المكتوب السادس والعشرون: مناظرة لحزب الشيطان والرد على القومية السلبية
[يتألف هذا المكتوب من أربعة مباحث: مناظرة مع الشيطان، ثلاث شخصيات للنورسي، مبحث حول القومية، ومبحث يجيب عن عشر مسائل]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

المكتوب السادس والعشرون
هَذَا المَكتُوب السَّادِس والعُشرُون عِبَارَة عَن أَربَعَة مَبَاحِث ذَات عَلَاقَات بَسيطَة فِيمَا بَينهَا.
[المبحث الأول: حجةُ القرآن على الشيطان وحِزبه]
المَبحَث الأوَّل
بِاسْمِه سُبحانَه وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
“حُجّة القُرآنِ عَلى الشَّيطانِ وحِزبِه“
إنَّ هذا المَبحَثَ الأَوَّلَ الَّذي يُلزِمُ إِبلِيسَ ويُفحِمُ الشَّيطانَ ويُسكِتُ أَهلَ الطُّغيانِ، نَتِيجةَ حادِثةٍ وقَعَت فِعلًا، رَدًّا على دَسِيسةٍ شَيطانيّةٍ رَهِيبةٍ، ساقَها ضِمنَ مُحاكَمةٍ عَقلِيّةٍ حِيادِيّةٍ؛ وقد كَتَبتُ تلك الحادِثةَ قَبلَ عَشرِ سَنَواتٍ كِتابةً مُجمَلةً في كِتابِ “اللَّوامِعِ” وأَذكُرُها الآنَ:
قَبلَ تَألِيفِ هذه الرِّسالةِ بإِحدَى عَشْرةَ سَنةً كُنتُ أُنصِتُ يَومًا إلى القُرآنِ الكَرِيمِ مِن حُفَّاظٍ كِرامٍ في جامِعِ “بايَزِيدَ” بإسطَنبُولَ، وذلك في أَيّامِ شَهرِ رَمَضانَ المُبارَكِ، وإذا بي أَسمَعُ كأنَّ صَوتًا مَعنَوِيًّا، صَرَفَ ذِهنِي إلَيْه، دُونَ أن أَرَى شَخْصَه بالذّاتِ، فأَعَرتُ له السَّمعَ خَيالًا، ووَجَدتُه يقُولُ: إنَّك تَرَى القُرآنَ سامِيًا جِدًّا ولامِعًا جِدًّا، فهَلّا نَظَرتَ إلَيْه نَظْرةً حِيادِيّةً، ووازَنتَه بمِيزانِ مُحاكَمةٍ عَقلِيّةٍ حِيادِيّةٍ؛ أَعنِي: اِفرِضْ أنَّ القُرآنَ قَولُ بَشَرٍ، ثمَّ انظُر إلَيْه بَعدَ هذا الفَرْضِ هل تَجِدُ فيه تلك المَزايا والمَحاسِنَ؟!
اغتَرَرتُ به في الحَقِيقةِ، فافتَرَضتُ القُرآنَ قَولَ بَشَرٍ، ونَظَرتُ إلَيْه مِن تلك الزَّاوِيةِ، وإذا بي أَرَى نَفسِي في ظَلامٍ دامِسٍ، فقدِ انطَفَأَت أَضواءُ القُرآنِ السَّاطِعةُ، وعَمَّ الظَّلامُ الأَرْجاءَ كما يَعُمُّ الجامِعَ كُلَّه إذا مَسَّ أَحَدُهُم مِفتاحَ الكَهرَباءِ.
فعَلِمتُ عِندَها أنَّ المُتَكَلِّمَ مَعِي هو شَيْطانٌ يُرِيدُ أن يُوقِعَني في هاوِيةٍ، فاستَعصَمتُ بالقُرآنِ الكَرِيمِ نَفسِه، وإذا بنُورٍ يَقذِفُه اللهُ سُبحانَه في قَلبِي، أَجِدُ نَفسِي به، قَوِيًّا قادِرًا على الدَّفاعِ.. وحِينَها بَدَأَتِ المُناظَرةُ معَ الشَّيطانِ على النَّحوِ الآتي:
قُلتُ: أيُّها الشُّيطانُ، إنَّ المُحاكَمةَ الحِيادِيّةَ -دُونَ انحِيازٍ إلى أَحَدِ الطَّرَفَينِ- هي التِزامُ مَوضِعٍ وَسَطٍ بَينَهُما، بَيدَ أنَّ المُحاكَمةَ الحِيادِيّةَ الَّتي تَدعُو إلَيْها -أَنتَ وتَلامِيذُك مِنَ الإِنسِ- إنَّما هي التِزامُ الطَّرَفِ المُخالِفِ، فهِي لَيسَت حِيادِيّةً، بل خُرُوجٌ عنِ الدِّينِ مُؤَقَّتًا، ذلك لِأنَّ النَّظَرَ إلى القُرآنِ أنَّه كَلامُ بَشَرٍ وإِجراءُ مُحاكَمةٍ عَقلِيّةٍ في ضَوءِ هذا الفَرْضِ ما هو إلّا اتِّخاذُ الطَّرَفِ المُخالِفِ أَساسًا، والتِزامٌ لِلباطِلِ أَصلًا، ولَيسَ أَمرًا حِيادِيًّا، بل هو انحِيازٌ لِلباطِلِ ومُوالاةٌ له.
فقال الشَّيطانُ: إذًا افْرِضْ أنَّه كَلامٌ وَسَطٌ، لا تَقُل: إنَّه كَلامُ اللهِ، ولا كَلامُ بَشَرٍ.
قُلتُ: وهذا أَيضًا لا يُمكِنُ أن يكُونَ قَطعًا، لِأنَّه إذا وُجِدَ مالٌ مُنازَعٌ فيه، وكان المُدَّعِيانِ مُتَقارِبَينِ، أي: قَرِيبَينِ مِن بَعضِهِما مَكانًا، حِينَئذٍ يُوضَعُ ذلك المالُ لَدَى شَخصٍ غَيرِهِما، أو في مَكانٍ تَنالُه أَيدِيهِما؛ فأيُّما الطَّرَفَينِ أَقامَ الحُجّةَ على الآخَرِ، وأَثبَتَ دَعواه أَخَذ المالَ، ولكِن لو كان المُدَّعِيانِ مُتَباعِدَينِ أَحَدُهُما عنِ الآخَرِ غايةَ البُعدِ، كأَن يكُونَ أَحَدُهُما في المَشرِقِ والآخَرُ في المَغرِبِ، عِندَئِذٍ يُتْرَكُ المالُ لَدَى “ذِي اليَدِ” مِنهُما، حَسَبَ القاعِدةِ المَعرُوفةِ، ذلك لِأنَّه لا يُمكِنُ تَركُ المالِ في مَوضِعٍ وَسَطٍ بَينَهُما. وهكذا فالقُرآنُ الكَرِيمُ مَتاعٌ ثَمِينٌ وبِضاعةٌ سامِيةٌ ومالٌ رَفِيعٌ للهِ، والبُعدُ بَينَ الطَّرَفَينِ بُعدٌ مُطلَقٌ لا يَحُدُّه حَدٌّ، إذ هُو البُعدُ ما بَينَ كَلامِ رَبِّ العالَمِينَ وكَلامِ بَشَرٍ؛ ولِهذا لا يُمكِنُ وَضعُ المالِ وَسَطَ الطَّرَفَينِ، كما لا وَسَطَ بَينَهُما أَصلًا، لِأنَّهُما كالوُجُودِ والعَدَمِ، فلا وَسَطَ بَينَهُما؛ لِذا فإنَّ صاحِبَ اليَدِ لِلقُرآنِ هو الطَّرَفُ الإِلٰهِيُّ؛ ولِهذا يَنبَغِي أن يُقبَلَ الأَمرُ هكَذا وسَوقُ الأَدِلّةِ في ضَوْئِها، أي إنَّه بِيَدِه سُبحانَه؛ إلّا إذا استَطاعَ الطَّرَفُ الآخَرُ دَحْضَ جَمِيعِ البَراهِينِ المُشِيرةِ إلى أنَّه كَلامُ اللهِ، وتَفنِيدَها الواحِدَ تِلوَ الآخَرِ، عِندَئذٍ يُمكِنُه أن يَمُدَّ يَدَه إلَيْه، وإلّا فلا.
هَيْهاتَ! مَن ذا يَستَطِيعُ أن يُزَحزِحَ تلك الدُّرّةَ الغاليةَ المُثبَّتةَ بالعَرشِ الأَعظَمِ بآلافٍ مِن مُثبِتاتِ البَراهِينِ الدّامِغةِ، وأنَّى لِأَحَدٍ الجُرأةُ على هَدْمِ دَلائِلِ الأَعمِدةِ القائِمةِ، لِيُسقِطَ تلك الدُّرّةَ النَّفِيسةَ مِنَ العَرشِ السّامِي.
فيا أَيُّها الشَّيطانُ، إنَّ أَهلَ الحَقِّ والإِنصافِ يُحاكِمُونَ الأُمُورَ مُحاكَمةً عَقلِيّةً سَلِيمةً على هذه الصُّورةِ رَغمَ أَنفِك، بل يَزدادُونَ إِيمانًا بالقُرآنِ بأَصغَرِ دَلِيلٍ.
أمّا الطَّرِيقُ الَّذي تَدُلُّ علَيْه أَنتَ وتَلامِيذُك، أي: لوِ افتُرِضَ القُرآنُ كَلامَ بَشَرٍ، ولو لِمَرّةٍ واحِدةٍ، أي: لو أُسقِطَت تلك الدُّرّةُ العَظِيمةُ الثّابِتةُ بالعَرشِ إلى الأَرضِ، فيَلزَمُ وُجُودُ بُرهانٍ قَوِيٍّ وعَظِيمٍ بقُوّةِ جَمِيعِ البَراهِينِ ويتَّسِعُ لِجَمِيعِ الدَّلائِلِ، كي يَقوَى على الِارتِفاعِ بها مِنَ الأَرضِ ويُثبِتَها في العَرشِ المَعنَوِيِّ، وبذلِك وَحدَه يَنجُو مِن ظُلُماتِ الكُفرِ وأَوْهامِه ويَبلُغُ نُورَ الإِيمانِ ويُدرِكُه، وهذا أَمرٌ عَسِيرٌ قلَّما يُوفَّقُ المَرءُ إلَيْه، ومِن هُنا يَفقِدُ الكَثِيرُونَ في هذا الزَّمانِ إِيمانَهُم بدَسِيسَتِك المُلفَّعةِ باسمِ المُحاكَمةِ العَقلِيّةِ الحِيادِيّةِ.
انبَرَى الشَّيطانُ قائِلًا: إنَّ سِياقَ الكَلامِ في القُرآنِ شَبِيهٌ بكَلامِ البَشَرِ، فهُو يُجرِي مُحاوَراتِه في أُسلُوبِ مُحاوَرةِ البَشَرِ، فإِذًا هو كَلامُ بَشَرٍ، إذ لو كانَ كلامَ اللهِ لَكانَ خارِقًا لِلعادةِ في كلِّ جِهاتِه، بما يَلِيقُ باللهِ، ولا يُشبِهُ كَلامَ البَشَرِ، مِثلَما لا تُشبِهُ صَنْعةُ اللهِ صَنْعةَ بَشَرٍ! فقُلتُ جَوابًا: إِنَّ رَسُولَنا الأَعظَمَ ﷺ ظَلَّ في طَورِ بَشَرِيَّتِه في أَفعالِه وأَحوالِه وأَطوارِه كُلِّها -فيما سِوَى مُعجِزاتِه وخَصائِصِه- فانقادَ انقِيادَ طاعةٍ لِسُنَنِ اللهِ وأَوامِرِه التَّكوِينيّةِ، كأَيِّ إِنسانٍ آخَرَ، فكان يُقاسِي البَردَ ويُعانِي الأَلمَ.. وهكذا لم تُوهَب له خَوارِقُ غيرُ عادِيّةٍ في أَحوالِه وأَطوارِه كُلِّها، وذلك لِيكُونَ قُدوةً لِلأُمّةِ بأَفعالِه، ومُرشِدًا لَهُم بأَطوارِه، وهادِيًا لِلنّاسِ كافّةً بحَرَكاتِه وسَكَناتِه، إذ لو كانَ خارِقًا لِلعادةِ في كلِّ أَطوارِه لَمَا تَسَنَّى له أن يكُونَ إِمامًا لِلنّاسِ كافّةً، وقُدْوةً لَهُم في جَمِيعِ شُؤُونِه بالذّاتِ، ولَمَا كان مُرشِدًا لِلنّاسِ كافّةً، ولَمَا كان رَحْمةً لِلعالَمِينَ في جَمِيعِ أَحوالِه.
كَذلِك الأَمرُ في القُرآنِ الحَكِيمِ، إذ هو إِمامُ أَربابِ الشُّعُورِ ومُرشِدُ الجِنِّ والإِنسِ وهَادِي الكَامِلِينَ ومُعلِّمُ أَهلِ الحَقِيقةِ، فالضَّرُورةُ تَقتَضِي أن يكُونَ على نَمَطِ مُحاوَرةِ البَشَرِ وأُسلُوبِه، لِأنَّ الإِنسَ والجِنَّ يَستَلهِمُونَ مُناجاتَهُم مِنه، ويَتَعلَّمُونَ دَعَواتِهِم مِنه، ويَذكُرُونَ مَسائِلَهُم بلِسانِه، ويَتَعرَّفُونَ مِنه آدابَ مُعاشَرَتِهِم.. وهَكَذا يَتَّخِذُه كلُّ مُؤمِنٍ به إِمامًا له ومَرجِعًا يَرجِعُ إلَيْه.
فلَو كَانَ القُرآنُ عَلى نَمَطِ الكَلامِ الإلٰهِيِّ الَّذي سَمِعَه سَيِّدُنا مُوسَى عَليهِ السَّلام في “جَبَلِ الطُّورِ” لَمَا أَطاقَ البَشَرُ سَماعَه ولا قَدَر عَلَى الإِنصَاتِ إلَيْه، ولا استَطاعَ أن يَجعَلَه مَرجِعًا لِشُؤُونِه كافّةً؛ فسَيِّدُنا مُوسَى عَليهِ السَّلام -وهُو مِن أُولِي العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ- ما استَطاعَ أن يَتَحمَّلَ إلّا سَماعَ بَعضٍ مِن كَلامِه سُبحانَه، حَيثُ قال: أَهكَذا كَلامُك؟ قال اللهُ: لي قُوّةُ جَمِيعِ الأَلسِنةِ.
[ألا يمكن لبشرٍ أن يأتي بشيءٍ يشبه القرآن باسم الدين؟]
ولكِنَّ الشَّيطانَ عادَ قائِلًا: كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ يَذكُرُونَ مَسائِلَ دِينيّةً شَبِيهةً بما في القُرآنِ، ألا يُمكِنُ لِبَشَرٍ أن يَأْتِيَ بشَيءٍ شَبِيهٍ بالقُرآنِ بِاسمِ الدِّينِ؟
فقُلتُ مُستَلهِمًا مِن فَيضِ القُرآنِ الكَرِيمِ:
أوَّلًا: إنَّ ذا الدِّينَ يُبيِّنُ الحَقَّ ويقُولُ: الحَقُّ كذا، الحَقِيقةُ هكذا، وأَمرُ اللهِ هذا.. يقُولُه بدافِعِ حُبِّه لِلدِّينِ، ولا يَتكَلَّمُ بِاسمِ اللهِ حَسَبَ هَواه، ولا يَتَجاوَزُ طَوْرَه بما لا حَدَّ له، بأن يَدَّعِيَ أنَّه يَتَكلَّمُ بِاسمِ اللهِ أو يَتَكلَّمُ عنه فيُقلِّدُه في كَلامِه سُبحانَه، بل تَرتَعِدُ فَرائِصُه أَمامَ الدُّستُورِ الإلٰهِيِّ: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾.
ثانيًا: إنَّه لا يُمكِنُ بحالٍ مِنَ الأَحوالِ أن يقُومَ بَشَرٌ بهذا العَمَلِ ثمَّ يُوَفَّقَ فيه، بل هذا مُحالٌ في مِئةِ مُحالٍ، لِأنَّ أَشخاصًا مُتَقارِبِينَ يُمكِنُهُم أن يُقلِّدَ أَحَدُهُمُ الآخَرَ، ورُبَّما يُمكِنُ لِمَن هم مِن جِنسٍ واحِدٍ أو صِنفٍ واحِدٍ أن يَتَقمَّصَ أَحَدُهُم شَخصِيّةَ الآخَرِ، فيَستَغفِلُوا النّاسَ مُؤَقَّتًا.
ولكِن لا يُمكِنُ أن يَستَغفِلَ أَحَدُهُمُ النَّاسَ بصُورةٍ دائِمةٍ، إذ سيَظهَرُ لِأَهلِ العِلمِ والمَعرِفةِ مَدَى التَّصَنُّعِ والتَّكلُّفِ في أَطْوارِه وأَفعالِه لا مَحالةَ؛ ولا بُدَّ أن يَنكَشِفَ كَذِبُه يَومًا، فلا تَدُومُ حِيلَتُه قَطُّ، وإن كان الَّذي يُرِيدُ التَّقلِيدَ بَعِيدًا غايةَ البُعدِ، كأَنْ يكُونَ شَخْصًا اعتِيادِيًّا يُرِيدُ أن يُقلِّدَ ابنَ سِينا في العِلمِ، أو راعِيًا يُرِيدُ أن يَظهَرَ بمَظهَرِ السُّلطانِ في مُلكِه، فلا يَتَمكَّنُ أن يَخدَعَ أَحَدًا مِنَ النّاسِ، بل يكُونُ مَوضِعَ استِهزاءٍ وسُخرِيةٍ، إذ كلُّ حالٍ مِن أَحوالِه سيَصرُخُ: إنَّ هذا خَدّاعٌ.
وكما أنَّه مُحالٌ ظُهُورُ اليَراعةِ (ذُبابةُ اللَّيلِ) لِأَهلِ الرَّصْدِ والفَلَكِ بمَظهَرِ نَجمٍ حَقِيقيٍّ، طَوالَ أَلفِ سَنةٍ، دُونَ تكَلُّفٍ! وكما أنَّه مُحالٌ ظُهُورُ الذُّبابِ بمَظهَرِ الطَّاوُوسِ لِذَوِي الأَبصارِ، طَوالَ سَنةٍ دُونَ تَصَنُّعٍ! وكما أنَّه مُحالٌ تَقَمُّصُ جُندِيٍّ اعتِيادِيٍّ طَوْرَ مُشِيرٍ في الجَيشِ واعتِلاءُ مَقامِه مُدّةً مَدِيدةً، مِن دُونِ أن يَكشِفَ أَحَدٌ خِداعَه! وكما أنَّه مُحالٌ ظُهُورُ مُفتَرٍ كاذِبٍ لا إِيمانَ له في طَوْرِ أَصدَقِ النّاسِ وأَكثَرِهِم إِيمانًا وأَرسَخِهِم عَقِيدةً، طَوالَ حَياتِه، أَمامَ أَنظارِ المُتَفحِّصِينَ المُدَقِّقينَ، بلا تَرَدُّدٍ ولا اضطِرابٍ، ويُخفِي تَصَنُّعَه عن أَنظارِ الدُّهاةِ.
فكما أنَّ هذه الأَمثِلةَ مُحالةٌ في مِئةِ مُحالٍ، ولا يُمكِنُ أن يُصَدِّقَها مَن يَملِكُ مُسكةً مِن عَقلٍ، بل لا بُدَّ أن يَحكُمَ أنَّها هَذَيانٌ وجُنُونٌ.. كَذلِك افتِراضُ القُرآنِ كَلامَ بَشَرٍ -حاشَ للهِ أَلفَ أَلفِ مَرّةٍ حاشَ للهِ- إذ يَستَلزِمُ عدَّ ماهِيّةِ الكِتابِ المُبِينِ الَّذي هو نَجمُ الحَقِيقةِ اللّامِعُ، بل شَمسُ الكَمالاتِ السَّاطِعةِ، تُشِعُّ دَومًا أَنوارَ الحَقائِقِ في سَماءِ عالَمِ الإِسلامِ، كما هو مُشاهَدٌ.. يَستَلزِمُ الفَرضُ عَدَّ ذلك النُّورِ السَّاطِعِ بَصِيصًا يَحمِلُه مُتَصنِّعٌ، يَصُوغُه مِن عِندِ نَفسِه بالخُرافاتِ (حاشَ للهِ أَلفَ أَلفِ مَرّةٍ) والأَقرَبُونَ مِنه والمُدَقِّقُونَ لِأَحوالِه لا يُمَيِّزُونَ ذلك، بل يَرَونَه نَجْمًا عالِيًا ومَنبَعًا ثَرًّا لِلحَقائِقِ! وما هذا إلّا مُحالٌ في مِئةِ مُحالٍ؛ فَضْلًا عن ذلك فإنَّك أيُّها الشَّيطانُ، إن تَمادَيتَ في خُبثِك ودَسائِسِك أَضعافَ أَضعافِ ما أَنتَ علَيْه الآنَ، فلن تَستَطِيعُ أن تَجعَلَ هذا المُحالَ مُمكِنًا، ولن تُقنِعَ به عَقلًا سَلِيمًا قَطُّ، ولكِنَّك تُغَرِّرُ بالنَّاسِ بإِراءَتِهِمُ الأُمُورَ مِن بَعِيدٍ، فتُرِيهِمُ النَّجمَ اللَّامِعَ صَغِيرًا كاليَراعةِ.
ثالثًا: إنَّ افتِراضَ القُرآنِ كَلامَ بَشَرٍ يَستَلزِمُ أن تكُونَ حَقائِقُ وأَسرارُ الفُرقانِ الحَكِيمِ ذِي المَزايا السّامِيةِ والبَيانِ المُعجِزِ، الجامِعِ لِكُلِّ رَطبٍ ويابِسٍ، الَّذي له آثارٌ جَلِيلةٌ في عالَمِ الإِنسانيّةِ، وتَجَلِّياتٌ باهِرةٌ وتَأثِيراتٌ طَيِّبةٌ مُبارَكةٌ ونَتائِجُ قَيِّمةٌ -كما هو مُشاهَدٌ- إذ هو الَّذي يَنفُثُ في البَشَرِيّةِ الرُّوحَ ويَبعَثُ فيها الحَياةَ ويُوصِلُها إلى السَّعادةِ الخالِدةِ.. يَستَلزِمُ الفَرضُ أن يكُونَ هذا الفُرقانُ الحَكِيمُ وحَقائِقُه الجَلِيلةُ مِنِ اختِلاقِ وافتِراءِ إِنسانٍ لا عِلمَ له ولا مُعِينَ، ويَلزَمُ ألّا يُشاهِدَ علَيْه أُولَئِك الدُّهاةُ الفَطِنُونَ القَرِيبُونَ مِنه المُتَفحِّصُونَ لِأَحوَالِه، أيّةَ عَلامةٍ مِن عَلائِمِ الخِداعِ والتَّموِيهِ، بل يَرَونَ دائِمًا إِخلاصَه وثَباتَه وجِدِّيَّتَه.
وهذا مُحالٌ في مِئةِ مُحالٍ، فَضْلًا عن أنَّ الَّذي أَظهَرَ في أَحوالِه وأَقوالِه وحَرَكاتِه كُلِّها طَوالَ حَياتِه الأَمانةَ والإِيمانَ والأَمانَ والإِخلاصَ والصِّدقَ والِاستِقامةَ، وأَرشَدَ إلَيْها ورَبَّى الصِّدِّيقِينَ على تلك الصِّفاتِ السَّامِيةِ والخِصالِ الرَّفِيعةِ.. يَلزَمُ أن يكُونَ -بذلك الِافتِراضِ- مِمَّن لا يُوثَقُ به، ولا إِخلاصَ له ولا يَحمِلُ عَقِيدةً.. وما ذلك إلّا رُؤيةُ المُحالِ في المُحالِ المُضاعَفِ حَقِيقةً واقِعةً! وما ذلك إلَّا هَذَيانٌ فِكْرِيٌّ يَخجَلُ مِنه حتَّى الشَّيطانُ نَفسُه.. ذلك لِأنَّ المَسأَلةَ لا وَسَطَ لها، إذ لو لم يَكُنِ القُرآنُ الكَرِيمُ -بفَرْضِ مُحالٍ- كَلامَ اللهِ، فإنَّه يَهوِي ساقِطًا مِنَ العَرشِ الأَعظَمِ إلى الأَرضِ، ولا يَبقَى في الوَسَطِ، فيَكُونُ مَنبَعَ الخُرافاتِ، وهو مَجمَعُ الحَقائِقِ المَحْضةِ، وكذا فإنَّ الَّذي أَظهَرَ ذلك الأَمرَ الرَّبّانِيَّ الخالِدَ لو لم يكُن رَسُولًا -حاشَ للهِ ثمَّ حاشَ للهِ- يَلزَمُ بهذا الِافتِراضِ أنْ يَهوِيَ مِن أَعلَى عِلِّيِّينَ إلى أَسفَلِ سافِلِينَ، ومِن دَرَجةِ مَنبَعِ الكَمالاتِ والفَضائِلِ إلى مَعدِنِ الدَّسائِسِ، ولا يَبقَى في الوَسَطِ.. ذلك لِأنَّ الَّذي يَفتَرِي على اللهِ ويَكذِبُ علَيْه يَسقُطُ إلى أَدنَى الدَّرَكاتِ.
إنَّ رُؤْيةَ الذُّبابِ طاوُوسًا رُؤْيةً دائِمةً، ومُشاهَدةَ أَوْصافِ الطّاوُوسِ الرَّفيعةِ في ذلك الذُّبابِ كما أنَّها مُحالٌ، فهذه المَسأَلةِ أيضًا مُحالٌ مِثلُها، ولا يُمكِنُ أن يُعطِيَها احتِمالًا قَطُّ إلّا مَن كان سِكِّيرًا فاقِدَ العَقلِ.
رَابعًا: إنَّ افتِراضَ القُرآنِ الكَرِيمِ كَلامَ بَشَرٍ يَلزَمُ مِنه أنْ يكُونَ القُرآنُ الَّذي هو القائِدُ المُقدَّسُ والنُّورُ الهادِي لِلأُمّةِ المُحمَّدِيّةِ، المُمَثِّلةِ لِأَعظَمِ جَماعةٍ وجَيشٍ في بَنِي آدَمَ، والَّذي يَستَطِيعُ بقَوانِينِه الرَّصِينةِ ودَساتِيرِه الرَّاسِخةِ وأَوامِرِه النَّافِذةِ أن يَغزُوَ بذلك الجَيشِ العَظِيمِ كِلا العالَمَينِ ويَفتَحَ الدُّنيا والآخِرةَ، بما أَعطاهُم مِن نِظامٍ لِتَسيِيرِ أَحوالِهِم وتَنسِيقِ شُؤُونِهِم، وبما جَهَّزَهُم به مِن أَعتِدةٍ مَعنَوِيّةٍ ومادِّيّةٍ، وعَلَّم عُقُولَ الأَفرادِ -كلًّا حَسَبَ دَرَجَتِه- ورَبَّى قُلُوبَهُم وسَخَّر أَرواحَهُم وطَهَّر وِجْدانَهُم واستَخْدَم جَوارِحَهُم -كما هو مُشاهَدٌ- فيَلزَمُ بذلك الِافتِراضِ أن يكُونَ كَلامًا مُلَفَّقًا لا قُوّةَ له ولا أَهَمِّيّةَ ولا أَصلَ -حاشَ للهِ ثمَّ حاشَ للهِ- أي: يَلزَمُ قَبُولُ مِئةِ مُحالٍ في مُحالٍ.
فَضْلًا عن أن يكُونَ الَّذي أَمضَى حَياتَه مُنقادًا لِقَوانينِ اللهِ ومُرشِدًا إلَيْها، وعَلَّم البَشَرِيّةَ دَساتِيرَ الحَقِيقةِ، بأَفعالِه الخالِصةِ، وأَظهَرَ أُصُولَ الِاستِقامةِ وطَرِيقَ السَّعادةِ بأَقوالِه الطَّيِّبةِ المَعقُولةِ، وكان أَخشَى النَّاسِ للهِ وأَعرَفَهُم به، وأَكثَرَ مَن عَرَّفَهُم به بشَهادةِ سِيرَتِه العَطِرةِ، حتَّى انضَوَى تَحتَ لِوائِه خُمُسُ البَشَرِيّةِ ونِصفُ الكُرةِ الأَرضِيّةِ طَوالَ أَلفٍ وثَلاثِ مِئةٍ وخَمسِينَ عامًا، فكانَ فيها قائِدًا رائِدًا لِلأُمّةِ، حتَّى إنَّه هَزَّ العالَمَ أَجمَعَ وأَصبَحَ حَقًّا فَخرَ البَشَرِيّةِ، بل فَخرَ العالَمِينَ.. فيَلزَمُ بهذا الِافتِراضِ أن يكُونَ غيرَ عارِفٍ باللهِ ولا يَخشَى عَذابَه وفي مُستَوَى إِنسانٍ عادِيٍّ، أي: يَلزَمُ ارتِكابُ مُحالٍ في مِئةِ مُحالٍ، لِأنَّ المَسأَلةَ لا وَسَطَ لها، إذ لو لم يكُنِ القُرآنُ الكَرِيمُ كَلامَ اللهِ، وسَقَط مِنَ العَرشِ الأَعظَمِ، لا يَقدِرُ أن يَظَلَّ في الوَسَطِ بل يَلزَمُ أن يكُونَ بِضاعةَ أَحَدِ الكَذَّابِينَ في الأَرضِ.
ومِن هُنا فيا أيُّها الشَّيطانُ، لو تَضاعَفَت دَسائِسُك مِئةَ ضِعفٍ لَمَا أَقنَعتَ بهذا الِافتِراضِ مَن يَملِكُ عَقلًا لم يَفسُد وقَلبًا لم يَتَفسَّخ.
[اعتراض أول للشيطان]
انبَرَى الشَّيطانُ قائِلًا: كَيفَ لا أَستَطِيعُ أن أُغوِيَهُم؟ فلَقد دَفَعتُ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ والعُقَلاءِ المَشهُورِينَ مِنهُم خاصَّةً إلى إِنكارِ القُرآنِ وإِنكارِ نُبُوَّةِ مُحمَّدٍ!
الجَوابُ:
أوَّلًا: إذا نُظِرَ إلى أَكبَرِ شَيءٍ مِن مَسافةٍ بَعِيدةٍ، يَظهَرُ كأنَّه شَيءٌ صَغِيرٌ لِلغايةِ، حتَّى يُمكِنُ لِمَن يَنظُرُ إلى نَجمٍ أن يقُولَ: إنَّ ضَوْءَه كالشَّمْعةِ.
ثانيًا: إنَّ النَّظَرَ التَّبَعِيَّ أوِ السَّطحِيَّ يَرَى المُحالَ كالمُمكِنِ، يُروَى أنَّ شَيخًا كَبِيرًا نَظَر إلى السَّماءِ لِرُؤيةِ هِلالِ رَمَضانَ، وقد نَزَلَت شَعْرةٌ بَيضاءُ مِن حاجِبِه أَمامَ عَينِه، فظَنَّها الهِلالَ، فقال: لقد شاهَدتُ الهِلالَ!!
وهكذا فمِنَ المُحالِ أنْ تكُونَ تلك الشَّعْرةُ هِلالًا، ولكِن لِأنَّه قَصَد في رُؤْيتِه الهِلالَ بالذّاتِ وتَراءَت تلك الشَّعْرةُ أَمامَه فظَهَرَت له ظُهُورًا تَبَعيًّا -أي: ثانَوِيًّا- لِذا تَلقَّى ذلك المُحالَ مُمكِنًا.
ثالثًا: إنَّ الإِنكارَ شَيءٌ وعَدَمَ القَبُولِ أوِ الرَّفضَ شَيءٌ آخَرُ، إذ إنَّ عَدَمَ القَبُولِ هو عَدَمُ مُبالاةٍ، فهُو إِغماضُ العَينِ أَمامَ الحَقائِقِ ونَفيٌ بجَهالةٍ، ولَيسَ بحُكمٍ؛ وبهذا يُمكِنُ أن يَستَتِرَ كَثِيرٌ مِنَ المُحالاتِ تَحتَ هذا السِّتارِ، إذ لا يَشغَلُ عَقلَه بتلك الأُمُورِ.
أمّا الإِنكارُ فهُو لَيسَ بعَدَمِ قَبُولٍ، بل هو قَبُولُ العَدَمِ، فهُو حُكمٌ، يُضطَرُّ صاحِبُه إلى إِشغالِ عَقلِه وإِعمالِ فِكرِه.
وعلى هذا يُمكِنُ لِشَيطانٍ مِثلِك أن يَسلُبَ مِنه العَقلَ، ثمَّ يَخدَعَه بالإِنكارِ.
ثمَّ إنَّك أيُّها الشَّيطانُ قد خَدَعتَ أُولَئِك الشُّقاةِ مِنَ الأَنعامِ الَّذين هُم في صُوَرِ الأَناسِيِّ، فمَهَّدتَ لَهُمُ الكُفرَ والإِنكارَ اللَّذَينِ يُولِّدانِ كَثِيرًا جِدًّا مِنَ المُحالاتِ، بالغَفْلةِ والضَّلالةِ والسَّفسَطةِ والعِنادِ والمُغالَطةِ والمُكابَرةِ والإِغفالِ والتَّقلِيدِ وأَمثالِها مِنَ الدَّسائِسِ الَّتي تُرِي الباطِلَ حَقًّا والمُحالَ مُمكِنًا.
رابعًا: إنَّ افتِراضَ القُرآنِ الكَرِيمِ كَلامَ بَشَرٍ يَستَلزِمُ أن يُتَصوَّرَ كِتابًا يُرشِدُ -كما هو مُشاهَدٌ- الأَصفِياءَ والصِّدِّيقِينَ والأَقطابِ الَّذين يَتَلألَؤُونَ كالنُّجُومِ في سَماءِ الإنسانيّةِ، ويُعلِّمُ بالبَداهةِ الحَقَّ والعَدلَ والصِّدقَ والِاستِقامةَ والأَمنَ والأَمانَ لِجَمِيعِ أَهلِ الكَمالِ، ويُحَقِّقُ سَعادةَ الدّارَينِ بحَقائِقِ أَركانِ الإيمانِ ودَساتيرِ أَركانِ الإسلامِ، وهُو الكِتابُ الحَقُّ المُبِينُ والحَقِيقةُ الزَّكِيّةُ الطَّاهِرةُ، وهُو الصِّدقُ بعَينِه والقَولُ الفَصلُ الَّذي لا يَأْتيه الباطِلُ مِن بَينِ يَدَيه ولا مِن خَلفِه.. يَستَلزِمُ أن يُتَصوَّرَ -بهذا الِافتِراضِ- خِلافُ أَوصافِه وتَأثِيراتِه وأَنوارِه، أي: يَستَلزِمُ تَصَوُّرَه افتِراءً مِن خَدّاعٍ.. وما هذا إلّا مُحالٌ شَنِيعٌ يَخجَلُ مِنه حتَّى السُّوفسَطائيُّونَ والشَّياطِينُ أَنفُسُهُم، إذ هو هَذَيانٌ فِكرِيٌّ تَرتَعِدُ مِنه الفَرائصُ.
زِدْ على ذلك يَلزَمُ بذلك الِافتِراضِ أن يكُونَ مَن هو أَرسَخُ عَقِيدةً وأَمتَنُ إِيمانًا وأَصدَقُ كَلامًا وآمَنُ قَلْبًا، بشَهادةِ الشَّرِيعةِ الغَرَّاءِ الَّتي أَتَى بها وبدَلالةِ ما أَظهَرَه -بالِاتِّفاقِ- مِنَ التَّقوَى الخارِقةِ، والعُبُودِيّةِ الخالِصةِ، وبمُقتَضَى أَخلاقِه الفاضِلةِ المُتَّفَقِ علَيْها بَينَ الأَولياءِ والأَعداءِ، وبتَصدِيقِ مَن رَبَّاهُم مِن أَهلِ العِلمِ والتَّحقِيقِ وأَهلِ الحَقِيقةِ وأَربابِ الكَمالِ.. يَلزَمُ -بذلك الِافتِراضِ- أن يكُونَ فاقِدًا لِلعَقِيدةِ، لا يُوثَقُ به، ولا يَخشَى اللهَ (حاشَ للهِ ثمَّ أَلفُ أَلفِ مَرّةٍ حاشَ للهِ)، وما هذا إلّا ارتِكابٌ لِأَقبَحِ مُحالٍ مَمجُوجٍ وضَلالةٌ مُوغِلةٌ في الظُّلمِ والظُّلُماتِ.
نَحصُلُ مِمَّا سَبَق: مِثلَما ذُكِر في “الإشارةِ الثَّامِنةَ عَشْرةَ” مِنَ “المَكتُوبِ التّاسِعَ عَشَرَ” أنَّ الَّذي لا يَملِكُ إلّا قُدرةَ الِاستِماعِ في فَهمِ إِعجازِ القُرآنِ قد قال: إذا قِيسَ القُرآنُ معَ جَمِيعِ ما سَمِعتُه مِن كُتُبٍ، نَراه لا يُشبِهُ أيًّا مِنها، ولَيسَ في مُستَوَى تلك الكُتُبِ؛ لِذا فالقُرآنُ: إمّا أنَّه تَحتَ الجَمِيعِ، أو فَوقَ الجَمِيعِ؛ أمَّا الشِّقُّ الأَوَّلُ، فمَعَ كَونِه مُحالًا لا يَستَطِيعُ حتَّى الأَعداءُ -بل حتَّى الشَّيطانُ نَفسُه- قَوْلَه، لِذا فالقُرآنُ أَرفَعُ وأَسمَى مِن جَمِيعِ تلك الكُتُبِ، أي إنَّه مُعجِزةٌ.
وعلى غِرارِ هذا نقُولُ مُستَنِدِينَ إلى حُجّةٍ قاطِعةٍ وهي الَّتي تُسَمَّى (بالسَّبْرِ والتَّقسِيمِ) حَسَبَ عِلمِ الأُصُولِ وعِلمِ المَنطِقِ:
أيُّها الشَّيطانُ، ويا تَلامِيذَ الشَّيطانِ..
إنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ إمّا أنَّه كَلامُ اللهِ آتٍ مِنَ العَرشِ الأَعظَم، مِنَ الِاسمِ الأَعظَمِ، أو أنَّه افتِراءُ شَخصٍ لا يَخشَى اللهَ ولا يتَّقِيه ولا يَعتَقِدُ به ولا يَعرِفُه (حاشَ للهِ أَلفَ أَلفِ مَرّةٍ حاشَ للهِ)، وهذا الكَلامُ لا تَقدِرُ أن تَقُولَه ولن تَقُولَه قَطعًا حَسَبَ الحُجَجِ السَّابِقةِ القاطِعةِ؛ لِذا وبالضَّرُورةِ وبلا أَدنَى شُبهةٍ يكُونُ القُرآنُ الكَرِيمُ كَلامَ رَبِّ العالَمِينَ، ذلك لِأنَّه لَيسَ هُناك وَسَطٌ في المَسأَلةِ، إذ هو مُحالٌ لا يُمكِنُ أن يَحدُثَ قَطُّ، كما أَثْبَتْناه إِثباتًا قاطِعًا، وقد شاهَدتَه بنَفسِك واستَمَعتَ إلَيْه.
وكذا فإنَّ مُحمَّدًا ﷺ إمّا أنَّه رَسُولُ اللهِ وسَيِّدُ المُرسَلِينَ وأَفضَلُ الخَلقِ أَجمَعِينَ، أو يَلزَمُ افتِراضُه (حاشَ للهِ ثمَّ حاشَ للهِ) بَشَرًا مُفتَرِيًا على اللهِ لا يَعرِفُه ولا يَعتَقِدُ به ولا يُؤمِنُ بعَذابِه، فسَقَط إلى أَسفَلِ سافِلِينَ، ﴿(حاشية): اضطُرِرتُ إلى استِعمالِ هذه التَّعابِيرِ بفَرضِ المُحالِ وفَرائصِي تَرتَعِدُ، وذلك إظهارًا لِمُحاليّةِ فِكرِ أَهلِ الضَّلالِ الكُفرِيِّ وبَيانِ فَسادِه بالمَرّةِ، استِنادًا إلى ذِكرِ القُرآنِ الكَرِيمِ لكُفرِيّاتِ الكافِرِين، وتَعابِيرِهِمُ الغَلِيظةِ المَمجُوجةِ، لِأَجلِ دَحضِها﴾. وهذا ما لا تَقدِرُ على قَولِه يا إِبلِيسُ، لا أَنتَ ولا مَن تَعتَزُّ بهم مِن فَلاسِفةِ أَورُوبّا ومُنافِقِي آسِيا، لِأنَّه لَيسَ أَحَدٌ في العالَمِ يَسمَعُ مِنك هذا الكَلامَ ثمَّ يُصَدِّقُه قَطُّ.
لِأَجلِ هذا فإنَّ أَشَدَّ الفَلاسِفةِ فَسادًا وأَفسَدَ أُولَئِك المُنافِقِينَ وِجْدانًا يَعتَرِفُونَ بأنَّ مُحمَّدًا ﷺ كان فَذًّا في العَقلِ وآيةً في الأَخلاقِ.
فما دامَتِ المَسأَلةُ مُنحَصِرةً في شِقَّينِ فقط، وأنَّ الشِّقَّ الثّانِيَ مُحالٌ قَطعًا، لا يَدَّعِيه أَحَدٌ، وأنَّ المَسأَلةَ لا وَسَطَ فيها -كما أَثْبَتْنا ذلك بحُجَجٍ قاطِعةٍ- فلا بُدَّ وبالضَّرُورةِ ورَغمَ أَنفِك ورَغمَ أَنفِ حِزبِك أَيُّها الشَّيطانُ، وبالبَداهةِ وبحَقِّ اليَقِينِ، أنَّ مُحمَّدًا ﷺ رَسُولُ اللهِ وسَيِّدُ المُرسَلِينَ وفَخرُ العالَمِينَ وأَفضَلُ الخَلقِ أَجمَعِينَ علَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعَدَدِ المَلَكِ والإنسِ والجانِّ.
[اعتراض ثانٍ للشيطان]
اعتِراضٌ ثانٍ تافِهٌ للشَّيطانِ
﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾.
عِندَما كُنتُ أَتلُو هذه الآياتِ الكَرِيمةَ مِن سُورةِ (قٓ) قال الشَّيطانُ:
إنَّكُم تَرَونَ سَلاسةَ القُرآنِ ووُضُوحَه أَهَمَّ رُكنٍ في فَصاحَتِه، بَينَما النَّقَلاتُ بَعِيدةٌ والطَّفَراتُ هائِلةٌ في هذه الآياتِ؛ فتَرَى الآيةَ تَعبُرُ مِن سَكَراتِ المَوتِ إلى القِيامةِ، وتَنتَقِلُ مِن نَفخِ الصُّورِ إلى خِتامِ المُحاسَبةِ، ومِن هُناك تَذكُرُ الإلقاءَ في جَهَنَّمَ.. أيَبقَى لِلسَّلاسةِ مَوضِعٌ ضِمنَ هذه النَّقَلاتِ العَجِيبةِ؟ وفي القُرآنِ في أَغلَبِ مَواضِعِه نَرَى مَجمُوعةً مِن هذه المَسائِلِ البَعِيدةِ الواحِدةِ عنِ الأُخرَى، فأَينَ مَوقِعُ السَّلاسةِ والفَصاحةِ مِن هذا؟
الجَوابُ: إنَّ أَهَمَّ أَساسٍ في إِعجازِ القُرآنِ المُبِينِ هو الإيجازُ بَعدَ بَلاغَتِه الفائِقةِ، فالإيجازُ أَهَمُّ أَساسٍ لإعجازِ القُرآنِ وأَقواه، فهذا الإيجازُ المُعجِزُ في القُرآنِ الكَرِيمِ كَثِيرٌ ولَطِيفٌ جِدًّا في الوَقتِ نَفسِه، بحَيثُ يَنبَهِرُ أَمامَه أَهلُ العِلمِ والتَّدقِيقِ.
فمَثلًا قَولُه تَعالَى:
﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ فهذه الآيةُ الكَرِيمةُ تُبيِّنُ في بِضعِ جُمَلٍ قَصِيرةٍ حادِثةَ الطُّوفانِ العَظِيمةَ ونَتائِجَها، وتُوضِحُها بإِيجازٍ مُعجِزٍ في الوَقتِ نَفسِه، حتَّى ساقَتِ الكَثِيرِينَ مِن أَهلِ البَلاغةِ إلى السُّجُودِ لِرَوْعةِ بَلاغَتِها.
وكذا قَولُه تَعالَى:
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾
تُبيِّنُ هذه الآياتُ بَيانًا مُعجِزًا، في إِيجازٍ بَلِيغٍ، في بِضعِ جُمَلٍ قَصِيرةٍ، الحَوادِثَ العَجِيبةَ الَّتي حَدَثَت لِقَومِ ثَمُودَ وعاقِبةَ أَمرِهِم، تُبيِّنُها بإِيجازٍ مِن دُونِ إِخلالٍ بالفَهمِ وفي سَلاسةٍ ووُضُوحٍ.
ومَثلًا: قَولُه تَعالَى:
﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.
إنَّ ما بَينَ قَولِه تَعالَى: ﴿أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ إلى جُملةِ: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ هُنالِك كَثِيرٌ مِنَ الجُمَلِ المَطوِيّةِ؛ فتلك الجُمَلُ غَيرُ المَذكُورةِ لا تُخِلُّ بالفَهمِ ولا تُسِيءُ إلى سَلاسةِ الآيةِ، إذ تَذكُرُ الآيةُ الكَرِيمةُ الأَساساتِ المُهِمّةَ في قِصّةِ سَيِّدِنا يُونُسَ عَليهِ السَّلام وتُحِيلُ البَقِيّةَ إلى العَقلِ.
وكَذلِك في سُورةِ يُوسُفَ، فإنَّ ما بَينَ كَلِمةِ ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾ إلى ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ هُناك ما يَقرُبُ مِن ثَماني جُمَلٍ قدِ انطَوَت، ولكِن دُونَ إِخلالٍ بالمَعنَى ولا إِفسادٍ لِسَلاسةِ الآيةِ.
وأَمثالُ هذه الأَنماطِ مِنَ الإِيجازِ المُعجِزِ كَثِيرةٌ جِدًّا في القُرآنِ الكَرِيمِ، وهي لَطِيفةٌ جِدًّا في الوَقتِ نَفسِه. أمّا الآياتُ المُتَصدِّرةُ الَّتي هي في سُورةِ (قٓ) فإنَّ إِيجازَها عَجِيبٌ ومُعجِزٌ، إذ تُشِيرُ إلى مُستَقبَلِ الكُفّارِ الرَّهِيبِ جِدًّا والمَدِيدِ جِدًّا، حتَّى إنَّ يَومًا مِنه خَمسُونَ أَلفَ سَنةٍ، فتَذكُرُ الآيةُ ما يَحدُثُ فيه مِنِ انقِلاباتٍ وتَحَوُّلاتٍ وحَوادِثَ جَلِيلةٍ تُصِيبُ الكُفَّارَ في مُستَقبَلِهِم، حتَّى إنَّها تُسَيِّرُ الفِكْرَ بسُرعةٍ مُذهِلةٍ كالبَرقِ فَوقَ تلك الحَوادِثِ الرَّهِيبةِ، وتَجعَلُ ذلك الزَّمانَ الطَّوِيلَ جِدًّا كأنَّه صَحِيفةٌ حاضِرةٌ أَمامَ الإنسانِ. وتُحِيلُ الحَوادِثَ غَيرَ المَذكُورةِ إلى الخَيالِ، فتُبيِّنُها بسَلاسةٍ فائِقةٍ، ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، فيا أيُّها الشَّيطانُ، قُل ما بَدا لك!
يقُولُ الشَّيطانُ: إنَّني لا أَستَطِيعُ أن أُقاوِمَ هذه الدَّلائِلَ والبَراهِينَ ولا أَتَمكَّنُ مِنَ الدِّفاعِ تِجاهَها. ولكِن هناك حَمْقَى كَثِيرُونَ يُنصِتُونَ إلَيَّ وكَثِيرُونَ مِن شَياطِينِ الإنسِ يَمُدُّونَني ويُعاوِنُونَني، وثمّةَ كَثيرٌ مِن الفَلاسِفةِ المُتَفَرعِنِينَ المَغرُورِينَ يَتَلقَّوْن مِنِّي الدُّرُوسَ الَّتي تُلاطِفُ غُرُورَهُم، فيَحُولُونَ دُونَ نَشرِ مِثلِ كَلِماتِك هذه.
ولهذا لا أَستَسلِمُ، ولا أُسلِّمُ لك السِّلاحَ!
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
❀ ❀ ❀
[المبحث الثاني: ثلاثُ شخصياتٍ لي]
المبحث الثاني
(كُتِب هذا المبحثُ بناءً على الحَيرة الناشِئة لدى الذين يَخدُمُونني دائمًا ممَّا يَرَونه من اختلافٍ عجيبٍ في أخلاقي.. وكُتب أيضًا لتعديلِ ما لا أستحِقُّه من حُسن ظنٍّ مُفرِط يَحمِلُه اثنانِ من تلاميذي).
أَرَى أنَّ قِسمًا مِنَ الفَضائِلِ الَّتي تَعُودُ إلى حَقائِقِ القُرآنِ تُمنَحُ لِلوَسائِلِ الَّتي تَقُومُ بدَورِ الدُّعاةِ والدّالِّينَ على تلك الحَقائِقِ.
والحالُ أنَّ هذا خَطَأٌ، لِأنَّ قَداسةَ المَصدَرِ وسُمُوَّه هو الَّذي يُولِّدُ تَأْثِيرًا يَفُوقُ تَأْثِيرَ بَراهِينَ كَثِيرةٍ. وعَوامُّ النَّاسِ إنَّما يَنقادُونَ لِلأَحكامِ بهذه القُدسِيّةِ.
ومَتَى ما أَبدَى الدَّلّالُ والدّاعِي وُجُودًا لِنَفسِه، أي: مَتَى ما تَوَجَّهَتِ الأَنظارُ إلَيْه -دُونَ الحَقائِقِ- يَتَلاشَى تَأْثِيرُ قُدسِيّةِ المَصدَرِ.
ولِأَجلِ هذا السِّرِّ أُبيِّنُ الحَقِيقةَ الآتِيةَ لِإخوانِي الَّذينَ يَتَوجَّهُونَ إلَيَّ تَوَجُّهًا يَفُوقُ حَدِّي بكَثِيرٍ، فأَقُولُ:
إنَّ الإنسانَ قد يَحمِلُ شَخصِيَّاتٍ عِدّةً، وتلك الشَّخصِيَّاتُ ذاتُ أَخلاقٍ مُتَمايِزةٍ مُتَبايِنةٍ، فمَثلًا:
إنَّ المُوظَّفَ الكَبِيرَ له شَخصِيّةٌ خاصَّةٌ به أَثناءَ إِشغالِه مُهِمَّتَه مِن مَوقِعِه الرَّفيعِ ومَقامِ وَظِيفَتِه؛ هذا المَقامُ يَتَطلَّبُ وَقارًا وأَطْوارًا لِيَصُونَ كَرامةَ مَوقِعِه وعِزّةَ مَقامِ المَسؤُوليّةِ، فإِظهارُ التَّواضُعِ لِكُلِّ زائِرٍ، فيه تَذَلُّلٌ وتَهوِينٌ مِن شَأنِ المَقامِ؛ ولكِنَّ هذا الشَّخصَ نَفسَه يَملِكُ شَخصِيّةً أُخرَى خاصَّةً به في بَيتِه وبَينَ أَهلِه، وذلك يَتَطلَّبُ مِنه أَخلاقًا مُبايِنةً لِما في الوَظِيفةِ، بحَيثُ كُلَّما تَواضَع أَكثَرَ كان أَفضَلَ وأَجمَلَ، في الوَقتِ الَّذي إذا أَبدَى شَيئًا مِنَ الوَقارِ يُعَدُّ ذلك تكَبُّـرًا مِنه.
أي إنَّ هُناك شَخصِيّةً خاصَّةً بالإنسانِ باعتِبارِ وَظِيفَتِه، هذه الشَّخصِيّةُ تُخالِفُ شَخصِيَّـتَه الحَقِيقيّةَ في نِقاطٍ كَثِيرةٍ؛ فإن كان ذلك المُوظَّفُ أَهلًا لِوَظِيفَتِه وكُفْئًا لها ويَملِكُ استِعدادًا كامِلًا لِإدارةِ عَمَلِه، فإنَّ كِلتا الشَّخصِيَّـتَينِ تَتَقارَبانِ مِن بَعضِهِما، بَينَما لو لم يكُن أَهلًا لِوَظِيفَتِه وفَقِيرًا في قابِلِيّاتِه، كأن يكُونَ جُندِيًّا نُصِبَ في مَقامِ مُشِيرٍ، فالشَّخصِيَّتانِ تَتَباعَدانِ عن بَعضِهِما، إذ صِفاتُ الجُندِيِّ الِاعتِيادِيّةُ وأَحاسِيسُه البَسِيطةُ لا تَنسَجِمُ معَ ما يَقتَضِيه مَقامُ المُشِيرِ مِن أَخلاقٍ رَفِيعةٍ.
وهكَذا، فإنَّ في أَخِيكُم هذا الفَقِيرِ ثَلاثَ شَخصِيّاتٍ كُلٌّ مِنها بَعِيدةٌ عنِ الأُخرَى كلَّ البُعدِ، بل بُعْدًا شاسِعًا جِدًّا.
أُولاها: شَخصِيّةٌ مُؤَقَّتةٌ خاصَّةٌ خَالِصةٌ لِخِدمةِ القُرآنِ وَحدَه، بكَوْني دَلَّالًا لِخَزِينةِ القُرآنِ الحَكِيمِ السَّامِيةِ؛ فما تَقتَضِيه وَظِيفةُ الدَّعوةِ إلى القُرآنِ والدَّلالةِ علَيْه مِن أَخلاقٍ رَفِيعةٍ سامِيةٍ لَيسَت لي، ولا أنا أَملِكُها، وإنَّما هي سَجايا رَفِيعةٌ يَقتَضِيها ذلك المَقامُ الرَّفيعُ وتلك الوَظِيفةُ الجَلِيلةُ، فكُلُّ ما تَرَوْنَه مِن أَخلاقٍ وفَضائِلَ مِن هذا النَّوعِ فهِي لَيسَت لي، وإنَّما هي خاصَّةٌ بذلك المَقامِ، فلا تَنظُرُوا إِلَيَّ مِن خِلالِها.
الشَّخصِيّةُ الثَّانية: حِينَما أَتَوجَّهُ إلى بابِه تَعالَى وأَتَضرَّعُ إلَيْه، يُنعِمُ علَيَّ سُبحانَه بشَخصِيّةٍ خاصّةٍ في أَوْقاتِ العِبادةِ بحَيثُ إنَّ تلك الشَّخصِيّةَ تُوَلِّدُ آثارًا ناشِئةً مِن أَساسِ مَعنَى العُبُودِيّةِ، وذلك الأَساسُ هو مَعرِفةُ الإنسانِ تَقصِيرَه أَمامَ اللهِ وإِدراكُ فَقرِه نَحوَه وعَجزَه أَمامَه، والِالتِجاءُ إلَيْه بذُلٍّ وخُشُوعٍ، فأَرَى نَفسِي بتلك الشَّخصِيّةِ أَشقَى وأَعجَزَ وأَفقَرَ وأَكثَرَ تَقصِيرًا أَمامَ اللهِ مِن أَيِّ أَحَدٍ كان مِنَ النَّاسِ، فلوِ اجتَمَعَتِ الدُّنيا في مَدْحِي والثَّناءِ علَيَّ لا تَستَطِيعُ أن تُقنِعَني بأَنَّني صالِحٌ وفاضِلٌ.
ثالثَتُها: هي شَخصِيَّتي الحَقِيقيّةُ، أي: شَخصِيَّتي المَمسُوخةُ مِن “سَعِيدٍ القَدِيمِ”، وهي عُرُوقٌ ظَلَّت في مِيراثِ “سَعِيدٍ القَدِيمِ”، فتُبدِي أَحيانًا رَغبةً في الرِّياءِ وحُبِّ الجاهِ وتُبدِي فِيَّ أَخلاقًا وَضِيعةً معَ خِسّةٍ في الِاقتِصادِ حَيثُ إنَّني لَستُ سَلِيلَ عائِلةٍ ذاتِ جاهٍ وحَسَبٍ. فيا أيُّها الإِخوةُ..
لن أَبُوحَ بكَثِيرٍ مِن مَساوِئِ هذه الشَّخصِيّةِ ومِن أَحوالِها السَّيِّئةِ، لِئَلّا أُنفِّرَكُم عنِّي كُلِّيًّا.
فيا إِخوَتي، لَستُ أَهلًا لِمَقامٍ رَفِيعٍ ولا أَملِكُ استِعدادًا له، فشَخصِيَّتي هذه بَعِيدةٌ كلَّ البُعدِ عن أَخلاقِ وَظائِفِ الدَّعوةِ وآثارِ مُهِمّةِ العُبُودِيّةِ.
وقد أَظهَرَ سُبحانَه وتَعالَى قُدرَتَه الرَّحِيمةَ فِيَّ حَسَبَ قاعِدةِ:
“دَادِ حَقْ رَا قَابِلِيَّتْ شَرْطْ نِيسْت”
أي إنَّ الفَضلَ الإلٰهِيَّ لا يَشتَرِطُ القابِلِيّةَ في ذاتِ الشَّخصِ، فهُو الَّذي يُسَخِّرُ شَخصِيَّتي الَّتي هي كأَدنَى جُندِيٍّ في خِدمةِ أَسرارِ القُرآنِ الَّتي هي بحُكمِ أَعلَى مَنصِبٍ لِلمُشِيرِيّةِ وأَرفَعِها.
فالنَّفسُ أَدنَى مِنَ الكُلِّ، والوَظِيفةُ أَسمَى مِنَ الكُلِّ.
فأَلفُ شُكرٍ وشُكرٍ للهِ سُبحانَه.
الحَمدُ لله.. هذا مِن فَضلِ ربِّي
❀ ❀ ❀
[المبحث الثالث: حول القومية]
المبحث الثالث
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾
أي: خَلَقناكُم طَوائِفَ وقَبائِلَ وأُمَمًا وشُعُوبًا كي يَعرِفَ بَعضُكُم بَعضًا وتَتَعرَّفُوا على عَلاقاتِكُمُ الِاجتِماعِيّةِ، لِتَتَعارَفُوا وتَتَعاوَنُوا فيما بَينَكُم، ولم نَجعَلكُم قَبائِلَ وطَوائِفَ لِتَتَناكَرُوا فتَتَخاصَمُوا.
في هذا المَبحَثِ سَبعُ مَسائِلَ:
[المسألة الأولى: أتحدث هنا بلسان سعيد القديم]
المَسأَلةُ الأُولَى: إنَّ الحَقِيقةَ الرَّفيعةَ الَّتي تُفِيدُها هذه الآيةُ الكَرِيمةُ تَخُصُّ الحَياةَ الِاجتِماعِيّةَ، لِذا اضطُرِرتُ إلى كِتابةِ هذا المَبحَثِ بِنيّةِ خِدمةِ القُرآنِ العَظِيمِ، وعلى أَمَلِ إِنشاءِ سَدٍّ أَمامَ الهَجَماتِ الظَّالِمةِ؛ فكَتَبتُه بلِسانِ “سَعِيدٍ القَدِيمِ” الَّذي له عَلاقةٌ بالحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ الإسلاميّةِ، ولَيسَ بلِسانِ “سَعِيدٍ الجَدِيدِ” الَّذي يُرِيدُ اجتِنابَ الحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ.
[المسألة الثانية: الانقسام إلى طوائف وسيلة للتعارف]
المَسأَلةُ الثَّانيةُ: نقُولُ بَيانًا لِدُستُورِ التَّعارُفِ والتَّعاوُنِ الَّذي تُشِيرُ إلَيْه هذه الآيةُ الكَرِيمةُ: يُقسَّمُ الجَيشُ إلى فَيالِقَ وإلى فِرَقٍ وإلى أَلوِيةٍ وإلى أَفواجٍ وإلى سَرايا وإلى فَصائِلَ والى حَظائِرَ، وذلك لِيَعرِفَ كلُّ جُندِيٍّ واجِباتِه حَسَبَ تلك العَلاقاتِ المُختَلِفةِ المُتَعدِّدةِ، وليُؤَدِّيَ أَفرادُ ذلك الجَيشِ تَحتَ دُستُورِ التَّعاوُنِ وَظِيفةً حَقِيقيّةً عامّةً لِتُصانَ حَياتُهُمُ الِاجتِماعِيّةُ مِن هُجُومِ الأَعداءِ؛ وإلّا فلَيسَ هذا التَّقسِيمُ والتَّميِيزُ إلى تلك الأَصنافِ، لِجَعلِ المُنافَسةِ بَينَ فَوجَينِ أو إِثارةِ الخِصامِ بَينَ سَرِيَّتَينِ أو وَضعِ التَّضادِّ بَينَ فِرقَتَينِ.
وكَذلِك الأَمرُ في المُجتَمَعِ الإسلاميِّ الشَّبِيهِ بالجَيشِ العَظِيمِ، فقد قُسِّمَ إلى قَبائِلَ وطَوائِفَ، معَ أنَّ لَهُم أَلفَ جِهةٍ وجِهةٍ مِن جِهاتِ الوَحْدةِ، إذ خالِقُهُم واحِدٌ، ورازِقُهُم واحِدٌ، ورَسُولُهُم واحِدٌ، وقِبلَتُهُم واحِدةٌ، وكِتابُهُم واحِدٌ، ووَطَنُهُم واحِدٌ.. وهكذا واحِدٌ، واحِدٌ.. إلى الأُلُوفِ مِن جِهاتِ الوَحْدةِ الَّتي تَقتَضِي الأُخُوّةَ والمَحَبّةَ والوَحْدةَ. بمَعنَى أنَّ الِانقِسامَ إلى طَوائِفَ وقَبائِلَ -كما تُعلِنُه الآيةُ الكَرِيمةُ- ما هو إلّا لِلتَّعارُفِ والتَّعاوُنِ لا لِلتَّناكُرِ والتَّخاصُمِ.
[المسألة الثالثة: القومية على قسمين]
المَسأَلةُ الثَّالثةُ: لقدِ انتَشَرَ الفِكرُ القَوميُّ وتَرَسَّخَ في هذا العَصرِ، ويُثيرُ ظالِمُو أَورُوبَّا الماكِرُونَ بخاصَّةٍ هذا الفِكرَ بشَكلِه السَّلبِيِّ في أَوْساطِ المُسلِمِينَ لِيُمزِّقُوهُم ويَسهُلَ لَهُمُ ابتِلاعُهُم؛ ولَمَّا كان في الفِكرِ القَوميِّ ذَوْقٌ لِلنَّفسِ، ولَذّةٌ تُغفِلُ، وقُوّةٌ مَشؤُومةٌ، فلا يُقالُ لِلمُشتَغِلِينَ بالحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ في هذا الوَقتِ: دَعُوا القَوْمِيّةَ!
ولكِنَّ القَومِيّةَ نَفسَها على قِسمَينِ:
قِسمٌ مِنها سَلبِيٌّ مَشؤُومٌ مُضِرٌّ، يَتَربَّى ويَنمُو بابتِلاعِ الآخَرِينَ ويَدُومُ بعَداوةِ مَن سِواه، ويَتَصرَّفُ بحَذَرٍ، وهذا يُولِّدُ المُخاصَمةَ والنِّزاعَ.. ولِهذا وَرَد في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: “إنَّ الإسلامَ يَجُبُّ ما قَبلَه” ويَرفُضُ العَصَبِيّةَ الجاهِلِيّةَ، وأَمَرَ القُرآنُ الكَرِيمُ بـ ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾، فهذه الآيةُ الكَرِيمةُ والحَدِيثُ الشَّرِيفُ يَرفُضانِ رَفْضًا قاطِعًا القَومِيّةَ السَّلبِيّةَ وفِكرَ العُنصُرِيّةِ، لِأنَّ الغَيرةَ الإسلامِيّةَ الإيجابِيّةَ المُقدَّسةَ لا تَدَعُ حاجةً إلَيْها.
تُرَى أيُّ تَفكِيرٍ عُنصُرِيٍّ في العالَمِ -غَيرَ الإِسلامِ- بَلَغ تَعدادُه ثَلاثَ مِئةٍ وخَمسِينَ مِليُونًا؟ وأَكْسَبَ صاحِبَه هذا العَدَدَ مِنَ الإِخوانِ، بل إِخوانًا خالِدِينَ؟
ولقد ظَهَرَت عَبْرَ التّارِيخِ أَضرارٌ كَثِيرةٌ نَجَمَت عنِ القَومِيّةِ السَّلبِيةِ، نَذكُرُ مِنها:
إنَّ الأُموِيِّينَ خَلَطُوا شَيئًا مِنَ القَومِيّةِ في سِياساتِهِم، فأَسخَطُوا العالَمَ الإسلاميَّ فَضْلًا عَمّا ابتُلُوا به مِن بَلايا كَثِيرةٍ مِن جَرّاءِ الفِتَنِ الدّاخِلِيّةِ. وكَذلِك شُعُوبُ أَورُوبّا، لَمّا دَعَوْا إلى العُنصُرِيّةِ وأَوْغَلُوا فيها في هذا العَصرِ نَجَم العَداءُ التّارِيخِيُّ المَلِيءُ بالحَوادِثِ المُرِيعةِ بَينَ الفَرَنسِيِّينَ والأَلمانِ كما أَظهَرَ الدَّمارُ الرَّهِيبُ الَّذي أَحدَثَتْه الحَربُ العالَمِيّةُ مَبلَغَ الضَّرَرِ الَّذي يُلحِقُه هذا الفِكرُ السَّلبِيُّ لِلبَشَرِيّةِ.
وكَذلِك الحالُ فينا، ففي بِدايةِ عَهدِ الحُرِّيّةِ (أي: إِعلانِ الدُّستُورِ) تَشَكَّلَت جَمعِيّاتٌ مُختَلِفةٌ لِلقَومِيِّينَ وفي المُقدِّمةِ الرُّومُ والأَرمَنُ، تَحتَ أَسماءِ أَندِيةٍ كَثِيرةٍ، وسَبَّبت تَفرِقةَ القُلُوبِ -كما تَشَتَّتتَ الأَقوامُ بانْهِدامِ بُرجِ بابِلَ، وتَفَرَّقُوا أَيدِيَ سَبَأٍ في التَّارِيخِ- حتَّى كان مِنهُم مَن أَصبَحَ لُقْمةً سائِغةً لِلأَجانِبِ، ومِنهُم مَن تَرَدَّى وضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا.
كلُّ ذلك يُبيِّنُ نَتائِجَ القَومِيّةِ السَّلبِيّةِ وأَضرارَها.
أمّا الآنَ فإنَّ التَّباغُضَ والتَّنافُرَ بَينَ عَناصِرِ الإسلامِ وقَبائِلِه -بسَبَبٍ مِنَ الفِكرِ القَومِيِّ- هَلاكٌ عَظِيمٌ، وخَطْبٌ جَسِيمٌ، إذ إنَّ تلك العَناصِرَ أَحوَجُ ما يكُونُ بَعضُهُم لِبَعضٍ، لِكَثرةِ ما وَقَع علَيْهِم مِنَ ظُلمٍ وإِجحافٍ، ولِشِدّةِ الفَقرِ الَّذي نَزَل بهم، ولِسَيطَرةِ الأَجانِبِ علَيْهِم، كلُّ ذلك يَسحَقُهُم سَحْقًا؛ لِذا فإنَّ نَظَرَ هَؤُلاءِ بَعضِهِم لِبَعضٍ نَظْرةَ العَداءِ مُصِيبةٌ كُبْرَى لا تُوصَفُ، بل إنَّه جُنُونٌ أَشبَهُ ما يكُونُ بجُنُونِ مَن يَهتَمُّ بلَسْعِ البَعُوضِ ولا يَعبَأُ بالثَّعابِينِ المارِدةِ الَّتي تَحُومُ حَوْلَه.
نعم، إنَّ أَطْماعَ أَورُوبّا الَّتي لا تَفتُـرُ ولا تَشبَعُ هي كالثَّعابِينِ الضَّخْمةِ الفاتِحةِ أَفواهَها لِلِابتِلاعِ، لِذا فإنَّ عَدَمَ الِاهتِمامِ بهَؤُلاءِ الأَورُوبِّيِّينَ، بل مُعاوَنتَهُم مَعنًى بالفِكرِ العُنصُرِيِّ السَّلبِيِّ، وإِنماءَ رُوحِ العَداءِ إِزاءَ المُواطِنِينَ القاطِنِينَ في الوِلاياتِ الشَّرقيّةِ أو إِخوانِنا في الدِّينِ في الجَنُوبِ، هَلاكٌ وأَيُّ هَلاكٍ وضَرَرٌ وَبِيلٌ.
إذ لَيسَ بَينَ أَفرادِ الجَنُوبِ مَن يَستَحِقُّ أن يُعادَى حَقًّا، بل ما أَتَى مِنَ الجَنُوبِ إلّا نُورُ القُرآنِ وضِياءُ الإسلامِ الَّذي شَعَّ نُورُه فينا وفي كلِّ مَكانٍ.
فالعَداءُ لِأُولَئِك الإخوانِ في الدِّينِ يَمَسُّ الإِسلامَ والقُرآنَ، والعَداءُ لِلإسلامِ والقُرآنِ هُو عَداءٌ لِلحَياةِ الدُّنيَوِيّةِ والأُخرَوِيّةِ لِجَمِيعِ أُولَئِك المُواطِنِينَ. لِذا فهَدْمُ حَجَرَ الزّاوِيةِ للحَياتَينِ مَعًا ظَنًّا مِنه أنَّه يَخدُمُ المُجتَمَعَ باسمِ الحَمِيّةِ والشَّهامةِ لَيسَ حَمِيّةً ولا شَهامةً، وإنَّما هو حَماقةٌ وبَلادةٌ.
[المسألة الرابعة: الفكر القومي الإيجابي يجب أن يكون خادمًا للدين]
المَسأَلةُ الرّابعةُ: القَومِيّةُ الإيجابِيّةُ نابِعةٌ مِن حاجةٍ داخِليّةٍ لِلحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ، وهي سَبَبٌ لِلتَّعاوُنِ والتَّسانُدِ، وتُحَقِّقُ قُوّةً نافِعةً لِلمُجتَمَعِ، وتكُونُ وَسِيلةً لِإسنادٍ أَكثَرَ لِلأُخُوّةِ الإسلامِيّةِ.
هذا الفِكرُ الإيجابيُّ القَومِيُّ، يَنبَغِي أن يكُونَ خادِمًا لِلإسلامِ، وأن يكُونَ قَلعةً حَصِينةً له، وسُورًا مَنِيعًا حَولَه، لا أن يَحُلَّ مَحَلَّ الإسلامِ، ولا بَدِيلًا عنه، لِأنَّ الأُخُوّةَ الَّتي يَمنَحُها الإسلامُ تَتَضمَّنُ أُلُوفَ أَنواعِ الأُخُوّةِ، كما أنَّها تَبقَى خالِدةً في عالَمِ البَقاءِ وعالَمِ البَرزَخِ.
ولِهذا فلا تكُونُ الأُخُوّةُ القَومِيّةُ مَهما كانَت قَوِيّةً إلّا سِتارًا مِن أَستارِ الأُخُوّةِ الإسلامِيّةِ، وخِلافُه -أي: إِقامةُ القَومِيّةِ بَدِيلًا عنِ الإسلامِ- جِنايةٌ خَرْقاءُ أَشبَهُ ما تكُونُ بوَضعِ أَحجارِ القَلعةِ مَحَلَّ خَزِينةِ أَلماسٍ، وطَرحِ الأَلماساتِ خارِجَ القَلعةِ.
يا أَبناءَ هذا الوَطَنِ مِن أَهلِ القُرآنِ..
لقد تَحَدَّيتُمُ العالَمَ أَجمَعَ مُنذُ سِتِّ مِئةِ سَنةٍ، بل مُنذُ أَلفِ سَنةٍ مِن زَمَنِ العَبّاسِيِّينَ، وأَنتُم حامِلُو رايةِ القُرآنِ والنّاشِرُونَ له في العالَمِ أَجمَعَ؛ وقد جَعَلتُم قَومِيَّتَكُم حِصْنًا لِلقُرآنِ وقَلعةً لِلإسلامِ، وأَلزَمتُمُ العالَمَ إِزاءَكُمُ الصَّمتَ والِانقِيادَ، ودَفَعتُمُ المَهالِكَ العَظِيمةَ الَّتي كادَت تُودِي بحَياةِ العالَمِ الإسلامِيِّ، حتَّى أَصبَحتُم مِصْداقًا حَسَنًا لِلآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
فلا تَنخَدِعُوا ولا تَمِيلُوا إلى مَكايِدِ الأَورُوبِّـيِّينَ ودَسائِسِ المُتَفَرنِجِينَ، واحْذَرُوا حَذَرًا شَدِيدًا أن تكُونُوا مِصْداقَ مَطلِعِ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ.
حالةٌ تُثير الانتباهَ: إنَّ الشَّعبَ التُّركيَّ هو أَكثَـرُ عَدَدًا مِن أيِّ قَومٍ مِنَ الأَقوامِ الإسلاميّةِ الأُخرَى، وإنَّهُم مُسلِمُونَ في كلِّ بِقاعِ العالَمِ، بَينَما الأَقوامُ الأُخرَى فيهِمُ المُسلِمُونَ وغَيرُ المُسلِمِينَ معًا، لِذا لم تَنقَسِمِ الأُمّةُ التُّركِيّةُ كبَقِيّةِ الأَقوامِ، فأَينَما تُوجَدُ طائِفةٌ مِنَ الأَتراكِ فهُم مُسلِمُونَ، والَّذينَ ارتَدُّوا عنِ الإسلامِ أوِ الَّذينَ لم يُسلِمُوا أَصلًا، قد خَرَجُوا عن وَصْفِ التُّركِ كالمَجَرِ؛ عِلمًا أنَّ الأَقوامَ الأُخرَى حتَّى الصَّغِيرةَ مِنها فيهِمُ المُسلِمُونَ وغَيرُ المُسلِمِينَ.
أيُّها الأَخُ التُّركيُّ.. اِحذَرْ وانتَبِه أنت بالذّاتِ، فإنَّ قَوميَّتَك امتَزَجَت بالإسلامِ امتِزاجًا لا يُمكِنُ معَه فَصلُها عن الإسلامِ، ومَتَى حاوَلتَ عَزْلَها عنِ الإسلامِ هَلَكتَ إِذًا وانتَهَى أَمرُك.. ألا تَرَى أنَّ جَمِيعَ مَفاخِرِك في الماضِي قد سُجِّلَت في سِجِلِّ الإسلامِ، وأنَّ تلك المَفاخِرَ لا يُمكِنُ أن تُمحَى مِنَ الوُجُودِ قَطعًا، فلا تَمحُها أنت مِن قَلبِك بالِاستِماعِ إلى الشُّبُهاتِ الَّتي تُثِيرُها شَياطِينُ الإنسِ.
[المسألة الخامسة: لسنا كأوروبا ولا النصارى]
المَسأَلةُ الخامِسةُ: إنَّ الأَقوامَ المُتَيقِّظةَ في آسِيا، قد تَمَسَّكُوا بالقَوْميّةِ، وحَذَوْا حَذْوَ أَورُوبّا في كلِّ النَّواحِي، حتَّى ضَحَّوْا بكَثِيرٍ مِن مُقَدَّساتِهِم في سَبِيلِ ذلك التَّقلِيدِ.
والحالُ أنَّ كلَّ قَومٍ يُلائِمُهم لِباسٌ على قَدِّهم وقامَتِهم، وحتَّى لو كان نَوعُ القُماشِ واحِدًا فإنَّه يَلزَمُ الِاختِلافُ في الطِّرازِ، إذ لا يُمكِنُ إِلباسُ المَرأةِ مَلابِسَ الشُّرطِيِّ، ولا يُمكِنُ إِلباسُ العالِمِ الدِّينيِّ مَلابِسَ الخَلِيعاتِ.
فالتَّقلِيدُ الأَعمَى يُؤَدِّي في كَثِيرٍ مِنَ الأَحيانِ إلى حالةٍ مِنَ الهُزءِ والسُّخرِيةِ كَهذِه.. لِأنَّ:
أوَّلًا: إن كانَت أَورُوبّا حانُوتًا، أو ثُكْنةً عَسكَرِيّةً، فإنَّ آسِيا تكُونُ بمَثابةِ مَزرَعةٍ أو جامِعٍ؛ وإنَّ صاحِبَ الحانُوتِ قد يَذهَبُ إلى المَسرَحِ، بَينَما الفَلّاحُ لا يَكتَرِثُ به.. وكَذلِك تَتَبايَنُ أَوْضاعُ الثُّكْنةِ العَسكَرِيّةِ والمَسجِدِ أوِ الجامِعِ.
ثمَّ إنَّ ظُهُورَ أَكثَرِ الأَنبِياءِ في آسِيا، وظُهُورَ أَغلَبِ الحُكَماءِ والفَلاسِفةِ في أَورُوبّا، رَمزٌ لِلقَدَرِ الإلٰهِيِّ وإِشارةٌ مِنه إلى أنَّ الَّذي يُوقِظُ أَقوامَ آسِيا ويَدفَعُهُم إلى الرُّقيِّ ويُحَقِّقُ إِدامةَ إِدارَتِهِم هو الدِّينُ والقَلبُ؛ أمّا الفَلسَفةُ والحِكْمةُ فيَنبَغِي أن تُعاوِنا الدِّينَ والقَلبَ لا أن تَحُلّا مَحَلَّهُما.
ثانيًا: إنَّ تَقلِيدَ الأَورُوبِّيِّينَ في إِهمالِهِم دِينَهُم تَقلِيدًا أَعمَى بِقِياسِ الدِّينِ الإِسلاميِّ بالنَّصرانيّةِ خَطَأٌ جَسِيمٌ، لِأنَّ الأَورُوبِّيِّينَ مُتَمسِّكُونَ بدِينِهِم أَوَّلًا، والشّاهِدُ على هذا، في المقدمة (ولْسُن) و(لويد جُورج) و(فينزيلوس) وأَمثالُهُم مِن عُظَماءِ الغَربِ، فهُم مُتَمسِّكُونَ بدِينِهِم كأَيِّ قَسٍّ مُتَعصِّب، فهَؤُلاءِ شُهُودُ إِثباتٍ أنَّ أَورُوبّا مالِكةٌ لدِينِها بل تُعَدُّ مُتَعصِّبةً.
ثالثًا: إنَّ قِياسَ الإسلامِ بالنَّصرانيّةِ، قِياسٌ معَ الفارِقِ، وهُو قِياسٌ خَطَأٌ مَحْضٌ، لِأنَّ أَورُوبّا عِندَما كانَت مُتَعصِّبةً لِدِينِها، لم تكُن مُتَحضِّرةً، وعِندَما تَرَكَتِ التَّعَصُّبَ لدِينِها تَحَضَّرَت.
ولقد أَثارَ التَّعَصُّبُ الدِّينيُّ لَدَى أَورُوبّا نِزاعاتٍ داخِلِيّةً دامَت ثَلاثَ مِئةِ سَنةٍ، وكانَ الحُكّامُ المُستَبِدُّونَ يَتَّخِذُونَ الدِّينَ وَسِيلةً في سَحقِ العَوامِّ وفُقَراءِ النّاسِ وأَهلِ الفِكرِ والعِلمِ مِنهُم، حتَّى تَوَلَّد لَدَى عامّةِ النّاسِ نَوعٌ مِنَ السَّخَطِ على الدِّينِ.
أمَّا في الإسلامِ -والتَّارِيخُ شاهِدٌ- فلم يَغْدُ الدِّينُ سَبَبًا لِلنِّزاعِ الدّاخِلِيِّ إلّا مَرّةً واحِدةً فقط، وقد تَرَقَّى المُسلِمُونَ -بالنِّسبةِ لِذلِك الوَقتِ- رُقيًّا عَظِيمًا ما مَلَكُوا الدِّينَ واعتَصَمُوا به؛ والشَّاهِدُ على هذا الدَّوْلةُ الإسلاميّةُ في الأَندَلُسِ الَّتي غَدَت أُستاذةً عَظِيمةً لِأَورُوبّا، ولكِن مَتَى أَهمَلَ المُسلِمُونَ دِينَهُم تَخَلَّفُوا وتَرَدَّوا.
ثمَّ إنَّ الإسلامَ حامِي الفُقَراءِ والعَوامِّ مِنَ النَّاسِ، وذلك بوُجُوبِ الزَّكاةِ وحُرمةِ الرِّبا، وأَمثالِهِما مِن أُلُوفِ المَسائِلِ الَّتي تَرْأَفُ بحالِ العَوامِّ.
ثمَّ إنَّ الإسلامَ يَحمِي أَهلَ العِلمِ، ويَستَشهِدُ بالعَقلِ والعِلمِ ويُوقِظُهُما في النُّفُوسِ بمِثلِ هذه الآياتِ الكَرِيمةِ: ﴿..أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾ ﴿..أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿..أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾. لِذا كانَ الإسلامُ دَوْمًا قَلعةَ الفُقَراءِ وحِصنَ العُلَماءِ ومَلجَأَهُم، فلا داعِيَ في الإسلامِ قَطْعًا لِمِثلِ هذه المُجافاةِ.
وسِرُّ الحِكْمةِ والفَرقُ الأَساسُ بَينَ الإسلامِ وسائِرِ الأَديانِ -ومِنها النَّصرانيّةُ- هو الآتي:
إنَّ أَساسَ الإسلامِ هو التَّوحِيدُ الخالِصُ، فلا يُسنَدُ التَّأثيرُ الحَقِيقيُّ إلى الأَسبابِ أوِ الوَسائِطِ ولا قِيمةَ لها في الإسلامِ مِن حَيثُ الإيجادُ والخَلقُ.
أمّا في النَّصرانيّةِ، فإنَّ فِكرةَ البُنُوّةِ الَّتي ارتَضَوْها، تُعطِي أَهَمِّيّةً لِلوَسائِطِ وقِيمةً لِلأَسبابِ، فلا تَكسِرُ الغُرُورَ والتَّكَبُّـرَ بل يُسنَدُ قِسطٌ مِنَ الرُّبُوبيّةِ الإلٰهِيّةِ إلى الأَحبارِ والرُّهباِن، حتَّى صَدَق علَيْهِم قَولُه تَعالَى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
ومِن هذا فإنَّ عُظَماءَ النَّصارَى الَّذِينَ يَتَسنَّمُونَ مَهامَّ دُنيَوِيّةً كَبِيرةً يكُونُونَ مُتَعصِّبِينَ لِدِينِهِم، معَ أنَّهُم يُحافِظُونَ على غُرُورِهِم وأَنانيَّتِهِم، مِثالُ ذلك: رَئيسُ أَمرِيكا (ولسُن) الَّذي كانَ رَجُلَ دِينٍ مُتَعصِّبًا.
بَينَما في الإسلامِ الَّذي هو دِينُ التَّوحِيدِ الخالِصِ، يَنبَغي لِلمُتَقلِّدِينَ لِلوَظائِفِ الكَبِيرةِ في الدَّولةِ أن يَدَعُوا غُرُورَهُم ويَتركُوا أَنانيَّتَهُم، أو لا يَبلُغُونَ التَّديُّنَ الحَقَّ، ولِهذا يَظَلُّ قِسمٌ مِنهُم مُهمِلِينَ أُمُورَ الدِّينِ، بل قد يكُونُ مِنهُم خارِجِينَ عنِ الدِّينِ.
[المسألة السادسة: روابط الدين أقوى من روابط القومية]
المَسأَلةُ السَّادسةُ: نقُولُ لِأُولَئِك الَّذينَ يُغالُونَ في العُنصُرِيّةِ وفي القَومِيّةِ السَّلبِيّةِ:
أوَّلًا: لقد حَدَثَت هِجْراتٌ كَثِيرةٌ جِدًّا في بِقاعِ الأَرضِ كُلِّها ولا سِيَّما في بِلادِنا هذه، مُنذُ سالِفِ العُصُورِ؛ وتَعَرَّضَت أَقوامٌ كَثِيرةٌ إلى تَغيُّراتٍ وتَبَدُّلاتٍ كَثِيرةٍ، وازْدادَت تلك الهِجْراتُ إلى بِلادِنا بَعدَ أن أَصبَحَت مَركَزًا لِلحُكُومةِ الإسلامِيّةِ حتَّى حامَت سائِرُ الأَقوامِ كالفَراشِ حَوْلَها، وأَلْقَتْ بنَفسِها فيها واستَوْطَنَتْها.. فلا يُمكِنُ -والحالُ هذه- تَميِيزُ العَناصِرِ الحَقِيقيّةِ بَعضِها عن بَعضٍ إلّا بانفِتاحِ اللَّوحِ المَحفُوظِ. لِذا فبِناءُ المَرءِ أَعمالَه وحَمِيَّتَه على العُنصُرِيّةِ لا مَعنَى له البَتّةَ، فَضْلًا عن أَضرارِه.
ولِأَجلِ هذا اضطَرَّ أَحَدُ دُعاةِ العُنصُرِيّةِ والقَوميّةِ السَّلبِيّةِ -الَّذي لا يُقِيمُ وَزْنًا لِلدِّينِ- أن يقُولَ: إذا اتَّحَد الدِّينُ واللُّغةُ فالأُمّةُ واحِدةٌ.
ولَمّا كانَ الأَمرُ هكذا فلا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ إلى اللُّغةِ والدِّينِ والرَّوابِطِ الوَطَنيّةِ لا إلى العُنصُرِيّةِ الحَقِيقيّةِ؛ فإنِ اتَّحَدَت هذه الثَّلاثةُ فالأُمّةُ قَوِيّةٌ إِذًا بذاتِها، وإن نَقَص أَحَدُ هذه الثَّلاثةِ فهُو داخِلٌ أَيضًا ضِمنَ القَوميّةِ.
ثانيًا: نُبيِّنُ فائِدَتَينِ -على سَبِيلِ المِثالِ- مِن مِئاتِ الفَوائِدِ الَّتي تكسِبُها الحَمِيّةُ الإسلاميّةُ المُقدَّسةُ لِلحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ لِأَبناءِ هذا الوَطَنِ.
الفائدةُ الأُولى: إنَّ الَّذي حافَظَ على حَياةِ الدَّولةِ الإسلاميّةِ وكِيانِها -رَغمَ أنَّ تَعدادَها عِشرُونَ أو ثَلاثُونَ مِليُونًا- تِجاهَ جَمِيعِ دُوَلِ أَورُوبّا العَظِيمةِ، هو هذا المَفهُومُ النّابعُ مِنَ القُرآنِ الَّذي يَحمِلُه جَيشُها: “إذا مِتُّ فأَنا شَهِيدٌ، وإن قَتَلتُ فأَنا مُجاهِدٌ”.. هذا المَفهُومُ دَفَع أَبناءَ هذا الوَطَنِ إلى استِقبالِ المَوتِ باسِمِينَ، مِمّا هَزَّ قُلُوبَ الأَورُوبِّيِّينَ وأَرهَبَهُم.
تُرَى! أيُّ شَيءٍ يُمكِنُ أن يَبْرُزَ في المَيدانِ ويَبعَثَ في رُوحِ الجُنُودِ مِثلَ هذه التَّضحِيةِ والفِداءِ وهُم ذَوُو أَفكارٍ بَسِيطةٍ وقُلُوبٍ صافيةٍ؟!
أيّةُ عُنصُرِيّةٍ يُمكِنُ أن تَحُلَّ مَحَلَّ هذا المَفهُومِ العُلْوِيِّ؟! وأيُّ فِكرٍ غَيرَه يُمكِنُ أن يَجعَلَ المَرءَ يُضَحِّي بحَياتِه وبدُنياه كلِّها طَوْعًا في سَبِيله؟!
ثانيًا: ما آذَتِ الدُّوَلُ الأَورُوبِّيّةُ الكُبْرَى وثَعابِينُها المَرَدةُ هذه الدَّولةَ الإسلاميّةَ وتَوالَت علَيْها بضَرَباتِها، إلّا وأَبكَت ثَلاثَ مِئةٍ وخَمسِينَ مِليُونًا مِنَ المُسلِمِينَ في أَنحاءِ العالَمِ، وجَعَلَتْهُم يَئِنُّونَ لِأَذاها، حتَّى سَحَبَت تلك الدُّوَلُ الِاستِعمارِيّةُ يَدَها عنِ الأَذَى والتَّعَدِّيَ لِتَحُولَ دُونَ إِثارةِ عَواطِفِ المُسلِمِينَ عامّةً، فتَخَلَّت عنِ الأَذَى. فهل تُستَصغَرُ هذه القُوّةُ الظَّهِيرةُ المَعنَوِيّةُ والدّائِمةُ لِهذه الدَّولةِ، وهل يُمكِنُ إِنكارُها؟
تُرى! أيّةُ قُوّةٍ أُخرَى يُمكِنُ أن تَحُلَّ مَحَلَّها؟ فهذا مَيدانُ التَّحَدِّي، فليُظهِرُوا تلك القُوّةَ؟ لِذا لا يَنبَغِي أن نَجعَلَ تلك القُوّةَ الظَّهِيرةَ العُظمَى تُعرِضُ عنّا لِأَجلِ التَّمَسُّكِ بقَوميّةٍ سَلبِيّةٍ وحَمِيّةٍ مُستَغنِيةٍ عنِ الدِّينِ.
[المسألة السابعة: القومية تخدم القلة]
المَسأَلةُ السّابِعةُ: نقُولُ لِلَّذينَ يُبدُونَ حَماسةً شَدِيدةً لِلقَوميّةِ السَّلبِيّةِ:
إنْ كُنتُم حَقًّا تُحِبُّونَ هذه الأُمّةَ حُبًّا جادًّا خالِصًا، وتُشفِقُونَ علَيْها، فعَلَيكُم أن تَحمِلُوا في قُلُوبِكُم غَيْرةً تَسَعُ الإشفاقَ على غالِبِيّةِ هذه الأُمّةِ لا على قِلّةٍ قَلِيلةٍ مِنها، إذ إنَّ خِدمةَ هَؤُلاءِ خِدمةً اجتِماعِيّةً مُؤَقَّتةً غافِلةً عنِ اللهِ -وهُم لَيسُوا بحاجةٍ إلى الرَّأْفةِ والشَّفَقةِ- وعَدَمَ الرَّأفةِ بالغالبِيّةِ العُظمَى مِنهُم لَيسَ مِنَ الحَمِيّةِ والغَيرةِ في شَيءٍ.
إذِ الحَمِيّةُ بمَفهُومِ العُنصُرِيّةِ يُمكِنُ أن تَجلِبَ النَّفعَ والفائِدةَ لِاثنَينِ مِن كُلِّ ثَمانيةِ أَشخاصٍ مِنَ النّاسِ، فائِدةً مُؤَقَّتةً، فيَنالُونَ مِمّا لا يَستَحِقُّونَه مِنَ الحَمِيّةِ؛ أمّا السِّتّةُ الباقُونَ فهُم إمّا شَيخٌ أو مَرِيضٌ أو مُبتَلًى ببَلاءٍ، أو طِفلٌ، أو ضَعِيفٌ جِدًّا، أو مُتَّقٍ يَخشَى اللهَ ويَرجُو الآخِرةَ.. فهَؤُلاءِ يَبحَثُونَ عن سُلوانٍ ونُورٍ يَبعَثُ فيهِمُ الأَمَلَ، حَيثُ إنَّهُم يَتَوجَّهُونَ إلى حَياةٍ بَرزَخِيّةٍ وأُخرَوِيّةٍ، فهُم مُحتاجُونَ إلى أَيدِي اللُّطفِ والرَّحمةِ تَمتَدُّ إلَيْهِم.. فأيّةُ حَمِيّةٍ تَسمَحُ بإِطفاءِ نُورِ الأَمَلِ لَدَى هَؤُلاءِ والتَّهوِينِ مِن سُلوانِهِم؟!
هَيْهاتَ ! أينَ الإشفاقُ على الأُمّةِ؟ وأينَ التَّضحِيةُ في سَبِيلِها!.
إنَّنا لا نَيأَسُ مِن رَوْحِ اللهِ قَطعًا، فلقد سَخَّر سُبحانَه أَبناءَ هذا الوَطَنِ وجَماعَتِه المُعَظَّمةَ وجَيشَه المَهِيبَ مُنذُ أَلفِ سَنةٍ في خِدْمةِ القُرآنِ، وجَعَلَهُم رافِعِي رايتِه.. لِذا فأَمَلُنا عَظِيمٌ في رَحمَتِه تَعالَى ألّا يُهلِكَهُم بعَوارِضَ مُؤَقَّتةٍ إن شاءَ اللهُ، وسيَمُدُّ سُبحانَه ذلك النُّورَ ويَجعَلُه أَسطَعَ وأَبهَرَ إِشراقًا فيُدِيمُ وَظِيفَتَهُمُ المُقدَّسةَ.
❀ ❀ ❀
[المبحث الرابع: جواب عن عشر مسائل]
المبحث الرابع
تَنبِيهٌ: كما أنَّ المَباحِثَ الأَربَعةَ لِلمَكتُوبِ “السّادِسِ والعِشرِينَ” غَيرُ مُتَرابِطةٍ، كَذلِك هذه المَسائِلُ العَشرُ لهذا المَبحَثِ غَيرُ مُتَرابِطةٍ أَيضًا، لِذا لا يُتَحرَّى عنِ الارتِباطِ والعَلاقةِ فيما بَينَها، فقد كُتِبَت كما وَرَدَت.
فهذا المَبحَثُ جُزءٌ مِن رِسالَتِه الَّتي بَعَثَها إلى أَحَدِ طُلّابِه المُهِمِّينَ، تَتَضمَّنُ إِجاباتٍ عن خَمسةٍ أو سِتّةٍ مِنَ الأَسئِلةِ.
[المسألة الأولى: كم عدد العوالم؟]
المسألة الأولى
ثانيًا: إنَّك تقُولُ يا أَخِي في رِسالَتِك: إنَّ المُفَسِّرِينَ قالُوا لَدَى تَفسِيرِهِم ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: إنَّ هُنالِك ثَمانيةَ عَشَرَ أَلفَ عالَمٍ، وتَستَفسِرُ عن حِكْمةِ ذلك العَدَدِ.
أَخِي، إنَّني الآنَ لا أَعلَمُ حِكْمةَ ذلك العَدَدِ، ولكِنِّي أَكتَفِي بالآتي:
إنَّ جُمَلَ القُرآنِ الحَكِيمِ لا تَنحَصِرُ في مَعنًى واحِدٍ، بل هي في حُكْمٍ كُلِّيٍّ يَتَضمَّنُ مَعانِيَ لِكُلِّ طَبَقةٍ مِن طَبَقاتِ البَشَرِيّةِ، وذلك لِكَونِ القُرآنِ الكَرِيمِ خِطابًا لِعُمُوم طَبَقاتِ البَشَرِ؛ لِذا فالمَعاني المُبَيَّنةُ هي في حُكْمِ جُزئيّاتٍ لِتِلك القاعِدةِ الكُلِّيّةِ، فيَذكُرُ كلُّ مُفَسِّرٍ، وكلُّ عارِفٍ باللهِ جُزءًا مِن ذلك المَعنَى الكُلِّيِّ. ويَستَنِدُ في تَفسِيرِه هذا إمّا إلى كَشْفِيّاتِه أو إلى دَلِيلِه أو إلى مَشرَبِه، فيُرَجِّحُ مَعنًى مِنَ المَعاني.. وقد كَشَفَت طائِفةٌ في هذا أَيضًا مَعنًى مُوافِقًا لِذلِك العَدَدِ.
فمَثلًا: يَذكُرُ الأَوْلياءُ في أَوْرادِهِم ويُكرِّرُونَ باهتِمامٍ بالِغٍ قَولَه تَعالَى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾، ولِهذه الآيةِ الكَرِيمةِ مَعانٍ جُزئيّةٌ ابتِداءً مِن بَحرِ الرُّبُوبيّةِ في دائِرةِ الوُجُوبِ وبَحرِ العُبُودِيّةِ في دائِرةِ الإِمكانِ، وانتِهاءً إلى بَحرَيِ الدُّنيا والآخِرةِ، وإلى بَحرَيْ عالَمِ الشَّهادةِ وعالَمِ الغَيبِ، وإلى البِحارِ المُحِيطةِ في الشَّرقِ والغَربِ، وفي الشَّمالِ والجَنُوبِ، إلى بَحرِ الرُّومِ و بَحرِ فارِسَ والبَحرِ الأَبيَضِ والأَسوَدِ، وإلى المَضِيقِ بَينَهُما الَّذي يَخرُجُ مِنه السَّمَكُ المُسَمَّى بالمَرجانِ، وإلى البَحرِ الأَبيَضِ والبَحرِ الأَحمَرِ وقَناةِ السُّوَيسِ، وإلى بِحارِ المِياهِ العَذبةِ والمالِحةِ، وإلى بِحارِ المِياهِ الجَوفيّةِ العَذبةِ المُتَفرِّقةِ والبِحارِ المالِحةِ الَّتي على ظَهرِ الأَرضِ المُتَّصِلِ بَعضُها ببَعضٍ وما يُسَمَّى بالبِحارِ الصَّغِيرةِ العَذبةِ مِنَ الأَنهارِ الكَبِيرةِ كالنِّيلِ ودِجْلةَ والفُراتِ، والبِحارِ المالِحةِ الَّتي تَختَلِطُ بها.
كلُّ هذه الجُزئيّاتِ مَوجُودةٌ ضِمنَ مَعاني تلك الآيةِ الكَرِيمةِ، وجَمِيعُ هذه الجُزئيّاتِ يَصِحُّ أن تكُونَ مُرادةً ومَقصُودةً، فهِي مَعانٍ حَقِيقيّةٌ لِلآيةِ الكَرِيمةِ ومَعانٍ مَجازِيّةٌ.
وهكَذا، فإنَّ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيضًا جامِعةٌ لِحَقائِقَ كَثِيرةٍ جِدًّا مِثلَما ذُكِرَ، وإنَّ أَهلَ الكَشفِ والحَقِيقةِ يُبيِّنُونَها بَياناتٍ مُتَبايِنةً حَسَبَ كَشفِيّاتِهِم.
وأنا أَفهَمُ مِنَ الآيةِ الكَرِيمةِ الآتِيَ:
إنَّ في السَّماواتِ أُلُوفًا مِنَ العَوالِمِ، ويُمكِنُ أن يكُونَ كلُّ نَجمٍ في مَجمُوعَتِه، عالَمًا بذاتِه، وإنَّ في الأَرضِ أَيضًا كلُّ جِنسٍ مِنَ المَخلُوقاتِ كَذلِك عالَمٌ بذاتِه، حتَّى إنَّ كلَّ إِنسانٍ عالَمٌ صَغِيرٌ، فكَلِمةُ ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ تَعني أنَّ كلَّ عالَمٍ يُدارُ ويُرَبىَّ وتُدَبَّرُ شُؤُونُه برُبُوبيَّتِه سُبحانَه وتَعالَى مُباشَرةً.
ثالثًا: لقد قالَ الرَّسُولُ ﷺ: “اِذَا أرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ خَيْرًا أَبْصَرَهُمْ بِعُيوُبِ أنْفُسِهِمْ”، وقد قال سَيِّدُنا يُوسُفُ عَليهِ السَّلام في القُرآنِ الكَرِيمِ: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾.
نعم، إنَّ مَن يُعجَبُ بنَفسِه ويَعتَدُّ بها شَقِيٌّ، بَينَما الَّذي يَرَى عَيبَ نَفسِه مَحظُوظٌ سَعِيدٌ، لِذا فأَنتَ سَعِيدٌ يا أَخِي؛ ولكِن قد يَحدُثُ أَحيانًا أن تَنقَلِبَ النَّفسُ الأَمّارةُ إلى نَفسٍ لَوّامةٍ أو مُطمَئِنّةٍ، إلّا أنَّها تُسلِّمُ أَسلِحَتَها وأَعتِدَتَها إلى الأَعصابِ والعُرُوقِ فتُؤَدِّي الأَعصابُ والعُرُوقُ هذه تلك الوَظِيفةَ إلى نِهايةِ العُمُرِ، ورَغمَ مَوتِ النَّفسِ الأَمّارةِ مُنذُ مُدّةٍ طَوِيلةٍ فإنَّ آثارَها تَظهَرُ أَيضًا، فهُناك كَثِيرٌ مِنَ الأَوْلياءِ والأَصفِياءِ العِظامِ شَكَوْا مِنَ النَّفسِ الأَمّارةِ رَغمَ أنَّ نُفُوسَهُم مُطمَئِنّةٌ، واستَغاثُوا باللهِ مِن أَمراضِ القَلبِ رَغمَ أنَّ قُلُوبَهُم سَلِيمةٌ ومُنوَّرةٌ جِدًّا.. فهَؤُلاءِ الأَفاضِلُ لا يَشكُونَ مِنَ النَّفسِ الأَمّارةِ، بل مِن وَظِيفَتِها الَّتي أُودِعَت إلى الأَعصابِ.. أمّا المَرَضُ فلَيسَ قَلبِيًّا، بل مَرَضٌ خَياليٌّ، والَّذي يَشُنُّ علَيكُمُ الهُجُومَ يا أَخِي لَيسَ نَفسُك ولا أَمراضُ قَلبِك، بل هي حالةٌ كما ذَكَرناها انتَقَلَت إلى الأَعصابِ لِأَجلِ دَوامِ المُجاهَدةِ واستِمرارِها إلى نِهايةِ العُمُرِ -حَسَبَ مُقتَضَى البَشَرِيّةِ- والَّتي تُسَبِّبُ رُقيًّا دائِمًا.
[المسألة الثانية: ما معنى قول ابن عربي: إن العلم بالله غير العلم بوجود الله]
المَسأَلة الثانية
إنَّ أَجزاءَ “رسائِلِ النُّورِ” تَتَضمَّنُ الإِجابةَ عن ثَلاثِ مَسائِلَ، كانَ العالِمُ القَدِيمُ قد سَأَل عَنْها وفيها إِيضاحاتُها، إلّا أنَّنا نُشِيرُ هنا إلَيْها بإِجمالٍ فحَسْبُ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: ماذا يَعنِي مُحْيِي الدِّينِ بنُ عَرَبيٍّ عِندَما قال في رِسالَتِه المُوَجَّهةِ إلى فَخْرِ الدِّينِ الرّازِيِّ: “وأنَّ العِلمَ باللهِ خِلافُ العِلمِ بوُجُودِه“، وما قَصْدُه مِنه؟
أوَّلًا: إنَّ ما قَرَأتَ له مِنَ المِثالِ المَوجُودِ في الفَرقِ بَينَ التَّوحِيدِ الحَقِيقيِّ والتَّوحِيدِ العامِّيِّ المَذكُورِ في “الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِينَ” يُشِيرُ إلى المَقصُودِ مِنَ السُّؤالِ، ويُوَضِّحُه أَكثَرَ ما جاءَ في “المَوقِفِ الثَّاني والثَّالِثِ مِنَ الكَلِمةِ الثَّانيةِ والثَّلاثِينَ”.
ثانيًا: إنَّ الَّذي دَعا مُحْيِيَ الدِّينِ بنَ عَرَبيٍّ إلى أن يَقُولَ هذا الكَلامَ لِفَخرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ -وهُو إِمامٌ مِن أَئِمّةِ الكَلامِ- هو أنَّ ما بَيَّنه أَئِمّةُ أُصُولِ الدِّينِ وعُلَماءُ الكَلامِ فيما يَخُصُّ العَقائِدَ ووُجُودَ اللهِ سُبحانَه وتَوحِيدَه غَيرُ كافٍ في نَظَرِ ابنِ عَرَبيٍّ.
حَقًّا! إنَّ مَعرِفةَ اللهِ المُستَنبَطةَ بدَلائِلِ عِلمِ الكَلامِ لَيسَت هي المَعرِفةَ الكامِلةَ، ولا تُورِثُ الِاطمِئْنانَ القَلبِيَّ، في حِينِ أنَّ تلك المَعرِفةَ مَتَى كانَت على نَهجِ القُرآنِ الكَرِيمِ المُعجِزِ، تُصبِحُ مَعرِفةً تامَّةً وتَسكُبُ الِاطمِئْنانَ الكامِلَ في القَلبِ؛ وإنَّ كلَّ جُزءٍ مِن أَجزاءِ “رَسائِلِ النُّورِ” بمَثابةِ مِصْباحٍ يُضِيءُ السَّبِيلَ القَوِيمَ النُّورانِيَّ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ إن شاءَ اللهُ تَعالَى.
ثمَّ إنَّ مَعرِفةَ اللهِ الَّتي استَقاها الرَّازِيُّ مِن عِلمِ الكَلامِ كَما تَبدُو ناقِصةً وقاصِرةً في نَظَرِ ابنِ عَرَبيٍّ، فإنَّ المَعرِفةَ النَّاتِجةَ عن طَرِيقِ التَّصَوُّفِ أَيضًا ناقِصةٌ ومَبتُورةٌ بالنِّسبةِ نَفسِها أَمامَ المَعرِفةِ الَّتي استَقاها وَرَثةُ الأَنبِياءِ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ مُباشَرةً، ذلك لأنَّ ابنَ عَرَبيٍّ يقُولُ: “لا مَوجُودَ إلّا هو” لِأَجلِ الحُصُولِ على الحُضُورِ القَلبِيِّ الدّائِمِ أَمامَ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، حتَّى وَصَل به الأَمرُ إلى إِنكارِ وُجُودِ الكائِناتِ.
أمّا آخَرُونَ فلِأَجلِ الحُصُولِ على الحُضُورِ القَلبِيِّ أَيضًا قالُوا: “لا مَشهُودَ إلّا هو”، وأَلقَوْا سِتارَ النِّسيانِ المُطلَقِ على الكائِناتِ، واتَّخَذُوا طَوْرًا عَجِيبًا.
بَينَما المَعرِفةُ المُستَقاةُ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ تَمنَحُ الحُضُورَ القَلبِيَّ الدّائِمَ، فَضْلًا عن أنَّها لا تَقضِي على الكائِناتِ بالعَدَمِ ولا تَسجُنُها في سِجنِ النِّسيانِ المُطلَقِ، بل تُنقِذُها مِنَ الإِهمالِ والعَبَثيّةِ، وتَستَخدِمُها في سَبِيلِ اللهِ سُبحانَه، جاعِلةً مِن كُلِّ شَيءٍ مِرآةً تَعكِسُ المَعرِفةَ الإلٰهِيّةَ، وتَفتَحُ في كلِّ شَيءٍ نافِذةً إلى المَعرِفةِ الإلٰهِيّة، كما عَبَّر عَنْها سَعدِي الشِّيرازِيُّ شِعرًا:
دَرْ نَظَرِ هُوشيَار هَر وَرقي * دَفتَريسْت أَزْ مَعرِفَتِ كردكار
ولقد شَبَّهنا في كَلِماتٍ أُخرَى مِن “رَسائِلِ النُّورِ” لِبَيانِ الفُرُوقِ بَينَ الَّذين يَستَلهِمُونَ نَهجَهُم مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ، ذلك المَنهَجِ الأَقوَمِ، والَّذين يَسلُكُونَ نَهجَ عُلَماءِ الكَلامِ بمِثالٍ هو:
إنَّه لِأَجلِ الحُصُولِ على الماءِ، هُناك مَن يَأْتي به بواسِطةِ أَنابِيبَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ يَحفِرُه في أَسفَلِ الجِبالِ، وآخَرُونَ يَجِدُونَ الماءَ أَينَما حَفَرُوا ويُفَجِّرُونَه أَينَما كانُوا؛ فالأوَّلُ سَيرٌ في طَرِيقٍ وَعْرٍ وطَوِيلٍ والماءُ مُعَرَّضٌ فيه لِلِانقِطاعِ والشُّحّةِ، بَينَما الَّذين هُم أَهلٌ لِحَفرِ الآبارِ فإنَّهُم يَجِدُونَ الماءَ أَينَما حَلُّوا دُونَما صُعُوبةٍ ومَتاعِبَ.
فعُلَماءُ الكَلامِ يَقطَعُونَ سِلسِلةَ الأَسبابِ بإِثباتِ استِحالةِ الدَّوْرِ والتَّسَلسُلِ في نِهايةِ العالَمِ، ومِن بَعدِه يُثبِتُونَ وُجُودَ واجِبِ الوُجُودِ. أمّا المَنهَجُ الحَقِيقيُّ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ فيَجِدُ الماءَ في كلِّ مَكانٍ ويَحفِرُه أَينَما كان، فكُلُّ آيةٍ مِن آياتِه الجَلِيلةِ كعَصا مُوسَى تُفَجِّرُ الماءَ أَينَما ضَرَبَتْ.. وتَستَقرِئُ كلَّ شَيءٍ القاعِدةُ الآتِيةُ:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ * تَدُلُّ عَلَى أنَّهُ وَاحِد ُ
ثمَّ إنَّ الإِيمانَ لا يَحصُلُ بالعِلمِ وَحْدَه، إذ إنَّ هُنالِك لَطائِفَ كَثِيرةً لِلإِنسانِ لَها حَظُّها مِنَ الإِيمانِ، فكما أنَّ الأَكلَ إذا ما دَخَل المَعِدةَ يَنقَسِمُ ويَتَوزَّعُ إلى مُختَلِفِ العُرُوقِ حَسَبَ كلِّ عُضوٍ مِنَ الأَعضاءِ، كَذلِك المَسائِلُ الإِيمانيّةُ الآتِيةُ عن طَرِيقِ العِلمِ إذا ما دَخَلَت مَعِدةَ العَقلِ والفَهْمِ، فإنَّ كلَّ لَطِيفةٍ مِن اللَّطائِفِ -كالرُّوحِ والقَلبِ والسِّرِّ والنَّفسِ وأَمثالِها- تَأخُذُ مِنها وتَمَصُّها حَسَبَ دَرَجاتِها؛ فإن فَقَدَتْ لَطِيفةٌ مِنَ اللَّطائِفِ غِذاءَها المُناسِبَ وظَلَّت مَحرُومةً مِنها، فالمَعرِفةُ إذًا ناقِصةٌ مَبتُورةٌ.
وهكذا يُنبِّهُ ابنُ عَرَبيٍّ فَخرَ الدِّينِ الرَّازِيَّ إلى هذه النُّقطةِ ويَلفِتُ نَظَرَه إلَيْها.
[المسألة الثالثة: التوفيق بين (كرمنا بني آدم) و(إنه كان ظلومًا جهولًا)]
المَسألة الثَّالِثة
سؤالٌ: ما وَجهُ التَّوفِيقِ بَينَ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾ والآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾؟
الجَوابُ: إنَّ إِيضاحَ هذا السُّؤالِ مَوجُودٌ في كُلٍّ مِنَ الكَلِماتِ “الحادِيةَ عَشْرةَ” و”الثَّالِثةِ والعِشرِينَ”، والثَّمرةِ الثَّانيةِ مِنَ الغُصنِ الخامِسِ مِنَ الكَلِمةِ “الرَّابِعةِ والعِشرِينَ”، ومُجمَلُه هو الآتي:
إنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى كما يَخلُقُ بقُدرَتِه الكامِلةِ أَشياءَ كَثِيرةً جِدًّا مِن شَيءٍ واحِدٍ، ويَسُوقُ شَيئًا واحِدًا إلى القِيامِ بوَظائِفَ كَثِيرةٍ جِدًّا، ويَكتُبُ أَلفَ كِتابٍ وكِتابٍ في صَحِيفةٍ واحِدةٍ.. كَذلِكَ يَخلُقُ سُبحانَه وتَعالَى الإِنسانَ أَيضًا نَوعًا جامِعًا لِكَثيرٍ مِنَ الأَنواعِ، أي إنَّه قد أَرادَ أن يُنجِزَ بنَوعِ الإِنسانِ ما تُنجِزُه الدَّرَجاتُ المُختَلِفةُ لِجَمِيعِ أَنواعِ الحَيَواناتِ، بحَيثُ لم يُحَدِّد قُوَى الإنسانِ ورَغَباتِه بحُدُودٍ وقُيُودٍ فِطْرِيّةٍ، بل جَعَلَها حُرّةً طَلِيقةً، بَينَما حَدَّد قُوَى سائرِ الحَيَواناتِ ورَغَباتِها، أي إنَّها تَحتَ قُيُودٍ فِطْرِيّةٍ؛ بمَعنَى أنَّ كلَّ قُوّةٍ مِن قُوَى الإنسانِ تَتَجوَّلُ في مَيدانٍ فَسِيحٍ واسِعٍ جِدًّا، لا تَتَناهَى، لِأنَّ الإنسانَ مِرآةٌ لِتَجَلِّياتٍ لانِهايةَ لها لِأَسماءِ رَبِّ العالَمِينَ، لِذا فقد مُنِحَت قُواه استِعدادًا لا نِهايةَ له.
فمَثلًا: لو أُعطِيَ الإنسانُ الدُّنيا برُمَّتِها، لَطَلَب المَزِيدَ بحِرصِه، وإنَّه يَرضَى بإِلحاقِ الضَّرَرِ بأُلُوفٍ مِنَ النَّاسِ في سَبِيلِ مَنفَعةٍ ذاتيّةٍ!
وهكَذا تَنكَشِفُ أَمامَ الإنسانِ دَرَجاتٌ لا حَدَّ لها مِنَ الأَخلاقِ السَّيِّئةِ، حتَّى تُوصِلَه إلى دَرَكاتِ النَّمارِدةِ والفَراعِنةِ، فيكُونَ مِصْداقَ صِفةِ “ظَلُومًا” بحَقٍّ (بصِيغةِ المُبالَغةِ)، كما تَنفَتِحُ أَمامَه دَرَجاتُ الرُّقيِّ الَّتي لا مُنتَهَى لها في الخِصالِ الحَمِيدةِ حتَّى يَبلُغَ مَرتَبةَ الأَنبِياءِ والصِّدِّيقِينَ.
ثمَّ إنَّ الإنسانَ -بخِلافِ الحَيَوانِ- جاهِلٌ بكُلِّ ما يَخُصُّ الحَياةَ ويَلزَمُها، ومُضطَرٌّ إلى تَعَلُّمِ كلِّ شَيءٍ، فهُو “جَهُولٌ” بصِيغةِ المُبالَغةِ، لِأنَّه مُحتاجٌ إلى ما لا يُحَدُّ مِنَ الأَشياءِ.
أمّا الحَيَوانُ، فعِندَما يَفتَحُ عُيُونَه على الحَياةِ، فإنَّه لا يَحتاجُ إلّا إلى أَشياءَ قَلِيلةٍ، فَضْلًا عن أنَّه يَتَعلَّمُ شُرُوطَ حَياتِه في شَهرٍ أو شَهرَينِ، أو في يَومٍ أو يَومَينِ، بل رُبَّما في ساعةٍ أو ساعَتَينِ، وكأنَّه قدِ اكتَمَل في عالَمٍ آخَرَ ثمَّ أَتَى إلى هُنا؛ بَينَما الإنسانُ لا يَتَمكَّنُ مِن أن يَقِفَ مُنتَصِبًا مُعتَمِدًا على نَفسِه إلّا بَعدَ سَنةٍ أو سَنَتَينِ، ولا يَعرِفُ نَفعَه مِن ضَرِّه إلّا بَعدَ خَمسَ عَشْرةَ سَنة، فالمُبالَغةُ في ﴿جَهُولًا﴾ تُشِيرُ إلى هذا أَيضًا.
[المسألة الرابعة: معنى حديث (جَدِّدوا إيمانكم بلا إله إلا الله)]
المَسألة الرَّابِعة
تَسأَلُونَ يا أَخِي عن حِكْمةِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: “جَدِّدُوا إِيمانَكُم بِـ لا إلٰهَ إلّا اللهُ” فقد ذَكَرناها في كَثِيرٍ مِنَ “الكَلِماتِ”، والآنَ نَذكُرُ حِكْمةً مِنها:
إنَّ الإِنسانَ لِكَونِه يَتَجدَّدُ بشَخْصِه وبعالَمِه الَّذي يُحِيطُ به، فهُو بحاجةٍ إلى تَجدِيدِ إِيمانِه دائِمًا، لِأنَّ الإِنسانَ الفَردَ ما هُو إلّا أَفرادٌ عَدِيدةٌ مَعنًى، فهُو أَفرادٌ بعَدَدِ سِنِيْ عُمُرِه، بل بعَدَدِ أَيّامِه، بل بعَدَدِ ساعاتِه؛ ذلك لِأنَّ الفَردَ الواحِدَ عِندَما يَجرِي علَيْه الزَّمَنُ يُصبِحُ بحُكْمِ النَّمُوذَجِ، يَلبَسُ كلَّ يَوْمٍ شَكْلَ فَردٍ جَدِيدٍ آخَرَ.
ثمَّ إنَّ الإِنسانَ مِثلَما يَتَعدَّدُ ويَتَجدَّدُ هكذا، فإنَّ العالَمَ الَّذي يَسكُنُه سَيّارٌ أَيضًا لا يَبقَى على حالٍ، فهُو يَمضِي ويَأتِي غَيرُه مَكانَه، فهُو في تَنَوُّعٍ دائِمٍ، فكُلَّ يَومٍ يُفتَحُ بابُ عالَمٍ جَدِيدٍ.
فالإِيمانُ نُورٌ لِحَياةِ كلِّ فَردٍ مِن أَفرادِ ذلك الشَّخصِ مِن جِهةٍ، كما أنَّه ضِياءٌ لِلعَوالِمِ الَّتي يَدخُلُها؛ وما “لا إلٰهَ إلّا اللهُ” إلّا مِفتاحٌ يَفتَحُ ذلك النُّورَ.
ثمَّ إنَّ الإِنسانَ تَتَحكَّمُ فيه النَّفسُ والهَوَى والوَهْمُ والشَّيطانُ، وتَستَغِلُّ غَفْلَتَه وتَحتالُ علَيْه لِتُضَيِّقَ الخِناقَ على إِيمانِه، حتَّى تَسُدَّ علَيْه مَنافِذَ النُّورِ الإِيمانِيِّ بنَثْرِ الشُّبُهاتِ والأَوْهامِ؛ فَضْلًا عن أنَّه لا يَخلُو عالَمُ الإِنسانِ مِن كَلِماتٍ وأَعمالٍ مُنافِيةٍ لِظاهِرِ الشَّرِيعةِ، بل تُعَدُّ لَدَى قِسمٍ مِنَ الأَئِمّةِ في دَرَجةِ الكُفرِ.
لِذا فهُنالِك حاجةٌ إلى تَجدِيدِ الإِيمانِ في كلِّ وَقتٍ، بل في كلِّ ساعةٍ، في كلِّ يَومٍ.
[منهج القرآن في إثبات التوحيد قياسًا بمنهج المتكلمين وأهل التصوف]
سُؤالٌ: إنَّ عُلَماءَ الكَلامِ يُثبِتُونَ التَّوحِيدَ بعدَ ظُهُورِهِم ذِهْنًا على العالَمِ كُلِّه الَّذي جَعَلُوه تَحتَ عُنوانِ الإِمكانِ والحُدُوثِ، وإنَّ قِسمًا مِن أَهلِ التَّصَوُّفِ لِأَجلِ أنْ يَغنَمُوا بحُضُورِ القَلبِ واطْمِئْنانِه قالُوا: “لا مَشهُودَ إلّا هُو” بَعدَ أن أَلقَوْا سِتارَ النِّسيانِ على الكائِناتِ. وقِسمٌ آخَرُ مِنهُم قالُوا: “لا مَوجُودَ إلّا هُو”، وجَعَلُوا الكائِناتِ في مَوضِعِ الخَيالِ، وأَلقَوْها في العَدَمِ لِيَظفَرُوا بَعدَ ذلك بالِاطمِئْنانِ وسُكُونِ القَلبِ.
ولكِنَّك تَسلُكُ مَسلَكًا مُخالِفًا لِهذه المَشارِبِ، وتُبيِّنُ مَنهَجًا قَوِيمًا مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ، وقد جَعَلتَ شِعارَ هذا المَنهَجِ: “لا مَقصُودَ إلّا هو.. لا مَعبُودَ إلّا هو“، فالرَّجاءُ أنْ تُوضِّحَ لنا باختِصارٍ بُرهانًا واحِدًا يَخُصُّ التَّوحِيدَ في هذا المَنهَجِ القُرآنِيِّ.
الجَوابُ: إنَّ جَمِيعَ ما في “الكَلِماتِ” و”المَكتُوباتِ” يُبيِّنُ ذلك المَنهَجَ القَوِيمَ.
أمّا الآنَ فأُشِيرُ إِشارةً مُختَصَرةً جِدًّا -نُزُولًا عِندَ رَغبَتِكُم- إلى حُجّةٍ واحِدةٍ مِن حُجَجِه العَظِيمةِ، وإلى بُرهانٍ واسِعٍ طَوِيلٍ مِن بَراهِينِه الدّامِغةِ.
إنَّ كلَّ شَيءٍ في العالَمِ يُسنِدُ جَمِيعَ الأَشياءِ إلى خالِقِه، وإنَّ كلَّ أَثَرٍ في الدُّنيا يَدُلُّ على أنَّ جَمِيعَ الآثارِ هي مِن مُؤَثِّرِه هو، وإنَّ كلَّ فِعلٍ إِيجادِيٍّ في الكَوْنِ يُثبِتُ أنَّ جَمِيعَ الأَفعالِ الإِيجادِيّةِ إنَّما هي مِن أَفعالِ فاعِلِه هو، وإنَّ كلَّ اسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى يَتَجلَّى على المَوجُوداتِ يُشِيرُ إلى أنَّ جَمِيعَ الأَسماءِ إنَّما هي لِمُسَمّاه هو.. أي إنَّ كلَّ شَيءٍ هو بُرهانُ وَحْدانيّةٍ واضِحٌ، ونافِذةٌ مُطِلّةٌ على المَعرِفةِ الإلٰهِيّة.
نعم، إنَّه ما مِن أَثَرٍ -ولا سِيَّما الكائِنِ الحَيِّ- إلّا هو مِثالٌ مُصَغَّرٌ لِلكائِناتِ، وبمَثابةِ نَواةٍ لِلعالَمِ، وثَمَرةٍ لِلكُرةِ الأَرضِيّةِ؛ لِذا فخالِقُ ذلك المِثالِ المُصَغَّرِ والنَّواةِ والثَّمَرةِ لا بُدَّ أن يكُونَ هو أَيضًا خالِقُ الكائِناتِ برُمَّتِها، ذلك لِأنَّه لا يُمكِنُ أن يكُونَ مُوجِدُ الثَّمَرةِ غَيرَ مُوجِدِ شَجَرَتِها.
لِذا فإنَّ كلَّ أَثَرٍ مِثلَما يُسنِدُ جَمِيعَ الآثارِ إلى مُؤَثِّرِه، فإنَّ كلَّ فِعلٍ أَيضًا يُسنِدُ جَمِيعَ الأَفعالِ إلى فاعِلِه، لِأنَّنا نَرَى أنَّ أيَّ فِعلٍ إِيجادِيٍّ كان، يَبـرُزُ كطَرَفٍ مِن قانُونِ خَلّاقِيّةٍ يَسَعُ الكَوْنَ كُلَّه، ويَمتَدُّ حُكْمُه وطُولُه مِنَ الذَّرّاتِ إلى المَجَرّاتِ، أي إنَّ مَن كان صاحِبَ ذلك الفِعلِ الإِيجادِيِّ الجُزئِيِّ وفاعِلَه لا بُدَّ أن يكُونَ هو أَيضًا فاعِلَ جَمِيعِ الأَفاعِيلِ الَّتي تَرتَبِطُ بالقانُونِ الكُلِّيِّ المُحِيطِ بالكَونِ الواسِعِ مِنَ الذَّرّاتِ إلى الشُّمُوسِ.
فالَّذي يُحيِي بَعُوضةً لا بُدَّ أن يكُونَ هو المُحيِيَ لِجَمِيعِ الحَشَراتِ بل جَمِيعِ الحَيَواناتِ بل مُحيِيَ الأَرضِ كُلِّها.
ثمَّ إنَّ الَّذي يَجعَلُ الذَّرَّاتِ تَدُورُ بجَذْبةِ حُبٍّ كالمُرِيدِ المَوْلَوِيِّ لا بُدَّ أن يكُونَ هو أَيضًا ذلك الَّذي يُحَرِّكُ المَوجُوداتِ جَمِيعًا تَحرِيكًا مُتَسَلسِلًا حتَّى الشَّمسَ بسَيَّاراتِها، لِأنَّ القانُونَ السَّارِيَ في المَوجُوداتِ هو سِلسِلةٌ، والأَفعالُ مُرتَبِطةٌ به. بمَعنَى أنَّه مِثلَما يُسنِدُ كلُّ أَثَرٍ جَمِيعَ الآثارِ إلى مُؤَثِّرِه هو، ويُسنِدُ كلُّ فِعلٍ إِيجادِيٍّ جَمِيعَ الأَفعالِ إلى فاعِلِه هو؛ كذلك فإِنَّ كلَّ اسمٍ يَتَجلَّى على الكائِناتِ يُسنِدُ جَمِيعَ الأَسماءِ إلى مُسَمَّاه، ويُثبِتُ أنَّها جَمِيعًا عَناوِينُه، ذلك لِأنَّ الأَسماءَ المُتَجلِّيةَ في الكَونِ مُتَداخِلٌ بَعضُها في بَعضٍ كالدَّوائِرِ المُتَداخِلةِ وأَلوانِ الضَّوءِ السَّبعةِ، كلٌّ مِنها يُسنِدُ الآخَرَ ويُمِدُّه، كلُّ مِنها يُكمِلُ أَثَرَ الآخَرِ ويُزَيِّنُه.
فمَثلًا: إنَّ اسمَ “المُحْيِي” عِندَما يَتَجلَّى لِشَيءٍ وحالَما يَمنَحُ شَيئًا الحَياةَ، يَتَجلَّى اسمُ “الحَكِيمِ” أَيضًا فيُنَظِّمُ جَسَدَ ذلك الكائِنِ الحَيِّ الَّذي هو مَأْوَى رُوحِه، وفي الوَقتِ نَفسِه يَتَجلَّى اسمُ “الكَرِيمِ” فيُزيِّنُ ذلك العُشَّ والمَأْوَى، وآنَئِذٍ يَتَجلَّى اسمُ “الرَّحِيمِ” أَيضًا فيُهَيِّئُ حاجاتِ ذلك الجَسَدِ، وفي الوَقتِ نَفسِه يَتَجلَّى اسمُ “الرَّزّاقِ” فيَمنَحُ ما يَلزَمُ ذلك الحَيَّ مِن أَرزاقٍ مادِّيّةٍ ومَعنَوِيّةٍ ومِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ، وهكَذا…
أي: مَن يَعُودُ له اسمُ “المُحْيِي” لَه أَيضًا اسمُ “الحَكِيمِ” الَّذي يُنِيرُ الكَونَ ويُحِيطُ به، وإنَّ له أَيضًا اسمَ “الرَّحِيمِ” الَّذي يُرَبِّي الكائِناتِ بالرَّحمةِ والشَّفَقةِ، وإنَّ له أَيضًا اسمَ “الرَّزّاقِ” الَّذي يُغدِقُ على الكائِناتِ.. وهكذا…
بمَعنَى أنَّ كلَّ اسمٍ، وكلَّ فِعلٍ، وكلَّ أَثَرٍ، بُرهانُ وَحْدانيّةٍ، وخَتمُ تَوحِيدٍ، وخاتَمُ أَحَدِيّةٍ بحَيثُ يَدُلُّ على أنَّ الكَلِماتِ الَّتي هي المَوجُوداتُ المَسطُورةُ في صَحائِفِ الكَونِ وفي سُطُورِ العُصُورِ إنَّما هي كِتابةُ قَلَمِ نَقّاشِه ومُصَوِّرِه جَلَّ وعَلا.
﴿اللَّهُمَّ صَلِّ على مَن قالَ: “أَفضَلُ مَا قُلتُ أنَا والنَّبِيُّونَ مِن قَبلِي: لَا إِلٰهَ إلَّا اللهُ”، وعَلَى آلِه وصَحْبِه وسَلِّمْ﴾
[المسألة الخامسة: هل تكفي: لا إله إلا الله، بدون: محمد رسول الله؟]
المَسألة الخَامِسة
ثانيًا: تَسأَلُونَ يا أَخِي في رِسالَتِكُم عن كِفايةِ “لا إلٰهَ إلّا اللهُ” فحَسبُ، أي: مِن دُونِ ذِكرِ “مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ” في جَعلِ المَرءِ مِن أَهلِ النَّجاةِ.
إنَّ جَوابَ هذا السُّؤالِ طَوِيلٌ، إلَّا أنَّنا نقُولُ الآنَ:
إنَّ كَلِمَتَيِ الشَّهادةِ لا تَنفَكُّ إِحداهُما عنِ الأُخرَى ولا تَفتَرِقانِ، بل تُثبِتُ إِحداهُما الأُخرَى وتَتَضمَّنُها، فلا تكُونُ إِحداهُما إلَّا بالأُخرَى.
وحَيثُ إنَّ الرَّسُولَ ﷺ هو خاتَمُ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلام، ووارِثُ جَمِيعِ المُرسَلِينَ، فلا شَكَّ أنَّه في مُقدِّمةِ كلِّ الطُّرُقِ المُوصِلةِ إلى اللهِ وفي رَأْسِها، فلَيسَت ثَمّةَ طَرِيقُ حَقٍّ ولا سَبِيلُ نَجاةٍ غيرَ جادَّتِه الكُبْرَى وصِراطِه المُستَقِيمِ.
ويقُولُ جَمِيعُ أَئِمّةِ أَهلِ المَعرِفةِ والتَّحقِيقِ ما يُعبِّرُ عنه سَعدِي الشِّيرازِيُّ شِعرًا:
مُحَالَست سَعدي بَراهِ نَجَاتْ * ظَفَر بُردَنْ جُزْ دَربىِ مُصطفى
أي: (مِنَ المُحالِ أن يَظفَرَ أَحَدٌ بطَرِيقِ السَّلامةِ والصَّفاءِ مِن دُونِ اتِّباعِ المُصطَفَى ﷺ).
وكذا قالُوا: “كُلُّ الطُّرُقِ مَسدُودٌ إلّا المِنهاجَ المُحَمَّديَّ”، ولكِن قد يَسلُكُ بَعضُهُم أَحيانًا الجادّةَ الأَحمَدِيّة، ولكِنَّهُم لا يَعلَمُونَ أنَّها جادّةٌ أَحمَدِيّةٌ، أو أنَّها داخِلةٌ ضِمنَها.
وقد يكُونُونَ أَحيانًا غَيرَ عارِفِينَ بالنَّبيِّ ﷺ، ولكِنَّ الطَّرِيقَ الَّتي يَسلُكُونَها هي جُزءٌ مِنَ الجادّةِ الأَحمَدِيّةِ.
ورُبَّما كانُوا في بَعضِ الأَحيانِ لا يُفكِّرُونَ في الجادّةِ المُحَمَّدِيّةِ، مُكتَفِينَ: بـ”لا إلٰهَ إلّا اللهُ” إمّا بسَبَبٍ مِن حالةِ الجَذبِ أوِ الِاستِغراقِ، أو بسَبَبِ وَضعٍ مِن أَوْضاعِ الِانزِواءِ والعُزلةِ.
ومعَ هذا فإنَّ أَهَمَّ جِهةٍ في هذه الأُمُورِ هي:
إنَّ عَدَمَ القَبُولِ شَيءٌ، وقَبُولَ العَدَمِ شَيءٌ آخَرُ؛ فإنَّ أَمثالَ هَؤُلاءِ مِن أَهلِ الجَذبِ والعُزلةِ أو مِمَّن لم يَسمَعْ أو لا يَعلَمُ وأَمثالَهُم لا يَعرِفُونَ النَّبيَّ ﷺ أو لا يَتَفكَّرُونَ فيه لِيَقبَلُوه ويَرضَوا به، فيَظَلُّونَ جاهِلِينَ في تلك النُّقطةِ ولا يَعرِفُونَ غيرَ “لا إلٰهَ إلّا اللهُ” في مَعرِفةِ اللهِ، فهَؤُلاءِ رُبَّما يكُونُونَ مِن أَهلِ النَّجاةِ، ولكِنَّ الَّذِينَ سَمِعُوا بالنَّبيِّ ﷺ وعَرَفُوا دَعوَتَه، إن لم يُصَدِّقُوه فلا يكُونُونَ مِنَ الَّذِينَ يَعرِفُونَ اللهَ ولا يُؤمِنُونَ به، لِأنَّ قَولَ: “لا إلٰهَ إلّا اللهُ” لا يُفِيدُ لِأَمثالِ هَؤُلاءِ التَّوحِيدَ الَّذي هو سَبَبُ النَّجاةِ، حَيثُ إنَّ تلك الحالةَ لَيسَت بعَدَمِ قَبُولٍ نابِعٍ مِنَ الجَهلِ الَّذي يُعَدُّ عُذرًا، بل هي قَبُولُ العَدَمِ، وهُو إِنكارٌ؛ فالَّذي يُنكِرُ مُحمَّدًا ﷺ وهُو مَدارُ فَخرِ الكَونِ وشَرَفُ البَشَرِيّةِ بمُعجِزاتِه وآثارِه الجَلِيلةِ، لا شَكَّ أنَّه لا يَنالُ نُورًا قَطُّ ولا يكُونُ مُؤمِنًا باللهِ.
وعلى كلِّ حالٍ نَكتَفي بهذا القَدْرِ.
[المسألة السادسة: مناظرة أهل الضلال بعباراتهم]
المَسألة السَّادِسة
ثالثًا: لقد جاءَت تَعابِيرُ مَمجُوجةٌ تَخُصُّ مَسلَكَ الشَّيطانِ، وذلك في المُحاوَرةِ الجارِيةِ معَ الشَّيطانِ في “المَبحَثِ الأَوَّلِ”، وعلى الرَّغمِ مِن تَعدِيلِها وتَخفِيفِها بكَلِمةِ “حاشَ للهِ، وكَلّا…” وإِبرازِها على صُورةِ فَرْضِ مُحالٍ فإنَّ فَرائِصِي ارتَعَدَت مِن هَوْلِها.
ثمَّ إنَّ هُنالِك تَعدِيلاتٍ طَفِيفةً في القِسمِ الَّذي أُرسِلَ إلَيكُم، فهل صَحَّحتُم نُسخَتَكُم في ضَوْئِه؟ فإنِّي أُنيبُكُم وأُوكِلُ ذلك إلَيكُم، فتَستَطِيعُونَ حَذفَ تَعابِيرَ تَرَونَها زائِدةً.
أخِي العَزِيزَ..
إنَّ ذلك المَبحَثَ مُهِمٌّ لِلغايةِ، لِأنَّ أُستاذَ الزَّنادِقةِ هو الشَّيطانُ، فإن لم يُلزَمِ الشَّيطانُ الحُجّةَ ولم يُفحَم بالبَيِّنةِ، لا يَقنَعُ مُقَلِّدُوه ولا يَرضَخُونَ.. ولقدِ استَعمَلَ القُرآنُ الحَكِيمُ بَعضَ تَعابِيرِ الكُفّارِ القَبِيحةِ في مَعرِضِ الرَّدِّ علَيْها، مِمّا أَعطاني الجُرأةَ -في سبيل إِظهارِ تَفاهةِ هذا المَسلَكِ الشَّيطانِيِّ وفَسادِه كُلِّيًّا- لِأَستَعمِلَ مُرتَعِدًا تلك التَّعابِيرَ الَّتي تَنِمُّ عنِ الحَماقةِ الَّتي اضَطَّرَ حِزبُ الشَّيطانِ إلى قَبُولِها واستِعمالِها بمُقتَضَى مَسلَكِهِم، والَّتي يَتَفوَّهُونَ بها لا مَحالةَ بلِسانِ مَسلَكِهِم، فذَكَرتُها في صُورةِ فَرْضِ المُحالِ لِبَيانِ فَسادِ مَسلَكِ الشَّيطانِ فَسادًا كُلِّيًّا؛ وقد حَصَرتُهُم بذلك الِاستِعمالِ في قَعرِ البِئرِ واستَوْلَيْنا على المَيدانِ كُلِّه وجَعَلناه مُلْكًا لِلقُرآنِ وفي سَبِيلِه، وكَشَفْنا عن خَباياهُم وأَباطِيلِهِم، فانظُر إلى هذا الفَوزِ مِن خِلالِ هذا التَّمثِيلِ:
نَفرِضُ أنَّ هُنالِك مَنارةً عاليةً تُناطِحُ السَّماءَ، وتَحتَها مُباشَرةً بِئرٌ عَمِيقةٌ قَعرُها في مَركَزِ الأَرضِ، وثَمّةَ فَرِيقانِ مِنَ النَّاسِ يَتَناقَشانِ حَولَ إِثباتِ مَوقِعِ المُؤَذِّنِ الَّذي يَبلُغُ صَوتُه إلى النَّاسِ كافَّةً في البِلادِ كُلِّها، أي: في أيِّ مَرتَبةٍ مِن دَرَجاتِ السُّلَّمِ يَقِفُ المُؤَذِّنُ، اعتِبارًا مِنَ السَّماءِ إلى مَركَزِ الأَرضِ؟
يقُولُ الفَرِيقُ الأَوَّلُ: إنَّ المُؤَذِّنَ في قِمَّةِ المَنارةِ يَرفَعُ الأَذانَ مِن هُناك، ويُسمِعُ العالَمَ أَجمَعَ، لِأنَّنا نَسمَعُ ذلك الأَذانَ العُلوِيَّ النَّدِيَّ، وعلى الرَّغمِ مِن أنَّ كلَّ واحِدٍ مِنَّا لا يَستَطِيعُ رُؤيَتَه هُناك، فإنَّ كُلًّا مِنَّا يَراه حَسَبَ دَرَجَتِه أَثناءَ صُعُودِه ونُزُولِه مِنَ المَنارةِ.
ومِن ذلك يُعلَمُ أنَّ ذلك المُؤَذِّنَ يَصعَدُ المَنارةَ، وأَينَما كان مَوقِعُه فهُو صاحِبُ مَقامٍ عالٍ.
أمّا الفَرِيقُ الآخَرُ -وهُو فَرِيقُ الشَّيطانِ الأَحمَقِ- فيقُولُ: “كلَّا، إنَّ مَوقِعَ المُؤَذِّنِ في قَعرِ البِئرِ ولَيسَ في قِمَّةِ المَنارةِ، أَينَما شُوهِدَ”.
عِلْمًا أنَّه لم يُشاهِدْه أَحَدٌ أَصلًا في قَعرِ البِئرِ ولا يَستَطِيعُ رُؤيَتَه هُناك، فلو كان ثَقِيلًا بلا اختِيارٍ كالحَجَرِ -فَرضًا- لَكان في قَعرِ البِئرِ، ولَرَآه أَحَدُهُم.
وبَعدُ، فإنَّ مَيدانَ نِقاشِ وصِراعِ هاتَينِ الفِئَتَينِ المُتَعارِضَتَينِ، هو المَسافةُ المُمتَدّةُ مِن قِمَّةِ المَنارةِ إلى قَعرِ البِئرِ.
فجَماعةُ أَهلِ النُّورِ -وهُم حِزبُ اللهِ- يُبيِّنُون مَوقِعَ ذلك المُؤَذِّنِ في قِمّةِ المَنارةِ لِمَن كان نَظَرُه يَرقَى إلى هُناك، ويُبيِّنُونَ أنَّ له مَرتَبةً رَفِيعةً في دَرَجاتِ سُلَّمِ المَنارةِ لِقاصِرِي النَّظَرِ الَّذِينَ لا يَرقَى نَظَرُهُم إلى الدَّرَجاتِ الرَّفيعةِ، أي: يُبيِّنُونَ مَرتَبَتَه الرَّفيعةَ لِكُلٍّ حَسَبَ أُفُقِ نَظَرِه ومَداه؛ لِذا فإنَّ أَمارةً صَغِيرةً تَكفِيهِم وتُثبِتُ لَهُم أنَّ ذلك المُؤَذِّنَ الفاضِلَ لَيسَ جِسمًا كالحَجَرِ الجامِدِ، بل هو إنسانٌ كامِلٌ يَستَطِيعُ أن يَصعَدَ إلى أَعلَى المَراتِبِ، وأن يُشاهَدَ وهُو يَرفَعُ الأَذانَ مِن هُناك.
أمَّا الفِئةُ الأُخرَى -وهُم حِزبُ الشَّيطانِ- فيقُولُونَ: إمَّا أن تُظهِرُوه لنا وهُو في قِمَّةِ المَنارةِ، أو أنَّ مُقامَه في قَعرِ البِئرِ. فيَحكُمُونَ هذا الحُكمَ بحَماقةٍ غَيرِ مُتَناهِيةٍ.
فهُم لا يَعلَمُونَ -لِحَماقَتِهِم- أنَّ عَدَمَ ظُهُورِه لِكُلِّ النّاسِ في قِمَّةِ المَنارةِ ناشِئٌ مِن عَجزِ نَظَرِ النَّاسِ عنِ الِارتِفاعِ إلى تلك المَرتَبةِ، ثمَّ إنَّهُم يُرِيدُونَ أن يُغالِطُوا لِيُسَيطِرُوا على المَسافةِ كُلِّها باستِثناءِ قِمَّةِ المَنارةِ.
ولِأَجلِ فَضِّ المُناقَشةِ بَينَ الفِئَتَينِ، اندَفَع أَحَدُهُم في المَيدانِ، وخاطَبَ حِزبَ الشَّيطانِ قائِلًا:
أَيَّتُها الجَماعةُ المَشؤُومةُ، إن كانَ مُقامُ ذلك المُؤَذِّنِ العَظِيمِ في قَعرِ البِئرِ لَلَزِمَ أن يكُونَ جامِدًا كالحَجَرِ لا حَياةَ فيه ولا قُوّةَ، ولَمَا كانَ يُشاهَدُ في أيّةِ مَرتَبةٍ مِن مَراتِبِ المَنارةِ أوِ البِئرِ؛ ولكِن وما دُمتُم تُشاهِدُونَه في كلِّ المَراتِبِ، فلا شَكَّ ألّا يكُونَ جامِدًا لا حَقِيقةَ له ولا حَياةَ، بل لا بُدَّ أن يكُونَ مُقامُه قِمّةَ المَنارةِ؛ لِذا فإِمّا أن تُظهِرُوه في قَعرِ البِئرِ -وهذا ما لا تَقدِرُونَ علَيْه قَطْعًا ولا تَستَطِيعُونَ أن تُقنِعُوا به أَحَدًا أَبدًا- أوِ الْزَمُوا الصَّمتَ، فإنَّ مَيدانَ دِفاعِكُم مَحصُورٌ في قَعرِ البِئرِ.. أمّا بَقِيّةُ المَيدانِ والمَسافةِ الطَّوِيلةِ فإنَّها تَخُصُّ هذه الجَماعةَ، الجَماعةَ المُبارَكةَ، فإنَّهُم أَينَما أَظهَرُوه -سِوَى قَعرِ البِئرِ- فهُم يَكسِبُونَ القَضِيّةَ.
وهكَذا، فإنَّ مَبحَثَ المُناظَرةِ معَ الشَّيطانِ شَبِيهٌ بهذا التَّمثِيلِ، فإنَّه يَأخُذُ المَيدانَ المُمتَدَّ مِنَ العَرشِ إلى الفَرشِ، مِن يَدِ حِزبِ الشَّيطانِ ويَحصُرُهُم في أَضيَقِ مَكانٍ وهُو قَعرُ البِئرِ، ويُقحِمُهُم في أَضيَقِ ثُقْبٍ لا يُمكِنُهُمُ الدُّخُولُ فيه، بل هو مُحالٌ وغَيرُ مَعقُولٍ قَطعًا، وفي الوَقتِ نَفسِه يَستَولي على المَسافةِ كُلِّها بِاسمِ القُرآنِ الكَرِيمِ.
فإن قِيلَ لَهُم: كَيفَ تَرَونَ مَرتَبةَ القُرآنِ؟ فسيقُولُونَ: كِتابٌ إِنسانِيٌّ يُرشِدُ إلى الأَخلاقِ الحَسَنةِ. وعِندَها يُقالُ لَهُم: إذًا هو كَلامُ اللهِ، إذ أَنتُم مُضطَرُّونَ إلى قَبُولِ هذا، لِأنَّكُم لا تَستَطِيعُونَ وَصْفَه بـ”حَسَنٌ” حَسَبَ مَسلَكِكُم.
وكذا إن قِيلَ لَهُم: كَيفَ تَعرِفُونَ الرَّسُولَ ﷺ؟ فسيقُولُونَ: إنَّه إِنسانٌ ذُو أَخلاقٍ حَسَنةٍ وعَقلٍ راجِحٍ، وعِندَها يُقالُ لَهُم: إذًا علَيكُمُ الإيمانُ به، لِأنَّه إن كانَ ذا أَخلاقٍ حَسَنةٍ، وعَقلٍ راجِحٍ. فإنَّه رَسُولُ اللهِ، لِأنَّ قَولَكُم: “حَسَنٌ” لا يُوجَدُ في مَسلَكِكُم.
وهكَذا يُمكِنُ تَطبِيقُ سائِرِ جِهاتِ الحَقِيقةِ على بَقِيّةِ إِشاراتِ التَّمثِيلِ.
فبِناءً على هذا فإنَّ ذلك “المَبحَثَ الأَوَّلَ” الَّذي يَتَضمَّنُ المُناظَرةَ معَ الشَّيطانِ يُنجِي إِيمانَ أَهلِ الإيمانِ بأَدنَى أَمارةٍ وأَصغَرِ دَلِيلٍ دُونَ أن يكُونُوا بحاجةٍ إلى مَعرِفةِ المُعجِزاتِ الأَحمَدِيّةِ ببَراهِينِها القاطِعةِ، إذ إنَّ كلَّ حالٍ مِنَ الأَحوالِ الأَحمَدِيّةِ، وكلَّ خَصْلةٍ مِنَ الخِصالِ المُحمَّدِيّةِ، وكلَّ طَوْرٍ مِنَ الأَطوارِ النَّبوِيّةِ بمَثابةِ مُعجِزةٍ مِن مُعجِزاتِه ﷺ تُبيِّنُ وتُثبِتُ أنَّ مَقامَه في أَعلَى عِلِّيِّينَ، ولَيسَ في قَعرِ البِئرِ البَتّةَ.
[المسألة السابعة: كرامات إلهية في خدمة القرآن]
المَسألة السَّابِعة
مَسألة ذاتُ عِبرَة:
لقدِ اضطُرِرتُ إلى بَيانِ إِكرامٍ رَبّانِيٍّ وحِمايةٍ إلٰهِيّةٍ يَخُصّانِ خِدمةَ القُرآنِ وَحدَها، بدَلالةِ سَبعِ أَماراتٍ تَشُدُّ القُوّةَ المَعنَوِيّةَ لِقِسمٍ مِن أَصحابِي الَّذِينَ تَعرَّضُوا لِلشُّبُهاتِ وأَصابَهُمُ الفُتُورُ في العَمَلِ لِلقُرآنِ، وذلك لِكي أُنقِذَ بَعضَ أَصحابِي مِن مُرهَفِي الأَعصابِ الَّذِينَ يَتَأثَّرُونَ بسُرعةٍ.
فالأَماراتُ السَّبعةُ، أَربَعةٌ مِنها تَعُودُ لِأَشخاصٍ كانُوا أَصدِقاءَ وأَصحابًا اتَّخَذُوا طَوْرَ العَداءِ لِكَونِي خادِمًا لِلقُرآنِ ولَيسَ لِشَخصِي بالذَّاتِ، وتَلبَّسُوا بهذا الطَّورِ لِمَقاصِدَ دُنيَوِيّةٍ، فتَلَقَّوُا الصَّفَعاتِ خِلافَ مَقصُودِهِم.
أمَّا الأَماراتُ الثَّلاثُ الباقِيةُ فتَعُودُ لِأَفرادٍ كانُوا أَصدِقاءَ ومُخلِصِينَ حَقِيقيِّينَ، وهُم لا يَزالُونَ كَذلِك؛ إلّا أنَّهُم لم يُظهِرُوا طَورَ الرُّجُولةِ والشَّهامةِ الَّذي يَقتَضِيه الوَفاءُ والأُخُوّةُ، كَسْبًا لِوُدِّ أَهلِ الدُّنيا وإِعجابِهِم بهم، ولِيَغنَمُوا مَغْنَمًا دُنيَوِيًّا ويَسلَمُوا مِنَ المَصائِبِ والبَلايا؛ ولكِنَّ أَصحابِي الثَّلاثةَ هَؤُلاءِ تَلَقَّوا عِتابًا -مع الأَسَفِ- خِلافَ مَقصُودِهِم.
الشَّخصُ الأَوَّلُ مِمَّن كانُوا أَصدِقاءَ في الظَّاهِرِ ثمَّ بَدَر مِنهُم طَورُ العَداءِ: هو مُدِيرٌ مَسؤُولٌ، طَلَب مِنِّي نُسخةً مِن كِتابِ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” بتَوَسُّلٍ وإِلحاحٍ وبعِدّةِ وَسائِطَ، فأَعطَيتُه إِيّاها، إلّا أنَّه تَقَلَّد طَوْرَ العَداءِ وتَرَك صَداقَتِي عَلَّه يَتَرقَّى في الوَظِيفةِ، وسَلَّم الرِّسالةَ إلى الوالي في صُورةِ شَكوَى وإِخبارٍ عَنِّي؛ ولكِنَّه عُزِلَ مِنَ الوَظِيفةِ بَدَلًا مِنَ التَّرقِّي فيها، كأَثَرٍمِن آثارِ الإِكرامِ الإلٰهِيِّ لِخِدمةِ القُرآنِ.
الثَّاني: مُدِيرٌ مَسؤُولٌ آخَرُ، كانَ صَدِيقًا، ولكِنَّه اتَّخَذ طَوْرَ العَداءِ والمُنافِسِ لا لِشَخصِي بالذَّاتِ، وإنَّما لِكَوني خادِمًا لِلقُرآنِ الكَرِيمِ، وذلك ليُرضِيَ رُؤَساءَه، وليَكسِبَ إِقبالَ أَهلِ الدُّنيا وتَوجُّهَهُم نَحوَه، إلَّا أنَّه قُوبِلَ بلَطْمةٍ خِلافَ مَقصُودِه، فحُوكِمَ في قَضِيّةٍ لم تَخطُر له على بالٍ، ثمَّ رَجا دُعاءً مِن خادِمٍ لِلقُرآنِ، فلَعَلَّ اللهَ يُنجِيه، فلَقد دُعِيَ له.
الثَّالث: مُعلِّمُ مَدرَسةٍ، كانَ صَدِيقًا لنا في الظَّاهِرِ، فأَظهَرتُ له وَجهَ الصَّداقةِ الخالِصةِ؛ إلّا أنَّه اتَّخَذ طَوْرَ العَداءِ ليُنقَلَ إلى “بارْلا”، فتَلَقَّى لَطْمةً خِلافَ مَقصُودِه، إذ سِيقَ إلى الجُندِيّةِ فأُبعِدَ عن “بارْلا”.
الرَّابع: مُعلِّمُ مَدرَسةٍ، كُنتُ أَراه مُتَديِّنًا وحافِظًا لِلقُرآنِ الكَرِيمِ، فأَظهَرتُ له وَجهَ الصَّداقةِ الخالِصةِ، لَعَلَّ اللهَ يَرزُقُه العَمَلَ لِلقُرآنِ، إلّا أنَّه -بمُجَرَّدِ كَلامٍ مِن مُوَظَّفٍ مَسؤُولٍ- اتَّخَذ مَوقِفًا مُتَخاذِلًا ومُجافِيًا لنا لِيَنالَ تَوَجُّهَ أَهلِ الدُّنيا له، فجاءَتْه لَطْمةُ تَأدِيبٍ خِلافَ مَقصُودِه، إذ وَبَّخَه مُفَتِّشُه تَوبِيخًا شَدِيدًا، ثمَّ عُزِلَ عنِ الوَظِيفةِ.
إنَّ هَؤُلاءِ الأَربَعةَ ذاقُوا لَطْمةَ تَأدِيبٍ لِاتِّخاذِهِم طَوْرَ العَداءِ لِخِدمةِ القُرآنِ.
أمّا الثَّلاثةُ الآخَرُونَ مِن أَصدِقائي الحَقِيقيِّينَ فقد تَلَقَّوْا تَنبِيهًا -لا لَطْمةً- لِعَدَمِ اتِّخاذِهِم طَوْرَ الرُّجُولةِ والشَّهامةِ الَّتي تَقتَضِيها الصَّداقةُ والوَفاءُ.
الأوَّل: هو أَحَدُ طُلّابي الجادِّينَ المُخلِصِينَ الحَقِيقيِّينَ الَّذِينَ حازُوا أَهَمِّيّةً (في الخِدمةِ القُرآنيّةِ)، وهُو شَخصٌ مُوَقَّرٌ فاضِلٌ كان يَكتُبُ “الكَلِماتِ” باستِمرارٍ ويَنشُرُها، إلّا أنَّه خَبَّأَ “الكَلِماتِ” الَّتي كَتَبَها وتَرَك الِاستِنساخَ مُؤَقَّتًا بسَبَبِ مَجِيءِ مَسؤُولٍ كَبِيرٍ غَرِيبِ الأَطوارِ ولِوُقُوعِ حادِثةٍ مُعَيَّنةٍ، وذلك لِئَلّا يُجابِهَ عَنَتًا مِن أَهلِ الدُّنيا، ولا يَجِدَ الضِّيقَ مِنهُم، ولِيَأْمَنَ شَرَّهُم..
والحالُ أنَّ التَّقصِيرَ النَّاجِمَ عن تَعطِيلِ العَمَلِ لِلقُرآنِ أَوْرَثَه أن يُوضَعَ نُصْبَ عَينَيه دَفعُ غَرامةِ أَلفِ لَيرةٍ لِسَنةٍ كامِلةٍ، إلّا أنَّه حالَما نَوَى الِاستِنساخَ وعادَ إلى وَضْعِه السَّابِقِ، تَبَرَّأَ مِن تلك الدَّعوَى المُقامةِ ضِدَّه، وبُرِّئَت ساحَتُه وللهِ الحَمدُ، ونَجا مِن دَفعِ أَلفِ لَيرةٍ، وهُو فَقِيرُ الحالِ.
الثَّاني: صَدِيقٌ وَفِيٌّ شُجاعٌ شَهْمٌ كانَ جارِي مُنذُ خَمسِ سَنَواتٍ، إلّا أنَّه لم يَلقَنِي لِبِضعةِ أَشهُرٍ، ولم يَزُرْني حتَّى في شَهرِ رَمَضانَ والعِيدِ تَهاوُنًا مِنه، وذلك لِكَسْبِ تَوَجُّهِ أَهلِ الدُّنيا له ونَيلِ رِضاهُم عنه، ولا سِيَّما المَسؤُولِ الَّذي أَتَى حَدِيثًا، لكِن خابَ أَمَلُه، ولَقِيَ خِلافَ مَقصُودِه، إذِ انتَهَت قَضِيّةُ القَريةِ بعَكسِ مُرادِه، وضَعُفَ نُفُوذُه.
الثَّالث: حافِظٌ لِلقُرآنِ، كانَ يَزُورُني مَرّةً أو مَرَّتَينِ في الأُسبُوعِ، عُيِّنَ إِمامًا في جامِعٍ، وتَرَكَني لِيتَمَكَّنَ مِن لُبسِ العِمامةِ، ولم يَأتِنِي حتَّى في العِيدِ، إلّا أنَّه لم يَلبَسْها -خِلافًا للعادةِ- وبِعَكسِ مَقصُودِه، رَغمَ أنَّه أَدَّى الإمامةَ زُهاءَ ثَمانيةِ شُهُورٍ.
وأَمثالُ هذه الحَوادِثِ كَثِيرةٌ جِدًّا، لا أَذكُرُها لِئَلَّا أَجرَحَ شُعُورَ البَعضِ، ولكِنَّها مَهْما كانَت حَوادِثَ مُنفَرِدةً قد تُعَدُّ أَماراتٍ ضَعِيفةً، إلَّا أنَّ اجتِماعَها يُشعِرُ بالقُوّةِ ويُورِثُ القَناعةَ والِاطمِئْنانَ بأنَّنا نَعمَلُ في ظِلِّ إِكرامٍ إلٰهِيٍّ وتَحتَ رِعايةٍ رَبَّانيّةٍ مِن حَيثُ خِدمةُ القُرآنِ الكَرِيمِ، ولَيسَ مِن جِهةِ شَخصِي بالذّاتِ، إذ لا أَجِدُ في نَفسِي ما يَلِيقُ بأَيِّ إِكرامٍ إلٰهِيٍّ مَهْما كانَ.
فعَلَى أَصحابِي الأَحبابِ أن يُدرِكُوا هذا جَيِّدًا، وألّا يُبالُوا بالشُّبُهاتِ والأَوْهامِ، وإنِّي أُبيِّنُها لَهُم خاصَّةً لِأنَّ الإِكرامَ إِكرامٌ إلٰهِيٌّ مِن حَيثُ الخِدمةُ القُرآنيّةُ؛ وإنَّ الأَمرَ لَيسَ لِلفَخرِ، بل هو شُكرٌ للهِ.. فالأَمرُ الإلٰهِيُّ صَرِيحٌ في قَولِه تَعالَى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾.
[المسألة الثامنة: ألفاظ الذكر والشعائر لا تؤدى بغير العربية]
المَسألة الثَّامِنة
(حاشِيةُ المِثالِ الثَّالِثِ مِنَ النُّقطةِ الثَّالِثةِ للسَّبَبِ الخامِسِ مِنَ الأَسبابِ المانِعةِ للِاجتِهادِ في الوَقتِ الحاضِرِ مِنَ “الكَلِمةِ السَّابِعةِ والعِشرِين”)
سُؤالٌ مُهِمٌّ: يقُولُ بعضُ أَهلِ العِلمِ والتَّحقِيقِ:
لَمَّا كانَتِ الأَلفاظُ القُرآنيّةُ، والأَذكارُ المَأْثُورةُ، والتَّسبِيحاتُ الوارِدةُ، تُنَوِّرُ شَتَّى جَوانِبِ اللَّطائِفِ المَعنَوِيّةِ للإنسانِ وتُغَذِّيه رُوحِيًّا، ألا يكُونُ مِنَ الأَفضَلِ أن يَصُوغَ كلُّ قَومٍ تلك الأَلفاظَ وَفْقَ لِسانِهِمُ الخاصِّ حتَّى تُفهَمَ مَعانِيها؟ إذِ الأَلفاظُ وَحْدَها لا تَفِي بالغَرَضِ المَطلُوبِ، إذ هي في حَقِيقَتِها أَلبِسةٌ وقَوالِبُ للمَعاني؟
الجَوابُ: إنَّ أَلفاظَ الكَلِماتِ القُرآنيّةِ، والتَّسبِيحاتِ النَّبوِيّةِ، لَيسَت لِباسًا جامِدًا يَقبَلُ التَّبدِيلَ والتَّغيِيرَ، وإنَّما مَثَلُه مَثَلُ الجِلدِ الحَيِّ للجَسَدِ، بل إنَّها أَصبَحَت فِعلًا جِلْدًا حَيًّا بمُرُورِ الزَّمَنِ، ولا جِدالَ في أنَّ تَبدِيلَ الجِلدِ وتَغيِيرَه يَضُرُّ الجِسمَ.
ثمَّ إنَّ تلك الكَلِماتِ المُبارَكةَ في الصَّلاةِ، والذِّكرِ، والأَذانِ، أَصبَحَتِ اسمًا وعَلَمًا لِمَعانِيها العُرْفيّةِ والشَّرعِيّةِ، ولا يُمكِنُ تَبدِيلُ الِاسمِ والعَلَمِ.
ولقد تَوَصَّلْتُ إلى هذه الحَقيقةِ بعدَ التَّأَمُّلِ والإمعانِ في حالةٍ مَرَّت علَيَّ، وهي:
عِندَما كُنتُ أَقرَأُ يومَ عَرَفةَ “سُورةَ الإخلاصِ” مِئاتِ المَرّاتِ مُكَرِّرًا إيّاها باستِمرارٍ لاحَظْتُ: أنَّ قِسمًا مِن حَواسِّي الرُّوحِيّةِ اللَّطِيفةِ بعدَما أَخَذَت غِذاءها بالتَّكرارِ قد مَلَّت وتَوَقَّفَت؛ وأنَّ قُوّةَ التَّفكِيرِ فِيَّ قد تَوَجَّهَت إلى المَعنَى، فأَخَذَتْ حَظَّها، ثمَّ تَوَقَّفَت ومَلَّت؛ وأنَّ القَلبَ الَّذي يَتَذوَّقُ المَعانِيَ الرُّوحِيّةَ ويُدرِكُها، هو أَيضًا قد سَكَت بَعدَما أَخَذ نَصِيبَه مِنَ التَّكرارِ.
بَينَما بالمُواظَبةِ والتَّكرارِ المُستَمِرِّ على القِراءةِ رَأَيتُ أنَّ قِسمًا مِنَ اللَّطائِفِ في الكِيانِ الإنسانِيِّ لا يَمَلُّ بسُرعةٍ، فلا تَضُرُّه الغَفلةُ الَّتي تَضُرُّ قُوّةَ التَّفكِيرِ، بل إنَّه يَستَمِرُّ ويُداوِمُ في أَخذِ حَظِّه بحيثُ لا يَدَعُ حاجةً إلى التَّدقيقِ والتَّفَكُّرِ في المَعنَى، إذ يَكفِيه المَعنَى العُرفِيُّ الَّذي هو اسمٌ وعَلَمٌ، ويَكفِيه اللَّفظُ والمَعنَى الإجماليُّ لِتلك الأَلفاظِ الغَنِيّةِ المُشبَعةِ؛ بل رُبَّما يُورِثُ سَآمةً ومَلَلًا حِينَما يَبدَأُ التَّفَكُّرُ يَتَوجَّهُ إلى المَعنَى، ذلك لأنَّ تلك اللَّطائِفَ لا تَحتاجُ إلى تَعَلُّمٍ وتَفهِيمٍ بقَدْرِ ما هي بحاجةٍ إلى التَّذَكُّرِ والتَّوجِيهِ والحَثِّ.
لِذا فإنَّ اللَّفظَ الَّذي هو أَشبَهُ بالجِلدِ يَكفِي لِتلك اللَّطائِفِ وفي أَداءِ وَظِيفةِ المَعنَى، وخاصّةً أنَّ تلك الأَلفاظَ العَرَبيّةَ هي مَبعَثُ فَيضٍ دائِمٍ، إذ تُذَكِّرُ بالكَلامِ الإلٰهِيِّ والتَّكلُّمِ الرَّبّانِيِّ.
فهذه الحالةُ الَّتي جَرَّبتُها بنَفسِي تُبيِّنُ لنا أنَّ التَّعبِيرَ بأيِّ لُغةٍ كانَت غيرِ اللُّغةِ العَرَبيّةِ، عن حَقائِقَ كالأَذانِ وتَسبِيحاتِ الصَّلاةِ، وسُورةِ الإخلاصِ والفاتِحةِ الَّتي تَتَكرَّرُ دائِمًا، ضارٌّ جِدًّا؛ ذلك لِأَنَّ اللَّطائِفَ الدَّائِمةَ تَبقَى مَحرُومةً مِن نَصِيبِها الدّائِمِ بعدَما تَفقِدُ المَنابعَ الحَقِيقيّةَ الدّائمِيّةَ الَّتي هي الأَلفاظُ الإلٰهيّةُ والنَّبوِيّةُ، فَضْلًا عن أنَّه يَضِيعُ في الأَقَلِّ عَشرُ حَسَناتٍ لِكُلِّ حَرفٍ. ولِعَدَمِ دَوامِ الطُّمَأنِينةِ والحُضُورِ القَلبِيِّ لِكُلِّ واحِدٍ في الصَّلاةِ، تَبعَثُ التَّعابِيرُ البَشَرِيّةُ المُتَرجَمةُ عِندَ الغَفلةِ ظُلْمَتَها في الرُّوحِ.. وأَمثالَها مِنَ الأَضرارِ الأُخرَى.
نعم، فكما قالَ الإمامُ أبو حَنِيفةَ رَضِيَ الله عَنهُ إنَّ: (لا إلٰهَ إلّا اللهُ) عَلَمٌ للتَّوحِيدِ. كذلك نقُولُ: أنَّ الأَكثَرِيّةَ المُطلَقةَ لِكَلِماتِ التَّسبِيحاتِ والأَذكارِ وخاصّةً كَلِماتِ الأَذانِ والصَّلاةِ، أَصبَحَت بمَثابةِ الِاسمِ والعَلَمِ، فيُنظَرُ إلى مَعانِيها العُرفيّةِ الشَّرعِيّةِ أَكثَرَ مِنَ النَّظَرِ إلى مَعانيها اللُّغَوِيّةِ، لِذا لا يُمكِنُ شَرْعًا تَبدِيلُها مُطلَقًا. أمّا مَعانِيها المُجمَلةُ الَّتي لا بُدَّ أن يَعرِفَها كلُّ مُؤمِنٍ، فإنَّ أيَّ شَخصٍ عامِّيٍّ يُمكِنُه أن يَتَعلَّمَها في أَقصَرِ وَقتٍ. فكَيفَ يُعذَرُ ذلك المُسلِمُ الَّذي يَقضِي عُمُرَه مالِئًا فِكرَه وعَقلَه بما لا يَعنِيه مِنَ الأُمُورِ ولا يَصرِفُ جُزءًا ضَئِيلًا مِن وَقتِه لِفَهمِ تلك المَعانِي الَّتي هي مَفاتِيحُ حَياتِه الأَبَدِيّةِ وسَعادَتِه الدّائِمةِ، بل كيف يُعتَبَرُ مِنَ المُسلِمين وكيف يُقالُ عنه أنَّه إنسانٌ عاقِلٌ!!
فهل مِنَ العَقلِ في شَيءٍ أن تَفسُدَ تلك الأَلفاظُ الَّتي هي مُستَودَعُ مَنابِعِ تلك الأَنوارِ لِأَجلِ تَقاعُسِ هؤلاء الكُسالَى؟!
ثمَّ إنَّه عِندَما يقُولُ أيُّ مُؤمِنٍ، بأَيِّ لُغةٍ يَتَكلَّمُ: “سُبحانَ اللهِ”، فإنَّه يَعلَمُ أنَّه يُقدِّسُ رَبَّه جَلَّ وعَلا.. ألا يَكفِي هذا القَدْرُ؟! بَينَما إذا حَصَر اهتِمامَه بالمَعنَى المُجَرَّدِ، بلِسانِه الخاصِّ، فإنَّه لا يَتَعلَّمُ إلَّا حَسَبَ تَفكِيرِه وعَقلِه، الَّذي يَأْخُذُ حَظَّه ويَفهَمُ مَرّةً واحِدةً، والحالُ أنَّه يُكَرِّرُ تلك الكَلِمةَ المُبارَكةَ أَكثَرَ مِن مِئةِ مَرّةٍ يَومِيًّا، ففَضْلًا عن ذلك الفَهْمِ العَقلِيِّ فإنَّ المَعنَى الإجماليَّ الَّذي سَرَى في اللَّفظِ وامتَزَجَ معَه هو مَبعَثُ أَنوارٍ وفُيُوضاتٍ كَثِيرةٍ جِدًّا، ولا سِيَّما أنَّ تلك الأَلفاظَ العَرَبيّةَ لها أَهَمِّيَّتُها وقَداسَتُها وأَنوارُها وفُيُوضاتُها، حيثُ إنَّها كَلامٌ إلٰهِيٌّ.
ومُجمَلُ القَولِ: إنَّه لا يُمكِنُ أن يَقُومَ مَقامَ الأَلفاظِ القُرآنيّةِ الَّتي هي مَحافِظُ ومَنابِعُ للضَّرُورِيّاتِ الدِّينيّةِ أيُّ لَفظٍ آخَرَ، ولا يتَمَكَّنُ أن يَحُلَّ مَحَلَّها قَطْعًا، ولا يُمكِنُ أن يُؤَدِّيَ وَظِيفَتَها، حتَّى لو أَدّاها مُؤَقَّتًا فلا يَستَطِيعُ أن يُؤَدِّيَها بصُورةٍ دائِمةٍ عُلْوِيّةٍ قُدْسِيّةٍ؛ أَمَّا الأُمُورُ الدِّينيّةُ مِن غيرِ الضَّرُورِيّاتِ فليس هناك حاجةٌ إلى تَبدِيلِ أَلفاظِها أيضًا، لأنَّ تلك الحاجةَ تَندَفِعُ بالمُواظَبةِ على النَّصِيحةِ والإرشادِ والوَعْظِ.
والنَّتِيجةُ: إنَّ شُمُوليّةَ اللُّغةِ العَرَبيّةِ الفُصحَى وسَعَتَها، والبَيانَ المُعجِزَ في الأَلفاظِ القُرآنيّةِ، تَحُولانِ دُونَ تَرجَمةِ تلك الأَلفاظِ، ولِذلك لا يُمكِنُ تَرجَمَتُها قَطْعًا، بل إنَّه مُحالٌ؛ ومَن كان يُساوِرُه الشَّكُّ في هذا فلْيُراجِعِ “الكَلِمةَ الخامِسةَ والعِشرين” في المُعجِزاتِ القُرآنيّةِ، لِيَرَى مَنزِلةَ الآيةِ الكَرِيمةِ بإعجازِها وتَشَعُّبِها وشُمُولِها وجَمالِها ومَعناها الرَّفيعِ، وأَينَ مِنها “التَّرجَمةُ” الَّتي هي مَعنًى مَبتُورٌ بل ناقِصٌ وقاصِرٌ؟!
[المسألة التاسعة: سِرٌّ من أسرار الولاية]
المَسألة التَّاسِعة
مَسألة مُهِمَّة خَاصَّة تَكشِف سِرًّا مِن أسرَارِ الوِلاية
إنَّ أَهلَ الحَقِّ والِاستِقامةِ الَّذين يُطلَقُ علَيْهِم: “أَهلُ السُّنّةِ والجَماعةِ”، وهم يُمَثِّلُونَ الغالبِيّةَ العُظمَى في العالَمِ الإِسلاميِّ، قد قامُوا بحِفْظِ حَقائِقِ القُرآنِ والإِيمانِ كمَا هِي عَلى مَحَجَّتِها البَيضاءِ النّاصِعةِ، وذلك باتِّباعِهِمُ السُّنّةَ الشَّرِيفةَ بحَذافِيرِها كما هي، دُونَ نَقصٍ أو زِيادةٍ، فنَشَأَتِ الأَكثَرِيّةُ المُطلَقةُ مِنَ الأَولِياءِ الصَّالِحِينَ مِن هذه الجَماعةِ؛ ولكِن شُوهِدَ أَولِياءُ آخَرُونَ في طَرِيقٍ تُخالِفُ أُصُولَ أَهلِ السُّنّةِ والجَماعةِ، وخارِجةٌ عن قِسمٍ مِن دَساتِيرِهِم، فانقَسَم النَّاظِرُونَ في شَأْنِ هَؤُلاءِ الأَولِياءِ إلى قِسمَينِ:
الأوَّل: هُمُ الَّذين أَنكَرُوا وِلايَتَهُم وصَلاحَهُم، وذلك لِمُخالَفَتِهِم أُصُولَ أَهلِ السُّنّةِ والجَماعةِ، بل قد ذَهَبُوا إلى أَبعَدَ مِنَ الإِنكارِ، حَيثُ كَفَّرُوا عَدَدًا مِنهُم.
أمَّا الآخَرُ: فهُمُ الَّذين اتَّبَعُوهُم وأَقَرُّوا وِلايَتَهُم، ورَضُوا عَنُهم، لِذا قالُوا: إنَّ الحَقَّ لَيسَ مَحصُورًا في سَبِيلِ أَهلِ السُّنّةِ والجَماعةِ. فشَكَّلُوا بهذا القَولِ فِرقةً مُبتَدِعةً وانساقُوا إلى الضَّلالِ، ناسِينَ أنَّ المُهتَدِيَ لِنَفسِه لَيسَ مِنَ الضَّرُورِيِّ أن يكُونَ هادِيًا لِغَيرِه، ولَئِن كان شُيُوخُهُم يُعذَرُونَ على ما ارتَكَبُوا مِن أَخطاءٍ لِأنَّهُم مَجذُوبُونَ، إلّا أنَّهُم لا يُعذَرُونَ في اتِّباعِهِم لَهُم.
وهُنالك قِسمٌ ثالِثٌ: سَلَكُوا طَرِيقًا وَسَطًا، حَيثُ لم يُنكِرُوا وِلايةَ أُولَئِك الأَولِياءِ وصَلاحَهُم، إلّا أنَّهُم لم يَرضَوْا بطَرِيقَتِهِم ومَنهَجِهِم، وقالُوا: إنَّ ما تَفَوَّهُوا به مِنَ الأَقوالِ المُخالِفةِ لِلأُصُولِ الشَّرعِيّةِ، إمّا أنَّها ناشِئةٌ عن غَلَبةِ الأَحوالِ علَيهِم مِمّا جَعَلَهُم يُخطِئُونَ، أو أنَّها شَطَحاتٌ شَبِيهةٌ بالمُتَشابِهاتِ الَّتي لا تُعرَفُ مَعانِيها ولا تُفهَمُ مَرامِيها.
فالقِسمُ الأوَّلُ -ولا سِيَّما عُلَماءُ أَهلِ الظَّاهِرِ- قد أَنكَرُوا وِلايةَ كَثِيرٍ مِن أَولِياءٍ عِظامٍ معَ الأَسَفِ، وذلك بنِيّةِ الحِفاظِ على طَرِيقِ أَهلِ السُّنّةِ، بل ذَهَبُوا مُضطَرِّينَ إلى الحُكْمِ بضَلالِهِم تَحْدُوهُم تلك النِّيّة.
أمَّا الآخَرُونَ المُؤَيِّدُونَ لَهُم، فقد تَرَكُوا طَرِيقَ الحَقِّ وأَدارُوا ظُهُورَهُم لَها، لِمَا يَحمِلُونَ مِن حُسنِ الظَّنِّ المُفْرِطِ بشُيُوخِهِم، بل حَصَل انجِرافُ قِسمٍ مِنهُم إلى الضَّلالِ فِعلًا.
وبِناءً على هذا السِّرِّ، فقد كانَت هُنالِك حالةٌ تَشغَلُ فِكرِي كَثِيرًا، وهي:
إنَّني دَعَوتُ اللهَ بِهَلاكِ قِسمٍ مِن أَهلِ الضَّلالِ في وَقتٍ مُهِمٍّ، ولكِنَّ قُوّةً مَعنَوِيّةً رَهِيبةً صَدَّت دُعائِي علَيْهِم، ورَدَّت علَيَّ ذلك الدُّعاءَ، ومَنَعَتْني مِنَ القِيامِ بمِثلِه؛ ثمَّ رَأَيتُ أنَّ ذلك القِسمَ مِن أَربابِ الضَّلالِ إنَّما يُوغِلُونَ في إِجراءاتِهِمُ الباطِلةِ، ويَتَمادَوْنَ في مُجانَبةِ الحَقِّ، ويَجُرُّونَ النَّاسَ خَلفَهُم إلى الهاوِيةِ بتَيسِيرٍ وتَسهِيلٍ مِن قُوّةٍ مَعنَوِيّةٍ، فيُوَفَّقُونَ في أَعمالِهِم لا بالإِكراهِ وَحدَه، بل يَنساقُ أَيضًا قِسمٌ مِنَ المُؤمِنِينَ ويَنخَدِعُونَ بهم لِامتِزاجِهِم بمَيلٍ مِن جانِبِ قُوّةِ الوِلايةِ، فيُسامِحُهُم هَؤُلاءِ المُؤمِنُونَ ولا يَرَونَهُم على فَسادٍ كَبِيرٍ!
وحِينَما شَعَرتُ بهذَينِ السِّرَّينِ تَملَّكَتنِي دَهشةٌ ورَهبةٌ، فقُلتُ مُتَعجِّبًا:
يا سُبحانَ اللهِ! هل يُمكِنُ أن تكُونَ وِلايةٌ في غَيرِ طَرِيقِ الحَقِّ؟ وهل يُمكِنُ أن يُوالِيَ أَهلُ الحَقِيقةِ والوِلايةِ تَيّارَ ضَلالةٍ رَهِيبةٍ؟
ثمَّ كان في يَومٍ مُبارَكٍ مِن أَيّامٍ عَرَفةَ المَشهُودةِ، إذ قَرَأتُ “سُورةَ الإِخلاصِ” مِئاتِ المَرّاتِ وكَرَّرتُها مَرّاتٍ ومَرّاتٍ اتِّباعًا لِعادةٍ إِسلامِيّةٍ مُستَحسَنةٍ، فوَرَدَت إلى قَلبِي العاجِزِ مِن لَدُنِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّة ببَرَكةِ تلك القِراءةِ، الحَقِيقةُ الآتِيةُ فَضْلًا عَمّا وَرَد مِن “جَواب عن مَسألةٍ مُهِمّة”:
والحَقِيقةُ هي أنَّ قِسمًا مِنَ الأَولِياءِ مَعَ ما يَبدُو مِنهُم مِن حَصافةٍ ورُشدٍ، ولَهُم مُحاكَماتٌ عَقلِيّةٌ مَنطِقِيّةٌ، إلّا أنَّهُم مَجذُوبُونَ، فهُم أَشبَهُ بـ”جِبالي بابا” الَّذي تُروَى قِصَّتُه في زَمَنِ السُّلطانِ مُحَمَّدٍ الفاتِحِ، تلك القِصّةُ المَشهُورةُ ذاتُ العِبْرةِ. وأنَّ قِسمًا آخَرَ مِنَ الأَولِياءِ مَعَ أنَّهُم ضِمنَ نِطاقِ العَقلِ والصَّحْوِ والرَّشادِ، إلّا أنَّهُم يَتَلبَّسُونَ أَحيانًا حالاتٍ خارِجةً عن طَوْرِ العَقلِ والمُحاكَماتِ المَنطِقِيّة؛ وإنَّ صِنْفًا مِن هذا القِسمِ هُم أَهلُ الْتِباسٍ، أي: يَلتَبِسُ علَيْهِمُ الأَمرُ فلا يُمَيِّزُونَ، إذ ما يَرَونَه مِن مَسأَلةٍ مّا في حالةِ السُّكْرِ يُطَبِّقُونَه في حالةِ الصَّحْوِ، فيُخطِئُونَ ولا يُدرِكُونَ أنَّهُم يُخطِئُونَ.
أمّا المَجذُوبُونَ: فقِسمٌ مِنهُم مَحفُوظُونَ عِندَ اللهِ، لا يَضِلُّونَ ولا يَنساقُونَ معَ أَهلِه، بَينَما قِسمٌ آخَرُ مِنهُم لَيسُوا مَحفُوظِينَ عِندَ اللهِ، فلَرُبَّما يكُونُونَ ضِمنَ فِرَقِ أَهلِ البِدْعةِ والضَّلالةِ، بل هُنالِك احتِمالٌ أن يكُونُوا ضِمنَ الكُفَّارِ.
وهكَذا، فلِأَنَّهُم مَجذُوبُونَ -سَواءٌ أَكانُوا بصُورةٍ مُؤَقَّتةٍ أم دائِمةٍ- فهُم في حُكْمِ مَجانِينَ طَيِّبِينَ مُبارَكِينَ، أي: يَنسَحِبُ علَيهِمُ حُكمُهُم، ولِأنَّهُم مَجانِينُ مُبارَكُونَ طَلِيقُونَ في تَصَرُّفاتِهِم فلَيسُوا بمُكَلَّفِينَ، ولِأنَّهُم غَيرُ مُكلَّفِينَ فلا يُؤاخَذُونَ على تَصَرُّفاتِهِم؛ فمَعَ أنَّ وِلايَتَهُمُ المَجذُوبةَ مَحفُوظةٌ يُوالُونَ أَهلَ البِدَعِ فيُرَوِّجُونَ مَسالِكَهُم إلى حَدٍّ مّا، ويكُونُونَ سَبَبًا سَيِّئًا مَشؤُومًا في دُخُولِ قِسمٍ مِنَ المُؤمِنِينَ وأَهلِ الحَقِّ في ذلك المَسلَكِ.
[المسألة العاشرة: قاعدة تخص مَن يَزورنا]
المَسألة العَاشِرة
كُتِبت هَذه المَسألةُ بِناءً عَلى تَذكير بَعضِ الأصدِقَاء في بِنَاء قَاعدةٍ تَخُصُّ الزَائرِين.
لِيَكُن مَعلُومًا لَدَى الجَمِيعِ أنَّ الَّذي يَزُورُنا: إمّا أنَّه يَأْتي إلَيْنا لِأَجلِ أُمُورٍ تَخُصُّ الحَياةَ الدُّنيا، فذَلِك البابُ مَسدُودٌ؛ أو أنَّه يَأْتي إلَيْنا مِن حَيثُ الحَياةُ الآخِرةُ، ففي تلك الجِهةِ بابانِ:
فإمَّا أنَّه يَتَصوَّرُ أنَّني رَجُلٌ مُبارَكٌ صاحِبُ مَقامٍ عِندَ اللهِ، ولِأَجلِ هذا يَأْتي إلَيْنا، فهذا البابُ أَيضًا مَسدُودٌ، إذ لا تُعجِبُني نَفسِي ولا يُعجِبُني مَن يُعجَبُ بي.. فحَمْدًا للهِ أَجزَلَ حَمْدٍ إذ لم يَجعَلْني راضِيًا عن نَفسِي. أمَّا الجِهةُ الأُخرَى فهُو يَأْتي إلَيْنا لِكَوْني خادِمًا لِلقُرآنِ ودَلَّالًا له وداعِيًا إلَيْه لَيسَ إلَّا، فمَرْحَبًا وأَهلًا وسَهْلًا، وعلى العَينِ والرَّأسِ لِمَن يَأْتِينا مِن هذا البابِ.
وهَؤُلاءِ أَيضًا على ثَلاثةِ أَنماطٍ: فإمَّا أنَّه صَدِيقٌ، أو أنَّه أخٌ، أو أنَّه طالِبٌ.
فخاصِّيّةُ الصَّدِيقِ وشَرطُه: أن يكُونَ مُؤَيِّدًا تَأيِيدًا جادًّا لِعَمَلِنا في نَشرِ الأَنوارِ القُرآنيّةِ: “رَسائِلِ النُّورِ”، وألّا يَمِيلَ إلى الباطِلِ والبِدَعِ والضَّلالةِ قَلْبًا، وأن يَسعَى أَيضًا لِيُفِيدَ نَفسَه.
وخاصِّيّةُ الأَخِ وشَرطُه: أنْ يكُونَ ساعِيًا سَعْيًا حَقِيقيًّا وجادًّا لِنَشرِ الرَّسائِلِ، فَضْلًا عن أَدائِه الصَّلَواتِ الخَمسَ، واجتِنابِه الكَبائِرَ السَّبعَ.
وخاصِّيّةُ الطّالِبِ وشَرطُه: أن يَعُدَّ “رَسائِلَ النُّورِ” كأَنَّها مِن تَأْليفِه هو، وأَنَّها تَخُصُّه بالذّاتِ، فيُدافِعُ عنها وكأَنَّها مِلْكُه، ويَعتَبِرُ نَشرَ تلك الأَنوارِ والعَمَلَ لَها أَجَلَّ وَظِيفةٍ لِحَياتِه.
فهذه الطَّبَقاتُ الثَّلاثُ تَتَعلَّقُ بالجَوانِبِ الثَّلاثةِ لِشَخصِيَّتي.
فالصَّدِيقُ يَرتَبِطُ بشَخصِيَّتي الذّاتِيّةِ، والأَخُ يَرتَبِطُ بشَخصِيَّتي العَبْدِيّةِ، أي: كَوْني أُؤَدِّي مُهِمّةَ العُبُودِيّةِ للهِ سُبحانَه.. أمَّا الطَّالِبُ فهُو يَرتَبِطُ بي مِن حَيثُ كَوْني داعِيًا ودَلَّالًا لِلقُرآنِ الحَكِيمِ ومُرشِدًا إلَيْه.
وهذا النَّوعُ مِنَ اللِّقاءِ له ثَلاثُ ثَمَراتٍ:
الأُولَى: أَخْذُه لِجَواهِرِ القُرآنِ دَرْسًا مِنِّي أو مِن “رَسائِلِ النُّورِ” ولو كان دَرْسًا واحِدًا، هذا مِن حَيثُ الدَّعوةُ إلى القُرآنِ.
الثَّانِية: يكُونُ مُشارِكًا لي في ثَوابِي الأُخرَوِيِّ. وهذا مِن حَيثُ العُبُودِيّةُ للهِ.
الثَّالِثة: نَتَوجَّهُ معًا إلى الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ مُرتَبِطِينَ قَلبًا مُتَسانِدِينَ في خِدْمةِ القُرآنِ، ونَسأَلُه التَّوفِيقَ والهِدايةَ. فإن كان طالِبًا فهُو حاضِرٌ مَعِي صَباحَ كلِّ يَومٍ بِاسمِه وأَحيانًا بخَيالِه.
وإن كان أَخًا فهُو حاضِرٌ مَعِي في دُعائي على دَفَعاتٍ بِاسمِه وبصُورَتِه، فيُشارِكُني في الثَّوابِ والدُّعاءِ، ثمَّ يكُونُ ضِمنَ جَمِيعِ الإِخوانِ وأُسَلِّمُه إلى الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ، إذ عِندَما أَقُولُ في ذلك الدُّعاءِ: “إِخوَتي وإِخواني”، فهُو مِنهُم، إن لم أَكُن أَعرِفُه أنا بالذَّاتِ فاللهُ أَعلَمُ به وأَبصَرُ.
وإن كان صَدِيقًا فهُو داخِلٌ ضِمنَ دُعائي باعتِبارِه مِنَ الإِخوةِ عامَّةً إذا ما أَدَّى الفَرائِضَ واجتَنَبَ الكَبائِرَ.
وعلى هَؤُلاءِ الطَّبَقاتِ الثَّلاثِ أن يَجعَلُوني ضِمنَ كَسبِهِمُ الأُخرَوِيِّ أَيضًا.
﴿اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مَن قَالَ: “المُؤمِنُ لِلمُؤمِنِ كَالبُنيَانِ يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا” وعَلَى آلِه وصَحبِه وسَلِّم﴾
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾
﴿اللَّهُمَّ يَا مَن أَجَابَ نُوحًا في قَومِه، ويَا مَن نَصَرَ إِبرَاهِيمَ عَلَى أَعدَائِه، ويَا مَن أَرجَعَ يُوسُفَ إِلَى يَعقُوبَ، ويَا مَن كَشَفَ الضُّرَّ عَن أَيُّوبَ، ويَا مَن أَجَابَ دَعوَةَ زَكَرِيَّا، ويَا مَن تَقَبَّلَ يُونُسَ بْنَ مَتَّى، نَسأَلُكَ بِأَسرَارِ أَصحَابِ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ المُستَجَابَاتِ َن تَحفَظَني وتَحفَظَ نَاشِرَ هَذِهِ الرَّسَائِلِ ورُفَقَاءَهُم مِن شَرِّ شَيَاطينِ الإِنسِ والجِنِّ وانصُرنَا عَلَى أَعدَائِنَا، ولَا تَكِلنَا إِلَى أَنفُسِنَا، واكشِف كُربَتَنَا وَكُربَتَهُم واشفِ أَمرَاضَ قُلُوبِنَا وقُلُوبِهِم﴾
﴿آمِينَ آمِينَ آمِينَ﴾
❀ ❀ ❀