المكتوبات

المكتوب الحادي والعشرون: وبالوالدين إحسانًا

[هذا المكتوب موعظةٌ صادقةٌ رقيقةُ المشاعر تتحدث عن برِّ الوالدين والإحسان إلى الأرحام وذوي القربى لا سيما مَن بلغوا في السن مبلغًا]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

فإن لم تَحتَرِمْ والِدَيك، فسيَأْتِي علَيْك يَومٌ لا يُوَقِّرُك أَوْلادُك ولن يَحتَرِمُوك.
فإن لم تَحتَرِمْ والِدَيك، فسيَأْتِي علَيْك يَومٌ لا يُوَقِّرُك أَوْلادُك ولن يَحتَرِمُوك.

 

المكتوب الحادي والعشرون‌

 

بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ٭ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٭ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾

أيُّها الغافِلُ، ويا مَن يَسكُنُ في بَيتِه أَبٌ شَيخٌ، أو أُمٌّ عَجُوزٌ، أو أَحَدٌ مِن ذَوِي قُرباه، أو أَخٌ في الدِّينِ مُقعَدٌ، أو شَخصٌ عاجِزٌ عَلِيلٌ.. اُنظُر إلى هذه الآيةِ الكَرِيمةِ بدِقّةٍ وإِمعانٍ، اُنظُر كَيفَ أنَّ آيةً واحِدةً تَجلُبُ لِلوالِدَينِ العَجُوزَينِ خَمسةَ أَنواعٍ مِنَ الرَّحمةِ بصُوَرٍ مُختَلِفةٍ وأَشكالٍ مُتَعدِّدةٍ!

نعم، إنَّ أَسمَى حَقِيقةٍ في الدُّنيا هي شَفَقةُ الأُمَّهاتِ والآباءِ حِيالَ أَوْلادِهِم، وإنَّ أَعلَى الحُقُوقِ كَذلِك هو حَقُّ احتِرامِهِم مُقابِلَ تلك الشَّفَقةِ والرَّأفةِ؛ ذلك لِأنَّهُم يُضَحُّونَ بحَياتِهِم فِدًى لِحَياةِ أَوْلادِهِم بكُلِّ لَذَّةٍ وسَعادةٍ.. ولِذلِك فإنَّ كلَّ وَلَدٍ -إنْ لم تَسقُط إِنسانيَّـتُه ولم يَنقَلِب بَعدُ إلى وَحشٍ- لا بُدَّ أن يُوَقِّرَ بإِخلاصٍ أُولَئِك الأَحِبّةَ المُحتَرَمِينَ، المُضَحِّينَ الصَّادِقينَ، ويَقُومَ بخِدْمَتِهِم خِدمةً صادِقةً، ويَسعَى لِنَيلِ رِضاهُم وإِدخالِ البَهجةِ في قُلُوبِهِم.

إنَّ العَمَّ والعَمّةَ هما في حُكمِ الأَبِ، وإنَّ الخالةَ والخالَ في حُكمِ الأُمِّ.. فاعْلَمْ ما أَشَدَّ انعِدامًا لِلضَّمِيرِ استِثقالُ وُجُودِ هَؤُلاءِ الشُّيُوخِ المَيامِينِ واستِرغابُ مَوتِهِم! بل ما أَشَدَّه مِن دَناءةٍ ووَضاعةٍ بالمَرّةِ! اعْلَمْ هذا.. واصْحُ!

أَجَل.. افْهَمْ ما أَقذَرَه مِن ظُلمٍ وما أَفظَعَه مِنِ انعِدامٍ لِلضَّمِيرِ أن يَتَمنَّى مُتَمَنٍّ زَوالَ الَّذي ضَحَّى بحَياتِه كُلِّها في سَبِيلِ حَياتِه هو!

أيُّها الإِنسانُ المُبتَلَى بِهُمُومِ العَيشِ، اعْلَمْ أنَّ عَمُودَ بَرَكةِ بَيتِك ووَسِيلةَ الرَّحْمةِ فيه، ودافِعَ المُصِيبةِ عنه، إنَّما هو ذلك الشَّيخُ، أو ذلك الأَعمَى مِن أَقرِبائِك الَّذي تَستَثقِلُه.. لا تَقُل أَبدًا: إنَّ مَعِيشَتِي ضَنكٌ، لا أَستَطِيعُ المُداراةَ فيها!.. ذلك لِأنَّه لو لم تَكُنِ البَرَكةُ المُقبِلةُ مِن وُجُوهِ أُولَئِك، لَكان ضَنكُ مَعِيشَتِك أَكثَرَ قَطعًا.. فخُذْ مِنِّي هذه الحَقِيقةَ، وصَدِّقْها، فإِنَّني أَعرِفُ لها كَثِيرًا مِنَ الأَدِلّةِ القاطِعةِ، وأَستَطِيعُ أن أَحمِلَك على التَّصدِيقِ بها كَذلِك.. ولكِن لِئَلّا يَطُولَ الأَمرُ فإنَّني أُوجِزُها: كُن واثِقًا جِدًّا مِن كَلامي هذا.. أُقسِمُ باللهِ أنَّ هذه الحَقِيقةَ هي في مُنتَهَى القَطعِيّةِ، حتَّى إنَّ نَفسِي وشَيْطاني أَيضًا قدِ استَسْلَما أَمامَها.. فلا غَرْوَ أنَّ الحَقِيقةَ الَّتي أَغاظَت شَيْطاني وأَسكَتَتْه وحَطَّمَت عِنادَ نَفسِي الأَمَّارةِ بالسُّوءِ لا بُدَّ أنَّها تَستَطِيعُ أن تُقنِعَك أَيضًا.

أَجَل.. إنَّ الخالِقَ ذا الجَلالِ والإِكرامِ الَّذي هو الرَّحمٰنُ الرَّحِيمُ وهو اللَّطِيفُ الكَرِيمُ -بشَهادةِ ما في الكَونِ أَجمَعَ- حِينَما يُرسِلُ الأَطفالَ إلى الدُّنيا فإنَّه يُرسِلُ أَرزاقَهُم عَقِبَهُم مُباشَرةً في مُنتَهَى اللُّطفِ؛ كانقِذافِ ما في الأَثداءِ وتَفجِيرِه كاليَنابِيعِ إلى أَفواهِهِم، كَذلِك فإنَّ أَرزاقَ العَجَزةِ -الَّذين دَخَلُوا في عِدادِ الأَطفالِ بل هُم أَحَقُّ بالمَرحَمةِ وأَحوَجُ إلى الرَّأفةِ- يُرسِلُها لَهُم سُبحانَه وتَعالَى بصُورةِ بَرَكةٍ، ولا يُحَمِّلُ الأَشِحّاءَ مِنَ النَّاسِ إِعاشةَ هَؤُلاءِ ولا يَدَعُها لَهُم.

فالحَقِيقةُ الَّتي تُفِيدُها الآياتُ الكَرِيمةُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾، ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، حَقِيقةٌ ذاتُ كَرَمٍ يَنطِقُ بها ويُنادِي بها لِسانُ حالِ جَمِيعِ المَخلُوقاتِ المُتَنوِّعةِ مِنَ الأَحياءِ.

ولَيسَ الشُّيُوخُ الأَقرِباءُ وَحْدَهُم يَأْتيهِم رِزقُهُم رَغَدًا بصُورةِ بَرَكةٍ، بل رِزقُ حتَّى بَعضِ المَخلُوقاتِ الَّتي وُهِبَتْ لِمُصاحَبةِ الإِنسانِ وصَداقَتِه كأَمثالِ القِطَطِ، فإنَّ أَرزاقَها تُرسَلُ ضِمنَ رِزقِ الإِنسانِ، وتَأْتِي بصُورةِ بَرَكةٍ أَيضًا.

ومِمّا يُؤيِّدُ هذا، ما شاهَدتُه بنَفسِي مِن مِثالٍ، وهو: كانَت لي حِصّةٌ مِنَ الغِذاءِ كلَّ يَومٍ -كما يَعلَمُ أَحِبَّائي القَرِيبُونَ- قَبلَ سَنَتَينِ أو ثَلاثٍ وهِي نِصفُ رَغِيفٍ، وكانَ رَغِيفُ تلك القَريةِ صَغِيرًا، وكَثِيرًا ما كان لا يَكفِيني؛ ثمَّ جاءَني أَربَعُ قِطَطٍ ضُيُوفًا، وقد كَفاني ذلك الغِذاءُ وكَفاهُم، بل غالِبًا ما كانَت تَبقَى مِنه فَضْلةٌ وزِيادةٌ.

هذه الحالةُ قد تكَرَّرَت عِندِي بحَيثُ أَعطَتْني قَناعةً تامّةً أَنَّني أنا الَّذي كُنتُ أَستَفِيدُ مِن بَرَكاتِ تلك القِطَطِ! وأنا أُعلِنُ إِعلانًا قاطِعًا الآنَ أنَّ تلك القِطَطَ ما كانَت حِمْلًا ولا عِبْئًا عَلَيَّ، ولم تكُن تَبقَى تَحتَ مِنَّتِي، وإنَّما أنا الَّذي كُنتُ أَبقَى تَحتَ مِنَّتِها.

أيُّها الإِنسانُ، إنَّ حَيَوانًا شِبهَ مُفتَرِسٍ يَأْتِي ضَيْفًا إلى بَيتٍ يكُونُ مِحْوَرًا لِلبَرَكةِ، فكَيفَ إذا حَلَّ في البَيتِ مَن هو أَكرَمُ المَخلُوقاتِ وهُو الإِنسانُ؟ ومَن هو أَكمَلُهُم مِن بَينِ النَّاسِ وهو المُؤمِنُ؟ ومَن هو أَجدَرُ بالِاحتِرامِ والشَّفَقةِ مِن بَينِ أَهلِ الإِيمانِ وهم العَجَزةُ والمَعلُولونَ المُعَمَّرُونَ؟ ومَن هو أَكثَرُ أَهلًا لِلخِدمةِ والمَحَبّةِ مِن بَينِ المَعلُولينَ والمُعَمَّرِينَ وأَوْلَى مَن يَستَحِقُّونَها وهُمُ الأَقرَبُونَ؟ ومَن هم أَخلَصُ صَدِيقٍ وأَصدَقُ مُحِبٍّ مِن بَينِ هَؤُلاءِ الأَقرَبِينَ وهُمُ الوالِدانِ؟! كَيفَ بهم إذا حَلُّوا في البَيتِ!

فَلَكَ أن تَقِيسَ ما أَعظَمَها مِن وَسِيلةٍ لِلبَرَكةِ، ومِن واسِطةٍ لِجَلبِ الرَّحمةِ، ومِن سَبَبٍ لِدَفعِ المُصِيبةِ! كما يَتَضمَّنُه مَعنَى الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «لَولا الشُّيُوخُ الرُّكَّعُ لَصُبَّ علَيكُمُ البَلاءُ صَبًّا».

إذًا أيُّها الإِنسانُ، تَأَمَّلْ.. واعْتَبِرْ.. واعْلَمْ أنَّك إن لم تَمُتْ فلا مَناصَ مِن أن تَصِيرَ شَيْخًا عَجُوزًا، فإن لم تَحتَرِمْ والِدَيك، فسيَأْتِي علَيْك يَومٌ لا يُوَقِّرُك أَوْلادُك ولن يَحتَرِمُوك، وذلك بما أَوْدَع اللهُ مِن سِرٍّ في «الجَزاءُ مِن جِنسِ العَمَل».. لِذا إنْ كُنتَ مُحِبًّا لِآخِرَتِك فدُونَك كَنزٌ عَظِيمٌ ألا وهُو: اخْدُمْهُما ونَلْ رِضاهُما.. وإن كُنتَ تُحِبُّ الدُّنيا فأَرْضِهِما كَذلِك واشكُرْ لَهُما.. حتَّى تَمضِيَ حَياتُك براحةٍ، وحتَّى يَأْتِيَ رِزقُك ببَرَكةٍ مِن وَرائِهِم. وإلّا.. فإنَّ استِثْقالَ هَؤُلاءِ وتَمَنِّيَ مَوتِهِم وتَجرِيحَ قُلُوبِهِمُ الرَّقِيقةِ الحَسَّاسةِ يَجعَلُك مِمَّن تَنطَبِقُ علَيْه حَقِيقةُ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ﴾.

وإذا كُنتَ تُرِيدُ رَحمةَ الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ فارْحَمْ وَدائِعَ ذلك الرَّحمٰنِ، وما استَوْدَعَك في بَيتِك مِن أَماناتٍ.

كانَ لي أَخٌ مِن إِخوانِ الآخِرةِ وهُو “مُصطَفَى چاوُوش”، وكُنتُ أَراه مُوَفَّقًا في دِينِه ودُنياه معًا، ولم أَكُن أَعرِفُ السِّرَّ، ثمَّ عَلِمتُ سَبَبَ ذلك التَّوفِيقِ، وهُو أنَّ هذا الرَّجُلَ الصَّالِحَ كان قد حَفِظَ حُقُوقَ أُمِّه وأَبِيه، ورَعاها حَقَّ رِعايَتِها، فكان أن وَجَد الرَّاحةَ والرَّحمةَ ببَرَكةِ وُجُوهِهِم، وأَرجُو أن يكُونَ قد عَمَرَ آخِرَتَه كَذلِك إن شاءَ الله.. فمَن أَرادَ أن يكُونَ سَعِيدًا فلْيَقْتَدِ به، ولْيَكُن مِثلَه.

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّم عَلَى مَن قَالَ: «الجَنَّةُ تَحتَ أقدَامِ الأُمَّهَاتِ»، وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ أجمَعِينَ.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

    

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى