المكتوب الثامن والعشرون: مسائل متنوعة
[في هذا المكتوب مسائل متنوعة، منها: تعبير الرؤى، الشكر، الحشر، إيمان آباء النبي ﷺ، كرامة التوافقات في رسائل النور، توعيةٌ لطلاب النور]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

المكتوب الثامن والعشرون
هَذا المَكتُوب عِبَارَة عَن ثَمَاني مَسَائِل
[المسألة الأولى: حول تعبير الرؤى]
المَسألة الأُولى وهِي الرِّسَالة الأولى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾
ثانيًا: إنَّكُم تَطلُبُونَ يا أَخِي تَعبِيرَ رُؤْياكُمُ القَدِيمةَ الَّتي رَأَيتُمُوها قَبلَ ثَلاثِ سَنَواتٍ، وقد ظَهَر تَعبِيرُها وتَأْوِيلُها بَعدَ ثَلاثةِ أَيّامٍ مِن لِقائِك إِيّاي؛ أوَلَيسَ لي الحَقُّ إِذًا أن أَقُولَ إِزاءَ تلك الرُّؤْيا اللَّطِيفةِ المُبارَكةِ المُبشِّرةِ والَّتي مَرَّ علَيْها الزَّمَنُ وأَظهَرَ مَعناها:
نَه شَبم نَه شَب بَرستَم منغلام شَمسَم اَز شَمس مى كويم خبر
آن خيالاتى كه دام اولياستعكس مهرويان بوستان خداست
نعم، يا أَخِي، لقدِ اعتَدْنا أن نَتَذاكَرَ معًا دَرْسَ الحَقِيقةِ المَحْضةِ، لِذا فإنَّ بَحثَ الرُّؤَى الَّتي بابُها مَفتُوحٌ لِلخَيالاتِ بَحثًا عِلمِيًّا لا يُلائِمُ مَسلَكَ التَّحقِيقِ العِلمِيِّ مُلاءَمةً تامّةً؛ ولكِن لِمُناسَبةِ تلك الحادِثةِ الجُزئيّةِ في النَّومِ، نُبيِّنُ سِتَّ نِكاتٍ تَخُصُّ النَّومَ الَّذي هو صِنْوُ المَوتِ، نُبيِّنُها بَيانًا عِلمِيًّا مَبنِيًّا على القَواعِدِ والدَّساتِيرِ، مُستَنبَطةً مِنَ الحَقِيقةِ بالوَجهِ الَّذي تُشِيرُ إلَيْه الآياتُ القُرآنيّةُ، ونُورِدُ في النُّكتةِ السَّابِعةِ تَعبِيرًا مُختَصرًا لِرُؤْياك.
[النكتة الأولى: أهمية الرؤى]
النُّكتةُ الأُولَى:
إنَّ آياتٍ كَثِيرةً في القُرآنِ الكَرِيمِ مِثلَ: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾، وكَذلِك الرُّؤْيا الَّتي رَآها يُوسُفُ عَليهِ السَّلام -الَّتي هي أَساسٌ مُهِمٌّ لِسُورةِ يُوسُفَ- تُبيِّنُ أنَّ حَقائِقَ جَلِيلةً تَستَتِرُ وَراءَ حُجُبٍ في النَّومِ والرُّؤْيا.
[النكتة الثانية: أهل الحقيقة لا يعتمدون على الرؤى]
النُّكتةُ الثَّانية:
إنَّ أَهلَ الحَقِيقةِ لا يُحَبِّذُونَ استِخراجَ الفَأْلِ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ، ولا يَمِيلُونَ إلى الِاعتِمادِ على الرُّؤْيا، لِأنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ يَزجُرُ الكُفَّارَ بكَثْرةٍ زَجْرًا شَدِيدًا، وقد يُقابِلُ المُتَفائِلُ بالقُرآنِ تلك الآياتِ الزّاجِرةَ فتُورِثُه اليَأْسَ ويَضطَرِبُ قَلبُه ويَقلَقُ.
وكذا الرُّؤْيا قد تَظهَرُ بما يُخالِفُ الواقِعَ والحَقِيقةَ فيَتَصوَّرُها الإِنسانُ شَرًّا رَغمَ أنَّها خَيرٌ، فتَدفَعُه إلى سُوءِ الظَّنِّ والسُّقُوطِ في اليَأْسِ، ونَقضِ عُرَى قُواه المَعنَوِيّةِ؛ فهُنالِك كَثِيرٌ مِنَ الرُّؤَى ظاهِرُها مُخِيفٌ، مُضِرٌّ، قَبِيحٌ، إلّا أنَّ تَعبِيرَها حَسَنٌ جِدًّا، ومَعناها جَمِيلٌ؛ وحَيثُ إنَّ كلَّ إِنسانٍ لا يَستَطِيعُ أنْ يَجِدَ العَلاقةَ بَينَ صُورةِ الرُّؤْيا وحَقِيقةِ مَعناها، فيَقلَقُ ويَحزَنُ ويَضطَرِبُ دُونَ داعٍ.
ولِأَجلِ هذه الأُمُورِ قُلتُ في صَدْرِ البَحثِ كالإِمامِ الرَّبّانِيِّ وكما يقُولُ أَهلُ التَّحقِيقِ العِلمِيِّ: نَه شَبم نَه شَب بَرستَم..
[النكتة الثالثة: الرؤيا الصادقة جزء من النبوة]
النُّكتةُ الثَّالثة:
لقد ثَبَت في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أنَّ الرُّؤْيا الصّادِقةَ جُزءٌ مِن أَربَعِينَ جُزءًا مِنَ النُّبوّةِِ. بمَعنَى أنَّ الرُّؤْيا الصَّادِقةَ حَقٌّ، ولَها عَلاقةٌ بمُهِمّاتِ النُّبوّةِ.
وهذه المَسأَلةُ الثّالِثةُ مُهِمَّةٌ لِلغايةِ وطَوِيلةٌ وعَمِيقةٌ، ولَها عَلاقةٌ بوَظائِفِ النُّبوّةِ، لِذا نُؤَجِّلُها إلى وَقتٍ آخَرَ بمَشِيئةِ اللهِ، ونَسُدُّ هذا البابَ.
[النكتة الرابعة: أنواع الرؤيا وقيمةُ كلٍّ منها]
النُّكتةُ الرَّابِعة:
الرُّؤْيا على أَنواعٍ ثَلاثةٍ: اثنانِ مِنها داخِلانِ ضِمنَ ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ كما عَبَّر عنها القُرآنُ الكَرِيمُ، وهُما لا يَستَحِقّانِ التَّعبِيرَ ولا أَهَمِّيّةَ لَهُما، وإن كانَ لَهُما مَعنًى؛ إذ إمَّا أنَّ الرُّؤْيا ناشِئةٌ مِن تَصوِيرٍ تَصنَعُه قُوّةُ خَيالِ الإِنسانِ المُصابِ بانحِرافٍ في مِزاجِه، وتُرَكِّبُه حَسَبَ نَوعِ ذلك الِانحِرافِ؛ أو أنَّها ناشِئةٌ مِن تَخَطُّرِ الخَيالِ لِحَوادِثَ مُثِيرةٍ، قد رَآها الإِنسانُ نَهارًا أو قَبلَ يَومٍ أو حتَّى قَبلَ سَنةٍ أو سَنَتَينِ، فيُعَدِّلُها الخَيالُ ويُصَوِّرُها ويُلبِسُها شَكْلًا.. فهَذانِ القِسمانِ مِن قَبِيلِ ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ لا يَستَحِقّانِ التَّعبِيرَ.
أمَّا القِسمُ الثَّالِثُ، فهُو الرُّؤْيا الصَّادِقةُ.
إنَّ اللَّطِيفةَ الرَّبّانيّةَ المَوجُودةَ في ماهِيَّةِ الإِنسانِ تَجِدُ عَلاقةً لها معَ عالَمِ الغَيبِ، وتَفتَحُ مَنفَذًا إلَيْه بَعدَ انقِطاعِ الحَواسِّ والمَشاعِرِ المَربُوطةِ بعالَمِ الشَّهادةِ والمُتَجوِّلةِ فيه، وبَعدَ تَوَقُّفِها عنِ العَمَلِ، فتَنظُرُ اللَّطِيفةُ الرَّبَّانيّةُ بذلك المَنفَذِ إلى حَوادِثَ تَتَهيَّأُ لِلوُقُوعِ، وقد تُلاقِي أَحَدَ جَلَواتِ اللَّوحِ المَحفُوظِ أو أُنمُوذَجًا مِن نَماذِجِ كِتاباتِ القَدَرِ، فتَرَى بَعضَ الوَقائِعِ الحَقِيقيّةِ، ولكِنَّ الخَيالَ يَتَصرَّفُ أَحيانًا في تلك الوَقائِعِ ويُلبِسُها مَلابِسَ الصُّوَرِ.
ولِهذا القِسمِ أَنواعٌ كَثِيرةٌ وطَبَقاتٌ كَثِيرةٌ، فأَحيانًا تَقَعُ الحادِثةُ كما رَآها الشَّخصُ، وأَحيانًا تَظهَرُ الحادِثةُ وَراءَ سِتارٍ خَفِيفٍ، وأَحيانًا تَتَستَّرُ بسِتارٍ كَثِيفٍ سَمِيكٍ.
وقد وَرَد في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أنَّ الرُّؤْيا الَّتي كانَ يَراها الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ في بَدءِ الوَحْيِ كانَت واضِحةً صَادِقةً ظَاهِرةً كفَلَقِ الصُّبحِ.
[النكتة الخامسة: الرؤيا الصادقة نوع من الحس قبل الوقوع]
النُّكتةُ الخَامِسة:
إنَّ الرُّؤْيا الصَّادِقةَ عِبارةٌ عن زِيادةٍ في قُوّةِ “الحِسِّ قَبلَ الوُقُوعِ” وهذا الإحساسُ مَوجُودٌ في كلِّ إِنسانٍ جُزئِيًّا أو كُلِّيًّا، بل مَوجُودٌ حتَّى في الحَيَواناتِ.
ولقد وَجَدتُ -في وَقتٍ مّا- أنَّ هُنالِك حاسَّتَينِ في الإِنسانِ والحَيَوانِ مِن غَيرِ الحَواسِّ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ -وهُما حاسَّتانِ مِن قَبِيلِ الحِسِّ قَبلَ الوُقُوعِ- وهُما حاسّةُ “السَّائِقة”، وحاسَّةُ “الشَّائِقة”، كحاسَّتَيِ “البَاصِرةِ” و”السَّامِعةِ” مِنَ الحَواسِّ المَشهُورةِ؛ أي: حاسَّةٌ تَدفَعُ وأُخرَى تُشَوِّقُ.
ويُطلِقُ أَهلُ الضَّلالِ والفَلسَفةِ على تلك الحَواسِّ غَيرِ المَشهُورةِ لِحَماقَتِهِم خَطَأً اسمَ “الدّافِع الطَّبِيعيّ”.. كلّا.. إنَّها لَيسَت دافِعًا طَبِيعيًّا، بل نَوعٌ مِن إِلهامٍ فِطْرِيٍّ، يَسُوقُ به القَدَرُ الإلهِيُّ الإِنسانَ والحَيَوانَ.
فمَثلًا: القِطُّ وما شابَهَه مِنَ الحَيَواناتِ، عِندَما يَفقِدُ بَصَرَه يُفتِّشُ بذلك الدَّفعِ القَدَرِيِّ عن نَوعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ النَّباتِ، ويَضَعُه على عَيْنِه ويُشفَى مِنَ المَرَضِ.
وكَذلِك النَّسرُ وما شابَهَه مِنَ الطُّيُورِ الجارِحةِ الآكِلةِ لِلُّحُومِ -المُوَظَّفاتِ الصِّحِّيّاتِ لِتَنظِيفِ سَطحِ الأَرضِ مِن جُثَثِ حَيَواناتِ البَرارِي- هذه الطُّيُورُ تَعلَمُ بوُجُودِ جُثّةِ حَيَوانٍ على مَسافةِ يَومٍ، وتَجِدُها بذلك السَّوقِ القَدَرِيِّ، وبإِلهامِ الحِسِّ قَبلَ الوُقُوعِ.
وكَذلِك صَغِيرُ النَّحلِ الَّذي لم يَمُرَّ علَيْه إلّا يَومٌ واحِدٌ، يَطِيرُ إلى مَسافةِ يَومٍ كامِلٍ في الهَواءِ، ثمَّ يَعُودُ إلى خَلِيَّتِه دُونَ أن يُضَيِّعَ أَثَرَه، وذلك بالسَّوقِ القَدَرِيِّ، وبإِلهامِ ذلك السَّوقِ والدَّفعِ.
حتَّى إنَّ كلَّ إِنسانٍ قد مَرَّ بلا شَكٍّ بكَثِيرٍ مِنَ الوَقائِعِ المُتَكرِّرةِ، فهُو عِندَما يَذكُرُ اسمَ شَخصٍ مّا، إذا بالبابِ يَنفَتِحُ ويَدخُلُ الشَّخصُ المَذكُورُ، مِن غَيرِ أن يَتَوقَّعُوا قُدُومَه، حتَّى قِيلَ في الأَمثالِ الكُردِيّةِ:
نا گر بينه پالاندار لى ورينه
أي: حالَما تَذكُرُ الذِّئبَ، هَيِّئِ الهِراوةَ، فالذِّئبُ قادِمٌ.
بمَعنَى أنَّ اللَّطِيفةَ الرَّبّانيّةَ -بحِسٍّ قَبلَ الوُقُوعِ- تَشعُرُ بمَجِيءِ ذلك الشَّخصِ إِحساسًا مُجمَلًا، ولكِن لِعَدَمِ إِحاطةِ شُعُورِ العَقلِ به، فإنَّ الشَّخصَ يَنساقُ إلى ذِكرِ ذلك الشَّخصِ دُونَ قَصدٍ واختِيارٍ؛ وأَهلُ الفِراسةِ يُبيِّنُونَ أَحيانًا مَجِيئَه بِما يُشبِهُ الكَرامةَ؛ حتَّى كانَت عِندِي حالةٌ مِن هذا النَّوعِ مِنَ الإِحساسِ بصُورةٍ فائِقةٍ، فأَرَدتُ أن أَضَعَ تلك الحالةَ ضِمنَ قاعِدةٍ وأَضبِطَها في دُستُورٍ، ولكِن لم أُوَفَّق ولم أَستَطِع ذلك؛ ولكِن لَدَى أَهلِ التَّقوَى والصَّلاحِ -ولا سِيَّما الأَولياءِ الكِرامِ- يَزدادُ هذا الإحساسُ قُوّةً، ويُبيِّنُ آثارًا ذاتَ كَرامةٍ.
وهكذا، ففي الرُّؤْيا الصَّادِقةِ نَيلٌ لِنَوعٍ مِنَ الوِلايةِ لِعَوامِّ النّاسِ، إذ يَرَوْنَ فيها بَعضَ الأُمُورِ المُستَقبَلِيّةِ والغَيبِيّةِ كما يَراها الأَوْلِياءُ.
وكما أنَّ النَّومَ مِن حَيثُ الرُّؤْيا الصَّادِقةُ في حُكمِ مَرتَبةٍ مِن مَراتِبِ الوِلايةِ لَدَى العَوامِّ، كَذلِك فهُو لِلنّاسِ عامَّةً مُتَنزَّهٌ جَمِيلٌ رائِعٌ لِرُؤيةِ مَشاهِدِ حَوادِثَ رَبَّانيّةٍ -كمَشاهِدِ السِّينِما- ولكِن مَن كانَ ذا خُلُقٍ حَسَنٍ فإنَّه يُفكِّرُ تَفكِيرًا حَسَنًا فيَرَى أَلواحًا جَمِيلةً ومَناظِرَ حَسَنةً، بعَكسِ السَّيِّئِ الخُلُقِ الَّذي لا يَتَصوَّرُ إلّا السَّيِّئاتِ، لِذا لا يَرَى إلّا المَناظِرَ السَّيِّئةَ والقَبِيحةَ.
وكَذلِك، فالنَّومُ نافِذةٌ تُطِلُّ على عالَمِ الغَيبِ مِن عالَمِ الشَّهادةِ، وهُو مَيدانٌ طَلِيقٌ لِلنّاسِ المُقيَّدِينَ الفَانِينَ، ويَنالُ نَوعًا مِنَ البَقاءِ حتَّى يكُونَ الماضِي والمُستَقبَلُ في حُكمِ الحاضِرِ؛ وهُو مَوضِعُ راحةٍ لِذَوِي الأَرواحِ الَّذِينَ يَنسَحِقُونَ تَحتَ المَشاقِّ وتَكالِيفِ الحَياةِ المُرهِقةِ.
ولِأَجلِ هذه الأَسرارِ وأَمثالِها يُرشِدُ القُرآنُ الكَرِيمُ إلى حَقِيقةِ النَّومِ في آياتٍ عَدِيدةٍ، كقَولِه تَعالَى: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾.
[النكتة السادسة: الرؤيا الصادقة دليلٌ على القَدَر الإلهي المحيط]
النُّكتةُ السَّادسة -وهِي المُهِمّة-:
لقد بَلَغ عِندِي مَبلَغَ اليَقِينِ القاطِعِ، وثَبَت بكَثِيرٍ مِن تَجارِبِي الحَياتِيّةِ أنَّ الرُّؤْيا الصَّادِقةَ حُجّةٌ قاطِعةٌ على أنَّ القَدَرَ الإلهِيَّ مُحِيطٌ بكُلِّ شَيءٍ.
ولقد بَلَغَت عِندِي هذه الرُّؤَى -ولا سِيَّما في السِّنِينَ القَرِيبةِ الفائِتةِ- دَرَجةَ الثُّبوتِ والقَطعِيّةِ، إذ كُنتُ أَرَى لَيْلًا أَبسَطَ المُحاوَراتِ، وأَتفَهَ المُعامَلاتِ، وأَصغَرَ الأُمُورِ الَّتي ستَقَعُ غَدًا، فكُنتُ أَقرَؤُها لَيْلًا بِعَينِي، لا أَتكَلَّمُ بها بلِساني، مِمَّا يَعنِي أنَّ الحَوادِثَ مَكتُوبةٌ ومُعيَّنةٌ قَبلَ مَجِيئِها.
ولم تكُن هذه التَّجارِبُ الَّتي مَرَّت عَلَيَّ تَجارِبَ قَلِيلةً ومُنفَرِدةً، ولم تكُن مِئةَ تَجرِبةٍ بل أَلفًا مِنَ التَّجارِبِ، حتَّى كُنتُ أَرَى في المَنامِ أَشخاصًا لم أُفكِّر فِيهِم قَطُّ ومَسائِلَ لم تَخطُر بِبالي، وإذا بأُولَئِك الأَشخاصِ أَراهُم في النَّهارِ التَّالي لِتِلك اللَّيْلةِ، وتَجرِي تلك المَسائِلُ، معَ تَعبِيرٍ قَلِيلٍ؛ بمَعنَى أنَّ أَصغَرَ حادِثةٍ مِنَ الحَوادِثِ مُقيَّدةٌ ومُسَجَّلةٌ في القَدَرِ الإِلهِيِّ قَبلَ مَجِيئِها إلى الحُدُوثِ، فلا مُصادَفةَ قَطْعًا، والحَوادِثُ لَيسَت سائِبةً ولَيسَت عَشْوائيّةً.
[النكتة السابعة: تعبير رؤيا]
النُّكتةُ السَّابعة:
إنَّ تَعبِيرَ رُؤْياك المُبارَكةِ المُبشِّرةِ بالخَيرِ، خَيرٌ لنا ولِلعَمَلِ القُرآنِيِّ، ولقد عَبَّر الزَّمانُ وما زالَ يُعبِّرُ عنها، ولم يَدَع لنا حاجةً إلى التَّعبِيرِ، فَضْلًا عن ظُهُورِ قِسمٍ مِن تَعبِيرِها في الواقِعِ.
ولو دَقَّقتَ النَّظَرَ، تُدرِكُ ذلك؛ إلّا أنَّنا نُشِيرُ إلى بَعضٍ مِن نِقاطِها فقط، أَعنِي أنَّنا نُبيِّنُ حَقِيقةً مِنَ الحَقائِقِ، والحَوادِثُ الَّتي هي مِن قَبِيلِ رُؤْياك هي تَمَثُّلاتُ تلك الحَقِيقةِ.. وذلك: أنَّ ذلك المَيدانَ الواسِعَ هو العالَمُ الإِسلامِيُّ وما في نِهايتِه مِن مَسجِدٍ هو وِلايةُ إِسبارْطة، والماءَ المُتَعفِّنَ المَخلُوطَ بالطِّينِ هو مُستَنقَعُ الحالِ الحاضِرةِ المُلَوَّثةِ بالسَّفَهِ والبِدَعِ والتَّعَطُّلِ.. وأنت قد سَلِمتَ مِنه ولم تَتَلوَّث بفَضلِ اللهِ، فوَصَلتَ المَسجِدَ بسُرعةٍ، وهذه إِشارةٌ إلى أنَّك ستَظَلُّ سَلِيمًا مُعافًى مِنَ اللَّوْثاتِ، ولا يَفسُدُ قَلبُك، وتَمتَلِكُ الأَنوارَ القُرآنيّةَ قَبلَ النّاسِ الآخَرِينَ.
أمَّا الجَماعةُ الصَّغِيرةُ في المَسجِدِ فهُم حَمَلةُ “الكَلِماتِ” مِن أَمثالِ: “حَقِّي، خُلُوصِي، صَبْرِي، سُلَيْمانَ، رُشْدِي، بَكرٌ، مُصطَفَى، عَلِيّ، زُهدِي، لُطْفي، خُسْرَوْ، رَأْفَت”، والكُرسِيُّ الصَّغِيرُ هو قَريةٌ صَغِيرةٌ كـ”بارْلا”، أمَّا الصَّوتُ العالي فهُو إِشارةٌ إلى قُوّةِ “الكَلِماتِ” وسُرعةِ انتِشارِها.
أمَّا المَقامُ الَّذي خُصِّصَ لك في الصَّفِّ الأَوَّلِ، فهُو المَوقِعُ الَّذي أُحِيلَ إلَيْك مِن “عَبدِ الرَّحمَنِ”، ورَغبةُ تلك الجَماعةِ بِبَثِّ الدَّرسِ الإِيمانِيِّ إلى أَنحاءِ العالَمِ كافّةً كأَجهِزةِ اللّاسِلكِيِّ، سيَظهَرُ تَعبِيرُها في المُستَقبَلِ تَمامًا بإِذنِ اللهِ، إذ إنَّ أَفرادَها في حُكمِ النُّوَى الصَّغِيرةِ في الوَقتِ الحاضِرِ، وسيَكُونُونَ بإِذنِ الله في حُكمِ شَجَرةٍ باسِقةٍ، ومَراكِزِ بَثٍّ.
وذلك الشَّابُّ المُعَمَّمُ هو رَمزٌ لِشابٍّ في صُفُوفِ النَّاشِرِينَ والطُّلّابِ، سيكُونُ مُتَكاتِفًا معَ “خُلُوصِي”، ورُبَّما يَسبِقُه؛ وأنا أَظُنُّه أَحَدَهُم ولكِن لا أَجزِمُ به.. وسيَبْرُزُ ذلك الشّابُّ في المَيدانِ بقُوّةِ الوِلايةِ.
أمّا بَقِيّةُ النِّقاطِ فعَبِّر عنها أَنتَ بَدَلًا مِنِّي.
إنَّ الحَدِيثَ مَعَكُم -حَدِيثًا طَوِيلًا- لَذِيذٌ ومُمتِعٌ ومَقبُولٌ، لِذا أَطنَبتُ في الكَلامِ في هذه المَسأَلةِ القَصِيرةِ، ورُبَّما أَسرَفتُ فيه، ولكِن لِأنَّنِي شَرَعتُ بالبَحثِ بنِيّةِ الإِشارةِ إلى تَفسِيرِ آياتٍ قُرآنيّةٍ تَخُصُّ النَّومَ، سيُعفَى عن ذلك الإِسرافِ إن شَاء اللهُ، ورُبَّما لا يُعَدُّ إسرافًا.
❀ ❀ ❀
[المسألة الثانية: حول واقعة سيدنا موسى مع ملَك الموت]
المَسألة الثَّانِية وهِي الرِّسَالة الثَّانية
كَتَبتُ هَذه المَسأَلةَ لِأَجلِ حَلِّ الإِشكالِ ورَفعِ المُناقَشةِ الدَّائِرةِ حَولَ حَدِيثٍ شَرِيفٍ يُذكَرُ فيه أنَّ سَيِّدَنا مُوسَى عَليهِ السَّلام قد لَطَم عَينَ سَيِّدنا عِزرائيلَ عَليهِ السَّلام.
طَرَقَ سَمعِي أنَّ مُناقَشةً عِلمِيّةً جَرَت في “أگريدير”.. إنَّ إِجراءَ تلك المُناقَشةِ خَطَأٌ، ولا سِيَّما في هذا الوَقتِ بالذّاتِ.
وقد سُئِلتُ أنا أَيضًا -ولا عِلمَ لي بالمُناقَشة- وأَرَوْني حَدِيثًا نَبوِيًّا شَرِيفًا في كِتابٍ مَوثُوقٍ يُعتَمَدُ علَيْه، قد أُشِيرَ فيه إلى الحَدِيثِ برَمزِ (ق) لِلدَّلالةِ على أنَّه “مُتَّفَقٌ علَيْه”.. واستَفسَرُوا: أَهذا حَدِيثٌ نَبوِيٌّ أم لا؟
قُلتُ لَهُم: نَعم.. إنَّه حَدِيثٌ نَبوِيٌّ شَرِيفٌ، يَنبَغِي لَكُمُ الِاعتِمادُ والوُثُوقُ بالَّذي حَكَم باتِّفاقِ الشَّيخَينِ على الحَدِيثِ المَذكُورِ، في مِثلِ هذا الكِتابِ المَوثُوقِ؛ ولَكِن كما أنَّ في القُرآنِ الكَرِيمِ آياتٍ مُتَشابِهاتٍ، ففي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ أَيضًا مُتَشابِهاتٌ، لا يُدرِكُ مَعانيَها الدَّقيقةَ إلَّا خَواصُّ العُلَماءِ.
وقُلتُ أَيضًا: رُبَّما يَدخُلُ ظَاهِرُ هذا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ ضِمنَ قِسمِ المُتَشابِهاتِ مِن مُشكِلاتِ الحَدِيثِ.
فلو كُنتُ على عِلمٍ بالمُناقَشةِ الَّتي جَرَت حَولَ الحَدِيثِ المَذكُورِ، لَمَا كُنتُ أَقصُرُ جَوابِي على ما قُلتُ، بل كُنتُ أُجِيبُ بما يَأْتِي:
أوَّلًا: إنَّ الشَّرطَ الأَوَّلَ في مُناقَشةِ هذه المَسائِلِ وأَمثالِها هو أن تكُونَ المُذاكَرةُ في جَوٍّ مِنَ الإِنصافِ، وأن تُجرَى بِنِيّةِ الوُصُولِ إلى الحَقِّ، وبصُورةٍ لا تَتَّسِمُ بالعِنادِ، وبَينَ مَن هُم أَهلٌ لِلمُناقَشةِ.. دُونَ أن تكُونَ وَسِيلةً لِسُوءِ الفَهمِ وسُوءِ التَّلقِّي.
فضِمنَ هذه الشُّروطِ قد تكُونُ مُناقَشةُ هذه المُسأَلةِ وما شابَهَها جائِزةً.
أمّا الدَّلِيلُ على أنَّ المُناقَشةَ هي في سَبِيلِ الوُصُولِ إلى الحَقِّ فهُو ألّا يَحمِلَ المُناقِشُ شَيئًا في قَلبِه، ولا يَتألَّمَ ولا يَنفَعِلَ إذا ما ظَهَر الحَقُّ على لِسانِ الطَّرَفِ المُخالِفِ له، بل علَيْه الرِّضَا والِاطمِئْنانُ، إذ قد تَعلَّمَ ما كان يَجهَلُه، فلو ظَهَر الحَقُّ على لِسانِه لَمَا ازدادَ عِلمًا، ورُبَّما أَصابَه غُرُورٌ.
ثَانِيًا: إن كانَ مَوضُوعُ المُناقَشةِ حَدِيثًا شَرِيفًا فيَنبَغِي مَعرِفةُ مَراتِبِ الحَدِيثِ، والإِحاطةُ بدَرَجاتِ الوَحْيِ الضِّمنِيِّ، وأَقسامِ الكَلامِ النَّبَويِّ.
ولا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مُناقَشةُ مُشكِلاتِ الحَدِيثِ بَينَ العَوامِّ مِنَ النّاسِ، ولا الدِّفاعُ عن رَأْيِه إِظهارًا لِلتَّفوُّقِ على الآخَرِينَ، ولا البَحثُ عن أَدِلّةٍ تُرجِّحُ رَأْيَه وتُنَمِّي غُرُورَه على الحَقِّ والإِنصافِ.
ولكِن لَمَّا كانَتِ المَسأَلةُ قد طُرِحَت، وأَصبَحَت مَدارَ نِقاشٍ، فستُؤدِّي تَأْثِيرَها السَّيِّءَ في أَفهامِ العَوامِّ الَّذِينَ يَعجِزُونَ عنِ استِيعابِ أَمثالِ هذه الأَحادِيثِ المُتَشابِهةِ.
إذ لو أَنكَرَها أَحَدُهُم فقد فَتَح لِنَفسِه بابًا لِلهَلاكِ والخُسرانِ، حَيثُ يَسُوقُه هذا الإِنكارُ إلى إِنكارِ أَحادِيثَ صَحِيحةٍ ثابِتةٍ أَيضًا؛ أمّا لو قَبِل بما يُفيدُ ظاهِرُ الحَدِيثِ مِن مَعنًى، وتَحَدَّث به ونَشَرَه بَينَ النَّاسِ، فسيَكُونُ سَبَبًا لِفَتحِ بابِ اعتِراضاتِ أَهلِ الضَّلالةِ على الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، وإِطلاقِ أَلسِنَتِهِم بالسُّوءِ علَيْه، وقَولِهِم: إنَّه خُرافةٌ!
ولَمّا كانَتِ الأَنظارُ قد لُفِتَت إلى هذا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ المُتَشابِهِ دُونَ مُبَرِّرٍ، بل بما فيه ضَرَرٌ؛ وأنَّ هُناك أَحادِيثَ أُخرَى مُشابِهةً له بكَثرةٍ؛ يَلزَمُ بَيانُ “حَقِيقةٍ” دَفعًا لِلشُّبُهاتِ، وإِزالةً لِلأَوهامِ.. أَقُولُ: إنَّ ذِكْرَ هذه “الحَقِيقة” ضَرُورِيٌّ بِغَضِّ النَّظَرِ عن ثُبُوتِ الحَدِيثِ.
سنُشِيرُ إلى تلك الحَقِيقةِ إِشارةً مُجمَلةً، مُكتَفِينَ بما ذَكَرْناه مِن تَفاصِيلَ في رَسائِلِ النُّورِ (مِنها الغُصنُ الثَّالِثُ مِنَ الكَلِمةِ الرَّابِعةِ والعِشرِينَ والغُصنُ الرَّابِعُ مِنها، والأَساسُ الخاصُّ بأَقسامِ الوَحْيِ في مُقدِّمةِ المَكتُوبِ التَّاسِعَ عَشَرَ). والحَقِيقةُ هي أنَّ المَلائِكةَ لا يَنحَصِرُونَ في صُورةٍ مُعَيَّنةٍ واحِدةٍ كالإِنسانِ، وإنَّما هُم في حُكمِ الكُلِّيِّ، رَغمَ أنَّ لهم تَشَخُّصاتِهم، فعِزرائِيلُ عَليهِ السَّلام هو ناظِرُ المَلائِكةِ المُوَكَّلِينَ بقَبضِ الأَرواحِ ورَئِيسُهُم.
[مَن الذي يَقبض الأرواح؟]
سُؤالٌ: هل عِزرائِيلُ عَليهِ السَّلام هو الَّذي يَقبِضُ الأَرواحَ بالذّاتِ، أم أنَّ أَعوانَه هُمُ الَّذِينَ يَقبِضُونَها؟
الجَوابُ: هُناك ثَلاثةُ مَسالِكَ بهذا الخُصُوصِ:
المَسلَكُ الأوَّلُ: أنَّ عِزرائِيلَ عَليهِ السَّلام هو الَّذي يَقبِضُ رُوحَ كلِّ فَردٍ، فلا يَمنَعُ فِعلٌ هُنا فِعلًا هناك، لِأنَّه نُورانِيٌّ، والشَّيءُ النُّورانِيُّ يُمكِنُه أن يَحضُرَ ويَتَمثَّلَ بالذّاتِ في أَماكِنَ غَيرِ مَحدُودةٍ، بواسِطةِ مَرايا غَيرِ مَحدُودةٍ؛ فتَمثُّلاتُ النُّورانِيِّ تَملِكُ خَواصَّه، وتُعتَبَرُ عَينَه ولَيسَت غَيرَه.. فتَمَثُّلاتُ الشَّمسِ في المَرايا المُختلِفةِ مِثلَما تُظهِرُ ضَوءَ الشَّمسِ وحَرارَتَها، فإنَّ تَمَثُّلاتِ الرُّوحانيِّينَ -كالمَلائكةِ- تُظهِرُ أَيضًا خَواصَّها في المَرايا المُختلِفةِ في عالَمِ المِثالِ، فهِي عَينُ أُولَئِك الرُّوحانيِّينَ ولَيسَت غَيرَهُم؛ فالمَلائِكةُ يَتَمثَّلُونَ في المَرايا حَسَبَ قابِليّاتِ المَرايا، فمَثلًا:
عِندَما كانَ جَبرائِيلُ عَليهِ السَّلام يَتَمثَّل أَمامَ الرَّسُولِ ﷺ في مَجلِسِ الصَّحابةِ الكِرامِ رِضوانُ اللهِ علَيْهِم في صُورةِ الصَّحابيِّ “دِحْيةَ الكَلبِيِّ” كانَ يَتَمثَّل في اللَّحظةِ نَفسِها في أُلُوفِ الأَماكِنِ في صُوَرٍ مُختَلِفةٍ، كما يَسجُدُ تَحتَ العَرشِ الأَعظَمِ مُطْبِقًا الآفاقَ بأَجنِحَتِه الواسِعةِ المَهِيبةِ شَرقًا وغَربًا، فله إذًا تَمَثُّلٌ في كلِّ مَكانٍ حَسَبَ قابِلِيّةِ ذلك المَكانِ، وله حُضُورٌ في آنٍ واحِدٍ في أُلُوفِ الأَماكِنِ.
وهكذا، فحَسَبَ هذا المَسلَكِ: لَيسَ مُحالًا قَطُّ، ولا هو بأَمرٍ فَوقَ المُعتادِ، ولا هو أَمرٌ غَيرُ مَعقُولٍ، أن يَتَعرَّضَ مِثالُ مَلَكِ المَوتِ المُتَمثِّلِ لِلإِنسانِ عِندَ قَبضِ رُوحِه -وهو مِثالٌ جُزئيٌّ إِنسانِيٌّ- إلى لَطْمةِ سَيِّدِنا مُوسَى عَليهِ السَّلام وهو الشَّخصِيّةُ العَظِيمةُ المَهِيبةُ مِن أُولي العَزْمِ مِنَ الرُّسُل، ثمَّ فَقْؤُه لِعَينِ تلك الصُّورةِ المِثاليّةِ لمَلَكِ المَوتِ الَّذي لَبِس زِيَّ تلك الصُّورةِ.
المَسلَكُ الثَّاني هو أنَّ المَلائِكةَ العِظامَ مِن أمثالِ سَيِّدنا جَبرائيلَ ومِيكائيلَ وعِزرائيلَ عَلَيهم السَّلام، كلٌّ مِنهُم بمَثابةِ ناظِرٍ عامٍّ ورَئيسٍ، لَهُم أَعوانٌ مِن نَوعِهم ومِمَّن يُشبِهُونَهُم، ولكِن بطِرازٍ أَصغَرَ؛ فهَؤُلاءِ المُعاوِنُونَ الصِّغارُ مُختَلِفونَ حَسَبَ اختِلافِ المَخلُوقاتِ المُوكَّلينَ بهم، فالَّذِينَ يَقبِضُونَ أَرواحَ الصَّالِحِينَ1عِندَما كانَ أحدُ الأَولياءِ العِظامِ في مَنطِقَتِنا وهو المُلقَّبُ بـ “سَيْدا” يُعاني سَكَراتِ المَوتِ وحضَرَه مَلَكُ المَوتِ المُوَكَّلُ بقَبضِ أَرواحِ الأَولياءِ الصّالِحِين، استَنجَد باللهِ واستَغاثَه، وصَرَخ قائِلًا: “لِيَقبِض رُوحِي مَن هو المُوَكَّل بقَبضِ أَرواحِ طُلّابِ العُلُومِ، فأنا أُحِبُّهُم حُبًّا شَدِيدًا”، وقد شَهِدَ على الحادِثةِ مَن كان حاضِرًا ساعةَ وَفاتِه. يَختلِفُونَ عنِ الَّذِينَ يَقبِضُونَ أَرواحَ الطَّالِحِينَ، فهُم طَوائِفُ مُختَلِفةٌ مِنَ المَلائِكةِ بمِثلِ ما تُشِيرُ إلَيْه الآياتُ الكَرِيمةُ: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾.
فحَسَبَ هذا المَسلَكِ: فإنَّ سَيِّدنا مُوسَى عَليهِ السَّلام، لم يَلطُم سَيِّدَنا عِزرائيلَ عَليهِ السَّلام، بل لَطَم الجَسَدَ المِثاليَّ لِأَحَدِ أَعوانِه، وذلك بعُنفُوانِ النُّبوّةِ الجَلِيلةِ وبَسطةِ جِسمِه وجَلادةِ خَلقِه وحُظْوَتِه عِندَ رَبِّه القَدِيرِ.. وهكذا يُصبِحُ الأَمرُ مَعقُولًا جِدًّا2كان في مَدِينَتِنا رَجُلٌ شُجاعٌ، ولَمّا حضَرَه المَوتُ قال لمَلَكِ المَوتِ: “أتَقبِضُ رُوحِي وأنا طَرِيحُ الفِراشِ؟”، فنَهَض بخِفّة مِن فِراشِه وامتَطَى جَوادَه وسَلَّ سَيفَه، وكأنَّه في مَيدانِ جِهادٍ ومُبارَزةٍ معَه، ثمَّ سَلَّم رُوحَه وهو على صَهْوةِ جَوادِه، وتُوفِّي وَفاةَ الغَيارَى..
المَسلَكُ الثَّالثُ: لقد بَيَّـنَّا في “الأَساسِ الرّابعِ مِنَ الكَلِمةِ التَّاسِعةِ والعِشرِينَ“، وحَسَبَ دَلالاتِ أَحادِيثَ نَبَويّةٍ شَرِيفةٍ: بأنَّ مِنَ المَلائِكةِ مَن يَملِكُونَ أَربَعِينَ أَلفَ رَأسٍ، وفي كلِّ رَأسٍ أَربَعُونَ أَلفَ لِسانٍ -أي: لَهُم ثَمانُونَ أَلفَ عَينٍ أَيضًا- وكلُّ لِسانٍ يُسبِّحُ بأَربَعِينَ أَلفَ تَسبِيحةٍ؛ فما دامَ المَلائِكةُ المُوكَّلُونَ مُوكَّلِينَ حَسَبَ أَنواعِ عالَمِ الشَّهادةِ، وهُم يُمَثِّلُونَ تَسبِيحاتِ تلك الأَنواعِ في عالَمِ الأَرواحِ، فلا بُدَّ أن يكُونَ لَهُم تلك الصُّورةُ والهَيئةُ، لِأنَّ الأَرضَ -مَثلًا- وهي مَخلُوقةٌ واحِدةٌ، تُسبِّحُ للهِ، وهِي تَملِكُ أَربَعِينَ أَلفَ نَوعٍ مِنَ الأَنواعِ، بل مِئاتِ الأُلُوفِ مِنها، والَّتي كُلٌّ مِنها بحُكمِ رُؤُوسٍ مُسبِّحةٍ لها، ولِكُلِّ نَوعٍ مِنَ الأَنواعِ أُلُوفٌ مِنَ الأَفرادِ الَّتي هي بمَثابةِ الأَلسِنةِ.. وهكذا. فالمَلَكُ المُوَكَّلُ على الكُرةِ الأَرضِيّةِ يَنبَغِي أن يكُونَ له أَربَعُونَ أَلفَ رَأسٍ، بل مِئاتُ الأُلوفِ مِنَ الرُّؤُوسِ، ولا بُدَّ أن يكُونَ لِكُلِّ رَأسٍ مِئاتُ الأُلوفِ مِنَ الأَلسِنةِ.. وهكذا.
فبِناءً على هذا المَسلَكِ: فإنَّ عِزرائِيلَ عَليهِ السَّلام له وَجهٌ مُتَوجِّهٌ إلى كلِّ فَردٍ، وعَينٌ ناظِرةٌ إلى كلِّ فَردٍ، لِذا فلَطْمُ سَيِّدِنا مُوسَى عَليهِ السَّلام لَيسَ هو لَطْمًا على الماهِيّةِ الشَّخصِيّةِ لِسَيِّدِنا عِزرائيلَ -حاشاه- ولا على شَكلِه الحَقِيقيِّ، ولَيسَ فيه إهانةٌ، ولا رَدٌّ له، بل تَصَرُّفُه هذا نابِعٌ مِن كَونِه راغِبًا في زِيادةِ دَوامِ مُهِمّةِ الرِّسالةِ واستِمرارِ بَقائِها، ولِأَجلِ هذا لَطَمَ -وله أن يَلطُمَ- تلك العَينَ الَّتي تُراقِبُ أَجَلَه، والَّتي تُرِيدُ أن تُنهِيَ وَظِيفَتَه على الأَرضِ..
اللهُ أَعلَمُ بالصَّوابِ، لا يَعلَمُ الغَيبَ إلّا اللهُ
﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ﴾
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾
❀ ❀ ❀
[المسألة الثالثة: أنا لستُ صاحب مقام فلا تنتظروا مني همةً ولا مددًا]
المَسألة الثَّالِثة وهِي الرِّسَالة الثَّالِثة
هذه المَسأَلةُ جَوابٌ خاصٌّ جِدًّا، فيه شَيءٌ مِنَ السِّرِّيةِ والخَفاءِ عن سُؤالٍ عامٍّ يَسأَلُه الإِخوةُ عامّةً سَواءٌ بلِسانِ الحالِ أوِ المَقالِ.
والسُّؤالُ هو: أنَّك تقُولُ لِكُلِّ مَن يَأتِي لِزِيارَتِك:
“لا تَنتَظِرُوا مِن شَخصِي هِمّةً ومَدَدًا، ولا تَعُدُّوني شَخْصًا مُبارَكًا، فأنا لَستُ صاحِبَ مَقامٍ؛ فكما يُبَلِّغُ الجُندِيُّ الِاعتِيادِيُّ أَوامِرَ مَقامِ المُشِيرِ، فأنا كَذلِك أُبلِّغُ أَوامِرَ مُشِيرِيّةً مَعنَوِيّةً رَفيعةً؛ وكما يقُومُ شَخصٌ مُفلِسٌ لا يَملِكُ شَيئًا بدَوْرِ الدَّلّالِ لِدُكّانِ مُجَوهَراتٍ غاليةٍ جِدًّا، فأنا كَذلِك دَلّالٌ أَمامَ دُكّانٍ مُقَدَّسٍ وهُو القُرآنُ الكَرِيمُ”.
والحالُ أنَّ عُقُولَنا مِثلَما تَحتاجُ إلى العِلمِ، كَذلِك قُلُوبُنا تَطلُبُ الفَيضَ وأَرواحُنا تَنشُدُ النُّورَ.. وهكذا نَطلُبُ أَشياءَ كَثِيرةً بجِهاتٍ شَتَّى. ونَأتِي لِزِيارَتِك عَلَّك تَفِي لنا بحاجاتِنا، إِذ نَحنُ بحاجةٍ إلى صاحِبِ وِلايةٍ وصاحِبِ هِمّةٍ وكَمالاتٍ أَكثَرَ مِن حاجَتِنا إلى عالِمٍ، فإن كانَ الأَمرُ كما تقُولُ، فقد أَخْطَأْنا إِذًا في زِيارَتِك!.. هكذا يقُولُ لِسانُ حالِهِم.
الجَوابُ: اسمَعُوا خَمسَ نِقاطٍ، ثمَّ تَفَكَّرُوا في زِيارَتِكُم هل هي مُجدِيةٌ أم أنَّه لا طائِلَ وَراءَها، ومِن بَعدِها احكُمُوا ما شِئتمُ!
[النقطة الأولى: أنا مجرد خادمٍ مبلِّغ]
النُّقطة الأُولَى:
خادِمٌ لِسُلطانٍ عَظِيمٍ أو جُندِيٍّ تَحتَ إِمرَتِه، يُسَلِّمُ إلى القُوّادِ العِظام والمُشِيرِينَ الكِبارِ هَدايا السُّلطانِ وأَوْسِمَتَه الرَّفيعةَ، ويَجعَلُهُم في امتِنانٍ ورِضًا؛ فإن قالَ أُولَئِك القُوَّادُ والمُشِيرُونَ: لِمَ نَتَنازَلُ بتَسَلُّمِ النِّعَمِ السُّلطانيّةِ وإِكرامِه لنا مِن يَدِ هذا الجُندِيِّ البَسِيطِ؟! فلا شَكَّ أنَّ ذلك يُعَدُّ غُرُورًا جُنُونيًّا. وكَذلِك إذا أُعجِبَ ذلك الجُندِيُّ بنَفسِه ولم يَقُمِ احتِرامًا لِلمُشِيرِ خارِجَ وَظِيفَتِه وعَدَّ نَفسَه أَعلَى دَرَجةً مِنه، فلَيسَ ذلك إلّا بَلاهةً وجُنُونًا.
ولو تَنازَلَ أَحَدُ أُولَئِك القُوّادِ المُمتَنِّينَ وذَهَبَ إلى مَنزِلِ ذلك الجُندِيِّ البَسِيطِ، الَّذي لا يَجِدُ ما يُقدِّمُه لِضَيفِه الكَرِيمِ سِوَى كِسْرةِ خُبزٍ، فسَوفَ يُرسِلُ السُّلطانُ الَّذي يَعلَمُ حالَ خادِمِه الأَمِينِ إلى مَنزِلِه طَبَقًا مِن أَطيَبِ طَعامٍ وأَلَذِّه مِن مَطبَخِه الخاصِّ دَفْعًا لِلحَرَج عنه.
فكَما أنَّ الأَمرَ هكذا في خادِمِ السُّلطانِ، كَذلِك خادِمُ القُرآنِ الصَّادِقُ، إذ مَهْما كانَ مِن عامَّةِ النّاسِ، إلّا أنَّه يُبَلِّغُ أَوامِرَ القُرآنِ الكَرِيمِ بِاسمِ القُرآنِ نَفسِه إلى أَعظَمِ إِنسانٍ مِن دُونِ تَرَدُّدٍ ولا إِحجامٍ، ويَبِيعُ جَواهِرَ القُرآنِ الثَّمِينةَ جِدًّا لِأَغنَى إِنسانٍ رُوحًا، بافتِخارٍ واعتِزازٍ واستِغناءٍ مِن دُونِ تَذَلُّلٍ وتَوَسُّلٍ.
فهَؤُلاءِ مَهْما كانُوا عِظامًا لا يُمكِنُهُم أن يَتَكبَّـرُوا على ذلك الخادِمِ البَسِيطِ أَثناءَ أَدائِه لوَظِيفَتِه؛ وذلك الخادِمُ أَيضًا لا يَجِدُ في نَفسِه ما يَجعَلُه يَغتَرُّ أَمامَ مُراجَعةِ أُولَئِك الأَفذاذِ له، فلا يَتَجاوَزُ حَدَّه.
وإذا ما نَظَر بَعضُ المُعجَبِينَ بجَواهِرِ خَزِينةِ القُرآنِ المُقَدَّسةِ إلى ذلك الخادِمِ نَظَرَ الوَليِّ الصّالِحِ واستَعظَمُوه، فخَلِيقٌ بالرَّحمةِ المُقَدَّسةِ لِلحَقِيقةِ القُرآنيّةِ أن تُمِدَّهُم وتُفِيضَ علَيْهِم بِهِمَّتِها مِنَ الخَزِينةِ الإلهِيّةِ الخاصَّةِ مِن دُونِ عِلمِ ذلك الخادِمِ ومِن دُونِ تَدَخُّلٍ مِنه لِئَلّا تُخجِلَ خادِمَها ذاك أَمامَ ضَيفِه الكَرِيمِ.
[النقطة الثانية: انجلاءُ حقيقةٍ إيمانيةٍ أهم من ألوف الكرامات]
النُّقطة الثَّانية:
لقد قالَ الإمامُ الرَّبّانِيُّ مُجَدِّدُ الأَلفِ الثَّاني أَحمَدُ الفارُوقيُّ السِّرهِندِيُّ: “إنَّ انكِشافَ حَقِيقةٍ مِن حَقائِقِ الإِيمانِ ووُضُوحَها لَهُو أَرجَحُ عِندِي مِن أَلفٍ مِنَ الأَذواقِ والكَراماتِ، ثمَّ إنَّ غايةَ جَمِيعِ الطُّرُقِ الصُّوفيّةِ ومُنتَهاها إنَّما هي انكِشافُ الحَقائِقِ الإِيمانيّةِ وانجِلاؤُها“.
فما دامَ يَحكُمُ بهذا الحُكْمِ رائِدٌ عَظِيمٌ لِلطَّرِيقةِ، فلا بُدَّ أنَّ “الكَلِماتِ” الَّتي تُبيِّنُ بوُضُوحٍ تامٍّ الحَقائِقَ الإيمانيّةَ، والَّتي هي مُتَرشِّحةٌ مِن بَحرِ الأَسرارِ القُرآنيّةِ تَستَطِيعُ أن تُعطِيَ النَّتائِجَ المَطلُوبةَ مِنَ الوِلايةِ.
[النقطة الثالثة: توحيد القبلة]
النُّقطة الثَّالِثة:
هَوَت صَفَعاتٌ عَنِيفةٌ قَبلَ ثَلاثِينَ سَنةً على رَأسِ “سَعِيدٍ القَدِيمِ” الغافِلِ، ففَكَّر في قَضِيّةِ أنَّ “المَوتَ حَقٌّ”، ووَجَد نَفسَه غارِقًا في الأَوْحالِ.. استَنجَد، وبَحَث عن طَرِيقٍ، وتَحَرَّى عن مُنقِذٍ يَأخُذُ بيَدِه.. رَأَى السُّبُلَ أَمامَه مُختَلِفةً.. حارَ في الأَمرِ! وأَخَذ كِتابَ “فُتُوحُ الغَيبِ” لِلشَّيخِ عَبدِ القادِرِ الگيْلانِيِّ رَضِيَ الله عَنهُ وفَتَحَه مُتَفائِلًا، ووَجَد أَمامَه العِبارةَ الآتِيةَ:
“أَنتَ في دارِ الحِكْمةِ، فاطْلُبْ طَبِيبًا يُداوِي قَلبَك..”، يا لَلعَجَبِ! لقد كُنتُ يَومَئِذٍ عُضوًا في “دارِ الحِكْمةِ الإِسلامِيّةِ”، وكأَنَّما جِئتُ إلَيْها لِأُداوِيَ جُرُوحَ الأُمّةِ الإِسلامِيّةِ، والحالُ أَنَّني كُنتُ أَشَدَّ مَرَضًا وأَحوَجَ إلى العِلاجِ مِن أَيِّ شَخصٍ آخَرَ.. فالأَوْلَى لِلمَرِيضِ أن يُداوِيَ نَفسَه قَبلَ أن يُداوِيَ الآخَرِينَ.
نعم، هكذا خاطَبَني الشَّيخُ: أَنتَ مَرِيضٌ.. ابحَثْ عن طَبِيبٍ يُداوِيك!
قُلتُ: كُن أَنتَ طَبِيبِي أيُّها الشَّيخُ!
وبَدَأتُ أَقرَأُ ذلك الكِتابَ كأنَّه يُخاطِبُني أنا بالذّاتِ.. كانَ شَدِيدَ اللَّهْجةِ يُحَطِّمُ غُرُورِي، فأَجرَى عَمَلِيّاتٍ جِراحِيّةً عَمِيقةً في نَفسِي، فلم أَتَحمَّلْ، ولم أُطِقْ تَحَمُّلَه، لِأنِّي كُنتُ أَعتَبِرُ كَلامَه مُوَجَّهًا إِليَّ.
نعم، هكذا قَرَأتُه إلى ما يُقارِبُ نِصفَه.. لم أَستَطِع إِتمامَه.. وَضَعتُ الكِتابَ في مَكانِه، ثمَّ أَحسَسْتُ بعدَ ذلك بمُدّةٍ أنَّ آلامَ الجِراحِ قد وَلَّت وخَلَّفَت مَكانَها لَذائِذَ رُوحِيّةً عَجِيبةً.. عُدتُ إلَيْه، وأَتمَمتُ قِراءةَ كِتابِ “أُستاذِي الأَوَّلِ”، واستَفَدتُ مِنه فَوائِدَ جَلِيلةً، وأَمضَيتُ مَعَه ساعاتٍ طَوِيلةً أُصغِي إلى أَوْرادِه الطَّيِّبةِ ومُناجاتِه الرَّقيقةِ.
ثمَّ وَجَدتُ كِتابَ “مَكتُوباتٌ” لِلإمامِ الفارُوقيِّ السِّرهِندِيِّ، مُجَدِّدِ الأَلفِ الثَّاني، فتَفاءَلتُ بالخَيرِ تَفاؤُلًا خالِصًا، وفَتَحتُه، فوَجَدتُ فيه عَجَبًا.. حَيثُ وَرَد في رِسالَتَينِ مِنه لَفظةُ “مِيرْزا بَدِيعُ الزَّمانِ” فأَحسَسْتُ كأنَّه يُخاطِبُني بِاسمِي، إذ كانَ اسمُ أبي “مِيرْزا”، وكِلْتا الرِّسالَتَينِ كانَتا مُوجَّهَتَينِ إلى مِيرْزا بَدِيعِ الزَّمانِ، فقُلتُ: يا سُبحانَ اللهِ! إنَّ هذا لَيُخاطِبُني أنا بالذَّاتِ! لِأنَّ لَقَبَ “سَعِيدٍ القَدِيمِ” كانَ بَدِيعَ الزَّمانِ، ومعَ أنَّني ما كُنتُ أَعلَمُ أَحَدًا قدِ اشتَهَر بهذا اللَّقَبِ غَيرَ “الهَمَذانِيّ” الَّذي عاشَ في القَرنِ الرّابعِ الهِجْرِيِّ، فلا بُدَّ أن يكُونَ هُناك أَحَدٌ غَيرُه قد عاصَرَ الإِمامَ الرَّبّانِيَّ السِّرهِندِيَّ وخُوطِبَ بهذا اللَّقَبِ، ولا بُدَّ أنَّ حالَتَه شَبِيهةٌ بحالَتِي حتَّى وَجَدتُ دَوائِي بتلكُما الرِّسالَتَينِ.. والإمامُ الرَّبّانِيُّ يُوصِي مُؤَكِّدًا في هاتَينِ الرِّسالَتَينِ وفي رَسائِلَ أُخرَى أنْ: “وَحِّدِ القِبلةَ” أي: اتَّبِع إِمامًا ومُرشِدًا واحِدًا ولا تَنشَغِل بغَيرِه!
لم تَوافِق هذه الوَصِيّةُ آنَذاك استِعدادِي وأَحوالي الرُّوحِيّةَ.. وأَخَذتُ أُفكِّرُ مَلِيًّا: أيَّهُم أَتَّبِعُ! أَأَسِيرُ وَراءَ هذا، أم أَسِيرُ وَراءَ ذاك؟ أم وَراءَ آخَرَ؟ حِرْتُ كَثِيرًا وكانَت حَيرَتي شَدِيدةً جِدًّا، إذ في كُلٍّ مِنهُم خَواصُّ وجاذِبِيّةٌ، لذا لم أَستَطِع أن أَكتَفِيَ بواحِدٍ مِنهُم.
وحِينَما كُنتُ أَتقَلَّبُ في هذه الحَيْرةِ الشَّدِيدةِ.. إذا بخاطِرٍ رَحْمانِيٍّ مِنَ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى يَخطُرُ على قَلبِي ويَهتِفُ بي:
إنَّ بِدايةَ هذه الطُّرُقِ جَمِيعِها، ومَنبَعَ هذه الجَداوِلِ كُلِّها، وشَمسَ هذه الكَواكِبِ السَّيّارةِ.. إنَّما هو “القُرآنُ الكَرِيمُ“، فتَوحِيدُ القِبلةِ الحَقِيقيُّ إذًا لا يكُونُ إلّا في القُرآنِ الكَرِيمِ.. فالقُرآنُ هو أَسمَى مُرشِدٍ.. وأَقدَسُ أُستاذٍ على الإطلاقِ.. ومُنذُ ذلك اليَومِ أَقبَلتُ على القُرآنِ واعتَصَمتُ به واستَمدَدتُ مِنه.. فاستِعدادِي النَّاقِصُ قاصِرٌ عن أن يَرتَشِفَ حَقَّ الِارتِشافِ فَيضَ ذلك المُرشِدِ الحَقِيقيِّ الَّذي هو كالنَّبعِ السَّلسَبِيلِ الباعِثِ على الحَياةِ؛ ولكِن بفَضلِ ذلك الفَيضِ نَفسِه يُمكِنُنا أن نُبيِّنَ ذلك الفَيضَ وذلك السَّلسَبِيلَ لِأَهلِ القُلُوبِ وأَصحابِ الأَحوالِ، كُلٍّ حَسَبَ دَرَجَتِه، فـ”الكَلِماتُ” والأَنوارُ المُستَقاةُ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ (أي: رَسائِلُ النُّورِ) إذًا لَيسَت مَسائِلَ عِلمِيّةً عَقلِيّةً وَحْدَها، بل أَيضًا مَسائِلُ قَلبِيّةٌ، ورُوحِيّةٌ، وأَحوالٌ إِيمانيّةٌ.. فهِي بمَثابةِ عُلُومٍ إِلهِيّةٍ نَفِيسةٍ ومَعارِفَ رَبّانيّةٍ سامِيةٍ.
[النقطة الرابعة: مسلك النور هو مسلك الصحابة الكرام]
النُّقطة الرَّابِعة:
إنَّ الصَّحابةَ الكِرامَ والتَّابِعِينَ وتابِعِي التَّابِعِينَ -رِضوانُ اللهِ علَيْهِم- مِمَّن لَهُم أَرفَعُ المَراتِبِ، وحَظُوا بالوِلايةِ الكُبْرَى، قد تَلَقَّت جَمِيعُ لَطائِفِهِم حَظَّها مِنَ القُرآنِ مُباشَرةً، فأَصبَحَ القُرآنُ لهم مُرشِدًا حَقِيقيًّا وكافِيًا، وهذا يَعنِي ويَدُلُّ على أنَّ القُرآنَ مِثلَما يُعبِّرُ عنِ الحَقائِقِ في كلِّ زَمانٍ فإنَّه يُفِيضُ بفُيُوضاتِ الوِلايةِ الكُبْرَى على مَن هو أَهلٌ لها في كلِّ وَقتٍ.
نعم، إنَّ العُبُورَ مِنَ الظّاهِرِ إلى الحَقِيقةِ إنَّما يكُونُ بصُورَتَينِ:
الأُولَى: الدُّخُولُ إلى بَرزَخِ الطَّرِيقةِ وقَطعِ المَراتِبِ فيها بالسَّيرِ والسُّلُوكِ حتَّى بُلُوغِ الحَقِيقةِ.
الصُّورةُ الثَّانيةُ: العُبُورُ إلى الحَقِيقةِ مُباشَرةً برَحْمةٍ إِلهِيّةٍ مَحْضةٍ، دُونَ الدُّخُولِ في بَرزَخِ الطَّرِيقةِ، هذا الطَّرِيقُ خاصٌّ ورَفِيعٌ وسامٍ وقَصِيرٌ جِدًّا، وهُو طَرِيقُ الصَّحابةِ الكِرامِ والتَّابِعِينَ رِضوانُ اللهِ علَيْهِم.
فإذًا الأَنوارُ المُتَرشِّحةُ مِن حَقائِقِ القُرآنِ و”الكَلِماتُ” الَّتي تُتَرجِمُ تلك الأَنوارَ يُمكِنُ أن تكُونَ مالِكةً لتلك الخاصِّيّةِ، بل هي مالِكةٌ لها فِعلًا.
[النقطة الخامسة: رسائل النور تؤدي وظيفة الإرشاد]
النُّقطة الخَامِسة:
سنُبيِّنُ بخَمسةِ أَمثِلةٍ جُزئِيّةٍ أنَّ “الكَلِماتِ” مِثلَما تُعَلِّمُ حَقائِقَ القُرآنِ فهِي تُؤَدِّي وَظِيفةَ الإِرشادِ أَيضًا.
المِثالُ الأوَّل: لقدِ اقتَنَعتُ أنا بالذَّاتِ قَناعةً تامّةً بَعدَ أُلُوفِ التَّجارِبِ المُتَكرِّرةِ -لا بعَشَراتِها ومِئاتِها فحَسْبُ- أنَّ “الكَلِماتِ” والأَنوارَ المُفاضةَ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ مِثلَما تُرشِدُ عَقلِي وتُعَلِّمُه، تُلَقِّنُ قَلبِي أَيضًا بأَحوالٍ إِيمانيّةٍ، وتُطعِمُ رُوحِي أَذْواقًا إِيمانيّةً.. وهكذا حتَّى أَصبَحتُ في إِنجازِ أَعمالي الدُّنيَوِيّةِ كمِثلِ ذلك المُرِيدِ الَّذي يَنتَظِرُ مَدَدًا مِن شَيخِه ذِي الكَراماتِ، إذ أَصبَحتُ أَستَمِدُّ مِنَ الأَسرارِ القُرآنيّةِ ذاتِ الكَرامةِ وأَنتَظِرُ مِنها حاجاتي تلك، فكانَت تَحصُلُ بما لا أَتَوقَّعُه ولَيسَ بالحُسبانِ.
[أمثلةٌ على كرامات القرآن بحقِّنا]
وسأَذكُرُ هنا مِثالَينِ فحَسْبُ مِن تلك الجُزئيّاتِ الحاصِلةِ ببَرَكةِ أَسرارِ القُرآنِ:
الأوَّل: ما وُضِّحَ مُفَصَّلًا في “المَكتُوب السّادِسَ عَشَرَ” وهو:
أنَّه قد أُشهِدَ لِضَيفِي “سُلَيْمانَ” رَغِيفٌ كَبِيرٌ خارِقٌ وهو مَوضُوعٌ فَوقَ شَجَرةِ القَطِرانِ. أَكَلْنا مِن تلك الهَدِيّةِ الغَيبِيّةِ يَومَينِ كامِلَينِ (في الوَقتِ الَّذي ما كُنتُ أَملِكُ شَيئًا أُقَدِّمُه لِضَيْفِي).
الثَّاني: وهو مَسأَلةٌ في غايةِ الجُزئيّةِ واللَّطافةِ قد حَدَثَت في هذه الأَيّامِ وهي:
وَرَد لِخاطِرِي قَبلَ الفَجرِ أنَّ كَلامًا مِن جِهَتِي قد قِيلَ لِشَخصٍ، بصِيغةٍ تُلقِي في قَلبِه الرُّيُوبَ والشُّبَهَ، فقُلتُ: حَبَّذا لو رَأَيتُه لِأُزِيلَ ما بقَلبِه مِن أَكدارٍ. وفي الدَّقِيقةِ نَفسِها تَذَكَّرتُ ما كان يَلزَمُني مِن جُزءٍ مِن كِتابِي المُرسَلِ إلى مَدِينةِ “نِيس”، فقُلتُ: حَبَّذا لو حَصَلتُ علَيْه! جَلَستُ بَعدَ صَلاةِ الفَجرِ، وإذا بالشَّخصِ نَفسِه وفي يَدِه جُزءٌ مِن كِتابِي الَّذي كُنتُ أُرِيدُه فدَخَل عَلَيَّ، فقُلتُ له:
ما هذا الَّذي بِيَدِك؟
لا أَعرِفُ، فقد سَلَّمَني هذا الكِتابَ في البابِ أَحَدُهُم كانَ قادِمًا مِن “نِيس”، وأنا بِدَورِي أَتَيتُ به إلَيْكُم.
فقُلتُ مُتَعجِّبًا: يا سُبحانَ اللهِ! إنَّ خُرُوجَ هذا الرَّجُلِ مِن بَيتِه (في هذا الوَقتِ) ومَجِيءَ هذا الجُزءِ مِنَ الكَلِماتِ مِن “نِيس” لا يَبدُو علَيْه أَثَرُ المُصادَفةِ قَطْعًا، فلَيسَ هذا إلّا مِن هِمّةِ القُرآنِ الكَرِيمِ الَّتي سَلَّمَتْ جُزءَ الكِتابِ في الوَقتِ نَفسِه إلى هذا الرَّجُلِ وأَرسَلَتْه إلَيَّ.. فحَمِدتُ اللهَ كَثِيرًا.
إذاً فإنَّ الَّذي يَعرِفُ أَدَقَّ رَغَباتِ قَلبِي بل أَتفَهَها يُسبِغُ علَيَّ رَحْمتَه ويَحمِينِي بحِماه، فلا أَحمِلُ إِذًا أيّةَ مِنّةٍ وتَفَضُّلٍ مَهْما كانَت مِن أَحَدٍ من الدُّنيا كُلِّها، ولا آخُذُها بشَيءٍ.
المِثالُ الثَّاني: لقد تَرَكَني ابنُ أَخِي “عَبدُ الرَّحمَنِ” مُنذُ ثَماني سَنَواتٍ، وعلى الرَّغمِ مِن تَلوُّثِه بغَفَلاتِ الدُّنيا وشُبُهاتِها وأَوْهامِها فإنَّه كانَ يَحمِلُ تِجاهِي ظَنًّا حَسَنًا بما يَفُوقُ حَدِّي بكَثِيرٍ.. لِذا طَلَب مِنِّي أن أُسعِفَه وأُمِدَّه بما لَيسَ عِندِي ولَيسَ في طَوْقِي مِن هِمّةٍ، ولكِنَّ هِمّةَ القُرآنِ ومَدَدَه قد أَغاثَه، وذلك بأن أَوْصَلَ إلَيْه “الكَلِمةَ العاشِرةَ” الَّتي تَخُصُّ (الحَشرَ) قَبلَ وَفاتِه بثَلاثةِ أَشهُرٍ.
فأَدَّت تلك الرِّسالةُ دَوْرَها في تَطهِيرِه مِن لَوْثاتٍ مَعنَوِيّةٍ وكُدُوراتِ الأَوْهامِ والشُّبُهاتِ والغَفْلةِ، حتَّى كأنَّه قدِ ارتَفَع إلى ما يُشبِهُ مَرتَبةَ الوِلايةِ، حَيثُ أَظهَرَ ثَلاثَ كَراماتٍ ظاهِرةٍ في رِسالَتِه الَّتي كَتَبَها إِلَيَّ قَبلَ وَفاتِه، وقد أَدرَجتُ رِسالَتَه تلك ضِمنَ فِقْراتِ “المَكتُوبِ السَّابِعِ والعِشرِينَ”، فليُراجَع.
المِثالُ الثَّالثُ: كانَ لي أَخٌ في الآخِرةِ وطالِبٌ في الوَقتِ نَفسِه وهُو مِن أَهلِ القَلبِ والتَّقوَى هو “حَسن أَفَندِيّ” مِن مَدِينةِ “بُوردُور”، كان يَنتَظِرُ مِن هذا المِسكِينِ مَدَدًا وهِمّةً كمَن يَنتَظِرُ مِن وَلِيٍّ عَظِيمٍ، وذلك لِفَرْطِ ظَنِّه الحَسَنِ بي بما هو فَوقَ طَوْقِي وحَدِّي. وفَجْأةً ودُونَ مُناسَبةٍ، أَعطَيتُ لِأَحَدِ ساكِنِي قُرَى “بُوردُور” رِسالةَ “الكَلِمةِ الثَّانيةِ والثَّلاثِينَ” لِيُطالِعَها، ثمَّ تَذَكَّرتُ “حَسَن أَفَندِيّ” فقُلتُ: إنْ سافَرتَ إلى “بُوردُور” فسَلِّم الرِّسالةَ إلى “حَسَن أَفَندِيّ” لِيُطالِعَها في بِضْعةِ أَيّامٍ.. سافَر الرَّجُلُ، وقد سَلَّم الرِّسالةَ مُباشَرةً إلى “حَسَن أَفَندِيّ”، قَبلَ أن يُوافِيَه الأَجَلُ بأَربَعِينَ يَومًا.
تَسلَّمَ الرِّسالةَ بشَوقٍ ولازَمَها بلَهْفةٍ ونَهَل مِنها كالمُتَعطِّشِ إلى الماءِ السَّلسَبِيلِ، وكُلَّما كَرَّر مُطالَعَتَها استَفاضَ مِنها فُيُوضاتٍ، فاستَمَرَّ في القِراءةِ حتَّى وَجَد فيها دَواءً لِدائِه، ولا سِيَّما في مَبحَثِ “مَحَبّة الله” في المَوقِفِ الثّالِثِ مِنها، بل وَجَد فيها فُيُوضاتٍ كانَ يَنتَظِرُها مِنَ القُطْبِ الأَعظَمِ، فذَهَب بنَفسِه سالِمًا صَحِيحًا إلى الجامِعِ وأَدَّى صَلاتَه ثمَّ سَلَّم رُوحَه هناك.. رَحِمَه اللهُ رَحْمةً واسِعةً.
المِثالُ الرَّابعُ: إنَّ “السَّيِّدَ خُلُوصِي” قد وَجَد هِمّةً ومَدَدًا وفَيضًا ونُورًا في “الكَلِماتِ” الَّتي هي تَرجُمانُ الأَسرَارِ القُرآنيّةِ، أَكثَرَ مِمّا وَجَدَه في الطَّرِيقةِ النَّقشَبَندِيّةِ الَّتي هي أَهَمُّ طَرِيقةٍ وأَكثَرُها تَأْثِيرًا؛ وقد ذُكِرَتْ شَهادَتُه هذه في “المَكتُوبِ السّابِعِ والعِشرِينَ”.
المِثالُ الخَامِسُ: إنَّ أَخِي “عَبدَ المَجِيدِ” قد شَعَر بانْهِيارٍ واضطِرابٍ شَدِيدَينِ بسَبَبِ انتِقالِ ابنِ أَخِي “عَبدِ الرَّحمَنِ” إلى رَحْمةِ الله، ولِأَحوالٍ أَلِيمةٍ وأَوْضاعٍ مُحزِنةٍ أَلَمَّت به، كانَ يَأمُلُ مِنِّي ما لا أَقدِرُ علَيْه مِن هِمّةٍ ومَدَدٍ مَعنَوِيٍّ؛ ومعَ أنِّي ما كُنتُ أُراسِلُه، إلّا أنَّني بَعَثتُ إلَيْه فَجْأةً بِضْعَ رَسائِلَ مِنَ “الكَلِماتِ“. كَتَبَ إِلَيَّ بعدَ أن قَرَأَها: لقد نَجَوتُ، والحَمدُ للهِ، فقد كُنتُ على وَشْكِ الجُنُونِ، ولكِن بفَضل اللهِ أَخَذتْ كلُّ كَلِمةٍ مِن تلك الكَلِماتِ مَوقِعَ مُرشِدٍ لي.. ولَئِن فارَقتُ مُرشِدًا واحِدًا فقد وَجَدتُ -دُفعةً واحِدةً- مُرشِدِينَ كَثِيرِينَ فنَجَوتُ والحَمدُ للهِ.
وأنا بدَوْرِي تَأمَّلتُ في حالِه، فعَلِمتُ أنَّه حقًّا قد دَخَل مَسْلَكًا جَمِيلًا وقد نَجا بفَضلِ اللهِ مِن أَوْضاعِه السّابِقةِ.
وهناك أَمثِلةٌ أُخرَى كَثِيرةٌ شَبِيهةٌ بهذه الأَمثِلةِ الخَمسةِ المَذكُورةِ، وكُلُّها تُبيِّنُ أنَّ العُلُومَ الإيمانيّةَ، ولاسِيَّما إذا أُخِذَتِ العِلاجاتُ المَعنَوِيّةُ نَظَرًا لِلحاجةِ ودَواءً لِلأَمراضِ مِن أَسرارِ القُرآنِ الكَرِيمِ مُباشَرةً وجُرِّبَت عَمَلِيًّا، فإنَّ تلك العُلُومَ الإيمانيّةَ وتلك الأَدْوِيةَ الرُّوحانيّةَ كافِيةٌ ووافِيةٌ لِمَن يَشعُرُ باحتِياجِه إلَيْها ومَن يَستَعمِلُها بإِخلاصٍ جادٍّ. ولا يُؤَثِّرُ في الأَمرِ وَضعُ الصَّيدلانِيِّ الَّذي يَبِيعُ تلك الأَدْوِيةَ والدَّلّالِ الَّذي يَدُلُّ علَيْها، أي: سَواءٌ أَكانَ شَخْصًا اعتِيادِيًّا مُفلِسًا أم غَنِيًّا ذا مَقامٍ أو خادِمًا مِسكِينًا، أيًّا كانَ وَضْعُه فلا فَرقَ في ذلك. نعم، إنَّه لا حاجةَ إلى الِاستِضاءةِ بنُورِ الشُّمُوعِ ما دامَت هُنالِك شَمسٌ ساطِعةٌ.
فما دُمتُ أُبيِّنُ الشَّمسَ نَفسَها، فلا حاجةَ ولا مَعنَى لِطَلَبِ ضَوْءِ شَمعةٍ مِن شَخصِي، ولا سِيَّما إن لم يكُن عِندِي ولا أَملِكُه، بلِ الأَلزَمُ أن يُمِدَّني أُولَئِك مَدَدًا مَعنَوِيًّا بدَعَواتِهِم بل بِهِمَّتِهِم، فمِن حَقِّي أن أَطلُبَ مَدَدَهُم وعَوْنَهُم، ويَنبَغِي لَهُم أن يَرضَوْا ويَكتَفُوا بما يَستَفِيضُونَ مِن أَنوارِ الرَّسائِلِ.
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
﴿اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَاةً تَكُونُ لَكَ رِضَاءً، ولِحَقِّهِ أَدَاءً، وعَلَى آلِه وصَحبِه وسَلِّم﴾
❀ ❀ ❀
[تتمة: كرامات قرآنية في رسائل النور]
رِسِالة صَغِيرَة وخَاصَّة
يُمكن عدُّها تَتمَّة للمَسألة الثَّالِثة مِن المَكتُوب الثَّامِن والعِشرِين
يا إِخوةَ الآخِرةِ ويا طالبَيَّ المُجِدَّينِ السَّيِّد خُسرَو والسَّيِّد رَأفَت..
كُنَّا نَستَشعِرُ ثَلاثَ كَراماتٍ قُرآنيّةٍ في “الكَلِماتِ” الَّتي هي مِن فُيُوضاتِ أَنوارِ القُرآنِ، بَيدَ أنَّكُم بِهِمَّتِكُم وسَعيِكُم وشَوقِكُم قد أَضَفتُم إلَيْها أَيضًا كَرامةً أُخرَى رابِعةً؛ أمَّا الثَّلاثُ المَعرُوفةُ فهي:
أوَّلًا: السُّهُولةُ والسُّرعةُ فَوقَ المُعتادِ في تَأليفِها، حتَّى إنَّ “المَكتُوبَ التَّاسِعَ عَشَرَ” المُتَكوِّنَ مِن خَمسةِ أَقسامٍ أُلِّفَ في حَوالَيْ ثَلاثةِ أَيّامٍ خِلالَ ما يَقرُبُ مِن أَربَعِ ساعاتٍ يَومِيًّا، أي: بمَجمُوعِ اثنَتَيْ عَشْرةَ ساعةً، وفي شِعابِ الجِبالِ وخِلالَ البَساتِينِ دُونَ أن يكُونَ هُنالِك كِتابٌ نَرجِعُ إلَيْه؛ و”الكَلِمةُ الثَّلاثُونَ” أُلِّفَت في وَقتِ المَرَضِ خِلالَ خَمسِ أو سِتِّ ساعاتٍ؛ و”الكَلِمةُ الثّامِنةُ والعِشرُونَ” -وهي مَبحَثُ الجَنّة- أُلِّفَت خِلالَ ساعةٍ أو ساعَتَينِ، في بُستانِ “سُلَيْمانَ” بالوادِي، حتَّى تَحَيَّرنا أنا وتَوفِيقُ وسُلَيْمانُ مِن هذه السُّرعةِ الَّتي تَمَّت بها.. وهكذا.
وكما أنَّ في تَأْلِيفِها هذه الكَرامةَ القُرآنيّةَ التاليةَ، كَذلِك:
ثانيًا: في كِتابَتِها سُهُولةٌ فَوقَ المُعتادِ، وشَوقٌ عارِمٌ، معَ عَدَمِ السَّأَمِ والمَلَلِ؛ عِلْمًا أنَّ هُنالِك أَسبابًا كَثِيرةً تُورِثُ السَّأَمَ لِلأَرواحِ والعُقُولِ في هذا الزَّمانِ.. ولكِن ما إن تُؤَلَّفُ إِحدَى “الكَلِماتِ” حتَّى تُستَنسَخَ في أَماكِنَ كَثِيرةٍ ويُقَدَّمَ استِنساخُها على كَثِيرٍ مِنَ المَشاغِلِ المُهِمّةِ.. وهكذا.
الكَرامةُ القُرآنيّةُ الثَّالثةُ: إنَّ قِراءَتَها أَيضًا لا تُورِثُ السَّأَمَ، ولا سِيَّما إذا ما استُشعِرَتِ الحاجةُ إِلَيْها، بل كُلَّما قُرِئَت زادَ الذَّوقُ والشَّوقُ ولا يُسأَمُ مِنها.
وأَنتُما كَذلِك يا أَخَوَيَّ قد أَثبَتُّما كَرامةً قُرآنيّةً رابِعةً، فأَخُونا “خُسرَو” الَّذي يُطلِقُ على نَفسِه الكَسلانَ، والَّذي تَقاعَسَ عنِ الكِتابةِ مُذ أن سَمِعَ بـ”الكَلِماتِ” مُدّةَ خَمسِ سَنَواتٍ، فإنَّ كِتابَتَه خِلالَ شَهرٍ واحِدٍ لِأَربَعةَ عَشَرَ كِتابًا كِتابةً جَمِيلةً مُتقَنةً كَرامةٌ لِلأَسرارِ القُرآنيّةِ لا شَكَّ فيها، ولا سِيَّما رِسالةَ “المَكتُوبِ الثّالِثِ والثَّلاثِينَ” وهي رِسالةُ (النَّوافِذ) الَّتي قُدِرَت حَقَّ قَدْرِها حَيثُ كُتِبَت أَجمَلَ وأَجوَدَ كِتابةٍ؛ نعم إنَّ تلك الرِّسالةَ رِسالةٌ قَوِيّةٌ وساطِعةٌ في مَعرِفةِ اللهِ والإِيمانِ به، إلّا أنَّ النَّوافِذَ الأُولَى الَّتي في مُستَهَلِّ الرِّسالةِ مُجمَلةٌ جِدًّا ومُختَصَرةٌ، عِلْمًا أنَّها تَتَوضَّحُ تَدرِيجِيًّا وتَسطَعُ.. حَيثُ إنَّ مُقدِّماتِ مُعظَمِ الكَلِماتِ، تَبدَأُ مُجمَلةً ثمَّ تَتَوضَّحُ تَدرِيجِيًّا وتَتَنوَّرُ بخِلافِ سائِرِ المُؤَلَّفاتِ.
❀ ❀ ❀
[المسألة الرابعة: توعيةٌ لطلاب النور في أربع نقاط]
المَسألة الرَّابِعة وهِي الرِّسَالة الرَّابِعة
بِاسْمِهِ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه
جَوابٌ عن سُؤال يَخُصُّ حادِثةً جُزئيّةً، يَكُونُ مَبعَثَ انتِباهٍ ويَقَظةٍ لِإِخواني.
إِخواني الأَعِزَّاءَ..
تَسأَلُونَ: لقدِ اعتُدِيَ على مَسجِدِكُمُ المُبارَكِ لَيْلةَ الجُمُعةِ بغَيرِ سَبَبٍ، عِندَ قُدُومِ ضَيفٍ كَرِيمٍ، فما سِرُّ هذه الحادِثةِ؟ ولِمَ يُضايِقُونَك؟
الجَوابُ: أُبيِّنُ أَربَعَ نِقاطٍ مُضطَرًّا وبلِسانِ “سَعِيدٍ القَدِيمِ”، عَلَّها تكُونُ مِحوَرَ يَقَظةٍ لِإخواني، وأَنتُم بدَوْرِكُم تَأخُذُونَ مِنها جَوابَكُم.
[النقطة الأولى: لا تُظهِر للعدو ضَعفًا]
النُّقطَة الأُولَى:
إنَّ مَاهِيّةَ تِلك الحَادِثةِ دَسِيسةٌ شَيطانيّةٌ، وتَعَرُّضٌ نِفاقِيٌّ، في سَبِيلِ إِرضاءِ الزَّندَقةِ، خِلافًا لِلقانُونِ وبمَحْضِ الهَوَى، وذَلك لِإلقاءِ القَلَقِ في قُلُوبِنا لَيْلةَ الجُمُعةِ، وبَثِّ الفُتُورِ في رُوحِ الجَماعةِ، ولِيَحُولُوا دُونَ لِقائي بالضُّيُوفِ.
ومِن غَرائِبِ الأُمُورِ: أنَّه قَبلَ يَومٍ مِن تلك اللَّيْلةِ -أي: يَومِ الخَمِيسِ- كُنتُ ذاهِبًا إلى جِهةٍ مّا لِلتَّفَسُّحِ، فرَأَيتُ أَثناءَ عَوْدَتي حَيّةً سَوْداءَ طَوِيلةً -كأنَّها حَيَّتانِ اقتَرَنَتا ببَعضِهِما- أَتَت مِنَ اليَسارِ، ومَرَّت بَينِي وبَينَ صاحِبِي، فأَرَدتُ أن أَعرِفَ مَدَى فَزَعِه مِنها فسَأَلتُه:
أَرَأَيتَ؟
قَال: مَاذَا؟
قُلتُ: هَذه الحَيّةَ المُخِيفةَ! قَال: لَا لَم أَرَها، ولَا أَرَاهَا!
قُلتُ مُتَعجِّبًا: يَا سُبحانَ اللهِ! كَيفَ لَم تَرَ مِثلَ هَذه الحَيّةِ الضَّخمةِ الَّتي مَرَّت مِن بَينِنا؟
لَم يَرِد شَيءٌ في خاطِرِي في تلك الحالةِ، ولكِن بَعدَ حِينٍ وَرَد إلى القَلبِ: إِنَّ هذه إِشارةٌ إلَيْك فاحْذَرْ، ففَكَّرتُ في الأَمرِ، وعَرَفتُ أنَّها كانَت مِنَ الحَيّاتِ الَّتي أَرَاهَا في المَنامِ، أَعنِي أنَّني كُنتُ أَرَى المُوَظَّفَ المَسؤُولَ الَّذي يَأتِينِي بنِيّةِ الخِيانةِ على صُورةِ حَيّةٍ، حتَّى إنَّني قد ذَكَرتُ ذلك في إِحدَى المَرّاتِ لِمُدِيرِ النّاحِيةِ، فقُلتُ له:
عِندَما تَأتِينِي بنِيّةٍ سَيِّئةٍ، أَرَاك في صُورةِ حَيّةٍ! فاحْذَرْ!
وفي الحَقِيقةِ كُنتُ كَثِيرًا ما أَرَى سَلَفَه على تلك الصُّورةِ! بمَعنَى أنَّ هذه الحَيّةَ الَّتي رَأَيتُها ظاهِرةً إِشارةٌ إلى أنَّ خِيانَتَهُم في هذه المَرّةِ ستَأخُذُ صُورةَ اعتِداءٍ فِعلِيٍّ، لا تَظَلُّ في صُورةِ نِيَّةٍ مُبَيَّتةٍ.
وعلى الرَّغمِ مِن أنَّ اعتِداءَهُم هذه المَرَّةَ كَان اعتِداءً صَغِيرًا، وهُم يُحاوِلُونَ استِصغارَه، ولكِن بتَحرِيضٍ مِن مُعلِّمٍ فاقِدٍ لِلضَّمِيرِ وبمُشارَكَتِه، أَصدَرَ المَسؤُولُ أَمرًا لِلدَّرَكِ: “اِجلِبُوا أُولَئِك الضُّيُوفَ”، ونَحنُ في أَذكارِ الصَّلاةِ في المَسجِدِ.. والغايةُ مِن هذا التَّصَرُّفِ هو إِغضابِي، ولِأُقابِلَهُم بالرَّفضِ والطَّردِ -بأَحاسِيسِ “سَعِيدٍ القَدِيمِ”- إِزاءَ هذا التَّصرُّفِ الِاعتِباطِيِّ غَيرِ القانُونِيِّ.
ولم يَدرِ ذلك الشَّقِيُّ أنَّ سَعِيدًا لا يُدافِعُ بعَصًا مَكسُورةٍ في يَدِه، وفي لِسانِه سَيفٌ أَلْماسِيٌّ مِن مَصنَعِ القُرآنِ الحَكِيمِ، بل يَستَعمِلُ ذلك السَّيفَ.
بَيدَ أنَّ أَفرادَ الدَّرَكِ كانُوا رَزِينِينَ راشِدِينَ، فانتَظَرُوا إلى اختِتامِ الصَّلاةِ والأَذكارِ -حَيثُ لا تَتَدخَّلُ أيّةُ حُكُومةٍ أو دَوْلةٍ في الصَّلاةِ وفي المَسجِدِ ما لم يَنتَهِ أَداءُ الصَّلَواتِ والأَذكارِ- فغَضِبَ المَسؤُولُ مِن عَمَلِهِم هذا وأَرسَلَ عَقِبَهُمُ الحَارِسَ قائِلًا: إنَّ الدَّرَكَ لا يُطِيعُونَنِي! ولكِنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى لا يَشغَلُني بمِثلِ هذه الحَيَّاتِ، وأُوصِي إِخوانِي: لا تَنشَغِلُوا بِهَؤُلاءِ ما لم تكُن هُنالِك ضَرُورةٌ قاطِعةٌ، بل تَرَفَّعُوا عنِ التَّـكلُّمِ مَعَهُم، إذ “جَوابُ الأَحمَقِ السُّكُوتُ”.. ولكِنِ انتَبِهُوا إلى هذه النُّقطةِ:
كما أنَّ إِظهارَ نَفسِك ضَعِيفًا تِجاهَ حَيَوانٍ مُفتَرِسٍ يُشَجِّعُه على الهُجُومِ علَيْك، كَذلِك إِظهارُ الضَّعفِ بالتَّـزَلُّفِ إلى مَن يَحمِلُ طِباعَ الحَيَوانِ المُفتَرِسِ يَسُوقُه إلى الِاعتِداءِ.
لِذا يَنبَغِي لِلأَصدِقاءِ أن يَتَصرَّفُوا بحَذَرٍ لِئَلّا يَستَغِلَّ المُوالُونَ لِلزَّندَقةِ عَدَمَ مُبالاتِهِم وغَفْلَتَهُم.
[النقطة الثانية: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار]
النُّقطَة الثَّانِية:
﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾
هَذه الآيةُ الكَرِيمةُ تَتَضمَّنُ تَهدِيدًا شَدِيدًا، أي: أنَّ أُولَئِك الَّذِينَ يكُونُونَ أَداةً بِيَدِ الظَّالِمِينَ ويُوالُونَهُم ويَنحازُونَ إلَيْهِم، بل حتَّى لو كانُوا يَحمِلُونَ أَدنَى مَيلٍ وعَطفٍ نَحوَهُم، يُصِيبُهُمُ التَّهدِيدُ المُرعِبُ.
لِأنَّ الرِّضَا بالظُّلمِ ظُلمٌ، كما أنَّ الرِّضَا بالكُفرِ كُفرٌ.
ولقد عَبَّر أَحَدُهُم -مِن أَهلِ الكَمالِ- تَعبِيرًا كامِلًا عن جَوهَرةٍ مِن جَواهِرِ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ بالبَيتَينِ الآتِيَينِ:
لا يُعِينُ الظَّالِمَ على ظُلمِه إلّا أَربابُ الدَّناءة
إذ لا يَلتَذُّ مِن خِدْمتِه للصَّيّادِ الظَّالِمِ إلَّا الكَلبُ
نعم، إنَّ بَعضَهُم يَتَصرَّفُ تَصَرُّفَ الحَيّةِ، وبَعضَهُم يَعمَلُ عَمَلَ الكَلبِ.
إنَّ الَّذي يَتَجسَّسُ علَيْنا في مِثلِ هذه اللَّيْلةِ المُبارَكةِ، وعلى ضَيفٍ كَرِيمٍ، وأَثناءَ الدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ إلى اللهِ؛ ويُخبِرُ عَنّا وكأَنَّنا نَرتَكِبُ جَرِيمةً، ومِن بَعدِ ذلك يَتَعدَّى هذا التَّعَدِّيَ، لا شَكَّ أنَّه مُعَرَّضٌ لِلتَّأنِيبِ الوارِدِ في مَعنَى البَيتِ السَّابِقِ.
[النقطة الثالثة: الراضي بالضرر لا يُنظر له]
النُّقطَة الثَّالِثة:
سُؤالٌ: ما دُمتَ تَعتَمِدُ على قُوّةِ القُرآنِ الكَرِيمِ وتَستَنِدُ إلى هِمَّتِه وتَستَلهِمُ الفُيُوضاتِ مِنه لِإرشادِ أَعتَى المُلحِدِينَ وأَشَدِّهِم تَمَرُّدًا في سَبِيلِ إِصلاحِهِم، وأنَّك فِعلًا تَقُومُ بهذا وما تَزالُ كَذلِك، فلِماذا لا تَدعُو القَرِيبِينَ مِنك مِنَ المُتَجاوِزِينَ المُتَعدِّينَ، وتُرشِدُهُم إلى سَواءِ السَّبِيلِ؟
الجَوابُ: إنَّه مِنَ القَواعِدِ المُهِمّةِ في أُصُولِ الشَّرِيعةِ: “الرّاضِي بالضَّرَرِ لا يُنظَرُ له“، أي: “إنَّ مَن كان راضِيًا بالضَّرَرِ برَغبَتِه وعِلمِه، لا يُنظَرُ له نَظْرةَ إِشفاقٍ وتَرَحُّمٍ”، فأنا أَدَّعِي -مُستَنِدًا إلى فَيضِ القُرآنِ الكَرِيمِ- بأنِّي على استِعدادٍ لِإلزامِ المُلحِدِ المُتَمادِي في الإِلحادِ في غُضُونِ بِضعِ ساعاتٍ وإن لم أُقنِعْه تَمامًا، على شَرطِ ألّا يكُونَ سافِلًا مُنحَطًّا، ومِمَّن يَتَلذَّذُونَ في نَشرِ سُمُومِ الضَّلالةِ، كتَلذُّذِ الحَيّةِ في نَشرِ سُمِّها، إلّا أنَّ مُخاطَبةَ الحَيّاتِ المُتَمثِّلةِ في صُورةِ إِنسانٍ، والكَلامَ معَ صاحِبِ وِجْدانٍ تَرَدَّى في أَسفَلِ سافِلِي الضَّلالةِ المُوغِلةِ في النِّفاقِ حتَّى إنَّه يَبِيعُ دِينَه -على عِلمٍ مِنه- بدُنياه، ويَستَبدِلُ قِطَعًا زُجاجِيّةً تافِهةً قَذِرةً -على عِلمٍ- بالأَلماسِ الثَّمِينِ.. أقُولُ: إنَّ مُخاطَبةَ هَؤُلاءِ وإِظهارَهُم على الحَقائِقِ إِجحافٌ بحَقِّ الحَقِيقةِ وحَطٌّ مِن شَأْنِها، لِأنَّها شَبِيهةٌ بـ “تَعلِيقِ الدُّرَر في أَعناقِ البَقَر” كما جاءَ في المَثَلِ.
لِأنَّ الَّذِينَ يقُومُونَ بمِثلِ هذه الأَعمالِ قد سَمِعُوا تلك الحَقائِقَ مِن “رَسائِلِ النُّورِ” مَرَّاتٍ ومَرَّاتٍ. إلّا أنَّهُم يَرُومُونَ الحَطَّ مِن قِيمةِ الحَقائِقِ معَ مَعرِفَتِهِم بها، إِرضاءً لِلضَّلالةِ والزَّندَقةِ.. فهَؤُلاءِ كالحَيّاتِ الَّتي تَتَلذَّذُ بالسُّمِّ.
[النقطة الرابعة: استبدادٌ فظيع بمزاعم قانونية]
النُّقطَة الرَّابِعة:
إنَّ صُوَرَ التَّعامُلِ مَعِي خِلالَ هذه السَّنَواتِ السَّبعِ لَيسَ إلّا تَصَرُّفاتٍ اعتِباطِيّةً مَبنِيّةً على الهَوَى، وهِي سُلُوكٌ غَيرُ قانُونِيٍّ مَحضٌ، لِأنَّ قانُونَ المَنفِيِّينَ والمَوقُوفِينَ والمَسجُونينَ، مَعرُوفٌ لَدَى الجَمِيعِ وظاهِرٌ لَدَيهِم؛ فهُم -حَسَبَ القانُونِ- يَلتَقُونَ أَقارِبَهُم، ولا يُمنَعُونَ عنِ الِاختِلاطِ معَ النّاسِ؛ وأنَّ العِبادةَ وطاعةَ اللهِ مَصُونةٌ في كلِّ دَوْلةٍ وأُمّةٍ؛ وأنَّ أَمثالِي مِنَ المَنفِيِّينَ ظَلُّوا بَينَ أَقارِبِهِم وأَحبابِهِم في المُدُنِ، ولم يُحظَر علَيْهِمُ الِاختِلاطُ والمُراسَلةُ ولا حتَّى السِّياحةُ والتَّفسُّحُ، واستُثنِيتُ وَحْدِي، فقد حُرِمتُ مِن كلِّ ذلك، بل قدِ اعتُدِيَ على عِبادَتِي ومَسجِدِي، فحاوَلُوا صَرْفي عن ذِكرِ كَلِمةِ التَّوحِيدِ عَقِبَ الصَّلاةِ -المَسنُونةِ عِندَ الشَّافِعِيّةِ- وعِندَما أَتَى رَجُلٌ أُمِّيٌّ يُدعَى “شَباب” معَ والِدةِ زَوجَتِه إلى هُنا “بارلا” لِلِاستِجمامِ وأَتانِي بحُكْمِ مَعرِفَتِي له لكَونِه مِن بَلدَتِي، استَدْعاه مِنَ المَسجِدِ ثَلاثةُ أَفرادٍ مِنَ الدَّرَكِ المُسَلَّحِينَ، وحاوَلَ ذلك المَسؤُولُ أن يَستُرَ عَمَلَه غَيرَ القانُونِيِّ قائِلًا: أَستَمِيحُكُمُ العُذرَ.. لا تَلومُونا.. إنَّها مِن مُتَطلَّباتِ الوَظِيفةِ! ثمَّ سُمِحَ له بالذَّهابِ.
فإذا قِيسَت هذه الحادِثةُ معَ سائِرِ المُعامَلاتِ والأُمُورِ، يُفهَمُ أنَّ مُعامَلاتِهِم هي مَحضُ الهَوَى، وأنَّ التَّصَرُّفاتِ اعتِباطِيّةٌ بَحْتةٌ، حَيثُ يُسَلِّطُونَ عَلَيَّ الحَيّاتِ والكِلابَ، وأنا أَتَرفَّعُ عنِ الِانشِغالِ بهم، وأُفوِّضُ أَمرَ أُولَئِك الخُبَثاءِ إلى اللهِ القَدِيرِ لِدَفعِ شُرُورِهِم.
وفي الحَقِيقةِ: إنَّ الَّذِينَ أَثارُوا الحادِثةَ الَّتي كانَتِ السَّبَبَ في التَّهجِيرِ هُمُ الآنَ في مُدُنِهِم، وإنَّ الرُّؤَساءَ ذَوِي النُّفُوذِ هُمُ الآنَ على رُؤُوسِ العَشائِرِ إذ أُطلِقَ سَراحُ الجَمِيعِ، إلّا أنا واثنَينِ مِن إِخوانِ الآخِرةِ، استُثنِينا مِنَ الجَمِيعِ ولم يُطلَق سَراحُنا، عِلْمًا أنَّني غَيرُ مُرتَبِطٍ بعَلاقةٍ بالدُّنيا، وتَعْسًا لها ولتَكُن وَبالًا علَيْهِم. وتَلَقَّيتُ هذا الأَمرَ أَيضًا بالقَبُولِ وقُلتُ: لا بَأسَ به.
ولكِنَّ أَحَدَ ذَينِك الأَخوَينِ قد عُيِّنَ مُفتِيًا في إِحدَى المُدُنِ، فهُو يُسافِرُ ويَسِيحُ بحُرِّيّةٍ في كُلِّ جِهةٍ مِنَ الوَطَنِ إلّا مَدِينَتَه، حتَّى إنَّه يَستَطِيعُ الذَّهابَ إلى العاصِمةِ “أَنقَرة”؛ وتُرِكَ الآخَرُ في وَضعٍ يَتَمكَّنُ مِنَ الِاجتِماعِ بأُلُوفٍ مِن أَحِبّائه في إسطَنبُولَ، وسُمِح له أن يُقابِلَ الأَشخاصَ أيًّا كانُوا.. عِلمًا أنَّ هذَينِ الشَّخصَينِ لَيسَا وَحِيدَينِ مِثلِي -لا أَهلَ لي ولا عِيالَ- بل لَهُم نُفُوذٌ كَبِيرٌ.. وكذا وكذا..
أمّا أنا فقد دَفَعُوني إلى قَريةٍ ووَضَعُوني بَينَ أُناسٍ لا وِجْدانَ لَهُم إِطلاقًا، حتَّى إنَّني لم أَتَمكَّن مِنَ الذَّهابِ إلى قَريةٍ قَرِيبةٍ تَبعُدُ عِشرِينَ دَقِيقةً عن “بارْلا” إلّا مَرَّتَينِ خِلالَ سِتِّ سَنَواتٍ، ولم يَسمَحُوا لي بالذَّهابِ إلى تلك القَريةِ لِقَضاءِ بِضْعةِ أيّامٍ لِلِاستِجمامِ.
وهكذا يُحاوِلُونَ سَحْقِي تَحتَ استِبدادٍ مُضاعَفٍ، عِلمًا أنَّ أيّةَ حُكُومةٍ -مَهْما كانَت- لها قانُونٌ واحِدٌ، فلَيسَ هُناك قانُونٌ حَسَبَ الأَشخاصِ وحَسَبَ القُرَى والأَماكِنِ! بمَعنَى أنَّ القانُونَ الَّذي يُطبِّقُونَه عَلَيَّ لَيسَ قانُونًا قَطُّ، بل هو خُرُوجٌ على القانُونِ، فالمَسؤُولُونَ هنا يَستَغِلُّونَ نُفُوذَ الحُكُومةِ في سَبِيلِ تَنفِيذِ أَغراضِهِمُ الشَّخصِيّةِ.
ولكِن وللهِ الحَمدُ مِئةَ أَلفِ مَرّةٍ، أقُولُ تَحَدُّثًا بالنِّعمةِ: إنَّ جَمِيعَ مُضايَقاتِهِم واستِبداداتِهِم تُصبِحُ كالحَطَبِ لِإشعالِ نارِ الهِمّةِ والغَيْرةِ، لِتَزِيدَ أَنوارَ القُرآنِ سُطُوعًا.
فتلك الأَنوارُ القُرآنيّةُ الَّتي عُومِلَت بالمُضايَقاتِ انبَسَطَت بحَرارةِ الغَيْرةِ والهِمّةِ، حتَّى جَعَلَت جَمِيعَ الوِلايةِ بل أَكثَرَ المُدُنِ في حُكْمِ مَدرَسةٍ، ولم تَنحَصِر في “بارْلا” وَحْدَها.
وحَسِبُوا أنَّهُم قد حَبَسُوني في قَريةٍ، إلّا أنَّ تلك القَريةَ “بارْلا” -وأَنفُ الزَّندَقةِ راغِمٌ- أَصبَحَت كُرسِيَّ الدَّرسِ بفَضلِ اللهِ وبخِلافِ مَأْمُولِهِم، بل أَصبَحَ كَثِيرٌ مِنَ الأَماكِنِ كـ”إسبارْطةَ” في عِدادِ المَدارِسِ.
الحَمدُ للهِ، هَذَا مِن فَضلِ رَبِّي.
❀ ❀ ❀
[المسألة الخامسة: رسالة الشكر]
المَسألة الخَامِسة وهِي الرِّسَالة الخَامِسة
رِسَالة الشُّكر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾
يُفِيضُ القُرآنُ الكَرِيمُ ببَيانِه المُعْجِزِ، ويَحُثُّ على الشُّكْرِ في آياتٍ كَثِيرةٍ، مِنها هذه الآياتُ التَّالِياتُ:
﴿أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾، ﴿أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾، ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾، ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾.
ويُبيِّنُ مِنها أنَّ أَجَلَّ عَمَلٍ يَطلُبُه الخالِقُ الرَّحِيمُ مِن عِبادِه هُو الشُّكْرُ، فيَدعُو النّاسَ إلى الشُّكْرِ دَعْوةً صَرِيحةً واضِحةً، ويُوْلِيه أَهَمِّيّةً خاصّةً بإِظهارِه أنَّ الِاستِغناءَ عنِ الشُّكْرِ تَكْذِيبٌ لِلنِّعَمِ الإلهِيّةِ وكُفْرانٌ بها، ويُهَدِّدُ إِحدَى وثَلاثِينَ مَرّةً في سُورةِ “الرَّحمنِ” بالآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾، تَهدِيدًا مُرْعِبًا، ويُنذِرُ الجِنَّ والإِنسَ إِنذارًا مَهُولًا بِبَيانِه أنَّ عَدَمَ الشُّكْرِ والإِعراضَ عنه تَكْذِيبٌ وإِنكارٌ وجُحُودٌ.
ومِثلَما يُبيِّنُ القُرآنُ الحَكِيمُ أنَّ الشُّكْرَ نَتِيجةُ الخَلْقِ والغايةُ مِنه، فالكَوْنُ الَّذي هُو بمَثابةِ قُرآنٍ كَبِيرٍ مُجَسَّمٍ يُظهِرُ أَيضًا أنَّ أَهَمَّ نَتِيجةٍ لِخَلْقِ الكائِناتِ هي الشُّكْرُ، ذلك لِأَنَّه إذا ما أُنعِمَ النَّظَرُ في الكائِناتِ لَتَبيَّنَ أنَّ هَيْئةَ الكَوْنِ ومُحتَوَياتِه قد صُمِّمَت بشَكْلٍ ووُضِعَت على نَمَطٍ، بحَيثُ تُنتِجُ الشُّكْرَ وتُفْضِي إلَيْه، فكُلُّ شَيْءٍ مُتَطَلِّعٌ ومُتَوَجِّهٌ -مِن جِهةٍ- إلى الشُّكْرِ، حتَّى كأَنَّ أَهَمَّ ثَمَرةٍ في شَجَرةِ الخَلْقِ هذه هي الشُّكْرُ، بل كأَنَّ أَرْقَى سِلْعةٍ مِن بَينِ السِّلَعِ الَّتي يُنتِجُها مَصْنَعُ الكَوْنِ هذا هي الشُّكْر.
ذلك لِأَنَّنا نَرَى أنَّ مَوجُوداتِ العالَمِ قد صُمِّمَت بطِرازٍ يُشبِهُ دائِرةً عَظِيمةً، وخُلِقَتِ الحَياةُ لِتُمَثِّلَ نُقطةَ المَركَزِ فيها، فنَرَى أنَّ جَمِيعَ المَوجُوداتِ تَخدُمُ الحَياةَ وتَرعاها وتَتَوجَّهُ إلَيْها، وتَتَكفَّلُ بتَوْفِير لَوازِمِها ومُؤَنِها.. فخالِقُ الكَوْنِ إِذًا يَختارُ الحَياةَ ويَصطَفِيها مِن بَينِ مَوْجُوداتِه!
ثمَّ نَرَى أنَّ مَوْجُوداتِ عَوالِمِ ذَوِي الحَياةِ هي الأُخرَى قد أُوجِدَت على شَكْلِ دائِرةٍ واسِعةٍ بحَيثُ يَتَبوَّأُ الإِنسانُ فيها مَركزَها؛ فالغاياتُ المَرْجُوّةُ مِنَ الأَحياءِ عادةً تَتَمَركَزُ في هذا الإِنسانِ؛ والخالِقُ الكَرِيمُ سُبحانَه يَحْشُدُ جَمِيعَ الأَحياءِ حَوْلَ الإِنسانِ ويُسَخِّرُ الجَمِيعَ لِأَجْلِه وفي خِدْمَتِه، جاعِلًا مِن هذا الإِنسانِ سَيِّدًا علَيْها وحاكِمًا لَها؛ فالخالِقُ العَظِيمُ إِذًا يَصطَفِي الإِنسانَ مِن بَينِ الأَحياءِ، بل يَجعَلُه مَوْضِعَ إِرادَتِه ونُصْبَ اختِيارِه.
ثمَّ نَرَى أنَّ عالَمَ الإِنسانِ -بل عالَمَ الحَيَوانِ أَيضًا- يَتَشكَّلُ بما يُشبِهُ دائِرةً كذلك، وقد وُضِعَ في مَركَزِها “الرِّزقُ”، وغُرِزَ الشَّوْقُ إلى الرِّزقِ في الإِنسانِ والحَيَواناتِ كافّةً، فنَرَى أَنَّهُم قد أَصبَحُوا جَمِيعًا بهذا الشَّوْقِ خَدَمةَ الرِّزقِ والمُسَخَّرِينَ له؛ فالرِّزقُ يَحكُمُهُم ويَستَولِي علَيْهِم.
ونَرَى الرِّزقَ نَفسَه قد جُعِلَ خَزِينةً عَظِيمةً لَها مِنَ السَّعةِ والغِنَى ما يَحوِي نِعَمًا لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، حتَّى نَرَى القُوّةَ الذّائِقةَ في اللِّسانِ قد زُوِّدَت بأَجهِزةٍ دَقِيقةٍ ومَوازِينَ مَعنَوِيّةٍ حَسّاسةٍ بعَدَدِ المَأْكُولاتِ والمَطْعُوماتِ لِمَعرِفةِ أَذْواقِ نَوعٍ واحِدٍ مِن أَنواعِ الرِّزقِ الكَثِيرةِ، فحَقِيقةُ الرِّزقِ إِذًا هي أَعجَبُ حَقِيقةٍ في الكائِناتِ وأَغناها، وأَغرَبُها، وأَحلاها وأَجمَعُها.
ونَرَى كَذلِك أنَّه مِثلَما يُحِيطُ كلُّ شَيْءٍ بالرِّزقِ ويَستَشرِفُه ويَتَطلَّعُ إلَيْه، فالرِّزقُ نَفسُه أَيضًا -بأَنواعِه جَمِيعًا- قائِمٌ بالشُّكرِ مَعنًى ومادّةً وحالًا ومَقالًا، ويَحصُلُ بالشُّكرِ، ويُنتِجُ الشُّكرَ، ويُبيِّنُ الشُّكرَ ويُرِيه؛ لِأَنَّ اشتِهاءَ الرِّزقِ والِاشتِياقَ إلَيْه نَوْعٌ مِن شُكرٍ فِطْرِيٍّ؛ أمّا الِالتِذاذُ والتَّذَوُّقُ فهُما شُكرٌ أَيضًا، ولكِن بصُورةٍ غيرِ شُعُورِيّةٍ -حَيثُ تَتَمتَّعُ الحَيَواناتُ كافّةً بهذا الشُّكرِ- بَيْدَ أنَّ الإِنسانَ هُو المَخلُوقُ الوَحِيدُ الَّذي يُغيِّرُ ماهِيّةَ ذلك الشُّكرِ الفِطْرِيِّ بانسِياقِه إلى الضَّلالةِ والكُفرِ، فيَتَردَّى مِنَ الشُّكرِ إلى الشِّركِ.
ثمَّ إنَّ ما تَحمِلُه النِّعَمُ -الَّتي هي الرِّزقُ بعَينِه- مِن صُوَرٍ جَمِيلةٍ زاهِيةٍ بَدِيعةٍ، ومِن رَوائِحَ زَكِيّةٍ طَيِّبةٍ شَذِيّةٍ، ومِن طُعُومٍ لَذِيذةٍ ومَذاقاتٍ طَيِّبةٍ، ما هُو إلّا دُعاةٌ وأَدِلّاءُ على الشُّكرِ؛ فهَؤُلاءِ الأَدِلّاءُ والدُّعاةُ المُنادُونَ يُثِيرُونَ بدَعْواهُمُ الشَّوْقَ لَدَى الأَحياءِ، ويَحُضُّونَهُم علَيْه، ويَدفَعُونَهُم بهذا الشَّوقِ إلى نَوعٍ مِنَ الِاستِحسانِ والتَّقدِيرِ والِاحتِرامِ، فيُقِرُّونَ فيهِم شُكرًا مَعنَوِيًّا، ويَلفِتُونَ أَنظارَ ذَوِي الشُّعُورِ إلى التَّأَمُّلِ والإِمعانِ فيها، فيُرَغِّبُونَهُم في الِاستِحسانِ والإِعجابِ، ويَحُثُّونَهُم على احتِرامِ النِّعَمِ السَّابِغةِ وتَقدِيرِها. فتُرشِدُهُم تلك النِّعَمُ إلى طَرِيقِ الشُّكرِ القَوْليِّ والفِعليِّ، وتَدُلُّهُم علَيْه، وتَجعَلُهُم مِنَ الشَّاكِرِينَ، وتُذِيقُهُم مِن خِلالِ الشُّكرِ أَطْيَبَ طَعْمٍ وأَلَذَّه، وأَزكَى ذَوْقٍ وأَنفَسَه، وذلك بما تُظهِرُ لَهُم بأنَّ هذا الرِّزقَ اللَّذِيذَ أوِ النِّعمةَ الطَّيِّبةَ، معَ لَذَّتِه الظَّاهِرةِ القَصِيرةِ المُؤَقَّتةِ يَهَبُ لك بالشُّكرِ التَّفَكُّرَ في الِالتِفاتِ الرَّحمانِيِّ الَّذي يَحمِلُ لَذّةً وذَوْقًا حَقِيقيَّينِ ودائمِيَّينِ وغَيرَ مُتَناهِيَينِ. أي إنَّ الرِّزقَ بتَذكِيرِه بِالْتفاتِ الكَرِيمِ المالِكِ لِخَزائِنِ الرَّحْمةِ الواسِعةِ -تلك الِالتِفاتةِ والتَّكرِمةِ الَّتي لا حَدَّ لِلَذَّاتِها ولا نِهايةَ لِمُتعَتِها- تُذِيقُ الإِنسانَ بهذا التَّأَمُّلِ نَشْوةً مَعنَوِيّةً مِن نَشَواتِ الجَنّةِ الباقِيةِ وهُو بَعدُ لم يُغادِرْ هذه الدُّنيا.
في الوَقتِ الَّذي يكُونُ الرِّزقُ بواسِطةِ الشُّكرِ خَزِينةً واسِعةً جامِعةً تَطفَحُ بالغَناءِ والمُتْعةِ، يَتَردَّى تَرَدِّيًا فَظِيعًا جِدًّا بالتَّجافي عنِ الشُّكرِ والِاستِغناءِ عنه.
ولقد بَيَّنّا في “الكَلِمةِ السَّادِسةِ”: أنَّ عَمَلَ القُوّةِ الذّائِقةِ في اللِّسانِ إن كان مُتَوجِّهًا إلى اللهِ سُبحانَه وفي سَبِيلِه، أي: عِندَما تَتَوجَّهُ إلى الرِّزقِ أَداءً لِمُهِمّةِ الشُّكرِ المَعنَوِيِّ، تكُونُ تلك القُوّةُ والحاسّةُ في اللِّسانِ بمَثابةِ مُشرِفٍ مُوَقَّرٍ شاكِرٍ، وتكُونُ بحُكْمِ ناظِرٍ مُحتَرَمٍ حامِدٍ، على مَطابِخِ الرَّحمةِ الإلهِيّة المُطلَقةِ.
ولكِن مَتَى ما قامَت بعَمَلِها رَغبةً في هَوَى النَّفسِ الأَمَّارةِ بالسُّوءِ وإِشباعًا لِنَهَمِها، أي: إذا تَوَجَّهَتْ إلى النِّعمةِ معَ عَدَمِ تَذَكُّرِ شُكرِ المُنعِمِ الَّذي أَنعَمَ علَيْه بالرِّزقِ، تَهبِطُ تلك القُوّةُ الذّائِقةُ في اللِّسانِ مِن ذلك المَقامِ السَّامِي -مَقامِ الرَّاصِدِ الأَمِينِ- إلى دَرَجةِ بَوَّابِ مَصنَعِ البَطنِ، وحارِسِ إِسطَبْلِ المَعِدةِ؛ ومِثلَما يَنتَكِسُ خادِمُ الرِّزقِ هذا إلى الحَضِيضِ بالِاستِغناءِ عنِ الشُّكرِ، فماهِيّةُ الرِّزقِ نَفسُها وخُدَّامُ الرِّزقِ الآخَرُونَ كذلك يَهْوُونَ جَمِيعًا بالنِّسبةِ نَفسِها مِن أَسمَى مَقامٍ إلى أَدْناه، بل حَتَّى يَتَدنَّى إلى وَضْعٍ مُبايِنٍ تَمامًا لِحِكْمةِ الخالِقِ العَظِيمِ.
إنَّ مِقْياسَ الشُّكرِ هُو القَناعةُ، والِاقتِصادُ، والرِّضَا، والِامتِنانُ؛ أمَّا مِقْياسُ عَدَمِ الشُّكرِ والِاستِغناءِ عنه فهُو الحِرْصُ، والإِسرافُ، وعَدَمُ التَّقدِيرِ والِاحتِرامِ، وتَناوُلُ كلِّ ما هَبَّ ودَبَّ دُونَ تَميِيزٍ بَينَ الحَلالِ والحَرامِ.
نعم، إنَّ الحِرصَ مِثلَما أنَّه عُزُوفٌ وإِعراضٌ عنِ الشُّكرِ، فهُو أَيضًا قائِدُ الحِرْمانِ ووَسِيلةُ الذُّلِّ والِامتِهانِ، حتَّى كأَنَّ النَّمْلةَ -تلك الحَشَرةَ المُبارَكةَ المالِكةَ لِحَياةٍ اجتِماعِيّةٍ- تُداسُ تَحتَ الأَقدامِ وتَنسَحِقُ، لِشِدّةِ حِرْصِها وضَعْفِ قَناعَتِها، إذ بَينَما تَكْفِيها بِضْعُ حَبَّاتٍ مِنَ الحِنْطةِ في السَّنةِ الواحِدةِ تَراها تَجمَعُ أُلُوفَ الحَبَّاتِ إذا ما قُدِّرَ لَها؛ أمَّا النَّحْلةُ الطَّيِّبةُ فتَجعَلُها قَناعَتُها التَّامَّةُ تَطِيرُ عالِيًا فَوقَ الرُّؤُوسِ، حتَّى إِنَّها تَقنَعُ برِزقِها وتُقَدِّمُ العَسَلَ الخالِصَ لِلإِنسانِ إِحسانًا مِنها بأَمرِ الإلهِ العَظِيمِ جَلَّ جَلالُه.
نعم، إنَّ اسمَ “الرَّحمنِ” الَّذي هُو أَعظَمُ أَسمائِه سُبحانَه وتَعالَى بَعدَ لَفْظِ الجَلالةِ “الله” الَّذي هُو الِاسمُ الأَعظَمُ والِاسمُ العَلَمُ لِلذَّاتِ الأَقْدَسِ؛ فهذا الِاسمُ “الرَّحمنُ” يَتوَجَّهُ إلى الرِّزقَ، لِذا يُمكِنُ الوُصُولُ إلى أَنوارِ هذا الِاسمِ العَظِيمِ بالشُّكرِ الكامِنِ في طَوايا الرِّزقِ، عِلْمًا أنَّ أَبرَزَ مَعاني “الرَّحمنِ” هو الرَّزَّاقُ.
ثمَّ إنَّ لِلشُّكرِ أَنواعًا مُختَلِفةً، إلَّا أنَّ أَجمَعَ تلك الأَنواعِ وأَشمَلَها والَّذي هو فِهْرِسُها العامُّ هو: الصَّلاةُ.
وفي الشُّكر إِيمانٌ صافٍ رائِقٌ، وهُو يَحْوِي تَوْحِيدًا خالِصًا، لِأَنَّ الَّذي يَأْكُلُ تُفَّاحةً -مَثلًا- بِاسمِ اللهِ ويَختُمُ أَكْلَها بـ”الحَمدُ للهِ” إنَّما يُعلِنُ بذلك الشُّكرَ، على أنَّ تلك التُّفّاحةَ تَذْكارٌ خالِصٌ صادِرٌ مُباشَرةً مِن يَدِ القُدْرةِ الإلهِيّةِ، وهي هَدِيّةٌ مُهْداةٌ مُباشَرةً مِن خَزِينةِ الرَّحمةِ الإلهِيّةِ؛ فهُو بهذا القَوْلِ وبالِاعتِقادِ به يُسلِّمُ كلَّ شَيْءٍ -جُزْئِيًّا كان أم كُلِّيًّا- إلى يَدِ القُدْرةِ الإلهِيّةِ، ويُدرِكُ تَجَلِّيَ الرَّحمةِ الإلهِيّةِ في كلِّ شَيْءٍ.. ومِن ثَمَّ يُظهِرُ إِيمانًا حَقِيقيًّا بالشُّكرِ، ويُبيِّنُ تَوْحِيدًا خالِصًا به. وسنُبيِّنُ هُنا وَجْهًا واحِدًا فقط مِن بَينِ وُجُوهِ الخُسرانِ الكَثِيرةِ الَّتي يَتَردَّى إلَيْها الإِنسانُ الغافِلُ مِن جَرّاءِ كُفْرانِه النِّعْمةَ وكُنُودِه بها.
إذا تَناوَلَ الإِنسانُ نِعْمةً لَذِيذةً، ثمَّ أَدَّى شُكرَه علَيْها، فإنَّ تلك النِّعمةَ تُصبِحُ بواسِطةِ ذلك الشُّكرِ نُورًا وَضَّاءً له، وتَغْدُو ثَمَرةً مِن ثِمارِ الجَنّةِ الأُخرَوِيّةِ، وفَضْلًا عَمّا تَمنَحُه مِن لَذّةٍ، فإنَّ التَّفكُّرَ في أَنَّها أَثَرٌ مِن آثارِ الْتِفاتِ رَحْمةِ اللهِ الواسِعةِ وتَكْرِمةٌ مِنه سُبحانَه وتَعالَى يَمنَحُ تلك النِّعمةَ لَذّةً عَظِيمةً دائِمةً وذَوْقًا سامِيًا لا حَدَّ له.. فيكُونُ الشَّاكِرُ قد بَعَث أَمثالَ هذه اللُّبابِ الخالِصةِ والخُلاصاتِ الصَّافِيةِ والمَوادِّ المَعنَوِيّةِ إلى تلك المَقاماتِ السَّامِيةِ الرَّفِيعةِ، تارِكًا مَوادَّها المُهْمَلةَ وقِشْرَتَها -الَّتي استَنفَدَت أَغراضَها وأَدَّت وَظِيفَتَها ولم تَعُدْ إلَيْها حاجةٌ- لِيَتِمَّ تَحَوُّلُها إلى نِفاياتٍ وفَضَلاتٍ تَعُودُ إلى أَصلِها مِنَ العَناصِرِ الأَوَّليّةِ.
ولكِن إنْ لم يَشكُرِ المُنعَمُ علَيْه رَبَّه على النِّعْمةِ، واستَنكَفَ عَنْ شُكرِها، فإنَّ تلك اللَّذّةَ المُؤَقَّتةَ تَتْرُكُ بزَوالِها أَلَمًا وأَسَفًا، وتَتَحوَّلُ هي نَفسُها إلى قاذُوراتٍ، فتَنقَلِبُ تلك النِّعْمةُ الَّتي هي ثَمِينةٌ كالأَلْماسِ إلى فَحْمٍ خَسِيسٍ.
فالأَرْزاقُ الزَّائِلةُ تُثمِرُ بالشُّكرِ لَذائِذَ دائِمةً وثَمَراتٍ باقِيةً، أمّا النِّعَمُ الخالِيةُ مِنَ الشُّكرِ فإنَّها تَنقَلِبُ مِن صُورَتِها السّامِيةِ الجَمِيلةِ الزّاهِيةِ إلى صُورةٍ دَنِيئةٍ قَبِيحةٍ دَمِيمةٍ؛ ذلك لِأَنَّ الغافِلَ يَظُنُّ أنَّ مآلَ الرِّزقِ بَعدَ اقْتِطافِ اللَّذّةِ المُؤَقَّتةِ مِنه هُو الفَضَلاتُ!
حقًّا، إنَّ لِلرِّزقِ صُورةً وَضّاءةً تَستَحِقُّ الحُبَّ والعِشقَ، تلك الَّتي تَظهَرُ بالشُّكرِ، وإلّا فإنَّ عِشقَ الغافِلِينَ والضّالِّينَ لِلرِّزقِ وتَلَهُّفَهُم علَيْه ما هُو إلّا بَهِيمِيّةٌ حَيَوانيّةٌ.
قِسْ على هذا.. لِتَعْلَمَ مَدَى خَسارةِ أَهلِ الضَّلالةِ والغَفْلةِ، ومَدَى فَداحةِ أَمرِهِم!
إنَّ أَشَدَّ الأَحياءِ حاجةً إلى الرِّزقِ وإلى أَنواعِه هو الإِنسانُ، فالحَقُّ سُبحانَه وتَعالَى قد خَلَق هذا الإِنسانَ مِرآةً جامِعةً لِجَمِيعِ أَسمائِه الحُسنَى، وأَبدَعَه مُعجِزةً دالّةً على قُدْرَتِه المُطلَقةِ، فهُو يَملِكُ أَجهِزةً يَتَمكَّنُ بها مِن تَثْمِينِ وتَقْدِيرِ جَمِيعِ مُدَّخَراتِ خَزائِنِ رَحْمَتِه الواسِعةِ ومَعرِفَتِها.. وخَلَقَه على صُورةِ خَلِيفةِ الأَرضِ الَّذي يَملِكُ مِنَ الأَجهِزةِ الحَسّاسةِ ما يَتَمكَّنُ بها مِن قِياسِ أَدَقِّ دَقائِقِ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى.. فلِأَجل كلِّ هذا أَوْدَعَ سُبحانَه في هذا الإِنسانِ فاقةً لا حَدَّ لها، وجَعَلَه مُحتاجًا إلى أَنواعٍ لا تُحَدُّ مِنَ الرِّزقِ المادِّيِّ والمَعنَوِيِّ؛ وما الوَسِيلةُ الَّتي تُمَكِّنُ الإِنسانَ مِنَ العُرُوجِ بها إلى أَسمَى مَقامٍ -وهُو مَقامُ ﴿أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ ضِمنَ ما يَمْلِكُه مِنَ الجامِعِيّةِ- إلّا الشُّكرُ، فإذا انعَدَم الشُّكرُ يَتَردَّى الإِنسانُ إلى أَسفَلِ سافِلِينَ ويكُونُ مُرتَكِبًا ظُلْمًا عَظِيمًا.
الخُلاصةُ: إنَّ الشُّكرَ هو أَعظَمُ أَساسٍ مِنَ الأُسُسِ الأَربَعةِ الَّتي يَستَنِدُ إلَيْها سالِكُ أَسمَى طَرِيقٍ وأَعلاه، أَلا وهُو طَرِيقُ العُبُودِيّةِ والمَحبُوبِيّةِ.
وقد عُبِّرَ عن تلك الأُسُسِ الأَربَعةِ بـ:
“در طريق عجز مندى لازم آمد چار چيز:
عجزِ مطلق فقرِ مطلق شوقِ مطلق شكرِ مطلق أي عزيز!”
اللَّهُمَّ اجعَلنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ بِرَحمَتِكَ يا أرحَمَ الرَّاحِمِينَ
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الشَّاكِرِينَ والحَامِدِينَ، وعَلَى آلِه وصَحبِه أجمَعِينَ.. آمِينَ
﴿وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
❀ ❀ ❀
[المسألة السادسة: حول الوهابية]
المَسألة السَّادِسة وهِي الرِّسَالة السَّادِسة
لم تُدرَج هنا، نُشِرَت ضِمنَ “المَكتُوباتِ” باللُّغةِ العُثمانيّةِ.
❀ ❀ ❀
[المسألة السابعة: حول أسرار العناية الإلهية في خدمتنا الإيمانية]
المَسألة السَّابِعة وهِي الرِّسَالة السَّابِعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
(هذه المسألة عبارة عن سبع إشارات)
[مقدمة: سبعة أسباب للحديث عن أسرار العناية الإلهية بنا]
نُبيِّنُ بِدايةً سَبعةَ أَسبابٍ لِإِظهارِنا عَدَدًا مِن أَسرارِ العِنايةِ الإلهِيّةِ تَحَدُّثًا بنِعمةِ اللهِ.
[1. رؤيا صادقة]
السَّببُ الأوَّلُ: قَبلَ اندِلاعِ الحَربِ العالَمِيّةِ الأُولَى، وإِبّانَ نُشُوبِها رَأَيتُ في رُؤْيا صادِقةٍ، الآتِيَ:
رَأَيتُ نَفسِي تَحتَ “جَبَلِ آرارات”، وإذا بالجَبَلِ يَنفَلِقُ انفِلاقًا هائِلًا، فيَقذِفُ صُخُورًا عَظِيمةً كالجِبالِ إلى أَنحاءِ الأَرضِ كافّةً؛ وأنا في هذه الرَّهْبةِ الَّتي غَشِيَتْني رَأَيتُ والِدَتي -رَحْمةُ اللهِ علَيْها- بقُربِي، قُلتُ لها: “لا تَخافِي يا أُمّاه! إنَّه أَمرُ اللهِ.. إنَّه رَحِيمٌ، إنَّه حَكِيمٌ”، وبَينَما أنا في تلك الحالةِ إذا بشَخْصٍ عَظِيمٍ يَأمُرُني قائِلًا:
بَيِّنْ إِعجازَ القُرآنِ..
أَفَقتُ مِن نَومِي، وأَدْرَكتُ أنَّه سيَحدُثُ انفِلاقٌ عَظِيمٌ، وستَتَهدَّمُ الأَسوارُ الَّتي تُحِيطُ بالقُرآنِ الكَرِيمِ مِن جَرَّاءِ ذلك الِانفِلاقِ والِانقِلابِ العَظِيمِ، وسيَتَولَّى القُرآنُ بنَفسِه الدَّفاعَ عن نَفسِه حَيثُ سيَكُونُ هَدَفًا لِلهُجُومِ، وسيَكُونُ إِعجازُه دِرْعَه الفُولاذِيَّ، وسيَكُونُ شَخصٌ مِثلِي مُرَشَّحًا لِلقِيامِ ببَيانِ نَوعٍ مِن هذا الإِعجازِ في هذا الزَّمانِ -بما يَفُوقُ حَدِّي وطَوْقِي كَثِيرًا- وأَدرَكتُ أنِّي مُرَشَّحٌ لِلقِيامِ بهذا العَمَلِ.
ولَمَّا كانَ إِعجازُ القُرآنِ الكَرِيمِ قد وُضِّحَ إلى حَدٍّ مَّا بـ”الكَلِماتِ“، فإنَّ إِظهارَ العِناياتِ الإِلهِيّةَ في خِدمَتِنا لِلقُرآنِ، إنَّما هو إِمدادٌ لِلإِعجازِ بالقُوّةِ، إذ إنَّ تلك العِناياتِ هي مِن قَبِيلِ بَرَكاتِ ذلك الإعجازِ ورَشَحاتِه، وتَعُودُ إلَيْه.. أي: يَنبَغِي إِظهارُ العِناياتِ الإِلهِيّةِ.
[2. امتثال أمر القرآن]
السَّبَبُ الثَّاني: لَمَّا كانَ القُرآنُ الكَرِيمُ مُرشِدَنا وأُستاذَنا وإِمامَنا ودَلِيلَنا في كلِّ أَعمالِنا، وأنَّه يُثنِي على نَفسِه، فنَحنُ إِذًا سنُثنِي على تَفسِيرِه، اتِّباعًا لِإرشادِه لنا.
ولَمَّا كانَتِ “الكَلِماتُ” نَوْعًا مِن تَفسِيرِ القُرآنِ، و”رَسائِلُ النُّورِ” عامَّةً مُلكَ القُرآنِ وتَتَضمَّنُ حَقائِقَه، وأنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ يُعلِنُ عن نَفسِه في هَيْبةٍ وعَظَمةٍ، ويُبيِّنُ مَزاياه ويُثنِي على نَفسِه بما يَلِيقُ به مِن ثَناءٍ، في كَثِيرٍ مِن آياتِه ولا سِيَّما في السُّوَرِ المُبتَدَأةِ بـ ﴿الر﴾ و﴿حم﴾، فنَحنُ إِذًا مُكلَّفُونَ بإِظهارِ العِناياتِ الرَّبّانيّةِ الَّتي هي عَلامةٌ لِقَبُولِ خِدمَتِنا في بَيانِ لَمَعاتِ إِعجازِ القُرآنِ المُنعَكِسةِ في “الكَلِماتِ“، وذلك اقتِداءً بأُستاذِنا القُرآنِ الَّذي يُرشِدُنا إلى هذا النَّمَطِ مِنَ العَمَلِ.
[3. هذه بضاعة القرآن لا بضاعتي]
السَّبَبُ الثَّالثُ: إنَّني لا أَقُولُ هذا الكَلامَ الَّذي يَخُصُّ “الكَلِماتِ” تَواضُعًا، بل بَيانًا لِحَقِيقةٍ، وهي:
إِنَّ الحَقائِقَ والمَزايا المَوجُودةَ في “الكَلِماتِ” لَيسَت مِن بَناتِ أَفكارِي ولا تَعُودُ إِليَّ أَبدًا، وإنَّما لِلقُرآنِ وَحْدَه، فلَقد تَرَشَّحَتْ مِن زُلالِ القُرآنِ، حتَّى إنَّ “الكَلِمةَ العاشِرةَ” ما هي إلّا قَطَراتٌ تَرَشَّحَتْ مِن مِئاتِ الآياتِ القُرآنيّةِ الجَلِيلةِ؛ وكذا الأَمرُ في سائِرِ “الرَّسائِلِ” بصُورةٍ عامّةٍ.
فما دُمتُ أَعلَمُ الأَمرَ هكذا وأنا ماضٍ راحِلٌ عن هذه الحَياةِ، وفانٍ زائِلٌ، فلا يَنبَغِي أن يُربَطَ بي ما يَدُومُ ويَبقَى مِن أَثَرٍ؛ وما دامَت عادةُ أَهلِ الضَّلالةِ والطُّغيانِ هي الحَطَّ مِن قِيمةِ المُؤَلِّفِ لِلتَّهوِينِ مِن شَأْنِ كِتابٍ لا يَفِي بغَرَضِهِم.. فلا بُدَّ إِذًا ألّا تَرتَبِطَ “الرَّسائِلُ” المُرتَبِطةُ بنُجُومِ سَماءِ القُرآنِ الكَرِيمِ بسَنَدٍ مُتَهرِّئٍ قابِلٍ لِلسُّقُوطِ مِثلِي مِمَّن يُمكِنُ أن يكُونَ مَوضِعَ اعتِراضاتٍ كَثِيرةٍ، ونَقدٍ كَثِيرٍ.
وما دامَ عُرفُ النّاسِ دائِرًا حَولَ البَحثِ عن مَزايا الأَثَرِ في أَطْوارِ مُؤَلِّفِه وأَحوالِه الَّذي يَحسَبُونَه مَنبَعَ ذلك الخَيرِ ومِحْوَرَه الأَساسَ، فإنَّه إِجحافٌ إِذًا بحَقِّ الحَقِيقةِ وظُلمٌ لها -بِناءً على هذا العُرفِ- أن تكُونَ تلك الحَقائِقُ العالِيةُ والجَواهِرُ الغالِيةُ بِضاعةَ مَن هو مُفلِسٌ مِثلِي ومُلْكًا لِشَخصِيَّتي الَّتي لا تَستَطِيعُ أن تُظهِرَ واحِدًا مِن أَلفٍ مِن تلك المَزايا.
لِهذا كُلِّه أقُولُ: إنَّ “الرَّسائِلَ” لَيسَت مُلكِي ولا مِنِّي، بل هي مُلكُ القُرآنِ، لِذا أَراني مُضطَرًّا إلى بَيانِ أنَّها قد نالَت رَشَحاتٍ مِن مَزايا القُرآنِ العَظِيمِ.
نعم، لا يُبحَثُ عمّا في عَناقِيدِ العِنَبِ اللَّذِيذةِ مِن خَصائِصَ في سِيقانِها اليابِسةِ، فأنا كتِلك السّاقِ اليابِسةِ لتلك الأَعنابِ اللَّذِيذةِ.
[4. لا نكتم النعمة ولا ندّعيها]
السَّبَبُ الرّابعُ: قد يَستَلزِمُ التَّواضُعُ كُفرانَ النِّعمةِ، بل يكُونُ كُفرانًا بالنِّعمةِ عَينَه، وقد يكُونُ أَيضًا التَّحَدُّثُ بالنِّعمةِ تَفاخُرًا وتَباهِيًا.. وكِلاهُما مُضِرّانِ، والوَسِيلةُ الوَحِيدةُ لِلنَّجاةِ -أي: لِكَيْلا يُؤَدِّيَ الأَمرُ إلى كُفرانٍ بالنِّعمةِ ولا إلى تَفاخُرٍ- هي: الإقرارُ بالمَزايا والفَضائِلِ دُونَ ادِّعاءِ تَمَلُّكِها، أي: إِظهارُها على أنَّها آثارُ إِنعامِ المُنعِمِ الحَقِيقيِّ جَلَّ وعَلا.
مِثالُ ذلك: إذا أَلبَسَك أَحَدُهُم حُلّةً فاخِرةً جَمِيلةً، وأَصبَحْتَ بها جَمِيلًا وأَنِيقًا، فقال لك النّاسُ: ما أَجمَلَك! لقد أَصبَحتَ رائِعًا بها، وأَجَبتَهُم مُتَواضِعًا: كلّا! مَن أنا؟! أنا لَستُ شَيئًا.. أَينَ الجَمالُ مِن هذه الحُلّةِ! فإنَّ جَوابَك هذا كُفرانٌ بالنِّعمةِ بلا شَكٍّ، وسُوءُ أَدَبٍ تِجاهَ الصَّانِعِ المَاهِرِ الَّذي أَلبَسَك الحُلَّةَ. وكَذلِك إن قُلتَ لَهُم مُفتَخِرًا: نعم، إنَّني جَمِيلٌ فِعلًا، فأَينَ مِثلِي في الجَمالِ والأَناقةِ! فعِندَها يكُونُ جَوابُك فَخرًا وغُرُورًا.
والِاستِقامةُ بَينَ كُفرانِ النِّعمةِ والِافتِخارِ هو القَولُ: نعم، إنَّني أَصبَحتُ جَمِيلًا حَقًّا، ولكِنَّ الجَمالَ لا يَعُودُ لي وإنَّما إلى الحُلّة، بل الفَضلُ يَخُصُّ الَّذي أَلبَسَنِيها.
ولو بَلَغ صَوْتي أَرجاءَ العالَمِ كافّةً لَكُنتُ أَقُولُ بكُلِّ ما أُوتِيتُ مِن قُوّةٍ: إنَّ “الكَلِماتِ” جَمِيلةٌ رائِعةٌ، ولَكِنَّها حَقائِقُ، وإنَّها لَيسَت مِنِّي وإنَّما هي شُعاعاتٌ الْتَمَعَت مِن حَقائِقِ القُرآنِ الكَرِيمِ؛ فلم أُجَمِّل أنا حَقائِقَ القُرآنِ، بل لم أَتَمكَّن مِن إِظهارِ جَمالِها، وإنَّما الحَقائِقُ الجَمِيلةُ لِلقُرآنِ هي الَّتي جَمَّلَت عِباراتي ورَفَعَت مِن شَأْنِها، واستِنادًا إلى قاعِدةِ:
وما مَدَحتُ مُحمَّدًا بمَقالَتِي.. ولكِن مَدَحتُ مَقالَتِي بمُحمَّدِ
أقُولُ:
وما مَدَحتُ القُرآنَ بكَلِماتي.. ولكِن مَدَحتُ كَلِماتي بالقُرآنِ.
فما دامَ الأَمرُ هكذا، أقُولُ بِاسمِ جَمالِيّةِ الحَقائِقِ القُرآنيّةِ: إنَّ إِظهارَ جَمالِ “الكَلِماتِ” الَّتي هي مَعاكِسُ تلك الحَقائِقِ، وبَيانَ العِناياتِ الإلهِيّةِ المُتَرتِّبةِ على القِيامِ بتِلك الوَظِيفةِ، إنَّما هو تَحَدُّثٌ بنِعمةِ اللهِ، مَرغُوبٌ فيه.
[5. بشارات الأولياء]
السَّبَبُ الخامِسُ: سَمِعتُ مِن أَحَدِ الأَولِياءِ قَبلَ مُدّةٍ مَدِيدةٍ: أنَّه قدِ استَخرَجَ مِنَ الإِشاراتِ الغَيبِيّةِ لِأَولِياءَ سابِقِينَ ما أَوْرَثَه القَناعةَ بأنَّ نُورًا سيَظهَرُ مِن جِهةِ الشَّرقِ ويُبَدِّدُ ظُلُماتِ البِدَعِ.
ولقدِ انتَظَرتُ طَوِيلًا ظُهُورَ مِثلِ هذا النُّورِ وما زِلتُ مُنتَظِرًا له، بَيدَ أنَّ الأَزاهِيرَ تَتَفتَّحُ في الرَّبِيعِ، فيَنبَغِي تَهيِئةُ السُّبُلِ لِمِثل هذه الأَزاهِيرِ المُقدَّسةِ. وأَدرَكْنا أنَّنا بخِدْمَتِنا هذه، إنَّما نُمَهِّدُ السَّبِيلَ لِأُولَئِك الكِرامِ النُّورانيِّينَ.
فلا شَكَّ إذًا أنَّ بَيانَ العِناياتِ الإِلهِيّةِ الَّتي تَخُصُّ “الكَلِماتِ” لا يكُونُ مَدارَ فَخرٍ وغُرُورٍ أَبدًا، إذ لا يَعُودُ إلى أَشخاصِنا بالذّاتِ، بل يكُونُ ذلك مَدارَ حَمدٍ وشُكرٍ وتَحَدُّثٍ بالنِّعمةِ.
[6. شكر معنوي]
السَّبَبُ السّادِسُ: إنَّ العِنايةَ الرَّبّانيّةَ -الَّتي هي وَسِيلةُ تَرغِيبٍ ومُكافأةٌ عاجِلةٌ وجَزاءٌ مُقدَّمٌ لِخِدمَتِنا لِلقُرآنِ بسَبَبِ تَأْليفِ “الكَلِماتِ“- ما هي إلّا التَّوفِيقُ في العَمَلِ والنَّجاحُ في الخِدْمةِ، والتَّوفِيقُ في الخِدْمةِ يُظهَرُ ويُعلَنُ عنه، وإذا ما مَضَتِ العِنايةُ مِنَ التَّوفِيقِ والنَّجاحِ وسَمَت، فإنَّها تكُونُ إِكرامًا إِلهِيًّا؛ وإِظهارُ الإِكرامِ الإِلهِيِّ شُكرٌ مَعنَوِيٌّ.. وإذا ما ارتَقَتِ العِنايةُ إلى أَعلَى مِنَ الإِكرامِ، فلا مَحالةَ أنَّها تكُونُ كَرامةً قُرآنيّةً، قد حَظِينا بها، وإِظهارُ كَرامةٍ مِن هذا النَّوعِ دُونَ اختِيارٍ مِنّا، ومِن حَيثُ لا نَحتَسِبُ ومِن دُونِ عِلمِنا، لَيسَ فيه ضَرَرٌ؛ وإذا ما ارتَقَتِ العِنايةُ فَوقَ الكَرامةِ الِاعتِيادِيّةِ، فلا شَكَّ أنَّها تكُونُ شُعَلَ الإِعجازِ المَعنَوِيِّ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ.. ولَمّا كانَ الإعجازُ لا بُدَّ أن يُعلَنَ عنه، فإنَّ إِظهارَ ما يُمِدُّه بالقُوّةِ يكُونُ في سَبِيلِه أَيضًا، ولا يكُونُ مَبعَثَ تَفاخُرٍ وغُرُورٍ أَبدًا، بل مَبعَثَ حَمدٍ وشُكرٍ.
[7. نحن في هذه الخدمة الجليلة بغير اختيارنا]
السَّبَبُ السَّابِعُ: إنَّ ثَمانِينَ بالمِئةِ مِنَ النَّاسِ لَيسُوا مُحَقِّقِينَ عُلَماءَ، كي يَنفُذُوا إلى الحَقِيقةِ ويَسبُرُوا غَوْرَها ويُصَدِّقُوا بها، ويَقبَلُوها، بل يَقبَلُونَ المَسائِلَ تَقلِيدًا لِما سَمِعُوه مِن أُناسٍ هم مَوضِعُ ثِقَتِهِم واعتِمادِهِم بِناءً على ظاهِرِ حالِهِم وعلى حُسنِ الظَّنِّ بهم، حتَّى إنَّ حَقِيقةً قَوِيّةً يَرَونَها ضَعِيفةً لِأنَّها في يَدِ شَخصٍ ضَعِيفٍ، بَينَما يَعُدُّونَ مَسأَلةً تافِهةً في يَدِ شَخصٍ مَرمُوقٍ مَسأَلةً قَيِّمةً.. لِذا أُضطَرُّ إلى الإعلانِ عنِ الحَقائِقِ الإِيمانيّةِ والقُرآنيّةِ الَّتي هي في يَدِ شَخصِي الضَّعِيفِ الَّذي لا قِيمةَ له ولا أَهَمِّيّةَ، لِئَلّا أَحُطَّ مِن قِيمَتِها أَمامَ أَنظارِ أَغلَبِ النّاسِ، فأقُولُ: إنَّ هُناك مَن يَستَخدِمُنا ويَسُوقُنا إلى الخِدْمةِ دُونَ اختِيارٍ مِنّا ودُونَ عِلمِنا، ويُسَخِّرُنا في أُمُورٍ جِسامٍ دُونَ مَعرِفَتِنا.. ودَلِيلُنا هو أنَّنا نَحظَى بقِسمٍ مِن عِناياتٍ إِلهِيّةٍ وتَيسِيراتٍ رَبّانيّةٍ خارِجَ شُعُورِنا وبلا اختِيارٍ مِنّا، ولِهذا نُضطَرُّ إلى الإعلانِ عن تلك العِناياتِ إِعلانًا صارِخًا على مَلَأٍ مِنَ النّاسِ.
هذا، وبِناءً على الأَسبابِ السَّبعةِ المَذكُورةِ، نُشِيرُ إلى بِضعِ عِناياتٍ رَبّانيّةٍ كُلِّيّةٍ:
[الإشارة الأولى: التوافقات]
الإشارةُ الأولى
وهي “التَّوافُقاتُ” الَّتي وُضِّحَت في النُّكتةِ الأُولَى مِنَ المَسأَلةِ الثّامِنةِ مِنَ “المَكتُوبِ الثّامِنِ والعِشرِينَ“، ولقد تَناظَرَ ما يَزِيدُ على مِئَتَي كَلِمةٍ مِن كَلِماتِ “الرَّسُولُ” الكَرِيمُ ﷺ في مُوازَنةٍ تامّةٍ، في سِتِّينَ صَحِيفةً مِن صَحائِفِ رِسالةِ “المُعجِزاتِ الأَحمَدِيّةِ” باستِثناءِ صَحِيفَتَينِ، ابتِداءً مِنَ الإِشارةِ الثّالِثةِ إلى الإِشارةِ الثّامِنةَ عَشْرةَ مِنها، وذلك لَدَى أَحَدِ المُستَنسِخِينَ، دُونَ أن يكُونَ له عِلمٌ بالتَّوافُقِ.. فمَن يَنظُرُ بإِنصافٍ إلى صَحِيفَتَينِ مِنَ الرِّسالةِ فحَسْبُ يُصَدِّقُ أنَّ ذلك لا يُمكِنُ أن يكُونَ نَتِيجةَ مُصادَفةٍ أَبدًا، إذ رُبَّما تَتَناظَرُ كَلِماتٌ مُتَشابِهةٌ إن وُجِدَت في صَحِيفةٍ واحِدةٍ، وتُعَدُّ تَوافُقًا ناقِصًا لِاحتِمالِ وُجُودِ المُصادَفةِ، بَينَما الأَمرُ هُنا: أنَّ كَلِمةَ “الرَّسُولُ” الكَرِيمُ ﷺ قد تَوافَقَت في تَناظُرٍ مُتَوازِنٍ في صَفَحاتٍ كَثِيرةٍ، بل في جَمِيعِها، ولا تُوجَدُ في الصَّفحةِ الواحِدةِ إلّا اثنَتانِ أو ثَلاثةٌ أو أَربَعةٌ أو أَكثَرُ مِنها. أي: أنَّ عَدَدَها لَيسَ بكَثْرةٍ، فلا شَكَّ أنَّ التَّناظُرَ ناشِئٌ عن تَوافُقٍ لا عن مُصادَفةٍ، فَضْلًا عن أنَّ التَّوافُقَ جَرَى لَدَى ثَمانِيةِ مُستَنسِخِينَ ولم يَتَغيَّر تَوازُنُ التَّوافُقِ لَدَيهِم رَغمَ اختِلافِهِم.. مِمّا يَدُلُّ أنَّ في ذلك التَّوافُقِ إِشارةً غَيبِيّةً قَوِيّةً، إذ كما أنَّ بَلاغةَ القُرآنِ قد عَلَت إلى دَرَجةِ الإِعجازِ ففاقَت بَلاغَتُه كُتُبَ البُلَغاءِ كُلِّهِم، حتَّى لا يُمكِنُ أن يَبلُغَ أَحَدٌ مِنهُم شَأْوَ ذلك الإِعجازِ، كَذلِك التَّوافُقاتُ المَوجُودةُ في “المَكتُوبِ التّاسِعَ عَشَرَ” -الَّذي هو مِرآةٌ لِمُعجِزاتِ الرَّسُولِ ﷺ- وفي “الكَلِمةِ الخامِسةِ والعِشرِينَ” الَّتي هي مَعكِسُ إِعجازِ القُرآنِ، وفي أَجزاءِ “رَسائِلِ النُّورِ” الأُخرَى الَّتي هي نَوعٌ مِن تَفسِيرٍ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ.. أقُولُ: هذه التَّوافُقاتُ تُبيِّنُ غَرابةً تَفُوقُ جَمِيعَ الكُتُبِ، مِمّا يُفهَمُ مِنها أنَّها نَوعٌ مِن كَراماتِ مُعجِزاتِ القُرآنِ ومُعجِزاتِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ تَتَجلَّيانِ في تلك المَرايا وتَتَمثَّلانِ فيها.
[الإشارة الثانية: العناية الربانية]
الإشارة الثَّانية
العِنايةُ الرَّبّانيّةُ الثَّانيةُ الَّتي تَخُصُّ الخِدْمةَ القُرآنيّةَ هي أنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى قد أَنعَمَ عَلَيَّ بإِخوةٍ أَقوِياءَ جادِّينَ، مُخلِصِينَ، غَيُورِينَ، مُضَحِّينَ، لَهُم أَقلامٌ كالسُّيُوفِ الأَلماسِيّةِ، ودَفَعَهُم لِيُعاوِنُوا شَخصًا مِثلِي لا يُجِيدُ الكِتابةَ، نِصفُ أُمِّيٍّ، في دِيارِ الغُربةِ، مَهجُورٌ، مَمنُوعٌ عنِ الِاختِلاطِ بالنَّاسِ.. وحَمَّل سُبحانَه كَواهِلَهُمُ القَوِيّةَ ما أَثقَلَ ظَهْرِي الضَّعِيفَ العاجِزَ مِن ثِقَلِ الخِدْمةِ القُرآنيّةِ، فخَفَّفَ بفَضلِه وكَرَمِه سُبحانَه حِمْلِي الثَّقِيلَ.
فتلك الجَماعةُ المُبارَكةُ في حُكمِ أَجهِزةِ البَثِّ اللَّاسِلكِيِّ (بتَعبِيرِ خُلُوصِي)، وبمَثابةِ مَكائِنِ تَولِيدِ الكَهرَباءِ لِمَصنَعِ النُّورِ (حَسَبَ تَعبِيرِ صَبْرِي)؛ ومعَ أنَّ كُلًّا مِنهُم يَملِكُ مَزايا مُتَنوِّعةً وخَواصَّ راقِيةً مُتَبايِنةً، إلّا أنَّ فِيهِم نَوْعًا مِن تَوافُقاتٍ غَيبِيّةٍ (حَسَبَ تَعبِيرِ صَبْرِي)، إذ يَتَشابَهُونَ في الشَّوقِ إلى العَمَلِ والسَّعيِ فيه، والغَيْرةِ على الخِدمةِ والجِدِّيّةِ في نَشرِهِمُ الأَسرارَ القُرآنيّةَ والأَنوارَ الإِيمانيّةَ إلى الأَقطارِ وإِبلاغَها جَمِيعَ الجِهاتِ، وقِيامَهُم بالعَمَلِ دُونَ فُتُورٍ، وبشَوقٍ دائِمٍ وهِمّةٍ عالِيةٍ، في هذا الزَّمانِ العَصِيبِ (حَيثُ الحُرُوفُ قد تَبَدَّلَت ولا تُوجَدُ مَطبَعةٌ، والنّاسُ بحاجةٍ إلى الأَنوارِ الإِيمانيّةِ) فَضْلًا عنِ العَوائِقِ الكَثِيرةِ الَّتي تُعَرقِلُ العَمَلَ وتُولِّدُ الفُتُورَ، وتُهَوِّنُ الشَّوقَ.. أقُولُ: إنَّ خِدمَتَهُم هذه كَرامةٌ قُرآنيّةٌ واضِحةٌ وعِنايةٌ إِلهِيّةٌ ظاهِرةٌ لَيسَ إلّا.
نعم، فكَما أنَّ لِلوِلايةِ كَرامةً، فإنَّ لِلنِّيّةِ الخالِصةِ كَرامةً أَيضًا، ولِلإِخلاصِ كَرامةً أَيضًا، ولا سِيَّما التَّرابُطُ الوَثِيقُ والتَّسانُدُ المَتِينُ بَينَ الإِخوانِ ضِمنَ دائِرةِ أُخُوّةٍ خالِصةٍ للهِ، تكُونُ له كَراماتٌ كَثِيرةٌ، حتَّى إنَّ الشَّخصَ المَعنَوِيَّ لِمِثلِ هذه الجَماعةِ يُمكِنُ أن يكُونَ في حُكمِ وَليٍّ كامِلٍ يَحظَى بالعِناياتِ الإِلهِيّةِ.
فيا إِخوَتِي ويا أَصحابِي في خِدمةِ القُرآنِ..
كما أنَّ إِعطاءَ جَمِيعِ الشَّرَفِ والغَنائِمِ كُلِّها إلى آمِرِ الفَوجِ الَّذي فَتَح حِصْنًا، ظُلمٌ وخَطَأٌ، كَذلِك لا يُمكِنُكُم إِسنادُ العِناياتِ الإِلهِيّةِ في الفُتُوحاتِ الَّتي تَمَّتْ بقُوّةِ شَخصِكُمُ المَعنَوِيِّ وبأَقلامِكُم إلى شَخصٍ عاجِزٍ مِثلِي؛ إذ مِمّا لا شَكَّ أنَّ في مِثلِ هذه الجَماعةِ المُبارَكةِ تُوجَدُ إِشارةٌ غَيبِيّةٌ قَوِيّةٌ أَكثَرُ مِنَ التَّوافُقاتِ الغَيبِيّةِ.. وإِنَّني أَراها، ولكِن لا أَستَطِيعُ إِظهارَها لِكُلِّ أَحَدٍ ولا لِلنّاسِ عامّةً.
[الإشارة الثالثة: إثبات الحقائق الإيمانية بالبراهين القاطعة]
الإشَارة الثَّالثة
إنَّ إِثباتَ أَجزاءِ “رَسائِلِ النُّورِ” لِجَمِيعِ الحَقائِقِ الإِيمانيّةِ والقُرآنيّةِ المُهِمّةِ، حتَّى لِأَعتَى المُعانِدِينَ، إِثباتًا ساطِعًا، إنَّما هو إِشارةٌ غَيبِيّةٌ قَوِيّةٌ جِدًّا، وعِنايةٌ إِلهِيّةٌ عَظِيمةٌ، لِأنَّ هُنالِك مِنَ الحَقائِقِ الإِيمانيّةِ والقُرآنيّةِ، ما اعتَرَف بعَجزِه عن فَهمِه مَن يُعَدُّ صاحِبَ أَعظَمِ دَهاءٍ، وهُو “ابنُ سِينا” الَّذي قال في (مَسأَلةِ الحَشرِ): “الحَشرُ لَيسَ على مَقايِيسَ عَقلِيّةٍ”، بَينَما تُعَلِّمُ “الكَلِمةُ العاشِرةُ” عَوامَّ النَّاسِ والصِّبيانَ حَقائِقَ لم يَستَطِع أن يَبلُغَها ذلك الفَيْلَسُوفُ بدَهائِه.
وكذا مَسائِلُ (القَدَر والجُزء الِاختِيارِيّ) الَّتي لم يَحُلَّها العَلّامةُ الجَلِيلُ “السَّعدُ التَّفتازانِيُّ” إلّا في خَمسِينَ صَحِيفةً، وذلك في كِتابِه المَشهُورِ بـ “التَّلوِيح” مِن قِسمِ “المُقدِّماتِ الِاثنَتَيْ عَشْرةَ”، ولم يُبَيِّنها إلّا لِلخَواصِّ مِنَ العُلَماءِ، هذه المَسائِلُ تُبيِّنُها (الكَلِمةُ السّادِسةُ والعِشرُونَ: رِسالةُ القَدَرِ) في صَحِيفَتَينِ مِنَ المَبحَثِ الثّاني مِنها بَيانًا شافِيًا وافِيًا، وبما يُوافِقُ أَفهامَ النّاسِ كُلِّهِم.. فإنْ لم يكُن هذا مِن أَثَرِ العِنايةِ الإِلهِيّةِ فما هو إِذًا؟
وكذا سِرُّ خَلقِ العالَمِ، المُسَمَّى بـ(طِلَّسمِ الكائِناتِ) الَّذي جَعَل العُقُولَ في حَيْرةٍ مِنه، ولم تَحُلَّ لُغزَه أيّةُ فَلسَفةٍ كانَت، كَشَف أَسرارَه وحَلَّ أَلغازَه الإِعجازُ المَعنَوِيُّ لِلقُرآنِ العَظِيمِ، وذلك في “المَكتُوبِ الرّابعِ والعِشرِينَ“، وفي النُّكتةِ الرَّمزِيّةِ المَوجُودةِ في خِتامِ “الكَلِمةِ التّاسِعةِ والعِشرِينَ“، وفي الحِكَمِ السِّتِّ لِتَحَوُّلِ الذَّرّاتِ في “الكَلِمةِ الثَّلاثِينَ“.. هذه الرَّسائِلُ قد حَلَّت ذلك الطِّلَّسمَ المُغلَقَ في الكَونِ، وكَشَفَت عن أَسرارِ ذلك المُعَمَّى المُحَيِّر في خَلقِ الكَونِ وعاقِبتِه، وبَيَّنتْ سِرَّ حِكمةِ حَرَكةِ الذَّرّاتِ أَثناءَ تَحَوُّلاتِها.. وهي مُتَداوَلةٌ لَدَى الجَمِيعِ، فليُراجِعْها مَن شاءَ.
وكذا حَقائِقُ الأَحَدِيّةِ، ووَحْدانيّةُ الرُّبُوبيّةِ بلا شَرِيكٍ، وحَقائِقُ القُربِ الإلهِيِّ قُربًا أَقرَبَ إلَيْنا مِن أَنفُسِنا، وبُعدُنا نَحنُ عنه سُبحانَه بُعدًا مُطلَقًا.. هذه الحَقائِقُ الجَلِيلةُ قد وَضَّحَتْها تَوضِيحًا كامِلًا كُلٌّ مِنَ “الكَلِمةِ السّادِسةَ عَشْرةَ” و”الكَلِمةِ الثّانيةِ والثَّلاثِينَ“.
وكذا القُدْرةُ الإلهِيّةُ المُحِيطةُ بكُلِّ شَيءٍ، وتَساوِي الذَّرّاتِ والسَّيّاراتِ إِزاءَها، وسُهُولةُ إِحيائِها ذَوِي الأَرواحِ كافّةً في الحَشرِ الأَعظَمِ كسُهُولةِ إِحياءِ فَردٍ واحِدٍ، وعَدَمُ تَدَخُّلِ الشِّركِ قَطْعًا في خَلقِ الكَونِ، وأنَّه بَعِيدٌ عن مَنطِقِ العَقلِ بدَرَجةِ الِامتِناعِ.. كلُّ هذه الحَقائِقِ قد كُشِفَت في “المَكتُوبِ العِشرِينَ” لَدَى شَرحِ: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وفي ذَيلِه الَّذي يَضُمُّ ثَلاثةَ تَمثِيلاتٍ، الَّذي حَلَّ ذلك السِّرَّ العَظِيمَ، سِرَّ التَّوحِيدِ.
هذا فَضْلًا عن أنَّ الحَقائِقَ الإِيمانيّةَ والقُرآنيّةَ لها مِنَ السَّعةِ والشُّمُولِ ما لا يُمكِنُ أن يُحِيطَ به ذَكاءُ أَذكَى إِنسانٍ! أَليسَ إِذًا ظُهُورُ الأَكثَرِيّةِ المُطلَقةِ لِتِلك الحَقائِقِ بدَقائِقِها لِشَخصٍ مِثلِي مُشَوَّشِ الذِّهنِ، مُشَتَّتِ الحالِ، لا مَرجِعَ ولا مَصدَرَ لَدَيه مِنَ الكُتُبِ، ويَتِمُّ التَّألِيفُ في سُرعةٍ وفي أَوْقاتِ الضِّيقِ والشِّدّةِ؟ أقُولُ: أَليسَ ذلك أَثَرًا مِن آثارِ الإِعجازِ المَعنَوِيِّ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ، وجَلْوةً مِن جَلَواتِ العِنايةِ الرَّبّانيّةِ وإِشارةً غَيبِيّةً قَوِيّةً؟
[الإشارة الرابعة: تسهيل التأليف والبيان]
الإشَارة الرَّابِعة
لقد أَنعَم اللهُ عَلَيَّ بتَألِيفِ سِتِّينَ رِسالةً3وقد بَلغَتِ الآن مِئة وثَلاثِين رِسَالة. بهذا النَّمَطِ مِنَ الإِنعامِ والإِحسانِ، إذ مَن كانَ مِثلِي مِمَّن يُفكِّرُ قَلِيلًا ويَتَتبَّعُ السُّنُوحَ القَلبِيَّ، ولا يَجِدُ مُتَّسَعًا مِنَ الوَقتِ لِلتَّدقِيقِ والبَحثِ، يَتِمُّ في يَدِه تَألِيفُ ما لا يَقدِرُ على تَأْلِيفِه جَماعةٌ مِنَ العُلَماءِ والعَباقِرةِ معَ سَعيِهِمُ الدّائِبِ.. فتَأْلِيفُها إِذًا على ذلك الوَجهِ يَدُلُّ على أنَّها أَثَرُ عِنايةٍ إِلهِيّةٍ مُباشَرةٍ، لِأنَّ جَمِيعَ الحَقائِقِ العَمِيقةِ الدَّقِيقةِ في هذه الرَّسائِلِ كُلِّها تُفَهَّمُ وتُدَرَّسُ إلى عَوامِّ النّاسِ وأَكثَرِهِم أُمِّيّةً بواسِطةِ التَّمثِيلاتِ؛ معَ أنَّ عُلَماءَ أَجِلَّاءَ قالُوا عن أَكثَرِ تلك الحَقائِقِ أنَّها لا تُعَلَّمُ ولا تُدَرَّسُ، فلم يُعَلِّمُوها لِلعَوامِّ وَحْدَهُم، ولا لِلخَواصِّ أَيضًا.
وهكذا، فهذا التَّسهِيلُ الخارِقُ في التَّألِيفِ والتَّيسِيرِ في بَيانِ الحَقائِقِ، بجَعلِ أَبعَدِ الحَقائِقِ عنِ الفَهمِ كأنَّها في مُتَناوَلِ اليَدِ، وتَدريِسِها إلى أَكثَرِ النّاسِ بَساطةً وأُمِّيّةً، لا يكُونُ في وُسْعِ شَخصٍ مِثلِي له باعٌ قَصِيرٌ في اللُّغةِ التُّركِيّةِ، وكَلامُه مُغلَقٌ ولا يُفهَمُ كَثِيرٌ مِنه، حتَّى يَجعَلُ الحَقائِقَ الظَّاهِرةَ مُعضِلةً، واشتَهَر بهذا مُنذُ السَّابِقِ، وصَدَّقَت آثارُه القَدِيمةُ شُهْرَتَه السَّيِّئةَ تلك.. فمِثلُ هذا الشَّخصِ يَجرِي في يَدِه هذا التَّيسِيرُ والبَيانُ الواضِحُ لا شَكَّ أنَّه أَثَرٌ مِن آثارِ العِنايةِ الإلهِيّةِ، ولا يُمكِنُ أن يكُونَ مِن حَذاقةِ ذلك الشَّخصِ، بل هو جَلْوةٌ مِن جَلَواتِ الإِعجازِ المَعنَوِيِّ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ، وصُورةٌ مُنعَكِسةٌ لِلتَّمثِيلاتِ القُرآنيّةِ.
[الإشارة الخامسة: انتشار الرسائل الواسع من غير انتقاد]
الإشَارة الخَامِسة
على الرَّغمِ مِنِ انتِشارِ “الرَّسائِلِ” -بصُورةٍ عامَّةٍ- انتِشارًا واسِعًا جِدًّا، فإنَّ عَدَمَ قِيامِ أَحَدٍ بانتِقادِها ابتِداءً مِن أَعظَمِ عالِمٍ إلى أَدنَى رَجُل مِنَ العَوامِّ، ومِن أَكبَرِ وَليٍّ صالِحٍ تَقِيٍّ إلى أَحَطِّ فَيلَسُوفٍ مُلحِدٍ عَنِيدٍ، هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُمثِّلُونَ طَبَقاتِ النَّاسِ وطَوائِفَهُم.. ورَغمَ أنَّها مَعرُوضةٌ أَمامَهُم ويَرَونَها ويَقرَؤُونَها، وقدِ استَفادَت كلُّ طائِفةٍ مِنها حَسَبَ دَرَجَتِها، بَينَما تَعَرَّضَ قِسمٌ مِنهُم إلى لَطَماتِها وصَفَعاتِها.. أقُولُ: إنَّ كلَّ ذلك لَيسَ إلَّا أَثَرَ عِنايةٍ رَبَّانيَّةٍ وكَرامةٍ قُرآنيَّةٍ.. ثمَّ إنَّ تلك الأَنماطَ مِنَ الرَّسائِلِ الَّتي لا تُؤَلَّفُ إلَّا بَعدَ بَحثٍ دَقِيقٍ وتَحَرٍّ عَمِيقٍ، فإنَّ كِتابَتَها وإِملاءَها بسُرعةٍ فَوقَ المُعتادِ أَثناءَ انقِباضٍ وضِيقٍ -وهُما يُشَوِّشانِ أَفكارِي وإِدراكِي- أَثَرُ عِنايةٍ رَبَّانيَّةٍ وإِكرامٍ إِلهِيٍّ لَيسَ إلَّا.
نعم، يَعلَمُ أَكثَرُ إِخوانِي ومَن عِندِي مِنَ الأَصدِقاءِ والمُستَنسِخِينَ جَمِيعَهم: أنَّ الأَجزاءَ الخَمسةَ مِنَ “المَكتُوبِ التَّاسِعَ عَشَرَ“، قد أُلِّفَت في ثَلاثةِ أو أَربَعةِ أَيَّامٍ بمُعَدَّلِ ساعَتَينِ أو ثَلاثِ ساعاتٍ يَومِيًّا، أي: بمَجمُوعِ اثنَتَيْ عَشْرةَ ساعةً دُونَ مُراجَعةِ كِتابٍ، حتَّى إنَّ الجُزءَ الرَّابعَ المُهِمَّ جِدًّا الَّذي أَظهَرَ خَتْمًا واضِحًا لِلنُّبوَّةِ في كَلِمةِ “الرَّسُولُ الكَرِيمُ” ﷺ قد كُتِبَ بظَهرِ الغَيبِ في حَوالَيْ أَربَعِ ساعاتٍ وفي زَوايا الجِبالِ وتَحتَ المَطَرِ.
وكَذلِك “الكَلِمةُ الثَّلاثُونَ” الَّتي هي رِسالةٌ جَلِيلةٌ دَقِيقةٌ أُلِّفَت في أَحَدِ البَساتِينِ، خِلالَ سِتِّ ساعاتٍ، كما أنَّ “الكَلِمةَ الثّامِنةَ والعِشرِينَ” أُلِّفَت في ظَرفٍ لا يَتَجاوَزُ ساعَتَينِ في بُستانِ “سُلَيْمانَ”.
وهكَذا كانَ تَألِيفُ أَكثَرِ “الرَّسائِلِ” الأُخرَى.
ويَعلَمُ الأَقرَبُونَ مِنِّي، أَنَّني في السَّابِقِ كُنتُ كُلَّما أَتَضايَقُ مِن شَيءٍ أَعجِزُ عن بَيانِ أَظهَرِ الحَقائِقِ، بل كُنتُ أَجهَلُها؛ ولا سِيَّما إذا ما زادَ المَرَضُ على ذلك الضِّيقِ، فكُنتُ أَمتَنِعُ أَكثَرَ عنِ التَّدرِيسِ والتَّألِيفِ، بَينَما أُلِّفَتِ “الكَلِماتُ” المُهِمّةُ، وكَذلِك “الرَّسائِلُ” الأُخرَى في أَشَدِّ أَوقاتِ المَرَضِ والضِّيقِ، وتَمَّ التَّألِيفُ في أَسرَعِ وَقتٍ.. فإن لم يَكُن هذا إِكرامًا رَبّانيًّا وكَرامةً قُرآنيّةً مُباشَرةً، فما هو إِذًا؟!
ثمَّ إنَّه ما مِن كِتابٍ يَبحَثُ في مِثلِ هذه الحَقائِقِ الإِلهِيّةِ والإِيمانيّةِ إلّا وتَتْرُكُ بَعضُ مَسائِلِه ضَرَرًا لَدَى عَدَدٍ مِنَ النَّاسِ، لِذا ما كانَت كُلُّ مَسائِلِه تُنشَرُ إلى النَّاسِ كافَّةً؛ أمَّا هذه الرَّسائِلُ فلم تُلحِقْ أيَّ ضَرَرٍ كانَ، ولم تُؤَثِّر تَأثِيرًا سَيِّئًا في أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، ولم تَخدِش ذِهنَ أَحَدٍ قَطُّ رَغمَ استِفسارِي عن ذلك مِنَ الكَثِيرِينَ، حتَّى تَحَقَّق لَدَيْنا أنَّ ذلك إِشارةٌ غَيبِيّةٌ وعِنايةٌ رَبَّانيَّةٌ مُباشَرةٌ.
[الإشارة السادسة: الإعداد الرباني المسبق]
الإشَارة السَّادسة
لقد تَحَقَّق لَدَيَّ يَقِينًا أنَّ أَكثَرَ أَحداثِ حَياتِي، قد جَرَت خارِجةً عن طَوقِ اقتِدارِي وشُعُورِي وتَدبِيرِي، إذ أُعطِيَ لها سَيرٌ مُعَيَّنٌ ووُجِّهَت وِجْهةً غَرِيبةً لِتُنتِجَ هذه الأَنواعَ مِنَ “الرَّسائِلِ” الَّتي تَخدُمُ القُرآنَ الحَكِيمَ؛ بل كأَنَّ حَياتِي العِلمِيّةَ جَمِيعَها بمَثابةِ مُقَدِّماتٍ تَمهِيدِيّةٍ لِبَيانِ إِعجازِ القُرآنِ بـ”الكَلِماتِ” حتَّى إنَّه في غُضُونِ هذه السَّنَواتِ السَّبعِ مِن حَياةِ النَّفيِ والِاغتِرابِ وعَزْلِي عنِ النَّاسِ -دُونَ سَبَبٍ أو مُبَرِّرٍ وبما يُخالِفُ رَغبَتِي- أُمضِي أَيَّامَ حَياتِي في قَريةٍ نائِيةٍ خِلافًا لِمَشرَبِي، وعُزُوفي عن كَثِيرٍ مِنَ الرَّوابِطِ الِاجتِماعِيّةِ الَّتي أَلِفتُها سابِقًا.. كلُّ ذلك وَلَّد لَدَيَّ قَناعةً تامَّةً لا يُداخِلُها شَكٌّ أنَّ ذلك تَهيِئةٌ لي وتَحضِيرٌ لِلقِيامِ بخِدمةِ القُرآنِ وَحدَه، خِدمةً صافِيةً لا شائِبةَ فيها.
بل إِنَّني على قَناعةٍ تامَّةٍ أنَّ المُضايَقاتِ الَّتي يُضايِقُونَني بها في أَغلَبِ الأَوقاتِ، والعَنَتَ الَّذي أَرزَحُ تَحتَه ظُلمًا، إنَّما هو لِدَفعِي بِيَدِ عِنايةٍ خَفِيّةٍ رَحِيمةٍ إلى حَصرِ النَّظَرِ في أَسرارِ القُرآنِ دُونَ سِواها، وعَدَمِ تَشتِيتِ النَّظَرِ وصَرفِه هُنا وهُناك.. ورَغمَ أنَّني كُنتُ مُغرَمًا بالمُطالَعةِ، فقد وُهِبَتْ لِرُوحِي مُجانَبةٌ وإِعراضٌ عن أَيِّ كِتابٍ آخَرَ سِوَى القُرآنِ الكَرِيمِ.
فأَدرَكتُ أنَّ الَّذي دَفَعَنِي إلى تَركِ المُطالَعةِ -الَّتي كانَت تَسلِيَتِي الوَحِيدةَ في مِثلِ هذه الغُرْبةِ- ما هو إلَّا كَونُ الآياتِ القُرآنيّةِ وَحْدَها أُستاذًا مُطلَقًا لي.
ثمَّ إنَّ “الآثارَ” المُؤَلَّفةَ و”الرَّسائِلَ” بأَكثَرِيَّتِها المُطلَقةِ قد أُنعِمَ عَلَيَّ بها لِحاجةٍ تَوَلَّدَت في رُوحِي فَجْأةً، ونَشَأَت آنِيًّا دُونَ أن يكُونَ هُنالِك سَبَبٌ خارِجِيٌّ؛ وحِينَما كُنتُ أُظهِرُها لِبَعضِ أَصدِقائِي، كانُوا يقُولُونَ: “إنَّها دَواءٌ لِجِراحاتِ هذا الزَّمانِ”، وبَعدَ انتِشارِها عَرَفتُ مِن مُعظَمِ إِخوانِي أنَّها تَفِي بحاجةِ هذا العَصرِ وتُضَمِّدُ جِراحاتِه.
فهذه الحالاتُ المَذكُورةُ آنِفًا -وهِي خارِجةٌ عن نِطاقِ إِرادَتِي وشُعُورِي وسَيرِ حَياتِي- ومَجمُوعُ تَتَبُّعاتي في العُلُومِ خِلافَ عادةِ العُلَماءِ وبما هو خارِجٌ عنِ اختِيارِي، كلُّ ذلك لم يَتْرُك لي شُبْهةً قَطْعًا أنَّها عِنايةٌ إِلهِيَّةٌ قَوِيَّةٌ وإِكرامٌ رَبَّانِيٌّ واضِحٌ، لِلِانجِرارِ إلى مِثلِ هذه النَّتِيجةِ السَّامِيةِ.
[الإشارة السابعة: الإكرام الإلهي]
الإشارة السَّابِعة
لقد شاهَدْنا بأُمِّ أَعيُنِنا -دُونَ مُبالَغةٍ- مِئةً مِن آثارِ الإِكرامِ الإلهِيِّ، والعِنايةِ الرَّبَّانيّةِ، والكَرامةِ القُرآنيَّةِ خِلالَ زُهاءِ سِتِّ سَنَواتٍ مِن سَيرِ خِدْمَتِنا لِلقُرآنِ الكَرِيمِ؛ وقد أَشَرْنا إلى قِسمٍ مِنها في “المَكتُوبِ السَّادِسَ عَشَرَ“، وبَيَّنَّا قِسمًا آخَرَ في المَسائِلِ المُتَفرِّقةِ لِلمَبحَثِ الرَّابِعِ مِنَ “المَكتُوبِ السّادِسِ والعِشرِينَ“، وفي المَسأَلةِ الثَّالِثةِ مِنَ “المَكتُوبِ الثَّامِنِ والعِشرِينَ“؛ وأنَّ أَصحابِي القَرِيبِينَ يَعلَمُونَ هذا، ولا سِيَّما صاحِبِي الدَّائِمِ “السَّيِّدِ سُلَيْمانَ”، يَعلَمُ أَكثَرَها، فحَظِينا بتَيسِيرٍ إِلهِيٍّ ذِي كَرامةٍ لا يَخطُرُ على بالٍ، سَواءٌ في نَشرِ “الكَلِماتِ” و”الرَّسائِلِ” الأُخرَى، أو في تَصحِيحِها ووَضْعِها في مَواضِعِها، وفي تَسوِيدِها وتَبيِيضِها؛ فلم يَبقَ لَدَيْنا رَيبٌ بَعدَ ذلك أنَّ كلَّ تلك العِناياتِ الإلهِيّةِ كَرامةٌ قُرآنيّةٌ.. ومِثالُ هذا بالمِئاتِ.
ثمَّ إِنَّنا نُرَبَّى بشَفَقةٍ ورَأْفةٍ، وتَجرِي مَعِيشَتُنا بعِنايةٍ بحَيثُ يُحسِنُ إلَيْنا صاحِبُ العِنايةِ الَّذي يَستَخدِمُنا في هذه الخِدْمةِ بما يُحَقِّقُ أَصغَرَ رَغبةٍ مِن رَغَباتِ قُلُوبِنا، ويُنعِمُ بها علَيْنا مِن حَيثُ لا نَحتَسِبُ.. وهكذا.
فهذه الحالةُ إِشارةٌ غَيبِيّةٌ في مُنتَهَى القُوّةِ إلى أنَّنا نُستَخدَمُ في هذه الخِدْمةِ القُرآنيّةِ، ونُدفَعُ إلى العَمَلِ مُكَلَّلِينَ بالرِّضَا الإِلهِيِّ مُستَظِلِّينَ بظِلِّ العِنايةِ الرَّبّانيّةِ.
﴿الحَمدُ للهِ هذَا مِن فَضلِ رَبِّي﴾
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَاةً تَكُونُ لَكَ رِضَاءً، ولِحَقِّه أَدَاءً، وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ وسَلِّم تَسلِيمًا كَثِيرًا.. آمِينَ.
[ما سرُّ التأثير في رسائل النور؟]
جوابٌ عن سؤالٍ خاصّ
إنَّ هذا السِّرَّ -وهُو سِرُّ عِنايةٍ إِلهِيّةٍ- قد كُتِبَ لِلتَّداوُلِ الخاصِّ، وأُلحِقَ في خِتامِ “الكَلِمةِ الرَّابِعةَ عَشْرةَ“، ولكِن -بأَيَّةِ حالٍ- نَسِي المُستَنسِخُونَ أن يَكتُبُوه، فظَلَّ مَخْفِيًّا مَستُورًا، فمَوضِعُه إِذًا هَاهُنا وهُو الأَليَقُ به.
إنَّك يا أَخِي تَسأَلُ: لِماذا نَجِدُ تَأثِيرًا غَيرَ اعتِيادِيٍّ فيما كَتَبْتَه في “الكَلِماتِ” المُستَقاةِ مِن فَيضِ القُرآنِ الكَرِيمِ، قَلَّما نَجِدُه في كِتاباتِ العارِفِينَ والمُفَسِّرِينَ.. فما يَفعَلُه سَطرٌ واحِدٌ مِنها مِنَ التَّأثِيرِ يُعادِلُ تَأثِيرَ صَحِيفةٍ كامِلةٍ مِن غَيرِها، وما تَحمِلُه صَحِيفةٌ واحِدةٌ مِن قُوَّةِ التَّأثِيرِ يُعادِلُ تَأثِيرَ كِتابٍ كامِلٍ آخَرَ؟
فالجَوابُ: وهُو جَوابٌ لَطِيفٌ جَمِيلٌ، إذ لَمَّا كانَ الفَضلُ في هذا التَّأثِيرِ يَعُودُ إلى إِعجازِ القُرآنِ الكَرِيمِ ولَيسَ إلى شَخصِي أنا، فسأَقُولُ الجَوابَ بلا حَرَجٍ:
نعم، هو كَذلِك على الأَغلَبِ، لِأنَّ “الكَلِماتِ”:
تَصدِيقٌ ولَيسَت تَصَوُّرًا.
وإِيمانٌ ولَيسَت تَسلِيمًا.
وتَحقِيقٌ ولَيسَت تَقلِيدًا.
وشَهادةٌ وشُهُودٌ ولَيسَت مَعرِفةً.
وإِذعانٌ ولَيسَتِ التِزامًا.
وحَقِيقةٌ ولَيسَت تَصَوُّفًا.
وبُرهانٌ ضِمنَ الدَّعوَى ولَيسَتِ ادِّعاءً. وحِكْمةُ هذا السِّرِّ هي أنَّ الأُسُسَ الإِيمانيّةَ كانَت رَصِينةً مَتِينةً في العُصُورِ السَّابِقةِ، وكانَ الِانقِيادُ تامًّا كامِلًا، إذ كانَت تَوضِيحاتُ العارِفِينَ في الأُمُورِ الفَرعِيّةِ مَقبُولةً، وبَياناتُهُم كافِيةً حتَّى لو لم يَكُن لَدَيهِم دَلِيلٌ.
أمّا في الوَقتِ الحاضِرِ فقد مَدَّتِ الضَّلالةُ باسمِ العِلمِ يَدَها إلى أُسُسِ الإِيمانِ وأَركانِه، فوَهَب لي الحَكِيمُ الرَّحِيمُ، الَّذي يَهَبُ لِكُلِّ صاحِبِ داءٍ دَواءَه المُناسِبَ، وأَنعَم عَلَيَّ سُبحانَه شُعلةً مِن “ضَربِ الأَمثالِ” الَّتي هي مِن أَسطَعِ مُعجِزاتِ القُرآنِ وأَوضَحِها، رَحْمةً مِنه جَلَّ وعَلا لِعَجْزِي وضَعْفِي وفَقْرِي واضْطِرارِي، لِأُنِيرَ بها كِتاباتي الَّتي تَخُصُّ خِدْمةَ القُرآنِ الكَرِيمِ.. فلَه الحَمدُ والمِنّةُ:
فبِمِنظارِ “ضَربِ الأَمثالِ” قد أُظهِرَتِ الحَقائِقُ البَعِيدةُ جِدًّا قَرِيبةً جِدًّا.
وبوَحْدةِ المَوضُوعِ في “ضَربِ الأَمثالِ” قد جُمِّعَتْ أَكثَرُ المَسائِلِ تَشَتُّتًا وتَفَرُّقًا.
وبسُلَّمِ “ضَربِ الأَمثالِ” قد تُوُصِّلَ إلى أَسمَى الحَقائِقِ وأَعلاها بسُهُولةٍ ويُسْرٍ.
ومِن نافِذةِ “ضَربِ الأَمثالِ” قد حُصِّلَ اليَقِينُ الإِيمانِيُّ بحَقائِقِ الغَيبِ وأُسُسِ الإِسلامِ مِمّا يَقرُبُ مِنَ الشُّهُودِ.
فاضطُرَّ الخَيالُ إلى الِاستِسلامِ، وأُرغِمَ الوَهْمُ والعَقلُ على الرُّضُوخِ، بلِ النَّفسُ والهَوَى.. كما اضطُرَّ الشَّيطانُ إلى إِلقاءِ السِّلاحِ.
حاصِلُ الكَلامِ: إنَّه مَهْما يَظهَرُ مِن قُوّةِ التَّأثِيرِ، وبَهاءِ الجَمالِ في أُسلُوبِ كِتاباتِي، فإنَّها لَيسَت مِنِّي، ولا مِمّا مَضَغَه فِكرِي، بل هي مِن لَمَعاتِ “ضَربِ الأَمثالِ” الَّتي تَتَلَألَأُ في سَماءِ القُرآنِ العَظِيمِ، ولَيسَ حَظِّي فيه إلّا الطَّلَبَ والسُّؤالَ مِنه تَعالَى، معَ شِدّةِ الحاجةِ والفاقةِ، ولَيسَ لي إلّا التَّضَرُّعُ والتَّوَسُّلُ إلَيْه سُبحانَه، معَ مُنتَهَى العَجزِ والضَّعفِ.
فالدّاءُ مِنِّي والدَّواءُ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ.
[خاتمة حول الإشارات الغيبية والتوافقات]
خاتمة المسألة السابعة
هذه الخاتِمةُ تَخُصُّ إِزالةَ الشُّبُهاتِ الَّتي تُثارُ أو رُبَّما تُثارُ حَوْلَ الإِشاراتِ الغَيبِيّةِ الَّتي ورَدَت في صُورةِ ثَماني عِناياتٍ إِلهِيّةٍ، وفي الوَقتِ نَفسِه تُبيِّنُ هذه الخاتِمةُ سِرًّا عَظِيمًا لِعِنايةِ إِلهيّةٍ.
وهذه الخاتِمةُ عِبارةٌ عن أَربَعِ نِكاتٍ:
النُّكتة الأولى:
لقدِ ادَّعَيْنا مُشاهَدَتَنا لِجَلْوةِ إِشارةٍ غَيبِيّةٍ، كَتَبْناها في (العِنايةِ الإلهِيّةِ الثّامِنةِ) في مَعرِضِ بَيانِنا “لِلتَّوافُقاتِ”، وقد أَحْسَسْنا بِهذه الإشارةِ مِنَ العِناياتِ الإلهِيّةِ السَّبعةِ الكُلِّيّةِ المَعنَوِيّةِ المَذكُورةِ في المَسأَلةِ السّابِعةِ مِنَ “المَكتُوبِ الثّامِنِ والعِشرِينَ“، وما زِلنا نَدَّعِي أنَّ هذه العِناياتِ السَّبعةَ أوِ الثَّمانِيةَ الكُلِّيّةَ قَوِيّةٌ وقاطِعةٌ إلى دَرَجةٍ تُثبِتُ كلُّ واحِدةٍ مِنها على حِدَتِها تلك الإشاراتِ الغَيبِيّةَ، بل لو فُرِض فَرْضًا مُحالًا أنَّ قِسمًا مِنها يَبدُو ضَعِيفًا، أو لو أُنكِر، فلا يُخِلُّ ذلك بقَطْعِيّةِ تلك الإِشَاراتِ الغَيبِيّةِ، إذ مَن لم يَقدِر على إِنكارِ تلك العِناياتِ الثَّمانِيةِ لا يَستَطِيعُ أن يُنكِرَ تلك الإِشاراتِ.
ولكِن لَمَّا كانَت طَبَقاتُ النَّاسِ مُتَفاوِتةً، وطَبَقةُ العَوامِّ هُمُ الَّذِينَ يُمَثِّلُونَ الغالبِيَّةَ العُظمَى، وأنَّهُم يَعتَمِدُونَ كَثِيرًا على المُشاهَدةِ، لِذا غَدَتِ “التَّوافُقاتُ” أَظهَرَ تلك العِناياتِ الإلهِيّةِ، وهِي لَيسَت أَقواها بل الأُخرَياتُ أَقوَى مِنها، إلَّا أنَّها أَعَمُّها، ولِهذا اضطُرِرتُ إلى بَيانِ حَقِيقةٍ مُعَيَّنةٍ في صُورةِ مُوازَنةٍ ومُقارَنةٍ دَفعًا لِلشُّبُهاتِ الَّتي تُثارُ حَولَ “التَّوافُقاتِ”، وذلك:
لقد قُلنا في حَقِّ تلك العِنايةِ الظَّاهِرةِ: إنَّ التَّوافُقاتِ مُشاهَدةٌ في كَلِمَتَيِ “القُرآنُ الكَرِيمُ” و”الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ”، في ثَنايا “الرَّسائِلِ” الَّتي ألَّفْناها، إلى حَدٍّ لا يَدَعُ شُبهةً أنَّها نُظِّمَت قَصْدًا وأُعطِيَ لها وَضعٌ مُوازٍ؛ والدَّلِيلُ على أنَّ القَصدَ والإِرادةَ لَيسَا مِنّا، هو اطِّلاعُنا على تلك التَّوافُقاتِ بَعدَ حَوالَيْ أَربَعِ سَنَواتٍ، أي: أنَّ هذا القَصدَ والإِرادةَ كانَت غَيبِيّةً وأَثَرًا مِن آثارِ العِنايةِ الإلهِيّةِ، فأُعطِيَت تِلكُما الكَلِمَتانِ ذلك الوَضعَ الغَرِيبَ تَأيِيدًا مَحْضًا لِمُعجِزاتِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ والإِعجازِ القُرآنِيِّ؛ وأَصبَحَت ببَرَكةِ هاتَينِ الكَلِمَتَينِ “التُّوافُقاتُ” خَتْمَ تَصدِيقٍ لِرِسالَتَيِ “المُعجِزاتِ الأَحمَدِيّةِ” و”المُعجِزاتِ القُرآنيّةِ“.
بل نالَت أَكثَرُ “الكَلِماتِ” المُتَشابِهةِ مِن أَمثالِهِما تَوافُقاتٍ أَيضًا، ولكِن في صَفَحاتٍ مَحدُودةٍ، بَينَما أَظهَرَت هاتانِ الكَلِمَتانِ تَوافُقاتٍ في مُعظَمِ صَفَحاتِ الرَّسائِلِ عامّةً، وفي جَمِيعِ صَفَحاتِ تِلكُما الرِّسالَتَينِ.
وقد كَرَّرْنا القَولَ: إنَّ أَصلَ هذا التَّوافُقِ يُمكِنُ أن يُوجَدَ بكَثْرةٍ في الكُتُبِ الأُخرَى، ولكِن لَيسَت بهذه الدَّرَجةِ مِنَ الغَرابةِ الدَّالَّةِ على القَصدِ والإِرادةِ السَّامِيةِ العالِيةِ.
وبَعدُ، فعلى الرَّغمِ مِن أنَّ دَعوانا هذه لا يُمكِنُ نَقضُها، إلّا أنَّ فيها جِهةً أو جِهَتَينِ رُبَّما تَتَراءَى لِلنَّظَرِ الظّاهِرِيِّ كأنَّها باطِلةٌ. مِنها:
أنَّه يُمكِنُ أن يَقُولُوا: إنَّكُم تُنَظِّمُون هذا التَّوافُقَ بعدَ تَفكُّرٍ وإِنعامِ نَظَرٍ، والقِيامُ بمِثلِ هذا العَمَلِ بقَصْدٍ وإِرادةٍ سَهلٌ ويَسِيرٌ!
نقُولُ جَوابًا على هذا: إنَّ شاهِدَينِ صادِقَينِ في دَعوَى ما، كافِيان لِإثباتِها، ففي دَعوانا هذه يُمكِنُنا أن نُبْرِزَ مِئةَ شاهِدٍ صادِقٍ على أنَّنا قدِ اطَّلَعْنا على التَّوافُقِ بعدَ حَوالَيْ أَربَعِ سَنَواتٍ، مِن غَيرِ أن يَتَعلَّقَ به قَصْدُنا وإِرادَتُنا.
ولِهذه المُناسَبةِ أُوضِّحُ نُقطةً، هي: أنَّ هذه الكَرامةَ الإِعجازِيّةَ لَيسَت مِن نَوعِ دَرَجةِ الإِعجازِ القُرآنِيِّ مِن حَيثُ البَلاغةُ، لِأنَّ البَشَرَ في الإِعجازِ القُرآنِيِّ البَلاغِيِّ يَعجِزُ كُلِّيًّا عن أن يَبلُغَ دَرَجةَ بَلاغةِ القُرآنِ بسُلُوكِه طَرِيقَ البَلاغةِ؛ أمّا هذه الكَرامةُ الإِعجازِيّةُ، فإنَّها لا يُمكِنُ أن تَحصُلَ بقُدرةِ البَشَرِ، فالقُدرةُ لا تَتَدخَّلُ فيها، فلَو تَدَخَّلَت لَشَوَّهَتْها بالتَّصَنُّعِ.
﴿(حاشية): في الإشارة الثَّامنةَ عَشْرةَ من “المَكتُوب التاسعَ عشَرَ” في نُسخةٍ واحدة لدى أحدِ المُستَنسِخِين، توافَقَت تِسعُ كَلِمات من كَلِمات “القُرآنِ الكَريمِ”، فأَوصَلْنا بينَها خُطُوطًا وظَهَر لفظُ “مُحمَّد” مِن المَجمُوع. وعندما قُمنا بالعَملِ نفسِه في الصَّفحة المُقابِلة التي توافَقَت فيها ثماني كَلِمات من كَلِمات “القُرآنِ الكَريمِ” ظَهَر لفظُ الجَلالة “الله” مِن المَجمُوع. ففي التَّوافُقات أمثالَ هذا المِثالِ البدِيعِ الكَثِيرُ. وقد شاهَدْنا بأبصارِنا واقِعَ هذا الهامش.
بكر، توفيق، سُليمان، غالب، سعيد.
النُّكتة الثالثة:
نُشِيرُ إلى سِرٍّ دَقِيقٍ مِن أَسرارِ الرُّبُوبيّةِ والرَّحمانيّةِ لِمُناسَبةِ البَحثِ عنِ الإِشارةِ الخاصّةِ والإِشارةِ العامّةِ.
إنَّ لِأَحَدِ إِخوانِي قَولًا جَمِيلًا، سأَجعَلُه مَوضُوعَ هذه المَسأَلةِ، وذلك:
إنَّه عِندَما عَرَضتُ علَيْه يَومًا تَوافُقًا جَمِيلًا قال: إنَّه جَمِيلٌ، إذ كلُّ حَقِيقةٍ جَمِيلةٌ، إلّا أنَّ الأَجمَلَ مِنها التَّوفِيقُ والتَّوافُقاتُ المَوجُودةُ في هذه “الكَلِماتِ”.
فقُلتُ: “نعم! إنَّ كلَّ شَيءٍ جَمِيلٌ، ولكِن إمَّا أنَّه جَمِيلٌ حَقِيقةً أو جَمِيلٌ بالذَّاتِ أو جَمِيلٌ باعتِبارِ نَتائِجِه. وإنَّ هذا الجَمالَ مُتَوجِّهٌ إلى الرُّبُوبيّةِ العامّةِ، والرَّحْمةِ الشَّامِلةِ والتَّجَلِّي العامِّ؛ وإنَّ الإِشارةَ الغَيبِيّةَ في هذا التَّوفِيقِ هي أَجمَلُ، كما قُلتَ.. لِأنَّها تَنُمُّ عن رَحْمةٍ خاصّةٍ ورُبُوبيّةٍ خاصَّة وتَجَلٍّ خاصٍّ”.
وسنُقَرِّبُ هذا إلى الفَهمِ بتَمثِيلٍ، وذلك أنَّ السُّلطانَ يَشمَلُ برِعايَتِه وبرَحْمَتِه جَمِيعَ أَفرادِ الأُمّةِ، وذلك بقَوانِينِه ودَوْلَتِه، فكُلُّ فَردٍ يَنالُ مُباشَرةً لُطفَه وكَرَمَه، ويَستَظِلُّ بظِلِّ دَوْلَتِه؛ أي: هُنالِك عَلاقاتٌ خاصّةٌ لِلأَفرادِ ضِمنَ هذه الصُّورةِ العامّةِ.
أمّا الجِهةُ الثّانيةُ (مِن رِعايَتِه ورَحْمَتِه) فهِي آلاؤُه الخُصُوصِيّةُ، وأَوامِرُه الخاصّةُ، إِذ يُحسِنُ ويُكرِمُ فَردًا مِن رَعاياه فَوقَ القَانُونِ الكُلِّيِّ، ويَأمُرُه ويَتَوجَّهُ إلَيْه. فعلى غِرارِ هذا المِثالِ: فإنَّ لِكُلِّ شَيءٍ حَظًّا مِنَ الرُّبُوبيّةِ العامّةِ والرَّحْمةِ الشّامِلةِ لِواجِبِ الوُجُودِ والخالِقِ الحَكِيمِ الرَّحِيمِ، أي: أنَّ كلَّ شَيءٍ ذُو عَلاقةٍ مَعَه بصُورةٍ خاصّةٍ في الجِهةِ الَّتي حَظِيَ بها، وأنَّ له تَصَرُّفًا في كلِّ شَيءٍ بقُدرَتِه وإِرادَتِه وعِلمِه المُحِيطِ.. فرُبُوبيَّتُه شامِلةٌ كلَّ شَيءٍ حتَّى أَصغَرَ الأَفعالِ، وكلُّ شَيءٍ مُحتاجٌ إلَيْه سُبحانَه في كلِّ شَأْنٍ مِن شُؤُونِه، فتُقضَى أُمُورُه وتُنظَّمُ أَفعالُه بعِلمِه وحِكْمَتِه جلَّ وعَلا.
فلا تَستَطِيعُ الطَّبِيعةُ أن تَتَخفَّى ضِمنَ دائِرةِ تَصَرُّفِ رُبُوبيَّتِه الجَلِيلةِ، أو تَتَداخَل فيها مُؤَثِّرةً فيها، ولا المُصادَفةُ تَتَمكَّنُ مِنَ التَّدخُّلِ في أَعمالِه سُبحانَه المَوزُونةِ بمِيزانِ الحِكْمةِ الدَّقِيقِ.. ولقد أَثْبَتْنا إِثباتًا قاطِعًا عَدَمَ تَأثِيرِ الطَّبِيعةِ والمُصادَفةِ في عِشرِينَ مَوضِعًا مِنَ “الرَّسائِلِ” وأَعدَمْناهُما بسَيفِ القُرآنِ الكَرِيمِ، وأَظهَرْنا بالحُجَجِ الدّامِغةِ أنَّ تَدَخُّلَهُما في الأُمُورِ مُحالٌ قَطْعًا.
بَيدَ أنَّ أَهلَ الغَفْلةِ أَطلَقُوا اسمَ (المُصادَفةِ) على الأُمُورِ الَّتي لا تُعرَفُ حِكْمَتُها وأَسبابُها -في نَظَرِهِم- مِنَ الظَّواهِرِ الَّتي هي مَشمُولةٌ بالرُّبُوبيّةِ العامّةِ، ولَمَّا عَجَزُوا عن رُؤْيةِ قَوانِينِ الأَفعالِ الإلهِيّةِ الَّتي لا يُحاطُ بحِكَمِها المُتَستِّرةِ تَحتَ سِتارِ الطَّبِيعةِ، أَسنَدُوا الأَمرَ إلى الطَّبِيعةِ.
الثَّانية: هي الرُّبُوبيّةُ الخاصَّةُ، والتَّكرِيمُ الخاصُّ والإِمدادُ الرَّحْمانِيُّ الخاصُّ، بحَيثُ إنَّ الَّذِينَ لا يَتَحمَّلُونَ ضُغُوطَ القَوانِينِ العامَّةِ يُسعِفُهُمُ اسمُ (الرَّحمنِ والرَّحِيمِ)، ويُمِدُّهُم ويُعاوِنُهُم مُعاوَنةً خاصَّةً ويُنجِيهِم مِن ذلك الضِّيقِ والعَنَتِ.
ولِهذا فكُلُّ كائِنٍ حَيٍّ -ولا سِيَّما الإِنسانُ- يَستَعِينُ به سُبحانَه، ويَستَمِدُّ المَدَدَ مِنه كلَّ آنٍ، فإِحسانُه ونِعَمُه الَّتي هي في هذه الرُّبُوبيّةِ الخاصَّةِ، لا يُمكِنُ أن تَتَخفَّى تَحتَ المُصادَفةِ، ولا يُمكِنُ أن تُسنَدَ إلى الطَّبِيعةِ حتَّى لَدَى أَهلِ الغَفْلةِ أَنفُسِهِم.
وبِناءً على ما سَبَق، فقد اعتَقَدْنا بأنَّ الإِشاراتِ الغَيبِيّةَ الَّتي هي في “المُعجِزاتِ الأَحمَدِيّةِ” و”المُعجِزاتِ القُرآنيّةِ” إِشارةٌ غَيبِيّةٌ خاصّةٌ، وأَيقَنَّا أنَّها إِمدادٌ رَبَّانِيٌّ خاصٌّ وعِنايةٌ إِلهِيّةٌ خاصَّةٌ تَستَطِيعُ أن تُظهِرَ نَفسَها أَمامَ المُعانِدِينَ، ولِهذا أَعلَنَّا عنها نَيْلًا لِرِضاه تَعالَى فحَسْبُ.
فلَئِن قَصَّرنا فنَرجُو عَفْوَه سُبحانَه. آمِينَ..
﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾
قَصيدَتين شِعْريَتين لِلمُعلِّم أحمد غَالب والمَرحُوم المُقدَّم عاصِم بك
(لم تترجما)
❀ ❀ ❀
[المسألة الثامنة: جواب عن بضعة أسئلة]
المَسألة الثَّامِنة وهِي الرِّسَالة الثَّامِنة
(هذه المَسألة عِبَارة عن ثَمَاني نِكات كُتبت جَوابًا عَن سِتّة أسئِلة)
[النكتة الأولى: حول التوافقات الغيبية]
النُّكتة الأولَى:
لقد شَعَرْنا بكَثِيرٍ مِن أَنواعِ الإِشاراتِ الغَيبِيّةِ، حَولَ استِخدامِنا في خِدْمةِ القُرآنِ تَحتَ عِنايةٍ إِلهِيّةٍ، وقد بَيَّنّا بَعضَها.. وهذه إِشارةٌ جَدِيدةٌ مِنها، وهي وُجُودُ “تَوافُقاتٍ غَيبِيّةٍ” في أَكثَرِ “الكَلِماتِ”4أمَّا التَّوافُقاتُ: فهي إِشارةٌ إلى الِاتِّفاقِ، والِاتِّفاقُ أَمارةٌ على الِاتِّحادِ وعَلامةٌ على الوَحْدةِ، والوَحْدةُ تَدُلُّ على التَّوحِيدِ؛ والتَّوحِيدُ أَعظَمُ أَساسٍ مِنَ الأُسُسِ الأَربَعةِ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ..
مِنها: إِشارةٌ غَيبِيّةٌ، لِتَمَثُّلِ نَوعٍ مِن نُورِ الإِعجازِ، في كَلِمةِ: “الرَّسُولُ الأَكرَمُ”، وفي عِبارةِ: “علَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ”، وفي لَفظِ: “القُرآنُ” المُبارَك.. والإِشارةُ الغَيبِيّةُ مَهْما كانَت خَفِيّةً وضَعِيفةً، فهِي في نَظَرِي على جانِبٍ عَظِيمٍ مِنَ الأَهَمِّيّةِ والقُوّةِ، وذلك لِدَلالَتِها على صَوابِ المَسائِلِ وقَبُولِ الخِدْمةِ، وأنَّها تَحُدُّ مِن غُرُورِي وتَكسِرُ شَوْكَتَه.
وقد بَيَّنَتْ لي بوُضُوحٍ أنَّني لَستُ إلّا تَرجُمانًا لِلرَّسائِلِ، ولم تَدَع لي شَيْئًا مِن مَوضِعِ افتِخارٍ، بل تُظهِرُ لي الأَشياءَ الَّتي هي مَدارُ شُكرانٍ فحَسْبُ.. وحَيثُ إنَّ الإِشاراتِ الغَيبِيّةَ تَخُصُّ القُرآنَ الكَرِيمَ وتَرجِعُ إلَيْه، وتَمضِي في سَبِيلِ بَيانِ إِعجازِه، ولا تُخالِطُها إِرادَتُنا أَبدًا، وتَحُثُّ المُتَكاسِلِينَ في الخِدْمةِ على العَمَلِ، وتُورِثُ قَناعةً بأَحَقِّيّةِ الرِّسالةِ، وهي نَوعٌ مِن إِكرامٍ إِلهِيٍّ لنا، وفي إِظهارِها تَحَدُّثٌ بالنِّعمةِ، وإِلزامُ المُتَمرِّدِينَ المادِّيِّينَ الحُجَّةَ وإِسكاتُهُم.. فيَستَلزِمُ إِذًا إِظهارَها، ولا ضَرَرَ فيها إن شاءَ اللهُ.
وهكذا فإِحدَى هذه الإِشَاراتِ الغَيبِيّةِ هي أنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى قد أَنعَم علَيْنا بكَمالِ رَحْمَتِه وعُمُومِ كَرَمِه، حَثًّا لنا على العَمَلِ وتَطْمِينًا لِقُلُوبِنا -نَحنُ المُشتَغِلِينَ بخِدْمةِ القُرآنِ والإِيمانِ- نِعْمةً لَطِيفةً في صُورةِ إِكرامٍ رَبّانِيٍّ، وإِحسانٍ إِلهِيٍّ، عَلامةً على قَبُولِ خِدْمَتِنا وتَصدِيقًا على أَحَقِّيّةِ ما ألَّفْناه، تلك هي الإِشاراتُ الغَيبِيّةُ في “التَّوافُقاتِ” الَّتي ظَهَرَت في جَمِيعِ رَسائِلِنا، ولا سِيَّما في “المُعجِزاتِ الأَحمَدِيّةِ” ورِسالةِ “المُعجِزاتِ القُرآنيّةِ” ورِسالةِ “النَّوافِذِ“، حَيثُ تَتَناظَرُ فيها الكَلِماتُ المُتَماثِلةُ في الصَّحِيفةِ الواحِدةِ.
وفي هذا إِشارةٌ غَيبِيّةٌ إلى أنَّها تُنَظَّمُ بإِرادةٍ غَيبِيّةٍ، أي: “أنَّ نُقُوشًا وانتِظاماتٍ خارِقةً تُجرَى دُونَ عِلمٍ لِاختِيارِكُم إِيّاها ولا يَبلُغُها شُعُورُكُم، فلا تَغتَرُّوا بإِرادَتِكُم وشُعُورِكُم!”، ولا سِيَّما في “المُعجِزاتِ الأَحمَدِيّةِ” الَّتي أَصبَحَت فيها كَلِمةُ “الرَّسُولُ الأَكرَمُ” وأَلفاظُ الصَّلَاةِ علَيْه في حُكْمِ المِرآةِ، تُبيِّنُ تلك التَّوافُقاتِ الغَيبِيّةَ بوُضُوحٍ، بل تَناظَرَت عِباراتُ الصَّلَاةِ علَيْه مُتَوازِيةً في أَكثَرَ مِن مِئَتَيْ صَفْحةٍ -باستِثناءِ خَمسِ صَفَحاتٍ- لَدَى مُستَنسِخٍ جَدِيدٍ مُبتَدِئٍ.
فهذه التَّوافُقاتُ كما لا تكُونُ مِن شَأْنِ المُصادَفةِ قَطْعًا، الَّتي قد تكُونُ سَببًا لِتَوافُقِ كَلِمَتَينِ مِن كلِّ عَشرِ كَلِماتٍ، لا تكُونُ نابِعةً كَذلِك مِن تَفكِيرِ شَخصٍ ضَعِيفٍ مِثلِي، غَيرِ حاذِقِ الصَّنعةِ، والَّذي يَحصُرُ نَظَرَه في المَعنَى، ويُؤلِّفُ في سُرعةٍ فائِقةٍ ما يُقارِبُ أَربَعِينَ صَحِيفةً في حَوالَيْ ساعَتَينِ مِنَ الزَّمَنِ.. فَضْلًا عن أنَّه لا يَكتُبُ بل يُملِي على غَيرِه ويَستَكتِبُه..
وهكذا، وبَعدَ مُضِيِّ سِتِّ سَنَواتٍ اطَّلَعتُ على تلك التَّوافُقاتِ بإِرشادِ القُرآنِ الكَرِيمِ أَيضًا، وبإِرشادِ تَفسِيرِ “إِشاراتِ الإِعجازِ”، حَيثُ جاءَ التَّوافُقُ فيه في تِسعِ كَلِماتٍ مِن كَلِمةِ “إنَّا”؛ وقد حارَ المُستَنسِخُونَ كَثِيرًا في الأَمرِ بَعدَ سَماعِهِمُ التَّوافُقَ مِنِّي.
فكما أنَّ لَفظَ “الرَّسُولُ الأَكرَمُ” وأَلفاظَ الصَّلَاةِ علَيْه في “المَكتُوبِ التّاسِعَ عَشَرَ” أَصبَحا كمِرآةٍ صَغِيرةٍ لِنَوعٍ مِن أَنواعِ مُعجِزاتِه ﷺ؛ كَذلِك لَفظُ “القُرآنِ” في رِسالةِ “المُعجِزاتِ القُرآنيّةِ” وهِي “الكَلِمةُ الخامِسةُ والعِشرُونَ” وفي الإِشارةِ الثَّامِنةَ عَشْرةَ مِنَ “المَكتُوبِ التَّاسِعَ عَشَرَ” قد ظَهَر في تَوافُقٍ لَطِيفٍ مِمَّا بَيَّن جُزءًا مِن أَربَعِينَ جُزءًا مِنَ “التَّوافُقاتِ” الَّتي ظَهَرَت في سائِرِ “الرَّسائِلِ” أَيضًا، والَّتي تُبيِّنُ نَوعًا مِنَ الأَنواعِ الأَربَعِينَ لِإعجازِ القُرآنِ إِزاءَ طَبَقةِ النَّاسِ الَّذِينَ يَعتَمِدُونَ على مُشاهَداتِهِم وَحْدَها، وهُمُ الَّذِينَ يُمثِّلُونَ واحِدةً مِن أَربَعِينَ طَبَقةً مِن طَبَقاتِ النَّاسِ، وذلك:
لقد تَكَرَّر لَفظُ “القُرآنِ” مِئةَ مَرّةٍ في “الكَلِمةِ الخامِسةِ والعِشرِينَ” وفي الإِشارةِ الثَّامِنةَ عَشْرةَ مِنَ “المَكتُوبِ التّاسِعَ عَشَرَ“، وتَناظَرَتِ الكَلِماتُ جَمِيعُها إلَّا ما نَدَر.
ففي الصَّحِيفةِ الثَّالِثةِ والأَربَعِينَ مِنَ الشُّعاعِ الثَّاني، هُناك سَبعةٌ مِن لَفظِ “القُرآنِ” تَتَناظَرُ كُلُّها.
وفي الصَّحِيفةِ السَّادِسةِ والخَمسِينَ الَّتي فيها تِسعةٌ مِن لَفظِ “القُرآنِ”، تَتَناظَرُ ثَمانِي كَلِماتٍ مِنها.
وهذه الصَّحِيفةُ التّاسِعةُ والسِّتُّونَ -الَّتي أَمامَ أَبصارِنا- تُوجَدُ خَمْسةُ أَلفاظٍ مِنَ “القُرآنِ” تَتَناظَرُ جَمِيعُها، وهكذا تَتَناظَرُ أَلفاظُ “القُرآنِ” المُكرَّرةُ الوارِدةُ في جَمِيعِ الصَّفَحاتِ، وقَلَّما يُستَثْنى واحِدٌ مِن كلِّ خَمْسةِ أو سِتّةِ أَلفاظٍ مِنه؛ وأمَّا سائِرُ التَّوافُقاتِ ففي الصَّحِيفةِ الثَّالِثةِ والثَّلاثِينَ -الَّتي هي أَمامَنا- خَمْسةَ عَشَرَ لَفظًا لـ”أَمْ”، تَتَناظَرُ أَربَعةَ عَشَرَ مِنها، وكَذلِك في هذه الصَّحِيفةِ الَّتي أَمامَ أَعيُنِنا، تَتَناظَرُ تِسعةٌ مِن لَفظِ “الإِيمانِ”، وانحَرَف واحِدٌ انحِرافًا قَلِيلًا، بوَضْعِ المُستَنسِخِ فاصِلةً بَينَ الكَلِماتِ؛ وكذا في هذه الصَّحِيفةِ الَّتي أَمامَنا يَتَناظَرُ لَفْظانِ مِن لَفظِ “المَحبُوب” أَحَدُهُما في السَّطرِ الثَّالِثِ والآخَرُ في السَّطرِ الخامِسَ عَشَرَ، فهُما يَتَناظَرانِ تَناظُرًا جَمِيلًا بمِيزانٍ تامٍّ، وقد صُفَّت بَينَهُما أَربَعةٌ مِن أَلفاظِ “العِشقِ” مُتَناظِرةً.
وهكذا، تُقاسُ التَّوافُقاتُ الغَيبِيّةُ الأُخرَى على هذه.
فهذه التَّوافُقاتُ مَوجُودةٌ -لا مَحالةَ- بشَكلٍ مِنَ الأَشكالِ في “الرَّسائِلِ” أيًّا كانَ المُستَنسِخُ، وكَيفَما كانَتِ الأَسطُرُ والصَّفَحاتُ، بحَيثُ لا تَدَعُ شُبْهةً أنَّها لَيسَت نَتِيجةَ المُصادَفةِ، ولا مِن نِتاجِ تَفكِيرِ المُؤلِّفِ والمُستَنسِخِ، ولكِنَّ التَّوافُقاتِ في خَطِّ بَعضِ المُستَنسِخِينَ تَلفِتُ الأَنظارَ أَكثَرَ، بمَعنَى أنَّ لِهذه “الرَّسائِلِ” خَطًّا حَقِيقيًّا خاصًّا بها، وأنَّ بَعضَ المُستَنسِخِينَ يَقتَرِبُ مِن ذلك الخَطِّ.
ومِن غَرائِبِ الأُمُورِ: أنَّ هذه التَّوافُقاتِ أَكثَرُ ظُهُورًا لَدَى المُستَنسِخِينَ غَيرِ الماهِرِينَ، مِمَّا يُفهَمُ مِنه أنَّ المَزايا والفَضائِلَ والظَّرافةَ في “الكَلِماتِ” الَّتي هي نَوعٌ مِن تَفسِيرِ القُرآنِ الكَرِيمِ لَيسَت مِلكَ أَحَدٍ؛ بل إنَّ مَلابِسَ الأَسالِيبِ المَوزُونةِ المُنتَظِمةِ الَّتي تُناسِبُ قامةَ الحَقائِقِ القُرآنيّةِ المُبارَكةِ الجَمِيلةِ المُنتَظِمةِ، لا تُفصَّلُ ولا تُخاطُ بِاختيارِ أَحَدٍ ولا بشُعُورِه، بل إنَّ وُجُودَها هو الَّذي يَقتَضِي أن يكُونَ الأَمرُ هكذا، وأنَّ يَدًا غَيبِيّةً هي الَّتي تُفَصِّلُها وتَخِيطُها وتُلبِسُها حَسَبَ تلك القامةِ.
أمَّا نَحنُ فتَرجُمانٌ فيها وخادِمٌ لَيسَ إلّا.
[النكتة الرابعة: جواب عن أسئلة حول الحشر]
النُّكتة الرَّابِعة:
تَذكُرُونَ في سُؤالِكُمُ الأوَّلِ، المُتَضمِّنِ لِخَمسةِ أو سِتّةِ أَسئِلةٍ:
كَيفَ يكُونُ الجَمعُ في مَيدانِ الحَشرِ، وهل يُحشَرُ النَّاسُ عُراةً؟ وكَيفَ يكُونُ لِقاءُ الأَصدِقاءِ الأَحِبّةِ، وكَيفَ نَجِدُ الرَّسُولَ ﷺ لِلشَّفاعةِ؟ إذ كَيفَ يُقابِلُ إِنسانٌ واحِدٌ عَدَدًا غَيرَ مَحدُودٍ مِنَ النّاسِ؟ وما نَوعُ ثِيابِ أَهلِ الجَنّةِ والنّارِ؟ ومَنِ الَّذي يَدُلُّنا على الطَّرِيقِ؟
الجَوابُ: إنَّ جَوابَ هذا السُّؤالِ مَوجُودٌ كامِلًا وواضِحًا في كُتُبِ الأَحادِيثِ الشَّرِيفةِ.
وسنُورِدُ هنا ما يُوافِقُ مَسلَكَنا ومَشرَبَنا مِن نُكتةٍ أو نُكتَتَينِ فحَسْبُ:
أوَّلًا: لقد بَيَّنّا في مَكتُوبٍ مِنَ “المَكتُوباتِ”: أنَّ مَيدانَ الحَشرِ هو في مَدارِ الأَرضِ السَّنَوِيِّ، وأنَّ الأَرضَ تُرسِلُ مَحاصِيلَها المَعنَوِيّةَ مِنَ الآنَ إلى أَلواحِ ذلك المَيدانِ، وأنَّها بحَرَكَتِها السَّنَوِيّةِ تُمَثِّـلُ دائِرةَ وُجُودٍ، وتكُونُ مَبدَأً لِتَشَكُّلِ مَيدانِ الحَشرِ، بمَحاصِيلِ تلك الدَّائِرةِ الوُجُودِيّةِ؛ وأنَّ الكُرةَ الأَرضِيّةَ الَّتي هي كسَفِينةٍ رَبَّانيّةٍ ستُفرِغُ ما في مَركَزِها مِن جَهَنَّمَ صُغرَى إلى جَهَنَّمَ كُبْرَى، كما ستُفرِغُ سُكَّانَها إلى مَيدانِ الحَشرِ.
ثانيًا: لقد أَثبَتْنا إِثباتًا قاطِعًا في “الكَلِماتِ” -ولا سِيَّما في “الكَلِمةِ العاشِرةِ” وفي “الكَلِمةِ التّاسِعةِ والعِشرِينَ“- وُجُودَ الحَشرِ معَ مَيدانِه.
ثالثًا: أمّا الِاجتِماعُ بالأَصدِقاءِ ولِقاؤُهُم، فقد أُثبِتَ إِثباتًا كامِلًا في كلٍّ مِنَ “الكَلِمةِ السَّادِسةَ عَشْرةَ” و”الكَلِمةِ الحادِيةِ والثَّلاثِينَ” و”الكَلِمةِ الثَّانِيةِ والثَّلاثِينَ“، وذلك أنَّ شَخْصًا واحِدًا يَستَطِيعُ في دَقِيقةٍ واحِدةٍ أن يُقابِلَ مَلايِينَ النَّاسِ وفي أَلفِ مَكانٍ ومَكانٍ، وذلك بسِرِّ النُّورانيّةِ.
رابعًا: إنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى قد أَلبَسَ مَخلُوقاتِه الأَحياءَ كافّةً لِباسًا فِطْرِيًّا سِوَى الإِنسانِ، ففي مَيدانِ الحَشرِ يُلبِسُه سُبحانَه لِباسًا فِطْرِيًّا، ويَتَعرَّى عن مَلابِسِه المَنسُوجةِ (غَيرِ الفِطْرِيّةِ)، وذلك بمُقتَضَى اسمِ اللهِ “الحَكِيمِ”.
أمَّا حِكْمةُ الأَلبِسةِ المَنسُوجةِ في الدُّنيا، فلا تَنحَصِرُ في الوِقايةِ مِنَ الحَرِّ والقَرِّ، والزِّينةِ، وسَتْرٍ لِلعَوْرةِ وَحْدَها، بل أَهَمُّ حِكْمةٍ لها هي:
أنَّها إِشارةٌ إلى سِيادةِ الإِنسانِ على سائِرِ الأَنواعِ وتَصَرُّفِه فيها، إذ إنَّ مَلابِسَه مَنسُوجةٌ مِن نَماذِجِ تلك الأَنواعِ؛ وإلَّا فما أَهوَنَ علَيْه سُبحانَه أن يُلبِسَ الإِنسانَ لبِاسًا فِطْريًا بَسِيطًا، إذ لَولا هذه الحِكْمةُ لَكانَ الإِنسانُ مَوضِعَ استِهزاءِ الحَيَواناتِ ذاتِ المَشاعِرِ، حَيثُ يُغطِّي نَفسَه، ويَلُفُّ جِسْمَه بِقِطَعٍ مُتَنوِّعةٍ وخِرَقٍ مُختَلِفةٍ.
أمَّا في مَيدانِ الحَشرِ فلا داعِيَ إلى هذه الحِكْمةِ ولا مُبَرِّرَ لِتِلك العَلاقةِ بَينَ الإِنسانِ وسائِرِ الأَنواعِ، لِذا لا حاجةَ إلى تلك المَلابِسِ الَّتي تُمثِّلُ نَماذِجَ تلك الأَنواعِ.
خَامسًا: أمَّا الدَّلِيلُ على الطَّرِيقِ، فهُو القُرآنُ لِأَمثالِك مِمَّن انضَوَوْا تَحتَ نُورِ القُرآنِ ولِوائِه. فانظُرْ إلى المُقَطَّعاتِ المَوجُودةِ في أَوائِلِ السُّوَرِ كـ ﴿الم﴾ و﴿الر﴾ و﴿حم﴾ واعْلَمْ مِنها وشاهِدْ: ما أَعظَمَ القُرآنَ مِن كِتابٍ، وما أَرْجاه مِن شَفِيعٍ، وما أَصدَقَه مِن دَلِيلٍ، وما أَقدَسَه مِن نُورٍ!
سَادسًا: أمَّا ثِيابُ أَهلِ الجَنّةِ وجَهَنَّمَ فقد وَضَّحَتْه “الكَلِمةُ الثّامِنةُ والعِشرُونَ“، والدُّستُورُ الَّذي ذُكِرَ فيما يَخُصُّ سَبعِينَ حُلّةً لِلحُورِ العِينِ جارٍ هنا أَيضًا، وذلك أنَّ إِنسانًا مِن أَهلِ الجَنّةِ لا شَكَّ يَرغَبُ في أن يَتَنعَّمَ بكُلِّ نَوعٍ مِن أَنواعِ لَذائِذِ الجَنّةِ، وفي كلِّ وَقتٍ وآنٍ؛ ومَعلُومٌ أنَّ في الجَنّةِ نَعِيمًا ولَذائِذَ في مُنتَهَى الِاختِلافِ والأَنواعِ، فهُو يُعاشِرُ جَمِيعَ تلك الأَنواعِ مِنَ النِّعَمِ، وفي كلِّ وَقتٍ، لِذلِك يَلبَسُ ويُلبِسُ حُورَه نَماذِجَ حُسنِ الجَنّةِ ونَعِيمِها بمِقياسٍ مُصَغَّرٍ، فيَكُونُ هو وحُورُه العِينُ بمَثابةِ جَنّةٍ مُصَغَّرةٍ.
إذ كما يَجمَعُ الإِنسانُ في حَدِيقةِ بَيتِه الأَزاهِيرَ المُنتَشِرةَ في تلك البَلْدةِ، أو كما يَجمَعُ صاحِبُ حانُوتٍ ما لَدَيْه مِن أَنواعِ البَضائِعِ في لائِحةٍ وقائِمةٍ، وكما يَقتَنِي الإِنسانُ مَلابِسَه وأَثاثَ بَيتِه مِن أَنواعِ المَخلُوقاتِ الَّتي يَتَصرَّفُ فيها، وله عَلاقةٌ مَعَها؛ فكَذلِك الَّذي هو مِن أَهلِ الجَنّةِ، ولا سِيَّما الَّذي عَبَد اللهَ بجَمِيعِ مَشاعِرِه وحَواسِّه، سيُلبِسُه اللهُ سُبحانَه برَحْمَتِه، ويُلبِسُ حُورَه العِينَ حُلَلًا، تُظهِرُ كُلَّ نَوعٍ مِن أَنواعِ جَمالِ الجَنّةِ ونَعيمِها وأَذواقِها بما يُشبِعُ كلَّ رَغبةٍ مِن رَغَباتِه، ويُرضِي كلَّ حاسَّةٍ مِن حَواسِّه، ويُمَتِّعُ كلَّ جِهازٍ مِن أَجهِزَتِه، ويُسَهِّلُ له تَذَوُّقَ كلِّ لَطِيفةٍ مِن لَطائِفِه.
والدَّليلُ على أنَّ تلك الحُلَلَ المُتَعدِّدةَ لَيسَت مِن جِنسٍ واحِدٍ ولا مِن نَوعٍ واحِدٍ هو الحَدِيثُ الشَّرِيفُ الوارِدُ بهذا المَعنَى: إنَّ الحُورَ العِينَ يَلبَسْنَ سَبعِينَ حُلّةً، ويُرَى مُخُّ عِظامِهِنَّ مِن تَحتِها.
بمَعنَى أنَّه ابتِداءً مِن أَعلَى حُلّةٍ مِن تلك الحُلَلِ إلى أَدْناها هُناك مَراتِبُ مِنَ التَّذَوُّقِ والتَّمَتُّعِ بحَيثُ تُشبَعُ جَمِيعُ الحَواسِّ والمَشاعِرِ بلَذائِذَ مُختَلِفةٍ وبأَنماطٍ مُختَلِفةٍ.
أمَّا مَن هو مِن أَهلِ النَّارِ فإنَّه قدِ ارْتَكَب السَّيِّئاتِ والذُّنُوبَ ببَصَرِه وبسَمْعِه وبقَلبِه وبعَقلِه وبِيَدِه، وبسائِرِ جَوارِحِه وحَواسِّه ومَشاعِرِه، فلا بُدَّ أنَّه سيُلبَسُ مَلابِسَ قُطِّعَت مِن أَجناسٍ مُختَلِفةٍ لِيُعذَّبَ بها ولِيَذُوقَ آلامًا مُتَنوِّعةً بحَسَبِ كلِّ حاسَّةٍ وجِهازٍ حتَّى تَصِيرَ المَلابِسُ جَهَنَّمَ مُصَغَّرةً تُحِيطُ به.. ولا يَتَنافَى هذا ومُقتَضَى الحِكْمةِ والعَدالةِ.
[النكتة الخامسة: هل كان أجداد النبي ﷺ يَدينون بدينٍ زمنَ الفترة؟]
النُّكتة الخَامسة:
تَسأَلُونَ: هل كانَ أَجدادُ الرَّسُولِ ﷺ يَدِينُونَ بدِينٍ في زَمَنِ الفَتْرةِ؟
الجَوابُ: هُنالِك رِواياتٌ تَدُلُّ على أنَّهُم كانُوا يَدِينُونَ ببَقايا دِينِ إِبراهِيمَ عَليهِ السَّلام، بَعدَ أن مَرَّت بفَتَراتِ الغَفْلةِ والظُّلُماتِ المَعنَوِيّةِ؛ وقد ظَلَّت مُتَعبَّدَ بَعضِ النّاسِ الخاصِّينَ.. فلا رَيبَ أنَّ الَّذِينَ انحَدَرُوا مِن نَسلِ سَيِّدِنا إِبراهِيمَ عَليهِ السَّلام والَّذِينَ شَكَّلُوا سِلسِلةً نُورانيّةً أَنتَجَت سَيِّدَنا الرَّسُولَ ﷺ لم يَكُونُوا مُهمِلِينَ لِلدِّينِ الحَقِّ، ولم يَقَعُوا في ظُلُماتِ الكُفرِ، ولكِنَّ الآيةَ الكَرِيمةَ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ تُبيِّنُ أنَّ أَهلَ الفَتْرةِ يكُونُونَ مِن أَهلِ النَّجاةِ، فلا يُؤاخَذُونَ بخَطاياهُم في الفُرُوعِ، بالِاتِّفاقِ، بل هُم أَهلُ نَجاةٍ عِندَ الإِمامِ الشّافِعِيِّ، والإِمامِ الأَشعَرِيِّ، حتَّى لو وَقَعُوا في الكُفرِ ولَيسَ لَدَيهِم أُصُولُ الإِيمانِ، لِأنَّ التَّكلِيفَ الإلهِيَّ يكُونُ ببِعثةِ الرُّسُلِ، ويَتَقرَّرُ التَّكلِيفُ بالِاطِّلاعِ على البِعثةِ.
وحَيثُ إنَّ الغَفْلةَ ومُرُورَ الزَّمانِ قد سَتَرا أَديانَ الأَنبِياءِ السَّابِقِينَ، فلا تكُونُ هذه الأَديانُ حُجّةً على أَهلِ زَمَنِ الفَتْرةِ، فإن أَطاعُوا يُثابُونَ، وإن لم يُطِيعُوا لا يُعذَّبُونَ، لِأنَّها لا تكُونُ حُجّةً ما دامَت مَستُورةً غَيرَ ظاهِرةٍ.
[النكتة السادسة: هل أُرسِل أحدٌ من أجداد النبي ﷺ بالنبوة؟]
النُّكتة السَّادِسة:
تقُولُونَ: هل أُرسِلَ أَحَدٌ بالنُّبوّةِ مِن أَجدادِ النَّبِيِّ ﷺ؟
الجَوابُ: لَيسَ هُناك نَصٌّ قاطِعٌ على وُجُودِ نَبِيٍّ مِن أَجدادِه ﷺ بَعدَ سَيِّدِنا إِسماعِيلَ عَليهِ السَّلام، ولكِن ظَهَر نَبِيّانِ مِن غَيرِ أَجدادِه ﷺ، وهُما خالِدُ بنُ سِنانٍ، وحَنظَلةُ. وهُنالِك قَصِيدةٌ مَشهُورةٌ لِكَعبِ بنِ لُؤَيٍّ -وهُو مِن أَجدادِه ﷺ- يقُولُ فيها:
على غَفْلةٍ يَأتِي النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ * فيُخبِرُ أَخبارًا صَدُوقًا خَبِيرُها
هذا الكلامُ شَبِيهٌ بكَلامِ نُبوّةٍ مُعجِزٍ، وقد قالَ الإِمامُ الرَّبّانِيُّ مُستَنِدًا إلى الدَّلِيلِ والكَشفِ: “لقد بُعِثَ أَنبِياءُ كَثِيرُونَ في الهِندِ، إلّا أنَّ بَعضَهُم لم تَتَّبِعْهُم أُمّةٌ أوِ انحَصَرَت في عِدّةِ أَشخاصٍ مَحدُودِينَ، فلم يَشتَهِرُوا، أو لم يُطلِق علَيْهِمُ النّاسُ اسمَ النَّبِيِّ”.
بِناءً على هذه القاعِدةِ لِلإِمامِ الرَّبّانِيِّ، يُمكِنُ وُجُودُ أَنبِياءَ أَمثالِ هَؤُلاءِ في أَجدادِ النَّبِيِّ ﷺ.
[النكتة السابعة: حول إيمان والدَي النبي ﷺ وجدِّه]
النُّكتة السَّابعة:
تقُولُونَ: ما أَصَحُّ خَبَرٍ وأَقواه بحَقِّ إِيمانِ والِدَيِ الرَّسُولِ ﷺ وجَدِّه عَبدِ المُطَّلِبِ؟
الجَوابُ: إنَّ “سَعِيدًا الجَدِيدَ” لا يَقتَنِي أيَّ كِتابٍ غَيرَ القُرآنِ الكَرِيمِ مُنذُ عَشرِ سَنَواتٍ، ويقُولُ: حَسْبِيَ القُرآنُ كِتابًا. ولا يَسَعُنِي الوَقتُ لِلتَّدقِيقِ والبَحثِ في مِثلِ هذه المَسائِلِ الفَرعِيّةِ في جَمِيعِ كُتُبِ الأَحادِيثِ كي أَتَمكَّنَ مِنَ الوُصُولِ إلى أَقوَى الأَخبارِ وأَصَحِّها.. إلّا أنَّني أقُولُ:
إنَّ والِدَيِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ مِن أَهلِ النَّجاةِ ومِن أَهلِ الجَنّةِ، ومِن أَهلِ الإِيمانِ، فلا شَكَّ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى لا يُؤْلِمُ قَلبَ حَبِيبِه ﷺ ولا يَجرَحُ شَفَقتَه اللَّطِيفةَ الَّتي تَمْلَأُ ذلك القَلبَ المُبارَكَ.
فإن قِيلَ: إنْ كانَ الأَمرُ هكذا فلِمَ لَمْ يُوَفَّقُوا لِلإِيمانِ ولم يُدرِكُوا بِعثَتَه ﷺ ؟
الجَوابُ: إنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى بكَرَمِه العَمِيمِ لا يَجعَلُ والِدَيِ الرَّسُولِ الحَبِيبِ ﷺ تَحتَ ثِقَلِ المِنَّةِ، تَلطِيفًا لِشُعُورِه ﷺ، إذِ اقتَضَت رَحْمَتُه سُبحانَه أنْ يُرضِيَ حَبِيبَه الكَرِيمَ ﷺ ويُسعِدَ والِدَيه ويَجعَلَهُما تَحتَ مِنّةِ رُبُوبيَّتِه الخالِصةِ، لِكَيْلا يُنزِلَهُما مِن مَرتَبةِ الوالِدِيّةِ إلى مَرتَبةِ الأَوْلادِ المَعنَوِيّةِ، فلِذلِك لم يَجعَل والِدَيه ولا جَدَّه مِن أُمَّتِه ظاهِرًا، في حِينِ أَنعَمَ علَيْهِما بمَزايا الأُمّةِ وفَضائِلِها وسَعادَتِها.
نعم، لو حَضَر أَمامَ مُشِيرٍ عَظِيمٍ في الجَيشِ والِدُه وهُو برُتبةِ نَقِيبٍ، لَظَلَّ المُشِيرُ تَحتَ تَأثِيرِ شُعُورَينِ مُتَناقِضَينِ.. لِذا فالسُّلطانُ لا يَجعَلُ والِدَه تَحتَ إِمْرَتِه، رَحْمةً بمُشِيرِه الكَرِيمِ.
[النكتة الثامنة: حول إيمان أبي طالب]
النُّكتة الثَّامِنة:
تقُولُونَ: ما أَصَحُّ الأَقوالِ بحَقِّ إِيمانِ عَمِّه أَبي طالِبٍ؟
الجَوابُ: إنَّ الشِّيعةَ قائِلُونَ بإِيمانِه، أمّا أَهلُ السُّنّةِ فإنَّ أَكثَرَهُم لا يقُولُونَ بإِيمانِه.
ولكِنَّ الَّذي وَرَد إلى قَلبِي، هو الآتِي :
إنَّ أبا طالِبٍ كانَ يُحِبُّ شَخصَ الرَّسُولِ ﷺ حُبًّا خالِصًا جادًّا، يُحِبُّ ذاتَه لا رِسالَتَه؛ فلا شَكَّ أنَّ مَحَبَّتَه الخالِصةَ جِدًّا وشَفَقَتَه القَوِيّةَ لِشَخصِ الرَّسُولِ ﷺ لا تَذهَبُ هَباءً مَنثُورًا، ولا تَضِيعُ عِندَ اللهِ.
نعم، إنَّ أبا طالِبٍ الَّذي أَحَبَّ حَبِيبَ رَبِّ العالَمِينَ حُبًّا خالِصًا، وحَماه مِنَ الأَعداءِ، وأَظهَرَ مُوالاتَه له، حتَّى لو صارَ إلى جَهَنَّمَ لِعَدَمِ إِظهارِه إِيمانًا مَقبُولًا -خَجَلًا وعَصَبِيّةً قَومِيّةً وأَمثالَها مِنَ المَشاعِرِ ولَيسَ عِنادًا وإِنكارًا- فإنَّ اللهَ سُبحانَه قادِرٌ على أن يَخلُقَ جَنّةً خاصّةً به في جَهَنَّمَ ثَوابًا لِحَسَناتِه، ويُبَدِّلَ جَهَنَّمَه الخاصَّةَ إلى جَنَّةٍ خاصَّةٍ، بمِثلِ ما يَخلُقُ أَحيانًا رَبِيعًا زاهِيًا في الشِّتاءِ القارِسِ، وبمِثلِ ما يُحَوِّلُ السِّجنَ الضَّيِّقَ -برُؤْيا يَراها بَعضُهُم- إلى قَصرٍ مُنِيفٍ.
والعِلمُ عِندَ اللهِ.. لا يَعلَمُ الغَيبَ إلَّا اللهُ
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
❀ ❀ ❀