المكتوب الثالث والعشرون: جواب عن أسئلة أخٍ من إخوان الآخرة
[هذا المكتوب رسالة يجيب فيها الأستاذ أحد تلامذته عن أسئلة مثل: ما شروط إجابة الدعاء؟ وبِمَ كان النبي ﷺ يتعبد قبل البعثة؟ وما حكمة عُمره عند نبوته وعند وفاته؟ وهل الأئمة المجتهدون أعلى مقامًا من أئمة الطرق وأقطابها؟]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

المكتوب الثالث والعشرون
بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه
السَّلامُ علَيْكُم ورَحْمةُ اللهِ وبَرَكاتُه أَبدًا بعَدَدِ عاشِراتِ دَقائِقِ عُمُرِك وذَرّاتِ وُجُودِك.
أَخِي العَزِيزَ الغَيُورَ الجادَّ ذا الحَقِيقةِ الخالِصَ الفَطِنَ!
إنَّ أَمثالَنا مِن إِخوانِ الحَقِيقةِ والآخِرةِ لا يَمنَعُ اختِلافُ الزَّمانِ والمَكانِ مُحاوَرَتَهُم ومُؤانَسَتَهُم، فحَتَّى لو كانَ أَحَدُهُم في الشَّرقِ وآخَرُ في الغَربِ، وأَحَدُهُم في الماضِي وآخَرُ في المُستَقبَلِ، وأَحَدُهُم في الدُّنيا وآخَرُ في الآخِرةِ، يُمكِنُ أن يُعَدُّوا مَعًا، ويُمكِنُهُم أن يُحاوِرَ بَعضُهُم بَعضًا، ولا سِيَّما إن كانُوا مُجتَمِعِينَ على غايةٍ واحِدةٍ ويَعمَلُونَ في مُهِمّةٍ واحِدةٍ وواجِبٍ واحِدٍ، بل حتَّى يكُونُ أَحَدُهُم هو في حُكْمِ عَينِ الآخَرِ.
إنَّني أَتَصوَّرُكُم مَعِي صَباحَ كلِّ يَومٍ، وأَهَبُ لكُم قِسمًا مِن مَكاسِبِي، وهو الثُّلُثُ (نَسأَلُ اللهَ القَبُولَ)، فأَنتُم في الدُّعاءِ معَ “عَبدِ المَجِيدِ” و”عَبدِ الرَّحمَنِ”، فتَنالُونَ حَظَّكُم دَوْمًا إن شاءَ اللهُ.
ولقد أَثَّر فِيَّ بَعضُ مَشاكِلِكُمُ الدُّنيَوِيّةِ فتَألَّمتُ لِألَمِكُم، ولكِن يا أَخِي لَمَّا كانَتِ الدُّنيا لَيسَت خالِدةً، وأنَّ في مَصائِبِها خَيرًا، فقد وَرَد إلى قَلبِي -بَدَلًا عَنك- عِبارةُ “كُلُّ حالٍ يَزُولُ“، وتَدَبَّرتُ في: “لا عَيشَ إلّا عَيشُ الآخِرةِ“، وتَلَوتُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وقُلتُ: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، فوَجَدتُ سُلْوانًا وعَزاءً بَدَلًا عَنك.
يا أَخِي، إذا أَحَبَّ اللهُ عَبدًا جَعَل الدُّنيا تُعرِضُ عنه وتُجافِيه، ويُرِيه الدُّنيا قَبِيحةً بَغِيضةً، وإنَّك إن شاءَ اللهُ مِن صِنفِ أُولَئِك المَحبُوبِينَ عِندَ اللهِ.. لا تَتَألَّم مِن زِيادةِ المَوانِعِ والعَوائِقِ الَّتي تَحُولُ دُونَ انتِشارِ “الكَلِماتِ”، فإنَّ ما قُمتَ به مِن نَشرٍ لِلرَّسائِلِ لِحَدِّ الآنَ، إذا حَظِيَ برَحمَتِه سُبحانَه تَتَفتَّحُ -إن شاءَ اللهُ- تلك النُّوَى النُّورِيّةُ المُبارَكةُ جِدًّا أَزاهِيرَ كَثِيرةً.
إنَّك تَسأَلُ عَدَدًا مِنَ الأَسئِلةِ، ولكِن يا أَخِي العَزِيزَ إنَّ مُعظَمَ “الكَلِماتِ” وكذا “المَكتُوباتُ” كانَت تَرِدُ إلى القَلبِ آنيًّا دُونَ اختِيارٍ مِنِّي، ولِهذا تُصبِحُ جَمِيلةً لَطِيفةً؛ ولو كُنتُ أُجِيبُ عنِ الأَسئِلةِ باختِيارِي وبَعدَ تَأَمُّل وتَفَكُّرٍ وبقُوّةِ عِلمِ “سَعِيدٍ القَدِيمِ” يَرِدُ الجَوابُ خافِتًا خامِدًا ناقِصًا.. ولقد تَوَقَّفَ تَطَلُّعُ القَلبِ -مُنذُ مُدّةٍ- وخَبَتْ جَذْوةُ الحافِظةِ، ولكِن سنَكتُبُ جَوابًا في غايةِ الِاختِصارِ لِئَلّا تَبقَى هذه الأَسئِلةُ دُونَ جَوابٍ.
[كيف يكون الدعاء مستجابًا؟]
سُؤالُكُمُ الأوَّلُ: كَيفَ يَجِبُ أن يكُونَ أَفضَلُ دُعاءِ المُؤمِنِ لِأَخِيه المُؤمِنِ؟
الجَوابُ: يَجِبُ أن يكُونَ ضِمنَ دائِرةِ أَسبابِ القَبُولِ، لِأنَّ الدُّعاءَ يكُونُ مُستَجابًا ومَقبُولًا ضِمنَ بَعضِ الشُّرُوطِ، وتَزدادُ الِاستِجابةُ كُلَّما اجتَمَعَت شُرُوطُ القَبُولِ؛ فمِنها:
الطُّهُورُ المَعنَوِيُّ، أي: الِاستِغفارُ عِندَ الشُّرُوعِ بالدُّعاءِ، ثمَّ ذِكرُ الصَّلاةِ على الرَّسُولِ ﷺ، وهِي الدُّعاءُ المُستَجابُ، وجَعْلُها شَفِيعةً لِلدُّعاءِ، وذِكرُ الصَّلاةِ على الرَّسُولِ ﷺ أَيضًا في الخِتامِ، لِأنَّ دُعاءً وَسْطَ دُعاءَينِ مُستَجابَينِ يكُونُ مُستَجابًا.
وأن يَدعُوَ بظَهرِ الغَيبِ.
وأن يَدعُوَ بالمَأْثُورِ مِن أَدعِيةِ الرَّسُولِ ﷺ، وما وَرَد في القُرآنِ الكَرِيمِ مِن أَدعِيةٍ.
مِثالُ ذلك: ﴿رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، ﴿اللَّهُمَّ إنِّي أَسأَلُك العَفوَ والعافِيةَ لي وله في الدِّينِ والدُّنيا والآخِرةِ﴾، وأَمثالُها مِنَ الأَدعِيةِ المَأْثُورةِ الجامِعةِ.
وأَنْ يَدعُوَ بخُلُوصِ النِّيّةِ وخُشُوعِ القَلبِ وحُضُورِه.
وأَنْ يَدعُوَ دُبُرَ الصَّلَواتِ ولا سِيَّما دُبُرَ صَلاةِ الفَجرِ.
وأَنْ يَدعُوَ في الأَماكِنِ المُبارَكةِ، ولا سِيَّما في المَساجِدِ، وفي أَيّامِ الجُمَعِ ولا سِيَّما في ساعةِ الإِجابةِ، وفي الأَشهُرِ المُبارَكةِ ولا سِيَّما في اللَّيالي المَشهُورةِ، وفي شَهرِ رَمَضانَ ولا سِيَّما في لَيْلةِ القَدْرِ.
فإنَّ الدُّعاءَ بهذه الشُّرُوطِ يُرجَى مِن رَحْمَتِه تَعالَى أن يكُونَ مَقرُونًا بالِاستِجابةِ.
فذلك الدُّعاءُ المُستَجابُ إمّا أن يُرَى أَثَرُه بعَينِه في الدُّنيا، أو يُستَجابَ لِآخِرةِ المَدعُوِّ له ولِحَياتِه الخالِدةِ.
بمَعنَى أنَّه إن لم يُرَ المَقصُودُ مِنَ الدُّعاءِ بذاتِه، فلا يُقالُ: إنَّ الدُّعاءَ لم يُستَجَب. بل يُقالُ: إنَّ الدُّعاءَ استُجِيبَ بأَفضَلِ استِجابةٍ.
[هل يجوز إطلاق عبارة “رضي الله عنه” على غير الصحابة؟]
سُؤالُكُمُ الثَّاني: هل يَجُوزُ إِطلاقُ: (رَضِيَ الله عَنهُ) على غَيرِ الصَّحابةِ الكِرامِ.
الجَوابُ: نعم.. لِأنَّ هذا الدُّعاءَ لَيسَ شِعارًا خاصًّا بالصَّحابةِ الكِرامِ كما هو في عِبارةِ: (علَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ) الخاصَّةِ بالرَّسُولِ ﷺ.
بل لا بُدَّ أن يُطلَقَ (رَضِيَ الله عَنهُ) على الأَئِمّةِ الأَربَعةِ المُجتَهِدِينَ، والشَّيخِ الگيْلانِيِّ، والإِمامِ الرَّبّانِيِّ والإِمامِ الغَزّاليِّ وأَمثالِهِم مِمَّن هم مِن وَرَثةِ الأَنبِياءِ، وفي مَرتَبةِ الوِلايةِ الكُبْرَى، ونالُوا مَقامَ الرِّضَا.
ولكِن جَرَى عُرفُ العُلَماءِ بأن يُقالَ لِلصَّحابةِ الكِرامِ: (رَضِيَ الله عَنهُم) ولِلتّابِعِينَ وتابِعِي التَّابِعِينَ: (رَحِمَهُمُ اللهُ) ومَن يَلِيهِم: (غَفَر اللهُ لَهُم)، ولِلأَولياءِ: (قُدِّسَ سِرُّهُم).
[مَن أفضل.. الأئمة المجتهدون أم أقطاب الطُّرُق؟]
سُؤالُكُمُ الثَّالثُ: أيُّما أَفضَلُ: أَئِمّةُ المُجتَهِدِينَ العِظامُ أم شُيُوخُ الطُّرُقِ الحَقّةِ وأَقطابُها؟
الجَواُب: لَيسَ المُجتَهِدُونَ كلُّهُم، بلِ المُجتَهِدُونَ الأَربَعةُ -وهُم أبو حَنِيفةَ والشَّافِعِيُّ ومالِكٌ وأَحمَدُ بنُ حَنبَلٍ- همُ الأَفضَلُ، فهُم يَفُوقُونَ الأَقطابَ وسادةَ الطُّرُقِ؛ ولكِنَّ بَعضَ الأَقطابِ العِظامِ كالگيْلانِيِّ له مَقامٌ أَسطَعُ مِن جِهةٍ، في الفَضائِلِ الخاصَّةِ، إلّا أنَّ الفَضِيلةَ الكُلِّيّةَ هي لِلأَئِمّةِ الكِرامِ.
ثمَّ إنَّ قِسمًا مِن سادةِ الطُّرُقِ هم مِنَ المُجتَهِدِينَ أَيضًا، ولِهذا لا يُقالُ: إنَّ المُجتَهِدِينَ عامّةً هم أَفضَلُ مِن الأَقطابِ، ولكِنَّ الأَئِمّةَ الأَربَعةَ هُم أَفضَلُ النّاسِ بَعدَ الصَّحابةِ الكِرامِ والسَّيِّدِ المَهدِيِّ رَضِيَ الله عَنهُم.
[أنواع الصبر والغاية منه]
سُؤالُكُمُ الرّابعُ: ما الحِكْمةُ مِن قَولِه تَعالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وما الغايةُ مِنه؟
الجَوابُ: لقد وَضَع اللهُ سُبحانَه وتَعالَى في وُجُودِ الأَشياءِ تَدرِيجًا وتَرتِيبًا أَشبَهَ ما يكُونُ بدَرَجاتِ السُّلَّمِ، وذلك بمُقتَضَى اسمِه الحَكِيمِ، فالَّذي لا يَتأَنَّى في حَرَكاتِه، إمّا أنَّه يَطفَرُ الدَّرَجاتِ فيَسقُطُ أو يَتْرُكُها ناقِصةً فلا يَرقَى إلى المَقصُودِ.
ولِهذا فالحِرصُ سَبَبُ الحِرمانِ، والصَّبْرُ يَحُلُّ المَشاكِلَ، حتَّى غَدا مِنَ الأَمثالِ الَّتي يُضرَبُ بها: “الحَرِيصُ خائِبٌ خاسِرٌ” و “الصَّبْرُ مِفتاحُ الفَرَجِ”، بمَعنَى: أنَّ عِنايَتَه سُبحانَه وتَوفيقَه معَ الصَّابِرِينَ، إذِ الصَّبْرُ على أَنواعٍ ثَلاثةٍ:
الأوَّلُ: الصَّبْرُ عنِ المَعصِيةِ وتَجَنُّبُها، فهذا الصَّبْرُ هو التَّقوَى، ويَجعَلُ صاحِبَه مَحظِيًّا بسِرِّ قَولِه تَعالَى: ﴿أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾.
الثَّاني: الصَّبْرُ عِندَ المُصِيبةِ، وهذا هو التَّوكُّلُ وتَسلِيمُ الأَمرِ إلَيْه سُبحانَه، مِمّا يَدفَعُ صاحِبَه إلى التَّشرُّفِ بقَولِه تَعالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ و﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾.
أمّا عَدَمُ الصَّبْرِ فهُو يَتَضمَّنُ الشَّكوَى مِنَ اللهِ ويَعني انتِقادَ أَفعالِه واتِّهامَ رَحْمَتِه ورَفضَ حِكْمَتِه.
نعم، إنَّ الإِنسانَ الضَّعِيفَ العاجِزَ يَتَألَّمُ ويَبكِي مِن ضَرَباتِ المُصِيبةِ ويَشكُو، ولكِن يَجِبُ أن تكُونَ الشَّكوَى إلَيْه لا مِنه، كما قالَ سَيِّدُنا يَعقُوبُ عَليهِ السَّلام: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾، أي: شَكوَى المُصِيبةِ إلى اللهِ ولَيسَ الشَّكوَى مِنَ اللهِ إلى النَّاسِ والتَّأفُّفُ والتَّحَسُّرُ، وقَولُه: “ماذا عَمِلتُ حتَّى جُوزِيتُ بهذه المُصِيبةِ؟!” لِإِثارةِ رِقّةَ قُلُوبِ النَّاسِ العاجِزِينَ.. فهذا ضَرَرٌ ولا مَعنَى له.
الصَّبْرُ الثَّالثُ: الصَّبْرُ على العِبادةِ، الَّذي يُمكِنُ أن يَبلُغَ صاحِبُه مَقامَ المَحبُوبِيّةِ، فيَسُوقُ إلى حَيثُ العُبُودِيّةُ الكامِلةُ الَّتي هي أَعلَى مَقامٍ.
[كيف كان النبي ﷺ يتعبد قبل النبوة؟]
سُؤالُكُمُ الخامِسُ: إنَّ الخامِسَ عَشَرَ مِنَ العُمُرِ يُعَدُّ سِنَّ التَّكلِيفِ، فكَيفَ كانَ الرَّسُولُ ﷺ يَتَعبَّدُ قَبلَ النُّبوّةِ؟
الجَوابُ: كانَ يَتَعبَّدُ بالبَقِيّةِ الباقِيةِ مِن دِينِ سَيِّدِنا إِبراهِيمَ عَليهِ السَّلام الَّذي ظَلَّ جارِيًا في الجَزِيرةِ العَرِبيةِ تَحتَ حُجُبٍ كَثِيرةٍ، ولكِنَّ التَّعبُّدَ هذا لم يكُن على صُورةِ الفَرضِ والواجِبِ، بل كانَ تَعَبُّدًا اختِيارِيًّا يُؤَدَّى نَدْبًا.
هذه الحَقِيقةُ طَوِيلةٌ، لِتَظَلَّ الآنَ مُختَصَرةً.
[ما حكمة بعثته -ﷺ- في سن الأربعين وتوفِّيه في الثالثة والستين؟]
سُؤالُكُمُ السَّادِسُ: ما حِكْمةُ بِعثةِ الرَّسُولِ ﷺ في سِنِّ الكَمالِ وهُو الأَربَعُونَ مِنَ العُمُرِ؟ وما حِكْمةُ انتِقالِه إلى المَلَأِ الأَعلَى في السِّنِّ الثّالِثةِ والسِّتِّينَ مِن عُمُرِه المُبارَكِ؟
الجَوابُ: حِكَمُها كَثِيرةٌ..
إِحداها: أنَّ النُّبوّةَ تَكلِيفٌ ثَقِيلٌ، وعِبْءٌ عَظِيمٌ جِدًّا، لا يُحمَلُ إلّا بَعدَ نُمُوِّ المَلَكاتِ العَقلِيّةِ ونُضُوجِها وتَكامُلِ الِاستِعداداتِ القَلبِيّةِ؛ أمّا زَمَنُ ذلك الكَمالِ فهُو الأَربَعُونَ مِنَ العُمُرِ.
أمّا مَرحَلةُ الفُتُوّةِ والشَّبابِ الَّتي هي مَرحَلةُ تَهيُّجِ النَّوازِعِ النَّفسانِيّةِ ووَقتُ غَلَيانِ الحَرارةِ الغَرِيزِيّةِ وأَوانُ فَوَرانِ الحِرصِ على الدُّنيا، فهِي لا تُلائِمُ وَظائِفَ النُّبوّةِ الَّتي هي مُقدَّسةٌ وأُخرَوِيّةٌ وخالِصةٌ للهِ وَحدَه، إذ مَهْما كانَ الإِنسانُ جادًّا وخالِصًا قَبلَ الأَربَعِينَ مِنَ العُمُرِ، فلَرُبَّما يَرِدُ إلى أَذهانِ المُتَطلِّعِينَ إلى الشُّهرةِ ظَنٌّ بأنَّه يَعمَلُ لِجاهِ الدُّنيا ونَيلِ مَقامٍ فيها، فلا يَنجُو مِنِ اتِّهاماتِهِم بسُهُولةٍ؛ أمّا بَعدَ الأَربَعِينَ فإنَّ العُمُرَ يَنحَدِرُ إلى بابِ القَبْرِ وتَتَراءَى له الآخِرةُ أَكثَرَ مِنَ الدُّنيا، فيَنجُو مِن ذلك الِاتِّهامِ بسُهُولةٍ، ويُوَفَّقُ في حَرَكاتِه وأَعمالِه الأُخرَوِيّةِ، ويَنجُو النّاسُ مِن سُوءِ الظَّنِّ ويُنقَذُونَ.
أمّا كَونُ عُمُرِه المُبارَكِ الَّذي قد قُضِيَ في ثَلاثٍ وسِتِّينَ سَنةً، فمِن حِكَمِه الكَثِيرةِ نَذكُرُ واحِدةً مِنها:
إنَّ أَهلَ الإِيمانِ مُكلَّفُونَ شَرعًا بحُبِّ الرَّسُولِ الأَعظَمِ ﷺ غايةَ الحُبِّ، وبتَوقِيرِه واحتِرامِه أَكثَرَ مِن أيِّ إِنسانٍ آخَرَ، وبعَدَمِ النُّفُورِ مِن أيِّ شَيءٍ يَخُصُّه، بل رُؤْيةِ كلِّ حالٍ مِن أَحوالِه جَمِيلةً نَزِيهةً؛ ولِهذا فإنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى لا يَدَعُ حَبِيبَه الأَكرَمَ ﷺ إلى وَقتِ الشَّيخُوخةِ والهَرَمِ، وَقتِ المَشَقَّاتِ والمَتاعِبِ الَّتي تَكثُرُ بَعدَ السِّتِّينَ مِنَ العُمُرِ، بل يُرسِلُه إلى المَلَأِ الأَعلَى في الثَّالِثِ والسِّتِّينَ مِن عُمُرِه المُبارَكِ، والَّذي هو العُمُرُ الغالِبُ لِمُتوَسِّطِ أَعمارِ أُمَّتِه ﷺ، ويَرفَعُه إلى مَقامِ قُربِه، مُظهِرًا بِذلِك أنَّه ﷺ إِمامٌ في كُلِّ شَيءٍ.
[ما معنى: خيرُ شبابكم مَن تَشَبَّه بكهولكم، وخير كهولكم مَن تشبَّه بشبابكم ]
سُؤالُكُمُ السّابعُ: “خَيرُ شَبابِكُم مَن تَشَبَّهَ بِكُهُولِكُم، وشَرُّ كُهُولِكُم مَن تَشَبَّهَ بِشَبابِكُم”، هل هذا حَدِيثٌ نَبَوِيٌّ؟ وإذا كان حَدِيثًا شَرِيفًا فما المَقصُودُ مِنه؟
الجَوابُ: لقد سَمِعتُه حَدِيثًا نَبَوِيًّا شَرِيفًا، أمّا المَقصُودُ مِنه فهُو:
“إنَّ خَيرَ الشَّبابِ هم أُولاءِ الَّذِينَ لم يَتَمادَوْا في الغَفْلةِ عنِ اللهِ، بل يَتَذكَّرُونَ المَوتَ كتَذَكُّرِ الشُّيُوخِ له، فيَجِدُّونَ لِإِعمارِ آخِرَتِهِم مُتَحرِّرِينَ مِن قُيُودِ أَهواءِ الشَّبابِ ونَزَواتِه؛ وشَرَّ شُيُوخِكُم هم أُولاءِ الَّذينَ غَفَلُوا عنِ اللهِ، فاستَهْوَتْهُم غَفَلاتُ الشَّبابِ، فقَلَّدُوهُم في أَهوائِهِم تَقلِيدَ الصِّبيانِ”.
إنَّ الصُّورةَ الصَّحِيحةَ لِما رَأَيتُه في القِسمِ الثَّاني مِن لَوحَتِك هي أنَّني قد عَلَّقتُ فَوقَ رَأسِي لَوحةً تَتَضمَّنُ حِكْمةً بَلِيغةً، أَنظُرُ إلَيْها صَباحَ مَساءَ، وأَتلَقَّى دَرسِي مِنها وهي:
“إنْ كُنتَ تُرِيدُ وَليًّا، فكَفَى باللهِ وَليًّا”.
نعم، إن كانَ هو وَليَّك فكُلُّ شَيءٍ لك صَدِيقٌ.
“إنْ كُنتَ تُرِيدُ أَنِيسًا، فكَفَى بالقُرآنِ الكَرِيمِ أَنِيسًا”.
إذ تَعِيشُ فيه معَ الأَنبِياءِ والمَلائِكةِ وحَسُنَ أُولَئِك رَفِيقًا.
“إن كُنتَ تُرِيدُ مالًا، فكَفَى بالقَناعةِ كَنزًا”.
نعم، إنَّ القانِعَ يَقتَصِدُ، والمُقتَصِدَ يَجِدُ البَرَكةَ.
“إن كُنتَ تُرِيدُ عَدُوًّا، فكَفَى بالنَّفسِ عَدُوًّا”.
إذِ المُعجَبُ بنَفسِه لا مَحالةَ يَرَى المَصاعِبَ ويُبتَلَى بالمَصائِبِ، بَينَما الَّذي لا يُعجَبُ بها يَجِدُ السُّرُورَ والرّاحةَ والرَّحْمةَ.
“إن كُنتَ تُرِيدُ واعِظًا، فكَفَى بالمَوتِ واعِظًا”.
حَقًّا مَن يَذكُرُ المَوتَ يَنجُو مِن حُبِّ الدُّنيا، ويَسعَى لِآخِرَتِه سَعْيًا حَثِيثًا.
[إشراقةٌ من آية: ﴿تَوَفَّني مسلمًا وألحِقني بالصالحين؟﴾]
والآنَ يا أَخِي أَزِيدُ مَسأَلةً ثامِنةً إلى مَسائِلِكُمُ السَّبعةِ فأَقُولُ:
قَبلَ يَومَينِ، تَلا أَحَدُ الحُفّاظِ الكِرامِ آياتٍ مِن سُورةِ يُوسُفَ عَليهِ السَّلام حتَّى بَلَغَ ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾، فوَرَدَتْ إلى القَلبِ -على حِينِ غِرّةٍ- نُكتةٌ لَطِيفةٌ:
إنَّ كُلَّ ما يَخُصُّ القُرآنَ والإِيمانَ ثَمِينٌ جِدًّا، فمَهْما بَدا في الظّاهِرِ صَغِيرًا، هو مِن حَيثُ القِيمةُ والأَهَمِّيّةُ ثَمِينٌ وعَظِيمٌ.
نعم، لَيسَ صَغِيرًا ما يُعِينُ على السَّعادةِ الأَبدِيّةِ، فلا يُقالُ: إنَّ هذه النُّكتةَ صَغِيرةٌ لا تَستَحِقُّ الأَهَمِّيّةَ.
فلا رَيبَ أنَّ “إِبراهِيم خُلُوصِي” هو أَوَّلُ مَن يُرِيدُ الِاستِماعَ إلى مِثلِ هذه المَسائِلِ، فهُو الطَّالِبُ الأَوَّلُ والمُخاطَبُ الأَوَّلُ الَّذي يَقْدُرُ النُّكَتَ القُرآنيّةَ حَقَّ قَدْرِها.. ولِهذا فاستَمِعْ يا أَخِي..
إنَّها نُكتةٌ لَطِيفةٌ لِأَحسَنِ القَصَصِ
إنَّ الآيةَ الكَرِيمةَ الَّتي تُخبِرُ عن خِتامِ أَحسَنِ القَصَصِ: قِصّةِ يُوسُفَ، وهي: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ تَتَضمَّنُ نُكتةً بَلِيغةً سامِيةً لَطِيفةً تُبشِّرُ بالخَيرِ، وهي مُعجِزةٌ في الوَقتِ نَفسِه، وذلك أنَّ الآلامَ والأَحزانَ الَّتي يَتْرُكُها الزَّوالُ والفِراقُ الَّذي تَنتَهِي إلَيْهِما القِصَصُ الأُخرَى المُفرِحةُ والسَّعِيدةُ، تُنَغِّصُ اللَّذائِذَ الخَياليّةَ المُمتِعةَ المُستَفادةَ مِنَ القِصّةِ وتُكدِّرُها، ولا سِيَّما عِندَما يُخبَرُ عنِ المَوتِ والفِراقِ أَثناءَ ذِرْوةِ الفَرَحِ والسُّرُورِ والسَّعادةِ البَهِيجةِ، فيَكُونُ الأَلَمُ أَشَدَّ، حتَّى إنَّه يُورِثُ الأَسَفَ والأَسَى لَدَى السّامِعِينَ.
بَينَما هذه الآيةُ الكَرِيمةُ تَختِمُ أَسطَعَ قِسمٍ مِن قِصّةِ يُوسُفَ، وهُو عَزِيزُ مِصرَ وأَقرَّ اللهُ عَينَه ولَقِيَ والِدَيه وتَعارَفَ وتَحابَّ هو وإِخوَتُه؛ وإذ تُخبِرُ الآيةُ الكَرِيمةُ عن مَوتِ يُوسُفَ في هذه الأَثناءِ الَّتي كان فيها عَليهِ السَّلام في ذِرْوةِ السَّعادةِ والسُّرُورِ، تُخبِرُ أنَّ يُوسُفَ عَليهِ السَّلام نَفسَه هو الَّذي يَسأَلُ رَبَّه الجَلِيلَ وَفاتَه لِيَنالَ سَعادةً أَعظَمَ مِن هذه السَّعادةِ الَّتي يَرفُلُ بها، وتُوُفِّي فنالَ تلك السَّعادةَ العُظمَى، بمَعنَى أنَّ وَراءَ القَبْرِ سَعادةً أَكبَرَ وفَرَحًا أَعظَمَ مِن هذه السَّعادةِ الَّتي يَنعَمُ بها يُوسُفُ وهو الأَنِيسُ بالحَقِيقةِ، إذ طَلَبَ المَوتَ المُرَّ وهو في ذلك الوَضعِ الدُّنيَوِيِّ المُفرِحِ اللَّذِيذِ كي يَنالَ تلك السَّعادةَ العُظمَى هُنالِك.
فتَأمَّلْ يا أَخِي في بَلاغةِ القُرآنِ الحَكِيمِ هذه! كَيفَ أَخبَرَ عن خاتِمةِ قِصّةِ يُوسُفَ بذَلِك الخَبَرِ الَّذي لم يُثِرِ الأَلَمَ والأَسَفَ لَدَى السَّامِعِينَ، بل زَادَهُم بِشارةً وسُرُورًا.. فَضْلًا عن أنَّه يُرشِدُ إلى الآتي:
اِعْمَلُوا لِما وَراءَ القَبْرِ، فإنَّ السَّعادةَ الحَقّةَ واللَّذّةَ الحَقِيقيّةَ هُناك، زِدْ على ذلك أنَّه بَيَّنَ مَرتَبةَ الصِّدِّيقِيّةِ الرَّفيعةِ السَّامِيةِ لِسَيِّدِنا يُوسُفَ عَليهِ السَّلَام، إذ يقُولُ:
إنَّ أَسطَعَ حالةٍ في الدُّنيا وأَكثَرَها فَرَحًا وبَهجةً وسُرُورًا لم تُورِثْه الغَفْلةَ قَطْعًا ولم تُفتِّرْه، بل هو دائِمُ الطَّلَبِ لِلآخِرةِ.
﴿الباقي هو الباقي﴾
سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ
❀ ❀ ❀