المكتوبات

المكتوب الثاني والعشرون: إنما المؤمنون إخوة

[هذا المكتوب موعظةٌ صادقةٌ حكيمةٌ في تعظيم قدر الأُخوةِ الإيمانية وصيانتها من الغِلّ والشحناء، والتحذير من الغيبة والتكالب على حطام الدنيا]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

إن كُنتَ تُرِيدُ أن تُعادِيَ أَحَدًا فعَادِ ما في قَلبِك مِنَ العَداوةِ، واجْتَهِدْ في إِطفاءِ نارِها واستِئْصالِ شَأْفَتِها؛ وحاوِلْ أن تُعادِيَ مَن هو أَعْدَى عَدُوِّك وأَشَدُّ ضَرَرًا علَيْك، تلك هي نَفسُك الَّتي بينَ جَنبَيْك، فقاوِمْ هَواها، واسْعَ إلى إِصلاحِها، ولا تُعادِ المُؤمِنِين لِأَجْلِها؛ وإن كُنتَ تُرِيدُ العَداءَ أَيضًا فعادِ الكُفَّارَ والزَّنادِقةَ، فهُم كَثِيرُون.
إن كُنتَ تُرِيدُ أن تُعادِيَ أَحَدًا فعَادِ ما في قَلبِك مِنَ العَداوةِ، واجْتَهِدْ في إِطفاءِ نارِها واستِئْصالِ شَأْفَتِها؛ وحاوِلْ أن تُعادِيَ مَن هو أَعْدَى عَدُوِّك وأَشَدُّ ضَرَرًا علَيْك، تلك هي نَفسُك الَّتي بينَ جَنبَيْك، فقاوِمْ هَواها، واسْعَ إلى إِصلاحِها، ولا تُعادِ المُؤمِنِين لِأَجْلِها؛ وإن كُنتَ تُرِيدُ العَداءَ أَيضًا فعادِ الكُفَّارَ والزَّنادِقةَ، فهُم كَثِيرُون.
المحتويات عرض

المكتوب الثاني والعشرون‌

 

بِاسْمِهِ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه

هذا المكتوب عِبارةٌ عن مَبحَثَين.. المَبحَث الأوَّل يَدعُو أهلَ الإيمَانِ إلَى الأُخُوّة والمَحبّة.‌

[المبحث الأول: تعظيم قدرِ الأُخوَّة الإيمانية]

المَبحَث الأوَّل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾

﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾

﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾

[معاداة الأخ أخاه ظلم شنيع من ستة وجوه]

إنَّ ما يُسَبِّـبُه التَّحَيُّـزُ والعِنادُ والحَسَدُ مِن نِفاقٍ وشِقاقٍ في أَوْساطِ المُؤْمِنِين، وما يُوغِرُ صُدُورَهُم مِن حِقْدٍ وغِلٍّ وعَداءٍ، مَرفُوضٌ أَصْلًا، تَرفُضُه الحَقِيقةُ والحِكْمةُ، ويَرفُضُه الإِسلامُ الَّذي يُمَثِّـلُ رُوحَ الإنسانيّةِ الكُبْرَى؛ فَضْلًا عن أَنَّ العَداءَ ظُلْمٌ شَنِيعٌ يُفْسِدُ حَياةَ البَشَرِ: الشَّخْصِيّةَ والِاجتِماعِيّةَ والمَعنَوِيّةَ، بل هُو سُمٌّ زُعافٌ لِحَياةِ البَشَرِيّةِ قاطِبةً.

سنُبيِّنُ “سِتّةَ أَوْجُهٍ” مِن وُجُوهٍ كَثِيرةٍ لِهذه الحَقِيقةِ:

[الوجه الأول: العِداء ظلمٌ بمنظار الحقيقة]

الوجهُ الأوَّل: إنَّ عَداءَ الإنسانِ لِأَخِيه المُؤْمِنِ ظُلْمٌ في نَظَرِ الحَقِيقةِ.

فيا مَنِ امْتَلَأ صَدْرُه غِلًّا وعَداءً لِأَخِيه المُؤْمِنِ، ويا عَدِيمَ المُرُوءةِ.. هَبْ أنَّك في سَفِينةٍ أو في دارٍ ومَعَك تِسعةُ أَشخاصٍ أَبرِياءَ ومُجرِمٌ واحِدٌ، ورَأَيتَ مَن يُحاوِلُ إِغراقَ السَّفِينةِ أو هَدْمَ الدّارِ علَيكُم، فلا مِراءَ أنَّك -في هذه الحالةِ- ستَصْرُخُ بأَعْلَى صَوْتِك مُحْتَجًّا على ما يَرتَكِبُه مِن ظُلْمٍ قَبِيحٍ، إذ ليس هُناك قانُونٌ يُسَوِّغُ إِغراقَ سَفِينةٍ برُمَّتِها -ولو كانَت تَضُمُّ تِسعةَ مُجْرِمِين- طالَما فيها بَرِيءٌ واحِدٌ.

فكَما أنَّ هذا ظُلْمٌ شَنِيعٌ وغَدْرٌ فاضِحٌ، كذلك انطِواؤُك على عَداءٍ وحِقْدٍ بالمُؤْمِنِ الَّذي هو بِناءٌ رَبّانِيٌّ وسَفِينةٌ إِلٰهِيّةٌ، لِمُجَرَّدِ صِفةٍ مُجرِمةٍ فيه، تَستاءُ مِنها أو تَتَضرَّرُ، معَ أنَّه يَتَحلَّى بتِسعِ صِفاتٍ بَرِيئةٍ بل بعِشرِين مِنها: كالإيمانِ والإِسلامِ والجِوارِ.. إلخ، فهذا العَداءُ والحِقْدُ يَسُوقُك حَتْمًا إلى الرَّغبةِ ضِمْنًا في إِغراقِ سَفِينةِ وُجُودِه، أو حَرْقِ بِناءِ كِيانِه.. وما هذا إلَّا ظُلْمٌ شَنِيعٌ وغَدْرٌ فاضِحٌ.

[الوجه الثاني: العداء ظلم بمنظار الحكمة]

الوجهُ الثَّاني: العَداءُ ظُلمٌ في نَظَرِ الحِكْمة. إذِ العَداءُ والمَحَبّةُ نَقِيضانِ، فهُما كالنُّورِ والظَّلامِ لا يَجتَمِعانِ مَعًا بمَعناهُما الحَقِيقيِّ أَبدًا؛ فإذا ما اجتَمَعَت دَواعِي المَحَبّةِ وتَرَجَّحَت أَسبابُها فأَرْسَت أُسُسَها في القَلْبِ، استَحالَتِ العَداوةُ إلى عَداءٍ صُورِيٍّ، بلِ انقَلَبَت إلى صُورةِ العَطْفِ والإِشفاقِ، إذِ المُؤْمِنُ يُحِبُّ أَخاه، وعلَيه أن يَوَدَّه، فأَيُّما تَصَرُّفٍ مُشِينٍ يَصدُرُ مِن أَخِيه يَحمِلُه على الإشفاقِ علَيه، وعلى الجِدِّ في مُحاوَلةِ إِصلاحِه باللِّين والرِّفقِ دُونَ اللُّجُوءِ إلى القُوّةِ والتَّحَكُّمِ. فقد وَرَد في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: “لا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أن يَهجُرَ أَخاه فَوْقَ ثَلاثِ لَيالٍ، يَلتَقِيانِ فيُعْرِضُ هذا ويُعْرِضُ هذا، وخَيرُهُما الَّذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ”.‌

أمَّا إذا تَغَلَّبَت أَسبابُ العَداوةِ والبَغْضاءِ وتَمَكَّنَت في القَلبِ، فإنَّ المَحَبّةَ تَنقَلِبُ عِندَئِذٍ إلى مَحَبَّةٍ شَكْلِيّةٍ تَلبَسُ لَبُوسَ التَّصَنُّعِ والتَّمَلُّقِ. فاعْلَمْ إذًا أيُّها الظّالِمُ، ما أَشَدَّه مِن ظُلمٍ أن يَحمِلَ المُؤْمِنُ عَداءً وحِقْدًا لِأَخِيه! فكما أنَّك إذا استَعْظَمْتَ حَصَيَاتٍ تافِهةً ووَصَفْتَها بأنَّها أَسمَى مِنَ الكَعْبةِ المُشَرَّفةِ وأَعظَمُ مِن جَبَلِ أُحُدٍ، فإنَّك بلا شَكٍّ تَرتَكِبُ حَماقةً مُشِينةً، كذلك هي حَماقةٌ مِثلُها إنِ استَعْظَمْتَ زَلّاتٍ صَدَرَتْ مِن أَخِيك المُؤْمِنِ، واستَهْوَلْتَ هَفَواتِه الَّتي هي تافِهةٌ تَفاهةَ الحَصَيَاتِ، وفَضَّلْتَ تلك الأُمُورَ التَّافِهةَ على سُمُوِّ الإيمانِ الَّذي هو بِسُمُوِّ الكَعْبةِ، ورَجَّحْتَها على عَظَمةِ الإسلامِ الَّذي هو بعَظَمةِ جَبَلِ أُحُدٍ؛ فتَفْضِيلُك ما بَدَر مِن أَخِيك مِن أُمُورٍ بَسِيطةٍ على ما يَتَحلَّى به مِن صِفاتِ الإسلامِ الحَمِيدةِ ظُلمٌ وأيُّ ظُلمٍ! يُدرِكُه كلُّ مَن له مُسْكةٌ مِن عَقْلٍ!

نعم، إنَّ التَّوحِيدَ الإِيمانِيَّ يَستَدعِي حَتْمًا تَوحِيدَ القُلُوبِ، وإنَّ وَحْدةَ الاعتِقادِ تَقتَضِي حَتْمًا الوَحْدةَ الِاجتِماعِيّةَ؛ فأَنتَ تَستَشعِرُ بنَوعٍ مِنَ الرَّابِطةِ معَ مَن يَعِيشُ معَك في طابُورٍ واحِدٍ، وبعَلاقةِ صَداقةٍ معَه إن كُنتَ تَعمَلُ معَه تَحتَ إِمْرةِ قائِدٍ واحِدٍ، بل تَشعُرُ بعَلاقةِ أُخُوّةٍ معَه لِوُجُودِكُما في مَدِينةٍ واحِدةٍ، فما بالُك بالإيمانِ الَّذي يَهَبُ لك مِنَ النُّورِ والشُّعُورِ ما يُرِيك به مِن عَلاقاتِ الوَحْدةِ الكَثِيرةِ، ورَوابِطِ الِاتِّفاقِ العَدِيدةِ، ووَشائِجِ الأُخُوّةِ الوَفِيرةِ، ما يَبلُغُ عَدَدَ الأَسماءِ الحُسنَى، فيُرشِدُك مَثَلًا إلى: أنَّ خالِقَكُما واحِدٌ، مالِكَكُما واحِدٌ، مَعبُودَكُما واحِدٌ، رازِقَكُما واحِدٌ.. وهكذا واحِدٌ واحِدٌ إلى أن تَبلُغَ الأَلْفَ. ثمَّ إنَّ نَبِيَّـكُما واحِدٌ، دِينَـكُما واحِدٌ، قِبلَتَـكُما واحِدةٌ، وهكذا واحِدٌ واحِدٌ إلى أن تَبلُغَ المِئةَ، ثُمَّ إنَّـكُما تَعِيشانِ معًا في قَريةٍ واحِدةٍ، تَحتَ ظِلِّ دَوْلةٍ واحِدةٍ، في بِلادٍ واحِدةٍ.. وهكذا واحِدٌ واحِدٌ إلى أن تَبلُغَ العَشَرةَ.

فلَئِن كانَ هناكَ إلى هذا القَدْرِ مِنَ الرَّوابِطِ الَّتي تَستَدعِي الوَحدةَ والتَّوحِيدَ والوِفاقَ والِاتِّفاقَ والمَحَبّةَ والأُخُوّةَ، ولَها مِنَ القُوّةِ المَعنَوِيّةِ ما يَربِطُ أَجزاءَ الكَونِ الهائِلةَ، فما أَظلَمَ مَن يُعرِضُ عنها جَمِيعًا ويُفَضِّلُ علَيْها أَسبابًا واهِيةً أَوْهَنَ مِن بَيتِ العَنكَبُوتِ، تلك الَّتي تُوَلِّدُ الشِّقاقَ والنِّفاقَ والحِقْدَ والعَداءَ؛ فيُوغِرُ صَدْرَه عَداءً وغِلًّا حَقِيقيًّا لِأَخِيه المُؤمِنِ! ألَيسَ هذا إهانةً بتلك الرَّوابِطِ الَّتي تُوَحِّدُ؟ واستِخفافًا بتلك الأَسبابِ الَّتي تُوجِبُ المَحَبّةَ؟ واعتِسافًا لتلك العَلاقاتِ الَّتي تَفرِضُ الأُخُوّةَ؟ فإن لم يَكُن قَلبُك مَيتًا ولم تَنطَفِئْ بَعدُ جَذْوةُ عَقلِك فستُدرِكُ هذا جَيِّدًا.

[الوجه الثالث: ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى]

الوجهُ الثَّالث: إنَّ الآيةَ الكَرِيمةَ: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ تُفِيدُ العَدالةَ المَحْضةَ، أي: لا يَجُوزُ مُعاقَبةُ إِنسانٍ بجَرِيرةِ غَيرِه؛ فتَرَى القُرآنَ الكَرِيمَ ومَصادِرَ الشَّرِيعةِ الأُخرَى وآدابَ أَهلِ الحَقِيقةِ والحِكْمةِ الإسلامِيّةِ كُلَّها تُنبِّهُك إلى أنَّ إِضمارَ العَداءِ للمُؤمِنِ والحِقْدَ علَيه ظُلمٌ عَظِيمٌ، لأنَّه إِدانةٌ لِجَمِيعِ الصِّفاتِ البَرِيئةِ الَّتي يَتَّصِفُ بها المُؤْمِنُ بجَرِيرةِ صِفةٍ جانيةٍ فيه، ولا سِيَّما امتِدادِ العَداءِ إلى أَقارِبِه وذَوِيه بسَبَبِ صِفةٍ تَمتَعِضُ مِنها، فهُو ظُلْمٌ أَعظَمُ، كما وَصَفَه القُرآنُ الكَرِيمُ بصِيغةِ المُبالَغةِ: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ﴾، أَفَبَعدَ هذا تَجِدُ لِنَفسِك مُبَررِّاتٍ وتَدَّعي أنَّك على حَقٍّ؟!

فاعْلَمْ.. أَنَّ المَفاسِدَ الَّتي هي سَبَبُ العَداءِ والبَغْضاءِ كَثِيفةٌ في نَظَرِ الحَقِيقةِ، كالتُّرابِ والشَّرِّ نَفسِه، وشَأْنُ الكَثِيفِ أنَّه لا يَسْرِي ولا يَنعَكِسُ إلى الغَيرِ -إلّا ما يَتَعلَّمُه الإنسانُ مِن شَرٍّ مِنَ الآخَرِين- بَينَما البِرُّ والإِحسانُ وغَيرُهُما مِن أَسبابِ المَحَبّةِ فهي لَطِيفةٌ كالنُّورِ وكالمَحَبّةِ نَفسِها، ومِن شَأْنِ النُّورِ الِانعِكاسُ والسَّرَيانُ إلى الغَيرِ.. ومِن هُنا سارَ في عِدادِ الأَمثالِ: “صَدِيقُ الصَّدِيقِ صَدِيقٌ”، وتَجِدُ النّاسَ يُرَدِّدُون: “لِأَجلِ عَينٍ أَلفُ عَينٍ تُكْرَمُ”.

فيا أَيُّها المُجْحِفُ، إنْ كُنتَ تَرُومُ الحَقَّ، فالحَقِيقةُ هي هذه، لِذا فإنَّ حَمْلَك عَداءً معَ أَقارِبِ ذلك الَّذي تَكْرَهُ صِفةً فيه، وحِقْدَك على ذَوِيه المَحبُوبِين لَدَيْه، خِلافٌ لِلحَقِيقةِ وأيُّ خِلافٍ!

[الوجه الرابع: معاداة المؤمن ظلمٌ بمنظار الحياة الشخصية]

الوجهُ الرَّابع: إنَّ عَداءَك لِلمُؤمِنِ ظُلمٌ مُبِينٌ، مِن حَيثُ الحَياةُ الشَّخْصِيّةُ، فإن شِئْتَ فاسْتَمِعْ إلى بِضْعةِ دَساتِيرَ هي أَساسُ هذا الوَجْهِ الرَّابعِ:

[أربعةُ دساتير تنظِّم الاختلاف بين أهل الإيمان]
[مسلكي حق.. وليس وحدَه هو الحق]

الدُّستُورُ الأوَّلُ: عِندَما تَعلَمُ أنَّك على حَقٍّ في سُلُوكِك وأَفكارِك يَجُوزُ لك أن تقُولَ: “إنَّ مَسْلَكِي حَقٌّ أو هو أَفضَلُ”، ولَكِن لا يَجُوزُ لك أن تقُولَ: “إنَّ الحَقَّ هو مَسْلَكِي أنا فحَسْبُ”، لأنَّ نَظَرَك السَّاخِطَ وفِكْرَك الكَلِيلَ لن يَكُونا مَحَكًّا ولا حَكَمًا يَقْضِي على بُطْلانِ المَسالِكِ الأُخْرَى، وقَدِيمًا قال الشَّاعِرُ:

وعَينُ الرِّضَا عَن كُلِّ عَيبٍ كَلِيلَةٌ * ولكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبدِي المَسَاوِيَا

[عليك أن تصدق فيما تقول، لا أن تَقول كلَّ الصدق]

الدُّستُورُ الثَّاني: “علَيْك أن تقُولَ الحَقَّ في كلِّ ما تقُولُ، ولكِن ليس لك أن تُذِيعَ كُلَّ الحَقائِقِ؛ وعلَيْك أن تَصْدُقَ في كلِّ ما تَتَكلَّمُه، ولكِن ليس صَوابًا أن تقُولَ كلَّ صِدْقٍ”.

لأنَّ مَن كان على نيّةٍ غيرِ خالِصةٍ -مِثلَك- يُحْتَمَلُ أن يُثِيرَ المُقابِلَ بنَصائِحِه، فيَحْصُلَ عَكْسُ المُرادِ.

[أَولى ما يستحق العداء هو العداوة نفسُها]

الدُّستُورُ الثَّالثُ: إن كُنتَ تُرِيدُ أن تُعادِيَ أَحَدًا فعادِ ما في قَلبِك مِنَ العَداوةِ، واجْتَهِدْ في إِطفاءِ نارِها واستِئْصالِ شَأْفَتِها؛ وحاوِلْ أن تُعادِيَ مَن هو أَعْدَى عَدُوِّك وأَشَدُّ ضَرَرًا علَيْك، تلك هي نَفسُك الَّتي بينَ جَنبَيْك، فقاوِمْ هَواها، واسْعَ إلى إِصلاحِها، ولا تُعادِ المُؤمِنِين لِأَجْلِها؛ وإن كُنتَ تُرِيدُ العَداءَ أَيضًا فعادِ الكُفَّارَ والزَّنادِقةَ، فهُم كَثِيرُون.. واعْلَمْ أنَّ صِفةَ المَحَبّةِ مَحبُوبةٌ بذاتِها جَدِيرةٌ بالمَحَبّة، كما أنَّ خَصْلةَ العَداوةِ تَستَحِقُّ العَداءَ قَبلَ أيِّ شَيءٍ آخَرَ.

وإن أَرَدتَ أن تَغْلِبَ خَصْمَك فادْفَعْ سَيِّـئَتَه بالحَسَنةِ، فبِه تُخْمِدُ نارَ الخُصُومةِ؛ أمّا إذا قَابَلتَ إِساءَتَه بمِثْلِها فالخُصُومةُ تَزْدادُ، حتَّى لو أَصبَحَ مَغلُوبًا -ظاهِرًا- فقَلبُه يَمتَلِئُ غَيْظًا علَيْك، فالعَداءُ يَدُومُ والشَّحْناءُ تَستَمِرُّ. بَينَما مُقابَلَتُه بالإحسانِ تَسُوقُه إلى النَّدَمِ، وقد يكُونُ صَدِيقًا حَمِيمًا لك، إذ إنَّ مِن شَأْنِ المُؤمِنِ أن يكُونَ كَرِيمًا، فإن أَكرَمْتَه فقد مَلَكْتَه وجَعَلْتَه أَخًا لك، حتَّى لو كان لَئِيمًا -ظاهِرًا- إلّا أنَّه كَرِيمٌ مِن حَيثُ الإيمانُ، وقد قال الشّاعِرُ:

إذَا أنتَ أكرَمتَ الكَرِيمَ مَلَكتَهُ * وإنْ أَنتَ أكرَمتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا‌

نعم، إنَّ الواقِعَ يَشهَدُ: أنَّ مُخاطَبةَ الفاسِدِ بقَوْلِك له: “إنَّك صالِحٌ، إنَّك فاضِلٌ”، رُبَّما يَدْفَعُه إلى الصَّلاحِ، وكذا مُخاطَبةُ الصَّالِحِ: “إنَّك طالِحٌ، إنَّك فاسِدٌ..” رُبَّما يَسُوقُه إلى الفَسادِ، لِذا استَمِعْ بأُذُنِ القَلْبِ إلى قَولِه تَعالَى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾، ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وأَمثالِها مِنَ الدَّساتيرِ القُرآنيّةِ المُقَدَّسةِ، ففيها التَّوفيقُ والنَّجاحُ والسَّعادةُ والأَمانُ.

[معادة الأخ المؤمن ظلمٌ للنفس أولًا]

الدُّستُورُ الرَّابعُ: إنَّ الَّذي يَمْلَأُ قَلبَه الحِقدُ والعَداوةُ تِجاهَ إِخوانِه المُؤْمِنِين إنَّما يَظلِمُ نَفْسَه أَوَّلًا، عَلاوةً على ظُلْمِه لِإخوانِه، فَضْلًا عن تَجاوُزِه حُدُودَ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ، حَيثُ يُوقِعُ نَفْسَه بالحِقْدِ والعَداوةِ في عَذابٍ أَليمٍ، فيُقاسِيها عَذابًا كُلَّما رَأَى نِعْمةً حَلَّت بخَصْمِه، ويُعانِيها أَلَمًا مِن خَوْفِه؛ وإن نَشَأَتِ العَداوةُ مِنَ الحَسَدِ فدُونَه العَذابُ الأَلِيمُ، لِأنَّ الحَسَدَ أَشَدُّ إِيلامًا للحاسِدِ مِنَ المَحْسُودِ حَيثُ يُحْرِقُ صاحِبَه بلَهِيبِه، أمّا المَحْسُودُ فلا يَمَسُّه مِنَ الحَسَدِ شَيءٌ، أو يَتَضرَّرُ طَفِيفًا.

[ما علاج الحسد؟]

وعِلاجُ الحَسَدِ هو أن يُلاحِظَ الحاسِدُ عاقِبةَ ما يَحسُدُه، ويَتَأمَّلَ فيها، لِيُدرِكَ أنَّ ما نالَه مَحسُودُه مِن أَعراضٍ دُنيَوِيّةٍ -مِن مالٍ وقُوّةٍ ومَنصِبٍ- إنَّما هي أَعراضٌ زائِلةٌ فانيةٌ.. فائِدَتُها قَلِيلةٌ، مَشَقَّتُها عَظِيمةٌ.

أمّا إذا كان الحَسَدُ ناشِئًا مِن دَوافِعَ أُخرَوِيّةٍ، فلا حَسَدَ أَصْلًا؛ ولو تَحَرَّكَ عِرْقُ الحَسَدِ حتَّى في هذه الأُمُورِ، فالحاسِدُ إمّا أنَّه مُراءٍ، يُحبِطُ حَسَناتِه الأُخرَوِيّةَ في الدُّنيا، أو أنَّه يُسِيءُ الظَّنَّ بمَحْسُودِه فيَظلِمُه.

ثمَّ إنَّ الحاسِدَ في حَسَدِه يَسخَطُ على قَدَرِ اللهِ، لأنَّه يَحزَنُ مِن مَجِيءِ فَضْلٍ مِنَ اللهِ ورَحْمةٍ مِنه على مَحسُودِه، ويَرتاحُ مِن نُزُولِ المَصائِبِ علَيْه، أي: كأَنَّه يَنتَقِدُ القَدَرَ الإلٰهِيَّ ويَعتَرِضُ على رَحْمَتِه الواسِعةِ. ومَعلُومٌ أنَّ مَن يَنتَقِدُ القَدَرَ كمَن يُناطِحُ الجَبَلَ، ومَن يَعتَرِضُ على الرَّحْمةِ الإلٰهِيّةِ يُحرَمُ مِنها. تُرَى هل مِن إِنصافٍ يَرضَى أن يَمتَلِئَ صَدْرُ المُؤمِنِ لِسَنةٍ كامِلةٍ غَيْظًا وحِقْدًا على أَخِيه لِشَيءٍ جُزئِيٍّ تافِهٍ لا يُساوِي العَداءَ علَيْه لِيَومٍ واحِدٍ؟!

عِلْمًا أنَّه لا يَنبَغِي أن تَنسُبَ السَّيِّئةَ الَّتي أَتَتْك مِن أَخِيك المُؤمِنِ إلَيْه وَحْدَه وتُدِينَه بها، لِأَنَّ:

أوَّلًا: القَدَرُ الإِلٰهِيُّ لَه حَظُّه في الأَمرِ، فعَلَيْك أن تَستَقبِلَ حَظَّ القَدَرِ هذا بالرِّضَا والتَّسلِيمِ.

ثانيًا: إنَّ للشَّيطانِ والنَّفْسِ الأَمّارةِ بالسُّوءِ حَظَّهُما كذلك، فإذا ما أَخرَجْتَ هاتَينِ الحِصَّتَينِ لا يَبقَى أَمامَك إلّا الإِشفاقُ على أَخِيك بَدَلًا مِن عَدائِه، لِأنَّك تَراه مَغلُوبًا على أَمْرِه أَمامَ نَفْسِه وشَيْطانِه، فتَنتَظِرُ مِنه بعدَ ذلك النَّدَمَ على فَعْلَتِه وتَأْمَلُ عَوْدَتَه إلى صَوابِه.

ثالثًا: علَيْك أن تُلاحِظَ في هذا الأَمرِ تَقْصِيراتِ نَفْسِك، تلك الَّتي لا تَراها أو لا تَرغَبُ أن تَراها.

فاعْزِلْ هذه الحِصَّةَ أَيضًا معَ الحِصَّتَينِ السَّابِقَتَينِ، تَرَ الباقِيَ حِصَّةً ضَئِيلةً جُزئِيّةً، فإذا استَقْبَلْتَها بِهِمَّةٍ عاليةٍ وشَهامةٍ رَفِيعةٍ -أي: بالعَفْوِ والصَّفْحِ- تَنجُو مِنِ ارتِكابِ ظُلْمٍ وتَتَخلَّصُ مِن إِيذاءِ أَحَدٍ؛ بَينَما إذا قابَلْتَ إِساءَتَه بحِرصٍ شَدِيدٍ على تَوافِه الدُّنيا -كأَنَّك تَخلُدُ فيها- وبحِقْدٍ مُستَدِيمٍ وعَداءٍ لا يَفتُرُ، فلا جَرَمَ أن تَنطَبِقَ علَيْك صِفةُ ﴿ظَلُومًا جَهُولًا﴾، وتكُونَ أَشبَهَ بذلك اليَهُودِيِّ الأَحمَقِ الَّذي صَرَفَ أَمْوالًا طائِلةً لِقِطَعٍ زُجاجِيّةٍ لا تُساوِي شَيْئًا وبِلَّوْراتٍ ثَلْجِيّةٍ لا تَلبَثُ أن تَزُولَ، ظَنًّا مِنه أنَّها الأَلْماسُ.

وهكذا، فقد بَسَطْنا أَمامَك ما يُسَبِّـبُه العَداءُ مِن أَضرارٍ لِحَياةِ الإِنسانِ الشَّخْصِيّةِ.

فإن كُنتَ حَقًّا تُحِبُّ نَفْسَك فلا تُفْسِحْ له مَجالًا ليَدخُلَ قَلبَك، وإن كان قد دَخَل فِعْلًا واستَقَرَّ فلا تُصْغِ إلَيْه، بلِ استَمِعْ إلى حافِظٍ الشِّيرازِيِّ ذِي البَصِيرةِ النّافِذةِ إلى الحَقِيقةِ.. إنَّه يقُولُ:

دُنْيَا نَه مَتَاعِيسْتِى كِه اَرْزَدْ بَنِزَاعِى‌

أي: “إنَّ الدُّنيا كُلَّها لا تُساوِي مَتاعًا يَستَحِقُّ النِّزاعَ علَيْه”، فلَئِن كانَتِ الدُّنيا العَظِيمةُ بِما فيها تافِهةٌ هكذا، فما بالُك بجُزءٍ صَغِيرٍ مِنها؟!

واستَمِعْ إلَيْه أَيضًا حَيثُ يقُولُ:

آسَايِشِ دُوگِيتِى تَفْسِيرِ اِينْ دُو حَرْفَسْتْ ٭ بٰا دُوسِتَانْ مُرُوَّتْ با دُشْمَنَانْ مُدَارَا‌

أي: “نَيلُ الرّاحةِ والسَّلامةِ في كِلا العالَمَينِ تُوَضِّحُه كَلِمَتانِ: مُعاشَرةُ الأَصدِقاءِ بالمُرُوءةِ والإِنصافِ، ومُعامَلةُ الأَعداءِ بالصَّفْحِ والصَّفاءِ”.

[ماذا يفعل مَن لا يستطيع التخلص من مشاعر العداء؟]

إذا قُلتَ: إنَّ الأَمْرَ ليس في طَوْقِي، فالعَداءُ مَغْرُوزٌ في كِياني، مَغْمٌورٌ في فِطْرَتي، فليس لي خِيارٌ، فَضْلًا عن أنَّهم قد جَرَحُوا مَشاعِرِي وآذَوْني، فلا أَستَطِيعُ التَّجاوُزَ عَنهُم.

فالجَوابُ: الخُلُقُ السَّيِّئُ إن لم يُجْرِ أَثرَه وحُكْمَه، وإن لم يُعْمَلْ بمُقْتَضاه كالغِيبةِ مَثلًا، وعَرَفَ صاحِبُه تَقْصِيرَه، فلا ضَيْرَ، ولا يَنجُمُ مِنه ضَرَرٌ. فما دُمْتَ لا تَملِكُ الخِيارَ مِن أَمرِك، ولا تَستَطِيعُ أن تَتَخلَّصَ مِنَ العَداءِ، فإنَّ شُعُورَك بأنَّك مُقَصِّرٌ في هذه الخَصْلةِ، وإِدراكَك أنَّك لَسْتَ على حَقٍّ فيها، يُنجِيانِك -بإذنِ اللهِ- مِن شُرُورِ العَداءِ الكامِنِ فيك، لأنَّ ذلك يُعَدُّ نَدَمًا مَعنَوِيًّا، وتَوْبةً خَفِيّةً، واستِغْفارًا ضِمْنِيًّا. ونحنُ ما كَتَبْنا هذا المَبْحَثَ إلّا لِيُضَمَّنَ هذا الِاستِغفارَ المَعنَوِيَّ، فلا يَلْتَبِسَ على المُؤْمِنِ الحَقُّ والباطِلُ، ولا يَتَّهِمَ خَصْمَه المُحِقَّ بالظُّلْمِ.

[لماذا استعذتُ بالله من الشيطان والسياسة؟]

وقد مَرَّت عَلَيَّ حادِثةٌ جَدِيرةٌ بالمُلاحَظةِ:

رَأَيتُ ذاتَ يَومٍ رَجُلًا علَيْه سِيماءُ العِلمِ يَقْدَحُ بعالِمٍ فاضِلٍ، بانحِيازٍ مُغْرِضٍ حتَّى بَلَغ به الأَمرُ إلى حَدِّ تَكفِيرِه، وذلك لِخِلافٍ بَينَهُما حَوْلَ أُمُورٍ سِياسِيّةٍ، بَينَما رَأَيتُه قد أَثنَى -في الوَقتِ نَفسِه- على مُنافِقٍ يُوافِقُه في الرَّأْيِ السِّياسِيِّ! فأَصابَتْني مِن هذه الحادِثةِ رِعْدةٌ شَدِيدةٌ، واستَعَذْتُ باللهِ مِمّا آلَت إلَيْه السِّياسةُ، وقُلتُ: “أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ والسِّياسةِ”.

ومُنذُئِذٍ انسَحَبْتُ مِن مَيْدانِ الحَياةِ السِّياسِيّةِ.

[الوجه الخامس: للعداء والتنافر أضرارٌ على الحياة الاجتماعية]

الوَجهُ الخَامسُ: هذا الوَجهُ يُبيِّنُ مَدَى الضَّرَرِ البالِغِ الَّذي يُصِيبُ الحَياةَ الِاجتِماعِيّةَ مِن جَرَّاءِ العِنادِ والتَّنافُرِ والتَّفْرِقةِ.

فإذا قِيلَ: لقد وَرَد في حَدِيثٍ شَرِيفٍ: “اختِلافُ أُمَّتِي رَحمَةٌ”، والِاختِلافُ يَقتَضِي التَّفَرُّقَ والتَّحَزُّبَ والِاعتِدادَ بالرَّأْيِ، وكذا داءُ التَّفَرُّقِ والِاختِلافِ فيه وَجْهٌ مِنَ الرَّحْمةِ لِضُعَفاءِ النَّاسِ مِنَ العَوامِّ، إذ يُنقِذُهُم مِن تَسَلُّطِ الخَواصِّ الظَّلَمةِ الَّذين إذا حَصَل بَينَهُمُ اتِّفاقٌ في قَريةٍ أو قَصَبةٍ اضْطَهَدُوا هَؤُلاءِ الضُّعَفاءَ، ولكِن إذا كانَت ثَمّةَ تَفْرِقةٌ بَينَهُم فسيَجِدُ المَظلُومُ مَلْجَأً في جِهةٍ، فيُنقِذُ نَفْسَه.

ثمَّ إنَّ الحَقِيقةَ تَتَظاهَرُ جَلِيّةً مِن تَصادُمِ الأَفكارِ ومُناقَشةِ الآراءِ وتَخالُفِ العُقُولِ.

الجَوابُ:‌

[كيف نفهم حديث: (اختلاف أمتي رحمة)]

نقُولُ إِجابةً عنِ السُّؤالِ الأَوَّلِ:‌

إنَّ الِاختِلافَ الوارِدَ في الحَدِيثِ هو الِاختِلافُ الإِيجابِيُّ البَنّاءُ، ومَعناه: أن يَسعَى كُلُّ واحِدٍ لِتَروِيجِ مَسْلَكِه وإِظهارِ صِحّةِ وِجْهَتِه وصَوابِ نَظْرَتِه، دُونَ أن يُحاوِلَ هَدْمَ مَسالِكِ الآخَرِينَ، أوِ الطَّعْنَ في وِجْهةِ نَظَرِهم وإِبطالَ مَسْلَكِهم، بل يكُونُ سَعْيُه لِإكمالِ النَّقْصِ ورَأْبِ الصَّدْعِ والإِصلاحِ ما استَطاعَ إلَيْه سَبِيلًا.

أمَّا الِاختِلافُ السَّلْبِيُّ فهو مُحاوَلةُ كلِّ واحِدٍ تَخْرِيبَ مَسْلَكِ الآخَرِين وهَدْمَه، ومَبْعَثُه الحِقْدُ والضَّغِينةُ والعَداوةُ، فهذا النَّوْعُ مِنَ الِاختِلافِ مَرْدُودٌ أَصْلًا في نَظَرِ الحَدِيثِ، حَيثُ المُتَنازِعُون والمُختَلِفُون يَعجِزُون عنِ القِيامِ بأَيِّ عَمَلٍ إِيجابِيٍّ بَنّاءٍ.

[ألا يكون الاختلاف والتحزب مفيدًا للمجتمع أحيانًا؟]

وجَوابًا عنِ السُّؤالِ الثّاني نقُولُ:‌

إن كان التَّفَرُّقُ والتَّحَزُّبُ لِأَجلِ الحَقِّ وبِاسمِه، فلَرُبَّما يكُونُ مَلاذَ أَهلِ الحَقِّ، ولكِنَّ الَّذي نُشاهِدُه مِنَ التَّفَرُّقِ إنَّما هو لِأَغراضٍ شَخْصِيّةٍ ولِهَوَى النَّفْسِ الأَمّارةِ بالسُّوءِ؛ فهُو مَلْجَأُ ذَوِي النِّيّاتِ السَّيِّئةِ، بل مُتَّـكَأُ الظَّلَمةِ ومُرتَكَزُهم، فالظُّلْمُ واضِحٌ في تَصَرُّفاتِهم؛ فلَو أَتَى شَيْطانٌ إلى أَحَدِهِم مُعاوِنًا له مُوافِقًا لِرَأْيِه تَراه يُثْنِي علَيْه ويَتَرحَّمُ علَيْه، بَينَما إذا كان في الصَّفِّ المُقابِلِ إِنسانٌ كالمَلَك تَراه يَلْعَنُه ويَقْذِفُه.

[أليس صحيحًا أن بارقة الحقيقة تنقدح من تصادم الأفكار؟]

أمَّا عنِ السُّؤالِ الثَّالثِ فنقُولُ:‌

إنَّ تَصادُمَ الآراءِ ومُناقَشةَ الأَفكارِ لِأَجْلِ الحَقِّ وفي سَبِيلِ الوُصُولِ إلى الحَقِيقةِ إنَّما يكُونُ عِندَ اختِلافِ الوَسائِلِ معَ الِاتِّفاقِ في الأُسُسِ والغاياتِ، فهذا النَّوعُ مِنَ الِاختِلافِ يَستَطِيعُ أن يُقَدِّمَ خِدْمةً جَلِيلةً في الكَشْفِ عنِ الحَقِيقةِ وإِظهارِ كلِّ زاوِيةٍ مِن زَواياها بأَجْلَى صُوَرِ الوُضُوحِ؛ ولكِن إن كانَتِ المُناقَشةُ والبَحْثُ عنِ الحَقِيقةِ لِأَجلِ أَغراضٍ شَخْصِيّةٍ ولِلتَّسَلُّطِ والِاستِعلاءِ وإِشباعِ شَهَواتِ نُفُوسٍ فِرْعَوْنيّةٍ ونَيلِ الشُّهْرةِ وحُبِّ الظُّهُورِ، فلا تَتَلمَّعُ بارِقةُ الحَقِيقةِ في هذا النَّوْعِ مِن بَسْطِ الأَفكارِ، بل تَتَولَّدُ شَرارةُ الفِتَنِ، فلا تَجِدُ بينَ أَمثالِ هَؤُلاءِ اتِّفاقًا في المَقصَدِ والغايةِ، بل ليس على الكُرةِ الأَرضِيّةِ نُقطةُ تَلاقٍ لِأَفْكارِهِم، ذلك لِأنَّه ليس لِأَجْلِ الحَقِّ، فتَرَى فيه الإِفراطَ البالِغَ دُونَ حُدُودٍ، مِمّا يُفْضِي إلى انشِقاقاتٍ غيرِ قابِلةٍ لِلِالْتِئامِ.. وحاضِرُ العالَمِ شاهِدٌ على هذا.

[أن تعمل لله وباسم الله]

وصَفْوةُ القَولِ: إن لم تكُن تَصَرُّفاتُ المُؤمِنِ وحَرَكاتُه وَفْقَ الدَّساتيرِ السَّامِيةِ الَّتي وَضَعَها الحَدِيثُ الشَّرِيفُ: “الحُبُّ في اللهِ والبُغْضُ في اللهِ”، والِاحتِكامِ إلى أَمرِ اللهِ في الأُمُورِ كُلِّها، فالنِّفاقُ والشِّقاقُ يَسُودانِ.. نعم، إنَّ الَّذي لا يَسْتَهْدِي بتلك الدَّساتيرِ يكُونُ مُقْتَرِفًا ظُلْمًا في الوَقتِ الَّذي يَرُومُ العَدالةَ.

حادِثةٌ ذاتُ عِبرة:‌

في إِحدَى الغَزَواتِ الإسلامِيّةِ، كان الإمامُ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عَنهُ يُبارِزُ أَحَدَ فُرسانِ المُشرِكِين، فتَغَلَّب علَيْه الإمامُ وصَرَعَه، فلَمَّا أَرادَ الإمامُ أن يُجْهِزَ علَيْه تَفَل على وَجْهِ الإمامِ، فما كان مِنَ الإمامِ إلّا أن أَخْلَى سَبِيلَه وانصَرَف عنه، فاستَغْرَبَ المُشْرِكُ مِن هذا العَمَلِ.

فقال: إلى أَين؟

قال الإمامُ: كُنتُ أُقاتِلُك في سَبِيلِ اللهِ، فلَمَّا فَعَلْتَ ما فَعَلْتَ خَشِيتُ أن يكُونَ قَتْلي إيّاك فيه ثَأْرٌ لِنَفْسِي فأَطْلَقْتُك للهِ.

فأَجابَه الكافِرُ: كان الأَوْلَى أن تُثِيرَك فِعْلَتي أَكثَرَ فتُسْرِعَ في قَتْلي! وما دُمتُم تَدِينُون بدِينٍ هو في مُنتَهَى الإِخلاصِ فهُو بلا شَكٍّ دِينُ حَقٍّ.

وحادِثةٌ أُخرَى:‌ عَزَلَ مَسؤُولٌ عادِلٌ قاضِيَه لَمَّا رَأَى مِنه شَيْئًا مِنَ الحِدّةِ والغَضَبِ أَثناءَ قَطْعِه يَدَ السَّارِقِ، فما يَنبَغِي لِمَن يُنَفِّذُ أَمْرَ اللهِ أن يَحمِلَ شَيئًا مِن حَظِّ نَفْسِه على المَحكُومِ، بل علَيْه أن يُشْفِقَ -مِن حَيثُ النَّفسُ- على حالِه دُونَ أن تَأْخُذَه رَأْفةٌ في تَنفِيذِ حُكْمِ اللهِ؛ وحَيثُ إنَّ شَيْئًا مِن حَظِّ النَّفسِ قدِ اختَلَط في الأَمْرِ وهُو مِمّا يُنافي العَدالةَ الخالِصةَ فقد عُزِلَ القاضِي.

[مرضٌ اجتماعي خطير أصاب الأمر الإسلامية]

مرَضٌ اجتِماعيٌّ خَطِرٌ وحالةٌ اجتِماعيّةٌ مُؤسِفةٌ أَصابَتِ الأُمّةَ الإسلاميّةِ يَدْمَى لَها القَلبُ:‌

إنَّ أَشَدَّ القَبائِلِ بِدائيّةً يُدرِكُون مَعنَى الخَطَرِ الدّاهِمِ علَيْهِم، فتَراهُم يَنبِذُون الخِلافاتِ الدَّاخِلِيّةَ، ويَنسَوْن العَداواتِ الجانبِيَّةَ عِندَ إغارةِ العَدُوِّ الخارِجِيِّ علَيْهِم.

وإذ تَقْدُرُ تلك القَبائِلُ البِدائِيّةُ مَصْلَحَتَهمُ الِاجتِماعيّةَ حَقَّ قَدْرِها، فمالِ الَّذين يَتَولَّوْن خِدْمةَ الإسلامِ ويَدْعُون إلَيْه لا يَنسَوْن عَداوَتَهمُ الجُزئيّةَ الطَّفِيفةَ، فيُمهِّدُون بها سُبُلَ إِغارةِ الأَعداءِ الَّذين لا يَحصُرُهمُ العَدُّ علَيْهِم؟! فلقد تَراصَفَ الأَعداءُ حَوْلَهم وأَطْبَقُوا علَيْهِم مِن كلِّ مَكانٍ.. إنَّ هذا الوَضْعَ تَدَهْوُرٌ مُخِيفٌ، وانحِطاطٌ مُفْجِعٌ، وخِيانةٌ بحَقِّ الإسلامِ والمُسلِمِين.

وأَذكُرُ لِلمُناسَبةِ حِكايةً ذاتَ عِبْرةٍ:‌

كانَت هُناك قَبِيلَتانِ مِن عَشِيرةِ “حَسَنانَ”، وكانَت بَينَهُما ثاراتٌ دَمَوِيّةٌ، حتَّى ذَهَب ضَحِيَّتَها أَكثَرُ مِن خَمسِين رَجُلًا، ولكن ما إن يُداهِمُهُما خَطَرٌ خارِجِيٌّ مِن قَبِيلةِ “سِبْكانَ” أو “حَيْدَرانَ” إلّا تَتَكاتَفانِ وتَتَعاوَنانِ وتَنسَيانِ كُلِّيًّا الخِلافاتِ لِحِينِ صَدِّ العُدْوانِ.

فيا مَعْشَرَ المُؤمِنِين، أَتَدرُون كم يَبلُغُ عَدَدُ عَشائِرِ الأَعداءِ المُتَأَهِّبِين لِلإغارةِ على أَهلِ الإيمانِ؟ إنَّهم يَزِيدُون على المِئةِ وهُم يُحِيطُون بالإسلامِ والمُسلِمِين كالحَلَقاتِ المُتَداخِلةِ؛ فبَينَما يَنبَغِي أن يَتَكاتَفَ المُسلِمُون لِصَدِّ عُدْوانٍ واحِدٍ مِن أُولَئِك، يُعانِدُ كلُّ واحِدٍ ويَنحازُ جانِبًا سائِرًا وَفْقَ أَغراضِه الشَّخْصِيّةِ كأنَّه يُمَهِّدُ السَّبِيلَ لِفَتْحِ الأَبوابِ أَمامَ أُولَئِك الأَعداءِ لِيَدخُلُوا حَرَمَ الإسلامِ الآمِنِ.. فهل يَلِيقُ هذا بأُمّةِ الإسلامِ؟

وإن شِئْتَ أن تُعَدِّدَ دَوائِرَ الأَعداءِ المُحِيطةَ بالإسلامِ، فهُمُ ابتِداءً مِن أَهلِ الضَّلالةِ والإِلحادِ وانتِهاءً إلى عالَمِ الكُفْرِ ومَصائِبِ الدُّنيا وأَحوالِها المُضطَرِبةِ جَمِيعِها، فهي دَوائِرُ مُتَداخِلةٌ تَبلُغُ السَّبعِينَ دائِرةً، كلُّها تُرِيدُ أن تُصِيبَكُم بسُوءٍ، وجَمِيعُها حانِقةٌ علَيْكُم وحَرِيصةٌ على الِانتِقام مِنكُم، فليس لكم أَمامَ جَمِيعِ أُولَئِك الأَعداءِ الأَلِدّاءِ إلّا ذلك السِّلاحُ البَتّارُ والخَندَقُ الأَمِينُ والقَلْعةُ الحَصِينةُ، ألا وهي الأُخُوّةُ الإسلاميّةُ، فأَفِقْ أيُّها المُسلِمُ، واعْلَمْ أنَّ زَعْزَعةَ قَلعةِ الإسلامِ الحَصِينةِ بحُجَجٍ تافِهةٍ وأَسبابٍ واهِيةٍ، خِلافٌ للوِجْدانِ الحَيِّ وأيُّ خِلافٍ! ومُنافٍ لِمَصْلَحةِ الإسلامِ كُلِّيًّا.. فانتَبِه!

ولقد وَرَد في الأَحادِيثِ الشَّرِيفةِ ما مَضمُونُه: أنَّ الدَّجّالَ والسُّفيانِيَّ وأَمثالَهما مِنَ الأَشخاصِ الَّذين يَتَولَّوْن أَهلَ الزَّندَقةِ والنِّفاقِ، ويَظهَرُون في آخِرِ الزَّمانِ، يَستَغِلُّون الشِّقاقَ بينَ النّاسِ والمُسلِمِين ويَستَفِيدُون مِن تَكالُبِهِم على حُطامِ الدُّنيا، فيُهلِكُون البَشَرِيّةَ بقُوّةٍ ضَئِيلةٍ، ويَنشُرُون الهَرْجَ والمَرْجَ بَينَها، ويُسَيطِرُون على أُمّةِ الإسلامِ ويَأْسِرُونَها.

أيُّها المُؤمِنُون، إن كُنتُم تُرِيدُون حَقًّا الحَياةَ العَزِيزةَ، وتَرفُضُون الرُّضُوخَ لِأَغلالِ الذُّلِّ والهَوانِ، فأَفِيقُوا مِن رَقْدَتِكُم، وعُودُوا إلى رُشْدِكُم، وادخُلُوا القَلْعةَ الحَصِينةَ المُقَدَّسةَ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وحَصِّنُوا أَنفُسَكُم بها مِن أَيدِي أُولَئِك الظَّلَمةِ الَّذين يَستَغِلُّون خِلافاتِكُمُ الدّاخِلِيّةَ.. وإلّا تَعجِزُون عنِ الدِّفاعِ عن حُقُوقِكُم، بل حتَّى عنِ الحِفاظِ على حَياتِكُم، إذ لا يَخفَى أنَّ طِفْلًا صَغِيرًا يَستَطِيعُ أن يَضرِبَ بَطَلَيْنِ يَتَصارَعانِ، وأنَّ حَصاةً صَغِيرةً تَلعَبُ دَوْرًا في رَفْعِ كِفّةِ مِيزانٍ وخَفْضِ الأُخرَى ولو كان فيهِما جَبَلانِ مُتَوازِنانِ.

فيا مَعشَرَ أَهلِ الإيمانِ، إنَّ قُوَّتَكُم تَذهَبُ أَدراجَ الرِّياح مِن جَرّاءِ أَغراضِكُمُ الشَّخصِيّةِ وأَنانيَّتِكُم وتَحَزُّبِكُم، فقُوّةٌ قَلِيلةٌ جِدًّا تَتَمكَّنُ مِن أن تُذِيقَكُمُ الذُّلَّ والهَلاكَ؛ فإن كُنتُم حَقًّا مُرتَبِطِين بمِلّةِ الإسلامِ فاستَهْدُوا بالدُّستُورِ النَّبوِيِّ العَظِيمِ: “المُؤمِنُ لِلمُؤمِنِ كَالبُنيَانِ، يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا”، وعِندَها فقط تَسْلَمُون مِن ذُلِّ الدُّنيا وتَنجُون مِن شَقاءِ الآخِرةِ.

[الوجه السادس: العداء والعناد خطرٌ على الحياة المعنوية وسلامة العبودية]

الوجهُ السَّادِسُ: إنَّ الحَياةَ المَعنَوِيّةَ وسَلامةَ العُبُودِيّةِ تتَزَعْزَعانِ بسَبَبِ العَداءِ والعِنادِ، إذ يَضِيعُ الإخلاصُ الَّذي هو واسِطةُ الخَلاصِ! ذلك لِأنَّ المُعانِدَ الَّذي يَنحازُ إلى رَأْيِه وجَماعَتِه يَرُومُ التَّفوُّقَ على خَصْمِه حتَّى في أَعمالِ البِرِّ الَّتي يُزاوِلُها، فلا يُوَفَّقُ تَوفِيقًا كامِلًا إلى عَمَلٍ خالِصٍ لِوَجْهِ اللهِ؛ ثمَّ إنَّه لا يُوَفَّقُ أَيضًا لِلعَدالةِ، إذ يُرَجِّحُ في أَحكامِه ومُعامَلاتِه المُوالِين لِرَأْيِه المُوافِقِين لَه على غَيرِهم.. وهكذا يَضِيعُ أَساسانِ مُهِمّانِ لِبِناءِ البِرِّ “الإخلاصُ والعَدالةُ” بالخِصامِ والعَداءِ.

إنَّ بَحثَ هذا الوَجهِ يَطُولُ، فلا يَتَّسِعُ هذا المَقامُ أَكثَرَ مِن هذا القَدْرِ، فنَكتَفِي به.

❀   ❀   ❀

[المبحث الثاني: تحذير من الحرص والتكالب على الدنيا]

المبحث الثاني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾

﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾

أيُّها المُؤمِنُ.. لقد أَدْرَكْتَ مِمّا سَبَق مَدَى ما تَتْرُكُه العَداوةُ والبَغضاءُ مِن أَضرارٍ جَسِيمةٍ، فاعْلَمْ أنَّ الحِرْصَ أَيضًا داءٌ كالعَداءِ بل هُو أَضَرُّ على الحَياةِ الإسلامِيّةِ وأَدْهَى علَيْها. نعم، الحِرْصُ بِذاتِه سَبَبُ الخَيْبةِ والخِذْلانِ، وداءٌ وَبِيلٌ ومَهانةٌ وذِلّةٌ، وهُو الَّذي يَجْلُبُ الحِرْمانَ والدَّناءةَ.

إنَّ الشَّاهِدَ القاطِعَ على هذا الحُكْمِ على الحِرْصِ، هو ما أَصابَ اليَهُودَ مِنَ الذِّلّةِ والمَسْكَنةِ والهَوانِ والسَّفالةِ لِشِدّةِ تَهالُكِهِم على حُطامِ الدُّنيا أَكثَرَ مِن أَيّة أُمّةٍ أُخرَى.

والحِرصُ يُظهِرُ تَأْثِيرَه السَّيِّئَ بَدْءًا مِن أَوسَعِ دائِرةٍ في عالَمِ الأَحياءِ، وانتِهاءً إلى أَصغَرِ فَرْدٍ فيه، بَينَما السَّعْيُ وَراءَ الرِّزقِ المُكَلَّلِ بالتَّوَكُّلِ مَدارُ الرّاحةِ والِاطمِئْنانِ، ويُبْرِزُ أَثَرَه النّافِعَ في كلِّ مَكانٍ.

مِثالُ ذلك: أنَّ النَّباتاتِ والأَشجارَ المُثمِرةَ المُفتَقِرةَ إلى الرِّزقِ -وهي الَّتي تُعَدُّ نَوْعًا مِنَ الأَحياءِ- تُهرَعُ إلَيْها أَرْزاقُها سَرِيعةً وهي مُنتَصِبةٌ في أَماكِنِها، مُتَّسِمةٌ بالتَّوكُّلِ والقَناعةِ دُونَ أن يَبدُوَ مِنها أَثَرٌ للحِرصِ، بل تَتَفوَّقُ على الحَيَواناتِ في تَكاثُرِها وتَربِيةِ ما تَوَلَّد مِن ثَمَراتٍ؛ أمّا الحَيَواناتُ فلا تَحصُلُ على أَرزاقِها إلَّا بعد جُهْدٍ ومَشَقّةِ وبكَمِّيّةٍ زَهِيدةٍ ناقِصةٍ، ذلك لِأَنَّها تَلْهَثُ وَراءَها بحِرصٍ، وتَسعَى في البَحثِ عنها حَثِيثًا، حتَّى إنَّنا نَرَى في عالَمِ الحَيَوانِ نَفسِه أنَّ الأَرزاقَ تُسبَغُ على الصِّغارِ الَّذين يُعَبِّرُون عن تَوَكُّلِهم على اللهِ بلِسانِ حالاتِ ضَعْفِهِم وعَجْزِهم، فيُرسَلُ إلَيْهِم رِزقُهُمُ المَشرُوعُ اللَّطِيفُ الكامِلُ مِن خَزِينةِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ، بَينَما لا تَحصُلُ الحَيَواناتُ المُفتَرِسةُ الَّتي تَنقَضُّ على فَرائِسِها بحِرصٍ شَدِيدٍ إلّا بَعدَ لَأْيٍ كَبِيرٍ وتَحَرٍّ عَظِيمٍ.

فهاتانِ الحالَتانِ تُبيِّنانِ بوُضُوحٍ: أنَّ الحِرصَ سَبَبُ الحِرْمانِ، أمّا التَّوكُّلُ والقَناعةُ فهُما وَسِيلَتا الرَّحمةِ والإِحسانِ.

ونَرَى الحالَ نَفسَها في عالَمِ الإِنسانِ، إذِ اليَهُودُ الَّذين هم أَحرَصُ النّاسِ على حَياةٍ، ويَستَحِبُّون الحَياةَ الدُّنيا على الآخِرةِ، بل يَعشَقُونها حُبَّ العاشِقِ الوَلْهانِ حتَّى سَبَقُوا الأُمَمَ في هذا المَجالِ، قد ضُرِبَت علَيهِمُ الذِّلّةُ والمَهانةُ، وأُلحِقَت بهم حَمَلاتُ القَتلِ بِيَدِ الأُمَمِ الأُخرَى.. كلُّ ذلك مُقابِلَ حُصُولِهم بعدَ عَناءٍ طَوِيلٍ على ثَرْوةٍ رِبَوِيّةٍ مُحَرَّمةٍ خَبِيثةٍ، لا يُنفِقُون مِنها إلّا النَّزْرَ اليَسِيرَ، وكأنَّ وَظِيفَتَهم كَنزُها وادِّخارُها فحَسْبُ.. فتُبيِّنُ لنا هذه الحالُ: أنَّ الحِرْصَ مَعدِنُ الذِّلّةِ والخِسّةِ والخَسارةِ في عالَمِ الإِنسانيّةِ.

وهُناك وَقائِعُ كَثِيرةٌ، وحَوادِثُ لا تَدخُلُ في الحَصْرِ بأنَّ الحَرِيصَ مُعرَّضٌ دائِمًا للوُقُوعِ في حَوْمةِ الخُسْرانِ، حتَّى جَرَى “الحَرِيصُ خائِبٌ خاسِرٌ” مَجْرَى الأَمثالِ الشَّائِعةِ، واتَّخَذَه الجَمِيعُ حَقِيقةً عامّةً في نَظَرِهم.

فما دامَ الأَمرُ هكذا، إن كُنتَ تُحِبُّ المالَ حُبًّا جَمًّا فاطْلُبْه بالقَناعةِ دُونَ الحِرصِ حتَّى يَأْتيَك وافِرًا.

ويُمكِنُ أن نُشَبِّه القانِعِين مِنَ النَّاسِ والحَرِيصِين مِنهم بشَخصَينِ يَدخُلانِ مَضِيفًا كَبِيرًا أَعدَّه شخصٌ عَظِيمٌ ذُو شَأْنٍ.. يَتَمنَّى أَحَدُهُما مِن أَعماقِه قائِلًا: لو أنَّ صاحِبَ الدِّيوانِ يُؤْوِيني مُجَرَّدَ إِيواءٍ، وأَنجُو مِن شِدّةِ البَردِ الَّذي في الخارِج لَكَفاني، وحَسْبِي ذلك؛ ولو سَمَح لي بأيِّ مَقعَدٍ مُتَيسِّرٍ في أَدنَى مَوقِعٍ فهُو فَضْلٌ مِنه وكَرَمٌ. أمّا الآخَرُ فيَتَصرَّفُ كأنَّ له حَقًّا على الآخَرِين، وكأنَّهم مُضطَرُّون أن يَقُومُوا له بالِاحتِرامِ والتَّوقِيرِ، لِذا يقُولُ في أَعماقِه بغُرُورٍ: على صاحِبِ الدِّيوانِ أن يُوَفِّرَ لي أَرفَعَ مَقعَدٍ وأَحسَنَه.. وهكذا يَدخُلُ الدِّيوانَ وهو يَحمِلُ هذا الحِرْصَ ويَرمُقُ المَواقِعَ الرَّفيعةَ في المَجلِسِ، إلّا أنَّ صاحِبَ الدِّيوانِ يُرجِعُه ويَرُدُّه إلى أَدنَى مَوقِعٍ في المَجلِسِ، وهُو بِدَوْرِه يَمتَعِضُ ويَستاءُ ويَمتَلِئُ صَدْرُه غَيْظًا على صاحِبِ الدِّيوان، ففي الوَقتِ الَّذي كان علَيْه أن يُقَدِّمَ الشُّكْرَ الَّذي يَستَوجِبُه، قام بخِلافِ ما يَجِبُ علَيْه، وأَخَذ بانتِقادِ صاحِبِ الدِّيوانِ، فاستَثْقَلَه صاحِبُ الدِّيوانِ، بَينَما رَحَّب بالشَّخصِ الأَوَّلِ الَّذي دَخَل الدِّيوانَ وهُو يُشِعُّ تَواضُعًا يَلتَمِسُ الجُلُوسَ في أَدنَى مَقعَدٍ مُتَوفِّرٍ، إذ سَرَّته هذه القَناعةُ البادِيةُ مِنه والَّتي بَعَثَت في نَفسِه الِانشِراحَ والِاستِحسانَ، وأَخَذ يُرَقِّيه إلى أَعلَى مَقامٍ وأَرقاه، وهُو بِدَوْرِه يَستَزِيدُ مِن شُكْرِه ورِضاه وامتِنانِه كُلَّما صَعِدَت به المَراتِبُ.

وهكذا الدُّنيا دِيوانُ ضِيافةِ الرَّحمٰنِ، ووَجْهُ الأَرضِ سُفْرةُ الرَّحمةِ المَبسُوطةُ ومائِدةُ الرَّحمٰنِ المَنصُوبةُ، ودَرَجاتُ الأَرزاقِ ومَراتِبُ النِّعمةِ بمَثابةِ المَقاعِدِ المُتَبايِنةِ.

إنَّ سُوءَ تَأْثيرِ الحِرْصِ ووَخامةَ عاقِبَتِه يُمكِنُ أن يَشعُرَ به كلُّ واحِدٍ، حتَّى في أَصغَرِ الأُمُورِ وأَدَقِّها جُزئيّةً.

فمَثلًا: يُمكِنُ أن يَشعُرَ كلُّ شَخصٍ استِياءً واستِثقالًا في قَلبِه تِجاهَ مُتَسوِّلٍ يُلِحُّ علَيْه بحِرْصٍ شَدِيدٍ، حتَّى إنَّه يَرُدُّه، بَينَما يَشعُرُ إِشفاقًا وعَطْفًا تِجاهَ مُتَسوِّلٍ آخَرَ وَقَف صامِتًا قَنُوعًا، فيَتَصَدَّقُ علَيْه ما وَسِعَه.

ومَثلًا: إذا أَرَدتَ أن تَغفُوَ في لَيْلةٍ أُصِبْتَ فيها بالأَرَقِ، فإنَّك تَهجَعُ رُوَيدًا رُوَيدًا إن أَهْمَلْتَه ولم تُبالِ به؛ ولكن إن حَرَصتَ على النَّومِ وقَلِقتَ علَيْه وأنت تُتَمتِمُ: تُرَى متى أَنامُ؟ أين النَّومُ مِنِّي؟! فسيَتَبدَّدُ النَّومُ وتَفْقِدُه كُلِّيًّا.

ومَثلًا: تَنتَظِرُ أَحدَهُم بفارِغِ الصَّبْرِ، وأنت حَرِيصٌ على لِقائِه لِأَمرٍ مُهِمٍّ، فتَشعُرُ بالقَلَقِ قائلًا: لِمَ لم يَأْتِ؟ ما بالُه تَأَخَّر؟ وفي النِّهاية يُزِيحُ الحِرْصُ الصَّبْرَ عَنك، ويَضطَرُّك إلى مُغادَرةِ مَكانِ الِانتِظارِ يائِسًا؛ وإذا بالشَّخصِ المُنتَظَرِ يَحضُرُ بعدَ هُنَيهةٍ، ولكنَّ النَّتِيجةَ المَرجُوّةَ قد ضاعَت وتَلاشَت.

إنَّ السِّرَّ الكامِنَ في أَمثالِ هذه الحَوادِثِ وحِكْمَتَها هو: مِثلَما يَتَرتَّبُ وُجُودُ الخُبزِ على أَعمالٍ تَتِمُّ في المَزرَعةِ، والبَيْدَرِ، والطَّاحُونةِ، والفُرنِ، فإنَّ تَرَتُّبَ الأَشياءِ كذلك يَقتَرِنُ بحِكْمةِ التَّأنِّي والتَّدرُّجِ، ولكِنَّ الحَرِيصَ بسَبَب حِرْصِه لا يَتَأنَّى في حَرَكاتِه ولا يُراعي الدَّرَجاتِ والمَراتِبَ المَعنَوِيّةَ المَوجُودةَ في تَرَتُّبِ الأَشياءِ.. فإما أنَّه يَقفِزُ ويَطْفَرُ فيَسقُطُ، أو يَدَعُ إِحدَى المَراتِبِ ناقِصةً فلا يَرْتَقِي لِغايَتِه المَقصُودةِ.

فيا أَيُّها الإِخوةُ المَشدُوهُون مِن هُمُومِ العَيْشِ والهائِمُون في الحِرْصِ على الدُّنيا.. كيفَ تَرضَوْن لِأَنفُسِكُمُ الذِّلّةَ والمَهانةَ في سَبِيلِ الحِرْصِ معَ أنَّ فيه هذه الأَضرارَ والبَلايا، وتُقبِلُون على كلِّ مالٍ دُونَ أن تَعبَؤُوا أهُوَ حَلالٌ أم حَرامٌ؟ وتُضَحُّون في سَبِيلِ ذلك بأُمُورٍ جَلِيلةٍ وأَشياءَ قَيِّمةٍ تَستَوجِبُها الحَياةُ الأُخرَوِيّةُ، حتَّى إنَّكم تَدَعُون في سَبِيلِ الحِرْصِ رُكْنًا مُهِمًّا مِن أَركانِ الإسلامِ، ألا وهو “الزَّكاةُ”، عِلْمًا أنَّها بابٌ عَظِيمٌ تَفِيضُ مِنه البَرَكةُ والغِنَى على كلِّ فَرْدٍ، وتَدْفَعُ عنه البَلايا والمَصائِبَ.. فالَّذين لا يُؤَدُّون زَكاةَ أَموالِهِم لا مَحالةَ يَفقِدُون أَموالًا بقَدْرِها، ويُبَدِّدُونها إمّا في أُمُورٍ تافِهةٍ لا طائِلَ وَراءَها، أو تُلِمُّ بهم مَصائِبُ تَنتَزِعُها مِنهُمُ انتِزاعًا.

ولقد سُئِلتُ في رُؤْيا خَياليّةٍ عَجِيبةٍ ذاتِ حَقِيقةٍ، وذلك في السَّنةِ الخامِسةِ مِنَ الحَربِ العالَمِيّةِ الأُولَى، والسُّؤالُ هو:

ما السِّرُّ في هذا الفَقْرِ والخَصاصةِ الَّتي أَصابَتِ الأُمّةَ الإِسلاميّةَ، وما السِّرُّ في التَّلَفِ الَّذي أَصابَ أَموالَهُم وأَهْدَرَها، وفي العَناءِ والمَشاقِّ الَّتي رَزَحَت تَحتَه أَجسادُهم؟

وقد أَجَبتُ عنِ السُّؤالِ في رُؤْيايَ بما يَأْتي:

إنَّ اللهَ تَعالَى قد فَرَض علَيْنا فيما رَزَقَنا مِن مالِه العُشْرَ1“مِن مالِه العُشرَ” أي: جُزءًا مِن عَشَرةِ أَجزاءٍ، مِمّا يُعطِيه كالزُّرُوعِ. في قِسمٍ مِنَ الأَموالِ، وواحِدًا مِن أَربَعِين2“وواحدًا مِن أَربَعِين” أي: مِنَ المالِ القَدِيمِ (كالعُرُوضِ والمَواشِي) التي يُنتِجُ اللهُ مِنها في كلِّ سَنةٍ على الأَغلَبِ عَشَرةً بِكرًا جَدِيدًا. في قِسمٍ آخَرَ كي يَجْعَلَنا نَحظَى بأَدعِيةٍ خالِصةٍ تَنطَلِقُ مِنَ الفُقَراءِ، ويَصرِفَنا عَمّا يُوغِرُ صُدُورَهُم مِنَ الضَّغِينةِ والحَسَدِ؛ إلّا أنَّنا قَبَضْنا أَيدِيَنا حِرْصًا على المالِ فلم نُؤَدِّ الزَّكاةَ، فاسْتَرْجَع سُبحانَه وتَعالَى تلك الزَّكاةَ المُتَراكِمةَ علَيْنا بنِسبةِ ثَلاثِين مِن أَربَعِين وبنِسبةِ ثَمانِيةٍ مِن عَشَرةٍ.

وطَلَب سُبحانَه مِنّا أن نَصُومَ لِأَجْلِه ونَجُوعَ في سَبِيلِه جُوعًا يَتَضمَّنُ مِنَ الفَوائِدِ والحِكَم ما يَبلُغُ السَّبعِين فائِدةً.. طَلَب مِنّا أن نَقُومَ به في شَهْرٍ واحِدٍ مِن كُلِّ سَنةٍ، فعَزَّت علَيْنا أَنفُسُنا وأَخَذَتْنا الرَّأْفةُ بها عن غَيرِ حَقٍّ، وأَبَيْنا أن نُطِيقَ جُوعًا مُمتِعًا مُؤَقَّتًا، فما كان مِنه سُبحانَه إلّا مُجازاتُنا بنَوعٍ مِن صَوْمٍ وجُوعٍ لَه مِنَ المَصائِبِ ما يَبلُغُ السَّبعِين مُصِيبةً، وأَرْغَمَنا علَيْه طَوالَ خَمْسِ سَنَواتٍ مُتَتاليةٍ.

وكذا، طَلَب مِنّا سُبْحانَه نَوْعًا مِن تَنفِيذِ الأَوامِرِ والتَّعلِيماتِ الرَّبّانيّةِ الطَّيِّبةِ المُبارَكةِ السّامِيةِ النُّورانيّةِ، نُؤَدِّيها في ساعةٍ واحِدةٍ مِن بينِ أَربَعٍ وعِشْرِين ساعةً؛ فتَقاعَسْنا عن أَداءِ تلك الصَّلَواتِ والأَدْعِيةِ والأَذكارِ، فأَضَعْنا تلك السّاعةَ الواحِدةَ معَ بَقِيّةِ السّاعاتِ؛ فكان مِنه أن كَفَّر عَنّا سُبحانَه بما بَدا مِنّا مِن سَيِّئاتٍ وتَقْصِيراتٍ، وجَعَلَنا نُرغَمُ على أَداءِ نَوعٍ مِنَ العِبادةِ والصَّلاةِ بتَلْقِينِ التَّعْلِيماتِ والتَّدْرِيبِ ومِن كَرٍّ وفَرٍّ وعَدْوٍ وإِغارةٍ وما إلى ذلك.. في غُضُونِ خَمْسِ سَنَواتٍ مُتَتابِعةٍ.

نعم، هكذا قُلتُ في تلك الرُّؤْيا، ثمَّ أَفَقْتُ مِنها، وفَكَّرْتُ مُتَأَمِّلًا، وتَوَصَّلتُ إلى حَقِيقةٍ مُهِمّةٍ جِدًّا تَضَمَّنَتْها تلك الرُّؤْيا الخَياليّةُ.

إنَّ هُناك كَلِمَتَينِ اثنَتَينِ هُما مَنشَأُ جَمِيعِ ما آلَت إلَيْه البَشَرِيّةُ في حَياتِهِمُ الِاجتِماعِيّةِ مِن تَرَدٍّ في الأَخلاقِ وانحِطاطٍ في القِيَمِ، وهُما مَنبَعُ جَمِيعِ الِاضطِراباتِ والقَلاقِلِ، وقد بَيَّنّاهُما وأَثْبَتْناهُما في “الكَلِمةِ الخامِسةِ والعِشْرِين” عِندَ عَقْدِنا المُوازَنةَ بينَ الحَضارةِ الحَدِيثةِ وأَحكامِ القُرآنِ الكَرِيمِ. والكَلِمَتانِ هُما:

الكَلِمةُ الأُولَى: “إن شَبِعْتُ فلا عَلَيَّ أن يَمُوتَ غَيرِي مِنَ الجُوعِ”.

الكَلِمةُ الثَّانيةُ: “اكْتَسِبْ أنتَ لِآكُلَ أنا، واتْعَبْ أنتَ لِأَستَرِيحَ أنا”.

وأنَّ الَّذي يُدِيمُ هاتَينِ الكَلِمَتَينِ ويُغَذِّيهِما هو: جَرَيانُ الرِّبا، وعَدَمُ أَداءِ الزَّكاةِ. وأنَّ الحَلَّ الوَحِيدَ والدَّواءَ النّاجِعَ لِهَذَينِ المَرَضَينِ الِاجتِماعِيَّينِ هو: تَطبِيقُ الزَّكاةِ في المُجتَمَعِ وفَرْضُها فَرْضًا عامًّا، وتَحرِيمُ الرِّبا كُلِّيًّا.. لِأنَّ أَهَمِّيّةَ الزَّكاةِ لا تَنحَصِرُ في أَشخاصٍ وجَماعاتٍ مُعَيَّنةٍ فقط، بل إنَّها رُكنٌ مُهِمٌّ في بِناءِ سَعادةِ الحَياةِ البَشَرِيّةِ ورَفاهِها جَمِيعًا، بل هي عَمُودٌ أَصِيلٌ تَتَوطَّدُ به إِدامةُ الحَياةِ الحَقِيقيّةِ للإِنسانيّةِ، ذلك لِأنَّ في البَشَرِيّةِ طَبَقتَينِ: الخَواصِّ والعَوامِّ؛ والزَّكاةُ تُؤَمِّنُ الرَّحمةَ والإِحسانَ مِنَ الخَواصِّ تِجاهَ العَوامِّ، وتَضْمَنُ الِاحتِرامَ والطّاعةَ مِنَ العَوامِّ تِجاهَ الخَواصِّ؛ وإلّا ستَنْهالُ مَطارِقُ الظُّلمِ والتَّسلُّطِ على هاماتِ العَوامِّ مِن أُولَئِك الخَواصِّ، ويَنبَعِثُ الحِقْدُ والعِصْيانُ اللَّذانِ يَضْطَرِمانِ في أَفئِدةِ العَوامِّ تِجاهَ الأَغنِياءِ المُوسِرِين.. وتَظَلُّ هاتانِ الطَّبَقتانِ مِنَ النَّاسِ في صِراعٍ مَعنَوِيٍّ مُستَدِيمٍ، وتَخُوضانِ غِمارَ مَعْمَعةِ الِاختِلافاتِ المُتَناقِضةِ، حتَّى يَؤُولَ الأَمرُ تَدْرِيجِيًّا إلى الشُّرُوعِ في الِاشتِباكِ الفِعْلِيِّ والمُجابَهةِ بَينَ العُمَّالِ وأَصحابِ رَأْسِ المالِ كما حَدَث في رُوسْيا.

فيا أَهْلَ الكَرَمِ وأَصحابَ الوِجْدانِ، ويا أَهلَ السَّخاءِ والإِحسانِ.. إنْ لم تَقْصِدُوا بالإِحساناتِ الَّتي تَدفَعُونَها نيَّةَ الزَّكاةِ، ولم تَكُن باسمِها فإنَّ لَها ثلاثةَ أَضْرارٍ، بل قد تَتَلاشَى سُدًى دُونَ نَفْعٍ، ذلك لِأنَّكُم إن لم تَمنَحُوها وتُحسِنُوا بها في سَبِيلِ اللهِ وباسمِ اللهِ فإنَّكُم بلا شَكٍّ ستُبدُون مِنّةً وتَفَضُّلًا -مَعنًى- فتَجعَلُون الفَقِيرَ المِسكِينَ تَحتَ أَسارةِ المِنَّةِ وتُكَبِّلُونه بأَغلالِها، ومِن ثَمَّ تَظَلُّون مَحرُومِين مِن دُعائِه الخالِصِ المَقبُولِ، فَضْلًا عن أنَّكُم تَكُونُون جاحِدِين بالنِّعمةِ لِما تَظُنُّون أنَّكُم أَصحابُ المالِ، وفي الحَقِيقةِ لَستُم إلّا مُستَخْلَفين مَأْمُورِين تَقُومُون بتَوزِيعِ مالِ اللهِ على عِبادِه؛ ولكِن إذا أَدَّيتُمُ الإِحسانَ في سَبِيلِ اللهِ باسمِ الزَّكاةِ فإنَّكُم تَنالُون ثَوابًا عَظِيمًا، وتَكسِبُون أَجْرًا عَظِيمًا، لِأنَّكُم قد أَدَّيتُمُوه في سَبِيلِ اللهِ.. وأَنتُم بهذا العَمَل تُبْدُون شُكْرًا للنِّعَمِ الَّتي أَسبَغَها اللهُ علَيْكُم، فتَنالُون الدُّعاءَ المَقبُولَ مِن ذلك المُحتاجِ المُعْوِزِ حَيثُ لم يُضطَـرَّ إلى التَّمَلُّقِ والتَّخَوُّفِ مِنكُم، فاحْتَفَظَ بكَرامَتِه وإِبائِه فيكُونُ دُعاؤُه خالِصًا. نعم، أين ما يُمنَحُ مِن أَموالٍ بقَدْرِ الزَّكاةِ بل أَكثَرَ مِنها، والقِيامُ بحَسَناتٍ بشَتَّى صُوَرِها، ودَفْعُ صَدَقاتٍ معَ اكتِسابِ أَضْرارٍ جَسِيمةٍ أَمثالَ الرِّياءِ والصِّيتِ معَ المِنَّة والإِذلالِ، مِن أَداءِ الزَّكاةِ والقِيامِ بتلك الحَسَناتِ بنِيَّتِها في سَبِيلِ اللهِ، واغتِنامِ فَضْلِ القِيامِ بفَرِيضةٍ مِن فَرائِضِ اللهِ، وكَسْبِ ثَوابٍ مِنه سُبحانَه، والظَّفَرِ بالإِخلاصِ والدُّعاءِ المُستَجابِ؟! ألا شَتّانَ بينَ العَطاءَينِ!

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

اللَّهُمَّ صَلِّ على سَيِّدِنا مُحمَّدٍ الَّذي قال: “المُؤمِنُ لِلمُؤمِنِ كَالبُنيَانِ، يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا”، وقال: “القَنَاعَةُ كَنزٌ لَا يَفنَى” وعلى آلِه وصَحبِه أجمَعِين.. آمِينَ.

والحَمدُ للهِ رَبِّ العالَمِين.

❀   ❀   ❀

[خاتمة]

خاتمة

تَخصُّ الغِيبَة“‌

بِاسْمِهِ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه

[شناعة الغيبة كما يُصوِّرها القرآن]

لقد أَظهَرَ المِثالُ المَذكُورُ ضِمنَ أَمثِلةِ مَقامِ الذَّمِّ والزَّجرِ -في النُّقطةِ الخامِسةِ مِنَ الشُّعاعِ الأَوَّلِ مِنَ الشُّعْلةِ الأُولَى للكَلِمةِ الخامِسةِ والعِشْرِين، وذلك في ذِكْرِ آيةٍ كَرِيمةٍ واحِدةٍ- مَدَى شَناعةِ الغِيبةِ في نَظَرِ القُرآنِ، إذ بَيَّنَتِ الآيةُ بإِعجازٍ كيف تُنَفِّرُ الإِنسانَ عنِ الغِيبةِ في سِتّةِ وُجُوهٍ حتَّى أَغنَت عَن كلِّ بَيانٍ آخَرَ.. نَعم، لا بَيانَ بعدَ بَيانِ القُرآنِ ولا حاجةَ إلَيْه.

إنَّ قَولَه تَعالَى: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾ تَذُمُّ الذَّمَّ في سِتِّ دَرَجاتٍ وتَزجُرُ عنِ الغِيبةِ في سِتِّ مَراتِبَ على النَّحْوِ الآتي:

تَنهَى هذه الآيةُ الكَرِيمةُ عنِ الغِيبةِ بسِتِّ مَراتِبَ، وتَزجُرُ عنها بشِدّةٍ وعُنفٍ، وحَيثُ إنَّ خِطابَ الآيةِ مُوَجَّهٌ إلى المُغتابِين، فيكُونُ المَعنَى كالآتي:

الهَمزةُ المَوجُودةُ في البِدايةِ، للِاستِفهامِ الإِنكارِيِّ، حَيثُ يَسرِي حُكْمُه ويَسِيلُ كالماءِ إلى جَمِيعِ كَلِماتِ الآيةِ، فكُلُّ كَلِمةٍ مِنها تَتَضمَّنُ حُكْمًا.

ففي الكَلِمةِ الأُولَى تُخاطِبُ الآيةُ الكَرِيمةُ بالهَمْزةِ: أَلَيس لَكُم عَقْلٌ -وهُو مَحَلُّ السُّؤالِ والجَوابِ- لِيَعِيَ هذا الأَمرَ القَبِيحَ؟

وفي الكَلِمةِ الثَّانيةِ: ﴿يُحِبُّ﴾ تُخاطِبُ الآيةُ بالهَمْزةِ: هل فَسَد قَلْبُكُم -وهُو مَحَلُّ الحُبِّ والبُغْضِ- حتَّى أَصبَحَ يُحِبُّ أَكْرهَ الأَشياءِ وأَشَدَّها تَنفِيرًا؟!

وفي الكَلِمةِ الثَّالثةِ: ﴿أَحَدُكُمْ﴾ تُخاطِبُ بالهَمْزةِ: ماذا جَرَى لِحَياتِكُمُ الِاجتِماعِيّةِ الَّتي تَستَمِدُّ حَيَوِيَّتَها مِن حَيَوِيّةِ الجَماعةِ؟! وما بالُ مَدَنِيَّتِكُم وحَضارَتِكُم حتَّى أَصبَحَت تَرضَى بما يُسَمِّمُ حَياتَكُم ويُعَكِّرُ صَفْوَكُم.

وفي الكَلِمةِ الرَّابِعةِ: ﴿أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ﴾ تُخاطِبُ بالهَمْزةِ: ماذا أَصابَ إِنسانيَّتَكُم حتَّى أَصبَحْتُم تَفْتَرِسُون صَدِيقَكُمُ الحَمِيمَ؟!

وفي الكَلِمةِ الخامِسةِ: ﴿أَخِيهِ﴾ تُخاطِبُ بالهَمْزةِ: أَلَيس بكُم رَأْفةٌ بِبَني جِنسِكُم؟! أَلَيس لكُم صِلةُ رَحِمٍ تَربِطُكُم معَهُم، حتَّى أَصبَحتُم تَفتِكُون بمَن هُو أَخُوكُم مِن عِدّةِ جِهاتٍ، وتَنهَشُون شَخْصَه المَعنَوِيَّ المَظلُومَ نَهْشًا قاسِيًا؟! أَيَملِكُ عَقْلًا مَن يَعَضُّ عُضْوًا مِن جِسْمِه؟ أوَلَيس هو بمَجنُونٍ؟!

وفي الكَلِمةِ السَّادِسةِ: ﴿مَيْتًا﴾ تُخاطِبُ بالهَمْزةِ: أينَ وِجْدانُكُم؟ أَفَسَدَت فِطْرَتُكم حتَّى أَصبَحْتُم تَجْتَرِحُون أَبغَضَ الأَشياءِ وأَفسَدَها -وهُو أَكلُ لَحْمِ أَخِيكُم- في الوَقْتِ الَّذي هو جَدِيرٌ بكُلِّ احتِرامٍ وتَوْقِيرٍ؟!

يُفهَمُ مِن هذه الآيةِ الكَرِيمةِ، وبِما ذَكَرْناه مِن دَلائِلَ مُختَلِفةٍ في كَلِماتِها: أنَّ الغِيبةَ مَذمُومةٌ عَقْلًا وقَلْبًا وإِنسانيّةً ووِجْدانًا وفِطْرةً ومِلّةً.

فتَدَبَّرْ في هذه الآيةِ الكَرِيمةِ، وانظُرْ كيفَ تَزجُرُ عن جَرِيمةِ الغِيبةِ بإِعجازٍ بالِغٍ وبإِيجازٍ شَدِيدٍ في سِتِّ مَراتِبَ.

[دناءة الغيبة في ذاتها]

حَقًّا، إنَّ الغِيبةَ سِلاحٌ دَنِيءٌ يَستَعمِلُه المُتَخاصِمُون والحُسَّادُ والمُعانِدُون؛ لِأنَّ صاحِبَ النَّفْسِ العَزِيزةِ تَأْبَى علَيْه نَفسُه أن يَستَعمِلَ سِلاحًا حَقِيرًا كهذا.

وقَدِيمًا قال الشَّاعِرُ:

وأُكْبِرُ نَفْسِي عَنْ جَزَاءٍ بِغِيبَةٍ * فكُلُّ اغْتِيَابٍ جَهْدُ مَنْ لَا لَهُ جَهْدُ‌

والغِيبةُ هي ذِكرُك أَخاك بما يَكرَهُ، فإن كان فيه ما تَقُولُ فقدِ اغتَبْتَه، وإن لم يَكُن فيه فقد بَهَتَّه، أي: اجْتَرَحْتَ إِثمًا مُضاعَفًا.

[أربع حالاتٍ تجوز فيها الغيبة]

إلّا أنَّ الغِيبةَ وإن كانَت مُحَرَّمةً فإنَّها تَجُوزُ في أَحوالٍ مُعيَّنةٍ:

مِنها: التَّظلُّمُ، فالمَظلُومُ يَجُوزُ له أن يَصِفَ مَنْ ظَلَمَه إلى حاكِمٍ لِيُعِينَه على إِزالةِ ظُلمٍ أو مُنكَرٍ وَقَع علَيْه.

ومِنها: الِاستِفتاءُ، فإذا ما استَشارَك أَحَدٌ يُرِيدُ أن يَشتَرِكَ معَ شَخصٍ في العَمَلِ أو غَيرِه، وأَرَدتَ نَصِيحَتَه خالِصًا للهِ دُونَ أن يُداخِلَها غَرَضٌ شَخصِيٌّ، يَجُوزُ لك أن تَقُولَ: “لا تَصلُحُ لك مُعامَلَتُه، سوف تَخسَرُ وتَتَضرَّرُ”.

ومِنها: التَّعرِيفُ مِن دُونِ أن يكُونَ القَصدُ فيه التَّنقِيصَ، فتَقُولُ مَثلًا: ذهب ذلك الأَعرَجُ، أو ذلك الماجِنُ إلى مكانِ كذا.

ومِنها: إنْ كانَ فاسِقًا مُجاهِرًا بفِسْقِه، لا يَتَورَّعُ مِنَ الفَسادِ، ورُبَّما يَفتَخِرُ بسَيِّئاتِه ويَتَلذَّذُ مِن ظُلمِ الآخَرِين.

ففي هذه الحالاتِ المُعيَّنةِ تَجُوزُ الغِيبةُ للمَصلَحةِ الخالِصةِ دُونَ أن يُداخِلَها حَظُّ النَّفسِ والغَرَضُ الشَّخصِيُّ، بل تَجُوزُ لِأَجلِ الوُصُولِ إلى الحَقِّ وَحْدَه، وإلّا فالغِيبة تُحبِطُ الأَعمالَ الصّالِحةَ وتَأكُلُها كما تَأكُلُ النّارُ الحَطَبَ.

فإذا ارْتَكَب الإنسانُ الغِيبةَ، أوِ استَمَع إلَيْها برَغبةٍ مِنه، فعَلَيْه أن يَدْعُوَ: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ولِمَنِ اغْتَبْناه”، ثمَّ يَطلُبَ مِنَ الَّذي اغتابَه عَفْوَه مِنها، والإبراءَ مِنها مَتَى الْتَقاه.

❀   ❀   ❀

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى