المكتوبات

المكتوب الرابع والعشرون: الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد

[هذا المكتوب يجيب عن سؤال: إلى أن تمضي الموجودات بعد زوالها؟ لا سيما الجمادات والنباتات والحيوانات؟ وكيف تتلاءم أسماء “الرحيم” و”الحكيم” و”الودود” مع الموت والزوال؟]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

إنَّ الأَشياءَ لا تَمضِي إلى العَدَمِ، ولا تَصِيرُ إلى الفَناءِ، بل تَمضِي مِن دائِرةِ القُدرةِ إلى دائِرةِ العِلمِ، وتَدخُلُ مِن عالَمِ الشَّهادةِ إلى عالَمِ الغَيبِ، وتَتَوجَّهُ مِن عالَمِ التَّغيُّرِ والفَناءِ إلى عالَمِ النُّورِ والبَقاء.
إنَّ الأَشياءَ لا تَمضِي إلى العَدَمِ، ولا تَصِيرُ إلى الفَناءِ، بل تَمضِي مِن دائِرةِ القُدرةِ إلى دائِرةِ العِلمِ، وتَدخُلُ مِن عالَمِ الشَّهادةِ إلى عالَمِ الغَيبِ، وتَتَوجَّهُ مِن عالَمِ التَّغيُّرِ والفَناءِ إلى عالَمِ النُّورِ والبَقاء.
المحتويات عرض

المكتوب الرابع والعشرون‌

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ، ويَحْكُمُ مَا يُرِيدُ

[كيف تتلاءم أسماء “الرحيم” و”الودود” و”الحكيم” مع مظاهر الشدة في الوجود]

سُؤالٌ: إنَّ ما يَقتَضِيه اسمُ اللهِ “الرَّحِيمُ” مِن تَربِيةٍ شَفِيقةٍ، واسمُ اللهِ “الحَكِيمُ” مِن تَدبِيرٍ وَفقَ المَصالِحِ، واسمُ اللهِ “الوَدُودُ” مِن لُطْفٍ ومَحَبّةٍ.. كَيفَ تَتَلاءَمُ مُقتَضَياتُ هذه الأَسماءِ الحُسنَى العِظامِ معَ ما هو مُرعِبٌ ومُوحِشٌ كالمَوتِ والعَدَمِ والزَّوالِ والفِراقِ والمَصائِبِ والمَشَقَّاتِ؟

[موت الإنسان مقدمة إلى الخلود، فماذا عن سائر العناصر والموجودات؟]

ولْنُسَلِّمْ أنَّ ما يَراه الإِنسانُ في طَرِيقِ المَوتِ لا بَأْسَ به وهُو خَيرٌ وحَسَنٌ، حَيثُ سيَمضِي إلى السَّعادةِ الأَبدِيّةِ، ولكِن أيّةُ رَحْمةٍ وشَفَقةٍ تَسَعُ، وأيّةُ حِكْمةٍ ومَصلَحةٍ تُوجَدُ، وأيُّ لُطْفٍ ورَحْمةٍ في إِفناءِ هذه الأَنواعِ مِنَ الأَشجارِ والنَّباتاتِ اللَّطِيفةِ والأَزهارِ الجَمِيلةِ والحَيَواناتِ المُؤَهَّلةِ لِلوُجُودِ والشَّغُوفةِ بالحَياةِ والتَّوّاقةِ لِلبَقاءِ، وبِاستِمرارٍ ودُونَ استِثناءٍ وإِعدامِها دُونَ إِمهالِ أَحَدٍ مِنها؟ وفي تَسخِيرِها في المَشاقِّ وتَغيِيرِها بالمَصائِبِ دُونَ السَّماحِ لِأَحَدٍ مِنها بالدَّعةِ والرَّاحةِ؟ وفي إِماتَتِها وزَوالِها وفِراقِها بلا تَوَقُّفٍ، دُونَ أن يُسمَحَ لِأَحَدٍ بالمُكُوثِ قَلِيلًا ودُونَ رِضًا مِن أَحَدٍ؟

الجَوابُ: لِكي نَحُلَّ هذا السُّؤالَ نُحاوِلُ أن نَنظُرَ إلى هذه الحَقِيقةِ العُظمَى مِن بَعِيدٍ، فهِي حَقِيقةٌ واسِعةٌ جِدًّا وعَمِيقةٌ جِدًّا ورَفِيعةٌ جِدًّا، لِنَرَى الحَقِيقةَ بوُضُوحٍ، فنُبيِّنَ الدّاعِيَ والمُقتَضِيَ لها في خَمْسةِ رُمُوزٍ، ونُبيِّنَ الغاياتِ والفَوائِدَ مِنها في خَمْسِ إِشاراتٍ.

[المقام الأول: خمسة رموز]

المقام الأول

وهو في خمسة رموز‌

[الرمز الأول: لا حقَّ للمخلوق على الخالق]

الرمز الأول

لقد ذَكَرنا في خَواتِيمِ “الكَلِمةِ السّادِسةِ والعِشرِينَ” أنَّ صَنّاعًا ماهِرًا، يُكَلِّفُ رَجُلًا فَقِيرًا لِقاءَ أُجرةٍ يَستَحِقُّها، لِيَقُومَ له بدَورِ النَّمُوذجِ “المُودِيلِ” لِيَخِيطَ لِباسًا راقِيًا، فاخِرًا في أَجمَلِ زِينةٍ وأَكثَرِها بَهاءً، إِظهارًا لِمَهارَتِه وصَنعَتِه؛ لِذا يُفصِّلُ على ذلك الرَّجُلِ اللِّباسَ ويَقُصُّه ويُقصِّرُه ويُطوِّلُه، ويُقعِدُ الرَّجُلَ ويُنهِضُه، ويَجعَلُه في أَوضاعٍ مُختَلِفةٍ.. فهل يَحِقُّ لِهذا الرَّجُلِ الفَقِيرِ أن يقُولَ لِلصَّنّاعِ: لِمَ تُبدِّلُ هذا اللِّباسَ الَّذي يُجَمِّلُني؟ ولِمَ تُغيِّرُه؟ فتُقعِدُني تارةً وتُنهِضُني أُخرَى فتُفسِدُ راحَتِي؟!

وكَذلِك الصَّانِعُ الجَلِيلُ -وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى- قدِ اتَّخذَ ماهِيّةَ كلِّ نَوعٍ مِنَ المَوجُوداتِ مِقياسًا ونَمُوذَجًا “مُودِيلًا”، فأَلبَسَ كلَّ شَيءٍ لِباسًا مُرَصَّعًا بالحَواسِّ، ونَقَش علَيْه نُقُوشًا بقَلَمِ قَضائِه وقَدَرِه، وأَظهَرَ جَلَواتِ أَسمائِه الحُسنَى، إِبرازًا لِكَمالِ صَنعَتِه ونُقُوشِ أَسمائِه؛ فَضْلًا عن أنَّه سُبحانَه يَمنَحُ كلَّ مَوجُودٍ أَيضًا كَمالًا ولَذّةً وفَيضًا بمَثابةِ أُجرةٍ مُلائِمةٍ له.

فهل يَحِقُّ لِشَيءٍ أن يُخاطِبَ ذلك الصّانِعَ الجَلِيلَ الَّذي هو مالِكُ المُلكِ يَتَصرَّفُ في مُلكِه كَيفَ يَشاءُ ويقُولُ: “إنَّك تُتعِبُني وتُفسِدُ عَلَيَّ راحَتِي”؟ حاشَ للهِ وكَلّا!

إنَّه لَيسَ لِلمَوجُوداتِ حَقٌّ بأَيّةِ جِهةٍ كانَت إِزاءَ واجِبِ الوُجُودِ، ولَيسَ لها أن تَدَّعِيَ بأَيِّ حَقٍّ مَهْما كان، بل حَقُّها القِيامُ بالشُّكرِ الدّائِمِ والحَمدِ الدّائِمِ، أَداءً لِحَقِّ مَراتِبِ الوُجُودِ الَّتي مَنَحَها إِيّاها، لِأنَّ جَمِيعَ مَراتِبِ الوُجُودِ المَمنُوحةِ لِلمَوجُودِ إنَّما هي وُقُوعاتٌ تَحتاجُ إلى عِلّةٍ؛ بَينَما مَراتِبُ الوُجُودِ الَّتي لم تُمنَح هي إِمكاناتٌ، والإِمكاناتُ عَدَمٌ، وهِي لا تَتَناهَى، والعَدَمُ لا يَحتاجُ إلى عِلّةٍ، فما لا نِهايةَ له لا عِلّةَ له.

مَثلًا: لا يَحِقُّ لِلمَعادِنِ أن تَشكُوَ قائِلةً: لِمَ لَمْ نُصبِح نَباتاتٍ؟ بل حَقُّها أن تَشكُرَ فاطِرَها الجَلِيلَ على ما أَنعَمَ علَيْها مِن نِعمةِ الوُجُودِ كمَعادِنَ.

وكذا النَّباتُ لَيسَ له حَقُّ الشَّكوَى، فلَيسَ له أن يقُولَ: لِمَ لَمْ أُصبِحْ حَيَوانًا؟ بل حَقُّه الشُّكرُ للهِ الَّذي وَهَب له الوُجُودَ والحَياةَ معًا.

وكذا الحَيَوانُ لَيسَ له حَقُّ الشَّكوَى بقَولِ: لِمَ لَمْ أَكُن إِنسانًا؟ بل علَيْه حَقُّ الشُّكرِ لِما أَنعَمَ اللهُ علَيْه مِنَ الوُجُودِ، والحَياةِ وجَوهَرِ الرُّوحِ الرّاقِي.. وهكذا فقِسْ.

أَيُّها الإِنسانُ الشَّاكِي، إنَّك لم تَبقَ مَعدُومًا، بل لَبِستَ نِعمةَ الوُجُودِ، وذُقتَ طَعمَ الحَياةِ؛ ولم تَبقَ جَمادًا ولم تُصبِح حَيَوانًا، فقد وَجَدتَ نِعمةَ الإِسلامِ؛ ولم تَبقَ في غَياهِبِ الضَّلالِ، وتَنَعَّمتَ بنِعمةِ الصِّحّةِ والأَمانِ.. وهكذا..

أيُّها الغارِقُ في الكُفرانِ، أَفبَعدَ هذا تَدَّعِي حَقًّا لك على رَبِّك؟! إنَّك لم تَشكُر رَبَّك بَعدُ على ما أَنعَمَ علَيْك مِن مَراتِبِ الوُجُودِ الَّتي هي نِعَمٌ خالِصةٌ، بل تَشكُو مِنه جَلَّ وعَلا لِما لم يُنعِم علَيْك مِن نِعَمٍ غالِيةٍ مِن أَنواع الإِمكاناتِ وأَنواعِ العَدَمِ، ومِمّا لا تَقدِرُ علَيْه ولا تَستَحِقُّه، فتَشكُو بحِرصٍ باطِلٍ وتَكفُرُ بنِعَمِه سُبحانَه.

تُرَى! لو أنَّ رَجُلًا أُصعِدَ على قِمّةِ مَنارةٍ عالِيةٍ ذاتِ دَرَجاتٍ وتَسَلَّم في كلِّ دَرَجةٍ مِنها هَدِيّةً ثَمِينةً، ثمَّ وَجَد نَفسَه في قِمّةِ المَنارةِ، في مَكانٍ رَفيعٍ، أَيَحِقُّ له ألّا يَشكُرَ صاحِبَ تلك النِّعَمِ ويَبكِيَ ويَتَأفَّفَ ويَتَحسَّرَ قائِلًا: لِمَ لَمْ أَقدِر على صُعُودِ ما هو أَعلَى مِن هذه المَنارةِ..

تُرَى! كم يكُونُ عَمَلُه هذا باطِلًا لو تَصَرَّف هكذا! وكم يَسقُطُ في هاوِيةِ كُفرانِ النِّعمةِ! وكم هو في ضَلالةٍ مَقِيتةٍ! حتَّى البُلَهاءُ يُدرِكُونَ هذا.

أيُّها الإِنسانُ الحَرِيصُ غَيرُ القانِعِ، ويا أيُّها المُسرِفُ غَيرُ المُقتَصِدِ، ويا أيُّها الشَّاكِي بغَيرِ حَقٍّ، أيُّها الغافِلُ.. اِعْلَمْ يَقِينًا: أنَّ القَناعةَ شُكرانٌ رابِحٌ، بَينَما الحِرصُ كُفرانٌ خاسِرٌ، والِاقتِصادُ تَوقِيرٌ لِلنِّعمةِ جَمِيلٌ ونافِعٌ، بَينَما الإِسرافُ استِخفافٌ بالنِّعمةِ مُضِرٌّ ومُشِينٌ.

فإن كُنتَ راشِدًا، عَوِّدْ نَفسَك على القَناعةِ وحاوِلْ بُلُوغَ الرِّضَا؛ وإن لم تُطِقْ تَحَمُّلَ المُصِيبةِ فقُل: يا صَبُورُ.. وتَجَمَّلْ بالصَّبْر.

وارْضَ بحَقِّك ولا تَشْكُ؛ واعْلَمْ مِمَّن وإلى مَن تَشكُو! اِلزَمِ الصَّمتَ، وإذا أَرَدتَ الشَّكوَى لا مَحالةَ فاشْكُ نَفسَك إلى اللهِ، فإنَّ القُصُورَ مِنها.

[الرمز الثاني: غايات المخلوق متوجهةٌ إلى الخالق بالأصالة]

الرمز الثاني

لقد ذَكَرنا في خِتامِ “المَسأَلةِ الأَخِيرةِ لِلمَكتُوبِ الثّامِنَ عَشَرَ” أنَّ حِكْمةً مِن حِكَمِ تَبدِيلِ الخالِقِ الجَلِيلِ لِلمَوجُوداتِ دَوْمًا وتَجدِيدِه لها باستِمرارٍ تَبدِيلًا وتَجدِيدًا مُحَيِّرًا مُذهِلًا بفَعّاليّةِ رُبُوبيَّتِه الجَلِيلةِ هي أنَّ الفَعّاليّةَ والحَرَكةَ في المَخلُوقاتِ نابِعةٌ مِن شَهِيّةٍ، مِنِ اشتِياقٍ، مِن لَذّةٍ، مِن مَحَبّةٍ، حتَّى يَصِحُّ القَولُ:

إنَّ في كلِّ فَعّاليّةٍ نَوعًا مِنَ اللَّذّةِ، بل إنَّ كلَّ فَعَّاليّةٍ هي نَوعٌ مِنَ اللَّذّةِ، واللَّذّةُ كَذلِك مُتَوجِّهةٌ إلى كَمالٍ، بل هي نَوعٌ مِنَ الكَمالِ.

ولَمَّا كانَتِ الفَعَّاليَّةُ تُشِيرُ إلى كَمالٍ، إلى لَذّةٍ، إلى جَمالٍ، وأنَّ الواجِبَ الوُجُودِ سُبحانَه الَّذي هو الكَمالُ المُطلَقُ والكامِلُ ذُو الجَلالِ، جامِعٌ في ذاتِه وصِفاتِه وأَفعالِه لِجَمِيعِ أَنواعِ الكَمالاتِ، فلا شَكَّ أنَّ لِذَلِك الواجِبِ الوُجُودِ سُبحانَه شَفَقةً مُقدَّسةً لا حَدَّ لها ومَحَبّةً مُنزَّهةً لا نِهايةَ لها، تَلِيقُ بوُجُوبِ وُجُودِه وقُدسِيَّتِه، وتُوافِقُ تَعالِيَه الذَّاتِيَّ وغِناه المُطلَقَ وتُناسِبُ كَمالَه المُطلَقَ وتَنزُّهَه الذَّاتِيَّ، ولا شَكَّ أنَّ له شَوقًا مُقدَّسًا لا حَدَّ له، نابِعًا مِن تلك الشَّفَقةِ المُقدَّسةِ، ومِن تلك المَحَبّةِ المُنزَّهةِ، وأنَّ له سُرُورًا مُقدَّسًا لا حَدَّ له نابِعًا مِن ذلك الشَّوقِ المُقدَّسِ، وأنَّ له لَذّةً مُقدَّسةً لا حَدَّ لها -إن جازَ التَّعبِيرُ- ناشِئةً مِن ذلك السُّرُورِ المُقدَّسِ؛ ولا شَكَّ أنَّ له معَ تلك اللَّذّةِ المُقدَّسةِ رِضًا مُقدَّسًا لا حَدَّ له وافتِخارًا مُقدَّسًا لا نِهايةَ له -إن جازَ التَّعبِيرُ- ناشِئَينِ مِن رِضا وامتِنانِ مِخلُوقاتِه مِنِ انطِلاقِ استِعداداتِها مِنَ القُوّةِ إلى الفِعلِ، حِينَما تَنطَلِقُ وتَتكامَلُ بفَعّاليّةِ قُدرَتِه ضِمنَ رَحمَتِه الواسِعةِ.. فذَلِك الرِّضَا المُقدَّسُ المُطلَقُ والِافتِخارُ المُطلَقُ يَقتَضِيانِ هذه الفَعّاليّةَ المُطلَقةَ في صُورَتِها المُطلَقةِ؛ وتلك الفَعّاليّةُ أَيضًا تَقتَضِي تَبدِيلًا وتَغيِيرًا وتَحوِيلًا وتَخرِيبًا لا حَدَّ لَهُما، وذلك التَّغيِيرُ والتَّبدِيلُ غيرُ المَحدُودَينِ يَقتَضِيانِ المَوتَ والعَدَمَ والزَّوالَ والفِراقَ.

ولقد رَأَيتُ -في وَقتٍ مّا- أنَّ كلَّ ما تُبيِّنُه حِكْمةُ البَشَرِ (فَلسَفَتُه وعُلُومُه) مِن فَوائِدَ تَخُصُّ غاياتِ المَصنُوعاتِ، تافِهةٌ لا قِيمةَ لها، وعَلِمتُ حِينَها أنَّ تلك الحِكْمةَ تُفضِي إلى العَبَثيّةِ؛ ومِن هُنا فإنَّ الفَيلَسُوفَ الرَّاسِخَ القَدَمِ في الفَلسَفةِ: إمَّا أن يَضِلَّ في ضَلالةِ الطَّبِيعةِ، أو يكُونَ سُوفسَطائيًّا، أو يُنكِرَ الإِرادةَ والعِلمَ الإلٰهِيَّ، أو يُطلِقَ على الخالِقِ: “المُوجَبَ بالذّاتِ”.

وفي ذلك الوَقتِ بَعثَتِ الرَّحمةُ الإلٰهِيّةُ اسمَ اللهِ “الحَكِيمِ” لِإغاثَتِي، فأَظهَرَ لي الغاياتِ الجَلِيلةَ للمَصنُوعاتِ، أي إنَّ كلَّ مَصنُوعٍ مَكتُوبٌ رَبّانِيٌّ حَكِيمٌ بحَيثُ يُطالِعُه جَمِيعُ ذَوِي الشُّعُورِ.

كَفَتْني هذه الغايةُ مُدّةَ سَنةٍ مِنَ الزَّمَنِ، ثمَّ انكَشَفَتِ الخَوارِقُ البَدِيعةُ في الصَّنعةِ، فلم تَعُد تلك الغايةُ كافِيةً وافِيةً؛ وأُظهِرَتْ لي غايةٌ أُخرَى أَعظَمُ بكَثِيرٍ مِنَ الأُولَى.

أي إنَّ أَهَمَّ غاياتِ المَصنُوعِ مُتَوجِّهةٌ إلى صانِعِه، أي: يَعرِضُ المَصنُوعُ كَمالاتِ صَنعةِ صانِعِه، ونُقُوشَ أَسمائِه الحُسنَى ومُرَصَّعاتِ حِكْمَتِه القَيِّمةِ وهَدايا رَحمَتِه الواسِعةِ أَمامَ نَظَرِه سُبحانَه، ويكُونُ مرآةً لِجَمالِه وكَمالِه جَلَّ وعَلا.. هكذا فَهِمتُ هذه الغايةَ، وكَفَتْني مُدّةً مَدِيدةً.

ثمَّ ظَهَرَت مُعجِزاتُ القُدْرةِ وشُؤُونُ الرُّبُوبيّةِ في التَّغيِيرِ والتَّبدِيلِ السَّرِيعِ جِدًّا، ضِمنَ فَعَّاليَّةٍ مُحَيِّرةٍ في إِيجادِ الأَشياءِ وإِتقانِها، حتَّى بَدَت تلك الغايةُ غيرَ وافِيةً، وعَلِمتُ أنْ لا بُدَّ مِن داعٍ عَظِيمٍ ومُقتَضًى جَلِيلٍ يُعادِلُ هذه الغايةَ العُظمَى، وعِندَ ذلك أُظهِرَت لي المُقتَضَياتُ المَوجُودةُ في الرَّمزِ الثَّاني والغاياتُ المَذكُورةُ في الإِشاراتِ الَّتي ستَأْتِي. وأُعلِمتُ يَقِينًا: أنَّ فَعّاليّةَ القُدرةِ في الكَونِ وسَيْرَ الأَشياءِ وسَيَلانَها، تَحمِلُ مِنَ المَعانِي الغَزِيرةِ بحَيثُ يُنطِقُ الصّانِعُ الحَكِيمُ أَنواعَ الكائِناتِ بتلك الفَعّاليّةِ، حتَّى كأنَّ حَرَكاتِ السَّماواتِ والأَرضِ وحَرَكاتِ مَوجُوداتِها هي كَلِماتُ ذلك النُّطقِ، وكأنَّ سَيْرَها ودَوَرانَها تَكَلُّمٌ ونُطْقٌ، بمَعنَى أنَّ الحَرَكاتِ والزَّوالَ النّابِعةَ مِنَ الفَعّاليّةِ ما هي إلّا كَلِماتٌ تَسبِيحِيّةٌ، وأنَّ الفَعّاليّةَ المَوجُودةَ في الكَونِ هي نُطقٌ وإِنطاقٌ صامِتٌ لِلكَونِ ولِما فيه مِن أَنواعٍ.

[الرمز الثالث: الأشياء لا تمضي إلى العدم]

الرَّمزُ الثَّالث

إنَّ الأَشياءَ لا تَمضِي إلى العَدَمِ، ولا تَصِيرُ إلى الفَناءِ، بل تَمضِي مِن دائِرةِ القُدرةِ إلى دائِرةِ العِلمِ، وتَدخُلُ مِن عالَمِ الشَّهادةِ إلى عالَمِ الغَيبِ، وتَتَوجَّهُ مِن عالَمِ التَّغيُّرِ والفَناءِ إلى عالَمِ النُّورِ والبَقاءِ.. وإنَّ الجَمالَ والكَمالَ في الأَشياءِ يَعُودانِ إلى الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ وإلى نُقُوشِها وجَلَواتِها مِن زاوِيةِ نَظَرِ الحَقِيقةِ.

وحَيثُ إنَّ تلك الأَسماءَ باقِيةٌ وتَجَلِّياتِها دائِمةٌ، فلا شَكَّ أنَّ نُقُوشَها تَتَجدَّدُ وتَتَجمَّلُ وتَتَبدَّلُ، فلا تَذهَبُ إلى العَدَمِ والفَناءِ، بل تَتَبدَّلُ تَعيُّناتُها الِاعتِبارِيّةُ؛ أمّا حَقائِقُها وماهِيَّاتُها وهُوِيَّاتُها المِثاليّةُ الَّتي هي مَدارُ الحُسنِ والجَمالِ ومَظهَرُ الفَيضِ والكَمالِ فهِي باقِية.

[ما ليس بذي روح]

فالحُسنُ والجَمالُ في الأَشياءِ الَّتي لا تَملِكُ رُوحًا يَعُودانِ إلى الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ مُباشَرةً، فالشَّرَفُ لها والمَدحُ والثَّناءُ لها، إذِ الحُسنُ حُسنُها والمَحَبّةُ تُوَجَّهُ إلَيْها، ولا يُورِثُ تَبَدُّلُ تلك المَرايا ضَرَرًا لِلأَسماءِ.

[ذوات الأرواح]

وإن كانَتِ الأَشياءُ مِن ذَوِي الأَرواحِ ولكِن لم تكُن مِن ذَوِي العُقُولِ، فإنَّ فِراقَها وزَوالَها لَيسَ فَناءً ولا عَدَمًا، بل يَنجُو الشَّيءُ الحَيُّ مِن وُجُودٍ جِسمانِيٍّ ومِنِ اضطِراباتِ وَظائِفِ الحَياةِ، مُودِّعًا ثَمَراتِ وَظائِفِه الَّتي كَسَبَها إلى رُوحِه الباقيةِ، فأَرْواحُ هذه الأَشياءِ تَستَنِدُ أَيضًا إلى أَسماءٍ إلٰهِيّةٍ حُسنَى، فتَدُومُ وتَستَمِرُّ، وتَمضِي إلى سَعادةٍ مُلائِمةٍ لها.

[ذوي العقول]

أمّا إن كان أُولَئِك الأَحياءُ مِن ذَوِي العُقُولِ، فإنَّهُم أَصلًا يَمضُونَ إلى سَعادةٍ أَبدِيّةٍ وإلى عالَمِ البَقاءِ المُؤَسَّسِ على كَمالاتٍ مادِّيّةٍ ومَعنَوِيّةٍ. لِذا فإنَّ فِراقَهُم وزَوالَهُم لَيسَ مَوتًا وعَدَمًا ولا زَوالًا وفِراقًا حَقًّا، بل هو وُصُولٌ لِلكَمالاتِ، وسِياحةٌ مُمتِعةٌ إلى عَوالِمَ نُورانيّةٍ لِلصّانِعِ الحَكِيمِ، عَوالِمَ أَجمَلَ مِنَ الدُّنيا وأَزهَى مِنها كعالَمِ البَرزَخِ وعالَمِ المِثالِ وعالَمِ الأَرواحِ، وإلى مَمالِكِه الأُخرَى مِن مَنازِلِه سُبحانَه وتَعالَى.

حاصِلُ الكَلامِ: إنَّ اللهَ مَوجُودٌ وباقٍ، وإنَّ صِفاتِه سَرمَدِيّةٌ وأَسماءَه دائِمةٌ، إِذًا لا بُدَّ أنَّ تَجَلِّياتِ تلك الأَسماءِ ونُقُوشَها تَتَجدَّدُ في بَقاءٍ مَعنَوِيٍّ، فلَيسَ تَخرِيبًا ولا فَناءً ولا إِعدامًا ولا زَوالًا.

مِنَ المَعلُومِ أنَّ الإِنسانَ ذُو عَلاقةٍ -مِن حَيثُ الإِنسانيّةُ- معَ أَكثَرِ المَوجُوداتِ، فيَتَلذَّذُ بسَعادَتِها ويَتَألَّمُ بمَصائِبِها، ولا سِيَّما معَ ذَوِي الحَياةِ، وبخاصّةٍ معَ الإِنسانِ، وبالأَخَصِّ معَ مَن يُحِبُّهُم ويُعجَبُ بهِم ويَحتَرِمُهُم مِن أَهلِ الكَمالِ، فهُو أَشَدُّ تَألُّمًا بآلامِهِم وأَكثَرُ سَعادةً بسَعادَتِهِم، حتَّى يُضَحِّي بسَعادَتِه في سَبِيلِ إِسعادِهِم، كتَضحِيةِ الوالِدةِ الشَّفِيقةِ بسَعادَتِها وراحَتِها مِن أَجلِ وَلَدِها.

فكُلُّ مُؤمِنٍ يَستَطِيعُ أن يكُونَ بنُورِ القُرآنِ والإِيمانِ سَعِيدًا بسَعادةِ جَمِيعِ المَوجُوداتِ وبَقائِها ونَجاتِها مِنَ العَدَمِ وصَيرُورَتِها مَكاتِيبَ رَبَّانيّةً، ويَغنَمَ نُورًا عَظِيمًا بعِظَمِ الدُّنيا؛ فكُلٌّ يَستَفِيدُ مِن هذا النُّورِ حَسَبَ دَرَجَتِه.

أمَّا إن كانَ مِن أَهلِ الضَّلالِ، فإنَّه يَتَألَّمُ -عَلاوةً على آلامِه- بهَلاكِ المَوجُوداتِ وبفَنائِها وبإِعدامِها الظَّاهِرِيِّ وبآلامِ ذَوِي الأَرواحِ مِنها؛ أي إنَّ كُفرَه يَملَأُ دُنياه بالعَدَمِ ويُفرِغُها على رَأْسِه، فيَمضِي إلى جَهَنَّمَ (مَعنَوِيّةٍ) قَبلَ أن يُساقَ إلى جَهَنَّمَ (في الآخِرةِ).

[الرمز الرابع: تنوع المخلوقات من تنوع تجليات الأسماء الحسنى]

الرَّمزُ الرَّابع

مِثلَما ذُكِرَ في مَواضِعَ عِدّةٍ: كما أنَّ لِلسُّلطانِ دَوائِرَ مُختَلِفةً ناشِئةً مِن عَناوِينِه المُتَنوِّعةِ، كاسمِ السُّلطانِ، الخَلِيفةِ، الحاكِمِ، القائِدِ، وأَمثالِها مِنَ العَناوِينِ والصِّفاتِ؛ كَذلِك فإنَّ لِلأَسماءِ الحُسنَى تَجَلِّياتٍ مُتَنوِّعةً لا تُحَدُّ، فتَنوُّعُ المَخلُوقاتِ ناشِئٌ عن تَنَوُّعِ تلك التَّجَلِّياتِ، وحَيثُ إنَّ صاحِبَ كلِّ جَمالٍ وكلِّ كَمالٍ يَرغَبُ في مُشاهَدةِ جَمالِه وكَمالِه وإِشهادِهِما، فإنَّ تلك الأَسماءَ المُختَلِفةَ -لِكَونِها دائِمِيّةً وسَرمَدِيّةً- تَقتَضِي ظُهُورًا دائِمِيًّا سَرمَدِيًّا، أي: تَقتَضِي رُؤْيةَ نُقُوشِها، أي: تَقتَضِي رُؤْيةَ وإِراءةَ جَلْوةِ جَمالِها وانعِكاسِ كَمالِها في مَرايا نُقُوشِها، أي: تَقتَضِي تَجدِيدَ كِتابِ الكَونِ الكَبِيرِ، آنًا فآنًا، أي: كِتابتَها كِتابةً مُجَدَّدةً ذاتَ مَغزًى، أي: تَقتَضِي كِتابةَ أُلُوفٍ مِنَ الرَّسائِلِ المُتَنوِّعةِ في صَحِيفةٍ واحِدةٍ، وإِظهارَ كلِّ رِسالةٍ لِنَظَرِ شُهُودِ الذّاتِ المُقدَّسةِ والمُسَمَّى الأَقدَسِ معَ عَرْضِها على مُطالَعةِ أَنظارِ ذَوِي الشُّعُورِ واستِقْرائِهِم.. تَأَمَّلْ في هذا الشِّعرِ الَّذي يُشِيرُ إلى هذه الحَقِيقةِ:

صِحائِفُ كِتابِ العالَمِ.. هذه الأَنواعُ غَيرُ المَعدُودةِ

حُرُوفُه وكَلِماتُه.. هذه الأَفرادُ غَيرُ المَحدُودةِ

لقد سُطِّر في لَوحِ الحَقِيقةِ المَحفُوظِ:

إنَّ كلَّ مَوجُودٍ في العالَمِ لَفظٌ بَلِيغٌ مُجَسَّمٌ

تَأَمَّلْ سُطُورَ الكائِناتِ فإِنَّها ٭ مِنَ المَلَإِ الأَعلَى إلَيْكَ رَسائِلُ‌

[الرمز الخامس: إذا كان الله موجودًا فكل شيءٍ موجود]

الرَّمزُ الخامس

عبارةٌ عن نُكتتَينِ‌

[النكتة الأولى: شرف الانتساب إلى واجب الوجود]

النُّكتةُ الأُولَى:‌

إنَّ اللهَ مَوجُودٌ، فكُلُّ شَيءٍ مَوجُودٌ إِذًا، وحَيثُ إنَّ هُناك انتِسابًا لِلواجِبِ الوُجُودِ، فكُلُّ الأَشياءِ إِذًا مَوجُودةٌ لِكُلِّ شَيءٍ، لِأنَّ كلَّ مَوجُودٍ بانتِسابِه إلى واجِبِ الوُجُودِ يَرتَبِطُ بجَمِيعِ المَوجُوداتِ، بسِرِّ الوَحْدةِ، بمَعنَى أنَّ كلَّ مَوجُودٍ يَعرِفُ انتِسابَه إلى واجِبِ الوُجُودِ أو يُعرَفُ انتِسابُه إلَيْه تَعالَى، فهُو ذُو عَلاقةٍ معَ جَمِيعِ المَوجُوداتِ المُنتَسِبةِ إلى واجِبِ الوُجُودِ، وذلك بسِرِّ الوَحْدةِ.

أي إنَّ كلَّ شَيءٍ مِن نُقطةِ الِانتِسابِ يَنالُ أَنوارَ وُجُودٍ غَيرَ مَحدُودةٍ بحُدُودٍ، فلا فِراقَ ولا زَوالَ إِذًا في تلك النُّقطةِ.. لِذا يكُونُ العَيشُ في آنٍ سَيَّالٍ واحِدٍ مَبعَثَ أَنوارِ وُجُودٍ غَيرِ مَحدُودٍ؛ بَينَما إن لم يكُن ذلك الِانتِسابُ، ولم يُعرَف، فإنَّ كلَّ شَيءٍ يَنالُ ما لا يُحَدُّ مِن أَنواعِ الفِراقِ وصُنُوفِ الزَّوالِ وأَنماطِ العَدَمِ، لِأنَّ الشَّيءَ في تلك الحالةِ له فِراقٌ وافتِراقٌ وزَوالٌ تِجاهَ كلِّ مَوجُودٍ يُمكِنُ أن يَرتَبِطَ به؛ أي: يَحمِلُ على وُجُودِه الشَّخصِيِّ أَنواعًا لا تُحَدُّ مِنَ العَدَمِ وصُنُوفًا لا تُحصَى مِنَ الفِراقِ، فلو ظَلَّ في الوُجُودِ مِلْيُونًا مِنَ السِّنِينَ دُونَ انتِسابٍ لَمَا عَدَلَ قَطْعًا آنًا مِنَ العَيشِ معَ الِانتِسابِ الَّذي كانَ فيه.

ولِهذا قالَ أَهلُ الحَقِيقةِ: إنَّ آنًا سَيَّالًا مِن وُجُودٍ مُنوَّرٍ يَفضُلُ على مِليُونِ سَنةٍ مِن وُجُودٍ أَبتَرَ. أي إنَّ آنًا مِن وُجُودٍ مُنتَسِبٍ إلى الواجِبِ الوُجُودِ مُرَجَّحٌ على مِليُونِ سَنةٍ مِن وُجُودٍ لا انتِسابَ فيه. ولِأَجلِ هذا قالَ أَهلُ التَّحقِيقِ: إنَّ أَنوارَ الوُجُودِ إنَّما تكُونُ بمَعرِفةِ واجِبِ الوُجُودِ. أي إنَّ الكائِناتِ في تلك الحالةِ وهِي تَنعُمُ بأَنوارِ الوُجُودِ، تكُونُ مَملُوءةً بالمَلائِكةِ والرُّوحانيّاتِ وذَوِي الشُّعُورِ؛ وبخِلافِ ذلك -أي إن لم تكُن هُناك مَعرِفةُ واجِبِ الوُجُودِ- فإنَّ ظُلُماتِ العَدَمِ وآلامَ الفِراقِ وأَوْجاعَ الزَّوالِ تُحِيطُ بكلِّ مَوجُودٍ، فالدُّنيا تكُونُ مُوحِشةً خاوِيةً في نَظَرِ ذلك الشَّخصِ.

نعم، كما أنَّ لِكُلِّ ثَمَرةٍ مِن ثِمارِ شَجَرةٍ عَلاقةً معَ كلِّ الثَّمَراتِ الَّتي على تلك الشَّجَرةِ، وتُكَوِّنُ نَوعًا مِن رابِطةِ الأُخُوّةِ والصَّداقةِ والعَلاقاتِ المَتِينةِ فيما بَينَها.. فلَها إِذًا وُجُوداتٌ عَرَضِيّةٌ بعَدَدِ تلك الثَّمَراتِ.

ولكِن مَتَى قُطِفَت تلك الثَّمَرةُ مِنَ الشَّجَرةِ، فإنَّ فِراقًا وزَوالًا يَحصُلانِ تِجاهَ كلِّ ثَمَرةٍ مِنَ الثَّمَراتِ، وتُصبِحُ الثَّمَراتُ بالنِّسبةِ لِلمَقطُوفةِ في حُكمِ المَعدُومِ، فيَعُمُّها الظَّلامُ، ظَلامُ عَدَمٍ خارِجِيٍّ.

وكَذلِك فإنَّ كلَّ شَيءٍ له الأَشياءُ كُلُّها، مِن نُقطةِ الِانتِسابِ إلى قُدْرةِ الأَحَدِ الصَّمَدِ، وإن لم يَكُن هُناك انتِسابٌ فإنَّ أَنواعًا مِنَ العَدَمِ الخارِجِيِّ بعَدَدِ الأَشياءِ كُلِّها تُصِيبُ كلَّ شَيءٍ. فانظُرْ مِن خِلالِ هذا الرَّمزِ إلى عَظَمةِ أَنوارِ الإِيمانِ، وشاهِدِ الظُّلمةَ المُخِيفةَ المُحِيطةَ بالوُجُودِ في الضَّلالِ.

فالإِيمانُ إِذًا هو عُنوانُ الحَقِيقةِ السَّامِيةِ الَّتي بُيِّنَت في هذا الرَّمزِ، ولا يُمكِنُ الِاستِفادةُ مِن تلك الحَقِيقةِ إلّا بالإِيمانِ، إذ كما أنَّ كلَّ شَيءٍ مَعدُومٌ لِلأَعمَى والأَصَمِّ والأَبكَمِ والمَجنُونِ، كَذلِك كلُّ شَيءٍ مَعدُومٌ مُظلِمٌ بانعِدامِ الإِيمانِ.

[النكتة الثانية: للدنيا ثلاثة وجوه]

النُّكتةُ الثّانيةُ:

إنَّ لِلدُّنيا ولِلأَشياءِ ثَلاثةَ وُجُوهٍ:

الوَجهُ الأوَّلُ: يَنظُرُ إلى الأَسماءِ الإِلٰهِيّةِ الحُسنَى، فهُو مِرآةٌ لها، ولا يُمكِنُ أن يَعرِضَ الزَّوالُ والفِراقُ على هذا الوَجهِ، بل فيه التَّجَدُّدُ.

الوَجهُ الثّاني: يَنظُرُ إلى الآخِرةِ، ويَرنُو إلى عالَمِ البَقاءِ، وهُو في حُكْمِ مَزرَعَتِها، ففي هذا الوَجهِ تَنضَجُ ثَمَراتٌ باقِياتٌ؛ فهذا الوَجهُ يَخدُمُ البَقاءَ، لِأنَّه يُحَوِّلُ الفانِياتِ إلى حُكمِ الباقِياتِ، وفيه جَلَواتُ الحَياةِ والبَقاءِ لا المَوتِ والزَّوالِ.

الوَجهُ الثّالثُ: يَنظُرُ إلى الفانِينَ، أي: يَنظُرُ إلَيْنا نَحنُ، فهُو وَجهٌ يَعشَقُه الفانُونَ وأَهلُ الهَوَى، وهُو مَوضِعُ تِجارةِ أَهلِ الشُّعُورِ، ومَيدانُ امتِحانِ المُوَظَّفِينَ المَأمُورِينَ.. وهكَذا ففي حَقِيقةِ هذا الوَجهِ الثّالِثِ جَلَواتُ اللِّقاءِ والحَياةِ تكُونُ مَرهَمًا لِجِراحاتِ آلامِ الفَناءِ والزَّوالِ والمَوتِ والعَدَمِ في هذا الوَجهِ لِلدُّنيا.

حاصِلُ الكَلامِ: إنَّ هذه المَوجُوداتِ السَّيّالةَ، وهذه المَخلُوقاتِ السَّيّارةَ، ما هي إلّا مَرايا مُتَحرِّكةٌ، ومَظاهِرُ مُتَبدِّلةٌ لِتَجدِيدِ أَنوارِ إِيجادِ الواجِبِ الوُجُودِ.

❀   ❀   ❀

[المقام الثاني]

المَقامُ الثَّاني‌

عبارةٌ عن مُقدِّمة وخَمسِ إِشاراتٍ‌

[مقدمة]

المُقدِّمة: عِبارةٌ عن مَبحثَينِ

[المبحث الأول: التمثيلات لا تستوعب حقيقة شؤون الربوبية]

المبحث الأوَّل:‌

ستُكتَبُ في هذه الإِشاراتِ الخَمسِ الآتيةِ تَمثِيلاتٌ، بمَثابةِ مَراصِدَ ومَناظِيرَ صَغِيرةٍ وخافِتةٍ، لِرَصدِ حَقِيقةِ شُؤُونِ الرُّبُوبيّةِ، فهذه التَّمثِيلاتُ لا تَستَوعِبُ قَطعًا حَقِيقةَ شُؤُونِ الرُّبُوبيّةِ، ولا يُمكِنُ أن تُحِيطَ بها، ولا أن تكُونَ مِقْياسًا لها، إلّا أنَّها تُمكِّنُ المَرءَ مِن أن يَنظُرَ إلى تلك الشُّؤُونِ البَدِيعةِ مِن خِلالِها؛ ثمَّ إنَّ التَّعابِيرَ الَّتي لا تُناسِبُ شُؤُونَ الذَّاتِ الجَلِيلةِ في التَّمثِيلاتِ الآتِيةِ وفي الرُّمُوزِ السَّابِقةِ إنَّما هي مِن قُصُورِ التَّمثِيلِ نَفسِه، فمَثلًا: إنَّ المَعانِيَ المَعرُوفةَ لَدَيْنا لِلَّذّةِ والسُّرُورِ والرِّضا والِامتِنانِ لا يُمكِنُ أن تُعَبِّر عنِ الشُّؤُونِ المُقدَّسةِ للهِ سُبحانَه، ولكِنَّها مُجَرَّدُ عَناوِينَ مُلاحَظةٍ لَيسَ إلّا، ومَراصِدُ تَفكُّرٍ فحَسْبُ.

ثمَّ إنَّ هذه التَّمثِيلاتِ تُثبِتُ حَقِيقةَ قانُونٍ رَبّانِيٍّ عَظِيمٍ حَولَ شُؤُونِ الرُّبُوبيّةِ بإِظهارِها جُزءًا وطَرَفًا مِن ذلك القانُونِ في مِثالٍ صَغِيرٍ.

فمَثلًا: لقد ذُكِرَ أنَّ الزَّهْرةَ تَرحَلُ مِنَ الوُجُودِ، إلّا أنَّها تَتْرُكُ آلافًا مِن أَنواعِ الوُجُودِ، ثمَّ تَرحَلُ، وبهذا المِثالِ يُبيَّنُ قانُونٌ عَظِيمٌ لِلرُّبوبِيّةِ، حَيثُ يَجرِي هذا القانُونُ في الرَّبِيعِ كلِّه بل يَجرِي في جَمِيعِ مَوجُوداتِ الدُّنيا.

نعم، إنَّ الخالِقَ الرَّحِيمَ، بأَيِّ قانُونٍ يُبدِّلُ لِباسَ طائِرٍ ورِيشَه، ويُجَدِّدُه، يُبدِّلُ ذلك الصّانِعُ الحَكِيمُ بالقانُونِ نَفسِه لِباسَ الكُرةِ الأَرضِيّةِ كلَّ سَنةٍ، ويُبدِّلُ بالقانُونِ نَفسِه صُورةَ الكَونِ قاطِبةً عِندَ قِيامِ السّاعةِ ويُغيِّـرُها.. وكذا بأيِّ قانُونٍ يُحَرِّكُ سُبحانَه الذَّرّةَ كالمُرِيدِ المَولَوِيِّ يَدُورُ حَولَ نَفسِه وحَولَ حَلْقةِ الذِّكرِ، فإنَّه يُحَرِّكُ بالقانُونِ نَفسِه الكُرةَ الأَرضِيّةَ كانجِذابِ المُرِيدِ المَولَوِيِّ بالذِّكرِ، بل يُحرِّكُ العَوالِمَ بالقانُونِ نَفسِه، ويُسَيِّرُ المَنظُومةَ الشَّمسِيّةَ به.. وكذا بأيِّ قانُونٍ يُجَدِّدُ سُبحانَه ذَرَّاتِ خَلايا جِسمِك ويُحَلِّلُها ويَعمُرُها، فإنَّه يُجَدِّدُ بالقانُونِ نَفسِه، في كلِّ سَنةٍ، في كلِّ مَوسِمٍ بُستانَك مَرّاتٍ ومَرَّاتٍ، ويُجَدِّدُ بالقانُونِ نَفسِه سَطحَ الأَرضِ في كلِّ رَبِيعٍ ويَبسُطُ بِساطًا جَدِيدًا.. وكذا، بأيِّ قانُونٍ حَكِيمٍ يُحيِي الصّانِعُ القَدِيرُ ذُبابةً، فإنَّه سُبحانَه يُحيِي بالقانُونِ نَفسِه شَجَرةَ الدُّلْبِ الضَّخْمةَ هُنا -وهِي أَمامَنا- في كلِّ رَبِيعٍ، ويُحيِي الأَرضَ بالقانُونِ نَفسِه في الرَّبِيعِ، ويُحيِي المَخلُوقاتِ قاطِبةً بالقانُونِ نَفسِه يَومَ الحَشرِ الأَعظَمِ.

ويُشِيرُ القُرآنُ الحَكِيمُ إلى هذا بقَولِه تَعالَى: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ..﴾ وهكذا فقِسْ.

فهُناك قَوانِينُ رُبُوبيّةٍ كَثِيرةٌ جِدًّا أَمثالُ هذه تَجرِي مِنَ الذَّرّةِ إلى مَجمُوعِ العالَمِ، فتَأمَّلْ في عَظَمةِ هذه القَوانِينِ الَّتي تَتَضمَّنُها فَعَّاليَّةُ الرُّبُوبيَّةِ وتَدَبَّر في سَعَتِها وشاهِدْ سِرَّ الوَحْدةِ فيها، واعْلَمْ أنَّ كُلَّ قانُونٍ بُرهانُ تَوحِيدٍ بذاتِه.

نعم، إنَّ كلَّ قانُونٍ مِن هذه القَوانِينِ الكَثِيرةِ والعَظِيمةِ جِدًّا، لِكَونِه قانُونًا واحِدًا ومُحِيطًا بالوُجُودِ في الوَقتِ نَفسِه، فإنَّه يُثبِتُ وَحْدانيَّةَ الصَّانِعِ الجَلِيلِ وعِلمَه وإِرادَتَه إِثباتًا قاطِعًا، فَضْلًا عن أنَّه تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ العِلمِ والإِرادةِ.

وهكذا، فالتَّمثِيلاتُ الوارِدةُ في أَغلَبِ مَباحِثِ “الكَلِماتِ” تُبيِّنُ طَرَفًا وجُزءًا مِن مِثلِ هذه القَوانِينِ في مِثالٍ جُزئِيٍّ، مُشِيرةً إلى وُجُودِ ذلك القانُونِ نَفسِه في المُدَّعَى.. فما دامَ التَّمثِيلُ يُبيِّنُ تَحَقُّقَ القانُونِ فهُو إِذًا يُثبِتُ المُدَّعَى كالبُرهانِ المَنطِقِيِّ.. بمَعنَى أنَّ مُعظَمَ التَّمثِيلاتِ المَوجُودةِ في “الكَلِماتِ” كلٌّ مِنها في حُكْمِ بُرهانٍ يَقِينيٍّ، وحُجّةٍ قاطِعةٍ.

[المبحث الثاني: لكل موجودٍ خمسُ طبقاتٍ من الحِكَم والغايات]

المَبحَث الثَّاني:‌

لقد ذُكِرَ في “الحَقِيقةِ العاشِرةِ مِنَ الكَلِمةِ العاشِرةِ”: أنَّ لِكُلِّ ثَمَرةٍ ولِكُلِّ زَهرةٍ غاياتٍ وحِكَمًا بقَدْرِ ثَمَراتِ الشَّجَرةِ وأَزاهِيرِها؛ وتلك الحِكَمُ على ثَلاثةِ أَقسامٍ:

قِسمٌ مِنها مُتَوجِّهٌ إلى الصَّانِعِ الجَلِيلِ؛ يُبيِّنُ نُقُوشَ أَسمائِه.

وقِسمٌ آخَرُ يَتَوجَّهُ إلى ذَوِي الشُّعُورِ، فالمَوجُوداتُ في نَظَرِهِم رَسائِلُ قَيِّمةٌ وكَلِماتٌ بَلِيغةٌ ذاتُ مَغزًى.

وقِسمٌ آخَرُ يَتَوجَّهُ إلى الشَّيءِ نَفسِه، وإلى حَياتِه وإلى بَقائِه، وله حِكَمٌ حَسَبَ مَنافِعِ الإِنسانِ، إن كان مُفِيدًا لِلإِنسانِ.

فعِندَما كُنتُ أَتأَمَّلُ وُجُودَ هذه الغاياتِ الكَثِيرةِ لِكُلِّ مَوجُودٍ، ورَدَتْ هذه الفِقْراتُ باللُّغةِ العَرَبِيَّةِ إلى خاطِرِي، دَوَّنتُها على صُورةِ مُلاحَظاتٍ على أُسُسِ تلك الإِشاراتِ الخَمسِ الآتِيةِ:

(وهذه المَوْجُوداتُ الجَلِيَّةُ: مَظَاهِرُ سَيَّالَةٌ، ومَرَايَا جَوَّالَةٌ، لِتَجَدُّدِ تَجَلِّيَاتِ أَنْوَارِ إيجَادِه سُبْحَانَهُ، بِتَبَدُّلِ التَّعَيُّنَاتِ الِاعْتِبَارِيَّةِ:

أَوَّلًا: مَعَ اسْتِحْفَاظِ المَعَانِي الجَمِيلَةِ والهُوِيَّاتِ المِثَالِيَّةِ.‌

وثَانِيًا: مَعَ إِنتَاجِ الحَقَائِقِ الغَيبِيَّةِ والنُّسُوجِ اللَّوْحِيَّةِ.‌

وثَالِثًا: مَعَ نَشرِ الثَّمَرَاتِ الأُخرَوِيَّةِ والمَنَاظِرِ السَّرمَدِيَّةِ.‌

ورَابِعًا: مَعَ إِعلَانِ التَّسبيحَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ وإِظهَارِ المُقتَضَيَاتِ الأَسمَائِيَّةِ.‌

وخَامِسًا: لِظُهُورِ الشُّؤُونَاتِ السُّبْحَانِيَّةِ والمَشَاهِدِ العِلمِيَّةِ).‌

ففي هذه الفِقْراتِ الخَمسِ أُسُسُ الإِشاراتِ الآتِيةِ الَّتي سنَبحَثُها:

نعم، إنَّ لِكُلِّ مَوجُودٍ، ولا سِيَّما مِن ذَوِي الحَياةِ، خَمسَ طَبَقاتٍ مُختَلِفةٍ مِنَ الحِكَم والغاياتِ المُختَلِفةِ. فكَما أنَّ شَجَرةً مُثمِرةً، تُثمِرُ أَغصانُها الَّتي يَعلُو بَعضُها على بَعضٍ، كَذلِك كلُّ كائِنٍ حَيٍّ له غاياتٌ وحِكَمٌ مُختَلِفةٌ في خَمسِ طَبَقاتٍ.

أيُّها الإِنسانُ الفاني، إنْ كُنتَ تُرِيدُ تَحوِيلَ حَقِيقَتِك الَّتي هي كنَواةٍ جُزئيّةٍ إلى شَجَرةٍ باقِيةٍ مُثمِرةٍ، وتَحصُلَ على الطَّبَقاتِ العَشرِ مِنَ الثَّمَراتِ المُشارِ إلَيْها في خَمسِ إِشاراتٍ وعشَرةِ أَنواعٍ مِنَ الغاياتِ، فاغْتَنِمِ الإِيمانَ الحَقِيقيَّ، وإلّا تُحرَمْ مِن جَمِيعِ تلك الغاياتِ والثَّمَراتِ، فَضْلًا عن أنَّك تَضمُرُ وتَفسُدُ داخِلَ تلك النَّواةِ الصَّغِيرةِ.

[الإشارة الأولى: كل موجود يفنى ظاهرًا ولكن تبقى معانيه وهويته المثالية]

الإشَارةُ الأُولَى

(أَوَّلًا: بِتَبَدُّلِ التَّعَيُّنَاتِ الِاعْتِبَارِيَّةِ مَعَ اسْتِحْفَاظِ المَعَانِي الجَمِيلَةِ والهُوِيَّاتِ المِثَالِيَّةِ).

هذه الفِقرةُ تُفِيدُ أنَّ كلَّ مَوجُودٍ، بعدَ ذَهابِه مِنَ الوُجُودِ، يَذهَبُ إلى العَدَمِ والفَناءِ ظاهِرًا، ولكِن تَبقَى المَعانِي الَّتي كان قد أَفادَها وعَبَّر عَنها وتُحفَظُ، وتَبقَى كَذلِك هُوِيَّتُه المِثاليّةُ وصُورَتُه وماهِيَّتُه في عالَمِ المِثالِ، وفي الأَلواحِ المَحفُوظةِ الَّتي هي نَماذِجُ عالَمِ المِثالِ، وفي القُوَى الحافِظةِ (الذَّاكِرةِ) الَّتي هي نَماذِجُ الأَلواحِ المَحفُوظةِ.

بمَعنَى أنَّ المَوجُودَ يَفقِدُ وُجُودًا ظاهِرِيًّا صُورِيًا، ويَكسِبُ مِئاتٍ مِنَ الوُجُودِ المَعنَوِيِّ والعِلمِيِّ.

مَثلًا: تُعطَى الحُرُوفُ المَطبَعِيّةُ تَرتِيبًا مُعَيَّنًا ووَضْعًا خاصًّا كي تُطبَعَ بها صَحِيفةٌ مُعَيَّنةٌ، فصُورةُ تلك الصَّحِيفةِ الواحِدةِ وهُوِيَّتُها تُعطَى إلى صَحائِفَ مَطبُوعةٍ مُتَعدِّدةٍ، وتُنشَرُ مَعانِي ما فيها إلى عُقُولٍ كَثِيرةٍ، وبَعدَ ذلك تَتَبدَّلُ أَوْضاعُ تلك الحُرُوفِ وتُغيَّرُ، لِانتِفاءِ الحاجةِ إلَيْها، ولِلحاجةِ إلى تَنضِيدِ صَحائِفَ أُخرَى بتلك الحُرُوفِ.

وهكذا، فإنَّ قَلَمَ القَدَرِ الإِلٰهِيِّ يُعطِي هذه المَوجُوداتِ الأَرضِيّةَ، ولا سِيَّما النَّباتيّةَ مِنها، تَرتِيبًا مُعَيَّنًا ووَضْعًا مُعَيَّنًا، والقُدْرةُ الإلٰهِيّةُ تُوجِدُها في صَحِيفةِ مَوسِمِ الرَّبِيعِ، فتُعبِّرُ عن مَعانِيها الجَمِيلةِ؛ وحَيثُ إنَّ صُوَرَها وهُوِيّاتِها تُنقَلُ إلى سِجِلِّ عالَمِ الغَيبِ، كعالَمِ المِثالِ، فإنَّ الحِكْمةَ تَقتَضِي أن يَتَبدَّلَ ذلك الوَضعُ، كي تُكتَبَ صَحِيفةٌ جَدِيدةٌ لِلرَّبِيعِ المُقبِلِ لِتُعبِّرَ عن مَعانِيها كَذلِك.

[الإشارة الثانية: كل موجودٍ يفنى يُنتج حقائق غيبية]

الإِشارةُ الثَّانيةُ:

(وثَانِيًا: مَعَ إِنتَاجِ الحَقَائِقِ الغَيبِيَّةِ والنُّسُوجِ اللَّوْحِيَّةِ).

هذه الفِقْرةُ تُشِيرُ إلى أنَّ كلَّ شَيءٍ، سَواءٌ أكانَ جُزئيًّا أم كُلِّيًّا، بَعدَ ذَهابِه مِنَ الوُجُودِ (ولا سِيَّما إن كان ذا حَياةٍ) يُنتِجُ حَقائِقَ غَيبِيّةً كَثِيرةً، فَضْلًا عن أنَّه يَدَعُ صُوَرًا بعَدَدِ أَطوارِ حَياتِه في الأَلواحِ المِثاليّةِ، الَّتي هِيَ في سِجِلّاتِ عالَمِ المِثالِ، فيُكتَبُ تارِيخُ حَياتِه ذُو المَغزَى مِن تلك الصُّوَرِ، والَّذي يُسمَّى بالمُقدَّراتِ الحَياتيّةِ، ويكُونُ في الوَقتِ نَفسِه مَوضِعَ مُطالَعةِ الرُّوحانيّاتِ، بَعدَ ذَهابِه مِنَ الوُجُودِ.

مِثالُ ذلك: إنَّ زَهرةً مَّا تَذبُلُ ثمَّ تَرحَلُ مِنَ الوُجُودِ، إلّا أنَّها تَتْرُكُ مِئاتٍ مِنَ البُذَيراتِ في الوُجُودِ، وتَدَعُ ماهِيَّتَها في تلك البُذَيراتِ، فَضْلًا عن أنَّها تَتْرُكُ أُلُوفًا مِن صُوَرِها في أَلواحٍ مَحفُوظةٍ صَغِيرةٍ، وفي القُوَى الحافِظةِ الَّتي هي نَماذِجُ مُصَغَّرةٌ لِلأَلواحِ المَحفُوظةِ، فتَستَقرِئُ ذَوِي الشُّعُورِ التَّسبِيحاتِ الرَّبّانيّةَ ونُقُوشَ الأَسماءِ الحُسنَى الَّتي أَدَّتْها في أَطْوارِ حَياتِها.. ومِن بَعدِ ذلك تَرحَلُ عنِ الوُجُودِ.

وهكَذا، فإنَّ مَوسِمَ الرَّبِيعِ المُزدانِ بالمَصنُوعاتِ الجَمِيلةِ على سَطحِ الأَرضِ الشَّبِيهِ بمَزهَرةٍ عَظِيمةٍ، إنَّما هو زَهرةٌ ناضِرةٌ تَزُولُ في الظَّاهِرِ، وتَذهَبُ إلى العَدَمِ؛ بَيدَ أنَّه -أيِ الرَّبِيعَ- يَتْرُكُ الحَقائِقَ الغَيبِيّةَ الَّتي أَفادَها بعَدَدِ بُذُورِه، ويَتْرُكُ الهُوِيّاتِ المِثاليّةَ الَّتي نَشَرَها بعَدَدِ الأَزاهِيرِ، ويَدَعُ الحِكَمَ الرَّبّانيّةَ الَّتي أَظهَرَها بعَدَدِ المَوجُوداتِ.. فيَتْرُكُ الرَّبِيعُ كلَّ أَنواعِ الوُجُودِ هذه، ثمَّ يَغِيبُ عن أَنظارِنا.

زِدْ على ذلك فإنَّه يُفرِغُ المَكانَ لِأَقرانِه مِن جُمُوعِ الرَّبِيعِ الَّتي ستَأْتِي إلى الوُجُودِ لِتُؤَدِّيَ وَظائِفَها، بمَعنَى أنَّ ذلك الرَّبِيعَ يَخلَعُ وُجُودًا ظاهِرِيًّا ويَلبَسُ أَلفًا مِنَ الوُجُودِ مَعنًى.

[الإشارة الثالثة: الموجودات الجميلة آلات لتشكيل مناظر سرمدية]

الإِشارةُ الثَّالثةُ: (وثَالِثًا: مَعَ نَشرِ الثَّمَرَاتِ الأُخرَوِيَّةِ والمَنَاظِرِ السَّرمَدِيَّةِ).

هذه الفِقرةُ تُفِيدُ أنَّ الدُّنيا مَزرَعةٌ ومَعمَلٌ يُنتِجُ المَحاصِيلَ الَّتي تُناسِبُ سُوقَ الآخِرةِ.

إذ كما أنَّ أَعمالَ الجِنِّ والإِنسِ تُرسَلُ إلى سُوقِ الآخِرةِ، كَذلِك تُؤدِّي بَقِيّةُ المَوجُوداتِ في الدُّنيا أَعمالًا كَثِيرةً أَيضًا في سَبِيلِ الآخِرةِ وتُنشِئُ مَحاصِيلَ وَفِيرةً لها، بل تَسِيحُ كُرةُ الأَرضِ لِأَجلِ هذا، بل يَصِحُّ القَولُ: إنَّه لِأَجلِ تلك الحِكمةِ تَقطَعُ هذه السَّفِينةُ الرَّبّانيّةُ مَسافةَ أَربَعةٍ وعِشرِينَ أَلفَ سَنةٍ في سَنةٍ واحِدةٍ، وتَدُورُ حَولَ مَيدانِ الحَشرِ.. كما أَثبَتْنا في “كَلِماتٍ” كَثِيرةٍ.

مَثلًا: لا شَكَّ أنَّ أَهلَ الجَنّةِ يَرغَبُونَ أن يَتَذاكَرُوا خَواطِرَهُم في الدُّنيا، ويَتَحاوَرُوا فيما بَينَهُم حَولَ ذِكرَياتِها، ورُبَّما يَتَلهَّفُونَ لِرُؤيةِ أَلواحِ (مَشاهِدِ) تلك الذِّكرَياتِ والحَوادِثِ ومَناظِرِها، إذ يَستَمتِعُونَ كَثِيرًا بمُشاهَدةِ تلك الحَوادِثِ وتلك الأَلواحِ كمَن يَستَمتِعُ بمُشاهَدةِ المَناظِرِ على شاشةِ السِّينَما.

فما دامَ الأَمرُ هكذا، فالجَنّةُ الَّتي هي دارُ اللَّذّةِ ومَنزِلُ السَّعادةِ تُوجَدُ فيها لا مَحالةَ المَناظِرُ السَّرمَدِيّةُ لِمُحاوَراتِ الأَحداثِ الدُّنيَوِيّةِ ومَناظِرُ أَحداثِها.. كما تُشِيرُ إلى ذلك الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾.

وهكذا، فإنَّ فَناءَ هذه المَوجُوداتِ الجَمِيلةِ بَعدَ ظُهُورِها في آنٍ واحِدٍ، وتَعاقُبِ بَعضِها بَعضًا، يُبيِّنُ كأنَّما هي آلاتُ مَعمَلٍ لِتَشكِيلِ المَناظِرِ السَّرمَدِيّةِ.

مِثالٌ: إنَّ أَهلَ المَدَنيّةِ يَلتَقِطُونَ صُوَرَ الأَوضاعِ الغَرِيبةِ والجَمِيلةِ ويُهدُونَها إلى أَبناءِ المُستَقبَلِ تَذْكارًا لَهُم، كما هو على شاشةِ السِّينَما، فيَمنَحُونَ نَوعًا مِنَ البَقاءِ لِأَوضاعٍ فانيةٍ، ويُدرِجُونَ الزَّمانَ الماضِيَ ويُظهِرُونَه في الزَّمانِ الحاليِّ وفي المُستَقبَلِ. كَذلِك هذه المَوجُوداتُ الرَّبِيعيّةُ والدُّنيَوِيّةُ عامّةً، بَعدَ قَضاءِ حَياةٍ قَصِيرةٍ، كما يُدَوِّنُ صانِعُها الحَكِيمُ غاياتِها الَّتي تَخُصُّ عالَمَ البَقاءِ في ذلك العالَمِ، كَذلِك يُسَجِّلُ الوَظائِفَ الحَياتيّةَ والمُعجِزاتِ السُّبحانيّةَ الَّتي أَدَّتْها في أَطْوارِ حَياتِها، في مَناظِرَ سَرمَدِيّةٍ، وذلك بمُقتَضَى اسمِ اللهِ الحَكِيمِ والرَّحِيمِ والوَدُودِ.

[الإشارة الرابعة: لا تعارض بين الأسماء الإلهية وبين زوال الموجودات]

الإشارةُ الرَّابِعة: (ورَابِعًا: مَعَ إعلَانِ التَّسبِيحَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ وإظهَارِ المُقتَضَيَاتِ الأسمَائِيَّةِ).

هذه الفِقرةُ تُفِيدُ أنَّ المَوجُوداتِ تُؤَدِّي أَنواعًا مِنَ التَّسبِيحاتِ الرَّبَّانِيَّةِ في أَطوارِ حَياتِها، وتُظهِرُ ما تَستَلزِمُه الأَسماءُ الإلٰهِيّةُ وتَقتَضِيها مِن حالاتٍ.

مَثلًا: يَقتَضِي اسمُ الرَّحِيمِ الإِشفاقَ، ويَقتَضِي اسمُ الرَّزّاقِ إِعطاءَ الرِّزقِ، ويَستَلزِمُ اسمُ اللَّطِيفِ التَّلطِيفَ، وهكَذا.. فكُلُّ اسمٍ مِنَ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ له مُقتَضًى، وكلُّ ذِي حَياةٍ يُبيِّنُ مُقتَضَى تلك الأَسماءِ، بحَياتِه ووُجُودِه، وهُو في الوَقتِ نَفسِه يُسَبِّحُ للهِ الحَكِيمِ بعَدَدِ أَجهِزَتِه.

مَثلًا: إذا أَكَل الإِنسانُ فَواكِهَ طَيِّبةً، فإنَّها تَتَجزَّأُ وتَتَلاشَى في مَعِدَتِه وتُهضَمُ وتُمحَى ظاهِرًا، إلّا أنَّها تُعطِي كلَّ خَلِيّةٍ مِن خَلايا جِسمِه لَذّةً وذَوْقًا ضِمنَ فَعّاليّةٍ، فَضْلًا عنِ الفَم والمَعِدةِ، وتكُونُ مَدارَ حِكَمٍ كَثِيرةٍ جِدًّا كإِنماءِ الحَياةِ في أَقطارِ الجِسمِ وإِدامَتِها، والطَّعامُ نَفسُه يَرقَى مِنَ الوُجُودِ النَّباتِيِّ إلى مَرتَبةِ حَياةِ الإِنسانِ.

كَذلِك عِندَما تَختَفِي المَوجُوداتُ وَراءَ سِتارِ الزَّوالِ، تَظَلُّ بَدَلًا عنها تَسبِيحاتٌ باقِيةٌ كَثِيرةٌ جِدًّا لِكُلِّ مَوجُودٍ مِنَ المَوجُوداتِ وتُودِعُ نُقُوشَ كَثِيرٍ مِنَ الأَسماءِ الإِلٰهِيّةِ ومُقتَضَياتِها في يَدِ تلك الأَسماءِ، أي: تُودِعُها إلى وُجُودٍ باقٍ.. وهكذا تَمضِي وتَرحَلُ.. تُرَى لو بَقِيَت أُلُوفٌ مِن أَنواعِ الوُجُودِ -الَّتي نالَت نَوعًا مِنَ البَقاءِ- بَدِيلًا عن ذَهابِ وُجُودٍ مُؤقَّتٍ فانٍ، أَيُمكِنُ أن يُقالَ: يا حَسْرةً على ذلك الوُجُودِ المُؤقَّتِ! أو أنَّه مَضَى إلى عَبَثٍ! أو: لِمَ رَحَل هذا المَخلُوقُ اللَّطِيفُ؟! أَفيُمكِنُ أن يُشتَكَى على هذه الصُّورةِ؟! بل إنَّ الرَّحْمةَ والحِكْمةَ والمَحَبّةَ في حَقِّ ذلك المَخلُوقِ تَقتَضِي هذا، بل لا بُدَّ أن يَحدُثَ هكذا، وإلّا يَلزَمُ تَركُ أُلُوفِ المَنافِعِ لِلحَيلُولةِ دُونَ حُدُوثِ ضَرَرٍ واحِدٍ، وعِندَئِذٍ تَحدُثُ أُلُوفُ الأَضرارِ!

بمَعنَى أنَّ الأَسماءَ الحُسنَى: الرَّحِيمَ، الحَكِيمَ، الوَدُودَ، تَستَلزِمُ مُضِيَّ المَوجُوداتِ وَراءَ أَستارِ الزَّوالِ والفِراقِ وتَقتَضِيهِما ولا تُعارِضُهُما.

[الإشارة الخامسة: في فناء الأشياء ظاهرًا وجودٌ من نوع رفيع]

الإِشارةُ الخامِسةُ: (وخَامِسًا: لِظُهُورِ الشُّؤُونَاتِ السُّبحَانِيَّةِ والمَشَاهِدِ العِلمِيَّةِ)

تُفِيدُ هذه الفِقرةُ أنَّ المَوجُوداتِ -ولا سِيَّما الأَحياءَ مِنها- بَعدَ ارتِحالِها مِن وُجُودِها الظَّاهِرِيِّ تَتْرُكُ كَثِيرًا مِنَ الأُمُورِ الباقِيةِ ثُمَّ تَمضِي إلى شَأْنِها.

وقد بَيَّنّا في الرَّمزِ الثَّاني أنَّ في شُؤُونِ الرُّبُوبيّةِ مَحَبّةً مُطلَقةً وشَفَقةً مُطلَقةً وافتِخارًا مُطلَقًا -إن جازَ التَّعبِيرُ- ورِضًا مُقدَّسًا مُطلَقًا وسُرُورًا مُقدَّسًا مُطلَقًا -إن جازَ التَّعبِيرُ- ولَذّةً مُقدَّسةً مُطلَقةً وفَرَحًا مُنَزَّهًا مُطلَقًا بما يَلِيقُ بذاتِه الجَلِيلةِ المُقدَّسةِ ويُوافِقُ تَعاليَه وتَنزُّهَه وتَقدُّسَه سُبحانَه، إذ تُشاهَدُ آثارُ تلك الشُّؤُونِ المُنزَّهةِ، لِأنَّ ما تَقتَضِيه تلك الشُّؤُونُ هو سَوقُ المَوجُوداتِ بسُرعةٍ في فَعّاليّةِ مُحَيِّرةٍ، ضِمنَ تَبدِيلٍ وتَغيِيرٍ وزَوالٍ وفَناءٍ، فتُرسَلُ -المَوجُوداتِ- باستِمرارٍ مِن عالَمِ الشَّهادةِ إلى عالَمِ الغَيبِ.. فالمَخلُوقاتُ ضِمنَ تَجَلِّياتِ تلك الشُّؤُونِ الرَّبّانيّةِ في سَيرٍ وسِياحةٍ دائِمَينِ، في حَرَكةٍ وجَوَلانٍ مُستَمِرَّينِ.. فهِي بهذه السِّياحةِ والحَرَكةِ الدَّائِمَتَينِ تَملَأُ آذانَ أَهلِ الغَفلةِ بنَعَياتِ الفِراقِ والزَّوالِ، وتُشَنِّفُ أَسماعَ أَهلِ الإِيمانِ بنَغَماتِ الذِّكرِ والتَّسبِيحِ.

وبِناءً على هذا السِّرِّ، فما مِن مَوجُودٍ يَرحَلُ عنِ الوُجُودِ إلّا ويَتْرُكُ في الوُجُودِ مِنَ المَعاني والكَيفِيّاتِ والحالاتِ ما يكُونُ مَدارًا باقِيًا لِظُهُورِ شُؤُونٍ باقيةٍ لِواجِبِ الوُجُودِ سُبحانَه.

ثمَّ إنَّ ما قَضاه ذلك المَوجُودُ مِن أَطوارٍ وأَحوالٍ، يَتْرُكُه عِندَما يَرحَلُ وُجُودًا مُفَصَّلًا -يُمثِّـلُ وُجُودَه الخارِجِيَّ- في دَوائِرِ الوُجُودِ العِلمِيِّ مِن أَمثالِ الإِمامِ المُبِينِ والكِتابِ المُبِينِ واللَّوحِ المَحفُوظِ، تلك الدَّوائِرِ الَّتي هي عَناوِينُ العِلمِ الأَزَليِّ.

فكُلُّ فانٍ إِذًا يَتْرُكُ وُجُودًا، ويَكسِبُ لِنَفسِه ولِغَيرِه أُلُوفًا مِن أَنواعِ الوُجُودِ.

مَثلًا: تُلقَى مَوادُّ اعتِيادِيّةٌ إلى ماكِينةِ مَصنَعٍ عَظِيمٍ، فتَحتَرِقُ تلك المَوادُّ وتُمحَى ظاهِرًا، ولكِن تَتَرسَّبُ مَوادُّ كِيمياوِيّةٌ ثَمِينةٌ وأَدْوِيةٌ مُهِمّةٌ في أَنابِيقِ ذلك المَصنَعِ، فَضْلًا عن قِيامِ قُوّةِ بُخارِها بتَحرِيكِ دَوالِيبِ ذلك المَعمَلِ مِمّا يُؤَدِّي إلى نَسجِ الأَقمِشةِ مِن جِهةٍ وطَبعِ الكُتُبِ مِن جِهةٍ أُخرَى وإِنتاجِ السُّكَّرِ مِن جِهةٍ أُخرَى مَثلًا.

بمَعنَى: أنَّ في احتِراقِ تلك المَوادِّ الِاعتِيادِيّةِ وفَنائِها الظّاهِرِيِّ تَجِدُ أُلُوفُ الأَشياءِ الوُجُودَ.

بمَعنَى: يَذهَبُ وُجُودٌ اعتِيادِيٌّ ويَفنَى، ولكِن يُورِثُ أَنواعًا مِن وُجُودٍ رَفِيعٍ.

فهل يُقالُ في مِثلِ هذه الحالةِ: يا خَسارةَ تلك المَوادِّ الِاعتِيادِيّةِ؟! أَفيُشكَى هكَذا؟ أيُقالُ: لِمَ لَمْ يَرْأَفْ صاحِبُ المَصنَعِ بحالِ تلك المَوادِّ وحَرَّقَها ومَحاها؟

﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ إنَّ الخالِقَ الحَكِيمَ والرَّحِيمَ والوَدُودَ، يُشغِّلُ مَصنَعَ الكائِناتِ جاعِلًا مِن كُلِّ وُجُودٍ فَانٍ نَواةً لِأَنواعٍ مِنَ الوُجُودِ البَاقي، ومَدارًا لِإِظهارِ مَقاصِدِه الرَّبّانيّةِ، مُظهِرًا به شُؤُونَه السُّبحانيّةَ، مُتَّخِذًا إِيّاه مِدادًا لِقَلَمِ قَدَرِه، ومَكُّوكًا لِنَسجِ قُدرَتِه، وذلك بمُقتَضَى الرَّحْمةِ والحِكْمةِ والوَدُودِيّةِ؛ فيَدفَعُ سُبحانَه بفَعّاليّةِ قُدرَتِه الكائِناتِ لِتُؤدِّيَ مَهامَّها وفَعَّاليَّاتِها لِأَجلِ كَثِيرٍ مِمَّا لا نَعرِفُه مِن عِناياتٍ غالِيةٍ ومَقاصِدَ عالِيةٍ، فيَسُوقُ بتلك الفَعَّاليّةِ المَوجُوداتِ كُلَّها حتَّى يَجعَلُ الذَّرَّاتِ تَجُولُ جَوَلانًا، والمَوجُوداتِ تَسِيرُ سَيَرانًا، والحَيَواناتِ تَسِيلُ سَيَلانًا، والسَّيّاراتِ تَدُورُ دَوَرانًا.. فيَجعَلُ الكَونَ يَتكلَّمُ ويَنطِقُ ويَتلُو آياتِ خالِقِه بصَمتٍ ويَكتُبُها.

ومِن حَيثُ رُبُوبيَّتُه لِلمَخلُوقاتِ الأَرضِيّةَ، جَعَل الهَواءَ نَوعًا مِن عَرشٍ لِأَمرِه وإِرادَتِه، وعُنصُرَ النُّورِ عَرشًا آخَرَ لِعِلمِه وحِكْمَتِه، والماءَ عَرشًا آخَرَ لِإِحسانِه ورَحْمَتِه، والتُّرابَ نَوعًا مِن عَرشٍ لِحِفْظِه وإِحيائِه؛ ويُسَيِّرُ ثَلاثةً مِن تلك العُرُوشِ فَوقَ المَخلُوقاتِ الأَرضِيّةِ.

فاعْلَمْ عِلْمًا قاطِعًا أنَّ الحَقِيقةَ السّامِيةَ الَّتي بُيِّنَت في هذه الرُّمُوزِ الخَمسةِ والإِشاراتِ الخَمسِ إنَّما تُشاهَدُ بنُورِ القُرآنِ ولا تُمتَلَكُ إلّا بقُوّةِ الإِيمانِ، وإلّا ستَعُمُّ ظُلُماتٌ مُرعِبةٌ بَدَلًا مِن تلك الحَقِيقةِ الباقِيةِ، وتَمتَلِئُ الدُّنيا لِأَهلِ الضَّلالةِ بأَلوانِ الفِراقِ وأَصنافِ الزَّوالِ، وتَطفَحُ بأَنواعِ العَدَمِ، ويُصبِحُ الكَونُ بالنِّسبةِ له جَحِيمًا مَعنَوِيًّا لا يُطاقُ، إذ إنَّ كلَّ شَيءٍ بالنِّسبةِ إلَيْه عِبارةٌ عن وُجُودٍ آنِيٍّ وعَدَمٍ لا يُحَدُّ، فالماضِي والمُستَقبَلُ جَمِيعًا مَملُوءانِ بظُلُماتِ العَدَمِ.. فلا يَجِدُ الضَّالُّ إلّا نُورًا كَئِيبًا حَزِينًا في حالِه الحاضِرةِ وهِي زَمانٌ قَصِيرٌ جِدًّا.

ولكِن ما إِن يَأْتي سِرُّ القُرآنِ ونُورُ الإِيمانِ إذا بنُورِ وُجُودٍ يُشاهَدُ مِنَ الأَزَلِ إلى الأَبدِ فيَتَعلَّقُ به ويُحَقِّقُ به سَعادَتَه الأَبدِيّةَ.

خُلاصةُ الكَلامِ: نَقُولُ كما قال (نِيازِي المِصرِيّ):

لو كانَ النَّفَسُ بَحرًا زاخِرًا..

وتَقَطَّع هذا الصَّدرُ إِرَبًا إِرَبًا..

أُناجِي إلى أن يُبَحَّ هذا الصَّوتُ..

وأَقُولُ: يا حَقُّ يا مَوجُودُ، يا حَيُّ يا مَعبُودُ..

يا حَكِيمُ يا مَقصُودُ، يا رَحِيمُ يا وَدُودُ..

وأَقُولُ صارِخًا: لا إلٰهَ إلّا اللهُ المَلِكُ الحَقُّ المُبِينُ.. مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ الصّادِقُ الوَعدِ الأَمِينُ.

وأَعتَقِدُ جازِمًا وأُثبِتُ: أَنَّ البَعْثَ بَعْدَ المَوتِ حَقٌّ، والجَنَّةَ حَقٌ، والنَّارَ حَقٌّ، وأَنَّ السَّعَادَةَ الأَبَدِيَّةَ حَقٌّ، وأَنَّ اللهَ رَحِيمٌ حَكِيمٌ وَدُودٌ، وأَنَّ الرَّحْمَةَ والحِكْمَةَ والمَحَبَّةَ مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ الأَشْيَاءِ وشُؤُونَاتِهَا.

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾

﴿اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَاةً تَكُونُ لَكَ رِضَاءً ولِحَقِّه أَدَاءً وعَلَى آلِه وصَحْبِه وسَلِّمْ.. آمِينَ.. والحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ﴾

سُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ حَدِيقَةَ أَرْضِه مَشْهَرَ صَنْعَتِه، مَحْشَرَ خِلْقَتِه، مَظْهَرَ قُدْرَتِه، مَدَارَ حِكْمَتِه، مَزْهَرَ رَحْمَتِه، مَزْرَعَ جَنَّتِه، مَمَرَّ المَخْلُوقَاتِ، مَسِيلَ المَوْجُودَاتِ، مَكِيلَ المَصْنُوعَاتِ.

فمُزَيَّنُ الحَيَوانَاتِ.. مُنَقَّشُ الطُّيُورَاتِ.. مُثَمَّرُ الشَّجَرَاتِ.. مُزَهَّرُ النَّبَاتَاتِ: مُعْجِزَاتُ عِلْمِه، خَوَارِقُ صُنْعِه، هَدَايَا جُودِه، بَرَاهِينُ لُطْفِه، دَلَائِلُ الوَحْدَةِ، لَطَائِفُ الحِكْمَةِ، شَوَاهِدُ الرَّحْمَةِ.

تَبَسُّمُ الأَزْهَارِ مِنْ زينَةِ الأَثْمَارِ.. تَسَجُّعُ الأَطْيَارِ في نَسَمَةِ الأَسْحَارِ.. تَهَزُّجُ الأَمْطَارِ عَلَى خُدُودِ الأَزْهَارِ.. تَزَيُّنُ الأَزْهَارِ، تَبَرُّجُ الأَثْمَارِ في هَذِهِ الجِنَانِ.. تَرَحُّمُ الوَالِدَاتِ عَلَى الأَطْفَالِ الصِّغَارِ في كُلِّ الحَيَوَانَاتِ والإِنْسَانِ: تَعَرُّفُ وَدُودٍ.. تَوَدُّدُ رَحْمٰنٍ.. تَرَحُّمُ حَنَّانٍ.. تَحَنُّنُ مَنَّانٍ لِلْجِنِّ والإِنْسَانِ والرُّوحِ والحَيَوَانِ والمَلَكِ والجَانّ.

❀   ❀   ❀

[الذيل الأول: خمس نكات بخصوص الدعاء]

الذَّيل الأوَّل‌

للمَكتُوب الرَّابع والعِشرِين‌

﴿بِاسْمِهِ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾

اِستَمِعْ إلى خَمْس نِكاتٍ مِن نِكاتِ هذه الآيةِ:

[النكتة الأولى: الدعاء مخ العبادة، وهو ثلاثة أنواع]

النُّكتة الأولى:‌ اِعْلَمْ أنَّ الدُّعاءَ سِرٌّ عَظِيمٌ لِلعِبادةِ، بل هو مُخُّ العِبادةِ ورُوحُها، والدُّعاءُ -مِثلَما ذَكَرناه في مَواضِعَ أُخرَى كَثِيرةٍ- على أَنواعٍ ثَلاثةٍ:

[النوع الأول: الدعاء بلسان القابلية والاستعداد]

النُّوعُ الأوَّل مِنَ الدُّعاءِ:‌ هو دُعاءٌ بلِسانِ الِاستِعدادِ والقابِليّةِ المُوْدَعةِ في الشَّيءِ؛ فالحُبُوبُ والنُوَيَّاتُ جَمِيعُها تَسأَلُ فاطِرَها الحَكِيمَ بلِسانِ استِعدادِها وقابلِيّاتِها المُودَعةِ فيها قائِلةً: اللَّهُمَّ يا خالِقَنا هَيِّئْ لنا نُمُوًّا نَتَمكَّنُ به مِن إِبرازِ بَدائِعِ أَسمائِك الحُسنَى، فنَعرِضُها أَمامَ الأَنظارِ.. فحَوِّلِ اللَّهُمَّ حَقِيقَتَنا الصَّغِيرةَ إلى حَقِيقةٍ عَظِيمةٍ.. تلك هي حَقِيقةُ الشَّجَرةِ والسُّنبُلِ.

[صورة من الدعاء بلسان الاستعداد]

وثَمّةَ دُعاءٌ مِن هذا النَّوعِ -أي: بلِسانِ الِاستِعدادِ- هو اجتِماعُ الأَسبابِ، فاجتِماعُ الأَسبابِ دُعاءٌ لِإِيجادِ المُسَبَّبِ، أي: أنَّ الأَسبابَ تَتَّخِذُ وَضْعًا مُعَيَّنًا وحالةً خاصَّةً بحَيثُ تكُونُ كلِسانِ حالٍ يَطلُبُ المُسبَّبَ مِنَ القَدِيرِ ذِي الجَلالِ، فمَثلًا: يَتَّخِذ كلٌّ مِنَ الماءِ والحَرارةِ والتُّرابِ والضَّوءِ حالةً مُعيَّنةً حَولَ البِذرةِ حتَّى تكُونَ تلك الحالةُ كأنَّها لِسانٌ يَنطِقُ بالدُّعاءِ قائِلًا : اللَّهُمَّ يا خالِقَنا.. اجْعَلْ هذه البِذرةَ شَجَرةً.

نعم، إنَّ الشَّجَرةَ الَّتي هي مُعجِزةُ قُدرةٍ إِلٰهِيّةٍ خارِقةٍ لا يُمكِنُ بحالٍ مِنَ الأَحوالِ أن يُفوَّضَ أَمرُها ويُسنَدَ خَلقُها إلى تلك المَوادِّ البَسِيطةِ الجامِدةِ الفاقِدةِ للشُّعُورِ، بل مُحالٌ إِحالَتُها إلى تلك الأَسبابِ.. فاجتِماعُ الأَسبابِ إذًا إنَّما هو نَوعٌ مِنَ الدُّعاء.

[النوع الثاني: الدعاء بلسان الفطرة]

النَّوعُ الثَّاني مِنَ الدُّعاء:‌ هو الدُّعاءُ الَّذي يُرفَعُ بلِسانِ حاجةِ الفِطْرةِ، فالكائِناتُ الحَيّةُ جَمِيعُها تَطلُبُ مَطالِيبَها وتَسأَلُ حاجاتِها الخارِجةَ عن طَوقِها واختِيارِها مِن خالِقِها الرَّحِيمِ، وتُستَجابُ لها مَطالِيبُها وحاجاتُها في أَنسَبِ وَقتٍ ومِن حَيثُ لا تَحتَسِبُ، إذ إنَّ أَيدِيَها قاصِرةٌ عن أن تَصِل إلى ما تُرِيدُ أو دَفْعِ حاجةٍ لها، فإِرسالُ كلِّ ما تَطلُبُه إذًا ممّا هو خارِجٌ عن طَوقِها واختِيارها وفي أَنسَبِ وَقتٍ ومِن حَيثُ لا تَحتَسِبُ، إنَّما هو مِن قِبَل حَكِيمٍ رَحِيمٍ؛ وإِغداقُ هذا الإِحسانِ والإِنعامِ ما هو إلّا استِجابةٌ لِدُعاءٍ فِطرِيٍّ.

الحاصِلُ: أنَّ ما يَصعَدُ مِن جَمِيعِ الكائِناتِ إلى الحَضْرةِ الإلٰهِيّةِ إنَّما هو الدُّعاءُ، فالمَوجُوداتُ الَّتي هي مِن قَبِيلِ الأَسبابِ تَسأَلُ القَدِيرَ العَلِيمَ المُسبَّباتِ.

[النوع الثالث: دعاء ذوي الشعور]

النَّوعُ الثّالثُ مِنَ الدُّعاءِ:‌ هو الدُّعاءُ الَّذي يَسأَلُه ذَوُو الشُّعُورِ لِتَلبيةِ حاجاتِهم، وهذا الدُّعاءُ نَوعانِ أَيضًا:

[قسم أول: دعاء المضطر]

فالقِسمُ الأوَّل: مُستَجابٌ على الأَغلَبِ إنْ كان قد بلَغَ دَرَجةَ الِاضطِرارِ، أو كان ذا عَلاقةٍ قَوِيّةٍ معَ حاجةِ الفِطرةِ ومُتَوافِقًا معَها، أو كان قَرِيبًا مِن لِسانِ الِاستِعدادِ والقابِليّة، أو كان خالِصًا صَافِيًا نابِعًا مِن صَميمِ القَلبِ.

إنَّ ما أَحرَزَه الإنسانُ من رُقيٍّ، وما نالَ مِن كُشُوفاتٍ ما هو إلّا نَتِيجةُ هذا النَّوعِ مِنَ الدُّعاءِ، إذ ما يُطلِقُونَ علَيْه مِن خَوارِقِ الحَضارةِ والأُمُورِ التي يَحسَبُونها مَدارَ افتِخارِ اكتِشافاتِهِم ما هو إلّا ثَمَرةُ هذا الدُّعاءِ المَعنَويِّ الَّذي سأَلَتْه البَشَرِيّةُ بلِسانِ استِعدادٍ خالِصٍ فاستُجِيبَ لها؛ فما مِن دُعاءٍ يُسأَلُ بلِسانِ الِاستِعدادِ وبلِسانِ حاجةِ الفِطرةِ إلّا استُجِيبَ إن لم يكُن هُناك مانِعٌ، وكان ضِمنَ شَرائِطِه المُعيَّنةِ.

[قسم ثان: الدعاء المعروف الشائع]

أمّا القِسمُ الثَّاني: فهُو الدُّعاءُ المَعرُوفُ لَدَيْنا، وهذا أَيضًا فَرعانِ:

أَحَدُهُما: فِعلِيٌّ، والآخَرُ: قَوليٌّ.

فمَثلًا: حَرْثُ الأَرضِ نَوعٌ مِن دُعاءٍ فِعلِيٍّ، يَطلُبُ الإنسانُ الرِّزقَ مِن رَزّاقِه الحَكِيمِ، يَطلُبُه مِنه، لا مِنَ التُّرابِ، فالتُّرابُ بابٌ لِخَزينةِ رَحْمَتِه الواسِعةِ لَيسَ إلّا، يَطرُقُه الإِنسانُ بالمِحراثِ.

سنَطْوِي تَفاصِيلَ الأَقسامِ الأُخرَى، ونَذكُرُ بِضعةَ أَسرارٍ لِلدُّعاءِ “القَوليّ”، وذلك في بِضعِ نِكاتٍ آتية.

[النكتة الثانية: تأثير الدعاء عظيم]

النُّكتة الثَّانية: اِعلَمْ أنَّ تَأثيرَ الدُّعاءِ عَظِيمٌ، ولا سِيمَّا إذا دامَ واكتَسَب الكُلِّيّةَ، فهذا الدُّعاءُ يُثمِرُ على الأَغلَبِ ويُستَجابُ دائمًا؛ حتى يَصِحُّ أن يُقالَ: إنَّ سَبَبَ خَلْقِ العالَمِ إنَّما هو دُعاءٌ، حَيثُ إنَّ الدُّعاءَ العَظِيمَ لِلرَّسُولِ الأَعظَمِ ﷺ وهُو يَتَقدَّم العالَمَ الإِسلامِيَّ الَّذي يَدعُو الدُّعاءَ نَفسَه، وهُم يَتقدَّمُونَ البَشَريّةَ جَمعاءَ الَّتي تَسأَلُ الدُّعاءَ نَفسَه.. ذلك الدُّعاءُ سَبَبٌ مِن أَسبابِ خَلقِ العالَمِ. أي إنَّ رَبَّ العالَمِينَ قد عَلِم بعِلمِه الأَزَليِّ أنَّ ذلك الرَّسُولَ الكَرِيمَ ﷺ سيَسأَلُه السَّعادةَ الأَبَدِيّةَ والحُظوةَ بتَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ أَسمائِه الحُسنَى، سيَسأَلُه باسمِ البَشَرِيّةِ قاطِبةً بل باسمِ المَوجُوداتِ.. فاستَجابَ سُبحانَه وتَعالَى لِذلِك الدُّعاءِ العَظِيمِ، فخَلَق هذا العالَمَ.

فما دامَ الدُّعاءُ قدِ اكتَسَب هذه الأَهمِّيّةَ العَظِيمةَ والسَّعةَ الشَّامِلةَ، فهل يُمكِنُ ألّا يُستَجابَ؟ وهل يُمكِنُ لِدُعاءٍ يَلهَجُ به مِئاتُ المَلايِينِ مِنَ البَشَرِ -في الأَقلِّ- ومُنذُ أَلفٍ وثَلاثِ مِئةِ سَنةٍ، يَدْعُونَه مُتَّفِقِينَ، في كلِّ حِينٍ، بل يَدعُو معَهُم كلُّ الطَّيِّبِينَ مِنَ الجِنِّ والمَلَكِ والرُّوحانيّاتِ مِمَّن لا يُحصَونَ ولا يُعَدُّون.. هل يُمكِن ألّا يُستَجابَ هذا الدُّعاءُ الَّذي يَدْعُونَه لِلرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ لِيَنالَ الرَّحمةَ الإلٰهِيّةَ العَظِيمةَ والسَّعادةَ الخالِدةَ.

فما دامَ قدِ اكتَسَب هذا الدُّعاءُ الكُلِّيّةَ والسَّعةَ والدَّوامَ إلى هذا الحَدِّ حتَّى بَلَغ دَرَجةَ لِسانِ الِاستِعدادِ وحاجةِ الفِطرةِ، فلا بُدَّ أنَّ ذلك الرَّسُولَ الكَرِيمَ مُحَمَّدَ بنَ عَبدِ اللهِ ﷺ قدِ اعتَلَى -نَتِيجةَ الدُّعاء- مَرتَبةً رَفِيعةً عالِيةً بحَيثُ لوِ اجتَمَعَتِ العُقُولُ جَمِيعًا لِلإِحاطةِ بحَقِيقةِ تلك المَرتَبةِ لَعَجَزَت عَجْزًا تامًّا.

فبُشْراكَ أيُّها المُسلِمُ.. إنَّ لك شَفِيعًا كَرِيمًا في يَومِ الحَشرِ الأَعظَمِ، هو هذا الرَّسُولُ الحَبِيبُ ﷺ… فاسْعَ لِنَيلِ شَفاعتِه باتِّباعِ سُنَّتِه المُطهَّرةِ.

[ما حاجة الرسول ﷺ إلى الدعاء له والصلاة عليه؟]

فإن قُلتَ: ما حاجةُ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ وهو حَبِيبُ ربِّ العالَمِينَ إلى هذه الكَثرةِ مِنَ الدُّعاءِ والصَّلَواتِ علَيْه؟

الجَوابُ: إنَّه ﷺ ذُو عَلاقةٍ قَوِيّةٍ معَ سَعادةِ أُمَّتِه قاطِبةً، فله حِصَّتُه مِمّا يَنالُه كلُّ فَردٍ مِن أَفرادِ أُمَّتِه مِن أَنواعِ السَّعادةِ، وهُو يَحزَنُ أَيضًا ويَتألَّمُ لِكُلِّ مُصِيبةٍ تُصِيبُهُم.

فعلى الرَّغمِ مِن أنَّ مَراتِبَ الكَمالِ والسَّعادةِ بحَقِّه لا حَدَّ لها، فإنَّ الَّذي يَرغَبُ رَغبةً شَدِيدةً في أن يَنالَ أَفرادُ أُمَّتِه الَّذين لا يُحَدُّون أَنواعًا لا تُحَدُّ مِنَ السَّعادةِ وفي أَزمانٍ لا تُحَدُّ، ويَتألَّمُ بأَنواعٍ لا حَدَّ لها مِن شَقائِهِم ومَصائبِهِم، لا بُدَّ أنَّه مُحتاجٌ وحَرِيٌّ به صَلَواتٌ لا حَدَّ لها، وأدعِيةٌ لا حَدَّ لها، ورَحْمةٌ لا حَدَّ لها.

[علاقة الدعاء بأمور تقع قطعًا أوْ لا يمكن وقوعها]

فإن قُلتَ: يُدعَى أَحيانًا بدُعاءٍ خالِصٍ لِأُمورٍ تَقَع قَطْعًا، كالدُّعاءِ في صَلاةِ الكُسُوفِ والخُسُوفِ، وقد يُدعَى أَحيانًا لِأُمورٍ لا يُمكِنُ وُقُوعُها.

الجَوابُ: لقد أَوْضَحْنا في “كَلِماتٍ أُخرَى”: أنَّ الدُّعاءَ نَوعٌ مِنَ العِبادةِ، حَيثُ يُعلِنُ الإنسانُ عَجْزَه وفَقْرَه بالدُّعاءِ؛ أمَّا المَقاصِدُ الظَّاهرِيَّةُ فهِي أَوقاتُ تلك الأَدعِيةِ والعِبادةِ الدُّعائيّة، وهي لَيسَت نَتائِجَ الأَدعِيةِ وفَوائِدَها الحَقِيقيّةَ، لِأنَّ فائِدةَ العِبادةِ وثَمَرتَها مُتَوجِّهةٌ إلى الآخِرةِ، أي: يَجنِيها الدّاعي في الآخِرةِ، لِذا لو لم تَحصُلِ المَقاصِدُ الدُّنيوِيّةُ الَّتي يتَضَمَّنُها الدُّعاءُ فلا يَجُوزُ القَولُ: إنَّ الدُّعاءَ لم يُستَجَب، وإنَّما يَصِحُّ القَولُ: إنَّه لم يَنقَضِ بَعدُ وَقتُ الدُّعاءِ.

فهل يُمكِنُ يا تُرى ألّا يُستَجابَ دُعاءٌ للسَّعادةِ الخالِدةِ، يَسأَلُها جَمِيعُ أَهلِ الإِيمانِ في جَمِيعِ الأَزمِنةِ، يَسأَلُونَه بإِلحاحٍ وخُلُوصِ نِيّةٍ وباستِمرارٍ؛ فهل يُمكِنُ ألّا يَقبَلَ الرَّحِيمُ المُطلَقُ والكَرِيمُ المُطلَقُ -الَّذي تَشهَدُ الكائِناتُ بسَعَةِ رَحْمتِه وشُمُولِ كَرَمِه- هذا الدُّعاءَ، وهل يُمكِنُ ألّا تَتحَقَّق تلك السَّعادةُ الأَبدِيّة!؟ كلَّا ثمَّ كلَّا.

[النكتة الثالثة: إجابة الدعاء القولي الاختياري على جهتَين]

النُّكتة الثَّالثة: إنَّ استِجابةَ “الدُّعاءِ القَوليِّ الِاختِياريِّ” تكُونُ بجِهَتَينِ:

فإمَّا أن يُستَجابَ الدُّعاءُ بعَينِه، أو بما هو أَفضَلُ مِنه وأَولَى.

فمَثلًا: يَدعُو أَحَدُهُم أن يَرزُقَه اللهُ مَولُودًا ذَكَرًا، فيَرزُقُه اللهُ تَعالَى مَولُودةً، كمَريمَ عَلَيهَا السَّلَام، فلا يُقالُ عِندَئذٍ: إنَّ دُعاءَه لم يُستَجَب، بل قد استُجِيبَ بما هو أَفضَلُ مِن دُعائِه.

ثمَّ إنَّ الإِنسانَ قد يَدعُو لِنَيلِ سَعادةٍ دُنيَويّةٍ، فيَستَجيبُ اللهُ له لِسَعادةٍ أُخرَوِيّةٍ، فلا يُقالُ: إنَّ دُعاءَه لم يُستَجَب، بل قدِ استُجِيبَ بما هو أَنفَعُ له… وهكذا.

فنَحنُ إذًا نَدعُوه سُبحانَه ونَسأَلُه وَحدَه، وهو يَستَجِيبُ لنا، إلّا أنه يَتَعامَلُ مَعَنا على وَفقِ حِكمَتِه لأنَّه حَكِيمٌ عَلِيمٌ.. فلا يَنبَغي لِلمَرِيضِ أن يَتَّهِم حِكْمةَ الطَّبِيبِ الَّذي يُعالِجُه، إذ رُبَّما يَطلُبُ مِنه أن يُداوِيَه بالعَسَلِ، فلا يُعطِيه الطَّبِيبُ إلّا دَواءً مُرًّا عَلْقمًا، لِعِلمِه أنَّه مُصابٌ بالحُمَّى؛ فلا يَحِقُّ للمَرِيضِ أن يقُولَ: الطَّبِيبُ لا يَستَجيبُ لِدُعائي، بل قدِ استَمَع لِأَنّاتِه وصُراخِه، وأَجابَه فِعلًا، وبأَفضَلَ مِنه.

[النكتة الرابعة: أجمل ثمرات الدعاء]

النُّكتة الرَّابعة: إنَّ أَطيَبَ ثَمَرةٍ حاضِرةٍ يَجنِيها المَرءُ مِنَ الدُّعاء وألَذَّها، وإنَّ أَجمَلَ نَتِيجةٍ آنيّةٍ يَحصُلُ علَيْها المَرءُ مِنَ الدُّعاءِ وأَلطَفَها هي الآتي:

إنَّ الدَّاعِيَ يَعلَمُ يَقِينًا أنَّ هُناك مَن يَسمَعُه، ويَتَرحَّمُ علَيْه، ويُسعِفُه بدَوائِه، وقُدرَتُه تَصِلُ إلى كلِّ شَيءٍ؛ وعِندَها يَستَشعِر في نَفسِه أنَّه لَيسَ وَحِيدًا فَرِيدًا في هذه الدُّنيا الواسِعةِ، بل هُناك كَرِيمٌ يَنظُرُ إلَيْه بِنَظَر الكَرَم والرَّحْمةِ، فيَدخُلُ الأُنسُ إلى قَلبِ الدَّاعي، ويَتصَوَّرُ أنَّه في كَنَفِ الرَّحِيمِ المُقتَدِرِ على قَضاءِ حاجاتِه غَيرِ المَحدُودةِ ودَفعِ أَعدائِه غَيرِ المَعدُودةِ، وفي حُضُورٍ دائِمٍ أَمامَه، فيَغمُرُه الفَرَحُ والِانشِراحُ، ويَشعُرُ أنَّه قد أَلقَى عَن كاهِلِه عِبْئًا ثَقِيلًا، فيَحمَدُ اللهَ قائِلًا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

[النكتة الخامسة: الدعاء نتيجة الإيمان الخالص]

النُّكتة الخَامِسة:

إنَّ الدُّعاءَ رُوحُ العِبادةِ ومُخُّها، وهو نَتِيجةُ إِيمانٍ خالِصٍ، لِأنَّ الدَّاعيَ يُظهِر بدُعائِه أنَّ هُناك مَن يُهَيمِنُ على العالَمِ كلِّه ويَطَّلِعُ على أَخفَى أُمُورِي ويُحِيطُ بكلِّ شَيءٍ عِلمًا، وهو قادِرٌ على إِغاثَتي وإِسعافِ أَبعَدِ مَقاصِدي، وهو بَصِيرٌ بجَمِيعِ أَحوالي وسَمِيعٌ لِنِدَائي؛ لِذا فلا أَطلُبُ إلَّا مِنه وَحْدَه، فهُو يَسمَعُ أَصواتَ المَوجُوداتِ كلَّها، ولا بُدَّ أنَّه يَسمَعُ صَوْتي ونِدائي أَيضًا.. وهُو الَّذي يُدِيرُ الأُمُورَ كلَّها، فلا أَنتَظِرُ تَدبِيرَ أَدَقِّ أُمُورِي إلّا مِنه وَحْدَه.

وهَكَذا، فيا أيُّها المُسلِمُ.. تَأمَّلْ في سَعةِ التَّوحِيدِ الخالِصِ الَّذي يَهَبُه الدُّعاءُ للمَرءِ، وانظُر مَدَى ما يُظهِرُه الدُّعاءُ مِن حَلاوةٍ خَالِصةٍ لنُورِ الإيمانِ وصَفائِه، وافهَمْ مِنه حِكْمةَ قَولِه تَعالَى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ واستَمِع إلى قَولِه تَعالَى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..﴾ وإنَّه لَحَقٌّ ما قِيلَ: (اَگر نَه خُوَاهِي دَاد نَه دَادِى خُوَاه) أي: لو لم يُرِدِ القَضاءَ ما أَلهَمَ الدُّعاءَ.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

﴿اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ مِنَ الأَزَلِ إلَى الأبَدِ عَدَدَ مَا في عِلمِ الله، وعَلى آلِه وصَحبِه وَسَلِّم. سَلِّمنَا وَسَلِّم دِينَنَا. آمينَ. والحَمدُ لله رَبِّ العَالَمينَ﴾.

❀   ❀   ❀

[الذيل الثاني: حول المعراج النبوي]

الذَّيلُ الثَّاني

“يَخُصُّ المِعراجَ النَّبويَّ”‌

﴿بِاسْمِهِ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ٭ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ٭ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ٭ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ٭ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ٭ لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾

سنُبِّينُ خَمسَ نِكاتٍ تَدُورُ حَولَ قِسمِ المِعراجِ مِن قَصِيدةِ المَولِدِ النَّبوِيِّ.

[النكتة الأولى: حاجة مخلوقات عالَم البقاء إلى نور النبي ﷺ]

النُّكتة الأُولى:

إنَّ “السَّيِّدَ سُلَيْمانَ أَفَندِيّ” الَّذي كَتَب قَصِيدةً حَوْلَ المَولِدِ النَّبوِيِّ الشَّرِيفِ، يُبيِّنُ فيها أَحداثَ عِشْقٍ حَزِينٍ حَولَ البُراقِ الَّذي جِيءَ به مِنَ الجَنّةِ؛ ولِأَنَّه مِنَ الأَولياءِ الصَّالِحِين ويَستَنِدُ في قَصِيدَتِه إلى رِواياتٍ في السِّيرةِ، لا شَكَّ أنَّه يُعَبِّرُ بتلك الصُّورةِ عن حَقِيقةٍ مُعَيَّنةٍ.. والحَقِيقةُ هي الآتيةُ:

إنَّ لِمَخلُوقاتِ عالَمِ البَقاءِ عَلاقةً قَوِيّةً بنُورِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، إذ بالنُّورِ الَّذي أَتَى به ستُعْمَرُ الجَنّةُ ودارُ الآخِرةِ بالجِنِّ والإنسِ، ولَوْلاه لَمَا كانَت تلك السَّعادةُ الأَبدِيّةُ، ولَمَا عَمَرَتِ الجِنُّ والإنسُ الجَنّةَ، ولا تَنَعَّمُوا بجَمِيعِ أَنواعِ مَخلُوقاتِ الجَنّةِ، أي: لَوْلاه لَبَقِيَتِ الجَنّةُ خاوِيةً وخاليةً مِن سَكَنَتِها.

ولقد ذَكَرْنا في “الغُصنِ الرَّابِعِ مِنَ الكَلِمةِ الرَّابِعةِ والعِشرِين”: لقدِ انتُخِبَ مِن كلِّ نَوعٍ مِنَ الأَنواعِ بُلْبُلٌ، خَطِيبٌ، يُعَبِّرُ عن طائِفَتِه، وفي مُقدِّمةِ أُولَئِك الخُطَباءِ: البُلبُلُ العاشِقُ للوَردِ، الَّذي يُعلِنُ عن حاجاتِ طائِفةِ الحَيَواناتِ البالِغةِ حَدَّ العِشقِ، إزاءَ قافِلةِ النَّباتاتِ الآتِيةِ مِن خَزِينةِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ والحامِلةِ لِأَرزاقِ الحَيَواناتِ.. تُعلِنُها هذه البَلابِلُ بنَغَماتِها الرَّقيقةِ على رُؤُوسِ أَجمَلِ النَّباتاتِ تَعبِيرًا عن حُسْنِ الِاستِقبالِ المُفعَمِ بالتَّسبِيحِ والتَّهلِيلِ.

فالرَّسُولُ الكَرِيمُ مُحمَّدٌ الأَمينُ ﷺ الَّذي هو سَبَبُ خَلْقِ الأَفلاكِ، ووَسِيلةُ سَعادةِ الدَّارَينِ، وحَبِيبُ ربِّ العالَمِين، فكما كانَ سَيِّدُنا جِبْرِيلُ عَليهِ السَّلام مُمَثِّلًا عن نَوعِ المَلائِكةِ في طاعَتِه وخِدْمَتِه بكَمالِ المَحَبّةِ، مُبيِّنًا سِرَّ سُجُودِ المَلائِكةِ وانقِيادِهم لِسَيِّدِنا آدَمَ عَليهِ السَّلام.. فأَهلُ الجَنّةِ كَذلِك، بل حتَّى حَيَواناتُها لها عَلاقاتٌ بِذَلِك الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ.

وقد عَبَّر “السَّيِّدُ سُلَيمانُ أَفَندِيّ” عَن هَذه الحَقِيقةِ بمَشاعِرِ الحُبِّ والعِشقِ الَّتي أَطْلَقَها البُراقُ الَّذي رَكِبَه الرَّسُولُ ﷺ.

[النكتة الثانية: معنى كونه ﷺ حبيب الله]

النُّكتة الثَّانية:

إنَّ أَحَدَ أَحداثِ “قَصِيدةِ المِعراجِ النَّبوِيِّ” هو أنَّ “السَّيِّدَ سُلَيْمانَ” قد عَبَّر عنِ المَحَبّةِ النَّزِيهةِ للهِ سُبحانَه وتَعالَى تِجاهَ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ بجُملةِ: “قد عَشِقْتُك”.

فهذه التَّعابِيرُ بمَعانِيها العُرفيّةِ لا تَلِيقُ بقُدسِيَّتِه وتَعاليه سُبحانَه، ولكِن لأنَّ “السَّيِّدَ سُليَمانَ أَفَندِيّ” مِن أَهلِ الوِلايةِ وأَهلِ الحَقِيقةِ، حيثُ إنَّ قَصِيدَتَه هذه لَقِيَتِ القَبُولَ والرِّضا لَدَى عامّةِ المُسلِمِين، فلا شَكَّ أنَّ المَعنَى الَّذي أَظهَرَه صَحِيحٌ، وهو هذا:

أنَّ للهِ سُبحانَه وتَعالَى جَمالًا وكَمالًا مُطلَقَينِ، إذ جَمِيعُ أَنواعِ الجَمالِ والكَمالِ المُنقَسِمةِ على الكائِناتِ جَمِيعِها، هي أَماراتٌ على جَمالِه وكَمالِه وإشاراتٌ إلَيهِما وعَلاماتٌ علَيهِما.

وحيثُ إنَّ كلَّ صاحِبِ جَمالٍ وكَمالٍ، يُحِبُّ جَمالَه وكَمالَه بالبَداهةِ، فاللهُ سُبحانَه وتَعالَى يُحِبُّ جَمالَه بحُبٍّ يَلِيقُ بذاتِه الجَلِيلةِ، ويُحِبُّ أَيضًا أَسماءَه الَّتي هي شُعاعاتُ جَمالِه جَلَّ وعَلا.

وإذ إنَّه يُحِبُّ أَسماءَه، فإنَّه يُحِبُّ إذًا صَنْعَتَه الَّتي تُظهِرُ جَمالَ أَسمائِه، ويُحِبُّ إذًا مَصنُوعاتِه الَّتي هي مَرايا لِجَمالِه وكَمالِه.

وإذ إنَّه يُحِبُّ ما يُبيِّنُ جَمالَه وكَمالَه، فإنَّه يُحِبُّ مَحاسِنَ مَخلُوقاتِه الَّتي تُشِيرُ إلى جَمالِ أَسمائِه وكَمالِها.

ويُشِيرُ القُرآنُ الحَكِيمُ في آياتِه إلى هذه الأَنواعِ الخَمْسةِ مِنَ المَحَبّةِ.

وهكذا، فالرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ الَّذي هو أَكمَلُ فَرْدٍ في مَصنُوعاتِ اللهِ، وأَبرَزُ شَخصِيّةٍ في مَخلُوقاتِه.. وهو الَّذي يُقَدِّرُ ويُعلِنُ عنِ الصَّنعةِ الإلٰهِيّةِ بذِكْرٍ جَذَّابٍ وتَسبِيحٍ وتَهلِيلٍ.. وهو الَّذي فَتَح بلِسانِ القُرآنِ خَزائِنَ جَمالِ الأَسماءِ الحُسنَى وكَمالِها.. وهو الَّذي يُبيِّنُ بَيانًا سَاطِعًا -بلِسانِ القُرآنِ- الآياتِ الكَونيّةَ الدَّالّةَ على كَمالِ صانِعِها.. وهو الَّذي أَدَّى وَظِيفةَ المِرآةِ للرُّبُوبيّةِ الإلٰهِيّةِ بعُبُودِيَّتِه الكُلِّيّةِ، حتَّى حَظِيَ بأَتَمِّ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى كُلِّها، بجامِعِيّةِ ماهِيَّتِه.

فلِأَجل ما سَبَق يَصِحُّ أن يُقالَ: إنَّ الجَمِيلَ ذا الجَلالِ لِمَحَبَّتِه جَمالَه يُحِبُّ مُحمَّدًا ﷺ الَّذي هو أَكمَلُ مِرآةٍ ذاتِ شُعُورٍ لِذَلِك الجَمالِ.

وأنَّه سُبحانَه لِمَحَبَّتِه أَسماءَه يُحِبُّ مُحمَّدًا ﷺ الَّذي هو أَجلَى مِرآةٍ تَعكِسُ تلك الأَسماءَ الحُسنَى، ويُحِبُّ مَن يَتَشبَّهُون بمُحمَّدٍ ﷺ أيضًا، كلًّا حَسَبَ دَرَجَتِه.

وأنَّه سُبحانَه لِمَحبَّتِه صَنْعَتَه يُحِبُّ مُحمَّدًا ﷺ الَّذي أَعلَن عن تلك الصَّنعةِ في أَرجاءِ الكَونِ برُمَّتِه حتَّى جَعَلَه في نَشوةٍ وشَوْقٍ يَرِنُّ به سَمْعُ السَّماواتِ ويُثيرُ به البَرَّ والبَحرَ شَوْقًا إلَيه.. ويُحِبُّ أيضًا مَن يَتَّبِعُونه.

وأنَّه سُبحانَه لِمَحَبَّتِه مَصنُوعاتِه يُحِبُّ مُحمَّدًا ﷺ، إذ هو أَفضَلُ النَّاسِ طُرًّا الَّذين هم أَكمَلُ ذَوِي الشُّعُورِ، الَّذين هم أَكمَلُ ذَوِي الحَياةِ، الَّذين هم أَكمَلُ مَصنُوعاتِه سُبحانَه.

وأنَّه سُبحانَه لِحُبِّه أَخلاقَ مَخلُوقاتِه يُحِبُّ مُحمَّدًا ﷺ، إذ هو في ذِروةِ الأَخلاقِ الحَمِيدةِ، كما اتَّفَق علَيه الأَولياءُ والأَعداءُ، ويُحِبُّ كذلك مَن يَتَشبَّهُون به في الأَخلاقِ، كلًّا حَسَبَ دَرَجَتِه.

بمَعنَى أنَّ مَحَبّةَ اللهِ قد أَحاطَت بالكَونِ كما أَحاطَت به رَحْمَتُه، ولهذا فإنَّ أَعلَى مَقامٍ في الوُجُوهِ الخَمسةِ المَذكُورةِ ضِمنَ المَحبُوبِين الَّذين لا حَصْرَ لهم هو مَقامٌ خُصَّ بمُحمَّدٍ ﷺ، ولِأَجلِه مُنِحَ اسمُ “حَبِيبُ اللهِ”.

ولقد عَبَّر “سُلَيمانُ أَفندِيّ” عن هذا المَقامِ الرَّفيعِ، مَقامِ المَحبُوبيّةِ، بقَولِه: “قد عَشِقْتُك” عِلْمًا أنَّ هذا التَّعبِيرَ مِرْصادٌ للتَّفكُّرِ ليس إلَّا، وإشارةٌ إلى هذه الحَقِيقةِ مِن بَعِيدٍ. ومعَ ذلك فإنَّ هذا التَّعبِيرَ لِكَونِه يُوهِمُ للخَيالِ مَعنًى لا يَلِيقُ بشَأْنِ الرُّبُوبيّةِ الجَلِيلةِ، فمِنَ الأَولَى القَولُ: “قد رَضِيتُ عنك”.

[النكتة الثالثة: اللغة قاصرة عن التعبير عن الشؤون الإلهية]

النُّكتة الثالثة:

إنَّ المُحاوَراتِ الجارِيةَ في “قَصِيدةِ المِعراجِ” عاجِزةٌ عنِ التَّعبِيرِ عن تلك الحَقائِقِ المُقدَّسةِ بالمَعاني المَعرُوفةِ لَدَيْنا، بل إنَّ تلك المُحاوَراتِ عَناوِينُ تَأَمُّلٍ ومُلاحَظةٍ، ومَراصِدُ تَفَكُّرٍ ليس إلَّا، وإشاراتٌ إلى الحَقائِقِ السّامِيةِ العَمِيقةِ، وتَنبِيهاتٌ إلى قِسمٍ مِن حَقائِقِ الإيمانِ، وكِناياتٌ عن بعضِ المَعاني الَّتي لا يُمكِنُ التَّعبِيرُ عنها.

وإلَّا، فلَيسَت تلك مُحاوَراتٍ وأَحداثًا كالمُحاوَراتِ الجارِيةِ في القَصَصِ كي تكُونَ بالمَعاني المَعرُوفةِ لَدَيْنا؛ إذ نحنُ لا نَستَطِيعُ أن نَسْتَلْهِمَ بخَيالِنا تلك الحَقائِقَ، مِن تلك المُحاوَراتِ، بل يُمكِنُنا أن نَستَلْهِمَ مِنها بقُلُوبِنا ذَوْقًا إيمانِيًّا مُثِيرًا، ونَشْوةً رُوحانيّةً نُورانيّةً، لأنَّ اللهَ سُبحانَه كما لا نَظِيرَ ولا شَبِيهَ ولا مَثِيلَ له في ذاتِه وصِفاتِه، كذلك لا مَثِيلَ له في شُؤُونِ رُبُوبيَّتِه، وكما لا تُشبِهُ صِفاتُه تَعالَى صِفاتِ مَخلُوقاتِه، كذلك لا تُشبِهُ مَحَبَّتُه مَحَبّةَ مَخلُوقاتِه.

فهذه التَّعابِيرُ الوارِدةُ في “قَصِيدةِ المِعراجِ” تُعَدُّ مِنَ التَّعابِيرِ المُتَشابِهةِ. ولِهذا نقُولُ: إنَّ للهِ سُبحانَه شُؤُونًا -كمَحَبَّتِه تَعالَى- تُلائِمُ وُجُوبَ وُجُودِه وقُدسِيَّتَه، وتُناسِبُ غِناه الذَّاتِيَّ وكَمالَه المُطلَقَ. أي: إنَّ القَصِيدةَ المَذكُورةَ تُنبِّهُ إلى تلك الشُّؤُونِ بأَحداثِ المِعراجِ.

ولقد أَوضَحَتِ “الكَلِمةُ الحادِيةُ والثَّلاثُونَ” الخاصّةُ بالمِعراجِ النَّبوِيِّ، حَقائقَ المِعراجِ ضِمنَ أُصُولِ الإيمانِ، لِذا نَختَصِرُ هنا مُكتَفِين بذاك.

[النكتة الرابعة: معنى قرب الله تعالى منا وبُعدنا عنه]

النُّكتة الرَّابعة:

سُؤالٌ: إنَّ عِبارةَ: “إنَّه ﷺ قد رَأَى ربَّه وَراءَ سَبعِين ألفَ حِجابٍ” تُعبِّرُ عن بُعدِ المَكانِ، والحالُ أنَّ اللهَ سُبحانَه مُنزَّهٌ عنِ المَكانِ، فهو أَقرَبُ إلى كلِّ شَيءٍ مِن أيِّ شَيءٍ كان؛ فما المُرادُ إذًا مِن هذه العِبارةِ؟!.

الجَوابُ: لقد وُضِّحَت تلك الحَقِيقةُ في “الكَلِمةِ الحادِيةِ والثَّلاثِين” وبُيِّنَت بَيانًا شافِيًا مُفَصَّلًا مُدَعَّمًا بالبَراهِينِ، إلّا أنَّنا نقُولُ هُنا:

إنَّ اللهَ سُبحانَه قَرِيبٌ إلَينا غايةَ القُربِ، ونحنُ بَعِيدُون عنه غايةَ البُعدِ.

مِثالٌ: إنَّ الشَّمسَ قَرِيبةٌ مِنّا بواسطةِ المِرآةِ الَّتي في أَيدِينا، بل كلُّ ما هو شَفّافٌ يكُونُ نَوعًا مِن عَرْشٍ للشَّمسِ ومَنزِلٌ لها.. فلو أنَّ للشَّمسِ شُعُورًا، لكانَت تُحاوِرُنا بما في أَيدِينا مِنَ المِرآةِ. ولكِنَّنا بَعِيدُون عنها أَربَعةَ آلافِ سنةٍ.

وهكذا، فشَمسُ الأَزَلِ -بلا تَشبِيهٍ ولا تَمثِيل، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى- أَقرَبُ إلى كلِّ شَيءٍ مِن أيِّ شَيءٍ كان، لأنَّه واجِبُ الوُجُودِ، ومُنزَّهٌ عنِ المَكانِ، ولا يَحجُبُه شَيءٌ، بَينَما كلُّ شَيءٍ بَعِيدٌ عنه بُعْدًا مُطلَقًا.

ومِن هذا تَفهَمُ سِرَّ المَسافةِ الطَّوِيلةِ جِدًّا في المِعراجِ معَ عَدَمِ وُجُودِ المَسافةِ الَّتي تُعَبِّرُ عنها الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾.

وكذا يَنبُعُ مِن هذا السِّرِّ ذَهابُ الرَّسُولِ ﷺ وطَيُّه المَسافاتِ الطَّوِيلةَ جِدًّا، ومَجِيئُه في آنٍ واحِدٍ إلى مَوضِعِه.

فمِعراجُ الرَّسُولِ ﷺ هو سَيْرُه وسُلُوكُه، وهو عُنوانُ وِلايَتِه، إذ كما يَعرُجُ الأَولياءُ إلى دَرَجةِ حَقِّ اليَقِينِ مِن دَرَجاتِ الإيمانِ رُقِيًّا مَعنَوِيًّا بالسَّيرِ والسُّلُوكِ الرُّوحانِيِّ، بَدْءًا مِن أَربَعِين يَومًا إلى أَربَعِين سنةً، كذلك الرَّسُولُ ﷺ -وهو سُلْطانُ جَمِيعِ الأَولياءِ وسَيِّدُهم- عُرِجَ بجِسْمِه وحَواسِّه ولَطائِفِه جَمِيعًا لا بقَلْبِه ورُوحِه وَحْدَهما، فاتِحًا صِراطًا سَوِيًّا وجادّةً كُبْرَى، حتَّى بَلَغ أَعلَى مَراتِبِ حَقائِقِ الإيمانِ وأَسماها بالمِعراجِ الَّذي هو كَرامةُ وِلايَتِه الكُبْرَى في أَربَعِين دَقِيقةً بَدَلًا مِن أَربَعِين سَنةً، ورَقِيَ إلى العَرْشِ بسُلَّمِ المِعراجِ، وشاهَدَ ببَصَرِه بعَينِ اليَقِينِ -في مَقامِ قابَ قَوْسَينِ أو أَدنَى- أَعظَمَ حَقائِقِ الإيمان، وهو الإيمانُ باللهِ، والإيمانُ باليَومِ الآخِرِ، ودَخَل الجَنّةَ وشاهَدَ السَّعادةَ الأَبدِيّةَ، وفَتَح الجادّةَ الكُبْرَى بِبابِ المِعراجِ وتَرَكَها مَفتُوحةً لِيَمضِيَ جَمِيعُ أَولياءِ أُمَّتِه بالسَّيرِ والسُّلُوكِ الرُّوحانِيِّ، أي: بسَيرٍ رُوحانِيٍّ وقَلْبِيٍّ في ظِلِّ ذلك المِعراجِ، كلٌّ حَسَبَ دَرَجَتِه.

[النكتة: الخامسة: الاحتفال بذكرى المولد النبوي والإسراء والمعراج]

النُّكتة الخَامِسة: إنَّ قِراءةَ المَولِدِ النَّبوِيِّ و”قَصِيدةَ المِعراجِ” عادةٌ إسلاميَّةٌ مُستَحسَنةٌ، ونافِعةٌ جِدًّا، بل هي مَدارُ مُجالَسةٍ ومُؤانَسةٍ لَطِيفةٍ في الحَياةِ الِاجتِماعيّةِ الإسلاميّةِ؛ وهي دَرْسٌ في غايةِ اللَّذّةِ والطِّيبِ للتَّذكِيرِ بالحَقائِقِ الإيمانيّةِ؛ وهي أَقوَى وَسِيلةٍ مُؤَثِّرةٍ ومُهَيِّجةٍ لإظهارِ أَنوارِ الإيمانِ، وتَحرِيكِ مَحَبّةِ اللهِ، وعِشْقِ الرَّسُولِ ﷺ.

نَسأَلُ اللهَ أن يُدِيمَ هذه العادةَ إلى الأَبدِ، ويَرْحَمَ كاتِبَها “السَّيِّدَ سُلَيمانَ أَفَندِيّ” وأَمثالَه مِنَ الكُتَّابِ، ويَجعَلَ جَنّةَ الفِردَوْسِ مَأْواهم.. آمِينَ.

❀   ❀   ❀

[الخاتمة]

خاتِمةٌ

لَمَّا كان خالِقُ هذا الكَونِ، يَخلُقُ مِن كلِّ نَوعٍ فَرْدًا مُمْتازًا كامِلًا جامِعًا، ويَجعَلُه مَناطَ فَخْرِ وكَمالِ ذلك النَّوعِ، فلا شَكَّ أنَّه يَخلُقُ فَرْدًا مُمْتازًا وكامِلًا -بالنِّسبةِ إلى الكائِناتِ قاطِبةً- وذلك بتَجَلِّي الِاسمِ الأَعظَمِ مِن أَسمائِه الحُسنَى؛ وسيكُونُ في مَصنُوعاتِه فَرْدٌ أَكمَلُ كالِاسمِ الأَعظَمِ في أَسمائِه، فيَجمَعُ كَمالاتِه المُنتَشِرةَ في الكائِناتِ في ذلك الفَردِ الأَكمَلِ، ويَجعَلُه مَحَطَّ نَظَرِه.

ولا رَيبَ أنَّ ذلك الفَردَ سيكُونُ مِن ذَوِي الحَياةِ، لِأنَّ أَكمَلَ أَنواعِ الكائِناتِ هم ذَوُو الحَياةِ، ويكُونُ مِن ذَوِي الشُّعُورِ، لأنَّ أَكمَلَ أَنواعِ ذَوِي الحَياةِ هم ذَوُو الشُّعُورِ، وسيكُونُ ذلك الفَردُ الفَرِيدُ مِنَ الإنسانِ، لأنَّ الإنسانَ هو المُؤَهَّلُ لِما لا يُحَدُّ مِنَ الرُّقِيِّ؛ وسيكُونُ ذلك الفَرْدُ حَتْمًا مُحمَّدًا الأَمينَ ﷺ، لأنَّه لم يَظهَرْ أَحَدٌ في التّارِيخِ كُلِّه مِثلَه مُنذُ زَمَنِ آدَمَ عَليهِ السَّلام وإلى الآنَ، ولن يَظهَرَ، لأنَّ ذلك النَّبيَّ الكَرِيمَ ﷺ قد ضَمَّ نِصفَ الكُرةِ الأَرضِيّةِ وخُمُسَ البَشَرِيّةِ ضِمنَ سُلْطانِه المَعنَوِيِّ وحاكِمِيَّتِه الَّتي دامَت أَلْفًا وثَلاثَ مِئةٍ وخَمسِين عامًا بكَمالِ هَيْبَتِها وعَظَمَتِها، وأَصبَح أُستاذًا لِجَمِيعِ أَهلِ الكَمالِ في جَمِيعِ أَنواعِ الحَقائِقِ، ونالَ أَرقَى المَراتِبِ في السَّجايا الحَمِيدةِ باتِّفاقِ الأَصدِقاءِ والأَعداءِ، وتَحَدَّى العالَمَ أَجمَعَ وَحْدَه في أوَّلِ أَمرِه، وأَظهَرَ القُرآنَ الكَرِيمَ الَّذي يَتلُوه أَكثَرُ مِن مِئةِ مِليُونٍ مِنَ النّاسِ في كلِّ دَقِيقةٍ.

فلا بُدَّ أنَّ نَبِيًّا كَرِيمًا كهذا النَّبيِّ ﷺ هو ذلك الفَردُ الفَرِيدُ لا أَحَدٌ غيرُه أَبدًا، فهو نَواةُ هذا العالَمِ وثَمَرَتُه.. علَيه وعلى آلِه وأَصحابِه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعَدَدِ أَنواعِ الكائِناتِ ومَوجُوداتِها.

واعلَمْ أنَّ الِاستِماعَ إلى المَولِدِ النَّبوِيِّ ومِعراجِه ﷺ، أي الِاستِماعَ إلى مَبْدَأِ رُقيِّه ومُنتَهَاه، أي مَعرِفةَ سِيرةِ حَياتِه المَعنَوِيّةِ.. لَذِيذٌ، ونُورانِيٌّ، ومَبعَثُ فَخْرٍ واعتِزازٍ لِأُمَّتِه، ومُسامَرةٌ عُلْوِيّةٌ رَفِيعةٌ للمُؤمِنِين الَّذين اتَّخَذُوه رَئيسًا وسَيِّدًا وإمامًا وشَفِيعًا لهم.

يا رَبِّ بحُرْمةِ الحَبِيبِ الأَكرَمِ علَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبحَقِّ الِاسمِ الأَعظَمِ، اجْعَلْ قُلُوبَ ناشِرِي هذه الرِّسالةِ ورُفَقاءَهم مَظْهَرًا لِأَنوارِ الإيمانِ، واجْعَلْ أَقلامَهم ناشِرةً لِأَسرارِ القُرآنِ، واهْدِهِم إلى سَواءِ السَّبِيلِ. آمِينَ

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

﴿البَاقي هوَ البَاقي﴾

سعيدٌ النُّورْسِيُّ‌

❀   ❀   ❀

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى