةِ “الله” أَربَعُ مِئةٍ وواحِدٌ وسِتُّونَ، وهُما مُتَوافِقانِ تَمامًا، إذا عُدَّ لَفظُ الجَلالةِ في البَسمَلةِ.

وكَذلِك فإنَّ عَدَدَ لَفظِ الجَلالةِ في السُّوَرِ الخَمسِ الأُولَى، هو ضِعفُ عَدَدِ لَفظِ الجَلالةِ في سُوَرِ “الأَعرافِ والأَنفالِ والتَّوبةِ ويُونُسَ وهُودٍ”، أي: أنَّ عَدَدَه في هذه السُّوَرِ الخَمسِ الثَّانِيةِ هو نِصفُ عَدَدِه في السُّوَرِ الخَمسِ الأُولَى.

وأنَّ عَدَدَ لَفظِ الجَلالةِ في السُّوَرِ التّالِيةِ “يُوسُفَ والرَّعدِ وإِبراهِيمَ والحِجْرِ والنَّحْلِ” هو نِصفُ ذلك النِّصفِ.

ثمَّ إنَّ عَدَدَه في سُوَرِ “الإِسراءِ والكَهفِ ومَريَمَ وطٓه والأَنبِياءِ والحَجِّ”3لقدِ انكَشَف سِرٌّ حَسَبَ هذه التَّقسِيماتِ الخُماسِيّة (خَمْسُ سُوَرٍ ثمَّ خَمْسُ سُوَرٍ) وسُجِّل هنا سِتُّ سُوَرٍ بَدَلًا عن خَمسٍ مِنها، دُونَ عِلمِنا جَمِيعًا، لِذا لم يَبقَ لنا رَيبٌ في أنَّ السَّادِسةَ قد دَخَلَت غَيْبًا، أي: خارِجةٌ عن إِرادَتِنا لِكيلا يَضِيعَ هذا السِّرُّ في النِّصفِيّةِ. نِصفُ نِصفِ ذلك النِّصفِ. وأنَّ السُّوَرَ التَّالِيةَ بَعدَها بخَمسِ سُوَرٍ وخَمسِ سُوَرٍ تَدُومُ بتلك النِّسبةِ تَقرِيبًا؛ ولكِن هناك فُرُوقٌ ببَعضِ الأَعدادِ الكَسرِيّةِ، ولا بَأسَ بمِثلِ هذه الفُرُوقِ في مِثلِ هذا المَقامِ الخِطابيِّ.

مَثلًا: إنَّ قِسمًا مِنها مِئةٌ وإِحدَى وعِشرُونَ، وآخَرُ مِئةٌ وخَمسٌ وعِشرُونَ، وآخَرُ مِئةٌ وأَربَعٌ وخَمسُونَ، وآخَرُ مِئةٌ وتِسعٌ وخَمسُونَ.

ثمَّ إنَّه في السُّوَرِ الخَمسِ التّالِيةِ تَبدَأُ مِن “سُورةِ الزُّخرُفِ” يَنزِلُ العَدَدُ إلى النِّصفِ، أي: يَنزِلُ إلى نِصفِ نِصفِ ذلك النِّصفِ.

والسُّوَرُ الخَمسُ الَّتي تَبدَأُ مِن “سُورةِ النَّجمِ” يكُونُ العَدَدُ نِصفَ نِصفِ نِصفِ نِصفِ ذلك النِّصفِ، ولكِن بصُورةٍ مُقارِبةٍ، ولا ضَرَرَ في فُرُوقِ الكُسُوراتِ الصَّغِيرةِ في مِثلِ هذه المَقاماتِ الخِطابِيّةِ.

ثمَّ في ثَلاثِ مَجمُوعاتٍ مِنَ السُّوَرِ الخَمسِ الصَّغِيرةِ، ثَلاثةُ أَعدادٍ مِن لَفظِ الجَلالةِ.

فهذه الكَيْفِيّاتُ تَدُلُّ على أنَّ المُصادَفةَ لم تُخالِط أَعدادَ لَفظِ الجَلالةِ، بل عُيِّنَت وَفقَ حِكْمةٍ وانتِظامٍ.

النُّكتة الثَّالِثة لِلَفظِ الجَلالةِ “الله”، وهِي المُتَوجِّهةُ إلى أَوْضاعِها في صَفَحاتِ المُصحَفِ الشَّرِيفِ، وذلك أنَّ عَدَدَ لَفظِ الجَلالةِ في الصَّحِيفةِ الواحِدةِ، له عَلاقةٌ بوَجهِ تلك الصَّحِيفةِ اليُمنَى، وبالصَّحِيفةِ المُقابِلةِ لِذلِك الوَجهِ، وأَحيانًا بالصَّحِيفةِ المُقابِلةِ لها في الجانِبِ الأَيسَرِ، وبوَجهٍ مَّا وَراءَها.

وقد تَتَبَّعتُ هذا التَّوافُقَ في نُسخةٍ مِن مُصحَفِي، فرَأَيتُ تَوافُقًا بنِسبةٍ عَدَدِيّةٍ جَمِيلةٍ لِلغايةِ، على الأَغلَبِ، وقد وَضَعتُ إِشاراتٍ علَيْها في مُصحَفِي، فكَثِيرًا مَّا كانَت تَتَساوَى وأَحيانًا تُصبِحُ نِصفًا أو ثُلُثًا، وعلى كلِّ حالٍ تُشعِرُ بحِكْمةٍ وانتِظامٍ. النُّكتة الرَّابعة: هي التَّوافُقاتُ في الصَّحِيفةِ الواحِدةِ.

وقد تابَعتُ معَ إِخوانِي ثَلاثَ أو أَربَعَ نُسَخٍ مُختَلِفةٍ مِنَ المُصحَفِ، قابَلْناها بَعضَها ببَعضٍ، فتَوَصَّلْنا إلى قَناعةٍ بأنَّ التَّوافُقاتِ مَطلُوبةٌ أَيضًا في جَمِيعِها، ولكِن وَقَع شَيءٌ مِنَ الخَلَلِ في التَّوافُقاتِ بسَبَبِ مُراعاةِ مُستَنسِخِي المَطابِعِ مَقاصِدَ أُخرَى.

فإذا ما نُظِّمَت ونُسِّقَت فستُشاهَدُ التَّوافُقاتُ في مَجمُوعِ القُرآنِ في عَدَدِ لَفظِ الجَلالةِ البالِغِ “أَلفَينِ وثَمانَ مِئةٍ وسِتّة” باستِثناءٍ نادِرٍ جِدًّا، وسيُشِعُّ مِن هذا شُعلةُ إِعجازٍ، لِأنَّ فِكرَ الإِنسانِ لا يُمكِنُ أن يُحِيطَ بهذه الصحيفة الواسِعةِ جِدًّا، ولا يَستَطِيعُ أن يَتَدخَّلَ فيها قَطْعًا.

أمَّا المُصادَفةُ فلا تَنالُ يَدُها هذه الأَوضاعَ الحَكِيمةَ.

ونحنُ نَستَكتِبُ مُجَدَّدًا مُصحَفًا شَرِيفًا لِيُبْرِزَ “النُّكتةَ الرَّابِعةَ” إلى حَدٍّ مَّا معَ المُحافَظةِ على صَحائِفِ المَصاحِفِ الأَكثَرِ انتِشارًا، والمُحافَظةِ على سُطُورِها معَ تَنظِيمٍ لِمَواضِعَ مِنه تَعرَّضَت لِعَدَمِ الِانتِظامِ بسَبَبِ تَهاوُنِ أَربابِ الصِّناعةِ، وعِندَ ذلك سيَظهَرُ سِرُّ انتِظامِ التَّوافُقاتِ الحَقِيقيُّ إن شاءَ اللهُ، وقد أُظهِرَ فِعلًا.

﴿اللَّهُمَّ يا مُنزِلَ القُرآنِ، بِحَقِّ القُرآنِ، فَهِّمنَا أسْرَارَ القُرآنِ، مَا دَارَ القَمَرَانِ؛ وصَلِّ وسَلِّم عَلَى مَن أَنْزلْتَ عَلَيهِ القُرآنَ، وعَلَى آلِه وصَحبِه أجْمَعِين﴾

آمِين

❀   ❀   ❀

 

[القسم الخامس: حول آية النور في سورة النور]

القِسم الخَامس وهوَ الرِّسَالة الخَامِسة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

في حالةٍ رُوحِيّةٍ في شَهرِ رَمَضانَ المُبارَكِ شَعَرتُ بنُورٍ مِن أَنوارِ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ، ورَأَيتُ ما يُشبِهُ الخَيالَ: أنَّ المَوجُوداتِ جَمِيعَها، والأَحياءَ كُلَّها تُناجِي رَبَّها الجَلِيلَ وتَتَضرَّعُ إلَيْه بمُناجاةِ “أُوَيسٍ القَرْنِيِّ” المَشهُورةِ، والمُستَهَلّةِ بـ:

“إِلٰهِي.. أَنتَ رَبِّي وأَنا العَبدُ.. وأَنتَ الخالِقُ وأَنا المَخلُوقُ.. وأَنتَ الرَّزَّاقُ وأَنا المَرزُوقُ… إلخ”.

فرَأَيتُ في هذه الواقِعةِ القَلبِيّةِ الخَيالِيّةِ ما أَوْرَثَني القَناعةَ بأنَّ كلَّ اسمٍ مِنَ الأَسماءِ الإِلٰهِيّةِ هو نُورٌ لِكُلِّ عالَمٍ مِنَ العَوالِمِ الثَّمانِيةَ عَشَرَ أَلفًا، كالآتي:

إنَّ أَوْراقَ الوَردِ مِثلَما تُغلِّفُ الواحِدةُ الأُخرَى، تَستُرُ الَّتي تَلِيها، كَذلِك رَأَيتُ هذا العالَمَ، كلُّ عالَمٍ يُغلَّفُ بأُلُوفٍ مِنَ الأَستارِ والحُجُبِ، فتُستَرُ تَحتَها عَوالِمُ أُخرَى؛ ورَأَيتُ كَذلِك: أنَّه كُلَّما رُفِعَ سِتارٌ وأُزِيلَ حِجابٌ إذا بعالَمٍ آخَرَ يَظهَرُ تِجاهِي، وأنَّ ذلك العالَمَ يَتَراءَى لي في ظُلمةٍ دامِسةٍ ووَحْشةٍ رَهِيبةٍ كما تُصَوِّرُه الآيةُ الكَرِيمةُ:

﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾.

وبَينَما أنا أَرَى هذا العالَمَ في مِثلِ هذه الظُّلُماتِ، إذا بجَلْوةٍ مِن جَلَواتِ اسمٍ إلٰهِيٍّ تُشِعُّ شُعاعًا عَظِيمًا كنُورٍ يَغمُرُ ذلك العالَمَ مِن أَوَّلِه إلى آخِرِه بذلك النُّورِ؛ فكُلَّما بَدَا مَشهَدٌ مِن مَشاهِدِ هذه العَوالِمِ، ويُرفَعُ سِتارٌ مِن أَستارِها أَمامَ العَقلِ، يَنفَتِحُ بابٌ إلى عالَمٍ آخَرَ أَمامَ الخَيالِ؛ وإذ يَتَراءَى أنَّه غارِقٌ في ظَلامٍ بسَبَبِ الغَفْلةِ، إذا باسمٍ إِلٰهِيٍّ يَتَجلَّى كالشَّمسِ المُنِيرةِ، فيُنوِّرُ ذلك العالَمَ كُلَّه.. وهكذا. ولقدِ استَمَرَّ طَوِيلًا هذا السَّيرُ القَلبِيُّ والسِّياحةُ الخَياليّةُ، نَذكُرُ مِنها:

أنَّني لَمَّا رَأَيتُ عالَمَ الحَيَواناتِ، وتَأَمَّلتُ في عَجْزِها وضَعْفِها وشِدّةِ حاجاتِها وشِدَّةِ عَوَزِها وجُوعِها، بَدا لي أنَّ ذلك العالَمَ عالَمٌ غارِقٌ في ظَلامٍ دامِسٍ وحُزنٍ مُلازِمٍ، وإذا باسمِ “الرَّحمٰنِ” يُشرِقُ كالشَّمسِ السَّاطِعةِ مِن بُرجِ اسمِ “الرَّزَّاقِ” -أي: في مَعناه- فنَوَّر ذلك العالَمَ برُمَّتِه بضِياءِ الرَّحْمةِ.

ثمَّ رَأَيتُ بَينَ ذلك العالَمِ –عالَمِ الحَيَواناتِ: صِغارِها وأَطفالِها– رَأَيتُها وهِي تَنتَفِضُ ضَعفًا وعَجزًا وحاجةً، فعالَمُها مُظلِمٌ قاتِمٌ، يَهُزُّ عَواطِفَ كلِّ مَن يَراه وشَفَقتَه.. وبَينَما أنا أَرَى هذه الحالةَ المُؤلِمةَ إذا باسمِ “الرَّحِيمِ” يُشرِقُ مِن بُرجِ “الشَّفَقةِ“، ويَنشُرُ أَضواءَه الزَّاهِيةَ على العالَمِ كُلِّه وحَوَّله إلى عالَمٍ بَهِيجٍ حُلوٍ لَطِيفٍ، بل حَوَّل دُمُوعَ الشَّكوَى والعَطفِ والحُزنِ إلى دُمُوعٍ تَتَقطَّرُ فَرَحًا وسُرُورًا وشُكرًا.

ثمَّ رُفِعَ السِّتارُ وإذا بمَشهَدِ عالَم الإِنسانِ يَتَراءَى أَمامِي، كمَشاهِدِ السِّينِما، وهُو عالَمٌ قد غَشِيَه الظَّلامُ الدَّامِسُ، وتَلُفُّه الظُّلُماتُ الكَثِيفةُ والرُّعبُ المُستَدِيمُ، حتَّى استَغَثتُ مِن شِدَّةِ فَزَعي ومِن هَولِ ما رَأَيتُ، حَيثُ رَأَيتُ أنَّ الآمالَ المَغرُوزةَ في الإِنسانِ والمُمتَدّةَ إلى الأَبدِ، وأنَّ أَفكارَه وتَصَوُّراتِه المُحِيطةَ بالكَونِ، وأنَّ هِمَمَه واستِعداداتِه ومَواهِبَه الَّتي تَطلُبُ البَقاءَ الأَبدِيَّ والسَّعادةَ الأَبدِيّةَ وهي التَّوّاقةُ إلى الجَنّةِ الخالِدةِ، يَكمُنُ معَه -في هذا الإنسانِ أَيضًا- فَقرٌ شَدِيدٌ وحاجةٌ دَفِينةٌ، رَغمَ تَوَجُّهِه إلى مَقاصِدَ لا تَنتَهِي، ومَطالِبَ لا مُنتَهَى لها، معَ ضَعفٍ مُلازِمٍ رَغمَ أنَّه مُعرَّضٌ لِهَجَماتِ مَصائِبَ وأَعداءٍ كَثِيرةٍ.. زِدْ على ذلك: ليس له إلّا عُمُرٌ قَصِيرٌ جِدًّا، وحَياةٌ تَعِيسةٌ، وعَيشٌ مُضطَرِبٌ، يَذُوقُ مَرارةَ الزَّوالِ والفِراقِ اللَّذَينِ يُوجِعانِ قَلبَه ألَمًا شَدِيدًا دائِمًا، حَيثُ يَنظُرُ بنَظَرِ الغَفْلةِ إلى القَبْرِ الماثِلِ أَمامَه على أنَّه ظُلُماتٌ سَرمَدِيّةٌ، يُرمَى بهم في تلك الحُفْرةِ المُظلِمةِ أَفرادًا وجَماعاتٍ.

فما إن رَأَيتُ هذا العالَمَ عالَمَ الإِنسانِ غارِقًا في مِثلِ هذه الظُّلُماتِ، حتَّى تَهَيَّأَتْ جَمِيعُ لَطائِفِي الإِنسانيّةِ معَ القَلبِ والرُّوحِ والعَقلِ، بل جَمِيعُ ذَرَّاتِ وُجُودِي لِلبُكاءِ والِاستِغاثةِ، وإذا باسمِ اللهِ “العادِل” يُشرِقُ مِن بُرجِ “الحَكِيمِ“، وباسمِ “الرَّحمٰنِ” يُشرِقُ مِن بُرجِ “الكَرِيمِ“، وباسمِ “الرَّحِيمِ” يُشرِقُ مِن بُرجِ “الغَفُورِ” -أي: في مَعناه- وباسمِ “الباعِثِ” يُشرِقُ مِن بُرجِ “الوارِثِ“، وباسمِ “المُحيِي” يُشرِقُ مِن بُرجِ “المُحسِنِ“، وباسمِ “الرَّبِّ” يُشرِقُ مِن بُرجِ “المالِكِ“.. فنَوَّرَت هذه الأَسماءُ الإلهِيّةُ عَوالِمَ كَثِيرةً جِدًّا ضِمنَ عالَمِ الإِنسانِ، وفَتَحَت نَوافِذَ مِن عالَمِ الآخِرةِ المُنوَّرةِ، ونَثَرَت أَنوارًا ساطِعةً على دُنيا الإِنسانِ المُظلِمةِ.

ثمَّ رُفِعَ سِتارٌ آخَرُ عن مَشهَدٍ عَظِيمٍ آخَرَ، وهُو مَشهَدُ عالَمِ الأَرضِ، فظَهَر أَمامَ الخَيالِ عالَمٌ رَهِيبٌ، إذِ القَوانينُ العِلمِيّةُ المُظلِمةُ لِلفَلسَفةِ تَجعَلُ الإِنسانَ الضَّعِيفَ في ظُلمةٍ مُوحِشةٍ، حَيثُ تُسَيِّرُ الأَرضَ في فَضاءِ العالَمِ غَيرِ المَحدُودِ بسُرعةٍ تَفُوقُ سُرعةَ القَذائِفِ بسَبعِينَ مَرّةً، وتَدُورُ في مَسافةٍ تَبلُغُ خَمسًا وعِشرِينَ أَلفَ سَنةٍ في سَنةٍ واحِدةٍ، وهي الَّتي يُمكِنُ أن تَتَبَعثَرَ وتَتَشتَّتَ في كلِّ وَقتٍ وآنٍ بما تَحمِلُ في جَوفِها مِن زَلازِلَ هائِلةٍ وهي المُعمَّرةُ الهَرِمةُ.. ولِشِدّةِ قَتامةِ الظَّلامِ المُخَيِّمِ على هذا العالَمِ، دارَ رَأسِي مِن هَولِه، وإذا باسمِ “خالِقِ السَّماواتِ والأَرضِ” وأَسماءِ اللهِ: “القَدِيرِ، العَلِيمِ، الرَّبِّ، اللهِ، رَبِّ السَّماواتِ والأَرضِ، مُسَخِّرِ الشَّمسِ والقَمَرِ” أَشرَقَت مِن أَبراجِ الرَّحمةِ والعَظَمةِ والرُّبُوبيّةِ، فنَوَّرَت ذلك العالَمَ الَّذي خَيَّم علَيْه الظَّلامُ بأَنوارٍ ساطِعةٍ، حَوَّلَت تلك الكُرةَ الأَرضِيّةَ إلى ما يُشبِهُ سَفِينةً سِياحِيّةً، في مُنتَهَى الِانتِظامِ والتَّسخِيرِ والكَمالِ والرَّاحةِ والِاطمِئْنانِ، ورَأَيتُ أنَّها حَقًّا مُهَيَّأةٌ لِلتَّنزُّهِ والسِّياحةِ والِاستِجمامِ والتِّجارةِ.

حاصِلُ الكلامِ: أنَّ كلَّ اسمٍ مِن أَلفِ اسمٍ واسم مِنَ الأَسماءِ الإلهِيّةِ المُتَوجِّهةِ لِلكَونِ، يُنوِّرُ كالشَّمسِ العَظِيمةِ عالَمًا مِنَ العَوالِمِ، بل يُنوِّرُ كلَّ ما في تلك العَوالِمِ مِن عَوالِمَ، إذ كانَت تَتَراءَى جَلَواتُ الأَسماءِ الأُخرَى ضِمنَ تَجَلِّي كلِّ اسمٍ مِنَ الأَسماءِ، وذلك بسِرِّ الأَحَدِيّةِ.

فكان القَلبُ في هذه السِّياحةِ يَنبَسِطُ ويَزدادُ شَوقُه إلى المَزِيدِ مِنها كُلَّما رَأَى أَنوارًا مُختَلِفةً وَراءَ كلِّ ظُلمةٍ، حتَّى إنَّه أَرادَ رُكُوبَ الخَيالِ لِيَجُولَ في السَّماءِ، وعِندَها رُفِعَ السِّتارُ عن مَشهَدٍ واسِعٍ عَظِيمٍ جِدًّا، فدَخَلَ القَلبُ في عالَمِ السَّماواتِ، ورَأَى: أنَّ تلك النُّجُومَ الَّتي تَبدُو أنَّها تَنثُرُ الِابتِساماتِ النُّورانيّةَ هي أَعظَمُ مِن كُرةِ الأَرضِ جَسامةً، وتَسِيرُ أَسرَعَ مِنها وتَدُورُ مُتداخِلةً فيما بَينَها، لو ضَيَّعتْ إِحداها طَرِيقَها، وتاهَت دَقِيقةً واحِدةً، لَاصْطَدَمَت إِذًا معَ غَيرِها، وعِندَها تَنفَلِقُ وتُدَوِّي دَوِيًّا هائِلًا وتَندَلِقُ أَحشاءُ الكَونِ ويَتَفتَّتُ.

فلا تَشِعُّ النُّجُومُ بَعدُ نُورًا بل تَستَطِيرُ نارًا، ولا تُوزِّعُ الِابتِساماتِ النُّورانيّةَ بل تُخَيِّمُ علَيْها الظُّلُماتُ الدّائِمةُ. وهكذا رَأَيتُ السَّماواتِ -بهذا الخَيالِ- عالَمًا واسِعًا خالِيًا رَهِيبًا مُحَيِّرًا مُذهِلًا، فنَدِمتُ على مَجِيئِي إلَيْها أَلفَ نَدَمٍ، ولكِن وأنا أُعاني هذه الحالةَ إذا بالأَسماءِ الحُسنَى لـ”رَبِّ السَّماواتِ والأَرضِ” ولـ”رَبِّ المَلائِكةِ والرُّوحِ” تُشرِقُ بجَلَواتِها مِن بُرجِ ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾، و﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾، فالتَمَسَتِ النُّجُومُ الَّتي غَشِيَتْها الظُّلُماتُ -مِن حَيثُ المَعنَى- لَمْعةَ نُورٍ مِن تلك الأَنوارِ العَظِيمةِ، فاستَنارَتِ السَّماءُ بمَصابِيحَ بعَدَدِ النُّجُومِ، وامتَلَأَت بالمَلائِكةِ والرُّوحانيّاتِ وعَمَرَت بَعدَ أن كانَت تُظَنُّ خاليةً خاوِيةً، ورَأَيتُ أنَّ تلك الشُّمُوسَ والنُّجُومَ الجارِيةَ كأنَّها جَيشٌ مِن جُيُوشِ رَبِّ العالَمِينَ، سُلطانِ الأَزَلِ والأَبدِ، وكأنَّها تَتَحرَّكُ وتَدُورُ ضِمنَ مُناوَرةٍ راقِيةٍ، تُظهِرُ عَظَمةَ رُبُوبيّةِ ذلك المَلِيكِ المُقتَدِرِ. فقُلتُ بما أَملِكُ مِن قُوّةٍ، بل لوِ استَطَعتُ لَتَلوْتُ بكُلِّ ذَرّاتِ وُجُودِي، وبلِسانِ جَمِيعِ المَخلُوقاتِ -لو كانُوا يَسمَعُونَ لي- الآيةَ الكَرِيمةَ:

﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾

ورَجَعتُ إلى الأَرضِ وهَبَطتُ مِنَ السَّماءِ، وأَفَقتُ مِن تلك الواقِعةِ، وقُلتُ: الحَمدُ للهِ عَلَى نُورِ الإيمَانِ والقُرآنِ

❀   ❀   ❀

 

[القسم السادس: رسالة الهجمات الستة]

القِسم السَّادِس وهوَ الرِّسَالة السَّادِسة

[تحذيرٌ لطلاب القرآن وخَدَمِه من سِتِّ دسائس شيطانية]

كُتبَ هذا البَحثُ تَنبيهًا لتَلامِيذ القُرآن وإيقَاظًا للعَامِلين‌ له ليَحُولَ دونَ انخِدَاعِهم.

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾

“إنَّ هذا القِسمَ السّادِسَ يَجعَلُ -بإذنِ الله- سِتًّا مِن دَسائِسِ شَياطِينِ الإِنسِ والجِنِّ بائِرةً عَقِيمةً، ويَسُدُّ في الوَقتِ نَفسِه سِتّةً مِن سُبُلِ الهَجَماتِ”.

[الدسيسة الأولى: تزيين حب الجاه والشهرة]

الدَّسِيسَة الأولى

يُحاوِلُ شَياطِينُ الإِنسِ -بما استَوْحَوْه مِن شَياطِينِ الجِنِّ- أن يَخدَعُوا خُدّامَ القُرآنِ ويَصرِفُوهُم عن ذلك العَمَلِ المُقدَّسِ وذلك الجِهادِ المَعنَوِيِّ الرَّفيعِ، وذلك بتَزيِينِ حُبِّ الجاهِ والشُّهرةِ لَهُم، كالآتي :

إنَّ في الإِنسانِ -بصُورةٍ عامّةٍ- وفي كلِّ فَردٍ مِن أَفرادِ أَهلِ الدُّنيا رَغبةً جُزئيّةً أو كُلِّيّةً في حُبِّ الجاهِ الَّذي هو الرِّياءُ بعَينِه، ونَيلِ مَواقِعَ مَرمُوقةٍ في نَظَرِ النّاسِ، حتَّى يَنساقُ الإنسانُ بدافِعٍ مِنَ الحِرصِ على الشُّهرةِ إلى التَّضحِيةِ بحَياتِه إِشباعًا لِتِلك الرَّغبةِ.. فهذا الشُّعُورُ هو في غايةِ الخُطُورةِ على أَهلِ الآخِرةِ، وهو مَدارُ اضطِرابِ أَهلِ الدُّنيا وقَلَقِهِم، فَضْلًا عن أنَّه مَنبَعُ كَثِيرٍ مِنَ الأَخلاقِ الرَّذِيلةِ؛ عِلمًا أنَّه طَبعٌ ضَعِيفٌ في الإِنسانِ وجانِبٌ واهٍ فيه، أي: يُمكِنُ أن يَستَغِلَّه مَن يُلاطِفُ شُعُورَه هذا، بل يَغلِبُه بهذا الشُّعُورِ ويَجذِبُه إلى نَفسِه.. لِذا فإنَّ احتِمالَ استِغلالِ المُلحِدِينَ لِإخوانِي مِن هذا الجانِبِ الضَّعِيفِ في النَّفسِ الإِنسانيّةِ هو أَخوَفُ ما أَخافُه وأَقلَقُ علَيْه، إذ جَرُّوا بهذه الصُّورةِ بَعضَ أَصدِقائِي غَيرِ الحَمِيمِينَ فأَلقَوْهُم في هاوِيةِ المَهالِكِ4إنَّ أُولَئِك البائِسِينَ يَحسَبُونَ أنَّهُم في مَأْمَنٍ مِنَ الخَطَرِ بقَولِهِم: “إنَّ قُلُوبَنا معَ الأُستاذِ”، ولكنَّ الَّذي يُمِدُّ تَيّارَ المُلحِدِينَ بالقُوّةِ ويَغتَرُّ بدِعاياتِهِم، قد يُستَغَلُّ لِلتَّجَسُّسِ لهم دُونَ أن يَشعُرَ؛ فإنَّ قَولَ هذا المُشرِفِ على الهَلاكِ: “إنَّ قَلبِي طاهِرٌ ووَفِيٌّ لِمَسلَكِ أُستاذِي” شَبِيهٌ بالمِثالِ الآتي: شَخصٌ يُدافِعُ الأَخبَثَينِ في صَلاتِه، وإذا برِيحٍ تَخرُجُ مِنه، فيَقَعُ الحَدَثُ، فيُقالُ له: لقد بَطَلَت صَلاتُك، فيُجِيبُهُم: لم تَفسُدْ صَلاتي، إنَّ قَلبِي طاهِرٌ نَقِيّ!.

فيا إِخوَتِي وزُمَلائِي في خِدْمةِ القُرآنِ..

إنَّ الَّذِينَ يَأتُونَكُم مِن حَيثُ حُبُّ الشُّهرةِ مِن جَواسِيسِ أَهلِ الدُّنيا، والَّذِينَ يُرَوِّجُونَ لِأَهلِ الضَّلالةِ، أو تَلامِيذِ الشَّيطانِ، قُولُوا لَهُم:

إنَّ رِضَا اللهِ سُبحانَه، والإِكرامَ الرَّحمانِيَّ، والقَبُولَ الرَّبّانِيَّ، لَمَقامٌ عَظِيمٌ جِدًّا، بحَيثُ يَبقَى دُونَه إِقبالُ النَّاسِ وإِعجابُهُم بحُكْمِ ذَرَّةٍ بالنِّسبةِ إلى ذلك المَقامِ الرَّفِيعِ.

فإنْ كانَ هُناك تَوَجُّهٌ مِنَ الرَّحْمةِ الإلٰهِيّةِ نَحوَنا، فهذا حَسبُنا وكَفانا تَوَجُّهًا؛ أمّا إِقبالُ النَّاسِ وتَوَجُّهُهُم فإنَّما يكُونُ مَقبُولًا إنْ كان ظِلًّا مِنِ انعِكاسِ تَوَجُّهِ رَحْمَتِه تَعالَى، وإلَّا فلا يُطلَبُ ولا يُرغَبُ فيه قَطْعًا، لِأنَّه يَنطَفِئُ عِندَ بابِ القَبْرِ، ولا يُساوِي هُناك شَرْوَى نَقِيرٍ.

ثمَّ إنَّ الشُّعُورَ بحُبِّ الجاهِ هذا، إنْ لم يُكبَحْ ولم يُمْحَ مِنَ الإِنسانِ، لَزِمَ صَرْفُ وَجْهِه إلى جِهةٍ أُخرَى كالآتي:

إنَّ ذلك الشُّعُورَ -حُبَّ الجاهِ- رُبَّما تكُونُ له جِهةٌ مَشرُوعةٌ وذلك لِنَيلِ الثَّوابِ الأُخرَوِيِّ، وبِنيّةِ كَسْبِ دَعَواتِ الآخَرِينَ، مِن حَيثُ التَّأثِيرُ الحَسَنُ لِخِدمةِ القُرآنِ، بِناءً على التَّمثِيلِ الآتي: هَبْ أنَّ جامِعَ “آيا صُوفْيا” مُكتَظٌّ بأَهلِ الفَضلِ والكَمالِ مِنَ الطَّيِّبِينَ المُوَقَّرِينَ، وكان في البابِ أو في الأَرْوِقةِ صِبْيانٌ وَقِحُونَ وسُفَهاءُ سَفَلةٌ، وكانَ على الشَّبابِيكِ سُيَّاحٌ أَجانِبُ مُغرَمُونَ باللَّهْوِ واللَّعِبِ.

فإذا ما دَخَل أَحَدٌ الجامِعَ، وانضَمَّ إلى تلك الجَماعةِ الفاضِلةِ، وتَلا آياتٍ مِنَ الذِّكرِ الحَكِيمِ تِلاوةً عَذْبةً، فعِندَئذٍ تَتَوجَّهُ أَنظارُ أُلُوفٍ مِن أَهلِ العِلمِ والفَضل إلَيْه، ويُكسِبُونَه ثَوابًا عَظِيمًا بدُعائِهِم له ورِضاهُم عنه؛ إلَّا أنَّ هذا الأَمرَ لا يَرُوقُ أُولَئِك الصِّبيانَ الوَقِحِينَ والمُلحِدِينَ السُّفَهاءَ والأَجانِبَ المَعدُودِينَ.

ولكِن لو دَخَل ذلك الرَّجُلُ الجامِعَ وضِمنَ الجَماعةِ الفاضِلةِ وبَدَأ بالغِناءِ المَاجِنِ، وشَرَع بالرَّقصِ والصَّخَبِ، فسيَكُونُ مَوضِعَ إِعجابِ أُولَئِك الصِّبيانِ السُّفَهاءِ وسُرُورِهِم، ويُلاطِفُ عَمَلُه أُولَئِك الغُواةَ، ويَجلُبُ إلَيْه ابتِساماتٍ ساخِرةً مِنَ الأَجانِبِ الَّذِينَ يُسَرُّونَ برُؤْيةِ نَقائِصِ المُسلِمِينَ، بَينَما تَنظُرُ إلَيْه تلك الجَماعةُ الغَفِيرةُ الفاضِلةُ في الجامِعِ نَظْرةَ تَحقِيرٍ وإِهانةٍ، ويَرَوْنَه في أَدنَى الدَّرَكاتِ وفي أَسفَلِ سافِلِينَ.

وعلى غِرارِ هذا: فإنَّ العالَمَ الإِسلامِيَّ، وقارَّةَ آسِيا، جامِعٌ عَظِيمٌ ومَن فيه مِنَ المُؤمِنِينَ وأَهلِ الحَقِيقةِ، هُمُ الجَماعةُ الفاضِلةُ في ذلك الجامِعِ، وأُولَئِك الصِّبيانُ الوَقِحُونَ هم أُولَئِك المُتَزلِّفُونَ ذَوُو العُقُولِ الصِّبيانيّةِ، وأمَّا أُولَئِك المُفسِدُونَ السُّفَهاءُ فهُمُ المُلحِدُونَ المُتَفرنِجُونَ الَّذِينَ لا يَعرِفُونَ دِينًا ولا مِلّةً، أمَّا الأَجانِبُ المُتَفرِّجُونَ فهُمُ الصَّحَفِيُّونَ الَّذِينَ يَنشُرُونَ أَفكارَ الأَجانِبِ.

فكُلُّ مُسلِمٍ -ولا سِيَّما ذَوُو الفَضلِ والكَمالِ- له مَكانةٌ في هذا الجامِعِ المَهِيبِ، كلٌّ حَسَبَ دَرَجَتِه، وهو في مَرأًى مِن النَّاسِ، وتُلْفَتُ إلَيْه الأَنظارُ حَسَبَ مَوقِعِه، فإن صَدَرَت مِنه أَعمالٌ وتَصَرُّفاتٌ تَنُمُّ عنِ الإِخلاصِ -الَّذي هو أَساسُ الإِسلامِ- وابتِغاءَ رِضَى اللهِ، على وَفْقِ ما أَمَر به القُرآنُ العَظِيمُ مِن أَحكامٍ وحَقائِقَ، ونَطَق لِسانُ حالِه الآياتِ القُرآنيّةَ مَعنًى، عِندَئِذٍ يَدخُلُ ضِمنَ الدُّعاءِ الَّذي يَدعُوه كلُّ فَردٍ مِن أَفرادِ العالَمِ الإِسلامِيِّ وهُو: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ”، ويَكسِبُ حَظًّا مِنه، ويكُونُ ذا عَلاقةٍ أَخَوِيّةٍ معَ جَمِيعِ المُؤمِنِينَ؛ ولكِن لا يَبدُو مَوقِعُه في نَظَرِ بَعضِ أَهلِ الضَّلالةِ مِمَّن هم كالحَيَواناتِ المُضِرّةِ، ولا تَظهَرُ مَكانَتُه لَدَى الحَمقَى الَّذِينَ هم كالصِّبيانِ المُلتَحِينَ.

ولو أَدارَ ذلك الرَّجُلُ ظَهْرَه عن مَجْدِ أَجدادِه الَّذِينَ يَعُدُّهُم رَمزَ شَرَفِه، وتَناسَى تارِيخَه الَّذي يَعتَبِرُه مَدارَ فَخرِه، وتَرَك الجادّةَ النُّورانيّةَ جادَّةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ الَّذي يَعُدُّه مُستَنَدَ رُوحِه، وباشَرَ بأَعمالٍ وتَصَرُّفاتٍ مُلَوَّثةٍ بالهَوَى والرِّياءِ نَيلًا لِلشُّهرةِ وارتِكابًا لِلبِدَعِ، فإنَّه يَتَردَّى مَعنًى في نَظَرِ أَهلِ الحَقِيقةِ والإِيمانِ إلى الدَّرَكِ الأَسفَلِ، إذِ المُؤمِنُ مَهْما كانَ جاهِلًا ومِن عَوامِّ النَّاسِ، فإنَّ قَلبَه يَشعُرُ وإنْ لم يُدرِكْ عَقلُه، فيَنفِرُ ويَستَثقِلُ أَعمالَ أَمثالِ هذا الرَّجُلِ مِنَ المُعجَبِينَ بأَنفُسِهِم، وذلك بمَضمُونِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: “اتَّقُوا فِراسةَ المُؤمِنِ، فإنَّه يَنظُرُ بنُورِ اللهِ”.

وهكذا يَسقُطُ الأَنانِيُّ المَفتُونُ بحُبِّ الجاهِ واللّاهِثُ وَراءَ الشُّهْرةِ (الرَّجُلُ الثّاني)، ويَتَردَّى إلى أَسفَلِ سافِلِينَ في نَظَرِ جَماعةٍ غَفِيرةٍ غَيرِ مَحدُودةٍ، ويَكسِبُ مَوقِعًا مَشؤُومًا مُوَقَّتًا لَدَى عَدَدٍ مِنَ السُّفَهاءِ السَّاخِرِينَ الطّائِشِينَ، إذ لا يَجِدُ حَوْلَه غَيرَ أَصدِقاءَ مُزَيَّفِينَ مُضِرِّينَ له في الدُّنيا وسَبَبَ عَذابٍ في البَرزَخِ وأَعداءً في الآخِرةِ كما قالَ تَعالَى: ﴿اَلْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾.

أمّا الرَّجُلُ في الصُّورةِ الأُولَى فإن لم يُزِل حُبَّ الجاهِ مِن قَلبِه، يَكسِبْ نَوْعًا مِن مَقامٍ مَعنَوِيٍّ مَشرُوعٍ مَهِيبٍ، يُشبِعُ إِشباعًا تامًّا عِرْقَ حُبِّ الجاهِ المَغرُوزِ فيه، ولكِن بشَرطِ اتِّخاذِ الإِخلاصِ ورِضَا اللهِ أَساسًا له، معَ عَدَمِ اتِّخاذِ حُبِّ الجاهِ هَدَفًا له.

فهذا الرَّجُلُ يَفقِدُ شَيئًا ضَئِيلًا، بل ضَئِيلًا جِدًّا، مِمَّا لا أَهَمِّيّةَ له، ولكِن يَكسِبُ عِوَضَه شَيئًا كَثِيرًا -بل كَثِيرًا جِدًّا- مِمَّا له قِيمةٌ عَظِيمةٌ ومِمَّا لا ضَرَرَ فيه؛ بل إنَّه يَطرُدُ عن نَفسِه عَدَدًا مِنَ الثَّعابِينِ ويَجِدُ بَدَلًا عنها كَثِيرًا مِن مَخلُوقاتٍ مُبارَكةٍ صَدِيقًا له، فيَستَأنِسُ بهم؛ أو يكُونُ كمَن يُهَيِّجُ ما حَوْلَه مِنَ الزَّنابِيرِ، إلَّا أنَّه يَجلِبُ لِنَفسِه النَّحلَ الَّتي هي سُقاةُ شَرابِ الرَّحْمةِ فيَتَسلَّمُ مِن أَيدِيهِمُ العَسَلَ. أي إنَّه يَجِدُ مِنَ الأَحبابِ مَن يُفِيضُ علَيْه بدَعَواتِهِم ويَسقُون رُوحَه شَرابًا سَلسَبِيلًا كالكَوْثَرِ، يُجلَبُ له مِن أَطرافِ العالَمِ الإِسلامِيِّ، ويُسجَّلُ ثَوابًا له في دَفتَرِ أَعمالِه.

ولقد أَلقَيتُ -في وَقتٍ مَّا- فَحْوَى التَّمثِيلِ السَّابِقِ بقُوّةٍ وصَرامةٍ في وَجهِ إِنسانٍ صَغِيرٍ كان يَشغَلُ مَقامًا عَظِيمًا دُنيَوِيًّا، والَّذي أَصبَحَ مَوضِعَ استِهجانٍ وسُخرِيةٍ مِن قِبَلِ العالَمِ الإِسلامِيِّ لِارتِكابِه حَماقةً كَبِيرةً في سَبِيلِ الشُّهرةِ.

هَزَّه ذلك الدَّرسُ هَزًّا عَنِيفًا، ولكِن لِعَدَمِ استِطاعَتِي إِنقاذَ نَفسِي مِن حُبِّ الجاهِ لم يُنبِّهْه إِيقاظِي ذاك.

[الدسيسة الثانية: استغلال الشعور بالخوف]

الدَّسِيسة الثَّانِية

إنَّ الشُّعُورَ بالخَوفِ شُعُورٌ عَمِيقٌ في كِيانِ الإِنسانِ، وإنَّ الطُّغاةَ والظَّالِمِينَ الماكِرِينَ يَستَغِلُّونَ كَثِيرًا هذا الشُّعُورَ لَدَى الإِنسانِ فيُلجِمُونَ به الجُبَناءَ، ويَستَفِيدُ كَثِيرًا جَواسِيسُ أَهلِ الدُّنيا ودُعاةُ الضَّلالِ مِن هذا الشُّعُورِ لَدَى العَوامِّ ولا سِيَّما لَدَى العُلَماءِ، فيُلقُونَ في رُوعِهِمُ المَخاوِفَ ويُثِيرُونَ فيهِمُ الأَوْهامَ، بمِثلِ شَخصٍ حَيّالٍ يُظهِرُ لِأَحَدِهِم ما يَخافُه -وهُو على سَطحِ دارٍ- فيُثِيرُ أَوْهامَه ويَدفَعُه تَدرِيجِيًّا إلى الوَراءِ حتَّى يُقرِّبَهُ مِنَ الحافَةِ فيُردِيه على عَقِبِه، فيَهلِكُ؛ كَذلِك يُثِيرُ أَهلُ الضَّلالةِ عِرْقَ الخَوفِ لَدَى النّاسِ، فيَدفَعُونَهُم إلى التَّخَلِّي عن أُمُورٍ جِسامٍ مِن جَرّاءِ مَخاوِفَ تافِهةٍ لا قِيمةَ لها، حتَّى يَدخُلُ بَعضُهُم في فَمِ الثُّعبانِ لِئَلّا تَلسَعَه بَعُوضةٌ!

أَذكُرُ مِثالًا: جِئتُ ذاتَ مَساءٍ إلى جِسرِ إِسطَنبُولَ وبصُحبَتِي عالِمٌ جَلِيلٌ يَتَهيَّبُ رُكُوبَ الزَّورَقِ، ولكِنَّنا لم نَجِد واسِطةَ نَقلٍ سِوَى الزَّورَقِ، ونَحنُ مُضطَرُّونَ إلى الذَّهابِ إلى جامِعِ أَبي أَيُّوبَ الأَنصارِيِّ، فأَلحَحْتُ علَيْه إذ لا حِيلةَ لنا إلّا رُكُوبُه، فقال:

أَخافُ… رُبَّما نَغرَقُ!

قُلتُ له: كم يُقدَّرُ عَدَدُ الزَّوارِقِ في هذا الخَلِيجِ؟ قال: رُبَّما أَلفُ زَورَقٍ.

قُلتُ: كم زَورَقًا يَغرَقُ في السَّنةِ؟

قال: زَورَقٌ أوِ اثنانِ، وقد لا يَغرَقُ في بَعضِ السِّنِينَ!

قُلتُ: كم يَومًا في السَّنةِ؟

قال: ثَلاثُ مِئةٍ وسِتُّون يَومًا.

قُلتُ: إنَّ احتِمالَ الغَرَقِ الَّذي استَحوَذَ على ذِهنِك، وأَثارَ فيك الخَوفَ، هو احتِمالٌ واحِدٌ مِن بَينِ ثَلاثِ مِئةٍ وسِتِّين أَلفَ احتِمالٍ! فالَّذي يَخافُ مِن هذا الِاحتِمالِ لا يُعَدُّ إِنسانًا ولا حَيَوانًا!

ثمَّ قُلتُ له: تُرَى كم تُقَدِّرُ أن تَعِيشَ بَعدَ الآنَ؟

قال: أنا شَيخٌ كَبِيرٌ، رُبَّما أَعِيشُ عَشرَ سَنَواتٍ أُخرَى!

قُلتُ: إنَّ احتِمالَ المَوتِ واقِعٌ في كلِّ يَومٍ، حَيثُ الأَجَلُ مَخفِيٌّ عنّا؛ لِذا فهُناك احتِمالُ المَوتِ في كلِّ يَومٍ، أي: لك ثَلاثةُ آلافٍ وسِتُّ مِئةِ احتِمالٍ لِلمَوتِ، فلَيسَ أَمامَك إِذًا احتِمالٌ واحِدٌ مِن بَينِ ثَلاثِ مِئةِ أَلفِ احتِمالٍ -كما في الزَّورَقِ- وإنَّما احتِمالٌ مِن بَينِ ثَلاثةِ آلافِ احتِمالٍ، فلَرُبَّما يَقَعُ الِاحتِمالُ هذا اليَومَ.. فما علَيْك إِذًا إلّا الهَلَعُ والبُكاءُ، وكِتابةُ وَصِيَّتِك!

أثَّر هذا الكَلامُ فيه وآبَ إلى رُشدِه، فأَرْكَبتُه الزَّورَقَ وهُو يَرجُفُ، قُلتُ له ونَحنُ في الزَّورَقِ:

إنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى قد مَنَحَنا الشُّعُورَ بالخَوفِ لِنَحفَظَ به الحَياةَ، لا لِهَدمِ الحَياةِ وتَخرِيبِها، ولم يَمنَحْنا هذا الشُّعُورَ لِنَجعَلَ الحَياةَ أَلِيمةً ومُعضِلةً ومُرهِقةً؛ فإن كانَ الخَوفُ ناشِئًا مِنِ احتِمالَينِ أو ثَلاثةٍ بل حتَّى مِن خَمسةِ أو سِتّةِ احتِمالاتٍ فلا بَأسَ به، فلَرُبَّما يُعَدُّ ذلك خَوْفًا مَشرُوعًا مِن بابِ الحِيطةِ والحَذَرِ؛ أمّا إن كانَ الخَوفُ ناشِئًا مِنِ احتِمالٍ واحِدٍ مِن بَينِ عِشرِينَ أو أَربَعِينَ احتِمالًا، فهُو وَهْمٌ يَستَولِي على الإِنسانِ ويَجعَلُ حَياتَه عَذابًا وشَقاءً. فيا إِخوَتِي، إذا ما هَجَم علَيْكُم مُهَرِّجُو أَهلِ الضَّلالةِ والمُتَزلِّفُونَ لِأَهلِ الإِلحادِ لِيُرهِبُوكُم ويَجعَلُوكُم تَتَخَلَّونَ عن جِهادِكُمُ المَعنَوِيِّ المُقدَّسِ، قُولُوا لَهُم:

نَحنُ حِزبُ القُرآنِ، نَحتَمِي بقَلعةِ القُرآنِ العَظِيمِ الحَصِينةِ، والقُرآنُ العَظِيمُ مَحفُوظٌ يَحفَظُه الرَّبُّ الكَرِيمُ بقَولِه تَعالَى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، فلَقد أَحاطَنا سُورٌ عَظِيمٌ هو سُورُ ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، فلن تَستَطِيعُوا أن تَدفَعُونا -باختِيارِنا- إلى طَرِيقٍ يُؤَدِّي حَتْمًا إلى آلافِ الأَضرارِ الَّتي تَلحَقُ بحَياتِنا الأَبدِيّةِ خَوفًا مِن إِلحاقِ ضَرَرٍ بَسِيطٍ باحتِمالٍ واحِدٍ مِن بَينِ أُلُوفِ الِاحتِمالاتِ بحَياتِنا الدُّنيَوِيّةِ القَصِيرةِ هذه.

وقُولُوا لَهُم: مَن مِنّا ومَن مِثلَنا في طَرِيقِ الحَقِّ قد تَضَرَّرَ بسَبَبِ “سَعِيدٍ النُّورْسِيِّ” الَّذي هو زَمِيلُنا في خِدمةِ القُرآنِ الكَرِيمِ، وأُستاذُنا في تَدابِيرِ أُمُورِ تلك الخِدمةِ المُقدَّسةِ، ورائِدُنا في العَمَلِ؟ ومَن مِن طُلّابِه الخَواصِّ قدِ ابتُلُوا ببَلاءٍ حتَّى نُبتَلَى نَحنُ أَيضًا، أو نَضطَرِبَ ونَقلَقَ مِن خَوفِ ذلك البَلاءِ الَّذي قد يَنزِلُ بنا؟ فلِأَخِينا هذا أُلُوفٌ مِن أَصدِقاءِ وإِخوانِ الآخِرةِ، ولم نَسمَع أنَّ ضَرَرًا أَصابَ أَحَدَ إِخوَتِه مُنذُ حَوالَيْ ثَلاثِينَ سَنةً رَغمَ تَدَخُّلِه تَدَخُّلًا مُؤَثِّرًا في الحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ طَوالَ تلك المُدّةِ الَّتي كانَ يَملِكُ فيها مِطرَقةَ السِّياسةِ وقُوَّتَها، بَينَما الآنَ لا يَملِكُ سِوَى نُورِ الحَقِيقةِ بَدَلًا مِن مِطرَقةِ السِّياسةِ.. وعلى الرَّغمِ مِن أنَّ اسمَه قد ضُمَّ سابِقًا معَ مَن هُم في حَوادِثِ (31 مارت)، وأُفنِيَ قِسمٌ مِن أَصدِقائِه، إلّا أنَّه تَبيَّنَ فيما بَعدُ أنَّ الحادِثةَ كانَت مُدَبَّرةً مِن قِبَلِ أُناسٍ آخَرِينَ، وأنَّ أَصدِقاءَه لم يَتَضرَّرُوا بسَبَبِ صَداقَتِه بل بسَبَبِ أَعدائِه؛ فَضْلًا عن أنَّه أَنقَذَ كَثِيرًا مِن أَصدِقائِه في ذلك الوَقتِ.

فبِناءً على هذا علَيْكُم يا إِخوانِي أن تقُولُوا لِلمُتَزلِّفِينَ مِن أَهلِ الضَّلالةِ: “إِنَّنا لا نَرضَى أن تَضِيعَ خَزِينةٌ أَبَدِيّةُ باحتِمالِ خَوفٍ مِن بَينِ أَلفٍ بل مِن بَينِ آلافِ الِاحتِمالاتِ، لا يَنبَغِي أن يَخطُرَ هذا بِبالِ أَمثالِكُم يا شَياطِينَ الإِنسِ”.

وعلَيْكُم يا إِخوانِي أن تَطرُدُوهُم وتَضرِبُوا بهذا الكَلامِ على أَفواهِهِم.

وقُولُوا لِأُولَئِك المُتَزلِّفِينَ أَيضًا:

إذا كانَ البَلاءُ والهَلاكُ ناشِئَينِ مِنِ احتِمالٍ بنِسبةِ مِئةٍ بالمِئةِ لا باحتِمالٍ واحِدٍ مِن مِئاتِ الأُلُوفِ مِنَ الِاحتِمالاتِ، فإِنَّنا لا نَتْرُكُ ولا نَتَخلَّى عنه (عن سَعِيدٍ النورْسِيِّ) إن كُنّا نَملِكُ ذَرّةً مِن عَقلٍ، لِأنَّه شُوهِدَ بتَجارِبَ عَدِيدةٍ ولا يَزالُ يُشاهَدُ: أنَّ الَّذِينَ يُهِينُونَ أُستاذَهُم أو إِخوانَهُمُ الكِبارَ أيّامَ المَصائِبِ والبَلايا، تَنزِلُ بهمُ المُصِيبةُ أوَّلًا؛ فَضْلًا عن أنَّهُم يُعامَلُونَ مُعامَلةً جائِرةً دُونَ رَحْمةٍ ويُجازَوْنَ مُجازاةَ السَّفَلةِ، فتَمُوتُ أَجسادُهُم وتَهلِكُ أَرواحُهُم مَعنًى مِنَ الذُّلِّ والمَهانةِ؛ والَّذِينَ يُعاقِبُونَهُم لا يُشفِقُونَ علَيْهِم، لِأنَّهُم يقُولُونَ:

إنَّ هَؤُلاءِ قد خانُوا أُستاذَهُمُ العَطُوفَ علَيْهِم، فلا بُدَّ أنَّهُم مُنحَطُّونَ سَفَلةٌ، لا يَستَحِقُّونَ الرَّحْمةَ، بلِ التَّحقِيرَ والإِهانةَ.

فما دامَتِ الحَقِيقةُ هكذا، وأنَّ الظّالِمَ إذا ما سَحَق إِنسانًا تَحتَ أَقدامِه، وبَدَأ المَظلُومُ بتَقبِيلِ أَقدامِه، فإنَّ قَلبَه يَنسَحِقُ بسَبَبِ تلك المَذَلّةِ قَبلَ رَأسِه، وتَمُوتُ رُوحُه قَبلَ جَسَدِه، فيَفقِدُ رَأسَه وتُمحَى عِزَّتُه وشَرَفُه كَذلِك، إذ إنَّه بإِبداءِ الضَّعفِ تِجاهَ ذلك الظّالِمِ القاسِي يُشَجِّعُه على سَحْقِه أَكثَرَ.

بَينَما لو بَصَق المَظلُومُ في وَجهِ ذلك الظّالِمِ فإنَّه يُنقِذُ قَلبَه ورُوحَه، ويُصبِحُ جَسَدُه شَهِيدًا مَظلُومًا.

نعم، اُبصُقُوا في وُجُوهِ الظّالِمِينَ الصَّفِيقةِ!

وحِينَما احتَلَّ الإِنكِليزُ إِسطَنبُولَ، ودَمَّرُوا المَدافِعَ في المَضِيقِ (في إِسطَنبُولَ)، سَأَلَ في تلك الأَيّامِ رَئِيسَ أَساقِفةِ الكَنِيسةِ الأَنكلِيكيّةِ مِنَ المَشيَخةِ الإِسلامِيّةِ سِتّةَ أَسئِلةٍ، وكُنتُ حِينَئذٍ عُضوًا في “دارِ الحِكْمةِ الإِسلامِيّةِ” فقالُوا لي:

أَجِبْ عن أَسئِلَتِهِم بسِتِّ مِئةِ كَلِمةٍ كما يُرِيدُونَ.

قُلتُ: إنَّ جَوابَ هذه الأَسئِلةِ ليس سِتَّ مِئةِ كَلِمةٍ ولا سِتَّ كَلِماتٍ ولا كَلِمةً واحِدةً، بل بَصقةٌ واحِدةٌ.

لِأنَّه عِندَما داسَت تلك الدَّولةُ بأَقدامِها مَضايِقَنا وأَخَذَتْ بخِناقِنا كما تَرَونَ، يَنبَغِي البُصاقُ في وَجهِ رَئِيسِ أَساقِفَتِهِم إِزاءَ أَسئِلَتِه الَّتي سَأَلَها بكُلِّ غُرُورٍ. ولِهذا قُلتُ: ابصُقُوا في وُجُوهِ الظَّلَمةِ التّافِهةِ.

والآنَ أقُولُ: إنَّ دَوْلةً عَظِيمةً كدَولةِ الإِنكلِيزِ، في الوَقتِ الَّذي كانَت تَحتَلُّ بِلادَنا، فقد أَجَبتُهُم -بلِسانِ المَطابِعِ- وتَحَدَّيتُهُم، وكانَ الهَلاكُ مُحَقَّقًا وحَتمِيًّا مِئةً بالمِئةِ، إلّا أنَّ الحِفظَ القُرآنِيَّ قد كَفانِي، فذلك الحِفظُ يكُونُ كافِيًا لكُم بمِئةِ ضِعفٍ إِزاءَ أَضرارٍ تَرِدُ باحتِمالِ واحِدٍ بالمِئةِ مِن أَيدِي الظَّلَمةِ.

ثمَّ أيُّها الإِخوةُ، إنَّ كَثِيرًا مِنكُم قد خَدَم في صُفُوفِ الجَيشِ، والَّذِينَ لم يَخدُمُوا في العَسكَرِيّةِ سَمِعُوا حَتْمًا، ومَن لم يَسمَع فليَسمَعْه مِنِّي: إنَّ أَكثَرَ مَن يُجرَحُ ويُصابُ في الحَربِ هُمُ الَّذِينَ يَهرُبُونَ مِن خَنادِقِهِم ومِن مَواضِعِهِم، وإنَّ أَقلَّ الجُنُودِ إِصابةً هُم أُولَئِك الثّابِتُونَ في مَواضِعِهم، فالآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ تُشِيرُ بمَعناها الإِشارِيِّ إلى أنَّ الفارِّينَ مِنَ المَوتِ يُقابِلُونَه أَكثَرَ مِن غَيرِهِم.

[الدسيسة الثالثة: استغلال هم الرزق]

الدَّسِيسة الشَيطانية الثَّالثة

إنَّ الشَّياطِينَ يَقتَنِصُونَ الكَثِيرِينَ بشِباكِ الطَّمَعِ وفَخِّه، ولقد أثبَتْنا في رَسائِلَ كَثِيرةٍ ببَراهِينَ قاطِعةٍ استَفَضْناها مِن الآياتِ البَيِّناتِ لِلقُرآنِ الحَكِيمِ: “أنَّ الرِّزقَ الحَلالَ يَأتِي بنِسبةِ العَجزِ والِافتِقارِ لا بدَرَجةِ الِاختِيارِ والِاقتِدارِ“، فهُنالِك ما لا يُحَدُّ مِنَ الإِشاراتِ والأَماراتِ والدَّلائِلِ الَّتي تُبيِّنُ هذه الحَقِيقةَ، مِنها:

إنَّ الأَشجارَ الَّتي هي نَوعٌ مِنَ الأَحياءِ، والمُحتاجةَ لِلرِّزقِ تَقِفُ مُنتَصِبةً في مَكانِها، يَأتِيها رِزقُها ساعِيًا لها؛ بَينَما الحَيَواناتُ لا تَتَغذَّى ولا تَنمُو كالأَشجارِ تَغذِيةً ونُمُوًّا كامِلًا بسَبَبِ حِرصِها ولَهاثِها وَراءَ الرِّزقِ، وإنَّ أَقلَّ الحَيَواناتِ ذَكاءً وهِي الأَسماكُ، وأَشَدَّها بَلادةً وأَكثَرَها ضَعْفًا وعَجْزًا تَتَغذَّى بأَفضَلِ وَجهٍ معَ أنَّها تَعِيشُ في الرَّملِ فتَظهَرُ بَدِينةً بصُورةٍ عامّةٍ، بَينَما القِرَدةُ والثَّعالِبُ وأَمثالُهُما مِنَ الحَيَواناتِ المالِكةِ لِلذَّكاءِ والقُدرةِ تكُونُ هَزِيلةً ضَعِيفةً لِسُوءِ مَعِيشَتِها.

كلُّ ذلك يَدُلُّ على أنَّ وَساطةَ الرِّزقِ لَيسَتِ الِاقتِدارَ بلِ الِافتِقارُ.

وإنَّ حُسنَ المَعِيشةِ الَّتي يَرفُلُ بها الصِّغارُ -سَواءٌ أكانُوا أناسًا أم حَيَواناتٍ- والإِحسانَ إلَيْهِم باللَّبَنِ الخالِصِ هَدِيّةً لَطِيفةً تُقدَّمُ مِن خَزِينةِ الرَّحْمةِ الإلٰهِيّةِ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُونَ، رَحْمةً لِضَعفِهِم وشَفَقةً على عَجزِهِم؛ وضِيقَ العَيشِ في الوُحُوشِ الضّارِيةِ، يَدُلُّ على أنَّ وَسِيلةَ الرِّزقِ الحَلالِ هي العَجزُ والِافتِقارُ ولَيسَتِ الذَّكاءَ والِاقتِدارَ.

وإنَّ اليَهُودَ المَشهُورِينَ بأنَّهُم أَحرَصُ النَّاسِ على الحَياةِ الدُّنيا، يَسبِقُونَ الأُمَمَ في سَعيِهِم وَراءَ الرِّزقِ، بَينَما هم أَكثَرُ الأُمَمِ ذِلّةً ومَهانةً، وأَكثَرُهُم تَعَرُّضًا لِسُوءِ المَعِيشةِ، بل حتَّى أَغنِياؤُهُم يَعِيشُونَ عَيْشًا ذَلِيلًا؛ ولا تَجرَحُ مَسأَلتَنا هذه تلك الأَموالُ الَّتي يَحصُلُونَ علَيْها بالرِّبا وأَمثالِها مِنَ الطُّرُقِ غَيرِ المَشرُوعةِ، لِأنَّها لَيسَت مِنَ الرِّزقِ الحَلالِ.

وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الأُدَباءِ والعُلَماءِ يَعِيشُونَ عَيشَ الكَفافِ، في حِينِ يُثرَى كَثِيرٌ مِنَ البُلَداءِ والبُلَهاءِ.. كلُّ ذلك يَدُلُّ على أنَّ وَسِيلةَ جَلبِ الرِّزقِ لَيسَت بالذَّكاءِ والِاقتِدارِ، بل بالعَجزِ والِافتِقارِ وبالتَّسلِيمِ المُتَّسِمِ بالتَّوكُّلِ، وبالدُّعاءِ بلِسانِ المَقالِ والحالِ والفِعلِ.

والآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ تُعلِنُ هذه الحَقِيقةَ، وهي بُرهانٌ قَوِيٌّ عَظِيمٌ لِدَعْوانا هذه، بحَيثُ تَتلُوها جَمِيعُ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ وأَطفالِ الإِنسانِ بلِسانِ الحالِ، بل تَتلُوها كلُّ طائِفةٍ تَطلُبُ الرِّزقَ.

وحَيثُ إنَّ الرِّزقَ مُقدَّرٌ بالقَدَرِ الإلٰهِيِّ، وإنَّه يُنعَمُ به إِنعامًا، والمُنعِمُ المُقدِّرُ هو اللهُ سُبحانَه، وهُو رَحِيمٌ وكَرِيمٌ، فليُفَكِّر مَن يَقبَلُ مالًا حَرامًا مَمحُوقًا رِشوةً لِوُجدانِه بل أَحيانًا لِمُقدَّساتِه، مُرِيقًا ماءَ وَجْهِه إِراقةً غيرَ مَشرُوعةٍ بدَرَجةِ اتِّهامِ رَحْمَتِه تَعالَى والِاستِخفافِ بكَرَمِه سُبحانَه.. أقُولُ: فليُفكِّرْ مِثلُ هذا في مَدَى بَلاهةِ وجُنُونِ تَصَرُّفِه.

نعم، إنَّ أَهلَ الدُّنيا -ولا سِيَّما أَهلُ الضَّلالةِ- لا يُعطُونَ نُقُودَهُم رَخِيصةً، بل يُعطُونَها بأَثمانٍ باهِظةٍ، فإنَّ مالًا قد يُعِينُ على إِدامةِ حَياةٍ دُنيَوِيّةٍ لِسَنةٍ واحِدةٍ، إلّا أنَّه يكُونُ أَحيانًا وَسِيلةً لِإبادةِ خَزِينةِ حَياةٍ أَبدِيّةٍ خالِدةٍ، فيَجلُبُ بذلك الحِرصِ الفاسِدِ الغَضَبَ الإلٰهِيَّ علَيْه ويُحاوِلُ جَلْبَ رِضَا أَهلِ الضَّلالةِ.

فيا إِخوَتي..

إذا ما اصْطادَكُم مُتَزلِّفُو أَهلِ الدُّنيا ومُنافِقُو أَهلِ الضَّلالِ بفَخِّ الطَّمَعِ وعِرقِه الضَّعِيفِ المَغرُوزِ في الإِنسانِ، ففَكِّرُوا في الحَقِيقةِ السَّابِقةِ، واجعَلُوا أَخاكُم هذا الفَقِيرَ مِثالًا يُقتَدَى به.

فإنِّي أُطَمْئِنُكُم بأنَّ القَناعةَ والِاقتِصادَ يُدِيمانِ حَياتَكُم ويَضْمَنانِ رِزقَكُم أَكثَرَ مِنَ المُرتَّبِ، ولا سِيَّما أنَّ تلك النُّقُودَ غَيرَ المَشرُوعةِ المُعطاةَ لكُم ستَطلُبُ مِنكُم بَدَلَها أَضعافًا مُضاعَفةً، بل أَلفَ ضِعفٍ وضِعفٍ، أو في الأَقلِّ تَمنَعُ أو تُقلِّلُ مِنَ الخِدمةِ القُرآنيّةِ الَّتي تَستَطِيعُ أن تَفتَحَ أَبوابَ خَزِينةٍ أَبدِيّةٍ لكُم كُلَّ ساعةٍ مِن ساعاتِها.. وهذا ضَرَرٌ جَسِيمٌ وفَراغٌ وَخِيمٌ لا تَملَؤُه أُلُوفُ المُرَتَّباتِ.

تَنبِيه:

إنَّ أَهلَ الضَّلالةِ الَّذِينَ دَأْبُهُمُ النِّفاقُ والكَيْدُ، يَنصِبُونَ فَخَّ الحِيلةِ والخِداعِ، وذلك عِندَما يَعجِزُونَ عنِ الوُقُوفِ إِزاءَ ما نَشَرْناه مِن حَقائِقِ الإِيمانِ المُستَلهَمةِ مِنَ القُرآنِ الحَكِيمِ.

ويُحاوِلُونَ بشَتَّى الطُّرُقِ أنْ يَسحَبُوا أَصدِقائِي عَنِّي، ويُغَرِّرُوا بهم بحُبِّ الجاهِ والطَّمَعِ والخَوفِ، والتَّهوِينِ مِن شَأْنِي، بإِلصاقِ بَعضِ الأُمُورِ بي.

نحنُ لا نَتَحرَّكُ في خِدمَتِنا المُقدَّسةِ إلّا حَرَكةً إِيجابِيّةً، ولكِنَّ دَفْعَ المَوانِعِ الَّتي تُعِيقُ كلَّ أَمرٍ مِن أُمُورِ الخَيرِ يَسُوقُنا أَحيانًا إلى حَرَكةٍ سَلبِيّةٍ معَ الأَسَفِ.

وإِزاءَ دِعاياتِ المُنافِقِينَ الخادِعةِ هذه، أُنبِّهُ إِخوانِي بالنِّقاطِ الثَّلاثِ السّابِقةِ، وأَسعَى لِدَفعِ الهُجُومِ عنهم؛ ويُشَنُّ في الوَقتِ الحاضِرِ أَكبَرُ هُجُومٍ علَيَّ بالذّاتِ إذ يقُولُونَ: إنَّ سَعِيدًا كُردِيٌّ، فلِمَ تَحتَرِمُونَه كَثِيرًا وتَتَّبِعُونَه؟ لِذا أُضطَرُّ إلى كِتابةِ الدَّسِيسةِ الشَّيطانيّةِ الرّابِعةِ بلِسانِ “سَعِيدٍ القَدِيمِ” دُونَ رَغبةٍ مِنِّي، لِإسكاتِ أَمثالِ هَؤُلاءِ.

[الدسيسة الرابعة: إثارة النعرات القومية]

الدَّسِيسة الشَّيطانيَّة الرَّابِعة

إنَّ بَعضَ المُلحِدِينَ الَّذِينَ يَشغَلُونَ مَناصِبَ مُهِمّةً، يَشُنُّونَ هُجُومًا علَيَّ، بتَروِيجِهِم دِعاياتٍ تَلقَّوْها مِنَ الشَّيطانِ ومِن إِيحاءاتِ أَهلِ الضَّلالِ، لِيُغرِّرُوا بها بإِخوانِي ويُثِيرُوا فيهِمُ النَّعرةَ القَومِيّةَ، إذ يقُولُونَ:

أَنتُم أَتراكٌ، وفي الأَتراكِ مِن أَصنافِ العُلَماءِ وأَربابِ الفَضلِ والكَمالِ الكَثِيرُونَ بفَضلِ اللهِ، وإنَّ سَعِيدًا هذا كُردِيٌّ، فالتَّعاوُنُ معَ مَن ليس مِن قَومِيَّتِكُم يُنافي النَّخْوةَ القَومِيّةَ.

الجَوابُ: أيُّها المُلحِدُ الشَّقِيُّ، إنِّي وللهِ الحَمدُ مُسلِمٌ، أَنتَسِبُ إلى أُمَّتي السَّامِيةِ، وهُم ثَلاثُ مِئةٍ وخَمسُونَ مِليُونًا في كلِّ عَصرٍ، وإنِّي أَستَعِيذُ باللهِ مِئةَ أَلفِ مَرّةٍ مِن أن أُضَحِّيَ بهذه الكَثْرةِ الكاثِرةِ مِنَ الإِخوانِ الطَّيِّبِينَ المُتَرابِطِينَ بأُخُوّةٍ خالِدةٍ ويُمِدُّونَنِي بدَعَواتِهِمُ الخالِصةِ وفيهِم أَكثَرِيّةُ الأَكرادِ المُطلَقةُ، وأَستَبدِلَ بِهَؤُلاءِ المَيامِينِ دَعوَى العُنصُرِيّةِ والقَومِيّةِ السَّلبِيّةِ كَسْبًا لِوُدِّ بِضْعةِ أَشخاصٍ مُعيَّنينَ يَحمِلُونَ اسمَ الكُردِ ويُعَدُّونَ مِن عُنصُرِ الكُردِ، مِمَّن سَلَكُوا سَبِيلَ الإِلحادِ والِانسِلاخِ مِنَ المَذاهِبِ والقِيَمِ.

أيُّها المُلحِدُ، إنَّ ذلك دَأْبُ أَمثالِك مِنَ الحَمْقَى، يَتْرُكُ أُخُوّةً حَقِيقيّةً نُورانيّةً نافِعةً لِجَماعةٍ عَظِيمةٍ تَعدادُهُم ثَلاثُ مِئةٍ وخَمسُونَ مِليُونًا لِأَجلِ كَسْبِ إِخْوةٍ كُفّارٍ (المَجَر)، أو عَدَدٍ مِن أَتراكٍ مُتَفَرنِجِينَ مُتَحلِّلِينَ مِنَ الدِّينِ، تلك الأُخُوّةُ المُؤَقَّتةُ غَيرُ المُجدِيةِ حتَّى في الدُّنيا.

ولَمَّا كُنَّا قد بَيَّـنَّا ماهِيَّةَ القَومِيَّةِ السَّلبِيَّةِ وأَضرارَها بدَلائِلِها في المَسأَلةِ الثَّالِثةِ مِنَ “المَكتُوبِ السَّادِسِ والعِشرِينَ” فإِنَّنا نُحِيلُها إلى تلك الرِّسالةِ، ونَتَناوَلُ بشَيءٍ مِنَ الإِيضاحِ حَقِيقةً ورَدَت مُجمَلةً في نِهايةِ المَسأَلةِ الثَّالِثةِ هي الآتِيةُ:

أقُولُ لِأُولَئِك المُلحِدِينَ، أَدعِياءِ النَّخوةِ والغَيْرةِ، المُتَستِّرِينَ تَحتَ سِتارِ القَومِيَّةِ التُّركِيَّةِ، وهُم في الحَقِيقةِ أَعداءُ الأُمَّةِ التُّركِيَّةِ، أقُولُ لَهُم:

إِنَّني على عَلاقةٍ وَثِيقةٍ جِدًّا بمُؤمِنِي هذا الوَطَنِ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ بالأَتراكِ المُرتَبِطِينَ ارتِباطًا قَوِيًّا، وبأُخُوّةٍ صادِقةٍ أَبَدِيّةٍ وحَقِيقيّةٍ بالأُمَّةِ الإِسلامِيَّةِ.. وأُكِنُّ حُبًّا عَمِيقًا ووَلاءً بفَخرٍ واعتِزازٍ -باسمِ الإِسلامِ- لِأَبناءِ هذا الوَطَنِ الَّذِينَ رَفَعُوا رايةَ القُرآنِ خَفَّاقةً عَزِيزةً في رُبُوعِ العالَمِ أَجمَعَ زُهاءَ أَلفِ عامٍ.

أمَّا أَنتَ أيُّها المُخادِعُ المُدَّعِي، فلَيسَ لك إِلّا أُخُوَّةٌ مَجازِيَّةٌ غَيرُ حَقِيقيّةٍ ومُؤَقَّتةٌ ومَبنِيّةٌ على العُنصُرِيّةِ والأَغراضِ الشَّخصِيَّةِ، بحَيثُ تُهمِلُ وتَطرَحُ جانِبًا المَفاخِرَ القَومِيّةَ الحَقِيقيّةَ لِلتُّركِ.. فأنا أَسأَلُك:

هلِ الأُمّةُ التُّركِيّةُ عِبارةٌ عن شَبابٍ غافِلِينَ، سارِحِينَ وَراءَ الأَهواءِ، مِمَّن تَتَراوَحُ أَعمارُهُم بَينَ العِشرِينَ والأَربَعِينَ مِنَ العُمُرِ فقط؟

وهل ما تَستَوجِبُه النَّخْوةُ القَومِيّةُ مِن مَنافِعَ تَمَسُّهُم، مَحصُورةٌ في تَربِيةٍ مُتَفرنِجةٍ تَزِيدُ غَفْلَتَهُم، وتُعَوِّدُهُم على الفَسادِ وسُوءِ الأَخلاقِ، وتَحُثُّهُم على ارتِكابِ المُوبِقاتِ؟

وهل هي في دَفعِهِم إلى مُتعةٍ مُؤَقَّتةٍ وضَحِكٍ آنِيٍّ يَبكُونَ علَيْه أيّامًا في شَيخُوخَتِهِم؟

فإن كانَتِ النَّخْوةُ القَومِيّةُ هي هذه الأُمُورِ، وإن كانَ الرُّقيُّ وسَعادةُ الحَياةِ هي هذه، وإن كُنتَ أَنتَ داعِيةً إلى هذا النَّمَطِ مِنَ القَومِيّةِ التُّركِيّةِ، وتُدافِعُ عنِ الأُمّةِ على هذه الصُّورةِ؛ فأنا أَفِرُّ مِن هذه الدَّعوةِ القَومِيّةِ التُّركِيّةِ فِرارًا بَعِيدًا، ولَك أن تَفِرَّ مِنِّي أَيضًا.

وإن كُنتَ مالِكًا لِذَرّةٍ مِن شُعُورٍ وإِنصافٍ وغَيْرةٍ قَومِيّةٍ حَقّةٍ، فانظُرْ إلى هذه التَّقسِيماتِ ثمَّ أَجِبْ عنها: إنَّ أَبناءَ هذا الوَطَنِ الَّذِينَ يُسَمَّونَ بالأَتراكِ، يَنقَسِمُونَ إلى سِتّةِ أَقسامٍ:

القِسمُ الأوَّلُ: هم أَهلُ التَّقوَى والصَّلاحِ.

القِسمُ الثَّاني: همُ المَرضَى وأَهلُ الضُّرِّ والمَصائِبِ.

القِسمُ الثَّالثُ: همُ الشُّيُوخُ.

القِسمُ الرَّابعُ: همُ الأَطفالُ والصِّبيانُ.

القِسمُ الخامِسُ: همُ الفُقَراءُ والمُعْوِزُونَ.

القِسمُ السَّادِسُ: همُ الشَّبابُ.

ألَيسَتِ الطَّوائِفُ الخَمسُ الأُولَى أَتراكًا، أوَلَيسَ لَهُم حِصّةٌ مِنَ الحَمِيّةِ القَومِيّةِ؟ أفَمِنَ الإِباءِ القَومِيِّ إِيذاءُ أُولَئِك الطَّوائِفِ الخَمسِ وسَلبُ سُرُورِهِم وتَعكِيرُ صَفْوِهِم وإِفسادُ سُلوانِهِم في سَبِيلِ إِدخالِ بَهجةٍ مُسكِرةٍ غافِلةٍ في نُفُوسِ الطّائِفةِ السَّادِسةِ؟ أهذه نَخْوةٌ أم عَداءٌ لِلأُمّةِ؟ إنَّ الَّذي يُلحِقُ الضَّرَرَ بالأَكثَرِيّةِ لا شَكَّ أنَّه عَدُوٌّ لا صَدِيقٌ، إذِ الحُكْمُ يُبنَى على الأَكثَرِيّةِ.

فأنا أَسأَلُك: هل أَعظَمُ ما يَنتَفِعُ به القِسمُ الأوَّلُ -وهُم أَهلُ الإِيمانِ والتَّقوَى- هو في مَدَنيَّةٍ مُتَفَرنِجةٍ؟ أم هو في سُلُوكِ طَرِيقِ الحَقِّ الَّتي يَشتاقُونَ إلَيْها، ووِجدانِ سُلوانٍ حَقِيقيٍّ في أَنوارِ حَقائِقِ الإِيمانِ باستِحضارِ السَّعادةِ الأَبدِيّةِ؟

إنَّ الطَّرِيقَ الَّتي تَسلُكُونَها أَنتَ وأَمثالُك مِن أَدعِياءِ القَومِيّةِ المُتَمادِينَ في الضَّلالةِ، تُطفِئُ الأَنوارَ المَعنَوِيّةَ لِلمُؤمِنِينَ المُتَّقِينَ، وتُخِلُّ بسُلوانِهِمُ الحَقِيقيِّ، وتُرِيهِمُ المَوتَ إِعدامًا أَبدِيًّا، وتَدُلُّهُم على أنَّ القَبْرَ بابٌ إلى فِراقٍ أَبدِيٍّ.

وهل مَنافِعُ القِسمِ الثّاني وهُمُ المَرضَى وأَهلُ المَصائِبِ الآيِسُونَ مِن حَياتِهِم، هي في تَربِيةٍ مَدَنيّةٍ لا دِينيّةٍ مُتَفَرنِجةٍ؟ بَينَما أُولَئِك البائِسُونَ يُرِيدُونَ نُورًا ويَطلُبُون سُلوانًا ويَبتَغُونَ ثَوابًا على ما نَزَل بهم مِن مَصائِبَ، ويَرُومُونَ أَخذَ الثَّأرِ والِانتِقامَ مِمَّن ظَلَمَهُم، ويَتَرقَّبُونَ دَفعَ الخَوفِ عن بابِ القَبْرِ الَّذي دَنَوْا مِنه. ولكِن بالنَّخْوةِ الكاذِبةِ الَّتي تَدَّعِيها أَنتَ وأَمثالُك تُنزِلُونَ صَفَعاتٍ مُوجِعةً على رُؤُوسِ أُولَئِك المُبتَلَينَ المُحتاجِينَ أَشَدَّ الحاجةِ إلى العَزاءِ والإِشفاقِ علَيْهِم، وتَضمِيدِ جِراحِهِم واللُّطفِ بهم، بل تَغرِزُونَ الآلامَ في قُلُوبِهِمُ الجَرِيحةِ، فتُخَيِّبُونَ آمالَهُم دُونَ رَحْمةٍ، وتُلقُونَهُم في يَأسٍ قاتِمٍ دائِمٍ!

أَهذِه غَيرةٌ قَومِيّةٌ؟ أبِهذا تَخدُمُونَ الأُمّةَ وتُسْدُونَ إلَيْها النَّفْعَ؟!

والطَّائِفةُ الثَّالثةُ وهُمُ الشُّيُوخُ، الَّذِينَ يُمثِّلُونَ ثُلُثَ الأُمّةِ، فهَؤُلاءِ يَقتَرِبُونَ مِنَ القَبْرِ، ويَدنُونَ مِنَ المَوتِ، ويَبتَعِدُونَ عنِ الدُّنيا، ويُجاوِرُونَ الآخِرةَ! فهل سُلوانُ هَؤُلاءِ ونَفعُهُم في الِاستِماعِ إلى سِيرةِ الظَّالِمِينَ مِن أَمثالِ “جِنْكِيزْخان” و”هُولاكُو” المَلِيئةِ بالغَدْرِ؟ وهل هي في هذا النَّمَطِ مِن أَفعالِكُمُ الحاضِرةِ الَّتي تُنسِي الآخِرةَ، وتُلصِقُ بالدُّنيا، وهي أَفعالٌ لا طائِلَ تَحتَها، وهي سُقُوطٌ وتَرَدٍّ مَعنَوِيٌّ رَغمَ ما يُطلَقُ علَيْها مِن رُقيٍّ في الظَّاهِرِ؟ وهل إنَّ نُورَ الآخِرةِ في السِّينِما؟ وهلِ السُّلوانُ الحَقِيقيُّ في المَسرَحِ؟

وإذ يَنتَظِرُ هَؤُلاءِ الشُّيُوخُ الضُّعَفاءُ الِاحتِرامَ والتَّوقِيرَ مِن أَهلِ النَّخْوةِ والغَيْرةِ إذا بهم يُخاطَبُونَ: “إنَّكُم تُساقُونَ إلى إِعدامٍ أَبدِيٍّ”، بما يُنفَثُ في رُوعِهِم مِن أنَّ بابَ القَبْرِ الَّذي يَتَصوَّرُونَه رَحْمةً ما هو إلّا فَمُ ثُعبانٍ يَبتَلِعُهُم؛ ويُهمَسُ في آذانِهِمُ المَعنَوِيّةِ: “إنَّكُم ماضُونَ إلى هُناك”، وكأنَّ هذا الكَلامَ طَعَناتٌ مَعنَوِيّةٌ تَنزِلُ علَيْهِم، فتَذبَحُهُم ذَبحًا مَعنَوِيًّا.

فإن كانَت هذه غَيرةً قَومِيّةً وحَمِيّةً مِلِّيّةً، فإنِّي أَستَعِيذُ باللهِ مِئةَ أَلفِ مَرّةٍ مِن هذه الحَمِيّةِ والنَّخْوةِ القَومِيّةِ.

أمّا الطَّائِفةُ الرّابِعةُ، وهُمُ الأَطفالُ، فإنَّهُم يَطلُبُونَ مِنَ الحَمِيّةِ القَومِيّةِ الرَّحْمةَ، ويَنتَظِرُونَ مِنها الشَّفَقةَ علَيْهِم.

وإنَّ الإِيمانَ باللهِ الخالِقِ القَدِيرِ الرَّحِيمِ هو الَّذي يَجعَلُ أَرواحَهُم تَنبَسِطُ، وقابِلِيّاتِهِم تَنمُو، ومَواهِبَهُم تَتَربَّى بسَعادةٍ -بما يَكمُنُ فيهِم مِن ضَعفٍ وعَجزٍ- ويَستَطِيعُونَ أن يَنظُرُوا إلى الحَياةِ نَظْرةَ اشتِياقٍ بتَلقِينِ التَّوكُّلِ الإِيمانِيِّ والتَّسلِيمِ الإِسلامِيِّ تَلقِينًا يُمَكِّنُهُم مِن أن يَصمُدُوا إِزاءَ ما سيُجابِهُهُم مِن أَحوالٍ وأَهوالٍ.

فهل يُمكِنُ أن يُعوَّضَ ذلك بتَعلِيمِ دُرُوسِ تَقَدُّمٍ حَضارِيٍّ لا يَرتَبِطُونَ بها إلّا ارتِباطًا واهِيًا، وبتَدرِيسِ الفَلسَفةِ المادِّيّةِ الَّتي لا نُورَ فيها، تلك الَّتي تَنقُضُ قُواهُمُ المَعنَوِيّةَ وتُطفِئُ نُورَ أَرواحِهِم؟

إذ لو كانَ الإِنسانُ عِبارةً عن جَسَدِ حَيَوانٍ فحَسْبُ، غيرَ مالِكٍ لِلعَقلِ، فلَرُبَّما يُلهِي هَؤُلاءِ الأَطفالَ الأَبرِياءَ لَهْوًا مُؤَقَّتًا صِبيانِيًّا بهذه الأُصُولِ الأَجنَبِيّةِ ويَنتَفِعُونَ مِنها نَفْعًا دُنيَوِيًّا بالتَّربِيةِ الحَدِيثةِ الَّتي زَيَّنتُمُوها بالتَّربِيةِ القَومِيّةِ.

ولكِنَّ أُولَئِك الأَبرِياءَ سيَنزِلُونَ حَتْمًا إلى حَلْبةِ الحَياةِ كأَيِّ إِنسانٍ كانَ، ولا شَكَّ أنَّهُم سيَحمِلُونَ آمالًا بَعِيدةً جِدًّا في قُلُوبِهِمُ اللَّطِيفةِ الصَّغِيرةِ، وستَنشَأُ في عُقُولِهِمُ الصَّغِيرةِ مَقاصِدُ جَلِيلةٌ.

وحَيثُ إنَّ الحَقِيقةَ هي هذه، يَلزَمُ أن يَقِرَّ في قُلُوبِهِم نُقطةُ استِنادٍ قَوِيّةٌ ونُقطةُ استِمدادٍ لا تَنضُبُ بتَرسِيخِ الإِيمانِ باللهِ وباليَومِ الآخِرِ؛ وذلك مِن مُقتَضَى الشَّفَقةِ علَيْهِم وهُم يَحمِلُونَ عَجْزًا وفَقرًا لا مُنتَهَى لَهُما؛ وبهذا وَحْدَه تكُونُ الشَّفَقةُ علَيْهِم والرَّحْمةُ بهم.. وإلّا فإنَّ الإِشفاقَ علَيْهِم بسُكْرِ الغَيرةِ القَومِيّةِ وَحْدَها يكُونُ ذَبْحًا مَعنَوِيًّا لِأُولَئِك الصِّغارِ الأَبرِياءِ، كقِيامِ والِدةٍ مَجنُونةٍ بذَبحِ طِفلِها، بل هو غَدْرٌ قاسٍ ووَحشِيّةٌ ظالِمةٌ لَهُم، كمَن يُخرِجُ قَلبَ الطِّفلِ ودِماغَه ويُقدِّمُهُما طَعامًا لِيَنمُوَ جَسَدُه!

الطَّائِفةُ الخامسِة وهُمُ الضُّعَفاءُ والفُقَراءُ..

فالفُقَراءُ الَّذِينَ يُقاسُونَ تَكالِيفَ الحَياةِ المُرهِقةِ والَّتي تُصبِحُ أَكثَرَ إِيلامًا بالفَقرِ، والضُّعَفاءُ المَساكِينُ الَّذِينَ يَتَألَّمُونَ أَكثَرَ مِن تَقَلُّباتِ الحَياةِ الهائِلةِ؛ ألَيسَ لِهَؤُلاءِ حَظٌّ مِنَ الغَيرةِ القَومِيّةِ؟ وهل حَظُّهُم هو في الأَعمالِ الَّتي تَرتَكِبُونَها تَحتَ سِتارِ التَّفَرنُجِ والتَّمَدُّنِ بمَدَنيّةٍ فِرعَونيّةٍ تُزِيلُ حِجابَ الحَياءِ وتُشبِعُ نَزَواتِ أَغنِياءَ سُفَهاءَ وتكُونُ وَسِيلةً لِشُهرةِ طُغاةٍ أَقوِياءَ ظَلَمةٍ، والَّتي تَزِيدُ يَأسَ هَؤُلاءِ البائِسِينَ وأَلَمَهُم؟

ألا إنَّ المَرهَمَ الشّافِيَ لِضِمادِ جُرحِ الفَقرِ لِهَؤُلاءِ ليس في العُنصُرِيّةِ أَبدًا، بل يُؤخَذُ مِن صَيدَلِيّةِ الإِسلامِ المُقدَّسةِ، ولا تُستَمَدُّ القُوّةُ لِلضُّعَفاءِ ومُقاوَمَتُهُم مِنَ الفَلسَفةِ الطَّبِيعيّةِ المُظلِمةِ المُستَنِدةِ إلى المُصادَفةِ العَمْياءِ والطَّبِيعةِ الصَّمّاءِ، بل تُستَمَدُّ مِنَ الحَمِيّةِ الإِسلامِيّةِ ومِنَ الأُمّةِ الإِسلامِيّةِ السّامِيةِ.

الطَّائِفةُ السَّادِسةُ وهُمُ الشَّبابُ: لو كانَت فُتُوّةُ هَؤُلاءِ الشَّبابِ دائِمِيّةً، لَكانَ لِلشَّرابِ المُسكِرِ الَّذي سَقَيتُمُوهُم إيَّاه بالقَومِيّةِ السَّلبِيّةِ مَنفَعةٌ مُؤَقَّتةٌ وفائِدةٌ دَقِيقةٌ؛ ولكِنَّ الإِفاقةَ مِن نَشْوةِ الشَّبابِ اللَّذِيذةِ بالشَّيبِ وبالآلامِ، والتَّنبُّهَ مِن ذلك النَّومِ المُمْتِعِ في صُبْحِ المَشِيبِ بالحَسَراتِ، سيَدفَعُ الشّابَّ إلى البُكاءِ المَرِيرِ وتَجَرُّعِ الآلامِ مِن جَرّاءِ نَشْوةِ ذلك الشَّرابِ؛ فَضْلًا عن أنَّ الأَلَمَ الَّذي يَشعُرُ به مِن زَوالِ ذلك الحُلُمِ المُمْتِعِ سيَكُونُ حُزنًا شَدِيدًا علَيْه، حتَّى يَجعَلَه يَتَأوَّهُ وتَذهَبَ نَفسُه حَسَراتٍ علَيْه قائِلًا: وا أَسَفَى! لقد ذَهَب الشَّبابُ، ومَضَى العُمُرُ، وسأَدخُلُ القَبْرَ صِفرَ اليَدِينِ، لَيتَنِي استَرشَدتُ وعُدتُ إلى صَوابِي!

فهل حِصّةُ هذه الطّائِفةِ مِنَ القَومِيّةِ هي مُتعةٌ مُؤَقَّتةٌ في مُدّةٍ مَحدُودةٍ، ثمَّ دَفعُهُم إلى الحَسَراتِ والبُكاءِ مُدّةً مَدِيدةً؟ أم أنَّ سَعادةَ دُنياهُم ولَذّةَ حَياتِهِم هي في أَداءِ الشُّكرِ على نِعمةِ الشَّبابِ، بصَرْفِ ذلك العَهدِ اللَّذِيذِ في الِاستِقامةِ لا في السَّفاهةِ، وذلك لِإبقاءِ ذلك الشَّبابِ الفاني إِبقاءً مَعنَوِيًّا بالعِبادةِ، ولِلفَوزِ بشَبابٍ خالِدٍ في دارِ السَّعادةِ الأَبدِيّةِ، بالتِزامِ الِاستِقامةِ في ذلك العَهدِ.

فإن كانَ لك شُعُورٌ، ولو بمِقدارِ ذَرّةٍ، أَجِبْ عن هذه الأَسئِلةِ.

الحاصِلُ: لو كانَتِ الأُمّةُ التُّركِيّةُ قاصِرةً على الطّائِفةِ السّادِسةِ، أي: على الشَّبابِ وَحْدَهُم، وكانَت فُتُوَّتُهُم خالِدةً، ولَيسَ لَهُم دارٌ غيرُ الدُّنيا، لَكانَت أَعمالُكُمُ المَشُوبةُ بالتَّفَرنُجِ تَحتَ سِتارِ القَومِيّةِ التُّركِيّةِ، تُعَدُّ مِنَ الغَيرةِ والحَمِيّةِ القَومِيّةِ، وعِندَئِذٍ كانَ يُمكِنُكُم أن تقُولُوا لِشَخصٍ مِثلِي مِمَّن لا يَكتَرِثُ بأُمُورِ الدُّنيا إلّا قَلِيلًا، ويَعُدُّ العُنصُرِيّةَ داءً وَبِيلًا -كداءِ السَّيَلانِ- ويَسعَى لِصَرْفِ الشُّبّانِ عنِ الأَهواءِ والرَّغَباتِ غَيرِ المَشرُوعةِ، وقد وُلِد في دِيارٍ أُخرَى، أقُولُ: كان يُمكِنُكُم أن تقُولُوا: إنَّه كُردِيٌّ لا تَتَّبِعُوه! ولَرُبَّما كانَ يَحِقُّ لَكُم قَولُ هذا.

ولكِن لَمَّا كانَ أَبناءُ هذا الوَطَنِ -الَّذِينَ يُطلَقُ علَيْهِمُ اسمُ التُّركِ- هم سِتّةَ أَقسامٍ -كما بَيَّنّا آنِفًا- فإنَّ إِلحاقَ الضَّرَرِ بخَمْسةِ أَقسامٍ مِنهُم وسَلْبَ راحَتِهِم، وحَصْرَ راحةٍ دُنيَوِيّةٍ مُؤَقَّتةٍ وَخِيمةِ العاقِبةِ في قِسمٍ واحِدٍ مِنهُم فقط، بل إِسكارَهُم بها، لا شَكَّ أنَّه ليس وَفاءً لِلأُمّةِ التُّركِيّةِ، بل هو عَداءٌ لها.

نعم، إِنَّني مِن حَيثُ العُنصُرُ لا أُعَدُّ مِنَ التُّركِ، ولكِن سَعَيتُ وما زِلتُ أَسعَى بكُلِّ ما أُوتِيتُ مِن قُوّةٍ لِصالِحِ المُتَّقِينَ ولِلمُبتَلَينَ بالمَصائِبِ ولِلشُّيُوخِ ولِلأَطفالِ ولِلفُقَراءِ مِنَ الأَتراكِ، وأُحاوِلُ أَيضًا صَرْفَ الشَّبابِ -وهُمُ الطَّائِفةُ السَّادِسةُ- عن أَفعالٍ غَيرِ مَشرُوعةٍ تُسَمِّمُ حَياتَهُمُ الدُّنيَوِيّةَ وتُبِيدُ حَياتَهُمُ الأُخرَوِيّةَ، وتَسُوقُ إلى سَنةٍ مِنَ البُكاءِ على ضَحِكٍ لم يَدُمْ ساعةً.

وهذا هو دَأْبِي مُنذُ عِشرِينَ سَنةً -ولَيسَ في هذه السِّنِينَ السِّتِّ أوِ السَّبعِ- إذ ما نَشَرتُه مِن رَسائِلَ باللُّغةِ التُّركِيّةِ واستَلهَمْتُه مِن نُورِ القُرآنِ الكَرِيمِ مَوجُودٌ أَمامَ الجَمِيعِ.

نعم، إنَّه بالآثارِ الَّتي اقتُبِسَت مِن كَنزِ أَنوارِ القُرآنِ الكَرِيمِ -وللهِ الحَمدُ- قد أُُظهِرَ لِلمُتَّقِينَ الصّالِحِينَ النُّورُ الَّذي يَحتاجُونَه بشِدّةٍ، وبُيِّنَ لِلمَرضَى والمُبتَلَينَ أنَّ أَنجَعَ العِلاجاتِ والبَلسَمَ الشَّافِيَ لَهُم هو في صَيْدَليَّةِ القُرآنِ المُقَدَّسةِ، وأُثبِتَ -بالأَنوارِ القُرآنيَّةِ- لِلشُّيُوخِ القَرِيبِينَ مِن بابِ القَبْرِ أنَّه بابُ رَحْمةٍ ولَيسَ بابَ إِعدامٍ، واستُخرِجَ لِلأَطفالِ الَّذِينَ يَحمِلُونَ قُلُوبًا لَطِيفةً رَقِيقةً -مِن كَنزِ القُرآنِ الكَرِيمِ- نُقطةُ استِنادٍ قَوِيَّةٌ جِدًّا تِجاهَ المَصائِبِ والمَهالِكِ والمُضِرَّاتِ، وأُبرِزَت نُقطةُ استِمدادٍ فيها تكُونُ مِحْوَرَ آمالٍ ورَغَباتٍ لا حَدَّ لها لَهُم يَستَفِيدُونَ مِنها فِعلًا، ورُفِعَ بتِلك الآثارِ ثِقَلُ تَكالِيفِ الحَياةِ المُرهِقةِ عن كاهِلِ الفُقَراءِ الضُّعَفاءِ والَّتي يَنسَحِقُونَ تَحتَها، وخُفِّفَتْ عَنهُم بحَقائِقِ الإِيمانِ القُرآنيّةِ.

وهكذا، فنَحنُ نَسعَى لِنَفعِ هذه الطَّوائِفِ الخَمسِ مِنَ الأَقسامِ السِّتّةِ مِنَ الأُمّةِ التُّركِيّةِ، أمَّا القِسمُ السَّادِسُ وهُمُ الشَّبابُ، فلَنا أُخُوّةٌ صادِقةٌ معَ الطَّيِّبِينَ مِنهُم، عِلْمًا أنَّه لا صَداقةَ لنا بأَيِّ جِهةٍ مِنَ الجِهاتِ معَ مَن هُم مِن أَمثالِك مِنَ المُلحِدِينَ، لِأنَّنا لا نَعُدُّ المُلحِدَ المُنسَلِخَ عن مِلّةِ الإِسلام -الَّتي تَضُمُّ مَفاخِرَ الأَتراكِ الحَقِيقيّةَ- مِنَ الأُمّةِ التُّركِيّةِ، بل نَعُدُّه أَجنَبِيًّا تَسَتَّر بسِتارِ التُّركِ؛ فمِثلُ هَؤُلاءِ مَهْما زَعَمُوا أنَّهُم يَدْعُونَ إلى القَومِيّةِ التُّركِيّةِ فإنَّهُم لا يَستَطِيعُونَ أن يَخدَعُوا أَهلَ الحَقِيقةِ، لِأنَّ أَفعالَهُم وتَصَرُّفاتِهِم تُكَذِّبُ دَعواهُم.

فيا أيُّها المُلحِدُونَ المُتَفَرنِجُونَ الَّذِينَ يَسعَونَ لِصَرفِ إِخوانِي الحَقِيقيِّينَ عَنِّي بدِعاياتِكُم.. أيُّ نَفعٍ تُسدُونَه لِهذه الأُمّةِ؟ إنَّكُم تُطفِئُونَ نُورَ أَهلِ التَّقوَى والصَّلاحِ وهُمُ الطّائِفةُ الأُولَى، وتَضَعُونَ السُّمَّ على جُرُوحِ مَن هم أَحوَجُ ما يكُونُونَ إلى الضِّمادِ والرَّحْمةِ، وهُمُ الطّائِفةُ الثّانِيةُ.

وتَسلُبُونَ سُلوانَ مَن هم أَليَقُ بالِاحتِرامِ والتَّوقِيرِ، بل تُلقُونَهُم في يَأْسٍ مُطلَقٍ، وهُمُ الطَّائِفةُ الثَّالِثةُ.

وتَنقُضُونَ كُلِّيًّا القُوّةَ المَعنَوِيّةَ لِمَن هُم أَحوَجُ ما يكُونُونَ إلى الشَّفَقةِ، وتُطفِئُونَ إِنسانيَّتَهُمُ الحَقِيقيّةَ، وهُمُ الطَّائِفةُ الرَّابِعةُ.

وتُخيِّبُونَ آمالَ مَن هم أَحوَجُ إلى التَّعاوُنِ والعَزاءِ حتَّى تَجعَلُوا الحَياةَ في نَظَرِهِم أَفزَعَ مِنَ المَوتِ، وهُمُ الطَّائِفةُ الخامِسةُ.

وتَسقُونَ الطَّائِفةَ السَّادِسةَ السّادِرةَ في نَومِ غَفْلةِ الشَّبابِ شَرابًا عاقِبَتُه وَخِيمةٌ أَلِيمةٌ، إذ إنَّهُم أَحوَجُ ما يكُونُونَ إلى الِانتِباهِ واليقظة. فهَلِ القَومِيّةُ الَّتي تُضَحُّونَ في سَبِيلِها بكَثِيرٍ مِنَ المُقدَّساتِ هي هذه الأُمُورُ؟

أَهكَذا تُقدِّمُونَ النَّفعَ إلى الأَتراكِ بالقَومِيّةِ؟ أمَّا أنا فأَستَعِيذُ باللهِ أَلفَ أَلفِ مَرّةٍ مِن ذلك.

أيُّها السَّادةُ، إنِّي أَعلَمُ أنَّكُم عِندَما تُغلَبُونَ في مَيدانِ الحَقِّ تَتَشبَّثُونَ بالقُوّةِ، ولكِن لِأنَّ القُوّةَ في الحَقِّ ولَيسَ الحَقُّ في القُوّةِ، فلو جَعَلتُمُ الدُّنيا على رَأسِي نارًا تَتَأجَّجُ، فإنَّ هذا الرَّأسَ الَّذي أُضَحِّي به فِداءً لِلحَقِيقةِ القُرآنيّةِ لا يَخضَعُ لكُم أَبدًا.

وإنِّي أُعْلِمُكُم أَيضًا: أنَّه لو عاداني أُلُوفٌ مِن أَمثالِكُم، ولَيسَ أُناسٌ مَحدُودُونَ مَكرُوهُونَ في نَظَرِ الأُمّةِ، فلا أُعِيرُ لَهُم أَهَمِّيّةً تُذكَرُ أَكثَرَ مِمّا أَهتَمُّ بحَيَواناتٍ مُضِرّةٍ.

ماذا عَساكُم أن تَفعَلُوا بي؟

إنَّ أَقصَى ما يُمكِنُكُم فِعلُه هو إِنهاءُ حَياتِي، أو إِعاقةُ خِدْماتِي لِلقُرآنِ، إذ لا تَعدُو عَلاقَتِي بالدُّنيا هذَينِ الأَمرَينِ.

نَحنُ نُؤمِنُ إِيمانًا يَقِينِيًّا بدَرَجةِ الشُّهُودِ أنَّ الأَجَلَ لا يَتَغيَّرُ، وهُو مُقَدَّرٌ بقَدَرِه تَعالَى؛ لِذا لا أَتَراجَعُ قَطْعًا إنِ استُشهِدتُ في سَبِيلِ الحَقِّ، بل أَنتَظِرُه بشَوقٍ عارِمٍ، وبخاصّةٍ أنِّي شَيخٌ كَبِيرٌ لا أَتَوقَّعُ أن أَعِيشَ أَكثَرَ مِن سَنةٍ، فإنَّ أَعظَمَ ما أَبغِيه هو الفَوزُ بعُمُرٍ باقٍ مِن خِلالِ الشَّهادةِ بَدَلًا عن هذا العُمُرِ الظّاهِرِيِّ.

أمَّا مِن حَيثُ العَمَلُ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ، فلَقد وَهَب لي اللهُ سُبحانَه وتَعالَى برَحْمَتِه إِخوانًا مَيامِينَ في العَمَلِ لِلقُرآنِ والإِيمانِ؛ وستُؤدَّى تلك الخِدمةُ الإِيمانيَّةُ عِندَ مَماتِي في مَراكِزَ كَثِيرةٍ بَدَلًا مِن مَركَزٍ واحِدٍ؛ ولو أَسكَتَ المَوتُ لِسانِي فستَنطَلِقُ أَلسِنةٌ قَوِيّةٌ بالنُّطقِ بَدَلًا عَنِّي وتُدِيمُ تلك الخِدمةَ.

بل أَستَطِيعُ القَولَ: إنَّ بِذْرةً واحِدةً تَحتَ التُّرابِ تُنشِئُ بمَوتِها حَياةَ سُنبُلةٍ، وتَتَقلَّدُ مِئةٌ مِنَ الحَبّاتِ الوَظِيفةَ بَدَلًا عن حَبّةٍ واحِدةٍ.

فآمُلُ أن يكُونَ مَوتِي كَذلِك وَسِيلةً لِخِدمةِ القُرآنِ أَكثَرَ مِن حَياتِي.

[الدسيسة الخامسة: إثارة الأنا]

الدَّسِيسة الشَّيطانيّة الخَامِسة

إنَّ المُوالِينَ لِلضَّلالةِ يَرُومُونَ سَحْبَ إِخوانِي عَنِّي مُستَفِيدِينَ مِنَ الأَنانيّةِ والغُرُورِ الكامِنِ في الإِنسانِ؛ وفي الحَقِيقةِ: إنَّ أَخطَرَ وأَضعَفَ عِرْقٍ يَنبِضُ في الإِنسانِ إنَّما هو عِرقُ الغُرُورِ، إذ يُمكِنُهُم بالتَّربِيتِ على ذلك العِرقِ وتَلطِيفِه أن يَدفَعُوه إلى كَثِيرٍ مِنَ المَفاسِدِ.

يا إِخوانِي، كُونُوا حَذِرِينَ، لِئَلَّا يَتَرصَّدُوكُم في هذا الجانِبِ فيَصِيدُوكُم مِن هذا العِرقِ: عِرقِ الغُرُورِ.

إنَّ أَهلَ الضَّلالةِ في هذا العَصرِ قدِ امتَطَوْا “أنا”، فهِي تَجُوبُ بهم في وِدْيانِ الضَّلالةِ؛ فأَهلُ الحَقِّ لا يَستَطِيعُونَ خِدمةَ الحَقِّ إلّا بَتركِ “أنا”، وحتَّى لو كانُوا على حَقٍّ وصَوابٍ في استِعمالِهِم “أنا”، فعَليَهِم تَركُها، لِئَلّا يُشبِهُوا أُولَئِك، ولِئَلّا يَظُنَّهُم راكِبُوها مِثلَهُم يَعبُدُونَ النَّفسَ؛ لِذا فإنَّ عَدَمَ تَركِ “أنا” بَخْسٌ لِلحَقِّ تِجاهَ خِدمةِ الحَقِّ.

زِدْ عَلى ذَلك أنَّ الخِدمةَ القُرآنيّةَ الَّتي اجتَمَعْنا علَيْها تَرفُضُ “أنا”، وتَطلُبُ “نَحنُ”، فلا تَقُولُوا: أنا! بل قُولُوا: نَحنُ.

ولا شَكَّ أنَّكُم قدِ اقتَنَعتُم أنَّ أَخاكُم هذا الفَقِيرَ لم يَبْرُز إلى المَيدانِ بـ”أنا”، ولا يَجعَلُكُم خُدَّامًا لِأَنانيَّتِه، بل أَراكُم نَفسَه خادِمًا لِلقُرآنِ لا يَملِكُ أَنانيّةً، فلَيسَ هو إلَّا قدِ اتَّخَذ -كما بَيَّنَه لَكُم- مَسلَكَ عَدَمِ الإِعجابِ بالنَّفسِ وعَدَمِ مُوالاةِ “أنا”، فَضْلًا عن أنَّه قد أَثبَتَ لَكُم بدَلائِلَ قاطِعةٍ أنَّ الآثارَ والمُؤَلَّفاتِ المُعَدَّةَ لِإفادةِ النَّاسِ كافَّةً هي مُلكُ الجَمِيعِ، أي إنَّها تَرَشُّحاتٌ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ لا يَسَعُ أَحَدًا أن يَتَملَّكَها بأَنانيَّتِه.

ولنَفْرِضْ فَرْضًا مُحالًا أنَّني أَتَملَّكُ تلك الآثارَ بأَنانيَّتِي، ولكِن ما دامَ بابُ الحَقِيقةِ القُرآنيّةِ هذا قدِ انفَتَح -كما قالَ أَحَدُ إِخوانِي- فيَنبَغِي لِأَهلِ العِلمِ والكَمالِ أن يَغُضُّوا النَّظَرَ عن نَقائِصِي وهَوانِ شَأْنِي، ولا يَظلُّوا مُستَغنِينَ عَنِّي مُتَردِّدِينَ في إِسنادِي.

وعلى الرَّغمِ مِن أنَّ آثارَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ والعُلَماءِ المُحَقِّقِينَ خَزِينةٌ عَظِيمةٌ تَكفِي وتَفِي بعِلاجِ كلِّ داءٍ؛ فقد يكُونُ لِمِفتاحِ خَزِينةٍ أَهَمِّيَّةٌ أَكثَرُ مِنَ الخَزِينةِ نَفسِها، لِأنَّها مَقفُولةٌ، وباستِطاعةِ المِفتاحِ فَتحُ خَزائِنَ كَثِيرةٍ.

وأَظُنُّ أنَّ العُلَماءَ الفُضَلاءِ الَّذِينَ لَهُم غُرُورٌ عِلمِيٌّ قَوِيٌّ، قد أَدرَكُوا أَيضًا أنَّ “الكَلِماتِ” المَنشُورةَ مِفتاحٌ لِلحَقائِقِ القُرآنيّةِ، وأنَّها سَيفٌ أَلْماسِيٌّ يَنزِلُ على رُؤُوسِ أُولَئِك السّاعِينَ لِإنكارِ تلك الحَقائِقِ.

ألا فلْيَعْلَمْ أُولَئِك الحامِلُونَ لِغُرُورٍ عِلمِيٍّ قَوِيٍّ أنَّهُم لا يكُونُونَ طُلَّابًا لي، بل يكُونُونَ طُلَّابًا وتَلامِيذَ لِلقُرآنِ الحَكِيمِ، وأنا لا أَكُونُ إلَّا زَمِيلَ دِراسةٍ مَعَهُم؛ بل حتَّى لو فُرِضَ فَرْضًا مُحالًا أنَّنِي أَدَّعِي الأُستاذِيَّةَ، ولكِن بما أنَّنا قد وَجَدْنا وَسِيلةً لِإنقاذِ طَبَقاتِ أَهلِ الإِيمانِ كافَّةً مِنَ العَوامِّ إلى الخَواصِّ مِنَ الشُّبُهاتِ والأَوْهامِ الَّتي يَتَعرَّضُونَ لها الآنَ، فعلى أُولَئِك العُلَماءِ أن يَجِدُوا وَسِيلةً أَيسَرَ مِنها، أو يَلتَزِمُوا هذه الوَسِيلةَ ويقُومُوا بتَدرِيسِها وتَعَهُّدِها.

إنَّ هناك زَجْرًا عَظِيمًا في حَقِّ عُلَماءِ السُّوءِ، فليَحْذَرْ أَهلُ العِلمِ في هذا الزَّمانِ حَذَرًا شَدِيدًا؛ فلَوِ افتَرَضتُم -كما يَظُنُّ أَعداؤُنا- أنَّني أَعمَلُ في هذه الخِدمةِ الإِيمانيّةِ في سَبِيلِ إِبرازِ أَنانيَّتِي وغُرُورِي، ولكِن هُناك أُناسٌ كَثِيرُونَ اجتَمَعُوا حَولَ شَخصٍ مُتَفَرعِنٍ اجتِماعًا جادًّا خالِصًا تارِكِينَ غُرُورَهُم، وعَمِلُوا بتَرابُطٍ قَوِيٍّ في سَبِيلِ مَقصَدٍ دُنيَوِيٍّ وقَومِيٍّ، أوَلَيسَ لِأَخِيكُم هذا حَقٌّ في مُطالَبَتِكُمُ الِاجتِماعَ بتَسانُدٍ وتَرابُطٍ حَولَ الحَقائِقِ القُرآنيّةِ وبتَركِ الأَنانيّةِ، كتَسانُدِ عُرَفاءِ تلك القِيادةِ الدُّنيَوِيّةِ؟ أوَلَيسَ أَكبَرُ عُلَمائِكُم غَيرَ مُحِقٍّ كَذلِك في عَدَمِ تَلبِيةِ نِدائِه؟ معَ أنَّه يَستُرُ أَنانيَّتَه ويَدعُو إلى الِالتِفافِ حَولَ الحَقائِقِ القُرآنيّةِ والإِيمانيّةِ.

فيا إِخوانِي، إنَّ أَخطَرَ جِهةٍ مِنَ الأَنانيّةِ في عَمَلِنا هذا هو الحَسَدُ والغَيْرةُ، فإذا لم يكُنِ العَمَلُ خالِصًا للهِ وَحْدَه، فإنَّ الحَسَدَ يَتَدخَّلُ فيُفسِدُ العَمَلَ؛ فكَما أنَّ إِحدَى يَدَيِ الإِنسانِ لا تَحسُدُ الأُخرَى ولا تَغارُ مِنها، وكذا لا تَحسُدُ عَينُه أُذُنَه ولا يَغارُ قَلبُه مِن عَقلِه، كَذلِك أَنتُم، فكُلٌّ مِنكُم في حُكْمِ عُضوٍ وحاسّةٍ في الشَّخصِ المَعنَوِيِّ لِجَماعَتِنا هذه.. فواجِبُكُمُ الوِجْدانِيُّ ألّا يَحسُدَ بَعضُكُم بَعضًا، بل يَفتَخِرَ كلٌّ مِنكُم بمَزايا الآخَرِ ويُسَرَّ بها.

بَقِيَ أَمرٌ آخَرُ، وهُو أَخطَرُ الأُمُورِ، هو: وُجُودُ الحَسَدِ والغَيْرةِ فِيكُم أو في أَحبابِكُم تِجاهَ أَخِيكُم هذا الفَقِيرِ، وهذا مِن أَخطَرِ الأُمُورِ؛ وفِيكُم عُلَماءُ أَجِلَّاءُ مُتَبَحِّرُونَ، وفي قِسمٍ مِن أَهلِ العِلمِ غُرُورٌ عِلمِيٌّ ولو أنَّه مُتَواضِعٌ بالذَّاتِ، إلَّا أنَّه -في تلك الجِهةِ- مَغرُورٌ وأَنانِيٌّ، فلا يَدَعُ غُرُورَه فَورًا، ومَهْما الْتَزَمَ عَقْلُه وتَمَسَّك قَلبُه بالخِدمةِ إلَّا أنَّ نَفسَه تَرُومُ التَّمَيُّـزَ والظُّهُورَ والشُّهرةَ مِن جَرَّاءِ ذلك الغُرُورِ العِلمِيِّ؛ بل إنَّها تَرغَبُ حتَّى في إِظهارِ المُعارَضةِ لِلرَّسائِلِ المَكتُوبةِ.. وعلى الرَّغمِ مِن أنَّ قَلبَه يُحِبُّ “الرَّسائِلَ”، وأنَّ عَقلَه يُعجَبُ بها ويَجِدُها رَفِيعةً، فإنَّ نَفسَه تُضمِرُ عَداءً آتِيًا مِنَ الغَيرةِ العِلمِيّةِ، وتَتَمنَّى تَهوِينَ شَأْنِ “الكَلِماتِ” كي تَبلُغَها نِتاجاتُ فِكرِه، وتُروِّجَ مِثلَها، لِذا أُضطَرُّ اضطِرارًا أن أُبلِّغَ هذا :

إنَّ الَّذِينَ هُم ضِمنَ دائِرةِ هذه الدُّرُوسِ القُرآنيّةِ، وَظِيفَتُهُم مَحصُورةٌ -مِن حَيثُ العُلُومُ الإِيمانيّةُ- في شَرحِ “الكَلِماتِ” المَكتُوبةِ وإِيضاحِها أو تَنظِيمِها، حتَّى لو كانُوا مُجتَهِدِينَ، وعُلَماءَ مُتَبحِّرِينَ، لِأنَّه قد عَلِمْنا بأَماراتٍ كَثِيرةٍ أنَّنا مُوَظَّفُونَ بوَظِيفةِ الفَتوَى في هذه العُلُومِ الإِيمانيّةِ؛ فلو حاوَلَ أَحَدُهُم مِمَّن هو ضِمنَ دائِرَتِنا أن يَكتُبَ شَيئًا بما استَوْحَتْه نَفسُه مِنَ الغُرُورِ العِلمِيِّ -خارِجَ نِطاقِ الشَّرحِ والإِيضاحِ- فإنَّه يكُونُ بمَثابةِ مُعارَضةٍ واهِيةٍ وتَقلِيدٍ مُشِينٍ، لِأنَّه قد تَحَقَّقَ بالأَدِلّةِ والأَماراتِ أنَّ أَجزاءَ “رَسائِلِ النُّورِ” تَرَشُّحاتٌ مِن فَيضِ القُرآنِ الكَرِيمِ، وقد تَكَفَّل كُلٌّ مِنّا -على وَفقِ قاعِدةِ تَوزِيعِ المَساعِي وتَقسِيمِ الأَعمالِ- بالقِيامِ بوَظِيفةٍ مِن وَظائِفِ العَمَلِ لِلقُرآنِ، لِنُوصِلَ تلك التَّرَشُّحاتِ الكَوثَرِيّةَ إلى المُحتاجِينَ.

[الدسيسة السادسة: إثارة الميل إلى الراحة]

الدَّسِيسة الشَّيطانيّة السَّادِسة

وهِي استِغلالُ الشَّيطانِ حُبَّ الرَّاحةِ والدَّعةِ والتَّطَلُّعِ إلى تَسَنُّمِ الوَظائِفِ لَدَى الإِنسانِ.

نعم، إنَّ شَياطِينَ الجِنِّ والإِنسِ لا يَدَعُونَ ناحِيةً إلَّا ويُهاجِمُونَ مِنها، فعِندَما يَرَوْنَ أَحَدًا مِن أَصدِقائِنا ذا قَلبٍ راسِخٍ ووَفاءٍ تامٍّ ونِيّةٍ خالِصةٍ وهِمَّةٍ عالِيةٍ، يَلتَفُّونَ علَيْه مِن جِهاتٍ أُخرَى، ويَشُنُّونَ هُجُومَهُم علَيْه، كالآتي:

إنَّهُم يَستَغِلُّونَ ما لَدَيْهِم مِن حُبٍّ لِلرَّاحةِ والدَّعةِ، ويَستَفِيدُونَ مِن مَكانَتِهِم في الوَظائِفِ لِيُفسِدُوا علَيْنا مُهِمَّتَنا، ويُعِيقُوا خِدْمةَ القُرآنِ، أو لِيَصرِفُوهُم عنِ العَمَلِ لِلقُرآنِ بدَسائِسَ ومَكايِدَ خَبِيثةٍ إلى حَدٍّ يَجِدُونَ لِقِسمٍ مِنهُم أَعمالًا كَثِيرةً لِيُغرِقُوهُم فيها مِن دُونِ أن يَشعُرُوا، كَيْلا يَجِدُوا مُتَّسَعًا مِنَ الوَقتِ لِلعَمَلِ لِلقُرآنِ، أو يُقدِّمُوا لِقِسمٍ آخَرَ أُمُورًا دُنيَوِيّةً فاتِنةً لِيُثيرُوا فِيهِمُ الرَّغَباتِ والهَوَى، لِتُصِيبَهم الغَفْلةُ عنِ الخِدْمةِ.. وهكذا.

وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ طُرُقَ الهُجُومِ هذه طَوِيلةٌ، إلَّا أنَّنا اختَصَرْناها هنا مُحِيلِينَ الأَمرَ إلى فِطْنَتِكُم ونَظَرِكُمُ الثّاقِبِ.

فيا إِخوَتِي، اعلَمُوا، واحذَرُوا، إنَّ مُهِمَّتَكُم هذه مُقدَّسةٌ وخِدمَتَكُم سامِيةٌ، وإنَّ كلَّ ساعةٍ مِن ساعاتِكُم ثَمِينةٌ إلى حَدٍّ يُمكِنُ أن تكُونَ بمَثابةِ عِبادةِ يَومٍ كامِلٍ.. اعلَمُوا هذا جَيِّدًا لِئَلَّا تَضِيعَ مِنكُم وتَفُوتَ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾

﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

﴿اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الحَبِيبِ العَالِي القَدْرِ العَظِيمِ الجَاهِ وعَلَى آلِه وصَحبِه وسَلِّم. آمِينَ﴾

سِيرة مُقدَّسَة‌

(لم تترجم)

[ذيل القسم السادس]

ذَيلُ القِسمُ السَّادِس

الأسئِلة السِّتة

كُتِبَ هذا الذَّيلُ (لِلتَّداوُلِ الخاصِّ)، لِتَجَنُّبِ ما يَرِدُ في المُستَقبَلِ مِن كَلِماتِ الإِهانةِ وشُعُورِ الكَراهِيةِ، أي: لِئَلَّا يُصِيبَ بُصاقُ إِهانَتِهِم وُجُوهَنا أو لِمَسْحِه عنها عِندَما يُقالُ: تَبًّا لِرِجالِ ذلك العَصرِ العَدِيمِي الغَيرةِ!

وهُو عِبارةٌ عن عَرِيضةٍ تَدفَعُ الإِنسانَ لِلقَولِ: لِتَرِنَّ آذانٌ صُمٌّ: آذانُ رُؤَساءِ أَورُوبَّا المُتَوحِّشِينَ المُتَستِّرِينَ بقِناعِ الإِنسانيّةِ؛ ولْتُفقَأِ العُيُونُ المَطمُوسةُ: عُيُونُ أُولَئِك العَدِيمِي الضَّمِيرِ الجائِرِينَ الَّذِينَ سَلَّطُوا علَيْنا هَؤُلاءِ الظَّلَمةَ الغَدَّارِينَ؛ ولْتَنزِلْ صَفْعةٌ كالمِطْرَقةِ على رُؤُوسِ عَبِيدِ المَدَنيَّةِ الدَّنِيَّةِ الَّتي أَذاقَتِ البَشَرِيَّةَ في هذا العَصرِ آلامًا جَهَنَّمِيّةً حتَّى صَرَخَت في كلِّ مَكانٍ: لِتَعِشْ جَهَنَّمُ!

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾

لقد حَدَثَت في الآوِنةِ الأَخِيرةِ اعتِداءاتٌ شَنِيعةٌ كَثِيرةٌ على حُقُوقِ المُؤمِنِينَ الضُّعَفاءِ، مِنَ المُلحِدِينَ المُتَخَفِّينَ وَراءَ الأَستارِ، وأَخُصُّ بالذِّكرِ اعتِداءَهُم علَيَّ تَعَدِّيًا صارِخًا، باقتِحامِهِم مَسجِدِي الخاصَّ الَّذي رَمَّمتُه بنَفسِي، وكُنَّا فيه معَ ثُلَّةٍ مِن رُفَقائِي الأَعِزَّاءِ، نُؤَدِّي العِبادةَ، ونَرفَعُ الأَذانَ والإِقامةَ سِرًّا، فقِيلَ لنا: لِمَ تَرفَعُونَ الأَذانَ والإِقامةَ سِرًّا باللُّغةِ العَرَبيّةِ؟ نَفِدَ صَبْرِي مِنَ السُّكُوتِ علَيْهِم: وها أَنَذا لا أُخاطِبُ هَؤُلاءِ السَّفَلةَ الدَّنيئِينَ الَّذِينَ حُرِمُوا مِنَ الضَّمِيرِ، ولَيسُوا أَهلًا لِلخِطابِ، بل أُخاطِبُ أُولَئِك الرُّؤَساءَ المُتَفَرعِنِينَ في القِيادةِ الَّذِينَ يَلعَبُونَ بمُقَدَّراتِ الأُمَّةِ حَسَبَ أَهواءِ طُغيانِهِم. فأَقُولُ:

يا أَهلَ الإِلحادِ والبِدعةِ، إنِّي أُطالِبُكُم بالإجابةِ على سِتَّةِ أَسئِلةٍ:

السُّؤال الأوَّل:

إنَّ لِكُلِّ حُكُومةٍ -مَهْما كانَت- ولِكُلِّ قَومٍ، بل حتَّى أُولَئِك الَّذِينَ يَأكُلُونَ لَحمَ البَشَرِ، بل حتَّى رَئِيسِ أيَّةِ عِصابةٍ شَرِسةٍ، مَنهَجًا وأُصُولًا ودَساتِيرَ، يَحكُمُونَ وَفْقَها.

فعلى أيِّ أَساسٍ مِن دَساتِيرِكُم وأُصُولِكُم تَتَعدَّوْنَ هذا التَّعَدِّيَ الفاضِحَ؟! أَظهِرُوه لنا.. أم أنَّـكُم تَحسَبُونَ أَهواءَ عَدَدٍ مِنَ المُوَظَّفِينَ الحُقَراءِ قانُونًا؟ إذ ليس ثمّةَ قانُونٌ في العالَمِ يَسمَحُ بالتَّدَخُّلِ في عِبادةٍ شَخصِيَّةٍ خاصَّةٍ! ولا يُسَنُّ قانُونٌ في ذلك قَطْعًا.

السُّؤالُ الثَّاني:

إنَّ دُستُورَ حُرِّيَّةِ الضَّمِيرِ (حُرِّيّةِ المُعتَقَدِ الدِّينيِّ) مُهَيمِنٌ بصُورةٍ عامَّةٍ في العالَمِ قاطِبةً، ولا سِيَّما في هذا العَصرِ -عَصرِ الحُرِّيّاتِ- وبخاصّةٍ في نِطاقِ المَدَنيّةِ الحاضِرةِ.

فإلى أيّةِ قُوّةٍ تَستَنِدُونَ أَنتُم في جُرْأَتِكُم هذه، بخُرُوجِكُم على هذا الدُّستُورِ، واستِخفافِكُم به، مِمَّا يُعَدُّ إِهانةً لِلبَشَرِيَّةِ كلِّها، وإِهمالًا لِرَفْضِها لِعَمَلِكُم؟ وأيَّةُ قُوّةٍ لَدَيكُم حتَّى تَمَسَّكتُم بالإِلحادِ وكأنَّه دِينٌ لَكُم في الوَقتِ الَّذي أَطلَقتُم على أَنفُسِكُمُ اسمَ “اللَّادِينيّةِ”، وأَعلَنتُم عَدَمَ التَّعَرُّضِ لِلدِّينِ ولِلإِلحادِ على السَّواءِ.

بَيدَ أنَّكُم تَتَعدَّوْنَ على حُقُوقِ أَهلِ الدِّينِ إلى حَدٍّ كَبِيرٍ، فلا شَكَّ أنَّ أَعمالَكُم هذه لن تَبقَى في طَيِّ الخَفاءِ، بل ستُسأَلُونَ عنها.. وعِندَها بماذا تُجِيبُونَ؟

فها أَنتُم أُولاءِ لا تُطِيقُونَ رَفضَ أَصغَرِ حُكُومةٍ مِنَ الحُكُوماتِ العِشرِينَ واعتِراضَها علَيْكُم، فكَيفَ بكُم تِجاهَ عِشرِينَ حُكُومةٍ يَرفُضُونَ معًا مُحاوَلَتَكُم نَقضَ حُرِّيّةِ الضَّمِيرِ بالقُوَّةِ وبالإِكراهِ وكأنَّكُم لا تَحسِبُونَ حِسابَ رَفضِهِم؟!

السُّؤالُ الثَّالث:

بأَيِّ قانُونٍ وبأَيَّةِ قاعِدةٍ تُكلِّفُونَ مَن هو شافِعِيُّ المَذهَبِ مِثلِي، اتِّباعَ فَتوَى تُنافِي صَفاءَ المَذهَبِ الحَنَفِيِّ وسُمُوَّه، أَفتَى بها عُلَماءُ السُّوءِ الَّذِينَ باعُوا ضَمائِرَهُم لِمَغْنَمٍ دُنيَوِيٍّ.

فلو حاوَلتُم إِزالةَ المَذهَبِ الشَّافِعِيِّ -عِلمًا أنَّ مُتَّبِعِيه في هذا المَسلَكِ يُعَدُّونَ بالمَلايِينِ- وسَعَيتُم لِجَعلِهِم أَحنافًا، ثمَّ أَكرَهتُمُونِي على اتِّباعِ هذه الفَتوَى إِكراهًا بالقُوّةِ، رُبَّما يكُونُ ذلك قانُونًا ظالِمًا مِن قَوانِينِ المُلحِدِينَ أَمثالِكُم، وإلَّا فهُو دَناءةٌ يَقتَرِفُها بَعضُهُم حَسَبَ أَهوائِه!

إنَّنا لَسْنا تابِعِينَ لِأَهواءِ أَمثالِ هَؤُلاءِ، ولا نَعرِفُهُم أَصلًا.

السُّؤالُ الرَّابعُ:

أيُّ أَصلٍ مِن أُصُولِكُم هذا الَّذي تَستَنِدُونَ إلَيْه في تَكلِيفِ أَمثالِي مِمَّن هُم مِن قَومٍ آخَرِينَ: أن أَقِمِ الصَّلاةَ باللُّغةِ التُّركِيَّةِ، بِناءً على فَتوَى مُحَرَّفةٍ مُبتَدَعةٍ، باسمِ العُنصُرِيّةِ التُّركِيَّةِ الَّتي تَعنِي التَّفَرنُجَ المُنافِيَ كُلِّيًّا لِقَومِيّةِ وأَعرافِ وعاداتِ هذه الأُمّةِ الَّتي امتَزَجَت واتَّحَدَت بالإِسلامِ مُنذُ القِدَمِ واحتَرَمَتْه.

وعلى الرَّغمِ مِن أنَّني على عَلاقةٍ وَثِيقةٍ وصَداقةٍ صَمِيمةٍ وأُخُوَّةٍ خالِصةٍ بالأَتراكِ الحَقِيقيِّينَ، فإنِّي لَستُ على عَلاقةٍ أَبدًا معَ الدَّعوةِ القَومِيّةِ لِأَمثالِكُم مِنَ المُتَفرنِجِينَ.

فكَيفَ تُكلِّفُونَني بذلك؟ وبأيِّ قانُونٍ؟

إنَّ الأَكرادَ الَّذِينَ يَبلُغُ تَعدادُهُمُ المَلايِينَ، لم يَنسَوْا قَومِيَّتَهُم ولا لِسانَهُم مُنذُ أُلُوفِ السِّنِينَ، وكانُوا إِخوةً حَقِيقيِّينَ لِلأَتراكِ في الوَطَنِ، ورِفاقَهُم في سُوحِ الجِهادِ مُنذُ سالِفِ العُصُورِ، أقُولُ: إن أَزَلتُم قَومِيَّتَهُم وأَنسَيتُمُوهُم لِسانَهُم، فلَرُبَّما يكُونُ تَكلِيفُكُم هذا لِأَمثالِنا -مِمَّن يُعَدُّونَ مِن عُنصُرٍ آخَرَ- دُستُورًا هَمَجِيًّا مِن دَساتِيرِكُم.. وإلّا فهُو مُجَرَّدُ هَوًى وتَصَرُّفٍ اعتِباطِيٍّ لا غَيرُ.

ألا إنَّ أَهواءَ الأَشخاصِ لا تُتَّبَعُ، ولا نَتَّبِعُها نَحنُ.

السُّؤالُ الخَامِس:

إنَّ أيّةَ حُكُومةٍ كانَت لها أن تُطَبِّقَ قَوانِينَها على رَعِيَّتِها ومَن تَعُدُّهُم مِن رَعاياها، ولكِنَّها لا تَستَطِيعُ أن تُجرِيَ قَوانِينَها عَلى مَن لا تَعُدُّهُم مِن رَعَايَاهَا، لِأنَّ أُولَئِك يقُولُونَ:

لَمَّا لم نكُن مِن رَعاياكُم، فلَستُم حُكُومَتَنا كَذلِك.

زِدْ على ذلك أنَّ عِقابَينِ اثنَينِ لا يَنزِلانِ في آنٍ واحِدٍ على شَخصٍ، في دَوْلةٍ مِنَ الدُّوَلِ؛ فإمَّا أن يُعدَمَ القَاتِلُ، أو يُلقَى به في السِّجنِ؛ ولا يَجُوزُ الحُكمُ بالسِّجنِ وتَنفِيذُ الإِعدامِ مَعًا علَيْه.

وفي ضَوءِ هذا، فإنَّنِي لم أُلحِقْ أَيَّ ضَرَرٍ كانَ لِلوَطَنِ أوِ الأُمّةِ، ومعَ ذلك فقد وَضَعتُمُوني في الأَسرِ طَوالَ ثَمانِي سَنَواتٍ، وعامَلتُمُونِي مُعامَلةً لا يُعامَلُ بها حتَّى مَن كانَ مُجرِمًا حَقًّا ومِن قَومٍ آخَرِينَ، بل مِن أَبعَدِ الأَجانِبِ عنِ البِلادِ.

ولقد سَلَبتُمُونِي حُرِّيَّتي، وأَسقَطتُمُوني مِنَ الحُقُوقِ المَدَنيّةِ، معَ أنَّكُم أَصدَرتُمُ العَفوَ عنِ المُجرِمِينَ، ولم يَقُل أَحَدٌ مِنكُم: إنَّ هَذا الشَّخصَ أَيضًا مِن أَبناءِ هذا الوَطَنِ!

فبِأَيِّ قانُونٍ مِن قَوانِينِكُم تُكلِّفُونَ شَخصًا غَرِيبًا عَنكُم مِثلِي مِن كلِّ جِهةٍ بدَساتِيرِكُم هذه المُناقِضةِ لِلحُرِّيّةِ، والَّتي طَبَّقتُمُوها على أُمَّتِكُمُ المَنكُوبةِ خِلافِ رِضاهُم؟

ولَمَّا كُنتُم قدِ اعتَبَرتُمُ البُطولاتِ الجِسامَ في سَبِيلِ الحِفاظِ على الوَطَنِ والجِهادِ بالنَّفسِ والنَّفِيسِ -الَّتي أَصبَحتُ وَسِيلةً لها بشَهادةِ قُوَّادِ الجَيشِ في الحَربِ العالَمِيّةِ الأُولَى- اعتَبَرتُمُوها جَرِيمةً، كما اعتَبَرتُمُ السَّعيَ الجادَّ لِلحِفاظِ على الأَخلاقِ الفَاضِلةِ لِلأُمّةِ المَنكُوبةِ، وضَمانَ سَعادَتِها الدُّنيَوِيّةِ والأُخرَوِيّةِ خِيانةً.

وما دُمتُم قد عاقَبتُم مَن لا يَرضَى أن يُطَبِّقَ في نَفسِه أُصُولَكُم ومَنهَجَكُمُ المُتَفَرنِجَ الإِلحادِيَّ الَّذي لا نَفعَ فيه بل مِلؤُه الضَّرَرُ والهَلاكُ، بثَمانِي سَنَواتٍ مِنَ الحَياةِ تَحتَ المُراقَبةِ والتَّرَصُّدِ (والآنَ أَصبَحَت ثَمانِيًا وعِشرِينَ سَنةً)، فبِأيِّ قانُونٍ تُنزِلُونَ بي عِقابًا آخَرَ، معَ أنَّ العِقابَ لا يكُونُ إلَّا واحِدًا.

السُّؤالُ السَّادِسُ:

إنَّكُم تَرَونَ أنَّ لنا خِلافًا ومُعارَضةً كُلِّيّةً مَعَكُم، ومُعامَلاتُكُمُ القاسِيةُ شاهِدةٌ على ذلك؛ فأَنتُم تُضَحُّونَ بدِينِكُم وآخِرَتِكُم في سَبِيلِ دُنياكُم، ونَحنُ بدَوْرِنا مُستَعِدُّونَ على الدَّوامِ لِلتَّضحِيةِ بدُنيانا في سَبِيلِ دِينِنا، وفي سَبِيلِ آخِرَتِنا، وهذا هو سِرُّ المُعارَضةِ الَّتي بَينَنا حَسَبَ ظَنِّكُم.

ولا جَرَمَ أنَّ التَّضحِيةَ ببِضعِ سِنِينَ مِن حَياتِنا الَّتي تَمضِي في ذُلٍّ وهَوانٍ في ظِلِّ حُكْمِكُمُ القاسِي قَساوةَ الوُحُوشِ لِنَكسِبَ بها شَهادةً خالِصةً في سَبِيلِ اللهِ، تُعَدُّ ماءَ كَوثَرٍ لنا.

ولكِنِ استِنادًا إلى فَيضِ القُرآنِ الحَكِيمِ وإِشاراتِه، أُخبِرُكُم بالآتي لِتَرتَعِدَ فَرائِصُكُم:

إنَّكُم لن تَعِيشُوا بَعدَ قَتلِي، فإنَّ يَدًا قاهِرةً ستَأخُذُكُم مِن دُنياكُمُ الَّتي هي جَنَّـتُكُم وأَنتُم مُغرَمُونَ بها، وتَطرُدُكُم عنها، وتَقذِفُ بكم فَورًا إلى ظُلُماتٍ أَبدِيّةٍ، وسيُقتَلُ بَعدِي رُؤَساؤُكُمُ الَّذِينَ تَنَمْرَدُوا وطَغَوا قِتلةَ الدَّوابِّ، ويُرسَلُونَ إِلَيَّ، وسأُمسِكُ بخِناقِهِم أَمامَ الحَضْرةِ الإِلٰهِيّةِ، وسآخُذُ حَقِّي مِنهُم بإِلقاءِ العَدالةِ الإِلٰهِيّةِ إِيَّاهُم في أَسفَلِ سافِلِينَ.

أيُّها الشُّقاةُ الَّذِينَ باعُوا دِينَهُم وآخِرَتَهُم بحُطامِ الدُّنيا..

إن كُنتُم تُرِيدُونَ أن تَعِيشُوا حَقًّا فلا تَتَعرَّضُوا لي ولا تَمَسُّوني بسُوءٍ، وإن تَعَرَّضتُم فاعلَمُوا أنَّ ثَأْرِي سيُؤخَذُ مِنكُم أَضعافًا مُضاعَفةً. اعلَمُوا هذا جَيِّدًا ولْتَرتَعِدْ فَرائِصُكُم.. وإنِّي آمُلُ مِن رَحْمةِ اللهِ سُبحانَه أنَّ مَوتِي سيَخدُمُ الدِّينَ أَكثَرَ مِن حَياتي، وأنَّ وَفاتي ستَنفَلِقُ على رُؤُوسِكُمُ انفِلاقَ القُنبُلةِ، وستُشَتِّتُ رُؤُوسَكُم وتُبَعثِرُها. فإن كانَت لَكُم جُرْأةٌ، فتَعَرَّضُوا لي، فلَئِن كانَ لكُم ما تَفعَلُونَه بي، لَتَعلَمُنَّ أنَّ لكُم ما تَنتَظِرُونَه وتُلاقُونَه مِن عِقابٍ. أمّا أنا فسأَتلُو بكُلِّ ما أَملِكُ مِن قُوّةٍ هذه الآيةَ الكَرِيمةَ إِزاءَ جَمِيعِ تَهدِيداتِكُم:َ

﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾

❀   ❀   ❀

[القسم السابع: التحذير من تحريف الشعائر الإسلامية]

القِسمُ السَّابع

الإشَارَات السَّبع

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾

﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾

هذا القِسمُ عِبارةٌ عن سَبعِ إشاراتٍ، كُتِبَ جَوابًا عن ثلاثةِ أَسئِلةٍ،‌ والسُّؤالُ الأَوَّلُ مِنها يَتَضمَّنُ أَربَعَ إشاراتٍ.‌

[الإشارة الأولى: ردٌّ على مجيزي تبديل الشعائر الإسلامية]

الإشَارَة الأولَى

إنَّ مُستَنَدَ الَّذين يُحاوِلُون تَغيِيرَ الشَّعائِرِ الإسلاميّةِ وتَبدِيلَها وحُجَّتَهم نابِعةٌ مِن تَقلِيدِ الأَجانِبِ تَقْلِيدًا أَعمَى -كما هو في كُلِّ الأُمُورِ الفاسِدةِ- فهم يقُولُون:

“إنَّ المُهتَدِين في لُندُن، والَّذين دَخَلُوا في حَظِيرةِ الإيمانِ مِنَ الأَجانِبِ يُتَرجِمُون كَثِيرًا مِنَ الأُمُورِ أَمثالَ الأَذانِ والإقامةِ للصَّلاةِ إلى أَلسِنَتِهم، ويَعمَلُون بها في بِلادِهم، والعالَمُ الإسلاميُّ إزاءَ عَمَلِهم هذا ساكِتٌ، لا يَعتَرِضُ علَيهِم، فإذًا هُنالِك جَوازٌ شَرعِيٌّ في عَمَلِهم هذا بحَيثُ يَجعَلُهم يَلزَمُون الصَّمتَ إزاءَه!”.

الجَوابُ: إنَّ الفَرْقَ في هذا القِياسَ ظاهِرٌ جِدًّا، وليس مِن شَأْنِ ذِي شُعُورٍ تَقلِيدُهم، وقِياسُ الأُمُورِ علَيهِم مَهما كانَ، لأنَّ بِلادَ الأَجانِبِ يُطلَقُ علَيها في لِسانِ الشَّرِيعةِ “دارُ الحَربِ”، فكَثِيرٌ مِنَ الأُمُورِ لها جَوازٌ شَرعِيٌّ في “دارِ الحَربِ”، ولا مَساغَ لها في “دارِ الإسلامِ”.

ثمَّ إنَّ بِلادَ الإفرَنجِ تَتَميَّـزُ بقُوّةِ النَّصرانيّةِ وشَوْكَتِها، فلَيس هناك مُحِيطٌ يُلَقِّنُ بلِسانِ الحالِ ما يُشِيعُ مَفاهِيمَ الكَلِماتِ المُقدَّسةِ ومَعانِيَ الِاصطِلاحاتِ الشَّرعِيّةِ، لِذا فبالضَّرُورةِ رُجِّحَتِ المَعاني القُدسِيّةُ على الأَلفاظِ المُقدَّسةِ، أي: تُرِكَتِ الأَلفاظُ حِفاظًا على المَعاني، أي: اخْتِيرَ أَخَفُّ الضَّرَرَينِ، وأَهوَنُ الشَّرَّينِ.

أمّا في “دارِ الإسلامِ”، فإنَّ المُحِيطَ يُرشِدُ ويُلَقِّنُ المُسلِمين بلِسانِ الحالِ المَعانِيَ الإجماليّةَ لتلك الكَلِماتِ المُقدَّسةِ، إذ إنَّ جَمِيعَ المُحاوَراتِ والمَسائِلِ الدَّائِرةِ بينَ المُسلِمين حَولَ الأَعرافِ والعاداتِ والتَّارِيخِ الإسلاميِّ، والشَّعائِرِ الإسلاميَّةِ عامَّةً، وأَركانِ الإسلامِ كافَّةً، تُلَقِّنُ باستِمرارٍ المَعانِيَ المُجمَلةَ لتلك الكَلِماتِ المُقدَّسةِ لأَهلِ الإيمانِ؛ حتَّى إنَّ مَعابِدَ هذه البِلادِ ومَدارِسَها الدِّينيّةَ، بل حتَّى شَواهِدَ القُبُورِ في المَقابِرِ، تُؤَدِّي مُهِمّةَ مُلَقِّنٍ ومُعَلِّمٍ يُذَكِّرُ المُؤمِنين بتلك المَعانِي المُقدَّسةِ.

فيا تُرَى! إنَّ مَن يَعُدُّ نَفسَه مُسلِمًا، ويَتَعلَّمُ يَومِيًّا خَمسِين كَلِمةً مِنَ الكَلِماتِ الأَجنَبِيّةِ في سَبِيلِ مَصلَحةٍ دُنيَوِيّةٍ؛ إن لم يَتَعلَّمْ في خَمسِينَ سَنةً ما يُكَرِّرُها كلَّ يومٍ خَمسِين مَرّةً مِنَ الكَلِماتِ المُقدَّسةِ، أَمثالَ: “سُبحانَ اللهِ، والحَمدُ للهِ، ولا إلٰهَ إلّا اللهُ، واللهُ أَكبَرُ” ألا يَتَردَّى إلى أَدنَى مِنَ الحَيَوانِ بخَمسِين مَرّةً؟!

ألا إنَّ هذه الكَلِماتِ المُقَدَّسةَ لا تُحَرَّفُ، ولا تُتَرجَمُ، ولا تُهْجَرُ لِأَجلِ هؤلاء الأَنعامِ! بل إنَّ هَجْرَ هذه الكَلِماتِ وتَحرِيفَها ما هو إلّا نَقضٌ لِشَواهِدِ القُبُورِ كُلِّها وتَسوِيَتُها بالتُّرابِ، وإعراضٌ عنِ الأَجدادِ، وإهانةٌ لهم، واتِّخاذُهم أَعداءً.. وعلَيه فهم يَرتَعِدُون في قُبُورِهم مِن هَوْلِ هذا التَّحقِيرِ والإهانةِ.

[تفنيد الاحتجاج بجواز قراءة الفاتحة بالفارسية]

إنَّ عُلَماءَ السُّوءِ الَّذين انخَدَعُوا بالمُلحِدِين يقُولُون تَغرِيرًا بالأُمّةِ: لقد قالَ الإمامُ الأَعظَمُ (أَبُو حَنِيفةَ النُّعمانُ): “يَجُوزُ قِراءةُ تَرجَمةِ الفاتِحةِ بالفارِسِيّةِ، إن وُجِدَتِ الحاجةُ، وحَسَبَ دَرَجةِ الحاجةِ، لِمَن لا يَعرِفُ العَرَبيّةَ أَصْلًا، في الدِّيارِ البَعِيدةِ”. فبِناءً على هذه الفَتْوَى، ونحنُ مُحتاجُون، فلَنا إذًا أن نَقْرَأَها بالتُّركِيّةِ.

الجَوابُ: إنَّ جَمِيعَ الأَئِمّةِ العِظامِ -سِوَى الإمامِ الأَعظَمِ- والأَئِمّةِ الِاثنَيْ عَشَرَ المُجتَهِدِين، كلَّهم يُفتُون خِلافَ فَتوَى الإمامِ الأَعظَمِ هذه؛ وإنَّ الجادّةَ الكُبْرَى للعالَمِ الإسلامِيِّ هي الَّتي سَلَكَها أُولَئك الأَئِمّةُ العِظامُ كُلُّهم.. فالأُمّةُ العَظِيمةُ لا تَسِيرُ إلّا في الجادّةِ الكُبْرَى؛ فالَّذين يُرِيدُون أن يَسُوقُوها إلى طَرِيقٍ مَخصُوصةٍ وضَيِّقةٍ إنَّما يُضِلُّون النّاسَ.

[فتوى الإمام أبي حنيفة مخصوصة من خمس جهات]

إنَّ فَتوَى الإمامِ الأَعظَمِ هي فَتوَى خاصَّةٌ بخَمسِ جِهاتٍ:

الأُولَى: إنَّها تَخُصُّ أُولَئِك القاطِنِين في دِيارٍ أُخرَى، وبِلادٍ بَعِيدةٍ عن مَركَزِ “دارِ الإسلامِ”.

الثَّانية: إنَّها مَبنِيّةٌ على الحاجةِ الحَقِيقيّةِ.

الثَّالثة: إنَّها خاصّةٌ بتَرجَمَتِها إلى الفارِسِيّة، الَّتي تُعَدُّ -في رِوايةٍ- مِن لِسانِ أَهلِ الجَنّةِ.

الرَّابعة: إنَّها حُكْمٌ بالجَوازِ خِصِّيصًا لِسُورةِ الفاتِحةِ، لِئَلّا يَتْرُكَ الصَّلاةَ مَن لا يَعرِفُ سُورةَ الفاتِحةِ.

الخَامِسةُ: لقد أُظهِرَ الجَوازُ لِيَكُونَ باعِثًا لِفَهْمِ العَوامِّ المَعانِيَ المُقدَّسةَ، بحَمِيّةٍ إسلاميَّةٍ نابِعةٍ عن قُوّةِ الإيمانِ، والحالُ أنَّ تَرْكَ أَصلِها العَرَبيِّ، وتَرجَمَتَها بدافِعِ الهَدْمِ النَّاشِئِ مِن ضَعْفِ الإيمانِ، والنَّابِعِ مِن فِكرِ العُنصُريّةِ والنُّفُورِ مِن لِسانِ العَرَبيّةِ -النَّاجِمةِ مِن ضَعفِ الإيمانِ- ما هو إلَّا دَفعٌ للنَّاسِ إلى تَرْكِ الدِّينِ والخُرُوجِ مِنه.

[الإشارة الثانية: تفنيد دعوى الحاجة إلى ثورة دينية كما في أوروبا]

الإشَارة الثَّانية

إنَّ أَهلَ البِدعةِ الَّذين يُغَيِّرُون الشَّعائِرَ الإسلاميّةَ، طَلَبُوا أَوَّلًا فَتوَى مِن عُلَماءِ السُّوءِ لِتَسوِيغِ عَمَلِهم، فدَلُّوهم على الفَتوَى السّابِقةِ الَّتي بَيَّنّا أنَّها فَتوَى خاصّةٌ بخَمسةِ وُجُوهٍ.

ثَانيًا: إنَّ أَهلَ البِدعةِ قدِ استَوْحَوا فِكْرًا مَشؤُومًا مِنَ الِانقِلابيِّين الأَجانِبِ، وهو أنَّ أَورُوبّا لم يُعجِبْها مَذهَبُ الكاثُوليك، فالْتَزَم الثُّوّارُ والِانقِلابِيُّون والفَلاسِفةُ قَبْلَ النّاسِ مَذهَبَ البُرُوتِستانتِيّةِ الَّذي كان يُعَدُّ مِنَ البِدَعِ والِاعتِزالِ حَسَبَ مَذهَبِ الكاثُوليكِيّة، وقدِ استَفادُوا مِنَ الثَّورةِ الفَرَنسِيّةِ، فهَدَمُوا قِسْمًا مِنَ الكاثُوليكِيّة، وأَعلَنُوا البُروتِستانتِيّة.

فأَدعِياءُ الحَمِيّةِ هنا في هذه البِلاد -وقدِ اعتادُوا التَّقلِيدَ الأَعمَى- يقُولُون: “لَمّا كان هذا الِانقِلابُ قد حَدَث في الدِّيانةِ النَّصرانيّةِ، وقد عُدَّ الِانقِلابِيُّون في بِدايةِ الأَمرِ مُرتَدِّين، ثمَّ قُبِلُوا أيضًا نَصارَى، فيُمكِنُ إذًا أن يَحدُثَ في الإسلامِ أيضًا انقِلابٌ دِينيٌّ كهذا”.

الجَوابُ: إنَّ الفَرْقَ في هذا القِياسِ أَظهَرُ مِمّا في الإشارةِ الأُولَى، لأنَّ الأُسُسَ الدِّينيّةَ في النَّصرانيّةِ قد أُخِذَت وَحدَها عن سَيِّدِنا عِيسَى عَليهِ السَّلام؛ بَينَما أَكثَرُ الأَحكامِ الَّتي تَعُودُ إلى الحَياةِ الِاجتِماعيّةِ والفُرُوعِ الشَّرعِيّةِ قد وُضِعَت مِن قِبَلِ الحَوارِيِّين، وبَقِيّةِ الرُّؤَساءِ الرُّوحانيِّين، وأُخِذَ القِسمُ الأَعظَمُ مِنها مِنَ الكُتُبِ المُقدَّسةِ السَّابِقةِ، لأنَّ سَيِّدَنا عِيسَى عَليهِ السَّلام، لم يَتَولَّ الحُكْمَ والسُّلطةَ، ولم يكُن مَرجِعًا للقَوانينِ الِاجتِماعيّةِ العامّةِ، فلِذلك أُخِذَتِ القَوانِينُ العُرفيّةُ والدَّساتِيرُ المَدَنيّةُ باسمِ الشَّرِيعةِ النَّصرانيّةِ، وكأنَّ أُسُسَ دِينِه قد أُلبِسَت ثِيابًا مِنَ الخارِجِ، وأُعطِيَت لها صُورةٌ أُخرَى؛ فلو بُدِّلَت هذه الصُّورةُ وغُيِّرَت تلك الثِّيابُ فإنَّ أُسُسَ دِينِه لا تَتَبدَّلُ، ولا يُؤَدِّي هذا الأَمرُ إلى تَكذِيبِه وإنكارِه.

بَينَما سَيِّدُنا الرَّسُولُ ﷺ الَّذي هو صاحِبُ الدِّينِ والشَّرِيعةِ الإسلاميّةِ هو فَخرُ العالَمِ وسَيِّدُ العالَمِين، وأَصبَحَ كُلٌّ مِنَ الشَّرقِ والغَربِ والأَندَلُسِ والهِندِ عَرْشًا مِن عُرُوشِ سُلطانِه، فكما أنَّه ﷺ قد بَيَّنَ بذاتِه أُسُسَ الإسلامِ، فإنَّ فُرُوعَ ذلك الدِّينِ ودَساتِيرَ أَحكامِه، بل حتَّى أَصغَرَ أَمرٍ جُزئيٍّ مِن آدابِه هو الَّذي أَتَى به، وهو الَّذي يُخبِرُ عنه، وهو الَّذي يَأْمُرُ به، بمَعنَى أنَّ الأُمُورَ الفَرعِيّةَ في الشَّرِيعةِ الإسلامِيّةِ لَيسَت على صُورةِ لِباسٍ وثِيابٍ قابِلةٍ للتَّغيِيرِ والتَّبدِيلِ، بحَيثُ لو بُدِّلَت لَظَلَّت أُسُسُ الدِّينِ ثابِتةً، بل إنَّها جَسَدُ تلك الأُسُسِ وفي الأَقَلِّ جِلدُها، إذ قدِ امتَزَجَت والْتَحَمَت معَها بحيثُ لا تَقبَلُ التَّفرِيقَ والفَصْلَ، وأنَّ تَبدِيلَها مُباشَرةً يُؤَدِّي إلى تَكذِيبِ صاحِبِ الشَّرِيعةِ وإنكارِه.

أمَّا اختِلافُ المَذاهِبِ فقد نَشَأَ مِن أُسلُوبِ فَهْمِ الدَّساتيرِ النَّظَرِيّةِ الَّتي بَيَّنَها صاحِبُ الشَّرِيعةِ، والدَّساتيرِ الَّتي هي “المُحْكَماتُ” والَّتي تُسَمَّى بالضَّرُورِيّاتِ الدِّينِيّةِ، فلا تَقبَلُ التَّأْوِيلَ، ولا التَّبدِيلَ قَطْعًا بأَيِّ صُورةٍ كانَت مِنَ الصُّوَرِ، ولن تكُونَ مَوضِعَ اجتِهادٍ أَبَدًا؛ فمَن بَدَّلَها فقد خَرَج مِنَ الدِّينِ وكان ضِمنَ القاعِدةِ: “يَمرُقُون مِنَ الدِّينِ كما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ القَوسِ”.‌

[تفنيد دعوى الخروج على الدين لإحراز التقدم]

إنَّ أَهلَ البِدَعِ لِأَجلِ تَبْرِيرِ إلحادِهم وخُرُوجِهم على الدِّينِ، يَجِدُون هذه الوَسِيلةَ، إذ يقُولُون: “لقد شُنَّ هُجُومٌ على القَساوِسةِ والرُّؤَساءِ الرُّوحانيِّين ومَذهَبِ الكاثُوليكِيّةِ الَّذي هو مَذهَبُهمُ الخاصُّ، وتَمَّ تَخرِيبُ هذا المَذهَبِ في أَحداثِ الثَّورةِ الفَرَنسِيّةِ الَّتي أَدَّت إلى سِلسِلةٍ مِن حَوادِثَ في عالَمِ الإنسانيّةِ، ثمَّ استُصْوِبَ هُجُومُهم هذا مِن قِبَلِ الكَثِيرِين، وتَرَقَّى الإفرَنجُ بعدَ ذلك كَثِيرًا!”.

الجَوابُ: إنَّ الفَرْقَ في هذا القِياسِ -كسابِقِه- فَرقٌ ظاهِرٌ جِدًّا، لأنَّ النَّصرانيّةَ -ولا سِيَّما مَذهَبُ الكاثُوليكِ- قدِ استَغَلَّه رِجالاتُ الدَّولةِ وخَواصُّ النَّاسِ كأَداةٍ للتَّحَكُّمِ والِاستِبدادِ؛ فكان الخَواصُّ يُدِيمُون نُفُوذَهم على العَوامِّ بتلك الوَساطةِ، حتَّى أَصبَحَت وَسِيلةً لِسَحْقِ أَصحابِ الهِمَمِ والحَمِيّةِ مِنَ العَوامِّ الَّذين كانُوا يُطلَقُ علَيهِمُ اسمُ: (الفَوضَوِيِّين والدَّهْماءِ)، وباتَت وَسِيلةً لِسَحْقِ المُفَكِّرِين مِن دُعاةِ الحُرِّيّةِ الَّذين كانُوا يَتَصدَّون لِاستِبدادِ الخَواصِّ ومَظالِمِهم، بل قد عُدَّ ذلك المَذهَبُ هو السَّبَبَ في سَلْبِ راحةِ النّاسِ وبَثِّ الفَوْضَى في الحَياةِ الِاجتِماعيّةِ، بسَبَبِ الثَّوراتِ الَّتي حَدَثَت في بِلادِ الإفرَنجِ طَوالَ ما يُقارِبُ أَربَعَ مِئةِ سَنةٍ؛ لِذا هُوجِمَ ذلك المَذهَبُ باسمِ مَذهَبٍ آخَرَ للنَّصرانيّةِ لا باسمِ الإلحادِ، ونَما السَّخَطُ والعَداءُ علَيه لَدَى طَبَقةِ العَوامِّ ولَدَى الفَلاسِفةِ، حتَّى وَقَعَت تلك الحادِثةُ التّارِيخِيّةُ المَعرُوفةُ.

بَينَما في الإسلامِ لا يَحِقُّ لِأَيِّ مَظلُومٍ كان، ولا لِأَيِّ مُفَكِّرٍ كان أن يَشكُوَ مِنَ الدِّينِ المُحَمَّدِيِّ (على صاحِبِه الصَّلاةُ والسَّلامُ) والشَّرِيعةِ الإسلاميّةِ، لأنَّ هذا الدِّينَ لا يُسخِطُهُم بل يَحمِيهم، وهذا تارِيخُ الإسلامِ بينَ أَيدِينا، فلم تَحدُثْ صِراعاتٌ دِينيّةٌ طَوالَ التَّارِيخِ سِوَى حادِثةٍ أو حادِثتَينِ، بَينَما سَبَّب المَذهَبُ الكاثُوليكِيُّ ثَوْراتٍ داخِلِيّةً دامَت أربعَ مِئةِ سَنةٍ.

ثمَّ إنَّ الإسلامَ قد أَصبَحَ حِصْنًا حَصِينًا للعَوامِّ أَكثَرَ مِنه للخَواصِّ، إذ لا يَجعَلُ الخَواصَّ مُستَبِدِّين على العَوامِّ، بل يَجعَلُهم خادِمِين لهم مِن جِهةٍ، وذلك بوُجُوبِ الزَّكاةِ وتَحرِيمِ الرِّبا، إذ يقُولُ: “خَيرُ النَّاسِ أَنفَعُهم للنَّاسِ”.. “سَيِّدُ القَومِ خادِمُهم”.‌

فَضْلًا عن أنَّه يَستَشهِدُ العَقلَ ويُنَبِّهُه بإحالةِ كَثِيرٍ مِنَ الأُمُورِ في القُرآنِ الكَرِيمِ إلى العَقلِ، ويَحُثُّه على التَّدَبُّرِ والمُلاحَظةِ، بقَولِه تَعالَى: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ… أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ… لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ..﴾، فيَمنَحُ لِأَهلِ العِلمِ وأَربابِ الفِكرِ والعَقل بهذا مَقامًا رَفِيعًا باسمِ الدِّينِ ويُولِيهم أَهَمِّيّةً خاصّةً، فلا يَعزِلُ العَقلَ، ولا يَحجُرُ على عُقُولِ أَهلِ الفِكرِ ويُكَمِّمُ أَفواهَهم، ولا يَطلُبُ التَّقلِيدَ الأَعمَى، كما هو في المَذهَبِ الكاثُوليكِيِّ.

إنَّ أساسَ النَّصرانيّةِ الحاضِرةِ -لا النَّصرانيّةِ الحَقّةِ- وأَساسَ الإسلامِ يَفتَرِقانِ في نُقطةٍ مُهِمّةٍ، لِذا يَسلُكُ كلٌّ مِنهُما طَرِيقًا مُغايِرةً لِطَرِيقِ الآخَرِ في كَثيرٍ مِنَ الجِهاتِ أَمثالَ نِقاطِ الِاختِلافِ السَّابِقةِ؛ وتلك النُّقطةُ المُهِمّةُ هي:

إنَّ الإسلامَ دِينُ التَّوحِيدِ الخالِصِ، يُسقِطُ الوَسائِطَ والأَسبابَ عنِ التَّأثيرِ، ويُهَوِّنُ مِن شَأْنِ أَنانِيّةِ الإنسانِ، مُؤَسِّسًا العُبُودِيّةَ الخَالِصةَ للهِ وَحدَه، فيَقطَعُ دابِرَ كلِّ نَوعٍ مِن أَنواعِ الرُّبُوبيّاتِ الباطِلةِ، ويَرفُضُها رَفْضًا باتًّا، بَدْءًا مِن رُبُوبيّةِ النَّفسِ الأَمَّارةِ؛ لِذا لو أَصبَحَ أَحَدُ الخَواصِّ مُتَّقِيًا، لَاضطَرَّ إلى تَركِ الأَنانيّةِ والغُرُورِ؛ ومَن لم يَتْرُكِ الأَنانيّةَ والغُرُورَ يَتَراخَ في التَّدَيُّنِ، بل يَدَعْ قِسمًا مِن أُمُورِ الدِّينِ.

أمَّا في النَّصرانيّةِ الحاضِرةِ، فلَقدِ ارْتَضَت عَقِيدةَ البُنُوَّةِ، لِذا تُعطِي للوَسائِطِ والأَسبابِ تَأْثيرًا حَقِيقيًّا، ولا تُقاوِمُ الأَنانيَّةَ باسمِ الدِّينِ، بل تَمنَحُ أَنانيَّةَ الأَشخاصِ نَوْعًا مِنَ القَداسةِ، وكأنَّه وَكِيلٌ مُقَدَّسٌ عن سَيِّدِنا عِيسَى عَليهِ السَّلام؛ ولِأَجل هذا فإنَّ خَواصَّ النَّصارَى الَّذين يَشغَلُون أَرفَعَ المَقاماتِ الدُّنيَوِيَّةِ يَستَطِيعُون أن يكُونُوا مُتَديِّنين تَدَيُّنًا كامِلًا، ومِنهُمُ الكَثِيرُون مِن أَمثالِ: (وِلْسُن) وهو الرَّئيسُ الأَسبَقُ لِأَمرِيكا، و(لُويد جُورج) رَئيسِ الوُزَراءِ الأَسبَقِ لإنكِلترا. فهَؤُلاء أَصبَحُوا مُتَديِّنين كأيِّ قَسٍّ مُتَعصِّبٍ لِدِينِه.

بَينَما في المُسلِمين نادِرًا ما يَظَلُّ الَّذين يَلِجُون مِثلَ هذه المَقاماتِ على صَلابَتِهم الدِّينِيّةِ، وقَلَّما يكُونُون مِن أَهلِ التَّقوَى والصَّلاحِ، لِعَدَمِ تَركِهِمُ الأَنانيّةَ والغُرُورَ، والتَّقوَى الحَقِيقيّةُ لا تَجتَمِعُ والأَنانيّةَ والغُرُورَ.

نعم، كما أنَّ تَعَصُّبَ خَواصِّ النَّصارَى بدِينِهم، وتَهاوُنَ خَواصِّ المُسلِمين بدِينِهم، يُبيِّنُ فَرْقًا مُهِمًّا؛ كذلك اتِّخاذُ الفَلاسِفةِ الَّذين بَرَزُوا في النَّصرانيّةِ طَوْرَ المُعارِض أوِ الإهمالِ لِدِينِهم، وبِناءُ أَغلَبِ الحُكَماءِ الَّذين ظَهَرُوا في الإسلامِ حِكمَتَهم على أُسُسِ الدِّينِ، يَدُلُّ على فَرقٍ مُهِمٍّ أَيضًا.

ثمَّ إنَّ النَّصارَى العَوامَّ الَّذين عانَوُا البَلايا والمَصائِبَ، وقَضَوا شَطْرًا مِن حَياتِهم في السُّجُونِ، لم يَنتَظِرُوا العَوْنَ مِنَ الدِّينِ ولم يَرجُوا مِنه شَيئًا. فكان أَكثَرُهم في السّابِقِ يَضِلُّون ويُلحِدُون؛ حتَّى إنَّ الثُّوَّارَ الَّذين أَوقَدُوا الثَّورةَ الفَرَنسِيّةَ والَّذين يُطلَقُ علَيهِمُ (الدَّهْماءُ والفَوضَوِيُّون) المَشهُورُون في التَّارِيخِ هم مِن أُولَئِك العَوامِّ المَنكُوبين.

أمَّا في الإسلامِ: فإنَّ الأَكثَرِيَّةَ المُطلَقةَ مِمَّن أَفنَوْا عُمُرًا في السُّجُونِ، وقاسَوُا البَلايا والمَصائِبَ يَنتَظِرُون العَوْنَ والمَدَدَ مِنَ الدِّينِ، بل يُصبِحُون مُتَديِّنِين.

وهذه الحالةُ تَدُلُّ على فَرْقٍ آخَرَ مُهِمٍّ أيضًا.

[الإشارة الثالثة: تفنيد دعوى أن أوروبا تقدمت بعد تركها التعصب الديني]

الإشَارة الثَّالثة

يقُولُ أَهلُ البِدَعِ: لقد أَخَّرَنا هذا التَّعَصُّبُ الدِّينيُّ عن رَكْبِ الحَضارةِ، وإنَّ مُواكَبةَ العَصرِ بِتَركِ التَّعَصُّبِ، ولقد تَقَدَّمَت أَورُوبَّا بعدَ تَركِها التَّعَصُّبَ.

الجَوابُ: إنَّـكم مُخطِئُون، وقدِ انخَدَعتُم، وغُرِّر بكم، أو تُغَرِّرُون بالنّاسِ وتَخدَعُونَهم.

إنَّ أَورُوبَّا مُتَعصِّبةٌ بدِينِها، فلو قُلتَ لِشَخصٍ بُلغارِيٍّ اعتِيادِيٍّ أو لِجُندِيٍّ إنكلِيزيٍّ، أو لِشَخصٍ سَفِيهٍ فَرَنسِيٍّ: اِلْبَسِ العِمامةَ، أو تُلقَى في السِّجنِ. لَقالَ لك بمُقتَضَى تَعَصُّبِه: إنَّني لا أُهِينُ دِيني، ولا أُحَقِّرُ أُمَّتي بمِثلِ هذه الإهانةِ والتَّحقِيرِ حتَّى لو قَتَلتُمُوني.

ثمَّ إنَّ التَّارِيخَ شاهِدٌ على أنَّ المُسلِمين ما تَمَسَّكُوا بدِينِهم إلّا وتَرَقَّوْا بالنِّسبةِ لِذَلك الزَّمانِ، وما أَهمَلُوا الدِّينَ إلّا تَدَنَّوا؛ بَينَما النَّصرانيَّةُ خِلافُ هذا. وهذا أيضًا ناشِئٌ مِن فَرقٍ أَساسِيٍّ بَينَهما.

ثمَّ إنَّ الإسلامَ لا يُقاسُ بغَيرِه مِنَ الأَديانِ، لأنَّ المُسلِمَ إذا انخَلَع عنِ الإسلامِ فلا يُؤمِنُ بَعدُ بأَيِّ نَبِيٍّ آخَرَ، بل لا يُقِرُّ بوُجُودِه تَعالَى، بل لا يَعتَقِدُ بشَيءٍ مُقَدَّسٍ أَصلًا، ولا يَجِدُ في وِجدانِه مَوضِعًا لِيَكُونَ مَبعَثَ الفَضائِلِ، إذ يَتَفسَّخُ وِجدانُه كُلِّيًّا؛ ولِأَجلِ هذا فالمُرتَدُّ عنِ الإسلامِ ليس له حَقُّ الحَياةِ لِتَفَسُّخِ وِجدانِه، ولِأَنَّه يكُونُ كالسُّمِّ القاتِلِ للمُجتَمَعِ، بَينَما الكافِرُ المُحارِبُ -في نَظَرِ الإسلامِ- له حَقُّ الحَياةِ، فإن كان في الخارِجِ وعاهَدَ أو في الدَّاخِلِ وأَعطَى الجِزيةَ، فإنَّ حَياتَه مُصانةٌ في الإسلامِ.

أمَّا المُلحِدُ مِنَ النَّصارَى فيَستَطِيعُ أن يَظَلَّ نافِعًا للمُجتَمَعِ، إذ يَقبَلُ بعضَ المُقدَّساتِ ويُؤمِنُ ببَعضِ الأَنبِياءِ، ويكُونُ مُؤمِنًا باللهِ مِن جِهةٍ.

فأيُّ مَصلَحةٍ يا تُرَى يَجنِيها أَهلُ البِدعةِ هؤلاء -بلِ الأَصوَبُ أَهلُ الإلحادِ- في الخُرُوجِ على الدِّينِ؟ فإن كانُوا يَرُومُون مِنه أَمْنَ البِلادِ واستِتْبابَ النِّظامِ فيها، فإنَّ إدارةَ عَشَرةٍ مِنَ المُلحِدِين السَّفَلةِ الَّذين لا يُؤمِنُون باللهِ، ودَفْعَ شُرُورِهم أَصعَبُ بكَثِيرٍ مِن إدارةِ أَلفٍ مِنَ المُؤمِنين؛ وإن كانُوا يَرغَبُون في الرُّقِيِّ الحَضارِيِّ، فإنَّ أَمثالَ هؤلاء المُلحِدِين مِثلَما يَضُرُّون بإدارةِ الدَّولةِ فهم يُعِيقُون التَّقَدُّمَ أَيضًا، إذ يُخِلُّون بالأَمنِ والنِّظامِ، وهما أَساسا الرُّقيِّ والتِّجارةِ. وفي الحَقِيقةِ هم مُخَرِّبُون بمُقتَضَى مَسلَكِهم، وإنَّ أَحمَقَ الحَمقَى في الدُّنيا هو مَن يَنتَظِرُ مِن أَمثالِ هَؤُلاء المُلحِدِين السُّفَهاءِ الرُّقِيَّ وسَعادةَ الحَياةِ.

ولقد قال أَحَدُ هَؤُلاء الحَمقَى، وهو يَشغَلُ مَنصِبًا مُهِمًّا: “إنَّنا تَأَخَّرْنا لِقَولِنا: الله.. الله.. بَينَما أَورُوبّا تَقَدَّمَت لِقَولِها: المَدْفَعُ.. البُندُقِيّةُ.!”.

إنَّ جَوابَ أَمثالِ هَؤُلاء: السُّكُوتُ حَسَبَ قاعِدةِ: “جَوابُ الأَحمَقِ السُّكُوتُ”، ولَكِنَّنا نقُولُ قَوْلًا لِأُولَئِك العُقَلاءِ الشُّقاةِ الَّذين يَتَّبِعُون أَمثالَ هَؤُلاءِ الحَمقَى:

أيُّها البائِسُون.. هذه الدُّنيا إنَّما هي دارُ ضِيافةٍ، وإنَّ المَوتَ حَقٌّ، إذ يَشهَدُ على ذلك ثلاثُونَ أَلفَ شاهِدٍ بجَنائِزِهم يَومِيًّا؛ أَتَقدِرُون على قَتْلِ المَوتِ؟ أَيُمكِنُكم تَكذِيبُ هَؤُلاء الشُّهُودِ؟ فما دُمتُم عاجِزِين عن ذلك فاعلَمُوا أنَّ المَوتَ يَدفَعُكم إلى قَولِ: “الله.. الله..”، فأيٌّ مِن مَدافِعِكم وبَنادِقِكم تَتَمكَّنُ مِن أن تُبَدِّدَ الظُّلُماتِ الأَبَدِيّةَ للمُحتَضَرِ الَّذي يُعاني السَّكَراتِ ويُنَوِّرَ عالَمَه بَدَلًا عن ذِكرِ “الله.. الله”؟! وأَيُّ مِنها يَستَطِيعُ أن يُبَدِّلَ يَأْسَه القاتِمَ إلى أَمَلٍ مُشرِقٍ غيرَ ذِكرِ “الله.. الله”؟!

فما دامَ المَوتُ مَوجُودًا، وأنَّ المَصِيرَ إلى القَبْرِ حَتْمًا، وأنَّ هذه الحَياةَ ماضِيةٌ راحِلةٌ، وستَأْتي حَياةٌ باقِيةٌ خالِدةٌ، فإن قِيلَ: “المَدفَعُ.. البُندُقيّةُ” مَرّةً واحِدةً، فلا بُدَّ مِنَ القَولِ أَلفَ مَرّةٍ: “الله.. الله”، بلِ البُندُقيّةُ نَفسُها ستَقُولُ: “الله.. الله” إن كانَت في سَبِيلِ اللهِ! وسيَصرُخُ المَدفَعُ نَفسُه بـ:”اللهُ أَكبَرُ” عندَ الإفطارِ وعندَ الإمساكِ!.

[الإشارة الرابعة: الإسلام لا يتقوى بالدعوات القومية العنصرية]

الإشَارة الرَّابِعة

إنَّ أَهلَ البِدَعِ الهَدَّامِين على قِسمَينِ:

قِسمٌ مِنهم يُظهِرُون وَلاءً للدِّينِ، ويقُولُون: “إنَّنا نُرِيدُ تَقوِيةَ الدِّين الَّذي ضَعُفَ بغَرْسِ شَجَرَتِه النُّورانيّةِ في تُرابِ القَومِيّةِ”، فيُرِيدُون أن يُقَوُّوا الدِّينَ بالقَومِيّةِ. وكأَنَّهم بهذا يَخدُمُون الإسلامَ.

القِسمُ الثَّاني: مِمَّن يُحدِثُون البِدَعَ، فيَقُولُون: إنَّنا نُرِيدُ تَطعِيمَ الأُمّةِ بلِقاحاتِ الإسلامِ، فيَعمَلُون باسمِ الأُمّةِ، وفي سَبِيلِ القَومِيّةِ، لِأَجلِ تَقوِيةِ العُنصُرِيّةِ!

نقُولُ للقِسمِ الأَوَّلِ: يا عُلَماءَ السُّوءِ البائِسِين الَّذين يَصدُقُ علَيهِم اسمُ “الصَّادِقُ الأَحمَقُ”.. ويا أَيُّها الصُّوفيُّون الجُهَلاءُ المَجذُوبُون الفاقِدُون للعَقلِ:

إنَّ شَجَرةَ طُوبَى الإسلامِ قد تَرَسَّخَت عُرُوقُها في صُلبِ الكَونِ وحَقيقَتِه، وبَثَّت جُذُورَها في ثَنايا حَقائِقِ الكَونِ كُلِّه، فهذه الشَّجَرةُ العَظِيمةُ لا يُمكِنُ غَرْسُها في تُرابِ العُنصُرِيّةِ المَوهُومةِ المُؤَقَّتةِ الجُزئيّةِ الخُصُوصِيّةِ السَّلبِيّةِ، بلِ الَّتي لا أَساسَ لها أَصْلًا وهي المَشحُونةُ بالأَغراضِ الظَّالِمةِ المُظلِمةِ؛ وإنَّ السَّعْيَ لِغَرسِها هناك مُحاوَلةٌ بِدْعِيّةٌ هَدّامةٌ رَعْناءُ.

ونقُولُ للقَومِيِّين -وهمُ القِسمُ الثّاني مِن أَهلِ البِدَعِ -: يا أَدعِياءَ القَومِيّةِ السُّكارَى..

إنَّ العَصرَ السَّابِقَ رُبَّما كان يُعَدُّ عَصرَ القَوميّةِ، أمّا هذا العَصرُ فلَيس بعَصرِ القَوميّةِ، إذ إنَّ مَسائِلَ البَلْشَفِيّةِ والِاشتِراكِيّةِ تَستَحوِذُ على الأَفكارِ، وتُحَطِّمُ مَفهُومَ العُنصُرِيّةِ، فلقد وَلَّى عَصرُ العُنصُرِيّةِ.

واعلَمُوا أنَّ مِلِّيّةَ الإسلامِ الدَّائِمةَ الأَبَدِيَّةَ لا تَرتَبِطُ معَ العُنصُرِيّةِ المُؤَقَّتةِ المُضطَرِبةِ، ولا تُلَقَّحُ بلِقاحاتِها؛ وحتَّى لو حَدَث هذا التَّطعِيمُ بلِقاحاتِ العُنصُرِيّةِ فإنَّها تُفسِدُ أُمَّةَ الإسلامِ، ولا تُصلِحُ مِلِّيّةَ العُنصُرِيّةِ أَيضًا، ولا تَبعَثُها أَصْلًا.

نعم إنَّ في التَّطعِيمِ بلِقاحاتِ العُنصُرِيّةِ ذَوْقًا مُؤَقَّتًا وقُوَّةً مُؤَقَّتةً، بل مُؤَقَّتةً جِدًّا، وذاتَ عاقِبةٍ وَخِيمةٍ. ثمَّ -بهذا الأَمرِ- سيَتَولَّدُ انشِقاقٌ عَظِيمٌ في أُمّةِ التُّركِ، انشِقاقٌ أَبَدِيٌّ غيرُ قابِلٍ للِالتِئامِ، وحِينَئذٍ تَتَلاشَى قُوَّةُ الأُمَّةِ وتَذهَبُ هَباءً، إذ كُلُّ شِقٍّ يُحاوِلُ هَدْمَ الشِّقِّ الآخَرِ؛ فكما إن وُجِدَ جَبَلانِ في كِفَّتَي مِيزانٍ، فإنَّ قُوّةً ضَئِيلةً جِدًّا تُؤَدِّي دَوْرًا مُهِمًّا بينَ تلك القُوَّتَينِ، إذ تَقدِرُ أن تُنزِلَ إحداها إلى الأَسفَلِ وتَرفَعَ الأُخرَى إلى الأَعلَى.

السُّؤالُ الثَّاني: عِبارةٌ عن إِشارَتَينِ:

[الإشارة الخامسة: سر مسألة المهدي]

الإِشارةُ الأُولَى: وهِي الإِشارةُ الخامِسةُ‌

وهِي جَوابٌ مُختَصَرٌ جِدًّا لِسُؤالٍ مُهِمٍّ:

السُّؤالُ: هُناك رِواياتٌ صَحِيحةٌ عَدِيدةٌ حَولَ ظُهُورِ “المَهدِيِّ”، وإِصلاحِه لِهذا العالَمِ بَعدَ فَسادِه في آخِرِ الزَّمانِ، إلَّا أنَّنا نَعلَمُ أنَّ هذا العَصرَ هو عَصرُ الجَماعةِ، لا الفَردِ، لِأنَّ الفَردَ مَهْما أُوتِيَ مِن دَهاءٍ -بل حتَّى لو كانَ في قُوّةِ مِئةِ داهِيةٍ- ولم يكُن مُمَثِّلًا لِجَماعةٍ عَظِيمةٍ، ولم يكُن مُعَبِّرًا عنِ الشَّخصِيّةِ المَعنَوِيّةِ لها، فإنَّه مَغلُوبٌ أَمامَ قُوّةِ الشَّخصِيّةِ المَعنَوِيّةِ لِلجَماعةِ المُناوِئةِ له؛ فكَيفَ إِذًا يُمكِنُ “لِلمَهدِيِّ” -مَهْما بَلَغ مِن قُوَّةِ الوِلايةِ- أن يقُومَ بالإِصلاحِ في هذا الزَّمانِ الَّذي استَشرَى فيه الفَسادُ وعَمَّ المُجتَمَعاتِ البَشَرِيّةَ، وإن كانَت أَعمالُه كلُّها خارِقةً لِلعادةِ لَخالَفَت إِذًا الحِكْمةَ الإِلٰهِيّةَ الجَارِيةَ في الكَوِن وسُنَنَه المُطَّرِدةَ فيه.. والخُلاصةُ: نُرِيدُ أن نَفهَمَ سِرَّ مَسأَلةِ “المَهدِيّ”.

الجَوابُ: إنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى، مِن كَمالِ رَحمَتِه، ودَلِيلِ حِمايَتِه لِلشَّرِيعةِ الإِسلامِيّةِ واستِمرارِيَّتِها وخُلُودِها، قد أَرسَلَ في كلِّ مُدّةٍ مِن أَزمِنةِ فَسادِ الأُمّةِ مُصلِحًا، أو مُجَدِّدًا، أو خَلِيفةً عَظِيمًا، أو قُطْبًا أَعظَمَ، أو مُرشِدًا كامِلًا مِنَ الأَشخاصِ العِظامِ الأَفذاذِ مِمَّن يُشبِهُونَ “المَهدِيَّ”، فأَزالَ الفَسادَ، وأَصلَحَ الأُمّةَ وحافَظَ على الدِّينِ.

وما دامَت سُنّةُ اللهِ قد جَرَت هكذا، فمِمَّا لا شَكَّ فيه أنَّه سُبحانَه وتَعالَى سيَبعَثُ في أَشَدِّ أَوقاتِ الفَسادِ، في آخِرِ الزَّمانِ، مَن هو أَعظَمُ مُجتَهِدٍ وأَعظَمُ مُجَدِّدٍ، وأَعظَمُ قُطبٍ، ويكُونُ في الوَقتِ نَفسِه حاكِمًا ومَهدِيًّا ومُرشِدًا، وسيكُونُ مِن أَهلِ البَيتِ النَّبوِيِّ.

وأنَّ القَدِيرَ الَّذي يَملَأُ ما بَينَ السَّماءِ والأَرضِ بالسُّحُبِ، ثمَّ يُفرِغُها في دَقِيقةٍ واحِدةٍ لَقادِرٌ على تَهدِئةِ عَواصِفِ البَحرِ الجامِحةِ في طَرْفةِ عَينٍ؛ وأنَّ القَدِيرَ ذا الجَلالِ الَّذي يُوجِدُ في ساعةٍ مِن أَيَّامِ الرَّبِيعِ نَمُوذجَ فَصلِ الصَّيفِ، ويُوجِدُ في ساعةٍ مِن أَيّامِ الصَّيفِ زَوْبَعةً مِن زَوابِعِ الشِّتاءِ، لَقادِرٌ على تَبدِيدِ الظُّلُماتِ المُتَراكِمةِ في سَماءِ العالَمِ الإِسلامِيِّ والمَخاطِرِ المُحدِقةِ به على يَدَيِ “المَهدِيِّ”، وقد وَعَدَنا بذلك، وهُو مُنجِزٌ وَعدَه لا مَحالةَ.

وهكذا، إذا ما نَظَرْنا إلى هذه المَسأَلةِ مِن زاوِيةِ دائِرةِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ فهِي في مُنتَهَى السُّهُولةِ، وإذا ما نَظَرْنا إلَيْها وتَأَمَّلْنا فيها مِن زاوِيةِ دائِرةِ الأَسبابِ والحِكْمةِ الرَّبَّانيَّةِ فهِي أَيضًا في غايةِ السُّهُولةِ، بل هي أَقرَبُ وأَوْلَى شَيءٍ لِلحُدُوثِ، حتَّى قَرَّرَ أَربابُ الفِكرِ والنَّظَرِ أنَّ الحِكْمةَ الرَّبَّانيّةَ تَقتَضِي هذا، وسيكُونُ حَتْمًا، حتَّى وإن لم تُوجَد رِوايةٌ عنِ المُخبِرِ الصَّادِقِ ﷺ في شَأْنِه، أي: إنَّ مَجِيئَه أَمرٌ لازِمٌ وضَرُورِيٌّ، ذلك لِأنَّ دُعاءَ: “اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيتَ عَلَى إبرَاهِيمَ وعَلَى آلِ إبرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ” الَّذي تُكرِّرُه الأُمَّةُ في صَلَواتِها جَمِيعِها، كلَّ يومٍ خَمسَ مَرَّاتٍ في الأَقَلِّ، وقد ثَبَت قَبُولُه بالمُشاهَدةِ، إذ أصبَحَ آلُ مُحمَّدٍ ﷺ كآلِ إِبراهِيمَ عَليهِ السَّلام يَتَبوَّؤُونَ مَركَزَ الصَّدارةِ والزَّعامةِ دَوْمًا، وفي مُقدِّمةِ جَمِيعِ السُّلالاتِ المُبارَكةِ في مُختَلِفِ الأَعصارِ والأَقطارِ5حتَّى إنَّ أَحَد أُولَئِك السَّادةِ (مِن آلِ البَيتِ) هو السَّيِّدُ أَحمَدُ السَّنُوسِيُّ، يقُودُ مَلايِينَ المُرِيدِينَ، ومِنهُمُ السَّيِّدُ إِدرِيسُ يقُود أَزيَدَ مِن مِئةِ أَلفٍ مِن المُسلمِينَ، والسَّيِّدُ يَحيَى أَميرٌ على مِئاتِ الأُلوفِ مِنَ الأَشخاصِ.. وهكذا نَرَى الكَثِيرِينَ مِن أَفرادِ قَبِيلةِ السَّادةِ (مِن أَهلِ البَيتِ) مِن أَمثالِ هؤلاء القادةِ الأَبطالِ المَيامِينِ كما هو ظاهِرٌ، فَضْلًا عمَّا وُجِدَ مِن قادةٍ معنويِّين القُوَّادِ كالسَّيِّدِ عبدِ القادِرِ الگيلانِيِّ والسَّيِّد أبي الحَسَنِ الشَّاذِليّ، والسَّيِّد أَحمَدَ البَدَوِيِّ وأَمثالِهِم.، وهَؤُلاءِ الأَبطالُ مِنَ الكَثْرةِ، بحَيثُ إنَّ مَجمُوعَهُم يُشَكِّلُ جَيْشًا عَظِيمًا جِدًّا. فإذا ما اتَّحَدَ هَؤُلاءِ السَّادةُ وتَعاضَدُوا فِعلِيًّا وتَسانَدُوا فيما بَينَهُم تَسانُدًا جادًّا، وكَوَّنُوا مِن أَنفُسِهِم فِرقةً مُوَحَّدةً بالفِعلِ، جاعِلِينَ الدِّينَ الإِسلامِيَّ الرَّابِطةَ المُقَدَّسةَ لِلأُمّةِ ومَدارَ صَحْوَتِها، فلا يُمكِنُ لِجَيشِ أيّةِ أُمّةٍ في العالَمِ أن يَصمُدَ أَمامَهُم.

فذلك الجَيشُ الضَّخْمُ العَرَمْرَمُ، ذُو القُوَّةِ والسَّطْوةِ هو آلُ مُحمَّدٍ ﷺ، وهو أَخَصُّ جَيشٍ مِن جُيُوشِ “المَهدِيِّ”.

نعم، إنَّه ليس في تارِيخِ العالَمِ اليَومَ نَسلٌ مِن أَنسالِ البَشَرِيّةِ وسُلالاتِها، له مِنَ القُوّةِ والأَهَمِّيّةِ، والَّذي امتازَ بأَعلَى مَراتِبِ الشَّرَفِ والحَسَبِ الرَّفيعِ والنَّسَبِ العَرِيقِ، واتَّصَل بمَنشَئِها بالشَّجَرةِ والمَسانيدِ والأَعرافِ، مِثلَ السَّادةِ الَّذِينَ حَظُوا بالِانتِسابِ إلى الدَّوْحةِ النَّبوِيّةِ السَّامِيةِ: آلِ البَيتِ.

لقد كانَ هؤُلاءِ السَّادةُ دَوْمًا، مُنذُ سالِفِ العُصُورِ، رُوَّادَ كلِّ فِرقةٍ مِن فِرَقِ أَهلِ الحَقِيقةِ، وزُعَماءَ أَهلِ الكَمالِ المَشاهِيرِ أيضًا؛ واليَومَ هُمُ النَّسلُ المُبارَكُ الطَّيِّبُ الَّذِينَ يَربُونَ على المَلايِينِ، وهُمُ المُتَيقِّظُونَ ذَوُو القُلُوبِ العامِرةِ والطَّافِحةِ بالحُبِّ النَّبوِيِّ، حَظُوا بالِانتِسابِ إلى الدَّوْحةِ الطَّاهِرةِ الزَّكِيّةِ، وتَتَهيَّأُ الحادِثاتُ العِظامُ الَّتي ستَدفَعُ إلى إِيقاظِ وإِثارةِ هذه القُوَّةِ المُقدَّسةِ الَّتي تَنطَوِي علَيْها نُفُوسُ هذه الجَماعةِ العَظِيمةِ.. فلا بُدَّ أن تَثُورَ تلك الحَمِيّةُ السَّامِيةُ الكامِنةُ لِتِلك القُوّةِ العَظِيمةِ، وسيَأخُذُ “المَهدِيُّ” زِمامَ القِيادةِ ويَقُودُها إلى طَرِيقِ الحَقِّ والحَقِيقةِ.

ونَحنُ نَنتَظِرُ مِن سُنَّتِه ومِن رَحْمَتِه تَعالَى -انتِظارَنا لِلرَّبِيعِ عَقِبَ هذا الشِّتاءِ- وُقُوعَ هذا الحَدَثِ العَظِيمِ، ونَحنُ مُحِقُّونَ في هذا الِانتِظارِ.

[الإشارة السادسة: جماعات مع المهدي]

الإشَارَة الثَّانِية: أي؛ الإشَارَة السَّادِسَة

إنَّ جَماعةَ السَّيِّدِ المَهدِيِّ النُّورانيّةَ ستُصلِحُ وتَعمُرُ ما أَفسَدَه نِظامُ السُّفيانِيِّ البِدعِيُّ الهَدَّامُ، وتُحيِي السُّنّةَ النَّبوِيّةَ؛ أي: أنَّ جَماعةَ السُّفيانِيِّ السَّاعِيةَ لِهَدْمِ الشَّرِيعةِ الأَحمَدِيّةِ -بنِيّةِ إِنكارِ الرِّسالةِ الأَحمَدِيّةِ في عالَمِ الإِسلامِ- ستُقتَلُ وتُبَدَّدُ بالسَّيفِ المَعنَوِيِّ المُعجِزِ لِجَماعةِ السَّيِّدِ المَهدِيِّ.

ثمَّ إنَّ جَماعةً نَصرانيّةً غَيُورةً فِدائيّةً، مِمَّن يَستَحِقُّونَ اسمَ “النَّصرانيُّونَ المُسلِمُونَ” تَسعَى هذه الجَماعةُ لِلجَمعِ والتَّوفِيقِ بَينَ الدِّينِ الحَقِيقيِّ لِسَيِّدِنا عِيسَى عَليهِ السَّلام وحَقائِقِ الإِسلامِ؛ وتَحتَ رِئاسةِ سَيِّدِنا عِيسَى عَليهِ السَّلام تقُومُ هذه الجَماعةُ بتَقوِيضِ نِظامِ الدَّجَّالِ وقَتلِ قِيادَتِه، تلك القِيادةِ الَّتي تُدَمِّرُ المَدَنيّةَ والمُقدَّساتِ البَشَرِيّةَ وتَجعَلُها هَباءً مَنثُورًا بنِيّةِ إِنكارِ الأُلُوهِيّةِ في عالَمِ الإِنسانيّةِ.. وبهذا تُنجِي تلك الجَماعةُ بقِيادةِ سَيِّدِنا عِيسَى عَليهِ السَّلام البَشَرِيّةَ مِن وَيلاتِ إِنكارِ الأُلُوهِيّةِ.

إنَّ هذا السِّرَّ طَوِيلٌ جِدًا، اكتَفَيتُ بهذه الإِشارةِ القَصِيرةِ، حَيثُ قد ذَكَرْنا فيه نُبَذًا في مَواضِعَ أُخرَى.

[الإشارة السابعة: لماذا غَيَّر سعيدٌ أسلوب جهاده؟]

الإشَارَة السَّابِعَة: أي: السُّؤَال الثَّالِث‌

يقُولُون: إنَّ دِفاعاتِك السَّابِقةَ، وأُسلُوبَ جِهادِك في سَبِيلِ الإسلامِ، ليس هو بما علَيه في الوَقتِ الحاضِرِ، ثمَّ إنَّك لا تَسلُكُ سُلُوكَ المُفَكِّرِين الَّذين يُدافِعُون عنِ الإسلامِ تِجاهَ أَورُوبّا. فلِماذا غَيَّرتَ طَوْرَ “سَعِيدٍ القَدِيمِ”؟ ولِمَ لا تُجاهِدُ بأُسلُوبِ المُجاهِدِين المَعنَوِيِّين العِظامِ؟

الجَوابُ: إنَّ “سَعِيدًا القَدِيمَ” والمُفَكِّرِين، قدِ ارتَضَوْا بقِسمٍ مِن دَساتِيرِ الفَلْسَفةِ البَشَرِيّةِ، أي: يَقبَلُون شَيئًا مِنها، ويُبارِزُونَهم بأَسلِحَتِهم، ويَعُدُّون قِسمًا مِن دَساتيرِها كأنَّها العُلُومُ الحَدِيثةُ فيُسَلِّمُون بها؛ ولِهذا لا يَتَمكَّنُون مِن إعطاءِ الصُّورةِ الحَقِيقيّةِ للإسلام على تلك الصُّورةِ مِنَ العَمَلِ، إذ يُطَعِّمُون شَجَرةَ الإسلامِ بأَغصانِ الحِكمةِ الَّتي يَظُنُّونَها عَمِيقةَ الجُذُورِ، وكأنَّهم بهذا يُقَوُّون الإسلامَ.

ولكن لَمَّا كان الظُّهُورُ على الأَعداءِ بهذا النَّمَطِ مِنَ العَمَلِ قَليلًا، ولأنَّ فيه شَيئًا مِنَ التَّهوِينِ لِشَأْنِ الإسلامِ، فقد تَرَكتُ ذلك المَسلَكَ، وأَظهَرتُ فِعلًا: أنَّ أُسُسَ الإسلامِ عَرِيقةٌ وغائِرةٌ إلى دَرَجةٍ لا تَبلُغُها أَبَدًا أَعمَقُ أُسُسِ الفَلسَفةِ، بل تَظَلُّ سَطحِيّةً تُجاهَها.

ولقد أَظهَرَتْ هذه الحَقِيقةَ ببَراهِينِها “الكَلِمةُ الثَّلاثُون” و”المَكتُوبُ الرّابعُ والعِشرُون” و”الكَلِمةُ التَّاسِعةُ والعِشرُون”.

ففي المَسلَكِ السَّابِقِ يُظَنُّ أنَّ الفَلسَفةَ عَمِيقةٌ، بَينَما الأَحكامُ الإسلاميّةُ ظاهِرِيّةٌ سَطْحِيّةٌ، لِذا يُتَشَبَّثُ بأَغصانِ الفَلسَفةِ للحِفاظِ على الإسلامِ.

ولكن هَيْهاتَ! أَنَّى لِدَساتيرِ الفَلسَفةِ بُلُوغُ تلك الأَحكامِ!

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾

﴿اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيتَ عَلَى سَيِّدِنَا إبرَاهِيمَ وعَلَى آلِ إبرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾

❀   ❀   ❀

[القسم الثامن: الرموزات الثمانية]

[لم تُنشر هنا]

❀   ❀   ❀

[القسم التاسع: رسالة التلويحات التسعة]

القِسمُ التَّاسِع‌

التَلوِيحَات التِّسعَة

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

هذا القِسم يَخصُّ طرُق الوِلاية، وهي تِسعَة تَلوِيحَات‌.

[تتحدث هذه الرسالة عن السير والسلوك إلى الله، وماهية الطرق الصوفية، وغايتها، وثمراتها، وما يعتريها من ورطات يجب الحذر منها]

[نظرًا لطول هذه الرسالة وأهميتها في الوقت نفسه فقد أشرنا هنا إلى أهم مضامينها وعناوينها الفرعية، وأفردناها بالنشر في مقالة مستقلة على الرابط التالي]

[رسالة التلويحات التسعة]

[التلويح الأول: حول التصوف والطريقة]

 

 

[التلويح الثاني: مفاتيح السير والسلوك]

 

 

[التلويح الثالث: الولاية حجةٌ للرسالة والطريقة برهانٌ للشريعة]

[التلويح الرابع: مصاعب طريق الولاية]

 

 

[التلويح الخامس: مسألة وحدة الوجود]

 

 

[التلويح السادس: اتباع السنة هو طريق الولاية الكبرى]

 

 

[التلويح السابع: الطريقة والحقيقة أجزاءٌ للشريعة]

 

 

[نكتة 1: أعلى درجات الطريقة والحقيقة أجزاءٌ من كلية الشريعة]

 

 

[نكتة 2: الطريقة والحقائق وسيلتان لا غايتان]

 

 

[نكتة 3: هل توجد طريقة خارج نطاق السنة؟]

 

 

[النكتة الرابعة: كيف تتقبل الأمة أشخاصًا من الفرق الضالة والمبتدعة؟]

 

 

[التلويح الثامن: ثماني ورطات قد يقع فيها سالك الطريقة]

 

 

[الورطة الأولى: توهم أرجحية الولاية على النبوة]

 

[الورطة الثانية: تفضيل الأولياء على الصحابة]

 

 

[الورطة الثالثة: ترجيح أوراد الطريقة على أذكار السنة]

 

 

[الورطة الرابعة: الظن بأن الإلهام كالوحي]

 

 

[الورطة الخامسة: التعلق بالكرامات والأذواق]

 

 

[الورطة السادسة: اختلاط المقام الظِّلِّي بالأصلي]

 

 

[الورطة السابعة: الميل إلى الدعوى والشطح بدلًا من العبدية والافتقار]

 

 

[الورطة الثامنة: استعجال قطف ثمرات الولاية]

 

 

[التلويح التاسع: تسعُ ثمراتٍ للطريقة]

 

 

[الثمرة الأولى: انجلاء الحقائق الإيمانية]

 

 

[الثمرة الثانية: تحقق حقيقة الإنسان]

 

 

[الثمرة الثالثة: الأنس المعنوي]

 

 

[الثمرة الرابعة: محبة الله ومعرفته]

 

 

[الثمرة الخامسة: الإقبال على الطاعة بمعرفة وشوق]

 

 

[الثمرة السادسة: التوكل والتسليم]

 

 

[الثمرة السابعة: الخلاص من الشرك الخفي]

 

 

[الثمرة الثامنة: تحويل العادات إلى عبادات]

 

 

[الثمرة التاسعة: العمل لبلوغ مرتبة الإنسان الكامل]

 

❀   ❀   ❀

‌[ذيل في بيان أقصر طريق إلى الله]

 

❀   ❀   ❀

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى