المكتوب التاسع عشر: رسالة المعجزات الأحمدية.
[هذا المكتوب كتابٌ جامعٌ بإيجازٍ لدلائل النبوة المحمدية، عرَضَ ما يزيد على ثلاثمئة معجزةً وآيةً تدل على نبوة سيدنا محمد ﷺ، وبيَّن أسس تلقي أخبار المعجزات وكيفية فهمها]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

المكتوب التاسع عشر
[مقدمة]
تُبيِّنُ هذه الرِّسالةُ أَكثَرَ مِن ثَلاثِ مِئةِ مُعجِزةٍ مِن مُعجِزاتِ الرَّسُولِ الأَكرَمِ ﷺ الدّالّةِ على صِدقِ رِسالَتِه، وهي في الوَقتِ الَّذي تُبيِّنُها تُعلِنُ عن نَفسِها أيضًا بأنَّها كَرامةٌ مِن كَراماتِ تلك المُعجِزاتِ، وعَطِيّةٌ مِن عَطِيّاتِها، فأَصبَحَت هي بذاتِها خارِقةً واضِحةً بأَكثَرَ مِن ثَلاثةِ وُجُوهٍ:
الأَوَّلُ: أنَّ تَأْليفَها حَدَثٌ خارِقٌ بلا شَكٍّ، حَيثُ أُلِّفَتْ اعتِمادًا على الذاكرة فقط دُونَ مُراجَعةٍ لِمَصدَرٍ، رَغمَ ما تَشتَمِلُ علَيْه مِن رِواياتٍ لِلأَحادِيثِ الشَّرِيفةِ في أَكثَرَ مِن مِئةِ صَحِيفةٍ؛ عَلاوةً على أنَّها كُتِبَتْ على غَوارِبِ الجِبالِ وبَواطِنِ الوِدْيانِ والبَساتِينِ، خِلالَ ما يَقرُبُ مِن أَربَعةِ أَيّامٍ، وبمُعَدَّلِ ثَلاثِ ساعاتٍ يَوْمِيًّا، أي: في اثنَتَيْ عَشْرةَ ساعةً!
الثَّاني: أنَّ مُستَنسِخَها لا يَمَلُّ مِنِ استِنساخِها مَهْما استَنسَخَ مِنها، ومُداوَمةَ القِراءةِ فيها لا تُذهِبُ حَلاوَتَها رَغمَ طُولِها؛ لِذا فقد أَثارَتْ هِمَمَ الكُسالَى مِنَ المُستَنسِخِين، فكَتَبُوا -حَوالَيْنا- ما يُقارِبُ السَّبعِين نُسخةً خِلالَ سَنةٍ واحِدةٍ، في هذا الوَقتِ العَصِيبِ، مِمّا أَعطَى لِلمُطَّلِعين على ظُرُوفِنا قَناعةً كافِيةً بأنَّ هذه الرِّسالةَ هي واحِدةٌ مِن كَراماتِ تلك المُعجِزاتِ.
الثّالِثُ: أنَّ كَلِمةَ “الرَّسُولُ الأَكرَمُ ﷺ” في الرِّسالةِ كُلِّها، ولَفظَ “القُرآنُ الكَرِيمُ” في القِطْعةِ الخامِسةِ مِنها، قد تَوافَقَت عِندَ أَحَدِ المُستَنسِخِين دُونَ أن يكُونَ له عِلمٌ بالتَّوافُقِ، وحَصَلَ التَّوافُقُ نَفسُه لَدَى المُستَنسِخِين الثَّمانيةِ الآخَرِين دُونَ أن يَلتَقِيَ هَؤُلاءِ بَعضُهم ببَعضٍ، وقَبلَ أن يَنكَشِفَ التَّوافُقُ المَذكُورُ حتَّى بالنِّسبةِ إلَيْنا. فمَن كان على شَيءٍ مِنَ الإِنصافِ لا يَحمِلُ هذا على المُصادَفةِ البَتّةَ، بل حَكَم كلُّ مَنِ اطَّلَعَ عليه أنَّ هذا سِرٌّ مِن أَسرارِ الغَيْبِ، وأنَّ الرِّسالةَ كَرامةٌ مِن كَراماتِ المُعجِزةِ الأَحمَدِيّةِ على صاحِبِها أَفضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ.
هذا، وإنَّ الأُسُسَ الَّتي تَتَصدَّرُ الرِّسالةَ مُهِمّةٌ جِدًّا، وإنَّ الأَحادِيثَ الوارِدةَ فيها فَضْلًا عن كَوْنِها صَحِيحةً ومَقبُولةً لَدَى أَئِمّةِ الحَدِيثِ، فهِي تُبيِّنُ الأَكثَرَ ثُبُوتًا وقَطعِيّةً مِنَ الرِّواياتِ.
فلَو أَرَدْنا تِبْيانَ مَزايا هذه الرِّسالةِ لَاحْتَجْنا إلى رِسالةٍ أُخرَى مِثلِها، لِذا نُهِيبُ بالمُشتاقِينَ إلَيْها قِراءَتَها ولو مَرّةً واحِدةً، كي يَلمَسُوا بأَنفُسِهِم تلك المَزايا.
سَعِيدٌ النُّورْسِيّ
❀ ❀ ❀
[تنبيه حول الأحاديث الواردة في هذه الرسالة]
تنبيه
لقد أَورَدتُ أَحادِيثَ شَرِيفةً كَثِيرةً في هذه الرِّسالةِ، ولم يَكُن لَدَيَّ شَيءٌ مِن كُتُبِ الحَدِيثِ، فإن أَخطَأْتُ في لَفْظِ الأَحادِيثِ الوارِدةِ فليُصَحَّحْ، أو لِيُحْمَلْ على الرِّوايةِ بالمَعنَى، إذِ القَولُ الرّاجِحُ: أنَّه تَجُوزُ رِوايةُ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ بمَعناه، أي: أن يَذكُرَ الرَّاوِي مَعنَى الحَدِيثِ بلَفْظٍ مِن عِندِه، فما وُجِدَ في هذه الرِّسالةِ مِن أَخطاءٍ في الأَلفاظِ، فلْيُنظَرْ إلَيْها باعتِبارِها “رِوايةً بالمَعنَى“.
❀ ❀ ❀
المعجزات الأحمدية
على صاحبِها أفضلُ الصَّلاة وأتمُّ التَّسليم
بِاسْمِهِ سُبحَانَهُ
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ… الخ الآية﴾
(نَظَرًا لِقِيامِ الكَلِمَتَينِ “التَّاسِعةَ عَشْرةَ” و”الحادِيةِ والثَّلاثِينَ” الخاصَّتَينِ بالرِّسالةِ الأَحمَدِيّةِ بإِثباتِ نُبُوّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بدَلائِلَ قاطِعةٍ، نُحِيلُ إلَيْهِما قَضِيّةَ الإثباتِ، ونُبيِّنُ هنا -تَتِمّةً لَهُما- لَمَعاتٍ مِن تلك الحَقِيقةِ الكُبْرَى ضِمنَ “تِسعَ عَشْرةَ إِشارةً بَلِيغةً ذاتَ مَغزًى”).
[الإشارة الأولى: لا بد من وجود سيد البشرية وأكرم المخلوقات ﷺ]
الإشارة البليغة الأولى:
لا رَيبَ أنَّ مالِكَ هذا الكَونِ ورَبَّه يَخلُقُ ما يَخلُقُ عن عِلمٍ، ويَتَصرَّفُ في شُؤُونِه عن حِكْمةٍ، ويُدِيرُ كلَّ جِهةٍ عن رُؤْيةٍ ومُشاهَدةٍ، ويُرَبِّي كلَّ شَيءٍ عن عِلمٍ وبَصِيرةٍ، ويُدَبِّرُ الأَمرَ قاصِدًا إِظهارَ الحِكَمِ والغاياتِ والمَصالِحِ الَّتي تَتَراءَى مِن كلِّ شَيءٍ.
فما دامَ الخالِقُ يَعلَمُ، فالعالِمُ يَتكَلَّمُ، وحَيْثُ إنَّه سيَتَكلَّمُ، فسيَكُونُ كَلامُه حَتْمًا معَ مَن يَفهَمُه مِن ذَوِي الشُّعُورِ والفِكْرِ والإِدراكِ، بل معَ الإنسانِ الَّذي هُو أَفضَلُ أَنواعِ ذَوِي المَشاعِرِ والفَهْمِ وأَجمَعُهُم لتِلك الصِّفاتِ، وما دامَ كَلامُه سيَكُونُ معَ نَوْع الإِنسانِ، فسيَتكلَّمُ إذًا معَ مَن هُو أَهلٌ للخِطابِ مِنَ الكامِلِين مِن بَنِي الإِنسانِ الَّذين يَملِكُون أَعلَى استِعدادٍ وأَرفَعَ أَخلاقٍ، والَّذين هُم أَهلٌ لِأَن يكُونُوا قُدوةً للجِنسِ البَشَرِيِّ وأَئِمّةً له؛ فلا رَيبَ أنَّه سيَتَكلَّمُ معَ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّذي شَهِدَ بحَقِّه الأَولِياءُ والخُصَماءُ بأنَّه صاحِبُ أَسمَى أَخلاقٍ وأَفضلِ استِعدادٍ، والَّذي اقْتَدَى به خُمُسُ العالَمِ، وانضَمَّ تحتَ لِوائِه المَعنَوِيِّ نِصْفُ الأَرضِ، واستَضاءَ المُستَقبَلُ بالنُّورِ الَّذي بُعِثَ به طَوالَ ثَلاثةَ عَشَرَ قَرْنًا مِنَ الزَّمانِ، والَّذي يُصَلِّي علَيْه أَهلُ الإيمانِ والنُّورانيُّونَ مِنَ النّاسِ دَوْمًا، ويُثنُونَ علَيْه ويُحِبُّونَه، ويَدْعُونَ له بالرَّحمةِ والسَّعادةِ، ويُجَدِّدُونَ معَه البَيْعةَ خَمْسَ مَرَّاتٍ يَومِيًّا، وقد تَكَلَّم معَه فِعلًا؛ وسيَجْعَلُه رَسُولَه حَتْمًا وقد جَعَلَه فِعْلًا، وسيَجْعَلُه قُدْوةً وإِمامًا لِلنّاسِ كافّةً وقد جَعَلَه فِعْلًا.
[الإشارة الثانية: حول معجزاته ﷺ]
الإشارة البليغة الثانية
لقد أَعلَنَ الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ النُّبوّةَ، وقَدَّم بُرهانًا علَيْها، وهُو القُرآنُ الكَرِيمُ، وأَظهَرَ نَحوَ أَلفٍ مِنَ المُعجِزاتِ الباهِرةِ، كما هُو ثابِتٌ لَدَى أَهلِ التَّحقِيقِ مِنَ العُلَماءِ. هذه المُعجِزاتُ بمَجمُوعِها الكُلِّيِّ ثابِتةٌ قَطْعِيّةٌ كقَطْعِيّةِ ثُبُوتِ دَعوَى النُّبوّةِ، حتَّى إنَّ إِسنادَ المُعجِزاتِ إلى السِّحرِ الَّذي يُورِدُه القُرآنُ الكَرِيمُ في مَواضِعَ كَثِيرةٍ على لِسانِ الكُفَّارِ الأَلِدَّاءِ لَيُشِيرُ إلى أَنَّهم لم يُنكِرُوا وُقُوعَ المُعجِزاتِ ولم يَسَعْهُم ذلك، وإنَّما أَسنَدُوها إلى السِّحرِ خِداعًا لِأَنفُسِهِم وتَغرِيرًا بأَتْباعِهِم.
نعم، إنَّ لِلمُعجِزاتِ الأَحمَدِيّةِ قَطْعِيّةً تامّةً تَبلُغُ قُوّةَ مِئةِ تَواتُرٍ، فلا سَبِيلَ إلى إِنكارِها قَطُّ.
والمُعجِزةُ بِحَدِّ ذاتِها تَصدِيقٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ لِدَعوَى رَسُولِه الكَرِيمِ، وتَقُومُ مَقامَ حُكمِ: “صَدَقتَ”.
مِثالٌ للتَّوضِيحِ: لو كُنتَ في حَضْرةِ سُلْطانٍ أو في دِيوانِه، وقُلتَ لِمَن حَوْلَك: لَقد عَيَّنَني السُّلْطانُ عامِلًا في الأَمرِ الفُلانِيِّ، وحِينَما طَلَبُوا مِنك دَلِيلًا على ادِّعائِك أَوْمَأَ السُّلْطانُ بنَفسِه: “أَنْ نَعَم، إنِّي جَعَلتُه عامِلًا”، ألا يكُونُ ذلك شَهادةَ صِدْقٍ لَك؟ فكَيفَ إذا خَرَق السُّلْطانُ لِأَجْلِك عاداتِه وبَدَّل قَوانِينَه لِرَجاءٍ مِنك؟ أفلا يكُونُ ذلك تَصدِيقًا أَقوَى لِدَعْواك وأَثبَتُ مِن قَولِ: نَعَم؟
وكَذلِك كانَت دَعوَى الرَّسُولِ ﷺ، إذ قال: “إنَّني رَسُولٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ”، وأمّا دَلِيلي فهُو أنَّه سُبحانَه يُبَدِّلُ قَوانِينَه المُعتادةَ بالْتِجائي ودُعائي وتَوَسُّلي إلَيْه؛ وهَاكُمُ انظُرُوا إلى أَصابِعِي، إنَّه يُفَجِّرُ مِنها الماءَ كما يَتَفجَّرُ مِن خَمْسِ عُيُونٍ.. وانظُرُوا إلى القَمَرِ، إنَّه يَشُقُّه لي شِقَّينِ بإِشارةٍ مِن أُصبُعِي.. وانظُرُوا إلى تلك الشَّجَرةِ كَيفَ تَأْتي إلَيَّ لِتُصَدِّقَني وتَشهَدَ لي.. وانظُرُوا إلى هذه الحَفْنةِ مِنَ الطَّعامِ كَيفَ أنَّها تُشْبِعُ مِئتَينِ أو ثَلاثَ مِئةِ رَجُلٍ! وهكذا أَظهَرَ ﷺ مِئاتٍ مِنَ المُعجِزاتِ أَمثالَ هذه.
[دلائل النبوة لا تنحصر في معجزاته ﷺ]
واعلَمْ أنَّ دَلائِلَ صِدْقِ الرَّسُولِ ﷺ وبَراهِينَ نُبُوّتِه لا تَنحَصِرُ في مُعجِزاتِه، بل يَرَى المُدَقِّقُون أنَّ جَمِيعَ حَرَكاتِه، وأَفعالِه، وأَحوالِه، وأَقوالِه، وأَخلاقِه، وأَطْوارِه، وسِيرَتِه، وصُورَتِه، كلُّ ذلك يُثبِتُ إِخلاصَه وصِدْقَه، حتَّى آمَنَ به كَثِيرٌ مِن النّاسِ بمُجَرَّدِ النَّظَرِ إلى طَلْعَتِه البَهِيّةِ، أَمثالَ عَبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ الَّذي كانَ مِن أَشهَرِ عُلَماءِ بَني إِسرائِيلَ إذ قال: “فلَمّا اسْتَبنْتُ وَجْهَه عَرَفتُ أنَّ وَجْهَه ليس بِوَجْهِ كَذّابٍ”.
وعلى الرَّغمِ مِن أنَّ العُلَماءَ المُحَقِّقِين قد ذَكَرُوا ما يُقارِبُ الأَلْفَ مِن دَلائِلِ نُبُوَّتِه ومُعجِزاتِه، فإنَّ هُناك أُلُوفًا مِنها، بل مِئاتِ الأُلُوفِ. ولقد صَدَّقَ بنُبُوَّتِه مِئاتُ الأُلُوفِ مِنَ النّاسِ المُتَبايِنِين في الفِكْرِ بمِئاتِ الأُلُوفِ مِنَ الطُّرُقِ؛ والقُرآنُ الكَرِيمُ وَحْدَه يُظهِرُ أَلفًا مِنَ البَراهِينِ على نُبُوَّتِه ﷺ، عَدا إِعجازِه البالِغِ أَربَعِين وَجْهًا.
[نبوة الأنبياء السابقين دليل على نبوة سيدنا محمد ﷺ]
ولَمّا كانَتِ النُّبوّةُ مُحَقَّقةً وثابِتةً في الجِنسِ البَشَرِيِّ، وأنَّ مِئاتِ الأُلُوفِ مِنَ البَشَرِ جاؤُوا فأَعلَنُوا النُّبوّةَ، وقَدَّمُوا المُعجِزاتِ بُرهانًا وتَأْيِيدًا لَها، فلا شَكَّ أنَّ نُبُوّةَ مُحمَّدٍ ﷺ تكُونُ أَثبَتَ وآكَدَ مِنَ الجَمِيع، لِأَنَّ مَدارَ نُبُوّةِ الأَنبِياءِ وكَيفِيّةَ مُعامَلاتِهم معَ أُمَمِهِم والدَّلائِلَ والمَزايا والأَوْضاعَ الَّتي دَلَّت على نُبُوّةِ عامّةِ الرُّسُلِ أَمثالَ مُوسَى وعِيسَى عَلَيهمَا السَّلَام تُوجَدُ بأَتَمِّ صُوَرِها وأَفضَلِ مَعانِيها لَدَى الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ.
وحَيثُ إنَّ عِلّةَ حُكْمِ النُّبوّةِ وسَبَبَها أَكمَلُ وُجُودًا في ذاتِه ﷺ، فإنَّ حُكْمَ النُّبوّةِ لا مَحالةَ ثابِتٌ له بقَطْعِيّةٍ أَوْضَحَ مِن سائِرِ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلام.
[الإشارة الثالثة: تنوع معجزاته ﷺ]
الإشارة البليغة الثالثة:
إنَّ مُعجِزاتِ الرَّسُولِ ﷺ كَثِيرةٌ جِدًّا ومُتَنوِّعةٌ جِدًّا، وذلك لِأَنَّ رِسالَتَه عامّةٌ وشامِلةٌ لِجَمِيعِ الكائِناتِ؛ لِذا فلَه في أَغلَبِ أَنواعِ الكائِناتِ مُعجِزاتٌ تَشهَدُ له، ولْنُوضِّحْ ذلك بمِثالٍ:
لو قَدِم سَفِيرٌ كَرِيمٌ مِن لَدُنْ سُلْطانٍ عَظِيمٍ لِزِيارةِ مَدِينةٍ عامِرةٍ بأَقوامٍ شَتَّى، حامِلًا لَهُم هَدايا ثَمِينةً مُتَنوِّعةً، فإنَّ كلَّ طائِفةٍ مِنهُم ستُوفِدُ في هذه الحالِ مُمَثِّلًا عَنها لِاستِقبالِه باسمِها والتَّرحِيبِ به بلِسانِها.
كَذلِك لَمّا شَرَّف العالَمَ السَّفِيرُ الأَعظَمُ ﷺ لِمَلِكِ الأَزَلِ والأَبَدِ، ونَوَّرَه بقُدُومِه، مَبعُوثًا مِن لَدُنْ رَبِّ العالَمِينَ إلى أَهلِ الأَرضِ جَمِيعًا، حامِلًا مَعَه هَدايا مَعنَوِيّةً وحَقائِقَ نَيِّرةً تَتَعلَّقُ بحَقائِقِ الكائِناتِ كُلِّها، جاءَه مِن كُلِّ طائِفةٍ مَن يُرَحِّبُ بمَقْدَمِه ويُهَنِّـئُه بلِسانِه الخاصِّ، ويُقَدِّمُ بينَ يَدَيْه مُعجِزةَ طائِفَتِه تَصْدِيقًا بِنُبُوَّتِه، وتَرحِيبًا بها، ابتِداءً مِنَ الحَجَرِ والماءِ والشَّجَرِ والإِنسانِ، وانتِهاءً بالقَمَرِ والشَّمسِ والنُّجُومِ، فكَأَنَّ كُلًّا مِنها يُرَدِّدُ بلِسانِ الحالِ: أَهلًا ومَرحَبًا بمَبْعَثِك.
إنَّ بَحثَ تلك المُعجِزاتِ كُلِّها يَحتاجُ إلى مُجَلَّداتٍ لِكَثْرَتِها وتَنَوُّعِها، وقد أَلَّفَ العُلَماءُ الأَصفِياءُ مُجَلَّداتٍ ضَخْمةً حَوْلَ تَفاصِيلِ دَلائِلِ النُّبوّةِ والمُعجِزاتِ، إلّا أنَّنا هُنا نَكتَفِي بإِشاراتٍ مُجمَلةٍ إلى ما هُو قَطْعِيُّ الثُّبوتِ والمُتَواتِرُ مَعنًى مِنَ الأَنواعِ الكُلِّيّةِ لِتِلك المُعجِزاتِ.
[أقسام دلائل النبوة]
إنَّ دَلائِلَ نُبُوّةِ الرَّسُولِ ﷺ قِسمانِ:
الأَوَّلُ: الحالاتُ الَّتي سُمِّيَت بالإِرهاصاتِ، وهي الحَوادِثُ الخارِقةُ الَّتي وَقَعَت قَبلَ النُّبوّةِ ووَقْتَ الوِلادةِ.
الثّاني: دَلائِلُ النُّبوَّةِ الأُخرَى، وهذا يَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ:
أَحَدُهما: الخَوارِقُ الَّتي ظَهَرَت بَعدَه ﷺ تَصدِيقًا لِنُبوَّتِه.
ثانيهِما: الخَوارِقُ الَّتي ظَهَرَت في مُدّةِ حَياتِه المُبارَكةِ ﷺ. وهذا القسمُ أَيضًا قِسمانِ:
الأَوَّلُ: ما ظَهَر مِن دَلائِلِ النُّبوّةِ في شَخْصِه وسِيرَتِه وصُورَتِه وأَخلاقِه وكَمالاتِه.
الثَّاني: ما ظَهَر مِنها في أُمُورٍ خارِجةٍ عن ذاتِه الشَّرِيفةِ، أي: في الآفاقِ والكَوْنِ. وهذا أَيضًا قِسمانِ: قِسمٌ مَعنَوِيٌّ وقُرآنِيٌّ، وقِسمٌ مادِّيٌّ وكَوْنِيٌّ. وهذا الأَخِيرُ قِسمانِ أَيضًا:
القِسمُ الأَوَّلُ: المُعجِزاتُ الَّتي ظَهَرَت خِلالَ مُدّةِ الدَّعوةِ النَّبَوِيّةِ، وهيَ إمّا لِكَسْرِ عِنادِ الكُفّارِ، أو لِتَقْوِيةِ إِيمانِ المُؤمِنِين؛ كانشِقاقِ القَمَرِ، ونَبَعانِ الماءِ مِن بَينِ أَصابِعِه الشَّرِيفةِ، وإِشباع الكَثِيرِينَ بطَعامٍ قَلِيلٍ، وتَكَلُّمِ الحَيَوانِ والشَّجَرِ والحَجَرِ.. وأَمثالِها مِنَ المُعجِزاتِ الَّتي تَبلُغُ عِشرِين نَوْعًا، كلُّ نَوْعٍ مِنها بدَرَجةِ المُتَواتِرِ المَعنَوِيِّ، ولِكُلِّ نَوْعٍ مِنها نَماذِجُ عِدّةٌ مُكَرَّرةٌ.
القِسمُ الثّاني: الحَوادِثُ الَّتي أَخبَرَ عَنْها ﷺ قَبلَ وُقُوعِها، بما عَلَّمَه اللهُ سُبحانَه، وظَهَرَت تلك الحَوادِثُ وتَحَقَّقَت كما أَخبَرَ.
ونحنُ الآنَ نَستَهِلُّ بهذا القِسمِ الأَخِيرِ لِلوُصُولِ إلى فِهرِسٍ مُتَسَلسِلٍ عامّ. ﴿(حاشية): آسَفُ لأنِّي لم أَستَطِعِ الكِتابةَ كما كُنتُ أَنوِي، فقد كَتَبتُ كما خَطَر على القَلبِ دُونَما اختِيارٍ. ولم أَتمَكَّن مِن مُراعاةِ التَّسَلسُلِ الَّذي في هذا التَّقسِيمِ.﴾
[الإشارة الرابعة: معجزات إخباراته الغيبية ﷺ المتعلقة بالآل والأصحاب]
الإشارة البليغة الرابعة
إنَّ ما أَنبَأَ به الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ مِن أَنباءِ الغَيبِ بتَعلِيمٍ مِنَ اللهِ عَلَّامِ الغُيُوبِ كَثِيرٌ لا يُعَدُّ ولا يُحصَى. وقد أَشَرْنا إلى أَنواعِه في “الكَلِمةِ الخامِسةِ والعِشرِينَ” الخاصَّةِ بإِعجازِ القُرآنِ، وسُقْنا هُناك بَراهِينَه؛ لِذا فالأَخبارُ الغَيبِيّةُ المُتَعلِّقةُ بالأَزمِنةِ السَّالِفةِ والأَنبِياءِ السَّابِقِينَ وحَقائِقِ الأُلُوهِيّةِ وحَقائِقِ الكَوْنِ، وحَقائِقِ الآخِرةِ، يُراجَعُ في شَأْنِها تلك الكَلِمةُ.
أمَّا هُنا فسنُورِدُ بِضْعةَ أَمثِلةٍ مِن أَخبارٍ غَيبِيّةٍ صادِقةٍ تَتَعلَّقُ بالحَوادِثِ الَّتي ستُصِيبُ الآلَ والأَصحابَ -رِضْوانُ اللهِ علَيْهِم أَجمَعِين- مِن بَعدِه ﷺ وما ستَلْقاه أُمَّتُه في مُقْبِلِ أَيَّامِها.
[ستة أسس لفهم أحاديث الإخبارات المستقبلية]
ولِأَجلِ الوُصُولِ إلى إِدراكِ هذه الحَقِيقةِ إِدْراكًا كامِلًا نُبيِّنُ بينَ يَدَيْها أُسُسًا سِتّةً مُقَدِّمةً لَها.
[أساس (1): جميع أحواله ﷺ دلائلُ لنبوته ولكن ليست جميع أحواله خوارق]
الأَساسُ الأَوَّلُ: إنَّ جَمِيعَ أَحوالِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ وأَطوارِه يُمكِنُ أن تكُونَ دَلِيلًا على صِدْقِه وشاهِدًا على نُبُوَّتِه، إلّا أنَّ هذا لا يَعنِي أن تكُونَ جَمِيعُ أَحوالِه وأَفعالِه خارِقةً لِلعادةِ؛ ذلك لأنَّ اللهَ سُبحانَه قد أَرسَلَه بَشَرًا رَسُولًا، لِيَكُونَ بأَعمالِه وحَرَكاتِه كُلِّها إِمامًا ومُرشِدًا لِلبَشَرِ كافّةً، وفي أَحوالِهِم كافّةً، لِيُحَقِّقَ لَهُم بها سَعادةَ الدُّنيا والآخِرةِ، ولِيُبيِّنَ لَهُم خَوارِقَ الصَّنعةِ الرَّبّانيّةِ وتَصَرُّفَ القُدْرةِ الإلٰهِيّةِ في الأُمُورِ المُعتادةِ، تلك الأُمُورِ الَّتي هي بحَدِّ ذاتِها مُعجِزاتٌ.
فلَو كان ﷺ في جَمِيعِ أَفعالِه خارِقًا لِلعادةِ، خارِجًا عن طَوْرِ البَشَرِ، لَمَا تَسَنَّى لَه أن يكُونَ أُسْوةً يُقتَدَى به، وما وَسِعَه أن يكُونَ بأَفعالِه وأَحوالِه وأَطوارِه إِمامًا للآخَرِين؛ لِذا ما كان يَلجَأُ إلى إِظهارِ المُعجِزاتِ إلّا بينَ حِينٍ وآخَرَ، عِندَ الحاجةِ، إِقرارًا لِنُبُوَّتِه أَمامَ الكُفّارِ المُعانِدِين.
ولَمّا كان الِابتِلاءُ والِاختِبارُ مِن مُقتَضَياتِ التَّكلِيفِ الإلٰهِيِّ، فلم تَعُدِ المُعجِزةُ مُرغِمةً على التَّصدِيقِ -أي: سَواءٌ أَرادَ الإنسانُ أم لم يُرِدْ- لِأنَّ سِرَّ الِامتِحانِ وحِكْمةَ التَّكلِيفِ يَقتَضِيانِ مَعًا فَتْحَ مَجالِ الِاختِيارِ أَمامَ العَقْلِ مِن دُونِ سَلْبِ الإِرادةِ مِنه. فلَو ظَهَرَتِ المُعجِزةُ ظُهُورًا بَدِيهِيًّا مُلزِمًا للعَقلِ -كما هو شَأْنُ البَدِيهِيّاتِ- لَمَا بَقِيَ لِلعَقلِ ثَمّةَ اختِيارٌ، ولَصَدَّق أبو جَهْلٍ كما صَدَّقَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ الله عَنهُ، ولَانتَفَتِ الفائِدةُ مِنَ التَّكلِيفِ والغايةُ مِنَ الِامتِحانِ، ولَتَساوَى الفَحْمُ الخَسِيسُ معَ الأَلماسِ النَّفِيسِ!
بَيْدَ أنَّ الَّذي يُثيرُ الدَّهشةَ والحَيْرةَ، أنَّ أُلُوفًا مِن أَجناسٍ مُختَلِفةٍ مِنَ النّاسِ آمَنُوا بمُجَرَّدِ رُؤْيةِ مُعجِزةٍ مِنه ﷺ أو بكَلامٍ مِنه أو بالنَّظَرِ إلى طَلْعَتِه البَهِيّةِ، أو ما شابَهَها مِن دَلائِلِ صِدْقِ نُبُوَّتِه ﷺ، وآمَنَ به أُلُوفُ العُلَماءِ المُدَقِّقين والمُفَكِّرين المُحَقِّقين، بما نُقِل إلَيْهِم مِن صِدْقِ أَخبارِه وجَمِيلِ آثارِه نَقْلًا صَحِيحًا مُتَواتِرًا، أَقُولُ: أَفلا يَدْعُو إلى العَجَبِ أن يَرَى أَشقِياءُ هذا العَصْرِ جَمِيعَ هذه الدَّلائِلِ الواضِحةِ كأنَّها غيرُ وافِيةٍ لِإيمانِهِم وتَصدِيقِهِم، فتَراهُم يَنزَلِقُون إلى هاوِيةِ الضَّلالِ؟
[أساس (2): النبي ﷺ بشرٌ ورسول معًا، ولكلٍّ منهما مقتضى]
الأَساسُ الثَّاني: إنَّ الرَّسُولَ الكَرِيمَ ﷺ بَشَرٌ، فهُو يَتَعامَلُ معَ النّاسِ انطِلاقًا مِن بَشَرِيَّتِه هذه؛ وهُو كَذلِك رَسُولٌ، وبمُقتَضَى الرِّسالةِ هو ناطِقٌ أَمِينٌ بِاسمِ اللهِ تَعالَى ومُبَلِّغٌ صادِقٌ لِأَوامِرِه سُبحانَه، فرِسالَتُه تَستَنِدُ إلى حَقِيقةِ الوَحْيِ.
والوَحْيُ قِسمانِ:
الأوَّلُ: الوَحْيُ الصَّرِيحُ كالقُرآنِ الكَرِيمِ وبَعضِ الأَحادِيثِ القُدسِيّةِ؛ فالرَّسُولُ ﷺ في هذا مُبَلِّغٌ مَحْضٌ لا غَيرُ، مِن دُونِ أن يكُونَ له تَصَرُّفٌ أو تَدَخُّلٌ في شَيءٍ مِنه.
الثَّاني: الوَحْيُ الضِّمْنيُّ، وهُو الَّذي يَستَنِدُ في خُلاصَتِه ومُجمَلِه إلى الوَحْيِ والإِلهامِ، إلّا أنَّه في تَفصِيلِه وتَصوِيرِه يَعُودُ إلى الرَّسُولِ ﷺ؛ فتَفصِيلُ الحادِثةِ الآتِيةِ مُجمَلةً مِن هذا الوَحْيِ وتَصوِيرُها إمَّا يُبيِّنُه الرَّسُولُ ﷺ أَحيانًا استِنادًا إلى الإِلهامِ أو إلى الوَحْيِ، أو يُبيِّنُه بفِراسَتِه الشَّخصِيّةِ.. وهذه التَّفاصِيلُ الَّتي يُبيِّنُها الرَّسُولُ ﷺ باجتِهادِه الذّاتِيِّ: إمّا أنَّه يُبيِّنُها بما يَتَمتَّعُ به مِن قُوّةٍ قُدسِيّةٍ عُلْيا بمُقتَضَى الرِّسالةِ، أو يُبيِّنُها بخَصائِصِه البَشَرِيّةِ وبمُستَوَى عُرْفِ النّاسِ وعاداتِهِم وأَفكارِهِم.
وهكذا، لا يُنظَرُ إلى جَمِيعِ تَفاصِيلِ كُلِّ حَدِيثٍ شَرِيفٍ بمِنظارِ الوَحْيِ المَحْضِ، ولا يُتَحرَّى عنِ الآثارِ السَّامِيةِ للرِّسالةِ في مُعامَلاتِه ﷺ وأَفكارِه الَّتي تَجرِي بمُقتَضَياتِ البَشَرِيّةِ.
[بعض الأحاديث متشابه يحتاج إلى تأويل]
وحَيثُ إنَّ بَعضَ الحَوادِثِ يُوحَى إلَيْه وَحْيًا مُجْمَلًا ومُطلَقًا، وهُو بدَوْرِه يُصَوِّرُ بفِراسَتِه الشَّخصِيّةِ أو حَسَبَ نَظَرِ العُرفِ العامِّ، لِذا يَلزَمُ أَحيانًا التَّفسِيرُ ورُبَّما التَّعبِيرُ لِهذه المُتَشابِهاتِ والمُشكِلاتِ الَّتي يَنطَوِي علَيْها ذلك التَّصوِيرُ، لِأنَّ بَعضَ الحَقائِقِ تُقَرَّبُ إلى الأَذهانِ بالتَّمثِيلِ.
مِثالُ ذلك: سَمِعَ النَّاسُ -ذاتَ مَرّةٍ- وهُم جُلُوسٌ عِندَ الرَّسُولِ ﷺ دَوِيًّا هائِلًا، فقال الرَّسُولُ ﷺ مُوضِّحًا الحَدَثَ: “هذا حَجَرٌ رُمِيَ به في النّارِ مُنذُ سَبعِين خَرِيفًا، فهُو يَهْوِي في النّارِ الآنَ حتَّى انتَهَى إلى قَعْرِها”.. ولم تَمْضِ ساعةٌ حتَّى جاءَ الجَوابُ، إذ أَتَى أَحَدُهُم يقُولُ: إنَّ المُنافِقَ المَشهُورَ الَّذي ناهَزَ السَّبعِينَ مِن عُمُرِه قد ماتَ ووَلَّى إلى جَهَنَّمَ وبِئْسَ المَصِيرُ، فكان هذا تَأْوِيلًا لِلتَّشبِيهِ البَلِيغِ الَّذي ذَكَرَه الرَّسُولُ ﷺ.
[أساس (3): كيف نُقِلت إلينا أخبار السنة والسيرة]
الأَساسُ الثّالثُ: إنَّ الآثارَ المَنقُولةَ إنْ كانَت مُتَواتِرةً فهِي قَطْعِيّةُ الثُّبُوتِ وتُفِيدُ اليَقِينَ.
والتَّواتُرُ قِسمانِ:1التَّواتُرُ في هذه الرِّسالةِ لَيسَ بمَعنَى “الشّائِعة” المُستَعمَل في اللُّغة التُّركيَّة، بل هُو إِخبارٌ قويٌّ يُفِيدُ اليَقينَ ولا يَحتَمِلُ الكَذِبَ.
الأوَّلُ: التَّواتُرُ الصَّرِيحُ، أوِ التَّواتُرُ اللَّفظِيُّ.
الثّاني: التَّواتُرُ المَعنَوِيُّ، وهذا قِسمانِ:
الأوَّل: سُكُوتِيٌّ؛ أي: إِبداءُ الرِّضَا بالسُّكُوتِ عنه. مِثالُ ذلك: لو أَخبَرَ شَخْصٌ جَماعَتَه عن حادِثةٍ وَقَعَت أَمامَهُم، ولم يُكَذِّبُوه في خَبَرِه بل قابَلُوه بالسُّكُوتِ، فإنَّ ذلك يَعنِي قَبُولَهُم لِوُقُوعِها، ولا سِيَّما إذا كانَتِ الحادِثةُ المَروِيّةُ ذاتَ عَلاقةٍ بالجَماعةِ، والجَماعةُ مُستَعِدّةً لِلِانتِقادِ والرَّدِّ والتَّجْرِيحِ، ومِمَّن لا يَقبَلُون بالخَطَأِ أَصْلًا، بل يَرَوْنَ الكَذِبَ أَمرًا قَبِيحًا بَشِعًا، فإنَّ سُكُوتَهُم عنها يَدُلُّ على وُقُوعِ تلك الحادِثةِ دَلالةً قاطِعةً.
القِسمُ الثَّاني مِنَ التَّواتُرِ المَعنَوِيِّ: هو اتِّفاقُهُم على القَدْرِ المُشتَرَكِ بينَ أَخبارِهِم وإن كانَتِ الرِّواياتُ مُتَنَوِّعةً. مِثالُ ذلك: إذا قِيلَ: إنَّ أُوقيّةً مِنَ الطَّعامِ أَشْبَعَت مِئَتَيْ رَجُلٍ، فالَّذين حَدَّثُوا بهذا يَرْوُونَه في صُوَرٍ مُتَنوِّعةٍ وبعِباراتٍ مُختَلِفةٍ مُتَبايِنةٍ. فهذا ذَكَر مِئةَ رَجُلٍ، وذاك ثَلاثَ مِئةِ رَجُلٍ، والآخَرُ أُوقيَّـتَينِ مِنَ الطَّعامِ، وهكذا.. فتَرَى أنَّ الجَمِيعَ مُتَّفِقُون على وُقُوعِ الحادِثةِ، وهُو أنَّ الطَّعامَ القَلِيلَ أَشبَعَ أُناسًا كَثِيرِينَ؛ فالحادِثةُ إذًا بشَكْلِها المُطْلَقِ مُتَواتِرةٌ مَعنًى، وهي تُفِيدُ اليَقِينَ، ولا تَضُرُّ بها صُوَرُ الِاختِلافِ؛ وفي بَعضِ الأَحيانِ يُفِيدُ خَبَرُ الآحادِ ضِمنَ بَعضِ الشُّرُوطِ الحُكْمَ القَطْعِيَّ كقَطْعِيّةِ التَّواتُرِ، وقد يُفِيدُ القَطْعِيّةَ أَحيانًا تَحتَ أَماراتٍ خارِجِيّةٍ.
وهكذا، فالقِسمُ الأَعظَمُ مِمَّا نُقِلَ إلَيْنا مِن دَلائِلِ النُّبُوّةِ ومُعجِزاتِ الرَّسُولِ ﷺ هو بالتَّواتُرِ الصَّرِيحِ أوِ المَعنَوِيِّ أوِ السُّكُوتِيِّ، وقِسمٌ مِنها بخَبَرِ الآحادِ. إلّا أنَّه ضِمنَ شُرُوطٍ مُعيَّنةٍ مُمَحَّصةٍ أُخِذَ وقُبِلَ مِن قِبَلِ أَئِمّةِ الجَرحِ والتَّعدِيلِ مِن أَهلِ الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، فأَصبَحَت دَلالَتُه قَطْعِيّةً كالتَّواتُرِ.
[المحدِّثون هم أهل الاختصاص في الرواية]
ولا شَكَّ إذا ما صَحَّح خَبَرَ الآحادِ مُحَدِّثُون مُحَقِّقُون مِن أَصحابِ الصِّحاحِ السِّتّةِ، وفي مُقَدِّمَتِهِمُ “البُخارِيُّ” و”مُسلِمٌ”، وهُمُ الحُفّاظُ الجَهابِذةُ الَّذين كانُوا يَحفَظُون ما لا يَقِلُّ عن مِئةِ أَلفِ حَدِيثٍ، وإذا ما رَضِيَ به أُلُوفٌ مِنَ الأَئِمّةِ العُلَماءِ المُتَّقِين، مِمَّن يُصَلُّون صَلاةَ الفَجْرِ بوُضُوءِ العِشاءِ زُهاءَ خَمسِينَ سَنةً مِن عُمُرِهم. أَقُولُ: إذا ما قال هَؤُلاءِ بِصِحّةِ خَبَرِ الآحادِ، فلا رَيْبَ إِذًا في قَطْعِيَّتِه، ولا يَقِلُّ حُكْمُه عنِ التَّواتُرِ نَفسِه.
نعم، إنَّ عُلَماءَ عِلمِ الحَدِيثِ ونُقّادَه قد تَخَصَّصُوا في هذا الفَنِّ إلى دَرَجةِ أنَّهُمُ اكتَسَبُوا مَلَكةً في مَعرِفةِ سُمُوِّ كَلامِ الرَّسُولِ ﷺ وبَلاغةِ تَعابِيرِه، وطِرازِ إِفادَتِه، فأَصبَحُوا قادِرِين على تَميِيزِه عن غَيرِه، بحَيثُ لو رَأَوْا حَدِيثًا مَوضُوعًا بينَ مِئةٍ مِنَ الأَحادِيثِ لَرَفَضُوه قائِلِين: هذا مَوضُوعٌ! هذا لا يُمكِنُ أن يكُونَ حَدِيثًا شَرِيفًا! فقد أَصبَحُوا كالصَّيارِفةِ البارِعِين الأُصَلاءِ يَمِيزُونَ جَوْهَرَ الحَدِيثِ النَّبوِيِّ مِنَ الدَّخِيلِ فيه.
بَيْدَ أنَّ قِسْمًا مِنَ المُحَقِّقِين قد أَفرَطَ في نَقْدِ الحَدِيثِ كـ”ابنِ الجَوْزِيِّ” الَّذي حَكَم على أَحادِيثَ صَحِيحةٍ بالوَضْعِ، عِلْمًا أنَّ “المَوْضُوعَ” يَعنِي: أنَّ هذا الكَلامَ لَيسَ بِكَلامِ الرَّسُولِ ﷺ، ولا يَعنِي أنَّه باطِلٌ وكَلامٌ فاسِدٌ.
[ما فائدة ذكر الإسناد بِطوله؟]
سُؤالٌ: ما فائِدةُ السَّنَدِ الطَّوِيلِ: عن فُلانٍ.. عن فُلانٍ.. عن فُلانٍ.. حَيثُ لا جَدْوَى مِن ذِكْرِهِم في حادِثةٍ مَعلُومةٍ؟
الجَوابُ: فَوائِدُه كَثِيرةٌ، إذ إنَّ ذِكْرَ هذا السَّنَدِ الطَّوِيلِ يُبيِّنُ نَوْعًا مِنَ الإِجماعِ فيمَنْ هُم في السَّنَدِ مِنَ المَوثُوقينَ الصّادِقِين مِنَ الرُّواةِ الَّذينَ يُعتَدُّ بِهِم، فيُظهِرُ لَنا نَوْعًا مِنَ الِاتِّصالِ والِاتِّفاقِ لِأَهلِ العِلمِ المُحَقِّقِينَ في ذلك السَّنَدِ، فكَأَنَّما كُلُّ إِمامٍ وعَلّامةٍ في السَّنَدِ يُوَقِّعُ على حُكْمِ ذلك الحَدِيثِ الشَّرِيفِ ويَختِمُ على صِحَّتِه بخَتْمِه.
[لماذا لم تُنقَل المعجزات كما نُقِلت الأحكام الشرعية؟]
سُؤالٌ: لِماذا لم تُنقَلِ “المُعجِزاتُ” باهتِمامٍ بالِغٍ مِثلَما نُقِلَتِ الأَحكامُ الشَّرعِيّةُ الضَّرُورِيّةُ الأُخرَى نَقْلًا مُتَواتِرًا وبِطُرُقٍ مُتَعدِّدةٍ؟
الجَوابُ: لِأنَّ مُعظَمَ النّاسِ في أَغلَبِ الأَوقاتِ مُحتاجُونَ حاجةً ماسّةً إلى الأَحكامِ الشَّرعِيّةِ، فهِي “كفُرُوضِ عَينٍ” لَهُم، لِما لَها مِن عَلاقةٍ بكُلِّ شَخصٍ؛ بَينَما المُعجِزاتُ لا يَحتاجُها كُلُّ إِنسانٍ كلَّ حِينٍ، حتَّى لو فَرَضْنا الحاجةَ إلَيْها، فيَكْفِي سَماعُها مَرّةً واحِدةً، فهِي “كفُرُوضِ كِفايةٍ”، إذ يَكْفِي أن يَعْلَمَ بها عادةً قِسمٌ مِن النّاسِ.
ولِهذا السَّبَبِ قد يَحدُثُ أن نَرَى وُقُوعَ إِحدَى المُعجِزاتِ ثابِتًا بقَطْعِيّةٍ أَقوَى مِن قَطْعِيّةِ ثُبُوتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَضعافًا مُضاعَفةً، إلّا أنَّ راوِيَها شَخْصٌ واحِدٌ أو شَخْصانِ، بَينَما يكُونُ عَدَدُ رُواةِ ذلك الحُكْمِ الشَّرعِيِّ عَشَرةً أو عِشرِينَ.
[أساس (4): بعض الأحاديث المخبرة بالغيب تخبر بحوادث كليةٌ تتكرر]
الأساسُ الرَّابعُ: إنَّ قِسمًا مِن حَوادِثِ المُستَقبَلِ الَّتي أَخبَرَ عنها الرَّسُولُ ﷺ حَوادِثُ كُلِّيّةٌ، تَتكَرَّرُ في أَوقاتٍ مُختَلِفةٍ، ولَيسَ بحادِثةٍ جُزئيّةٍ مُفرَدةٍ؛ فالرَّسُولُ ﷺ قد يُخبِرُ عن تلك الحادِثةِ الكُلِّيّةِ بصُورةٍ جُزئِيّةٍ مُبيِّنًا بَعضَ حالاتِها، حَيثُ إنَّ لِمِثلِ هذه الحادِثةِ الكُلِّيّةِ وُجُوهًا كَثِيرةً، فيُبيِّنُ ﷺ في كُلِّ مَرّةٍ وَجْهًا مِن وُجُوهِها، ولَكِن لَدَى جَمْعِ هذه الوُجُوهِ مِن قِبَلِ راوِي الحَدِيثِ في مَوْضِعٍ واحِدٍ، يَبدُو هُناك ما يُشبِهُ الخِلافَ لِلواقِعِ.
مِثالُ ذلك: هُناكَ رِواياتٌ مُختَلِفةٌ حَوْلَ “المَهْدِيِّ” تَتَبايَنُ فيها التَّفاصِيلُ والتَّصوِيراتُ، وقد أَخبَرَ الرَّسُولُ ﷺ عن ظُهُورِ المَهْدِيِّ مُستَنِدًا إلى الوَحْي، لِيَصُونَ قُوّةَ أَهلِ الإِيمانِ المَعنَوِيّةَ في كُلِّ عَصْرٍ، ولِيَحُولَ دُونَ سُقُوطِهِم في اليَأْسِ والقُنُوطِ إِزاءَ ما يَرَوْنَه مِن حَوادِثَ مَهُولةٍ، ولِيَربِطَ الأُمّةَ رَبْطًا مَعنَوِيًّا بالسِّلسِلةِ النُّورانِيّةِ لِآلِ البَيتِ؛ وقد أَثْبَتْنا ذلك في أَحَدِ أَغصانِ “الكَلِمةِ الرّابِعةِ والعِشرِينَ”، ومِن هُنا تَرَى أنَّ كُلَّ عَصْرٍ مِنَ العُصُورِ قد وَجَد نَوْعًا مِنَ “المَهْدِيِّ” مِن آلِ البَيتِ كالذي يَظهَرُ في آخِرِ الزَّمانِ، بل مَهْدِيِّينَ، حتَّى وَجَدَ في المَهْدِيِّ العَبّاسِيِّ -الَّذي يُعَدُّ مِن آلِ البَيتِ- كَثِيرًا مِن أَوْصافِ ذلك المَهْدِيِّ الكَبِير.
وهكذا، فأَوْصافُ الَّذِينَ يَسبِقُونَ المَهْدِيَّ الكَبِيرَ مِمَّن يُمَثِّلُونَه في عُهُودِهِم، كالخُلَفاءِ المَهْدِيِّينَ والأَقطابِ المَهْدِيِّينَ، اختَلَطَت وتَداخَلَت معَ أَوْصافِ ذلك المَهْدِيِّ الكَبِيرِ، فوَقَع الِاختِلافُ في الرِّواياتِ.
[أساس (5): إطْلاع النبي ﷺ على المغيبات]
الأَساسُ الخامِسُ: لم يَكُنِ الرَّسُولُ الأَعظَمُ ﷺ يَعلَمُ الغَيْبَ ما لم يُعَلِّمْه اللهُ سُبحانَه، إذ لا يَعلَمُ الغَيْبَ إلّا اللهُ، فهُو ﷺ يُبَلِّغُ النّاسَ ما عَلَّمَه اللهُ إيّاه؛ وحَيثُ إنَّ اللهَ حَكِيمٌ ورَحِيمٌ، فحِكْمَتُه ورَحْمَتُه تَقتَضِيانِ سَتْرَ أَغلَبِ الأُمُورِ الغَيبِيّةِ وإِبقاءَها في طَيِّ الخَفاءِ والإِبهامِ، لِأَنَّ ما لا يَسُرُّ الإِنسانَ مِن حَوادِثَ في هذه الدُّنيا هُو أَكثَرُ مِمّا يَسُرُّه، فمَعْرِفَتُه تلك الحَوادِثَ قَبلَ وُقُوعِها أَلِيمٌ جِدًّا.
فلِأَجْلِ هذه الحِكْمةِ ظَلَّ المَوْتُ والأَجَلُ مُبهَمَينِ مَستُورَينِ عن عِلمِ الإِنسانِ، وبَقِيَ ما سيُصِيبُ الإِنسانَ مِن مَصائِبَ ونَكَباتٍ مَحجُوبًا في ثَنايا الغَيْبِ، فكانَ مِن مُقتَضَى هذه الحِكْمةِ الرَّبّانِيّةِ والرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ ألّا يُطْلِعَ سُبحانَه نَبِيَّه ﷺ إطْلاعًا كُلِّيًّا ومُفَصَّلًا على ما سيَلْقاه آلُه وصَحْبُه وأُمَّتُه مِن بَعدِه مِن حَوادِثَ مُؤْلِمةٍ ومَصائِبَ مُفْجِعةٍ، بل أَخبَرَه سُبحانَه عن بَعضٍ مِنَ الحَوادِثِ المُهِمّةِ -بِناءً على حِكَمٍ مُعَيَّنةٍ- إِخبارًا غَيرَ مُفْجِعٍ، رِفْقًا بما يَحمِلُه مِن رَحْمةٍ عَظِيمةٍ ورَأْفةٍ شَدِيدةٍ نَحوَ أُمَّتِه وتِجاهَ آلِه وأَصحابِه.
كما أنَّه سُبحانَه قد بَشَّرَه بحَوادِثَ مُفرِحةٍ أَيضًا بِشارةً مُجْمَلةً لِبَعضِها ومُفَصَّلةً لِلأُخرَى، ﴿(حاشية): إنَّ الدَّليلَ على أنَّ الله سُبحانَه لم يُطْلِعْ رَسُولَه ﷺ إطْلاعًا كامِلًا على أنَّ الصِّدِّيقةَ عائِشةَ رَضِيَ الله عَنهَا ستَكُونُ في وَقْعةِ الجَمَلِ هو: أنَّه ﷺ قال لِزَوْجاتِه الطّاهِراتِ: “أَيُّـكُنَّ تَنبَحُ علَيْها كِلابُ الحَوْأَبِ” أي: مَن مِنكُنَّ ستَشتَرِكُ في تلك الواقِعةِ، وذلك لِئلّا يَجرَحَ سُبحانَه ما يُكِنُّه الرَّسُولُ ﷺ مِن حُبٍّ شَدِيدٍ ورَأْفةٍ كامِلةٍ تِجاهَ عائِشةَ رَضِيَ الله عَنهَا؛ إلّا أنَّه سُبحانَه أَطْلَعَه بعدَ ذلك إطْلاعًا مُجمَلًا بالأَمرِ حيثُ قال ﷺ لِعَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ بحَقِّها: “فارْفُقْ وبَلِّغْها مَأْمَنَها”.﴾ فأَخبَرَ ﷺ أُمَّتَه بما عَلَّمَه رَبُّه ونَقَلَه المُحَدِّثُون الصَّادِقُون العُدُولُ برِواياتٍ صَحِيحةٍ إلَيْنا، أُولَئِك الَّذين كانُوا أَشَدَّ تَقْوَى وخَشْيةً مِن أن يُصِيبَهُمُ الزَّجْرُ المُخِيفُ في قَوْلِه ﷺ: “ومَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبوَّأْ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ”، والَّذِين كانُوا يَهْرُبُون خَوْفًا مِن أن تَنالَهُمُ الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾.
[أساس (6): السيرة التاريخية لا تفي بالتعريف بالشخصية المعنوية]
الأساسُ السَّادِسُ: إنَّ أَحوالَ الرَّسُولِ ﷺ وأَوْصافَه قد بُيِّنَت على شَكْلِ سِيرةٍ وتارِيخٍ، إلّا أنَّ أَغلَبَ تلك الأَحوالِ والأَوْصافِ تَعكِسُ بَشَرِيَّتَه فحَسْبُ، إذ إنَّ الشَّخصِيّةَ المَعنَوِيّةَ لِتِلك الذّاتِ النَّبَوِيّةِ المُبارَكةِ رَفِيعةٌ جِدًّا، وماهِيَّتُه المُقَدَّسةُ نُورانِيّةٌ إلى حَدٍّ لا يَرقَى ما ذُكِرَ في التَّارِيخِ والسِّيرةِ مِن أَوصافٍ وأَحوالٍ إلى ذلك المَقامِ السّامِي والدَّرَجةِ الرَّفِيعةِ العالِيةِ، لِأَنَّه ﷺ في ضَوْءِ قاعِدةِ: “السَّبَبُ كالفاعِلِ” تُضافُ يَوْمِيًّا، حتَّى الآنَ، إلى صَحِيفةِ كَمالاتِه عِبادةٌ عَظِيمةٌ بقَدْرِ عِباداتِ أُمَّتِه بأَكمَلِها؛ وكما يَنالُ باستِعدادٍ غَيرِ مُتَناهٍ نَفَحاتِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ غَيرِ المُتَناهِيةِ بشَكْلٍ غَيرِ مُتَناهٍ وبِقُدْرةٍ غَيرِ مُتَناهِيةٍ، كذلك يَنالُ يَوْمِيًّا دُعاءً غَيرَ مَحْدُودٍ مِمَّن لا يُحَدُّ مِن أُمَّتِه.
هذا النَّبِيُّ المُبارَكُ ﷺ الَّذي هو أَنبَلُ نَتائِجِ الكائِناتِ، وأَكمَلُ ثَمَراتِها، والمُبَلِّغُ عن خالِقِ الكَوْنِ، وحَبِيبُ رَبِّ العالَمِينَ، لا تَبلُغُ أَحوالُه وأَطْوارُه البَشَرِيّةُ الَّتي ذَكَرَتْها كُتُبُ السِّيرةِ والتّارِيخِ الإِحاطةَ بماهِيَّتِه الكامِلةِ، ولا تَصِلُ إلى حَقِيقةِ كَمالاتِه؛ فأَنَّى لِهَذِه الشَّخصِيّةِ المُبارَكةِ الَّتي كان كُلٌّ مِن جِبرائِيلَ ومِيكائِيلَ مُرافِقَينِ أَمِينَينِ لَها في غَزْوةِ بَدْرٍ أن تَنحَصِرَ في حالةٍ ظاهِرِيّةٍ، أو أن تُظْهِرَها بجَلاءٍ حادِثةٌ بَشَرِيّةٌ كالَّتي وَقَعَت معَ صاحِبِ الفَرَسِ الَّذي ابْتاعَ ﷺ الفَرَسَ مِنه، ولَكِنَّه أَنكَرَ هذا البَيْعَ وطَلَب مِنَ الرَّسُولِ الكَرِيمِ شاهِدًا يُصَدِّقُه، فتَقَدَّمَ الصَّحابيُّ الجَلِيلُ “خُزَيْمةُ” بالشَّهادةِ له.
فلِئَلّا يَقَعَ أَحَدٌ في غائِلةِ الخَطَأِ يَلزَمُ مَن يَسْمَعُ أَوْصافَه ﷺ البَشَرِيّةَ الِاعتِيادِيّةَ أن يَرفَعَ بَصَرَه دَوْمًا عالِيًا لِيَنظُرَ إلى ماهِيَّتِه الحَقِيقِيّةِ، وإلى شَخصِيَّتِه المَعنَوِيّةِ النُّورانيّةِ الشّامِخةِ في قِمّةِ مَرتَبةِ الرِّسالةِ، وإلّا أَساءَ الأَدَبَ، ووَقَع في الشُّبْهةِ والوَهْمِ.
ولِإيضاحِ هذه المَسأَلةِ تَأَمَّلْ في هذا المِثالِ:
نَواةٌ لِلتَّمرِ وُضِعَت تَحتَ التُّرابِ، فانفَلَقَتْ عن نَخلةٍ مُثمِرةٍ باسِقةٍ، وهي في تَوَسُّعٍ ونُمُوٍّ مُطَّرِدٍ؛ أو بَيضةٌ لِلطَّاوُوسِ فَقَسَتْ عن فَرْخِ الطّاوُوسِ بَعدَما سُلِّطَت علَيْها الحَرارةُ، وكُلَّما نَما وكَبِرَ أَصبَحَ أَجمَلَ وأَزهَى، بما زَيَّنَ قَلَمُ القُدْرةِ على كُلِّ جِهاتِه مِن نُقُوشٍ بَدِيعةٍ رائِعةٍ.
فهُناكَ صِفاتٌ وحالاتٌ خاصّةٌ تَعُودُ لِكُلٍّ مِن تلك النَّواةِ ولِتِلك البَيْضةِ، ويَحْوِي كُلٌّ مِنهُما مَوادَّ دَقِيقةً لَطِيفةً جِدًّا؛ والنَّخلةُ والطّاوُوسُ كذلك لَهُما صِفاتٌ عالِيةٌ وكَيفِيّاتٌ وأَوْضاعٌ راقِيةٌ بالنِّسبةِ لِصِفاتِ البِذْرةِ والبَيْضةِ؛ فعِندَما تُربَطُ أَوْصافُ النَّواةِ والبَيْضةِ بأَوْصافِ النَّخلِ والطَّيرِ وتُذْكَرانِ مَعًا، يَلزَمُ أن يَرفَعَ العَقلُ الإِنسانِيُّ بَصَرَه عنِ النَّواةِ إلى النَّخْلةِ ويَنظُرَ إلَيْها، وأن يَتَوجَّهَ مِنَ البَيْضةِ إلى الطّاوُوسِ ويُمْعِنَ فيه، كي يَقبَلَ تلك الأَوْصافَ الَّتي يَسمَعُها؛ وبخِلافِه يَنساقُ إلى التَّكذِيبِ حِينَ يَسمَعُ أَحَدَهُم يقُولُ: “لقد أَخَذْتُ طَنًّا مِنَ التَّمرِ مِن حَفْنةٍ مِنَ النَّوَى، أو هذه البَيْضةُ هي سُلْطانُ الطُّيُورِ”.
وهكذا، فإنَّ بَشَرِيّةَ الرَّسُولِ الأَكرَمِ ﷺ تُشبِهُ تلك النَّواةَ أوِ البَيْضةَ “في المِثالِ”، وماهِيَّتُه المُشِعّةُ بمُهِمّةِ الرِّسالةِ مَثَلُها كمَثَلِ شَجَرةِ طُوبَى الجَنّةِ وطَيْرِ الجَنّةِ في سُمُوٍّ ورُقِيٍّ.
لِذا، في الوَقتِ الَّذي نُفَكِّرُ في النِّزاع الَّذي حَصَل في السُّوقِ معَ البَدَوِيِّ، يَلزَمُ أن نَرفَعَ عَينَ الخَيالِ عالِيًا، ونَتَصَوَّرَ الذّاتَ النُّورانيّةَ المُمْتَطِيةَ الرَّفْرَفَ “البُرَاقَ”، والمُنطَلِقةَ سَعْيًا إلى قابِ قَوْسَينِ أو أَدْنَى، تارِكةً خَلْفَها جِبْرِيلَ عَليهِ السَّلام؛ وإلّا فإنَّ النَّفسَ الأَمّارةَ بالسُّوءِ إمّا ستُسِيءُ الأَدَبَ وتَنحَطُّ إلى دَرَكِ قِلّةِ التَّوقيرِ والِاحتِرامِ، أو تَزِلُّ قَدَماها إلى عَدَمِ التَّصدِيقِ.
[الإشارة الخامسة: حول الحوادث المتعلقة بأمور غيبية]
الإشارةُ البليغةُ الخامسةُ
وهي تَخُصُّ الحَوادِثَ المُتَعلِّقةَ بأُمُورٍ غَيبِيّةٍ، نَذكُرُ مِنها بِضْعةَ أَمثِلةٍ:
المِثالُ الأوَّلُ: قال رَسُولُ اللهِ ﷺ في خُطْبةٍ بينَ جَمْعٍ مِنَ الصَّحابةِ الكِرامِ رِضْوانُ اللهِ علَيْهِم، ونُقِلَ إلَيْنا الحَدِيثُ نَقْلًا صَحِيحًا ومُتَواتِرًا: “ابْنِي حَسَنٌ هَذا سَيِّدٌ، سيُصلِحُ اللهُ به بَينَ فِئَتَينِ عَظِيمَتَينِ”؛ وبَعدَ مُرُورِ أَربَعِينَ سَنةً الْتَقَى جَيْشانِ عَظِيمانِ لِلمُسلِمِين، فصَالَحَ الحَسَنُ مُعاوِيةَ رَضِيَ الله عَنهُما، وصَدَّق بهذا الصُّلْحِ المُعجِزةَ الغَيبِيّةَ لِجَدِّه الأَمجَدِ ﷺ.
المِثالُ الثّاني: ثَبَت بِنَقْلٍ صَحِيحٍ أنَّه ﷺ قال لِعَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ: “ستُقاتِلُ النّاكِثِين والقاسِطِينَ والمارِقِينَ”. فأَخبَرَ عن وَقْعةِ الجَمَلِ، وصِفِّينَ، وعنِ الخَوارِجِ.
وقال ﷺ للزُّبَيرِ: “لَتُقاتِلَنَّه وأنتَ ظالِمٌ له” عِندَما رَآه وعَلِيًّا يَتَحابّانِ.
وقال ﷺ لِأَزواجِه الطّاهِراتِ: “كَيفَ بإِحداكُنَّ تَنبَحُ علَيْها كِلابُ الحَوْأَبِ”، “يُقتَلُ عن يَمِينِها وعن يَسارِها قَتْلَى كَثِيرةٌ..”.
وبَعدَ ثَلاثِينَ سَنةً تَحَقَّقَت هذه الأَحادِيثُ الصَّحِيحةُ فِعلًا، وذلك في وَقْعةِ الجَمَلِ الَّتي جَرَت بَينَ عَلِيٍّ وعائِشةَ ومَعَها طَلْحةُ والزُّبَيرُ رَضِيَ الله عَنهُم أَجمَعِينَ، كما تَحَقَّقَت في وَقْعةِ صِفِّينَ الَّتي جَرَت بَينَ عَلِيٍّ ومُعاوِيةَ رَضِيَ الله عَنهُما، وقد تَحَقَّقَت في وَقْعةِ حَرُوراءَ والنَّهْروانِ الَّتي كانَت بَينَ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ والخَوارِجِ.
وأَخبَرَ ﷺ عَلِيًّا عن الَّذي يَقتُلُه فقال: “الَّذي يَضرِبُك يا عَلِيُّ على هَذِه حتَّى تُبَلَّ مِنه هذه” أي: تُبَلَّ لِحْيَتُه مِن دَمِ رَأْسِه، وكان عَلِيٌّ يَعرِفُه، وهو عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ مُلجَمٍ الخارِجِيُّ.
وأَخبَرَ كذلك عن ذِي الثُّدَيّةِ بعَلامةٍ فارِقةٍ فيه: أنَّه سيَكُونُ بَينَ قَتْلَى الخَوارِجِ، وفِعْلًا كان ذُو الثُّدَيّةِ فيهِم، وهُو “رَجُلٌ أَسوَدُ، إِحدَى عَضُدَيه مِثلُ ثُدِيِّ المَرْأةِ”، فجَعَلَه عَلِيٌّ حُجّةً على أنَّه المُحِقُّ، وأَعلَنَ عن مُعجِزةِ الرَّسُولِ الأَكرَمِ ﷺ. وأَخبَرَ ﷺ برِوايةٍ صَحِيحةٍ عن أُمِّ سَلَمةَ وغَيرِها: أنَّ الحُسَينَ يُقتَلُ بالطَّفِّ أي: في كَرْبَلاءَ. وبَعدَ خَمسِينَ سَنةً وَقَعَت تلك الفاجِعةُ الأَلِيمةُ، فصَدَّقَت ذلك الإِخبارَ الغَيبِيَّ.
وأَخبَرَ مُكَرَّرًا ﷺ: “إنَّ أَهلَ بَيتِي سيَلْقَوْن بَعدِي مِن أُمَّتِي قَتْلًا وتَشرِيدًا”، فكان كما أَخبَرَ.
[لماذا لم يُقدَّم علي رضي الله عنه للخلافة؟]
هُنا يَرِدُ سُؤالٌ مُهِمٌّ:
يُقالُ: إنَّ عَلِيًّا رَضِيَ الله عَنهُ كان أَحرَى بالخِلافةِ وأَوْلَى بِها، فهُو ذُو قَرابةٍ معَ النَّبيِّ ﷺ، وذُو شَجاعةٍ نادِرةٍ خارِقةٍ، وذُو عِلمٍ غَزِيرٍ.. فلِماذا لم يُقدِّمُوه في الخِلافةِ؟ ولِماذا اضْطَرَبَت أَحوالُ المُسلِمِين في عَهْدِه؟
الجَوابُ: لقد قال قُطْبٌ عَظِيمٌ مِن آلِ البَيتِ: كان الرَّسُولُ ﷺ قد تَمَنَّى أن يكُونَ عَلِيٌّ هُو الخَلِيفةَ، ولَكِن أُعلِمَ مِنَ الغَيبِ أنَّ إِرادةَ اللهِ غَيرُ هذا، فتَخَلَّى عن رَغْبَتِه تَبَعًا لِما يُرِيدُه اللهُ سُبحانَه وتَعالَى.
وفيما يَأْتِي حِكْمةٌ واحِدةٌ مِمّا تَنطَوِي علَيْه إِرادةُ اللهِ تَعالَى في هذا الأَمرِ:
كان الصَّحابةُ الكِرامُ رِضْوانُ اللهِ علَيْهِم أَجمَعِينَ أَحْوَجَ إلى الِاتِّفاقِ والِاتِّحادِ بَعدَما ارْتَحَلَ النَّبِيُّ ﷺ إلى الرَّفيقِ الأَعلَى، فلو كان عَلِيٌّ رَضِيَ الله عَنهُ قد تَوَلَّى الخِلافةَ، لَكان هُناك احتِمالٌ قَوِيٌّ أن تُثِيرَ أَطْوارُه المُتَّسِمةُ بعَدَمِ مُسايَرةِ الآخَرِينَ واستِقْلاليّةِ آرائِه، معَ زُهدِه الشَّدِيدِ، وبَسالَتِه النّادِرةِ، واستِغنائِه عنِ النّاسِ، فَضْلًا عن شَجاعَتِه الفائِقةِ، فتُحَرِّكَ -هذه المَزايا- عِرْقَ المُنافَسةِ لَدَى كَثِيرٍ مِنَ الأَشخاصِ والقَبائِلِ، فتَنجُمَ الفُرقةُ بينَ صُفُوفِ المُسلِمينَ، مِثلَما حَدَثَ في عَهْدِ خِلافَتِه مِن حَوادِثَ وفِتَنٍ.
أمّا سَبَبُ تَأَخُّرِ خِلافةِ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ، فإنَّ أَحَدَ أَسبابِه ما يَأْتي:
لقد هَبَّتْ أَعاصِيرُ الفِتَنِ في أَوْساطِ أُمّةِ الإِسلامِ الَّتي تَضُمُّ أَقْوامًا مُتَبايِنةً في الفِكْرِ، والَّتي يَحمِلُ كُلٌّ مِنها بُذُورَ الفُرقةِ إلى ثَلاثٍ وسَبْعِينَ فِرقةً، مِثلَما أَخبَرَ بذلك الرَّسُولُ ﷺ، فكان يَنبَغِي وُجُودُ شَخصِيّةٍ قَوِيّة فَذّةٍ، مَهِيبةِ الجانِبِ، ذاتِ شَجاعةٍ فائِقةٍ وفِراسةٍ نافِذةٍ ونَسَبٍ عَرِيقٍ أَصِيلٍ مِن أَهلِ البَيتِ ومِن بَنِي هاشِمٍ، تَثبُتُ أَمامَ هذه الفِتَنِ؛ فمِثلُ هذه الشَّخصِيّةِ الفَذّةِ، كانَت تَتَمثَّلُ في عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ، فثَبَتَ فِعْلًا أَمامَ تلك الأَعاصِيرِ الهَوْجاءِ.. ولقد أَخبَرَه الرَّسُولُ ﷺ بذلك: أنَّه سيُحارِبُ في سَبِيلِ تَأْوِيلِ القُرآنِ كما حارَبَ هو ﷺ في سَبِيلِ نُزُولِه.
[فضل سيدنا علي على الحكم الأموي]
ثمَّ إنَّه لولا عَلِيٌّ رَضِيَ الله عَنهُ لَرُبَّما كانَت سَلْطَنةُ الدُّنيا تَعصِفُ بالأُمَوِيِّين وتَفتِنُهُم كُلِّيًّا، وتُزِلُّهُم عنِ الصِّراطِ السَّوِيِّ، ولَكِن لِأَنَّهم كانُوا يَرَوْن إِزاءَهُم عَلِيًّا وآلَ البَيتِ، فقد حاوَلُوا أن يَبلُغُوا شَأْوَهُم ويُوازُوهُم في مكانَتِهِم، لِئَلّا يَفقِدُوا مَنزِلَتَهُم في نَظَرِ الأُمّةِ، فاضْطُرَّ أَغلَبُ رُؤَساءِ الدَّولةِ الأُمَوِيّةِ إلى حَضِّ أَتْباعِهِم على القِيامِ بحِفْظِ حَقائِقِ الإِيمانِ ونَشْرِها، وصِيانةِ أَحكامِ القُرآنِ والإِسلامِ رَغمَ أنَّهُم لم يَفعَلُوا شَيْئًا بأَنفُسِهِم، لِذا نَشَأَتْ في ظِلِّ دَوْلَتِهِم مِئاتُ الأُلُوفِ مِنَ العُلَماءِ المُحَقِّقِينَ المُجتَهِدِينَ وأَئِمّةِ الحَدِيثِ والأَولياءِ الصّالِحِينَ والأَصفِياءِ والعامِلِينَ، فلَوْلا كَمالاتٌ يَتَّصِفُ بها آلُ البَيْتِ وصَلاحُهُم ووِلايَتُهُم للهِ لَزَلَّ الأُمَوِيُّونَ وابتَعَدُوا كُلِّيًّا عن طَرِيقِ الصَّوابِ، كما آلَ إلَيْه أَمرُهُم في أَواخِرِ أَيّامِهِم، وكما حَدَث في أَواخِرِ أَيّامِ العَبّاسِيِّينَ.
[لماذا لم تستمر الخلافة في آل البيت مع أنهم كانوا أحق بها؟]
وإذا قِيلَ: لِماذا لم تَستَقِرَّ الخِلافةُ في آلِ البَيْتِ، عِلْمًا أَنَّهُم كانُوا أَحَقَّ بها؟
الجَوابُ: إنَّ سَلْطَنةَ الدُّنيا خَدّاعةٌ، بَينَما أَهلُ البَيْتِ مُكَلَّفُون بالحِفاظِ على حَقائِقِ الإِسلامِ وأَحكامِ القُرآنِ؛ ويَنبَغِي لِمَن يَتَسلَّمُ زِمامَ الخِلافةِ ألّا تَغُرَّه الدُّنيا، كأَنْ يَكُونَ مَعصُومًا كالنَّبِيِّ، أو يَكُونَ عَظِيمَ التَّقْوَى عَظِيمَ الزُّهدِ كالخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ وعُمَرَ بنِ عَبدِ العَزِيزِ والمَهْدِيِّ العَبّاسِيِّ لِئَلّا يَغتَرَّ؛ فسَلْطَنةُ الدُّنيا لا تَصْلُحُ لِآلِ البَيْتِ، إذ تُنسِيهِم وَظِيفَتَهُمُ الأَساسَ، وهي المُحافَظةُ على الدِّينِ وخِدمةُ الإِسلامِ.. وخِلافةُ الدَّولةِ الفاطِمِيّةِ الَّتي قامَت بِاسمِ آلِ البَيْتِ في مِصْرَ، وحُكُومةُ المُوَحِّدِينَ في أَفرِيقيا، والدَّوْلةُ الصَّفَوِيّةُ في إِيرانَ، كُلٌّ مِنها غَدَت حُجّةً على أنَّ سَلْطَنةَ الدُّنيا لا تَصْلُحُ لِآلِ البَيْتِ؛ بَينَما نَراهُم مَتَى تَرَكُوا السَّلْطَنةَ، فقد سَعَوْا سَعْيًا حَثِيثًا وبَذَلُوا جُهْدًا مُنقَطِعَ النَّظِيرِ في خِدْمةِ الإِسلامِ ورَفْعِ رايةِ القُرآنِ.
فإن شِئْتَ فتَأَمَّلْ في الأَقطابِ الَّذين أَتَوْا مِن سُلالةِ الحَسَنِ رَضِيَ الله عَنهُ، ولا سِيَّما الأَقطابِ الأَربَعةِ، وبخاصّةٍ الشَّيخَ الگيْلانِيَّ؛ وإن شِئْتَ فتَأَمَّلْ في الأَئِمّةِ الَّذِينَ جاؤُوا مِن سُلالةِ الحُسَينِ رَضِيَ الله عَنهُ، ولا سِيَّما زَينِ العابِدِينَ وجَعْفَرٍ الصَّادِقِ وأَمثالِهِم.. فكُلٌّ مِن هَؤُلاءِ قد أَصبَحَ بِمَثابةِ مَهْدِيٍّ مَعنَوِيٍّ، بَدَّدُوا الظُّلْمَ والظُّلُماتِ المَعنَوِيّةَ بنَشْرِهِم أَنوارَ القُرآنِ وحَقائِقَ الإِيمانِ، وأَثبَتُوا حَقًّا أَنَّهُم وارِثُو جَدِّهِمُ الأَمْجَدِ علَيْه أَفضَلُ الصَّلاةِ وأَتَمُّ التَّسلِيمِ.
[ما الحكمة في الفتنة الدامية التي جرت في الصدر الأول؟]
فإن قِيلَ: ما حِكْمةُ تلك الفِتْنةِ الدَّمَوِيّةِ الرَّهِيبةِ الَّتي أَصابَتِ الأُمّةَ الإِسلامِيّةَ في عَصْرِ الرّاشِدِينَ وخَيْرِ القُرُونِ، حَيثُ لا يَلِيقُ بأُولَئِك الأَبرارِ القَهْرُ ونُزُولُ المَصائِبِ، وأَينَ يَكْمُنُ وَجْهُ الرَّحْمةِ الإلٰهِيّةِ فيها؟
الجَوابُ: كما أنَّ الأَمطارَ الغَزِيرةَ المَصحُوبةَ بالعَواصِفِ في الرَّبِيع تُثِيرُ كَوامِنَ قابِلِيّاتِ كُلِّ طائِفةٍ مِن طَوائِفِ النَّباتاتِ وتَكْشِفُها فتَنثُرُ البُذُورَ وتُطلِقُ النُّوَى، فتَتَفتَّحُ أَزهارُها الخاصَّةُ بها، ويَتَسلَّمُ كُلٌّ مِنها مُهِمَّتَه الفِطْرِيّةَ، كذلك الفِتْنةُ الَّتي ابتُلِيَ بها الصَّحابةُ الكِرامُ والتَّابِعُونَ رِضْوانُ اللهِ علَيْهِم أَجمَعِينَ، أَثارَت بُذُورَ مَواهِبِهِمُ المُختَلِفةِ، وحَفَّزَت نُوَى قابِلِيّاتِهِمُ المُتَنَوِّعةِ، فأَنذَرَتْ كُلَّ طائِفةٍ مِنهُم وأَخافَتْهُم مِن أنَّ الخَطَرَ مُحْدِقٌ بالإِسلامِ، وأنَّ النّارَ ستَنشَبُ في صُفُوفِ المُسلِمِينَ، مِمّا جَعَل كُلَّ طائِفةٍ تُهرَعُ إلى حِفْظِ الدِّينِ والذَّوْدِ عن حِياضِ الإِيمانِ، فأَخَذَ كُلٌّ مِنهُم على عُهْدَتِه مُهِمّةً مِن مُهِمّاتِ حِفْظِ الإِيمانِ وجَمْعِ شَمْلِ الإِسلامِ، كُلٌّ حَسَبَ قابِلِيَّتِه، فانطَلَقَ بكُلِّ جِدٍّ وإِخلاصٍ في هذه السَّبِيلِ، فمِنهُم مَن قامَ بحِفْظِ الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ، ومِنهُم مَن قامَ بحِفْظِ فِقهِ الشَّرِيعةِ الغَرّاءِ، ومِنهُم مَن قامَ بحِفْظِ العَقائِدِ والحَقائِقِ الإِيمانيّةِ، ومِنهُم مَن قامَ بحِفْظِ القُرآنِ الكَرِيمِ..
وهكذا انضَوَتْ كُلُّ طائِفةٍ تَحتَ مُهِمّةٍ وواجِبٍ مِنَ الواجِباتِ الَّتي يَفرِضُها حِفْظُ الإِيمانِ وصِيانةُ الإِسلامِ، وسَعَتْ في سَبِيلِ أَداءِ مُهِمَّتِها سَعْيًا حَثِيثًا، فتَفَتَّحَتْ مِنَ البُذُورِ الَّتي نَشَرَتْها تلك الأَعاصِيرُ الهَوْجاءُ العَنِيفةُ في الأَرجاءِ زُهُورٌ بَهِيجةٌ بأَلْوانٍ زاهِيةٍ شَتَّى في عالَمِ الإِسلامِ، حتَّى غَدا العالَمُ الإِسلامِيُّ رِياضًا يانِعةً بالوُرُودِ والرَّياحِينِ، إلّا أنَّه -لِلأَسَفِ- ظَهَرَت بينَ تلك الرِّياضِ البَدِيعةِ أَشواكُ أَهلِ البِدَعِ أَيضًا.. وكأنَّ يَدَ القُدْرةِ الإلٰهِيّةِ قد هَزَّتْ ذلك العَصْرَ بجَلالٍ وهَيْبةٍ، وأَدارَتْه بِشِدّةٍ وعُنْفٍ، فأَثارَتِ الهِمَمَ وأَلهَبَتِ المَشاعِرَ لَدَى أَهلِ الهِمّةِ والغَيْرةِ، فبَعَثَت تلك الحَرَكةُ المُنطَلِقةُ عنِ المَركَزِ كَثِيرًا مِن أَئِمّةِ المُجتَهِدِين والمُحَدِّثين والحُفّاظِ والأَصفِياءِ والأَقطابِ الأَولِياءِ إلى أَنحاءِ العالَمِ الإِسلاميِّ، وأَلْجَأَتْهُم إلى الهِجْرةِ، وهَيَّجَتِ المُسلِمِينَ شَرْقًا وغَرْبًا وفَتَحَت بَصِيرَتَهُم لِيَغْنَمُوا مِن كُنُوزِ القُرآنِ وخَزائِنِه.
والآنَ لِنَرْجِعْ إلى ما نَحنُ بِصَدَدِه:
إنَّ ما أَخبَرَ عنه الرَّسُولُ ﷺ مِن أُمُورِ الغَيبِ ووَقَع فِعلًا كما أَخبَرَ، يَبلُغُ الأُلُوفَ بل يَزِيدُ، إلّا أَنَّنا نُشِيرُ إلى أَمثِلةٍ مِنها فَقَطْ، تلك الَّتي اتَّفَق على صِحَّتِها أَصحابُ الكُتُبِ السِّتّةِ الصَّحِيحةِ، وفي مُقدِّمَتِهِمُ “البُخارِيُّ” و”مُسلِمٌ”، حتَّى إنَّ كَثِيرًا مِنها نُقِلَت نَقْلًا مُتَواتِرًا مِن حَيثُ المَعنَى، واتَّفَقَ العُلَماءُ وأَهلُ التَّحقِيقِ على صِحّةِ بَعضِها وأنَّه بمَثابةِ المُتَواتِرِفي قَطْعِيَّتِه.
خرَّجَ أَهلُ الصَّحِيحِ والأَئِمّةُ ما أَعْلَمَ به ﷺ أَصحابَه مِمّا وَعَدَهُم به مِنَ الظُّهُورِ على أَعدائِه وفَتحِ مَكّةَ وبَيتِ المَقْدِسِ واليَمَنِ والشّامِ والعِراقِ.. وفَتحِ خَيْبَرَ؛ وأَخبَرَ عن “قِسْمَتِهِم كُنُوزَ كِسْرَى وقَيْصَرَ” أَكبَرِ دَوْلَتَينِ في العالَمِ في ذلك العَهْدِ؛ ثمَّ إنَّه ﷺ حِينَما كانَ يُخبِرُ بهذا الخَبَرِ الغَيبِيِّ لم يَقُل: أَظُنُّ، أَحسِبُ، رُبَّما.. وإنَّما أَخبَرَ عن عِلْمٍ يَقِينيٍّ كأَنَّه واقِعٌ يَراه.. وقد وَقَع كما أَخبَرَ، عِلْمًا أنَّه عِندَما أَخبَرَ بهذا الخَبَرِ كانَ قد هاجَرَ مُكرَهًا، وأَصحابُه قَلِيلُونَ، والعالَمُ كُلُّه ومَن حَوْلَ المَدِينةِ أَعداءٌ يُحْدِقُونَ مِن كُلِّ جانِبٍ.
وفي رِوايةٍ صَحِيحةٍ أَخبَرَ الرَّسُولُ ﷺ مِرارًا: “علَيكُم بسِيرةِ اللَّذَينِ مِن بَعدِي: أَبي بَكْرٍ وعُمَرَ”. فأَفادَ بهذا أنَّ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ سيُعَمَّرانِ بَعدَه، وسيَكُونانِ خَلِيفَتَينِ، وسيُؤَدِّيانِ الخِلافةَ حَقَّها كامِلًا بما يُرضِي اللهَ سُبحانَه ورَسُولَه؛ ثمَّ إنَّ أبا بَكْرٍ سيَتَوَلَّى الخِلافةَ لمُدّةٍ قَصِيرةٍ، بَينَما عُمَرُ سيَتَوَلّاها لِمُدّةٍ أَطْوَلَ، فَضْلًا عن أنَّه سيَقُومُ بكَثِيرٍ مِنَ الفُتُوحاتِ.
وقال الرَّسُولُ ﷺ: “زُوِيَت ليَ الأَرضُ، فأُرِيتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وسيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي ما زُوِيَ لي مِنها”، وكان كما قالَ.
وأَخبَرَ ﷺ قَبلَ غَزْوةِ بَدْرٍ -في رِوايةٍ صَحِيحة- عن مَصارِعِ الكُفّارِ في بَدْرٍ، وأَشارَ إلى مَواضِعِ قَتْلِهِم ومَصارِعِ رُؤَسائِهِم: “هذا مَصْرَعُ أبي جَهْل، هذا مَصْرَعُ عُتْبةَ، وهذا مَصْرَعُ أُمَيّةَ، هذا مَصْرَعُ فُلانٍ وفُلانٍ..”، وأَعْلَمَ بأنَّه سيَقتُلُ أُبَيَّ بنَ خَلَفٍ، وكان كما أَعْلَمَ.
وثَبَت في الصَّحِيحِ أنَّه قال كَمَن يُشاهِدُ أَصحابَه ويَنظُرُ إلَيْهِم في غَزْوةِ مُؤْتةَ، وهِي على بُعْدِ مَسِيرةِ شَهْرٍ مِن حُدُودِ الشّامِ: “أَخَذَ الرّايةَ زَيْدٌ فأُصِيبَ، ثمَّ أَخَذَها جَعْفرٌ فأُصِيبَ، ثمَّ أَخَذَها ابنُ رَواحةَ فأُصِيبَ، ثمَّ أَخَذَها سَيْفٌ مِن سُيُوفِ اللهِ”، وبَعدَ مُرُورِ بِضْعةِ أَسابِيعَ عادَ يَعْلَى بنُ مُنَبِّهٍ مِن ساحةِ المَعرَكةِ، وقَبلَ أن يُخبِرَ عمّا جَرَى هنالك بَيَّنَ رَسُولُ الله ﷺ ما دارَ في المَعرَكةِ مُفَصَّلًا، فأَقْسَمَ يَعلَى، وقال: “والَّذي بَعَثَك بالحَقِّ ما تَرَكْتَ مِن حَدِيثِهِم حَرْفًا واحِدًا”.
وفي رِوايةٍ صَحِيحةٍ: “إنَّ الخِلافةَ بَعدِي ثَلاثُونَ سَنةً، ثمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا”؛ “وأنَّ هذا الأَمرَ بَدَأ نُبُوّةً ورَحْمةً، ثمَّ يكُونُ رَحْمةً وخِلافةً، ثمَّ يكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا، ثمَّ يكُونُ عُتُوًّا وجَبَرُوتًا”، فأَخبَرَ ﷺ عن مُدّةِ الخِلافةِ الرَّاشِدةِ وهي: ثَلاثُونَ سَنةً، وتَكمُلُ هذه المُدّةُ بالأَشهُرِ السِّتّةِ لِخِلافةِ الحَسَنِ رَضِيَ الله عَنهُ، ثمَّ تَتَعاقَبُ السَّلْطَنةُ والجَبَرُوتُ وفَسادُ الأُمّةِ، وفِعلًا تَحَقَّق مِثلَما قالَ.
وثَبَت برِوايةٍ صَحِيحةٍ: “يُقتَلُ عُثْمانَ رَضِيَ الله عَنهُ وهو يَقْرَأُ المُصْحَفَ، وأنَّ اللهَ عَسَى أنْ يُلبِسَه قَمِيصًا، وأَنَّهُم يُرِيدُونَ خَلْعَه” فكان كما قالَ.
وفي رِوايةٍ صَحِيحةٍ أُخرَى: أنَّه عِندَما احتَجَمَ الرَّسُولُ ﷺ شَرِبَ عَبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ دَمَه الطّاهِرَ تَبَرُّكًا، ولم يَسْكُبْه فقالَ لَه: “وَيْلٌ لِلنّاسِ مِنك، ووَيْلٌ لَك مِنَ النّاسِ”، فأَخبَرَ أنَّ عَبدَ اللهِ سيَتَوَلَّى أَمْرَ النّاسِ بشَجاعةٍ فائِقةٍ، وسيَكُونُ هَدَفًا لِهُجُومٍ عَنِيفٍ، وستَنزِلُ بالنّاسِ بسَبَبِه نَوائِبُ ومَصائِبُ؛ وفِعْلًا وَقَع كما قال، حَيثُ أَعلَن عَبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ الخِلافةَ في مَكّةَ في عَهْدِ الأُمَوِيِّينَ، وحاصَرَه الحَجّاجُ بنُ يُوسُفَ الظّالِمُ بجَيْشٍ عَظِيمٍ في مَكّةَ، وبَعدَ قِتالٍ عَنِيفٍ وبَسالةٍ نادِرةٍ ومَعارِكَ دامِيةٍ سَقَط شَهِيدًا.
وأَخبَرَ ﷺ “بمُلْكِ بَنِي أُمَيّةَ” أي: بظُهُورِ الدَّوْلةِ الأُمَوِيّةِ “ووِلايةِ مُعاوِيةَ، ووَصّاه” لَمّا قالَ لَه: إذا مَلَكْتَ فاسْجَحْ، أو: فانْصَحْ، وسيَكُونُ مُلُوكُها ورُؤَساؤُها ظَلَمةً، وسيَظهَرُ مِنهُم أَشخاصٌ أَمثالَ يَزِيدَ والوَلِيدِ.
كما أَخبَرَ ﷺ: “يَخرُجُ وَلَدُ العَبّاسِ بالرّاياتِ السُّودِ، ويَمُلِكُونَ أَضعافَ ما مَلَكُوا” مِن أنَّ الدَّولةَ العَبّاسِيّةَ ستَظهَرُ بَعدَ الأُمَوِيِّينَ، وسيَظَلُّون في الحُكْمِ مُدّةً أَطْوَلَ.. وتَحَقَّق كلُّ ذلك فِعْلًا كما أَخبَرَ ﷺ.
وثَبَت في الصَّحِيحِ أنَّه قال: “وَيْلٌ لِلعَرَبِ مِن شَرٍّ قدِ اقْتَرَبَ”، فأَخبَرَ بفِتَنِ جِنْكِيزْ خان وهُولَاكُو، وتَدْمِيرِهِمُ الدَّوْلةَ العَبّاسِيّةَ العَرَبِيّةَ، وقد تَحَقَّق فِعلًا كما قالَ ﷺ.
وقالَ لِسَعْدِ بنِ أبي وَقّاصٍ في رِوايةٍ صَحِيحةٍ، حِينَما كان في مَرَضٍ شَدِيدٍ: “لَعَلَّك تُخَلَّفُ حتَّى يَنتَفِعَ بكَ أَقْوامٌ، ويُضَرَّ بِك آخَرُونَ”، فأَخبَرَ ﷺ أنَّه سيَكُونُ قائِدًا عَظِيمًا، وسيَفتَحُ اللهُ بِيَدِه بُلْدانًا، ويَنتَفِعُ به أَقوامٌ كَثِيرُون بدُخُولِهِم حَظِيرةَ الإِسلامِ، ويَتَضَرَّرُ به آخَرُون حَيثُ تَنقَرِضُ دَوْلَتُهُم.. وقد كان كما قالَ؛ إذ أَصبَحَ سَعْدٌ قائِدًا للجَيشِ الإِسلامِيِّ، ودَمَّر دَوْلةَ الفُرْسِ، وصارَ سَبَبًا في دُخُولِ كَثِيرٍ مِنَ الأَقْوامِ والمِلَلِ في حَوْزةِ الإِسلامِ.
وثَبَت كَذَلِك أنَّه ﷺ “نَعَى النَّجاشِيَّ في اليَوْمِ الَّذي ماتَ فيه”، في السَّنةِ السّابِعةِ مِنَ الهِجْرةِ، وصَلَّى علَيْه، وبَعدَ مُرُورِ أُسبُوعٍ جاءَ الخَبَرُ بأنَّه تُوُفِّي في اليَوْمِ الَّذي أَخبَرَ فيه الرَّسُولُ ﷺ.
وقال ﷺ: “اُثبُتْ أُحُدُ، فإنَّما علَيْك نَبِيٌّ وصِدِّيقٌ وشَهِيدٌ” عِندَما كان ﷺ معَ صَفْوةٍ مِنَ الصَّحابةِ الكِرامِ على جَبَلِ أُحُدٍ -أو على حِراءٍ- واهْتَزَّ الجَبَلُ مِن تَحتِهِم، فأَفادَ أنَّ عُمَرَ وعُثْمانَ وعَلِيًّا سيُستَشْهَدُون، فكانَ كما قالَ. أيُّها الضَّعِيفُ، ويا مَن ماتَ قَلْبُه، ويا أَيُّها الشَّقِيُّ..
[دعوى أنه ﷺ كان مجرد عبقري]
لَعَلَّك تَقُولُ: إنَّ مُحَمَّدًا ﷺ كان عَبْقَرِيًّا، فعَرَف بعَبْقَرِيَّتِه هذه الأُمُورَ الغَيبِيّةَ! وتُغمِضُ عَيْنَك عن حَقِيقةِ النُّبوّةِ السّاطِعةِ كالشَّمسِ!
أيُّها المِسكِينُ، إنَّ ما سَمِعْتَه لَيسَ إلّا جُزءًا مِن خَمْسةَ عَشَرَ نَوْعًا مِنَ الأَنواعِ الكُلِّيّةِ لِمُعجِزاتِه ﷺ، وقد عَلِمْتَ أنَّها جَمِيعًا ثابِتةٌ برِواياتٍ صَحِيحةٍ وبتَواتُرٍ مَعنَوِيٍّ؛ وأَنتَ لم تَسمَعْ بَعدُ إلّا نُبذةً يَسِيرةً مِمّا يَتَعلَّقُ بالأُمُورِ الغَيبِيّةِ.. أفَبَعْدَ ما يَسمَعُ الإِنسانُ هذه المُعجِزاتِ يقُولُ لِصاحِبِها: إنَّه عَبقَرِيٌّ يَكشِفُ المُستَقبَلَ بفِراسَتِه؟
هَبْ أَنَّنا قُلْنا مِثلَك: إنَّه عَبقَرِيٌّ. أفَيُمْكِنُ أن تَلتَبِسَ الرُّؤْيةُ على مَن يَملِكُ مِئاتِ الأَضعافِ مِنَ الذَّكاءِ المُقَدَّسِ والعَبقَرِيّةِ السَّامِيةِ؟ وهل يُمكِنُ لِمِثلِ هذه الشَّخصِيّةِ السَّامِيةِ أن تَهبِطَ مِن سُمُوِّها الصّادِقِ فتُخْبِرَ أَخبارًا عارِيةً عنِ الصِّحّةِ؟ ألَيسَ جُنُونًا وبَلاهةً ما بَعدَها بَلاهةٌ الإِعراضُ عَمّا تُخبِرُ به هذه العَبقَرِيّةُ الفَذّةُ حَوْلَ سَعادةِ الدّارَينِ!؟
[الإشارة السادسة: الإخبار بمغيبات مستقبلية]
الإشارةُ البليغةُ السّادسةُ
ثَبَتَ أنَّه ﷺ أَخبَرَ فاطِمةَ رَضِيَ الله عَنهَا: “إنَّكِ أَوَّلُ أَهلِي لُحُوقًا بي”، أي: أَوَّلُ مَن يَمُوتُ بَعدَه ﷺ فيَتْبَعُه مِن أَهلِ البَيْتِ، وبَعدَ سِتّةِ أَشهُرٍ وَقَع ما قالَ.
وثَبَت أَيضًا أنَّه ﷺ: “أَخبَرَ أبا ذَرٍّ رَضِيَ الله عَنهُ بإِخراجِه” أي: مِنَ المَدِينةِ المُنَوَّرةِ، “وبِعَيْشِه وَحْدَه وبِمَوْتِه وَحْدَه في صَحْراءَ”، وبَعدَ عِشْرِينَ سَنةً وَقَع الأَمرُ كما أَخبَرَ.
وأَيضًا أنَّه ﷺ استَيْقَظَ مِنَ النَّومِ في بَيتِ أُمِّ حَرامٍ (خالةِ أَنسِ بنِ مالِكٍ)، فتَبَسَّمَ قائِلًا: “رأيتُ أُمَّتِي يَغزُونَ في البَحْرِ كالمُلُوكِ على الأَسِرَّةِ”، فقالَت: اُدْعُ يا رَسُولَ اللهِ أنْ أَكُونَ مَعَهُم. فدَعا لَها، وبَعدَ أَربَعِينَ سَنةً اصْطَحَبَتْ زَوْجَها عُبادةَ بنَ الصّامِتِ لِفَتْحِ قُبْرُصَ، وتُوُفِّيَتْ هُناك، وقَبْرُها الآنَ هُناكَ مَعرُوفٌ يُزارُ.
وثَبَت أنَّه ﷺ قال: “يَخرُجُ مِن ثَقِيفٍ كَذَّابٌ ومُبِيرٌ”، فأَخبَرَ عنِ المُختارِ المَشهُورِ الَّذي ادَّعَى النُّبوّةَ، وسَفَّاكِ الدِّماءِ الحَجّاجِ الظّالِمِ الَّذي قَتَل مِئةَ أَلفِ نَفْسٍ.
وثَبَت أَيضًا أنَّه ﷺ قال: “ستُفْتَحُ القُسْطَنطِينِيّةُ، فنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُها، ونِعْمَ الجَيْشُ جَيْشُها”، فأَفادَ بهذا أنَّه ستُفتَحُ مَدِينةُ إسطنبُولَ بِيَدِ المُسلِمِينَ، وسيَكُونُ لِمُحَمَّدٍ الفاتِحِ مَرتَبةٌ عالِيةٌ: “نِعْمَ الأَمِيرُ”، وظَهَر الأَمرُ كما قالَ.
وثَبَت كَذَلِك أنَّه ﷺ قالَ: “إنَّ الدِّينَ لَو كانَ مَنُوطًا بالثُّرَيّا لَنالَه رِجالٌ مِن أَبناءِ فارِسَ”، مُشِيرًا إلى الَّذِين أَنجَبَتْهُم بِلادُ فارِسَ مِنَ العُلَماءِ والأَولِياءِ أَمثالَ الإِمامِ أبي حَنِيفةَ النُّعمانِ.
وقال ﷺ أَيضًا: “عالِمُ قُرَيْشٍ يَمْلَأُ طِباقَ الأَرْضِ عِلْمًا”، مُشِيرًا بذَلِك إلى الإِمامِ الشّافِعِيِّ.
وأَخبَرَ ﷺ: “ستَفْتَرِقُ أُمَّتي ثَلاثًا وسَبعِينَ فِرقةً، النَّاجِيةُ واحِدةٌ مِنها، قيلَ: مَن هُم؟ قال: ما أنا علَيْه وأَصحابِي”.
وقال ﷺ: “القَدَرِيّةُ مَجُوسُ هَذِه الأُمّةِ”، مُشِيرًا بذَلِك إلى طائِفةِ القَدَرِيّةِ المُنكِرِينَ لِلقَدَرِ، وأَعْلَمَ عنِ الرَّافِضةِ الَّتي هي مُنقَسِمةٌ إلى شُعَبٍ وفِرَقٍ كَثِيرةٍ.
وكذا أَخبَرَ عن فِرَقٍ كَثِيرةٍ، إذ ثَبَت أنَّه قال لِعَلِيٍّ ما مَعْناهُ: إنَّ مَثَلَك مَثَلُ عِيسَى عَليهِ السَّلام، ستَكُونُ سَبَبًا في هَلاكِ فِئَتَينِ مِنَ النَّاسِ: إِحداهُما مِن فَرْطِ المَحَبّةِ، والأُخرَى مِن فَرْطِ العَداوةِ، حَيثُ أَفْرَطَ النَّصارَى في حُبِّ عِيسَى عَليهِ السَّلام حتَّى تَجاوَزُوا الحَدَّ المَشْرُوعَ فيَهْلِكُوا، وقالُوا: إنَّه ابنُ اللهِ -حاشَ للهِ- واليَهُودُ أَيضًا أَفرَطُوا في العَداوةِ لَه، فأَنكَرُوا نُبُوَّتَه ومَنزِلَتَه الرَّفِيعةَ؛ وكَذَلِك سيُفْرِطُ فَرِيقٌ مِنَ النّاسِ في الحُبِّ لَك ويَتَعَدَّوْن الحَدَّ المَشْرُوعَ فيَهْلِكُونَ، إذ قال ﷺ في حَقِّهِم: “لَهُم نَبَزٌ يُقالُ لَهُمُ الرَّافِضةُ”، وفَرِيقٌ آخَرُ سيُفْرِطُونَ في العَداءِ لَك وهُمُ (الخَوارِجُ)، وقِسمٌ مِنَ المُغالِينَ في مُوالاةِ الأُمَوِيِّينَ وهُمُ (النَّاصِبةُ).
[لماذا لا ينتفع الشيعة بمحبة آل البيت؟]
فإن قِيلَ: إنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ يَأْمُرُ بحُبِّ آلِ البَيْتِ، وقد حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ على ذَلِك، فلَرُبَّما يُشَكِّلُ هذا الحُبُّ عُذْرًا، حَيثُ إنَّ أَهْلَ الحُبِّ أَهْلُ انتِشاءٍ وسُكْرٍ -أي: ذاهِلُونَ- فلِمَ لا تَنتَفِعُ الشِّيعةُ ولا سِيَّما الرّافِضةُ مِن هذا الحُبِّ ولا يُنقِذُهُم مِنَ العَذابِ، بل نَرَى العَكْسَ مِن ذَلِك، فإنَّهُم يُدانُونَ مِن فَرْطِ الحُبِّ كما أَشارَ إلَيْه الحَدِيثُ الشَّرِيفُ؟!
الجَوابُ: إنَّ الحُبَّ قِسْمانِ:
أَحَدُهُما: حُبٌّ (بالمَعنَى الحَرفِيِّ)، وهُو حُبُّ عَلِيٍّ والحَسَنِ والحُسَيْنِ وآلِ البَيْتِ مَحَبّةً للهِ ولِلرَّسُولِ وفي سَبِيلِهِما؛ فهذا الحُبُّ يَزِيدُ حُبَّ الرَّسُولِ ﷺ، ويَكُونُ وَسِيلةً لِحُبِّ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. فهذا الحُبُّ مَشْرُوعٌ، لا يَضُرُّ إِفراطُه، لِأَنَّه لا يَتَجاوَزُ الحُدُودَ ولا يَستَدعِي ذَمَّ الغَيرِ وعَداوَتَه.
وثانِيهِما: حُبٌّ (بالمَعنَى الِاسْمِيِّ)، وهُو حُبُّهُم حُبًّا ذاتِيًّا، ولِأَجْلِهِم، أي: حُبُّ عَلِيٍّ مِن أَجلِ شَجاعَتِه وكَمالِه، وحُبُّ الحَسَنِ والحُسَيْنِ مِن أَجْلِ فَضائِلِهِما ومَزاياهُما الكامِلةِ فحَسْبُ، مِن غَيرِ تَذَكُّرٍ للنَّبِيِّ ﷺ، حتَّى إنَّ مِنهُم مَن يُحِبُّهُم ولو لم يَعرِفِ اللهَ ورَسُولَه؛ فهَذا الحُبُّ لا يَكُونُ وَسِيلةً لِحُبِّ اللهِ ورَسُولِه، وإذا ما كانَ في هذا الحُبِّ إِفراطٌ فإنَّه سيُفْضِي إلى ذَمِّ الغَيرِ وعَداوَتِه.
وهكذا أَفْرَطَ مِنهُم -كما ذُكِرَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ- في الحُبِّ لِعَلِيٍّ وتَبَـرَّؤُوا مِن أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ، فوَقَعُوا في خَسارةٍ عَظِيمةٍ، فكانَ هذا الحُبُّ السَّلْبِيُّ غَيرُ الإِيجابِيِّ سَبَبًا لِخَسارَتِهِم.
وجاءَ في النَّقلِ الصَّحِيحِ أنَّه ﷺ حَذَّرَ الأُمّةَ مِن أَنَّهُم “إذا مَشَوُا المُطَيْطاءَ وخَدَمَتْهُم بَناتُ فارِسَ والرُّومِ، رَدَّ اللهُ بَأْسَهُم بَينَهُم، وسَلَّطَ شِرارَهُم على خِيارِهِم”، وبَعدَ ثَلاثِينَ سَنةً وَقَع الأَمرُ كما قالَ.
وثَبَت كَذَلِك أنَّه ﷺ أَعْلَمَ أَصحابَه: “وتُفتَحُ خَيْبَرُ على يَدَيْ عَلِيٍّ”، وفي غَدِ يَوْمِه وَقَعَتِ المُعْجِزةُ النَّبَوِيّةُ -فَوْقَ ما كان يُتَوَقَّعُ- فأَخَذَ عَلِيٌّ بابَ القَلْعةِ بِيَدِه وجَعَلَه تُرْسًا؛ ولَمّا تَمَّ أَمرُ الفَتْحِ رَماهُ في الأَرضِ، وكان البابُ عَظِيمًا، حتَّى إنَّه لم يَستَطِعْ ثَمانِيةُ رِجالٍ -وفي رِوايةٍ أَربَعُونَ رَجُلًا- رَفْعَه مِنَ الأَرضِ.
وقالَ ﷺ: “لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى تَقتَتِلَ فِئَتانِ دَعْواهُما واحِدةٌ”، فأَخبَرَ عنِ الحَرْبِ الَّتي وَقَعَت في صِفِّينَ بَينَ عَلِيٍّ ومُعاوِيةَ رَضِيَ الله عَنهُما.
ومِمّا أَخبَـرَ به ﷺ: “إنَّ عَمَّارًا تَقتُلُه الفِئةُ الباغِيةُ”، وبَعدَ ذَلِك قُتِلَ في حَرْبِ صِفِّينَ، فاحْتَجَّ عَلِيٌّ به مِن أنَّ المُوالِينَ لِمُعاوِيةَ هُمُ الفِئةُ الباغِيةُ، ولَكِنَّ مُعاوِيةَ أَوَّلَ الحَدِيثَ، وقال عَمْرُو بنُ العاصِ: البُغاةُ هُم قاتِلُوه فَقَطْ، ولَسْنا جَمِيعًا بُغاةً.
وقال ﷺ أَيضًا: “إنَّ الفِتَنَ لا تَظهَرُ ما دامَ عُمَرُ حَيًّا”، فكانَ الأَمرُ كما أَخبَرَ.
“ولَمَّا أُسِرَ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو -قَبلَ إِسلامِه- يَوْمَ بَدْرٍ قال عُمَرُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّه رَجُلٌ مُفَوَّهٌ، فَدَعْنِي أَنتَزِعْ ثَنِيَّتَيه السُّفلِيَّتَينِ، فلا يَقُومَ خَطِيبًا علَيْك بَعدَ اليَوْمِ، فقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “وعَسَى أن يَقُومَ مَقامًا يَسُرُّك يا عُمَرُ”، وكان ذَلِك، فحِينَما وَقَعَت وَفاةُ النَّبِيِّ ﷺ -تلك الحادِثةُ العُظْمَى الَّتي كَلَّ الصَّبْرُ فيها- قامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ الله عَنهُ مُعَزِّيًا المُسلِمِينَ في المَدِينةِ المُنَوَّرةِ، ومُثبِّتًا قُلُوبَ الصَّحابةِ، فخَطَبَ فِيهِم خُطْبةً بَلِيغةً، وقامَ سُهَيْلٌ أَيضًا في مَكّةَ المُكَرَّمةِ يَحذُو حَذْوَ أبي بَكْرٍ، فأَلْقَى خُطْبةً شَبِيهةً بخُطْبةِ أبي بَكْرٍ، حتَّى إنَّ كَلِماتِ الخُطْبَتَينِ تَوارَدَت على مَعنًى واحِدٍ.
وقال الرَّسُولُ ﷺ لِسُراقةَ: “كَيفَ بِك إذا أُلْبِسْتَ سِوارَيْ كِسْرَى”، وفي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُ سَقَطَت دَوْلةُ كِسْرَى، وجاءَت زِينَتُه وحُلِيُّه فأَلْبَسَها عُمَرُ سُراقةَ، وقال: “الحَمْدُ للهِ الَّذي سَلَبَهُما كِسْرَى، وألْبَسَهُما سُراقةَ”، وصَدَّقَ ما أَخبَرَ به النَّبِيُّ ﷺ.
وقال ﷺ أَيضًا: “إذا ذَهَبَ كِسْرَى فلا كِسْرَى بَعدَه”، فكانَ الأَمرُ كما أَخبَرَ.
وأَخبَرَ ﷺ رَسُولَ كِسْرَى: “أَنَّ اللهَ سَلَّطَ على كِسْرَى ابنَه شَهْرَوَيْه، فقَتَلَه في وَقْتِ كَذا..”، فلَمّا حَقَّقَ ذلك الرَّسُولُ وَقْتَ مَقتَلِ كِسْرَى، أَيْقَنَ أنَّ قَتْلَه كان في نَفْسِ الوَقْتِ الَّذي أَخبَرَ عنه ﷺ، فأَسْلَمَ بِسَبَبِ ذلك، واسْمُ ذلك الرَّسُولِ “فَيرُوزُ” كَما وَرَدَ في بَعضِ الرِّواياتِ. وأَخبَرَ عن كِتابِ حاطِبِ بنِ أَبي بَلْتَعةَ الَّذي أَرسَلَه سِرًّا إلى كُفَّارِ قُرَيشٍ، فأَرسَلَ ﷺ عَلِيًّا والمِقْدادَ رَضِيَ الله عَنهُما بأنَّ في المَوْضِعِ الفُلانِيِّ جارِيةً مَعَها رِسالةٌ، فائْتُوني بها. فذَهَبا وأَتَيا بالرِّسالةِ في المَكانِ الَّذي وَصَفَه الرَّسُولُ ﷺ، واسْتَدْعَى حاطِبًا وقالَ له: ما الَّذِي حَمَلَك على هذا؟ فأَبْدَى عُذْرَه فقَبِلَ مِنه، وهذه رِوايةٌ صَحِيحةٌ ثابِتةٌ.
وثَبَت أَيضًا أنَّه ﷺ قال في عُتْبةَ بنِ أَبي لَهَبٍ: “يَأكُلُه كَلْبُ اللهِ”، فأَخبَرَ عن عاقِبَتِه المُفْجِعةِ، وبَعدَ مُدّةٍ مِنَ الزَّمَنِ ذَهَب عُتْبةُ مُتَوَجِّهًا نَحوَ اليَمَنِ، فجاءَه سَبُعٌ وأَكَلَه، فصَدَّقَ دُعاءَه علَيْه.
ووَرَد في النَّقلِ الصَّحِيحِ: “أنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمَّا فَتَح مَكَّةَ أَمَرَ بِلالًا رَضِيَ الله عَنهُ أن يَعْلُوَ ظَهْرَ الكَعْبةِ ويُؤَذِّنَ علَيْها، وأَبُو سُفْيانَ بنُ حَرْبٍ وعَتَّابُ بنُ أَسِيدٍ والحارِثُ بنُ هِشامٍ -وهُم رُؤَساءُ قُرَيشٍ- جُلُوسٌ في فِناءِ الكَعْبةِ، فقال عَتّابٌ: لَقَد أَكرَمَ اللهُ أَسِيدًا إذ لم يَرَ هذا اليَوْمَ. وقال الحارِثُ: أَمَا وَجَد مُحَمَّدٌ مُؤَذِّنًا غَيرَ هذا الغُرابِ الأَسْوَدِ! قال أَبُو سُفْيانَ: لا أَقُولُ شَيْئًا، ولَو تَكَلَّمتُ لَأَخْبَرَتْه هذه الحَصْباءُ. فخَرَجَ علَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ وقال: لَقَد عَلِمْتُ الَّذي قُلتُم. وذَكَرَ مَقالَتَهم. فقال الحارِثُ وعَتَّابٌ: نَشهَدُ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ! ما اطَّلَع على هذا أَحَدٌ كان مَعَنا فنَقُولَ به”.
فيا مَن لا يُؤْمِنُ بهذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ، ويا أَيُّها المُلْحِدُ..
تَأَمَّلْ في هَذَينِ العَنِيدَينِ مِن رُؤَساءِ قُرَيشٍ، كَيفَ رَأَيا نَفْسَيْهِما مُضَطرَّينِ إلى الإِيمانِ، بما سَمِعاه مِن إِخبارٍ غَيْبِيٍّ واحِدٍ؛ فما أَفْسَدَ قَلبَكَ وأَنتَ تَسمَعُ أُلُوفَ المُعجِزاتِ مِن أَمثالِها، وكُلُّها ثابِتةٌ بطُرُقِ التَّواتُرِ المَعنَوِيِّ، ومعَ ذلك لا يَطْمَئِنُّ قَلبُك!! فلْنَرجِعْ إلى الصَّدَدِ..
وثَبَت أَيضًا أنَّه ﷺ “أَخبَرَ بالمالِ الَّذي تَرَكَه عَمُّه العَبّاسُ رَضِيَ الله عَنهُ عِندَ أُمِّ الفَضْلِ (زَوْجِه) بَعدَ أن كتَمَه” فلَمّا أُسِرَ بِبَدْرٍ وطُلِبَ مِنه الفِداءُ قال: لا مالَ لي. فقالَ له ﷺ: “ما صَنَع المالُ الَّذي وَضَعْتَه عِندَ أُمِّ الفَضْلِ؟”، فقال: “ما عَلِمَه غَيرِي وغَيرُها!”، فأَسْلَمَ.
وثَبَت أَيضًا: أنَّ السَّاحِرَ الخَبِيثَ لَبِيدًا اليَهُودِيَّ عَمِلَ سِحْرًا لِيُؤْذِيَ النَّبِيَّ ﷺ، فشَدَّ الشَّعَرَ على مِشْطٍ، ودَسَّه في بِئْرٍ، فأَمَر الرَّسُولُ الأَكرَمُ ﷺ عَلِيًّا والصَّحابةَ أن يَذهَبُوا إلى البِئْرِ الفُلَانيّةِ ويَأْتُوا بأَدَواتِ السِّحْرِ، فذَهَبُوا وأَتَوْا بها، وكان كُلَّما انحَلَّت مِنه عُقْدةٌ وَجَد الرَّسُولُ ﷺ شَيْئًا مِنَ الخِفَّةِ.
وثَبَت أَيضًا: أنَّ الرَّسُولَ الأَكرَمَ ﷺ قال لِجَماعةٍ فيهم أَبُو هُرَيْرةَ وحُذَيْفةُ: “ضِرْسُ أَحَدِكُم في النّارِ أَعظَمُ مِن أُحُدٍ”، فأَخبَرَ عن رِدّةِ واحِدٍ مِن تلك الجَماعةِ وبَيَّنَ عاقِبَتَه الوَخِيمةَ.
قال أَبُو هُرَيْرةَ: “فذَهَبَ القَومُ -يَعنِي ماتُوا- وبَقِيتُ أنا ورَجُلٌ (فخَشِيتُ)، فقُتِل مُرتَدًّا يَوْمَ اليَمامةِ”، وظَهَرَت حَقِيقةُ خَبَرِ النَّبِيِّ ﷺ.
وثَبَتَت أَيضًا “قَضِيّةُ عُمَيرٍ معَ صَفْوانَ حِينَ سارَّه وشارَطَه على قَتلِ النَّبِيِّ ﷺ” مُقابِلَ مَبلَغٍ عَظِيمٍ مِنَ المالِ، “فلَمَّا جاءَ عُمَيرٌ النَّبِيَّ ﷺ قاصِدًا لِقَتْلِه، وأَطْلَعَه رَسُولُ اللهِ ﷺ على الأَمرِ والسِّرِّ -ووَضَع يَدَه على صَدْرِه- أَسلَمَ”.
هذا، وقد وَقَع كَثِيرٌ مِن أَمثالِ هذه الإِنباءاتِ الغَيبِيّةِ الصّادِقةِ، وذَكَرَتْها كُتُبُ الصِّحاحِ السِّتّةِ المَعرُوفةِ معَ أَسانِيدِها؛ وأَغلَبُ ما ذُكِرَ في هذه الرِّسالةِ مِنَ الحَوادِثِ إنَّما هُو في حُكْمِ المُتَواتِرِ المَعنَوِيِّ، وهي قَطْعِيّةُ الثُّبُوتِ ويَقِينِيّةٌ، وقد نَقَلَها البُخارِيُّ ومُسلِمٌ في صَحِيحَيْهما اللَّذَينِ هُما أَصَحُّ الكُتُبِ بَعدَ القُرآنِ الكَرِيمِ، على ما هُو علَيْه أَهلُ العِلمِ والتَّحقِيقِ، عِلْمًا أنَّها بُيِّنَت في كُتُبِ السُّنَنِ الصَّحِيحةِ الأُخرَى كالتِّرمِذِيِّ والنَّسائِيِّ وأَبي دَاوُدَ ومُستَدرَكِ الحاكِمِ ومُسنَدِ أَحمَدَ بنِ حَنْبلٍ ودَلائِلِ البَيهَقِيِّ معَ أَسانِيدِها.
[إخباره ﷺ بالمغيبات لا يمكن وصفه بالعبقرية]
فيا أَيُّها المُلْحِدُ الغافِلُ، لا تُلقِ الكَلامَ جُزافًا فتَقُولَ: إنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَجُلٌ عاقِلٌ ذَكِيٌّ! ثمَّ تَدَعِ الأَمرَ هكَذا وتَنصَرِفْ، فهَذِه الأَخبارُ الصَّادِقةُ الَّتي تَمَسُّ الأُمُورَ الغَيبِيّةَ لا تَخلُو مِن أَمرَينِ اثنَينِ:
إمَّا أنَّك تَقُولُ: إنَّ هذا الرَّجُلَ له نَظَرٌ ثاقِبٌ وعَبقَرِيّةٌ واسِعة جِدًّا، أي: لَه عَيْنٌ بَصِيرةٌ تَرَى الماضِيَ والمُستَقبَلَ معًا والعالَمَ أَجمَعَ، فيَعلَمُ بها كلَّ شَيءٍ وكُلَّ حادِثٍ، فأَقطارُ الأَرضِ والعالَمُ كُلُّه شَرْقًا وغَرْبًا تَحتَ نَظَرِ شُهُودِه، ولَه مِنَ الدَّهاءِ العَظِيمِ ما يُمكِنُه أن يَكشِفَ جَمِيعَ أُمُورِ الماضِي والمُستَقبَلِ! فهَذِه الحالةُ لا يُمكِنُ -كما تَرَى- أن تكُونَ في بَشَرٍ قَطُّ؛ وإذا ما وَقَعَتْ في أيِّ فَرْدٍ فهُو إِذًا خارِقٌ لِلعادةِ، ولَه مَوْهِبةٌ رَفِيعةٌ مَنَحَها لَه رَبُّ العالَمِينَ.. وهذا الأَمرُ بحَدِّ ذاتِه مُعجِزةٌ عُظْمَى.
أو يَنبَغِي لك أن تُؤْمِنَ بأنَّ ذلك الشَّخصَ الكَرِيمَ مَأْمُورٌ وتِلْمِيذٌ يَتَلَقَّى الإِرشادَ والتَّعلِيماتِ مِمَّن يَرَى كُلَّ شَيءٍ، ولَه القُدْرةُ بالتَّصَرُّفِ في كلِّ شَيْءٍ في الكَوْنِ كُلِّه والأَزمانِ جَمِيعًا، فكُلُّ شَيءٍ مَكتُوبٌ في لَوْحِه المَحْفُوظِ، يُعَلِّمُ مِنه تِلمِيذَه ما شاءَ مَتَى شاءَ. فثَبَت إذًا أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ يَتَلقَّى الدَّرْسَ مِن مُعَلِّمِه الأَزَليِّ سُبحانَه ويُبَلِّغُه كذَلِك.
وثَبَت أَيضًا أنَّه ﷺ حِينَما بَعَث خالِدَ بنَ الوَلِيدِ لِيُحارِبَ أُكَيدِرَ -رَئيسَ دُوْمةِ الجَندَلِ- قالَ لَه: “إنَّك سَتَجِدُه يَصِيدُ البَقَرَ” -أي البَقَرَ الوَحْشِيَّ- وأَخبَرَه بأنَّه سيَأْتِي به أَسِيرًا مِن غَيرِ مُقاوَمةٍ مِنه. وذَهَب خالِدٌ ورَآه كما وَصَفَه الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ، فأَخَذَه أَسِيرًا وأَتَى به.
وثَبَت أَيضًا أنَّه ﷺ أَعلَمَ “قُرَيْشًا بأَكْلِ الأَرَضةِ ما في صَحِيفَتِهِمُ الَّتي تَظاهَرُوا بها على بَنِي هاشِمٍ وقَطَعُوا بِها رَحِمَهُم، وأنَّها أَبْقَت فيها كُلَّ اسمٍ للهِ، فوَجَدُوها كما قالَ”، وهِي مُعَلَّقةٌ على الكَعْبةِ.
وثَبَت أَيضًا أنَّه ﷺ أَخبَرَ عن ظُهُورِ الطّاعُونِ عِندَ فَتحِ بَيتِ المَقْدِسِ، ففي عَهْدِ عُمَرَ انتَشَرَ وَباءُ الطّاعُونِ انتِشارًا فَظِيعًا، بحَيثُ إنَّ عَدَدَ الَّذِينَ تُوُفُّوا نَتِيجةَ الأَمراضِ سَبعُونَ أَلفَ شَخْصٍ خِلالَ ثَلاثةِ أَيّامٍ.
وثَبَت أَيضًا أنَّه ﷺ أَخبَرَ عن وُجُودِ البَصْرةِ وبَغْدادَ قَبلَ أن تُعْمَرا، وأَخبَرَ عن جِبايةِ خَزائِنِ الأَرضِ إلى مَدِينةِ بَغْدادَ.
وأَخبَرَهُم ﷺ عن “قِتالِهِمُ التُّرْكَ”، والأُمَمِ الَّتي حَوْلَ بَحْرِ الخَزَرِ، ثمَّ بَعدَ ذلك يَدخُلُ أَكثَرُ هَؤُلاءِ الأُمَمِ في دِينِ الإِسلامِ، وسيَحكُمُونَ العَرَبَ بَينَهُم حَيثُ قال: “يُوشِكُ أن يَكْثُرَ فِيكُمُ العَجَمُ، يَأْكُلُونَ فَيْئَكُم، ويَضْرِبُونَ رِقَابَكُم”.
وقال ﷺ: “هَلَاكُ أُمَّتِي على يَدِ أُغَيلِمةٍ مِن قُرَيشٍ”، فأَخبَرَ عن يَزِيدَ والوَليدِ وأَمثالِهِم مِنَ الرُّؤَساءِ الأَشرارِ في الأُمَوِيِّينَ. وأَخبَرَ ﷺ عن وُقُوعِ رِدّةٍ في بَعضِ الأَماكِنِ كاليَمامةِ.
وقالَ في غَزْوةِ الخَنْدَقِ: “إنَّ قُرَيْشًا والأَحزابَ لا يَغزُونَني أَبدًا، وأَنا أَغزُوهُم”، وكان الأَمرُ كما أَخبَرَ.
وثَبَت كَذلِك أنَّه ﷺ أَخبَرَ قَبلَ وَفاتِه بشَهْرَينِ: “بأنَّ عَبْدًا خُيِّرَ فاختارَ ما عِندَ اللهِ”.
وقالَ في حَقِّ زَيدِ بنِ صُوحانَ: “يَسْبِقُ عُضْوٌ مِنه إلى الجَنّةِ”، فقُطِعَتْ يَدُهُ في الجِهادِ وأَصبَحَت شَهِيدةً يَومَ “نَهاوَنْدَ”، فسَبَقَتْه إلى الجَنّةِ.
وهكذا، فإنَّ جَمِيعَ ما بَحَثْناه مِن أُمُورِ الغَيْبِ إنَّما هُو نَوْعٌ واحِدٌ فَقَط مِن بَينِ عَشَرةِ أَنواعٍ مِن مُعجِزاتِه ﷺ، فنَحنُ لم نُعَرِّفْ بَعدُ عُشْرَ مِعْشارِ هذا النَّوعِ، وقد بَيَّنّا إِجمالًا أَربَعةَ أَنواعٍ مِنَ الإِخبارِ الغَيبِيِّ في “الكَلِمةِ الخَامِسةِ والعِشْرِينَ” الخاصّةِ بإِعجازِ القُرآنِ.
فتَأَمَّلِ الآنَ في هذا النَّوعِ، وضُمَّه إلى الأَنواعِ الأَربَعةِ الأُخرَى الَّتي أَخبَرَ عَنْها ﷺ بلِسانِ القُرآنِ، وانظُرْ كَيفَ يُشَكِّلُ بُرهانًا قاطِعًا لَامِعًا على الرِّسالةِ، بحَيثُ يُذْعِنُ مَن لم يَخْتَلَّ عَقْلُه وقَلبُه ويُصَدِّقُ بأنَّ هذا النَّبِيَّ الكَرِيمَ ﷺ إنَّما هُو رَسُولٌ يُخبِرُ عنِ الغَيبِ مِن لَدُنْ خالِقِ كُلِّ شَيءٍ وعَلَّامِ الغُيُوبِ.
[الإشارة السابعة: معجزات بركات الطعام]
الإشارةُ البليغةُ السَّابعةُ
نُشِيرُ إلى بِضْعِ أَمثِلةٍ مِنَ المُعجِزاتِ النَّبَوِيّةِ الَّتي تَخُصُّ بَرَكةَ الطَّعامِ، وثَبَتَت برِواياتٍ صَحِيحةٍ قاطِعةٍ وبالتَّواتُرِ المَعنَوِيِّ؛ ونَرَى مِنَ الأَنسَبِ أن نُقَدِّمَ بَينَ يَدَيْها مُقَدِّمةً.
[مقدمة حول ثبوت أخبار بركة الطعام]
المُقدِّمة
إنَّ الأَمثِلةَ الَّتي ستَرِدُ حَوْلَ مُعجِزةِ بَرَكةِ الطَّعامِ كُلٌّ مِنها قد رُوِي بطُرُقٍ مُتَعدِّدةٍ، بل إنَّ قِسمًا مِنها رُوِي بسِتّةَ عَشَرَ طَرِيقًا، وقد وَقَع مُعظَمُ هذه الأَمثِلةِ أَمامَ جَماعةٍ غَفِيرةٍ مِنَ الصَّحابةِ الكِرامِ المُنَزَّهِينَ عنِ الكَذِبِ والَّذِين لَهُمُ المَنزِلةُ الرَّفِيعةُ في الصِّدقِ والأَمانةِ.
مثالٌ للتَّوضِيحِ:
جاءَ في رِوايةٍ: أنَّه أَكَل سَبعُونَ رَجُلًا مِن صاعٍ وشَبِعُوا جَمِيعًا، فالرِّجالُ السَّبعُونَ يَسمَعُونَ هذه الرِّوايةَ الَّتي يَحكِيها أَحَدُهُم، ثمَّ لا يُخالِفُونَه ولا يُنكِرُونَ علَيْه، أي: أنَّهُم يُصَدِّقُونه بسُكُوتِهِم.
فالصَّحابةُ الكِرامُ رِضْوانُ اللهِ تَعالَى علَيْهِم أَجمَعِينَ كانُوا في ذِرْوةِ الصِّدْقِ والحَقِّ، حَيثُ إنَّهُم عاشُوا في خَيرِ القُرُونِ، وهُم مَحفُوظُونَ مِنَ الإِغضاءِ على الباطِلِ، فلَو أنَّ أَحَدَهُم رَأَى ولَو شَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الكَذِبِ في أَيِّ كَلامٍ كانَ، لَمَا وَسِعَه السُّكُوتُ علَيْه قَطْعًا، بل كان يَرُدُّه حَتْمًا.
لِذا، فالرِّواياتُ الَّتي نَذكُرُها فَضْلًا عن أَنَّها رُوِيَت بطُرُقٍ مُتَعدِّدةٍ، فقد سَكَت عَنْها الآخَرُونَ تَصْدِيقًا بها، أي: كأَنَّ الجَماعةَ قد رَوَوْها، فالسَّاكِتُ مِنهُم كالنَّاطِقِ بها، فهِيَ إذًا تُفِيدُ القَطْعِيّةَ كالمُتَواتِرِ المَعنَوِيِّ.
ويَشهَدُ التَّارِيخُ -والسِّيرةُ خاصَّةً- أنَّ الصَّحابةَ الكِرامَ قد وَقَفُوا أَنفُسَهُم بَعدَ حِفْظِ القُرآنِ الكَرِيمِ لِحِفْظِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، أي: حِفْظِ أَحوالِه ﷺ وأَفعالِه وأَقوالِه، سَواءٌ مِنها المُتَعلِّقةُ بالأَحكامِ الشَّرعِيّةِ أم بالمُعجِزاتِ، ولم يُهْمِلُوا -جَزاهُمُ اللهُ خَيْرًا- أَيّةَ حَرَكةٍ مَهْما كانَت صَغِيرةً مِن سِيرَتِه المُبارَكةِ، بل اعتَنَوْا بها وبِرِوايَتِها، ودَوَّنُوها في مُدَوَّناتٍ لَدَيهِم، ولا سِيَّما العَبادِلةُ السَّبْعةُ، وبخاصّةٍ تَرجُمانَ القُرآنِ عَبدَ اللهِ بنَ عَبّاسٍ، وعَبدَ اللهِ بنَ عَمْرِو بنِ العاصِ.
وهكَذا حُفِظَتِ الأَحادِيثُ في عَهْدِ الصَّحابةِ الكِرامِ حتَّى جاءَ كِبارُ التَّابِعِينَ بَعدَ ثَلاثِينَ أو أَربَعِينَ سَنةً، فتَسَلَّمُوها غَضَّةً طَرِيّةً مِنهُم، وحَفِظُوها بكُلِّ أَمانةٍ وإِخلاصٍ، فكَتَبُوها ونَقَلَها عَنهُم بَعدَ ذلك الأَئِمّةُ المُجتَهِدُون وأُلُوفُ المُحَقِّقِينَ والمُحَدِّثِينَ وحَفِظُوها بالكِتابةِ والتَّدوِينِ، ثمَّ تَسَلَّمَها -بَعدَ مُضِيِّ مِئَتَيْ سَنةٍ مِنَ الهِجْرةِ- أَصْحابُ الكُتُبِ السِّتّةِ الصَّحِيحةِ المَعرُوفةِ، وفي مُقَدِّمَتِهِمُ البُخارِيُّ ومُسلِمٌ، ثمَّ جاءَ دَوْرُ النُّقّادِ وأَهلِ الجَرحِ والتَّعدِيلِ، وبَرَزَ مِنهُم مُتَشَدِّدُون -أَمثالَ ابنِ الجَوْزِيِّ- فمَيَّـزُوا الأَحادِيثَ المَوضُوعةَ الَّتي دَسَّها بَعضُ المَلاحِدةِ وجَهَلةِ النّاسِ على الأَحادِيثِ الصَّحِيحةِ؛ ثمَّ أَعقَبَهُم عُلَماءُ أَفاضِلُ ذَوُو تَقْوَى ووَرَعٍ أَمثالُ جَلالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ، وهُو العَلّامةُ الإمامُ الَّذي تَشَرَّف بمُحاوَرةِ الرَّسُولِ ﷺ، فتَمَثَّل لَه في اليَقَظةِ سَبعِينَ مَرّةً -كما يُصَدِّقُه أَهلُ الكَشْفِ مِنَ الأَوْلياءِ الصّالِحِينَ- فمَيَّـزُوا جَواهِرَ الأَحادِيثِ الصَّحِيحةِ مِن سائِرِ الكَلامِ والمَوضُوعاتِ.
وهكذا تَرَى أنَّ الأَحادِيثَ والمُعجِزاتِ الَّتي سنَبْحَثُ عَنْها قدِ انتَقَلَت إلَيْنا سَلِيمةً صَحِيحةً بَعدَ أن تَسَلَّمَها ما لا يُعَدُّ ولا يُحصَى مِنَ الأَيدِي الأَمِينةِ، “فالحَمْدُ للهِ، هذا مِن فَضْلِ رَبِّي”.
وعلَيْه فلا يَنبَغِي أن يَخطُرَ بالبالِ: كَيفَ نَعرِفُ أنَّ هذه الحَوادِثَ الَّتي حَدَثَتْ مُنذُ مُدّةٍ سَحِيقةٍ قد ظَلَّتْ مَصُونةً سالِمةً مِن يَدِ العَبَثِ؟
[ستة عشر مثالًا لمعجزات تكثير الطعام]
أَمثِلةٌ حَوْلَ مُعجِزاتِ بَرَكةِ الطَّعامِ:
المِثالُ الأوَّلُ: اتَّفَقَتِ الصِّحاحُ السِّتّةُ، وفي مُقَدِّمَتِها صَحِيحا البُخارِيِّ ومُسلِمٍ في حَدِيثِ أَنَس رَضِيَ الله عَنهُ قال: “كانَ النَّبِيُّ ﷺ عَرُوسًا بزَيْنَبَ، فعَمَدَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ إلى تَمْرٍ وسَمْنٍ وأَقِطٍ، فصَنَعَتْ حَيْسًا فجَعَلَتْه في تَوْرٍ، فقالَت: يا أَنَسُ، اذْهَبْ بهذا إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فقُلْ: بَعَثَتْ بهذا إلَيْكَ أُمِّي، وهِي تُقْرِئُك السَّلامَ، وتقُولُ: إنَّ هذا لك مِنّا قَلِيلٌ يا رَسُولَ اللهِ. فذَهَبْتُ فقُلتُ، فقالَ: “ضَعْهُ”، ثمَّ قالَ: “اذْهَبْ فادْعُ لي فُلانًا” وفُلانًا وفُلانًا رِجالًا سَمّاهُم، “وادْعُ مَن لَقِيتَ”، فدَعَوْتُ مَن سَمَّى ومَن لَقِيتُ، فرَجَعْتُ فإذا البَيْتُ غاصٌّ بأَهْلِه. قِيلَ لِأَنَسٍ: عَدَدُكُم كم كانَ؟ قال: زُهاءَ ثَلاثِ مِئةٍ.
فرَأَيتُ النَّبِيَّ ﷺ وَضَع يَدَه على تلك الحَيْسةِ، وتَكَلَّم بما شاءَ اللهُ، ثمَّ جَعَل يَدْعُو عَشَرةً عَشَرةً يَأْكُلُون مِنه، ويقُولُ لَهُم: “اذْكُرُوا اسمَ اللهِ، ولْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمّا يَلِيه”، قال: فأَكَلُوا حتَّى شَبِعُوا، فخَرَجَتْ طائِفةٌ، ودَخَلَتْ طائِفةٌ، حتَّى أَكَلُوا كُلُّهُم، قال لي: “يا أَنَسُ، ارْفَعْ”، فرَفَعْتُ، فما أَدرِي حِينَ وَضَعْتُ كانَ أَكثَرَ أم حِينَ رَفَعْتُ”.
المِثالُ الثَّاني: نَزَل النَّبِيُّ ﷺ ضَيْفًا عِندَ أبي أَيُّوبَ الأَنصارِيِّ، فذاتَ يَومٍ “صَنَعَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ ولِأَبي بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنهُ مِنَ الطَّعامِ زُهاءَ ما يَكْفِيهِما. فقالَ لَه النَّبِيُّ ﷺ: اُدْعُ ثَلاثِينَ مِن أَشرافِ الأَنصارِ. فدَعاهُم فأَكَلُوا حتَّى تَرَكُوا. ثمَّ قال: اُدْعُ سِتِّينَ، فكان مِثلُ ذلك، ثمَّ قال: اُدْعُ سَبعِينَ. فأَكَلُوا حتَّى تَرَكُوا، وما خَرَج مِنهُم أَحَدٌ حتَّى أَسلَمَ وبايَعَ، قال أَبُو أَيُّوبَ: فأَكَل مِن طَعامي مِئةٌ وثَمانُونَ رَجُلًا”.
المِثالُ الثَّالِثُ: “حَدِيثُ سَلَمةَ بنِ الأَكْوَعِ، وأَبِي هُرَيرةَ، وعُمَرَ بنِ الخَطّابِ وأَبِي عَمْرةَ الأَنصارِيِّ رَضِيَ الله عَنهُم، فذَكَرُوا مَخْمَصةً أَصابَتِ النّاسَ معَ النَّبِيِّ ﷺ في بَعضِ مَغازِيه، فدَعا ببَقِيّةِ الأَزْوادِ، فجاءَ الرَّجُلُ بالحَثْية مِنَ الطَّعامِ، وفَوقَ ذلك، وأَعلاهُمُ الَّذي أَتَى بالصّاعِ مِنَ التَّمرِ، فجَمَعَه على نِطْعٍ. قال سَلَمةُ: فحَزَرْتُه، كَرَبْضةِ العَنْزِ، ثمَّ دَعا النّاسَ بأَوْعِيَتِهِم، فما بَقِيَ في الجَيْشِ وِعاءٌ إلّا مَلَؤُوه، وبَقِيَ مِنه قَدْرُ ما جُعِلَ وأَكثَرُ، (وفي رِوايةٍ): ولو وَرَدَه أَهلُ الأَرضِ لَكَفاهُم”.
المِثالُ الرَّابعُ: ثَبَت في الصِّحاحِ وفي مُقَدِّمَتِها البُخارِيُّ ومُسلِمٌ أنَّ عَبدَ الرَّحمَنِ ابنَ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قال: “كُنّا معَ النَّبِيِّ ﷺ ثَلاثِينَ ومِئةً” في غَزاةٍ، “وذَكَر في الحَدِيثِ أنَّه عُجِنَ صاعٌ مِن طَعامٍ، وصُنِعَت شاةٌ فشُوِيَ سَوادُ بَطْنِها، قال: وايْمُ اللهِ ما مِنَ الثَّلاثِينَ ومِئةٍ إلّا وقد حَزَّ لَهُ حَزّةً مِن سَوادِ بَطْنِها، ثمَّ جَعَل مِنها قَصْعَتَينِ، فأَكَلْنا أَجمَعُون، وفَضَل في القَصْعَتَينِ، فحَمَلْتُه على البَعِيرِ”.
المِثالُ الخَامِسُ: ثَبَت في الصِّحاحِ أَيضًا: “حَدِيثُ جابِرٍ في إِطعامِه ﷺ يَومَ الخَندَقِ أَلفَ رَجُلٍ مِن صاعِ شَعِيرٍ وعَناقٍ، وقال جابِرٌ: فأُقْسِمُ باللهِ لَأَكَلُوا حتَّى تَرَكُوه وانحَرَفُوا، وإنَّ بُرْمَتَنا لَتَغِطُّ كما هي، وإنَّ عَجِينَنا لَيُخْبَزُ”، وكان الرَّسُولُ الأَكرَمُ ﷺ قد وَضَع في ذلك العَجِينِ والقِدْرِ مِن ماءِ فِيهِ المُبارَكِ، فيُعلِنُ جابِرٌ مُقْسِمًا باللهِ مُعجِزةَ البَرَكةِ هذه في حُضُورِ أَلفٍ مِنَ الصَّحابةِ، مُظهِرًا عَلاقَتَهُم بِها. فهَذِه الرِّوايةُ قَطْعِيّةٌ كأنَّ أَلْفَ رَجُلٍ قد رَواها.
المِثالُ السَّادِسُ: وثَبَت في الصِّحاحِ أنَّ أبا طَلْحةَ عَمَّ خادِمِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَسٍ رَضِيَ الله عَنهُ يقُولُ: “إنَّ الرَّسُولَ الأَكرَمَ ﷺ أَطْعَمَ مِمّا أَتَى به أَنَسٌ تَحتَ إِبْطِه مِن قَلِيلِ خُبْزِ شَعِيرٍ زُهاءَ ثَمانِينَ رَجُلًا حتَّى شَبِعُوا. وكانَ ﷺ أَمَر بأن يُجْعَلَ ذلك الخُبْزُ إِرَبًا إِرَبًا، ودَعَا بالبَرَكةِ، وأنَّ البَيْتَ ضاقَ بهم فكانُوا يَأْكُلُون عَشَرةً عَشَرةً، ورَجَعُوا كُلُّهُم شِباعًا”.
المِثالُ السَّابعُ: ثَبَت في صَحِيح مُسلِمٍ والشِّفا وغَيرِهِما: أنَّ جابِرًا الأَنصارِيَّ يَقُولُ: “إنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ يَستَطْعِمُه، فأَطْعَمَه شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ، فما زالَ يَأْكُلُ مِنه هُو وامْرَأَتُه وضَيْفُه حتَّى كالَه” لِيَعْرِفُوا ما نَقَصَ مِنه، فرَأَوْا أنَّه زالَت مِنه البَرَكةُ، وصارَ يَنقُصُ شَيْئًا فشَيْئًا، فأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فأَخْبَرَه فقالَ ﷺ: “لَو لَم تَكِلْهُ لَأَكَلْتُم مِنه ولَقَامَ بِكُم”.
المِثالُ الثَّامِنُ: تُبيِّنُ الصِّحاحُ كالتَّرمِذِيِّ والنَّسائيِّ والبَيهَقِيِّ وكِتابِ الشِّفا “عن سَمُرةَ بنِ جُندُبٍ: أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بقَصْعةٍ فيها لَحْمٌ، فتَعاقَبُوها مِن غَدْوةٍ حتَّى اللَّيلِ يَقُومُ قَوْمٌ ويَقْعُدُ آخَرُونَ”.
وبِناءً على ما ذَكَرْناه في المُقَدِّمةِ، هذه الواقِعةُ الوارِدةُ في البَرَكةِ لَيسَت رِوايةَ سَمُرةَ فَقَطْ، بل كأَنَّه مُمَثِّلٌ عن تِلك الجَماعاتِ الَّتي أَكَلَتْ مِن ذلك الطَّعامِ، فيُعلِنُ هذه الرِّوايةَ بَدَلًا مِنهُم.
المِثالُ التَّاسِعُ: يَروِي رِجالٌ ثِقاتٌ كَصاحِبِ الشِّفا وابنِ أَبي شَيْبةَ والطَّبَرانِيِّ بسَنَدٍ جَيِّدٍ وعُلَماءُ مُحَقِّقُونَ: “عن أبي هُرَيْرةَ: أَمَرَني النَّبِيُّ ﷺ أن أَدْعُوَ لَه أَهْلَ الصُفَّةِ” وهُم فُقَراءُ المُهاجِرِينَ الَّذِينَ كان يَنُوفُ عَدَدُهُم على مِئةٍ. والَّذِين كانُوا قدِ اتَّخَذُوا الصُّفّةَ في المَسْجِدِ مَأْوًى لَهُم “فتَتَبَّعتُهُم حتَّى جَمَعْتُهُم، فوُضِعَت بَينَ أَيدِينا صَحْفَةٌ، فأَكَلْنا ما شِئْنا، وفَرَغْنا، وهي مِثلُها حِينَ وُضِعَت، إلَّا أنَّ فيها أَثَرَ الأَصابِعِ”.
فأَبُو هُرَيْرةَ يُدْلِي بهَذا الخَبَرِ بِاسمِ أَصحابِ الصُّفّةِ مُستَنِدًا إلى تَصْدِيقِهم. فهِي رِوايةٌ قَطْعِيّةٌ إِذًا، وكأَنَّ جَمِيعَ أَهلِ الصُّفّةِ رَوَوْها. فهَل يُمكِنُ أن يَكُونَ هذا الخَبَرُ خِلافَ الحَقِّ والصَّوابِ، ثمَّ لا يُنكِرَ علَيْه أُولَئِك الصَّادِقُونَ الكامِلُونَ ولا يَرُدُّونَه؟!
المِثالُ العاشِرُ: ثَبَتَ برِوايةٍ صَحِيحةٍ أنَّ الإِمامَ عَلِيًّا رَضِيَ الله عَنهُ قال: “جَمَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمًا بَنِي عَبدِ المُطَّلِبِ وكانُوا أَربَعِينَ، مِنهُم قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الجَذَعةَ ويَشرَبُونَ الفَرَقَ” أي: مِنهُم مَن يَأْكُلُ فَرْعَ الجَمَلِ ويَشْرَبُ أَربَعَ أُوقِيّاتٍ مِنَ الحَلِيبِ “فصَنَع لَهُم مُدًّا مِن طَعامٍ، فأَكَلُوا حتَّى شَبِعُوا وبَقِيَ كما هُو، ثمَّ دَعا بِعُسٍّ” أي: إِناءٍ مِن خَشَبٍ حَلِيبًا يَكْفِي لِثَلاثةٍ أو أَربَعةٍ “فشَرِبُوا حتَّى رَوُوا. وبَقِيَ كأَنَّه لم يُشْرَبْ”.
فهذا مِثالٌ واحِدٌ لِمُعجِزةِ بَرَكةِ الطَّعامِ وهُو بقَطْعِيّةِ شَجاعةِ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ وصِدْقِه.
المِثالُ الحادِيَ عَشَرَ: ثَبَت برِوايةٍ صَحِيحةٍ “في تَزوِيجِ النَّبِيِّ ﷺ فاطِمةَ لِعَلِيٍّ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَر بِلالًا بقَصْعةٍ مِن أَربَعةِ أَمْدادٍ أو خَمْسةٍ ويَذبَحَ جَزُورًا لِوَليمَتِها. قال: فأَتَيتُه بذَلِك فطَعَن في رَأْسِها، ثمَّ أَدخَلَ النّاسَ دُفْعةً دُفْعةً يَأْكُلُونَ مِنها، حتَّى فَرَغُوا، وبَقِيَت مِنها فَضْلةٌ، فبَرَّكَ فيها وأَمَر بحَمْلِها إلى أَزْواجِه، وقال: “كُلْنَ وأَطْعِمْنَ مَن غَشِيَكُنَّ”. حقًّا! إنَّ مِثلَ هذا الزَّواجِ المَيمُونِ لَحَرِيٌّ بمِثْلِ هَذِه المُعجِزةِ في البَرَكةِ.
المِثالُ الثَّانِيَ عَشَرَ: رَوَى جَعْفَرٌ الصّادِقُ، عن أَبِيه مُحَمَّدٍ الباقِرِ، عن أَبِيه زَينِ العابِدِينَ، عن عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ: “أنَّ فاطِمةَ طَبَخَتْ قِدْرًا لِغَدائِهِما، ووَجَّهَت عَلِيًّا إلى النَّبِيِّ ﷺ لِيَتَغَدَّى مَعَهُما، فأَمَرَها فغَرَفَت مِنها لِجَمِيعِ نِسائِه صَحْفةً صَحْفةً، ثمَّ له ﷺ ولِعَلِيٍّ ثمَّ لَها، ثمَّ رَفَعَتِ القِدْرَ وإنَّها لَتَفِيضُ، قالَت: فأَكَلْنا مِنها ما شاءَ اللهُ”.
فعَجَبًا مِن أَمرِكَ أَيُّها الإِنسانُ! لِمَ لا تُصَدِّقُ بهذه المُعجِزةِ الباهِرةِ تَصْدِيقَ شُهُودٍ بَعدَما سَمِعَتَ أنَّ رُواتَها مِنَ السِّلسِلةِ الطِّاهِرةِ، حتَّى الشَّيطانُ نَفسُه لا يَجِدُ سَبِيلًا لِإِنكارِها!
المِثالُ الثَّالِثَ عَشَرَ: رَوَى الأَئِمّةُ أَمثالَ أبي داوُدَ وأَحمَدَ بنِ حَنْبَلٍ والبَيهَقِيِّ عن دُكَيْنٍ الأَحمَسِيِّ بنِ سَعِيدٍ المُزَينِ، وعنِ الصَّحابيِّ الَّذي تَشَرَّف هو وإِخوَتُه السِّتّةُ بصُحْبةِ النَّبِيِّ ﷺ وهُو النُّعْمانُ بنُ مُقَرِّنٍ الأَحمَسِيُّ المُزَينُ، ومِن رِوايةِ جَرِيرٍ ومِن طُرُقٍ مُتَعدِّدةٍ: أنَّ الرَّسُولَ الأَكرَمَ ﷺ: “أَمَر عُمَرَ بنَ الخَطّابِ أن يُزَوِّدَ أَربَعَ مِئةِ راكِبٍ مِن أَحمَسَ. فقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، ما هِيَ إلّا أَصْوُعٌ! قال: اذْهَبْ، فذَهَبَ فزَوَّدَهُم مِنه. وكان قَدْرَ الفَصِيلِ الرَّابِضِ مِنَ التَّمْرِ، وبَقِيَ بحالِه”.
هكذا وَقَعَت مُعجِزةُ البَرَكةِ هذه، وهي تَتَعلَّقُ بأَربَعِ مِئةِ رَجُلٍ، لا سِيَّما بعُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُ، فهَؤُلاءِ جَمِيعًا كأنَّهُم هُمُ الرُّواةُ، لِأَنَّ سُكُوتَهُم حَتْمًا تَصدِيقٌ لِلرِّوايةِ، فلا تَقُلْ: إنَّها خَبَرُ آحادٍ. ثمَّ تَمضِي إلى شَأْنِك، فأَمثالُ هذه الحَوادِثِ وإن كانَت خَبَرَ آحادٍ، إلّا أنَّها تُورِثُ الطُّمَأْنِينةَ في القَلبِ لِأَنَّها بمَثابةِ التَّواتُرِ المَعنَوِيِّ.
المِثالُ الرَّابِعَ عَشَرَ: ثَبَتَ في الصِّحاحِ وفي مُقَدِّمَتِها البُخارِيُّ ومُسلِمٌ حَدِيثُ جابرٍ رَضِيَ الله عَنهُ “في دَينِ أَبِيه، وقد كانَ بَذَل لِغُرَماءِ أَبِيه أَصْلَ مالِهِ لِيَقْبَلُوه ولم يَكُن في ثَمَرِها سنَتَينِ كَفافُ دَينِهِم، فجاءَهُ النَّبِيُّ ﷺ بعدَ أن أَمَرَه بجَدِّها -أي: قَطْعِها- وجَعْلِها بَيادِرَ في أُصُولِها، فمَشَى فيها ودَعَا، فأَوْفَى مِنه جابِرٌ غُرَماءَ أَبِيه، وفَضَلَ مِثلُ ما كانُوا يَجِدُّونَ كُلَّ سَنةٍ، وفي رِوايةٍ: مِثلُ ما أَعطاهُم، قال: وكان الغُرَماءُ يَهُودَ، فعَجِبُوا مِن ذلك”.
وهكذا، فهَذِه المُعجِزةُ الباهِرةُ في بَرَكةِ الطَّعامِ لَيسَت برِوايةٍ يَروِيها جابِرٌ وأَشْخاصٌ مَعدُودُونَ فَقَطْ، وإنَّما هِي مُتَواتِرةٌ مِن حَيثُ المَعنَى يَرْوِيها جَمِيعُ هَؤُلاءِ الرُّواةِ مُمَثِّلينَ لِكُلِّ مَن تَتَعلَّقُ به هذه الرِّوايةُ.
المِثالُ الخامِسَ عَشَرَ: يَروِي العُلَماءُ المُحَقِّقُونَ رِوايةً صَحِيحةً، وفي مُقَدِّمَتِهِمُ الإِمامُ التِّرمِذِيُّ والبَيهَقِيُّ، عن أبي هُرَيْرةَ رَضِيَ الله عَنهُ أنه قالَ: أَصابَ النَّاسَ مَخْمَصةٌ في إِحدَى الغَزَواتِ -وفي رِوايةٍ: في غَزْوةِ تَبُوكَ- “فقالَ لي رَسُولُ اللهِ ﷺ: هل مِن شَيْءٍ؟ قُلتُ: نَعَم، شَيْءٌ مِنَ التَّمْرِ في المِزْوَدِ”، وفي رِوايةٍ: خَمْسَ عَشْرةَ تَمْرةً، “قال: فائْتِنِي به، فأَدْخَلَ يَدَه فأَخْرَجَ قَبْضةً فبَسَطَها ودَعا بالبَرَكةِ. ثمَّ قال: اُدْعُ عَشَرةً، فأَكَلُوا حتَّى شَبِعُوا، ثمَّ عَشَرةً كذلك، حتَّى أَطعَمَ الجَيْشَ كُلَّهُم وشَبِعُوا، قال: خُذْ ما جِئْتَ به وأَدْخِلْ يَدَك واقْبِضْ مِنه ولا تَكُبَّه، فقَبَضْتُ على أَكثَرَ مِمّا جِئتُ به، فأَكَلْتُ مِنه وأَطْعَمْتُ حَياةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وحَياةَ أَبي بَكْرٍ وعُمَرَ إلى أن قُتِلَ عُثْمانُ، فانْتُهِبَ مِنِّي فذَهَبَ. وفي رِوايةٍ: فقد حَمَلْتُ مِن ذلك التَّمْرِ كذا وكذا مِن وَسْقٍ في سَبِيلِ اللهِ”.
وهكذا، فإنَّ مُعجِزةَ البَرَكةِ الَّتي يَرْوِيها أَبُو هُرَيْرةَ، وهُو الَّذي تَتَلْمَذَ على مُعَلِّمِ الكَوْنِ وسَيِّدِه مُحَمَّدٍ ﷺ، ولَازَمَ مَدْرَسةَ الصُّفّةِ وبَزَّ فيها بالحِفْظِ بدُعاءِ النِّبِيِّ له، فهَذا الصَّحابيُّ الجَلِيلُ يَرْوِي هذِه الرِّوايةَ في مَجْمَعٍ مِنَ النّاسِ -كغَزْوةِ تَبُوكَ- فلا بُدَّ أن تكُونَ هذه الرِّوايةُ مُتَواتِرةً مِن حَيثُ المَعنَى، وقَوِيّةً مَتِينةً بقُوّةِ الجَيشِ كُلِّه، أي: كما لو كانَ الجَيْشُ كُلُّه يَرْوِيها.
المِثالُ السَّادِسَ عَشَرَ: ثَبَت في صَحِيحِ البُخارِيِّ والصِّحاحِ الأُخرَى أنَّ الجُوعَ أَصابَ أبا هُرَيْرةَ، “فاسْتَتَبعَه النَّبِيُّ ﷺ، فوَجَد لَبَنًا في قَدَحٍ أُهْدِيَ إلَيْه، وأَمَرَه أن يَدْعُوَ أَهلَ الصُّفّةِ. قال: فقُلتُ: ما هذا اللَّبَنُ فيهِم؟! كُنتُ أَحَقَّ أن أُصِيبَ مِنه شَرْبةً أَتَقوَّى بها! فدَعَوتُهُم”، وكانُوا يَنُوفُون على المِئةِ، فأَمَر ﷺ أن أَسقِيَهُم، “فجَعَلْتُ أُعْطِي الرَّجُلَ فيَشْرَبُ حتَّى يَرْوَى. ثمَّ يَأْخُذُه الآخَرُ حتَّى رَوِيَ جَمِيعُهُم، قال: فأَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ القَدَحَ وقال: بَقِيتُ أنا وأَنتَ، اُقعُدْ فاشْرَبْ. فشَرِبتُ، ثمَّ قال: اشْرَبْ. وما زالَ يَقُولُها وأَشْرَبُ حتَّى قُلتُ: لا، والَّذي بَعَثَك بالحَقِّ ما أَجِدُ لَه مَسْلَكًا. فأَخَذَ القَدَحَ وحَمِدَ اللهَ وسَمَّى وشَرِبَ الفَضْلةَ”. فهَنِيئًا لَك مِئةَ أَلفِ مَرّةٍ يا رَسُولَ اللهِ!
فهَذِه المُعجِزةُ السَّلِيمةُ مِن شَوائِبِ الشَّكِّ والخالِصةُ اللَّطِيفةُ كاللَّبَنِ قد رَوَتْها كُتُبُ الصِّحاحِ، وفي مُقَدِّمَتِها صَحِيحُ الإمامِ البُخارِيِّ الَّذي كانَ حافِظًا لِخَمسِ مِئةِ أَلفِ حَدِيثٍ.
فهِيَ إِذًا رِوايةٌ لا رَيْبَ فيها قَطُّ، وصادِقةٌ وثابِتةٌ كأنَّها مَشهُودةٌ رَأْيَ العَيْنِ، مِثلَما رَواها تِلمِيذُ المَدْرَسةِ الأَحمَدِيّةِ المُقَدَّسةِ، مَدْرَسةِ الصُّفّةِ، ذلك التِّلمِيذُ المَوثُوقُ الحافِظُ أَبُو هُرَيْرةَ، رَواها بِاسمِ أَصحابِ الصُّفّةِ جَمِيعِهِم، وأَشْهَدَهُم علَيْها مَعنًى.
فالَّذي لا يَتَلَقَّى هذا الخَبَرَ تَلَقِّيًا كأَنَّه يُشاهِدُه، فهُو إمَّا فاسِدُ القَلْبِ أو فاقِدُ العَقْلِ.
تُرَى هَل مِنَ المُمْكِنِ أنَّ صَحابِيًّا جَلِيلًا مِثلَ أبي هُرَيْرةَ الصّادِقِ الَّذي بَذَل حَياتَه في حِفْظِ الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، أن يَحُطَّ مِن قِيمةِ ما حَفِظَه مِنَ الأَحادِيثِ النَّبَوِيّةِ، فيُورِدَ ما يُثِيرُ الشَّكَّ والشُّبْهةَ ويَقُولَ ما يُخالِفُ الحَقَّ والواقِعَ، وهُو الَّذي سَمِعَ ونَقَل قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ: “مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فلْيَتَبوَّأْ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ”؟ حاشاه مِن ذلِكَ.
فيا ربِّ بِحُرْمةِ بَرَكةِ هَذا الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ، هَبْ لَنا البَرَكةَ فيما مَنَحْتَنا مِن أَرزاقٍ مادِّيّةٍ ومَعنَوِيّةٍ.
[نكتة في أن ضعيف الأخبار يتقوى بقويِّها]
نُكتةٌ مُهِمّة
بَدِيهيٌّ أنَّه كُلَّما اجتَمَعَت أَشْياءُ واهِيةٌ ضَعِيفةٌ تَقَوَّت، وإذا أُبرِمَتْ خُيُوطٌ رَفِيعةٌ واتَّحَدَت صارَت عُرْوةً وُثْقَى لا تَنفَصِمُ. وقد أَوْرَدْنا هُنا سِتّةَ عَشَرَ مِثالًا لِقِسْمٍ مِن خَمْسةَ عَشَرَ قِسْمًا مِن نَوْعِ مُعجِزةِ البَرَكةِ الَّتي تُمَثِّلُ نَوْعًا مِن خَمْسةَ عَشَرَ نَوْعًا مِن أَنواعِ المُعجِزاتِ، وكلُّ مِثالٍ أَوْرَدْناه قَوِيٌّ في حَدِّ ذاتِه وكافٍ وَحْدَه لِإِثباتِ النُّـبُوّةِ؛ ولو فَرَضْنا -فَرْضًا مُحالًا- بأنَّ بَعْضًا مِنها ضَعِيفٌ غَيرُ قَوِيٍّ في ذاتِه، فلا يَجُوزُ الحُكْمُ علَيْه بأنَّ المِثالَ لا يَقْوَى دَلِيلًا على المُعْجِزةِ، لِأَنَّه يَتَقوَّى باتِّفاقِه معَ القَوِيِّ.
ثمَّ إنَّ اجتِماعَ هذه الأَمثِلةِ السِّتَّ عَشْرةَ الَّتي هِي في دَرَجةِ التَّواتُرِ المَعنَوِيِّ يَدُلُّ على مُعجِزةٍ كُبْرَى قَوِيّةٍ، ولو مُزِجَت هذه المُعجِزةُ معَ سائِرِ الأَقسامِ الأَربَعةَ عَشَرَ مِن مُعجِزاتِه ﷺ حَوْلَ البَرَكةِ الَّتي لم تُذْكَرْ هُنا، لَغَدَت مُعجِزةً هائِلةً كالحِبالِ المُتَّحِدةِ الَّتي لا انفِصامَ لَها؛ ثمَّ إنَّك لو أَضَفْتَ هذه المُعجِزةَ الهائِلةَ القَوِيّةَ إلى سائِرِ أَنواعِ المُعجِزاتِ الأَربَعَ عَشْرةَ، لَرَأَيتَ بُرهانًا قَوِيًّا لا يَتَزَلْزَلُ، بُرهانًا باهِرًا على النُّبُوّةِ الصَّادِقةِ.
وهكذا، فعِمادُ النُّبُوّةِ الأَحمَدِيّةِ عِمادٌ كالطَّوْدِ الأَشَمِّ، تَتَشكَّلُ مِن مَجْمُوعةِ هذه المُعجِزاتِ.
ولا شَكَّ أنَّك أَدْرَكْتَ الآنَ مَدَى سَخافةِ وبَلاهةِ مَن يَرَى هذا البِناءَ الشَّامِخَ العامِرَ لِلنُّبوّةِ، ثمَّ يَظُنُّ أنَّه يَهْوِي بِشُبُهاتٍ واهِيةٍ تَرِدُ إلى ظَنِّه مِن جُزئِيّاتِ الأَمثِلةِ.
[وجهُ وقوع معجزات في تكثير الطعام]
نعم، إنَّ تلك المُعجِزاتِ الَّتي تَخُصُّ البَرَكةَ في الطَّعامِ تَدُلُّ دَلالةً قاطِعةً على نُبُوّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وأنَّه مَأْمُورٌ مَحْبُوبٌ لَدَى ذلك الرَّحِيمِ الكَرِيمِ الَّذي يَمنَحُ الرِّزْقَ ويَخلُقُه. وهُو عَبدٌ كَرِيمٌ لَدَيه بحَيثُ يَبعَثُ له مُستَضافاتٍ مَمْلُوءةً بأَنواعٍ مِنَ الرِّزقِ -خِلافًا للمُعتادِ- مِنَ العَدَمِ، ومِن خَزائِنِ الغَيبِ الَّتي لا تَنفَدُ.
ومَعلُومٌ أنَّ الجَزِيرةَ العَرَبِيّةَ شَحِيحةٌ بالماءِ والزِّراعةِ بحَيثُ إنَّ أَهاليَها كانُوا -لا سِيَّما في صَدْرِ الإِسلامِ- في ضِيقٍ مِنَ المَعِيشةِ وشِدّةٍ مِنها وشُحٍّ مِنَ الماءِ والتَّعَرُّضِ لِلعَطَشِ، فبِناءً على هذِه الحِكْمةِ ظَهَرَتْ أَهَمُّ المُعجِزاتِ الأَحمَدِيّةِ الباهِرةِ ظُهُورًا في الطَّعامِ والماءِ. فهذِه المُعجِزاتُ إنَّما هي بمَثابةِ إِكرامٍ رَبّانِيٍّ، وإِحسانٍ إلٰهِيٍّ، وضِيافةٍ رَحْمانيّةٍ لِلرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ، يُكْرِمُه حَسَبَ الحاجةِ، فهِيَ إِكرامٌ أَكثَرَ مِن أن تَكُونَ دَلِيلًا على النُّبُوّةِ، لِأَنَّ الَّذين رَأَوْا هذه المُعجِزاتِ كانُوا مُؤْمِنِينَ إِيمانًا قَوِيًّا بالنُّبُوّةِ؛ إلَّا أنَّ المُعجِزةَ كُلَّما ظَهَرَت يَتَزايَدُ الإِيمانُ ويَتَقوَّى، وهكَذا تَزِيدُهُم هذه المُعجِزاتُ نُورًا على نُورِ إِيمانِهِم.
[الإشارة الثامنة: معجزات تتعلق بالماء]
الإشارةُ الثامنة: تُبيِّنُ قِسْمًا مِنَ المُعجِزاتِ الَّتي تَتَعلَّقُ بالماءِ:
[مقدمة: الحوادث التي تقع بين الناس إذا نُقلت بطريق الآحاد ولم تُكذَّب فهي صادقة]
المُقدِّمةُ: إنَّ الحَوادِثَ الَّتي تَقَعُ بينَ أَظهُرِ النَّاسِ، إذا ما نُقِلَت بطَرِيقِ الآحادِ ولم تُكَذَّبْ، فهِيَ دَلالةٌ على صِدْقِ وُقُوعِها، لِأَنَّ فِطْرةَ الإِنسانِ مَجبُولةٌ على أن يَفْضَحَ الكَذِبَ ويَرْفُضَه، ولا سِيَّما أُولَئِك الَّذين لا يَسكُتُون على الكَذِبِ، وهُمُ الصَّحْبُ الكِرامُ، وبخاصَّةٍ إذا كانَتِ الأَحداثُ تَتَعلَّقُ بالرَّسُولِ الأَكرَمِ ﷺ، وبالأَخَصِّ أنَّ الرُّواةَ هُم مِن مَشاهِيرِ الصَّحابةِ؛ فيَكُونُ راوِي ذلك الخَبَرِ الواحِدِ حِينَذاك كأنَّه مُمَثِّلٌ لِتِلك الجَماعةِ الَّتي شاهَدَتْه شُهُودَ عِيانٍ؛ عِلْمًا أنَّ كُلَّ مِثالٍ مِن أَمثِلةِ المُعجِزاتِ المُتَعَلِّقةِ بالماءِ الَّتي سنَتَحَدَّثُ عَنْها قد رُوِي بطُرُقٍ مُتَعدِّدةٍ، عن كَثِيرٍ مِنَ الصَّحابةِ الكِرامِ وتَناوَلَه أَئِمّةُ التّابِعِينَ وعُلَماؤُهُم بالحِفْظِ، وسَلَّمُوا كُلَّ رِوايةٍ مِنها بأَمانةٍ بالِغةٍ إلى الَّذِين يَأْتُون مِن بَعدِهِم في العُصُورِ الأُخرَى؛ فتَلَقّاه العَصْرُ الَّذي بَعدَهُم بجِدٍّ وأَمانةٍ ونَقَلُوه بِدَوْرِهِم إلى عُلَماءِ العَصْرِ التّالي، وهكَذا تَعاقَبَت علَيْه أُلُوفُ العُلَماءِ الأَجِلّاءِ في كُلِّ عَصْرٍ وكُلِّ طَبَقةٍ، حتَّى وَصَل إلى يَوْمِنا هذا.
فَضْلًا عن أنَّ كُتُبًا لِلأَحادِيثِ قد دُوِّنَت في عَصْرِ النُّبُوّةِ وسُلِّمَت مِن يَدٍ إلى يَدٍ حتَّى وَصَلَتْ إلى أَيدِي أَئِمّةِ الحَدِيثِ مِن أَمثالِ البُخارِيِّ ومُسلِمٍ، فَوَعَوْها وَعْيًا كامِلًا، ومَيَّزُوا هذه الرِّواياتِ حَسَبَ مَراتِبِها، وقامُوا بجَمْعِ كُلِّ ما هُو صَحِيحٌ خالٍ مِن شائِبةِ الشُّبْهةِ في صِحاحِهِم، فأَرْشَدُونا إلى الصَّوابِ.. جَزاهُمُ اللهُ خَيْرًا كَثِيرًا.
مِثالٌ: إنَّ فَوَرانَ الماءِ مِن أَصابِعِ الرَّسُولِ ﷺ، وسَقْيَه كَثِيرًا مِنَ النّاسِ، حادِثٌ مُتَواتِرٌ، نَقَلَتْه جَماعةٌ غَفِيرةٌ لا يُمكِنُ تَواطُؤُهُم على الكَذِبِ، بل مُحالٌ كَذِبُهُم؛ فهذه المُعجِزةُ إِذًا ثابِتةٌ قَطْعًا، فَضْلًا عن أَنَّها قد تَكَرَّرَت ثَلاثَ مَرّاتٍ أَمامَ ثَلاثِ جَماعاتٍ عَظِيمةٍ.
فقد رَوَتِ الحادِثةَ برِوايةٍ صَحِيحةٍ جَماعةٌ مِن مَشاهِيرِ الصَّحابةِ، وفي مُقَدِّمَتِهِم أَنَسٌ “خادِمُ الرَّسُولِ ﷺ”، وجابِرٌ وابنُ مَسعُودٍ، ونَقَلَها إلَيْنا -بسِلسِلةٍ مِنَ الطُّرُقِ- أَئِمّةُ الحَدِيثِ أَمثالَ: البُخارِيِّ ومُسلِمٍ والإِمامِ مالِكٍ وابنِ شُعَيْبٍ وقَتادةَ رِضوانُ اللهِ تَعالَى علَيْهِم أَجمَعِينَ.
[تسعة أمثلة على المعجزات المتعلقة بالماء]
وسنَذْكُرُ تِسْعةَ أَمثِلةٍ فحَسْبُ مِنَ المُعجِزاتِ المُتَعلِّقةِ بالماءِ.
المِثالُ الأوَّلُ: ثَبَت في صَحِيحَيِ البُخارِيِّ ومُسلِمٍ وغَيرِهِما: عن أَنَسِ بنِ مالِكٍ قال: “رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وحانَت صَلاةُ العَصْرِ، فالْتَمَسَ النَّاسُ الوَضُوءَ فلم يَجِدُوه”، “قال: أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بإِناءٍ وهُو بالزَّوْراءِ، فوَضَع يَدَه في الإِناءِ، فجَعَلَ الماءُ يَنبَعُ مِن بَينِ أَصابِعِه، فتَوَضَّأَ القَوْمُ. قال قَتادةُ: قُلتُ لِأَنَسٍ: كم كُنتُم؟ قالَ: ثَلاثَ مِئةٍ، أو زُهاءَ ثَلاثِ مِئةٍ”.
فأَنتَ تَرَى أنَّ أَنَسًا رَضِيَ الله عَنهُ يُخبِرُ عن هذِه الحادِثةِ بوَصْفِه مُمَثِّلًا عن ثَلاثِ مِئةٍ رَجُلٍ، فهل يُمكِنُ ألّا يَشتَرِكَ أُولَئِك الثَّلاثُ مِئةِ في هذا الخَبَرِ مَعْنًى؟ وهل يُمكِنُ ألّا يُكَذِّبُوه -حاشاه- إن لم تَكُن هذه الحادِثةُ قد حَدَثَت فِعْلًا؟
المِثالُ الثّاني: ثَبَت في الصِّحاحِ وفي مُقَدِّمَتِها البُخارِيُّ ومُسلِمٌ: “عن سالِمِ بنِ أبي الجَعْدِ، عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ الأَنصارِيِّ رَضِيَ الله عَنهُما قالَ: عَطِشَ النّاسُ يَومَ الحُدَيْبِيَةِ والنَّبِيُّ ﷺ بَينَ يَدَيْه رِكْوةٌ، فتَوَضَّأَ، فجَهَشَ النّاسُ نَحْوَه، فقالَ: ما لَكُم؟ قالُوا: لَيسَ عِندَنا ماءٌ نَتَوضَّأُ ولا نَشْرَبُ، إلّا ما بَينَ يَدَيك. قال جابِرٌ: فوَضَع النَّبِيُّ ﷺ يَدَه في الرِّكْوةِ، فجَعَل الماءُ يَثُورُ مِن بَينِ أَصابِعِه كأَمثالِ العُيُونِ، فشَرِبْنا وتَوَضَّأْنا. قال سالِمٌ: قُلتُ لِجابِرٍ: كم كُنتُم؟ قال: لو كُنّا مِئةَ أَلفٍ لَكفانا، كُنّا خَمسَ عَشْرةَ مِئةً”.
فتَرَى أنَّ رُواةَ هذه المُعجِزةِ يَبلُغُون أَلْفًا وخَمسَ مِئةِ رَجُلٍ مِن حَيثُ المَعنَى، لِأَنَّ الإِنسانَ مَفطُورٌ على أن يَفضَحَ الكَذِبَ ويَقُولَ لِلكَذِبِ: هذا كَذِبٌ. فكَيفَ بِهَؤُلاءِ الصَّحابةِ الكِرامِ الَّذِين ضَحَّوا بأَرْواحِهِم وأَموالِهِم وآبائِهِم وأَبنائِهِم وأَقوامِهِم وقَبائِلِهِم في سَبِيلِ الحَقِّ والصِّدْقِ؟ فَضْلًا عن أنَّه مُحالٌ أن يَسكُتُوا على الكَذِبِ بَعدَما سَمِعُوا التَّهدِيدَ المُرعِبَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: “مَن كَذَبَ عَلِيَّ مُتَعَمِّدًا فلْيَتَبوَّأْ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ”. فما دامُوا لم يَعْتَرِضُوا على الخَبَرِ بل قَبِلُوه ورَضُوا به، فقد أَصبَحُوا إِذًا مُشتَرِكِينَ في الرِّوايةِ مَعنًى ومُصَدِّقِينَ لَها.
المِثالُ الثّالِثُ: تَروِي كُتُبُ الصِّحاحِ “ومِنها البُخارِيُّ ومُسلِمٌ” في ذِكْرِ غَزْوةِ “بُواطٍ” أنَّ جابِرًا قالَ: “قالَ لي رَسُولُ اللهِ ﷺ: يا جابِرُ، نادِ الوُضُوءَ”، فقِيلَ: لا يُوجَدُ لَدَيْنا الماءُ. فأَرادَ ماءً يَسِيرًا. “فأُتِيَ به النَّبِيُّ ﷺ فغَمَزَه، وتَكَلَّم بشَيءٍ لا أَدْرِي ما هو؟ وقال: نادِ بجَفْنةِ الرَّكْبِ، فأَتَيْتُ فوَضَعْتُها بَينَ يَدَيه، وذَكَر أنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَسَط يَدَه في الجَفْنةِ وفَرَّقَ أَصابِعَه، وصَبَّ جابِرٌ علَيْه وقالَ: بِاسمِ اللهِ. قال: فرَأَيتُ الماءَ يَفُورُ مِن بَينِ أَصابِعِه، ثمَّ فارَتِ الجَفْنةُ واستَدَارَت حتَّى امْتَلَأَت، وأَمَر النَّاسَ بالِاستِقاءِ، فاسْتَقَوْا حتَّى رَوُوا. فقُلتُ: هل بَقِيَ أَحَدٌ له حاجةٌ؟ فرَفَعَ رَسُولُ الله ﷺ يَدَه مِنَ الجَفْنةِ وهِي مَلْأَى”.
فهَذِه المُعجِزةُ الباهِرةُ مُتَواتِرةٌ مِن حَيثُ المَعنَى، لِأَنَّ جابِرًا كان في مُقَدِّمةِ المُشاهِدِين، فمِن حَقِّه إِذًا أن يَتَكلَّمَ هو فيها، ويُعلِنَها على لِسانِ القَوْمِ حَيثُ كان يَخدُمُ الرَّسُولَ ﷺ آنَذاك.
وفي رِوايةِ ابنِ مَسعُودٍ في الصَّحِيحِ: “ولَقَد رَأَيتُ الماءَ يَنبُعُ مِن بَينِ أَصابِعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ”.
يا تُرَى! إذا رَوَى صَحابةٌ ثِقاتٌ أَجِلّاءُ مِن أَمثالِ أَنَسٍ وجابِرٍ وابنِ مَسعُودٍ، وقالَ كُلٌّ مِنهُم: “رَأَيتُ”، أَمِنَ المُمكِنِ عَدَمُ رُؤْيَتِهِم؟!
وبَعدُ؛ وَحِّدْ هذه الأَمثِلةَ مَعًا، لِتَرَى مَدَى قُوّةِ هذه المُعجِزةِ الباهِرةِ، لِأَنَّ الطُّرُقَ الثَّلاثةَ إذا ما تَوَحَّدَت فستُثبِتُ الرِّوايةَ إِثباتًا قاطِعًا بالتَّواتُرِ المَعنَوِيِّ، مِن أنَّ الماءَ كانَ يَفُورُ مِن أَصابِعِه ﷺ، فهَذِه المُعجِزةُ أَعظَمُ وأَسمَى مِن تَفجِيرِ مُوسَى عَليهِ السَّلام الماءَ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرةَ عَيْنًا مِنَ الحَجَرِ، لِأَنَّ انفِجارَ الماءِ مِنَ الحَجَرِ شَيْءٌ مُمكِنٌ له نَظِيرُه حَسَبَ العادةِ، ولَكِن لا نَظِيرَ لِفَوَرانِ الماءِ مِنَ اللَّحْمِ والعَظْمِ كالكَوْثَرِ السَّلسَبِيلِ.
المِثالُ الرَّابعُ: رَوَى الإِمامُ مالِكٌ في كِتابِه القَيِّمِ “المُوَطَّأ” عن أَجِلّةِ الصَّحابةِ “عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ في قِصّةِ غَزْوةِ تَبُوكَ أنَّهُم وَرَدُوا العَيْنَ وهِي تَبِضُّ بشَيْءٍ مِن ماءٍ مِثلَ الشِّراكِ”، فأَمَر رَسُولُ اللهِ ﷺ أنِ: اجْمَعُوا مِن مائِها، “فغَرَفُوا مِنَ العَينِ بأَيدِيهِم حتَّى اجتَمَعَ في شَيْءٍ، ثمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فيه وَجْهَه ويَدَيْه وأَعادَه فيها، فَجَرَت بماءٍ كَثِيرٍ، فاستَقَى النّاسُ” حتَّى قالَ في حَدِيثِ ابنِ إِسحاقَ: “فانْخَرَقَ مِنَ الماءِ ما لَه حِسٌّ كحِسِّ الصَّواعِقِ، ثمَّ قال: يُوشِكُ يا مُعاذُ إن طالَتْ بك حَياةٌ أن تَرَى ما ها هُنا قد مُلِئ جِنانًا”، وكَذلِك كان.
المِثالُ الخامِسُ: رَوَى البُخارِيُّ عنِ البَراءِ، ومُسلِمٌ عن سَلَمةَ بنِ الأَكْوَعِ، ومِن طُرُقٍ أُخرَى في كُتُب الصِّحاحِ الأُخرَى: “كُنّا يَومَ الحُدَيْبِيَةِ أَربَعَ عَشْرةَ مِئةً، والحُدَيْبِيَةُ بِئرٌ، فنَزَحْناها حتَّى لم نَتْرُكْ فيها قَطْرةً، فجَلَسَ النَّبِيُّ ﷺ على شَفِيرِ البِئرِ، فدَعا بماءٍ فمَضْمَضَ ومَجَّ في البِئْرِ، فمَكَثْنا غَيرَ بَعِيدٍ ثمَّ استَقَيْنا حتَّى رَوِينا ورَوَت -أو صَدَرَت- رَكائِبُنا”، قال البَراءُ: فأَمَرَ ﷺ بدَلْوٍ مِن مائِها، فأَتَيْنا بها، فأَلْقَى رِيقَه مِن فَمِه المُبارَكِ ودَعا، ثمَّ بعدَ ذلك أَفْرَغَ الدَّلْوَ في البِئْرِ ففارَتْ وارتَفَعَت مِلْءَ فَمِها، فأَرْوَوْا أَنفُسَهُم ورِكابَهُم.
المِثالُ السَّادِسُ: رَوَى أَئِمّةُ الحَدِيثِ، أَمثالَ مُسلِمٍ وابنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وغَيرِهِما عن أبي قَتادةَ أنَّه قال: “إنَّ النَّبيَّ ﷺ خَرَج بهم مُمِدًّا لِأَهلِ مُؤْتةَ عِندَما بَلَغَه قَتْلُ الأُمَراءِ”، وكانَت لَدَيَّ مِيضَأةٌ، فقال الرَّسُولُ ﷺ: “اِحْفَظْ عَلَيَّ مِيضَأَتَك، فسيَكُونُ لَها نَبَأٌ عَظِيمٌ” وبَعدَ ذلك أَخَذ العَطَشُ يَشتَدُّ بِنا وكُنَّا اثنَينِ وسَبعِينَ -وفي رِوايةِ الطَّبَرِيِّ: كُنَّا زُهاءَ ثَلاثِ مِئةٍ- فقال الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ: “ائْتِ بمِيضَأَتِك”، فأَتَيتُ بها، فأَخَذَها ووَضَع فمَه في فَمِها، ولم أَدْرِ أَنفَثَ فيها أم لا؟ ثمَّ جاءَ بَعدَ ذلك اثنانِ وسَبعُونَ رَجُلًا فشَرِبُوا مِنها ومَلَؤُوا أَوْعِيَتَهُم، ثمَّ أَخَذتُها -أي: المِيضَأةَ- بَعدَ ذلك، فبَقِيَتْ مِثلَ ما كان”، فتَأَمَّلْ في هذه المُعجِزةِ الباهِرةِ وقُلْ: اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ علَيْه وعلى آلِه بعَدَدِ قَطَراتِ الماءِ.
المِثالُ السَّابعُ: رَوَى البُخارِيُّ ومُسلِمٌ عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ حِينَ أَصابَ النَّبِيَّ ﷺ وأَصحابَه عَطَشٌ في بَعضِ أَسفارِهِم: “كُنَّا في سَفَرٍ معَ النَّبِيِّ ﷺ، فاشْتَكَى إلَيْه النَّاسُ مِنَ العَطَشِ، فنَزَل ودَعَا عَلِيًّا فقال: “اذْهَبَا فابْتَغِيا الماءَ”، فانطَلَقا فتَلَقَّيا امْرَأةً بَينَ مَزادَتَينِ، فجاءا بها إلى النَّبِيِّ ﷺ.. ودَعا النَّبِيُّ ﷺ بإِناءٍ فأَفرَغَ فيه مِن أَفواهِ المَزادَتَينِ، ونُودِيَ في النَّاسِ: اِسْقُوا واسْتَقُوا. فاسْتَقَوْا.. وإنَّه لَيُخَيَّلُ إلَيْنا أنَّها أَشَدُّ مَلَاءَةً مِنها حِينَ ابتَدَأَ فيها”.
وقال النَّبِيُّ ﷺ: “اِجمَعُوا لَها”، فجَمَعُوا لَها، حَتَّى جَمَعُوا لَها طَعامًا، فجَعَلُوه في ثَوْبٍ وحَمَلُوها على بَعِيرِها.. فقال لَها: “اِذهَبِي فإنَّا لم نَأخُذ مِن مائِكِ شَيْئًا، ولكِنَّ اللهَ سَقانا”.
المِثالُ الثَّامِنُ: رَوَى ابنُ خُزَيمةَ حَدِيثَ “عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُ في جَيشِ العُسْرةِ، وذَكَر ما أَصابَهُم مِنَ العَطَشِ حتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيَنحَرُ بَعِيرَه فيَعصِرُ فَرْثَه فيَشرَبُه، فرَغِبَ أبو بَكرٍ رَضِيَ الله عَنهُ إلى النَّبِيِّ ﷺ في الدُّعاءِ، فرَفَع يَدَيه فلم يَرجِعْهُما حتَّى قالَتِ السَّماءُ، فانسَكَبَت، فمَلَؤُوا ما مَعَهُم مِن آنِيةٍ.. ولم تُجاوِزِ العَسْكَرَ”.
فهذه مُعجِزةٌ أَحمَدِيّةٌ مَحْضةٌ لا دَخْلَ للمُصادَفةِ فيها قَطُّ.
المِثالُ التّاسِعُ: عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ -حَفِيدِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ رَضِيَ الله عَنهُما، والَّذي وَثَّقَه الأَئِمّةُ الأَربَعةُ مِن أَصحابِ السُّنَنِ في رِوايَتهِ الأَحادِيثَ -: “أنَّ أبا طالِبٍ قال لِلنَّبِيِّ ﷺ وهُو رَدِيفُه بذِي المَجازِ: عَطِشتُ ولَيسَ عِندِي ماءٌ. فنَزَل النَّبِيُّ ﷺ وضَرَب بقَدَمِه الأَرضَ، فخَرَج الماءُ، فقال: اشْرَبْ”.
قال أَحَدُ العُلَماءِ المُحَقِّقينَ: هذه الحادِثةُ كانَت قَبلَ النُّبوّةِ، لِذا فهي مِنَ الإِرهاصاتِ، وتَفَجُّرُ عَينِ عَرَفَة بَعدَ مُضِيِّ أَلفِ سَنةٍ يُعَدُّ مِنَ الإِكراماتِ الإلٰهِيّةِ لِلرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ.
[أحاديث المعجزات المتعلقة بالماء يقوي بعضُها بعضًا]
وهكَذا، فالمُعجِزاتُ المُتَعلِّقةُ بالماءِ وإن لم تَبلُغْ تِسعِينَ مِثالًا مِن أَمثالِ هذه التِّسعةِ، إلّا أنَّها رُوِيَتْ بتِسعِينَ وَجْهًا. والأَمثِلةُ السَّبعةُ الأُولَى قَوِيّةٌ، وقَطْعِيّةٌ، كالتَّواتُرِ المَعنَوِيِّ؛ أمَّا المِثالانِ الأَخِيرانِ فهُما وإن لم تَكُن طُرُقُهُما قَوِيّةً ومُتَعدِّدةً ورُواتُهُما كَثِيرِينَ، إلّا أنَّ أَصحابَ الحَدِيثِ كالإِمامِ البَيهَقِيِّ والحاكِمِ رَوَوْا عن عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُ مُعجِزةً ثانِيةً حَوْلَ السَّحابِ تَأْيِيدًا لِلمُعجِزةِ في المِثالِ الثَّامِنِ الَّتي رَواها سَيِّدُنا عُمَرُ؛ والرِّوايةُ هي أنَّه: “أَصابَ النّاسَ في بَعضِ مَغازِيه ﷺ عَطَشٌ، فسَأَلَه عُمَرُ الدُّعاءَ، فدَعا، فجاءَت سَحابةٌ فسَقَتْهُم حاجَتَهُم ثمَّ أَقْلَعَتْ”، وكأَنَّ السَّحابَ كان مَأْمُورًا بِأَن يَرْوِيَ الجَيشَ وَحْدَه حَيثُ أَمطَرَ حَسَبَ الحاجةِ؛ فكَما تُؤَيِّدُ هذه الحادِثةُ المِثالَ الثّامِنَ وتُقَوِّيه، وتُبْرِزُه رِوايةً ثابِتةً قاطِعةً، فإنَّ ابنَ الجَوْزِيِّ الَّذي يَتَشدَّدُ ويَرُدُّ حتَّى بَعضَ الأَحادِيثِ الصَّحِيحةِ ويَجعَلُها في عِدادِ المَوضُوعاتِ يقُولُ: إنَّ هذه الحادِثةَ وَقَعَت في غَزْوةِ بَدْرٍ ونَزَلَت في حَقِّها الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾.
فما دامَتْ هذه الآيةُ قد نَزَلَت في حَقِّها وبَيَّنَتْها بوُضُوحٍ، فلا شَكَّ إذًا في وُقُوعِها.
وقد تَكَرَّر كَثِيرًا نُزُولُ المَطَرِ بدُعاءِ النَّبِيِّ ﷺ قَبلَ أن تَنزِلَ يَداه المَرفُوعَتانِ، وهي مُعجِزةٌ مُستَقِلّةٌ بِحَدِّ ذاتِها؛ وقدِ استَسْقَى النَّبِيُّ ﷺ أَحيانًا وهُو على المِنبَرِ، ونَزَلَتِ الأَمطارُ قَبلَ أن يَخفِضَ يَدَه، وقد ثَبَت هذا بطَرِيقٍ مُتَواتِرٍ.
[الإشارة التاسعة: مجيء الشجر إلى النبي ﷺ امتثالًا لأمره]
الإشارةُ التَّاسعة
إنَّ أَحَد أَنواعِ مُعجِزاتِ الرَّسُولِ الأَكرَمِ ﷺ: امتِثالُ الأَشجارِ لِأَوامِرِه كامتِثالِ البَشَرِ، وانخِلاعُها مِن أَماكِنِها ومَجِيئُها إلَيْه؛ فهَذِه المُعجِزةُ المُتَعلِّقةُ بالأَشجارِ هي مُتَواتِرةٌ مِن حَيثُ المَعنَى كفَوََرانِ الماءِ مِن أَصابِعِه المُبارَكةِ؛ ولَها صُوَرٌ مُتَعدِّدةٌ، ورُوِيَت بطُرُقٍ كَثِيرةٍ.
نعم، يَصِحُّ أن يُقالَ: إنَّ خَبَر انخِلاعِ الشَّجَرةِ مِن مَوْضِعِها ومَجِيئِها مُمْتَثِلةً لِأَمرِ الرَّسُولِ الأَكرَمِ ﷺ مُتَواتِرٌ تَواتُرًا صَرِيحًا، إذ رُوِيَت هذه الرِّوايةُ مِن قِبَلِ صَحابةٍ كِرامٍ صادِقِين مَعرُوفِين، أَمثالَ: عَلِيٍّ وابنِ عَبّاسٍ وابنِ مَسعُودٍ وابنِ عُمَرَ ويَعلَى بنِ مُرّةَ وجابِرٍ وأَنَسِ بنِ مالِكٍ، وبُرَيدةَ وأُسامةَ بنِ زَيدٍ وغَيلانَ بنِ سَلَمةَ، وغَيرِهم، فأَخبَرَ كُلٌّ مِنهُم عن هذه المُعجِزةِ المُتَعلِّقةِ بالأَشجارِ إِخبارًا ثابِتًا قاطِعًا، ونَقَلَها عَنهُم مِئاتٌ مِن أَئِمّةِ التّابِعِين بطُرُقٍ مُختَلِفةٍ، في بِدايةِ كُلِّ طَرِيقٍ صَحابِيٌّ جَلِيلٌ، أي: كأَنَّها نُقِلَت إلَيْنا نَقْلًا مُتَواتِرًا مُضاعَفًا، لِذا فلا يُداخِلُ هذه المُعجِزةَ رَيْبٌ ولا شُبْهةٌ قَطُّ، فهِي في حُكْمِ المُتَواتِرِ المَعنَوِيِّ المَقطُوعِ به.
فهذه المُعجِزةُ وإن تكَرَّرَت مَرّاتٍ عِدّةً، إلّا أَنَّنا سنُبيِّنُ عَدَدًا مِن صُوَرِها الصَّحِيحةِ الكَثِيرةِ، ونُورِدُها في بِضْعةِ أَمثِلةٍ:
المِثالُ الأَوَّلُ: رَوَى ابنُ ماجَهْ والدَّارِمِيُّ والبَيهَقِيُّ عن أَنَسِ بنِ مالِكٍ وعَلِيٍّ، ورَوَى البَزَّارُ والبَيهَقِيُّ عن عُمَرَ: أنَّ ثَلاثةً مِنَ الصَّحابةِ الكِرامِ رِضوانُ اللهِ تَعالَى علَيهِم أَجمَعِين قالُوا: كان الرَّسُولُ الأَكرَمُ ﷺ قد حَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا مِن تَكْذِيبِ الكُفَّارِ له، قال: “يا ربِّ أَرِني آيةً لا أُبالي مَن كَذَّبَني بَعدَها”، وفي رِوايةِ أَنَسٍ: “أنَّ جِبْرِيلَ عَليهِ السَّلام قال لِلنَّبِيِّ ﷺ ورَآه حَزِينًا: أَتُحِبُّ أن أُرِيَك آيةً؟ قال: نعم! فنَظَر رَسُولُ اللهِ ﷺ إلى شَجَرةٍ مِن وَراءِ الوادِي، فقال: اُدْعُ تلك الشَّجَرةَ. فجاءَت تَمْشِي حتَّى قامَت بَينَ يَدَيه، قال: مُرْها فلْتَرجِعْ، فعادَت إلى مَكانِها”.
المِثالُ الثَّاني: رَوَى القاضِي عِياضٌ -عَلَّامةُ المَغْرِبِ- في كِتابِه “الشِّفا” بسَنَدٍ عالٍ صَحِيحٍ عن عَبدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُما قال: “كُنَّا معَ رَسُولِ اللهِ ﷺ في سَفَرٍ، فدَنا مِنه أَعرابيٌّ، فقال: يا أَعرابيُّ، أَينَ تُرِيدُ؟ قال: إلى أَهْلِي. قال: هل لَك إلى خَيرٍ مِن ذلك؟ قال: وما هُو؟ قال: تَشهَدُ أنْ لا إلٰهَ إلّا اللهُ وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسُولُه. قال: مَن يَشهَدُ لك على ما تَقُولُ؟ قال: هذه الشَّجَرةُ السَّمُرةُ. وهي بشاطِئِ الوادِي، فأَقبَلَتْ تَخُدُّ الأَرضَ، حتَّى قامَت بَينَ يَدَيه، فاستَشْهَدَها ثَلاثًا فشَهِدَت أنَّه كما قال، ثمَّ رَجَعَت إلى مَكانِها”.
وعن بُريْدَة عن طَرِيقِ ابنِ صاحِبٍ الأَسلَمِيِّ بنَقْلٍ صَحِيحٍ: “سَأَلَ أَعرابيٌّ النَّبِيَّ ﷺ آيةً، فقالَ له: قُلْ لتِلك الشَّجَرةِ: رَسُولُ اللهِ يَدْعُوكِ. قال: فمالَتِ الشَّجَرةُ عن يَمِينِها وشِمالِها وبَينَ يَدَيْها وخَلْفَها، فتَقَطَّعَت عُرُوقُها، ثمَّ جاءَت تَخُدُّ الأَرضَ تَجُرُّ عُرُوقَها مُغَبّرةً حَتَّى وَقَفَت بَينَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فقالَت: السَّلامُ علَيْك يا رَسُولَ اللهِ. قالَ الأَعرابيُّ: مُرْها فلْتَرْجِعْ إلى مَنبَتِها. فرَجَعَت فدَلَّت عُرُوقَها فاسْتَوَت. فقالَ الأَعرابيُّ: ائْذَنْ لي أَسجُدْ لك. قال: لو أَمَرتُ أَحَدًا أن يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرتُ المَرْأةَ أن تَسجُدَ لِزَوْجِها. قال: فائْذَنْ لي أن أُقَبِّلَ يَدَيْك ورِجْلَيْك، فأَذِن لَه”.
المِثالُ الثَّالث: رَوَى مُسلِمٌ وأَصحابُ الكُتُبِ الصِّحاحِ الأُخرَى عن جابِرٍ رَضِيَ الله عَنهُ: أنَّه قال: كُنَّا في سَفَرٍ معَ رَسُولِ اللهِ ، “فذَهَبَ رَسُولُ اللهِ يَقضِي حاجَتَه، فلم يَرَ شَيْئًا يَستَتِرُ به، فإذا بشَجَرَتَينِ بشاطِئِ الوادِي، فانطَلَق رَسُولُ الله ﷺ إلى إِحداهُما، فأَخَذ بغُصْنٍ مِن أَغصانِها، فقال: انْقادِي عَلَيَّ بإِذنِ اللهِ. فانْقادَت مَعَه كالبَعِيرِ المَخْشُوشِ الَّذي يُصانِعُ قائِدَه، وذَكَر أنَّه فَعَل بالأُخرَى مِثلَ ذلك حتَّى إذا كان بالمَنْصَفِ بَينَهُما، قال: الْتَئِما عَلَيَّ بإِذنِ اللهِ. فالْتَأَمَتا”، فجَلَس خَلْفَهُما، وبَعدَ أن قَضَى حاجَتَه أَمَر أن يَعُودَ كُلٌّ مِنهُما إلى مَكانِه.
“وفي رِوايةٍ أُخرَى: فقال: يا جابِرُ، قُلْ لِهَذِه الشَّجَرةِ: يَقُولُ لَكِ رَسُولُ اللهِ: الْحَقِي بصاحِبَتِكِ حتَّى أَجلِسَ خَلفَكُما. فزَحَفَت حتَّى لَحِقَت بصاحِبَتِها. فجَلَس خَلفَهُما، فخَرَجْتُ أُحضِرُ، وجَلَستُ أُحَدِّثُ نَفسِي، فالْتَفَتُّ فإذا رَسُولُ اللهِ ﷺ مُقبِلًا، والشَّجَرتانِ قدِ افْتَرَقَتا، فقامَت كلُّ واحِدةٍ مِنهُما على ساقٍ، فوَقَف رَسُولُ اللهِ ﷺ وَقْفةً فقال برَأْسِه هكَذا يَمِينًا وشِمالًا”.
المِثالُ الرَّابع: رَوَى أُسامةُ بنُ زَيدٍ -أَحَدُ قُوَّادِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وخادِمُه الأَيمَنُ -: كُنّا في سَفَرٍ معَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ولم يَكُن لِقَضاءِ الحاجةِ مَكانٌ خالٍ يَستُرُ عن أَعيُنِ النّاسِ، فقال: “هل تَرَى مِن نَخْلٍ أو حِجارةٍ؟ قُلتُ: أَرَى نَخَلاتٍ مُتَقارِباتٍ، قال: انطَلِقْ وقُلْ لَهُنَّ: إنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَأْمُرُكُنَّ أن تَأْتِينَ لِمَخْرَجِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وقُلْ لِلحِجارةِ مِثلَ ذلك. فقُلتُ ذلك لَهُنَّ، فوَالَّذِي بَعَثَه بالحَقِّ لقد رَأَيتُ النَّخَلاتِ يَتَقارَبْنَ حتَّى اجْتَمَعْنَ والحِجارةَ يَتَعاقَدْنَ حتَّى صِرْنَ رُكامًا خَلْفَهُنَّ، فلَمّا قَضَى حاجَتَه، قال لي: قُلْ لَهُنَّ يَفْتَرِقْنَ. فوَالَّذِي نَفسِي بِيَدِه لَرَأَيتُهُنَّ والحِجارةَ يَفتَرِقْنَ حتَّى عُدْنَ إلى مَواضِعِهِنَّ”.
وقد رَوَى هاتَينِ الحادِثَتَينِ اللَّتَينِ رَواهُما جابِرٌ وأُسامةُ كُلٌّ مِن يَعلَى بنِ مُرّةَ، وغَيلانَ بنِ سَلَمةَ الثَّقَفِيِّ، وابنِ مَسعُودٍ في غَزْوةِ حُنَينٍ..
المِثالُ الخامس: ذَكَر عَلّامةُ عَصْرِه الإِمامُ ابنُ فَوْرَكَ -الَّذي كان يُسَمَّى بالشَّافِعِيِّ الثَّاني كِنايةً عن اجتِهادِه الكامِلِ وفَضْلِه -: “أنَّه ﷺ سارَ في غَزْوةِ الطّائِفِ لَيْلًا وهُو وَسِنٌ، فاعْتَرَضَهُ سِدْرةٌ، فانْفَرَجَت لَه نِصْفَينِ حتَّى جازَ بَينَهُما، وبَقِيَت على ساقَينِ إلى وَقْتِنا”.
المِثالُ السَّادس: ذَكَر يَعلَى بنُ سِيابةَ: “أنَّ طَلْحةً أو سَمُرةً جاءَت فأَطافَت بِه ثمَّ رَجَعَت إلى مَنبَتِها، فقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “إنَّها استَأْذَنَت أن تُسَلِّمَ عَلَيَّ”، أي: استَأْذَنَت مِن رَبِّ العالَمِينَ.
المِثالُ السَّابع: رَوَى الشَّيخانِ عنِ ابنِ مَسعُودٍ رَضِيَ الله عَنهُ: أنَّه قال: “آذَنَتِ النَّبِيَّ ﷺ بالجِنِّ لَيْلةَ استَمَعُوا لَه شَجَرةٌ”، وذلك حِينَما جاءَ جِنُّ نَصِيبِينَ في بَطْنِ النَّخلِ إلى النَّبِيِّ ﷺ للإِسلامِ، فأَعلَمَتْ شَجَرةٌ النَّبِيَّ خَبَرَ مَجِيئِهِم.
“وعن مُجاهِدٍ، عنِ ابنِ مَسعُودٍ في هذا الحَدِيثِ: أنَّ الجِنَّ قالُوا مَن يَشهَدُ لَك؟ قال: هذه الشَّجَرةُ” فأَمَر الشَّجَرَةَ: “تَعالَيْ يا شَجَرةُ. فجاءَت تَجُرُّ عُرُوقَها لَها قَعاقِعُ”.
وهكَذا، فقد كَفَت مُعجِزةٌ واحِدةٌ طائِفةَ الجِنِّ، أفَلا يكُونُ مَن يَسمَعُ أَلفَ مُعجِزةٍ ومُعجِزةٍ مِن أَمثالِها ثمَّ يُكابِرُ ولا يُؤْمِنُ أَضَلَّ مِن ذلك الشَّيْطانِ الَّذي حَدَّثَ القُرآنُ عنه بقَولِ الجِنِّ: ﴿يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا﴾؟!
المِثالُ الثَّامن: رَوَى التِّرمِذِيُّ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنهُما أنَّه ﷺ قالَ لِأَعرابيٍّ: “أَرَأَيتَ إن دَعَوْتُ هذا العِذْقَ مِن هذه النَّخْلةِ، أَتَشهَدُ أنِّي رَسُولُ اللهِ؟ قال: نعم! فدَعاه، فجَعَل يَنقُزُ حتَّى أَتاه، فقال: ارْجِعْ، فعادَ إلى مَكانِه”.
[أحاديث مجيء الشجر يقوي بعضها بعضًا]
وهكذا، فهُناك أَمثِلةٌ غَزِيرةٌ كالَّتي ذَكَرْناها رُوِيَت كُلُّها بطُرُقٍ عَدِيدةٍ، ومِنَ المَعلُومِ أنَّه إذا اتَّحَدَت بِضْعةُ خُيُوطٍ رَفِيعةٍ صارَت حَبْلًا قَوِيًّا.. فمِثلُ هذه المُعجِزةِ المُتَعلِّقةِ بالشَّجَرةِ وقد رُوِيَت بطُرُقٍ مُتَعدِّدةٍ، وعن مَشاهِيرِ الصَّحابةِ الكِرامِ لا بُدَّ أنَّها في قُوّةِ التَّواتُرِ المَعنَوِيِّ، بل إنَّها مُتَواتِرةٌ تَواتُرًا حَقِيقيًّا. ولا رَيبَ أنَّها حِينَما انتَقَلَت إلى التَّابِعِينَ أَخَذَت طابَعَ التَّواتُرِ، لا سِيَّما الطُّرُقِ الَّتي سَلَكَها أَصحابُ الصِّحاحِ كالبُخارِيِّ ومُسلِمٍ وابنِ حِبّانَ والتِّرمِذِيِّ وغَيرِهِم، إنَّما هي طَرِيقٌ صَحِيحةٌ لا شائِبةَ فيها. بل إنَّ رُؤْيةَ أيِّ حَدِيثٍ كان في البُخارِيِّ إنَّما هُو كاستِماعِه مِنَ الصَّحابةِ الكِرامِ بعَينِهِم.
تُرَى! إذا عَرَفَتِ الأَشجارُ رَسُولَ الله ﷺ وعَرَّفَته وصَدَّقَتْ رِسالَتَه وسَلَّمَت علَيْه، وزارَتْه، وامْتَثَلَت أَمْرَه -كما رَأَيْنا في الأَمثِلةِ المَذكُورةِ آنِفًا- فكَيفَ لا يَعرِفُ ولا يُؤْمِنُ به ذلك البَلِيدُ الجَمادُ الَّذي يُسَمِّي نَفسَه إِنسانًا؟ أَليسَ هُو عارِيًا عن العَقْلِ والقَلْبِ؟ أفَلا يَكُونُ أَدنَى مِنَ الشَّجَرِ اليابِسِ وأَتْفَهَ مِنَ الحَطَبِ الَّذي لا يَستَحِقُّ إلّا إِلْقاءَه في النَّارِ؟!
[الإشارة العاشرة: معجزة حنين الجذع]
الإشارة العاشرة
إنَّ الَّذي يُؤَيِّدُ هذه المُعجِزاتِ المُتَعلِّقةَ بالشَّجَرةِ: مُعجِزةُ حَنِينِ الجِذْعِ المَنقُولةُ نَقْلًا مُتَواتِرًا.
نعم، إنَّ حَنِينَ الجِذْعِ اليابِسِ المَوجُودِ في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ لِفِراقِه عنه -فِراقًا مُؤَقَّتًا- وأَنِينَه أَمامَ جَماعةٍ غَفِيرةٍ مِنَ الصَّحْبِ الكِرامِ يُؤَيِّدُ الأَمثِلةَ الَّتي أَوْرَدْناها في المُعجِزاتِ المُتَعلِّقةِ بالأَشجارِ ويُقَوِّيها، لِأَنَّ الجِذْعَ مِن جِنسِ الأَشجارِ، فالجِنسُ واحِدٌ، إلّا أنَّ هذه المُعجِزةَ مُتَواتِرةٌ بالذّاتِ، بَينَما الأَقسامُ الأُخرَى مُتَواتِرةٌ نَوْعًا، إذ إنَّ أَكثَرَ جُزْئيّاتِها وأَمثِلَتِها لا يَرقَى إلى مُستَوَى التَّواتُرِ الصَّرِيحِ.
كان المَسجِدُ النَّبَوِيُّ مَسقُوفًا على جُذُوعِ نَخلٍ، فكان النَّبِيُّ ﷺ إذا خَطَبَ يَقُومُ إلى جِذْعٍ مِنها، فلَمّا صُنِعَ لَه المِنبَرُ، وكان علَيْه، سُمِعَ لِذَلِك الجِذْعِ صَوْتٌ كصَوْتِ العِشارِ وهُو يَئِنُّ ويَبكِي، حتَّى جاءَه النَّبِيُّ ﷺ ووَضَع يَدَه علَيْه، وتَكَلَّم مَعَه وعَزَّاه وسَلَّاه، فسَكَت الجِذْعُ. نُقِلَت هذه المُعجِزةُ بطُرُقٍ كَثِيرةٍ جِدًّا نَقْلًا مُتَواتِرًا.
نعم، إنَّ مُعجِزةَ حَنِينِ الجِذْعِ مَشهُورةٌ ومُنتَشِرةٌ، والخَبَرُ بها مِنَ المُتَواتِرِ الصَّرِيحِ، فقد رَواها مِئاتٌ مِن أَئِمّةِ التّابِعِين بخَمْسةَ عَشَرَ طَرِيقًا عن جَماعةٍ مِنَ الصَّحابةِ الكِرامِ رِضْوانُ اللهِ تَعالَى علَيْهِم أَجمَعِينَ، وهكَذا نَقَلُوها إلى مَن خَلْفَهُم.. ومِمَّن رَواها مِن عُلَماءِ الصَّحابةِ: أَنَسُ بنُ مالِكٍ، وجابِرُ بنُ عَبدِ اللهِ الأَنصارِيُّ -مِن خُدّامِ النِّبِيِّ- وعَبدُ اللهِ ابنُ عُمَرَ، وعَبدُ اللهِ بنُ عَبّاسٍ، وسَهْلُ بنُ سَعْدٍ، وأَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، وأُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وبُرَيْدةُ، وأُمُّ المُؤْمِنِينَ أُمُّ سَلَمةَ رِضْوانُ اللهِ عَلَيْهِم، وكلٌّ مِن هَؤُلاء على رَأْسِ طَرِيقٍ مِن طُرُقِ رُواةِ الحَدِيثِ.
[روايات حنين الجذع]
فقد رَوَى البُخارِيُّ ومُسلِمٌ وغَيرُهُما مِن أَصحابِ الصِّحاحِ هذه المُعجِزةَ الكُبْرَى المُتَواتِرةَ، ونَقَلُوها إلَيْنا.
عن جابِرٍ رَضِيَ الله عَنهُ، يقُولُ: “كان المَسجِدُ مَسقُوفًا على جُذُوعٍ مِن نَخْلٍ، فكان النَّبِيُّ ﷺ إذا خَطَبَ يَقُومُ إلى جِذْعٍ مِنها، فلَمّا صُنِعَ لَه المِنْبَرُ وكان علَيْه، فسَمِعْنا لِذَلِك الجِذْعِ صَوْتًا كصَوْتِ العِشارِ، حتَّى جاءَ النَّبِيُّ ﷺ فوَضَع يَدَه علَيْه فسَكَتَ” لم يَتَحَمَّلِ الجِذْعُ فِراقَه ﷺ.
وعن أَنَسٍ: “حتَّى ارْتَجَّ المَسجِدُ لِخُوارِه”.
وعن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ: “وكَثُر بُكاءُ النّاسِ لِمَا رَأَوْا به مِن بُكاءٍ وحَنِينٍ”.
وعن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ: “حتَّى تَصَدَّع وانشَقَّ” لِشِدّةِ بُكائِه.
زادَ غَيرُه: فقالَ النَّبِيُّ ﷺ: “إنَّ هَذا بَكَى لِمَا فَقَد مِنَ الذِّكْرِ”، وفي طَرِيقٍ آخَرَ: “لو لم أَلتَزِمْه لم يَزَلْ هَكَذا إلى يَوْمِ القِيامةِ، تَحَزُّنًا على رَسُولِ اللهِ ﷺ”. وفي حَدِيثِ بُرَيْدةَ: لَمّا بَكَى الجِذْعُ وَضَع الرَّسُولُ يَدَه الشَّرِيفةَ علَيْه وقالَ: “إن شِئْتَ أَرُدُّك إلى الحائِطِ الَّذي كُنتَ فيه، تَنبُتُ لَك عُرُوقُك ويَكمُلُ خَلْقُك ويُجَدَّدُ خُوصُك وثَمَرُك؛ وإن شِئْتَ أَغرِسُك في الجَنّةِ فيَأْكُلُ أَوْلياءُ اللهِ مِن ثَمَرِك. ثمَّ أَصغَى لَه النَّبِيُّ ﷺ يَستَمِعُ ما يَقُولُ، فقال: بل تَغرِسُني في الجَنّةِ فيَأكُلُ مِنِّي أَولِياءُ اللهِ وأَكُونُ في مَكانٍ لا أَبلَى فيه، فسَمِعَه مَن يَلِيه، فقالَ النَّبِيُّ ﷺ: قد فَعَلْتُ. ثمَّ قالَ: اختارَ دارَ البَقاءِ على دارِ الفَناءِ”، قال الإِمامُ أَبُو إِسحاقَ الإِسفَرايِينيُّ -وهُو مِن أَئِمّةِ عُلَماءِ الكَلامِ- إنَّ الرَّسُولَ الأَكرَمَ ﷺ لم يَذْهَبْ إلى الجِذْعِ بل “دَعاهُ إلى نَفسِه فجاءَه يَخرِقُ الأَرضَ فالْتَزَمَه، ثمَّ أَمَرَه فعادَ إلى مَكانِه”.
يَقُولُ أُبَيُّ بنُ كَعبٍ: وبَعدَ ظُهُورِ هذه المُعجِزةِ: “أَمَر النَّبِيُّ ﷺ به فدُفِنَ تَحتَ المِنبَرِ”، “فكان إذا صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ صَلَّى إلَيْه؛ فلَمَّا هُدِمَ المَسجِدُ لِتَجدِيدِه أَخَذَه أُبَيٌّ فكان عِندَه إلى أن أَكَلَتْه الأَرَضةُ وعادَ رُفاتًا”.
وحِينَما كان الحَسَنُ البَصرِيُّ يُحَدِّثُ بهذا طُلَّابَه يَبكِي ويَقُولُ: “يا عِبادَ اللهِ، الخَشَبةُ تَحِنُّ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ شَوْقًا إلَيْه لِمَكانِه، فأَنتُم أَحَقُّ أن تَشتاقُوا إلى لِقائِه!”.
ونَحنُ نَقُولُ: نعم، إنَّ الِاشتِياقَ إلَيْه ومَحَبَّتَه إنَّما هي باتِّباعِ سُنَّتِه السَّنِيّةِ وشَرِيعَتِه الغَرّاءِ.
[نكتة: لماذا لم تشتهر معجزات بركة الطعام كما اشتهرت معجزة حنين الجذع؟]
نُكتةٌ مُهِمّة
فإن قِيلَ: لِمَ لَمْ تَشتَهِرْ تلك المُعجِزاتُ الَّتي تَخُصُّ البَرَكةَ في الطَّعامِ، والَّتي أَشبَعَت أَلْفًا مِنَ النَّاسِ في غَزْوةِ الخَندَقِ بصاعٍ مِن طَعام، ولا تلك المُعجِزاتُ الَّتي تَخُصُّ الماءَ التي أَرْوَت أَلْفًا مِنَ النّاسِ بما فار مِنَ الماءِ مِن أَصابعِ الرَّسُولِ المُبارَكةِ ﷺ؛ لِمَ لَمْ تُنقَلا بطُرُقٍ كَثِيرةٍ مِثلَما اشتَهَرَت مُعجِزةُ حَنِينِ الجِذْعِ ونُقِلَت؟ معَ أنَّ كُلًّا مِن تِلكُما الجَماعَتَينِ اللَّتَينِ وَقَعَتِ المُعجِزةُ أَمامَهُما، أَكثَرُ مِن جَماعةِ مُعجِزةِ حَنِينِ الجِذْعِ؟
الجَوابُ: إنَّ المُعجِزاتِ الَّتي ظَهَرَت قِسمانِ:
أَحَدُهُما: ما يَظهَرُ على يَدِ النَّبِيِّ ﷺ لِتَصدِيقِ دَعوَى النُّبوّةِ، ويَكُونُ حُجّةً لَها، فيَزِيدُ إِيمانَ المُؤْمِنِينَ ويَسُوقُ أَهلَ النِّفاقِ إلى الإِخلاصِ والإِيمانِ، ويَدْعُو أَهلَ الكُفْرِ إلى حَظِيرةِ الإِيمانِ.. ومُعجِزةُ حَنِينِ الجِذْعِ مِن هذا القَبِيلِ، لِذَلِك رَآها العَوامُّ والخَواصُّ، واعتُنِيَ بنَشرِها أَكثَرَ مِن غَيرِها.
أمّا مُعجِزةُ الطَّعامِ ومُعجِزةُ الماءِ، فهِيَ كَرامةٌ أَكثَرَ مِن كَوْنِها مُعجِزةً، بل إِكرامٌ إلٰهِيُّ أَكثَرَ مِنَ الكَرامةِ، بل ضِيافةٌ رَحْمانيّةٌ -حَسَبَ ما دَعَت إلَيْه الحاجةُ- أَكثَرَ مِن إِكرامٍ إلٰهِيٍّ؛ فهُما وإن كانَتا دَليلَينِ على دَعوَى النُّبوّةِ، ومُعجِزَتَينِ لها، إلّا أنَّ الغايةَ الأَساسَ هي أنَّ الجَيشَ الَّذي يَبلُغُ قِوامُه زُهاءَ أَلفِ رَجُلٍ، كان في حاجةٍ ماسّةٍ إلى الطَّعامِ والشَّرابِ، فأَمَدَّهُمُ اللهُ سُبحانَه وتَعالَى مِن خَزائِنِ الغَيبِ بأن أَشبَعَ مِن صاعٍ مِن طَعامٍ أَلفَ رَجُلٍ كَما يَخلُقُ سُبحانَه مِن نَواةٍ واحِدةٍ أَلفَ رِطْلٍ مِنَ التَّمْرِ؛ كذلك أَرْوَى زُهاءَ أَلفٍ مِنَ المُجاهِدِين في سَبِيلِ اللهِ، حِينَما أَصابَهُمُ العَطَشُ، أَرْواهُم بماءٍ مُبارَكٍ كالكَوْثَرِ، إذ أَجْراه سُبحانَه مِن أَصابِعِ قائِدِهِمُ الأَعظَمِ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه علَيْه.. لِذَلِك لم تَصِلْ دَرَجةُ مُعجِزةِ الطَّعامِ والماءِ إلى دَرَجةِ حَنِينِ الجِذْعِ، إلّا أنَّ جِنسَ تَينِك المُعجِزَتَينِ ونَوْعَهُما بحَسَبِ الكُلِّيّةِ مُتَواتِرٌ كتَواتُرِ حَنِينِ الجِذْعِ.
ثمَّ إنَّ كُلَّ فَرْدٍ قد لا يَرَى بَرَكةَ الطَّعامِ وفَوَرانَ الماءِ مِنَ الأَصابعِ بالذّاتِ، بل يَرَى أَثَرَه، ولكِن كلُّ مَن كان في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ قد سَمِعَ بُكاءَ الجِذْعِ، لِذا ذاعَ أَكثَرَ.
[لماذا رويت هذه المعجزة عن بعض الصحابة دون بعض؟]
فإن قِيلَ: إنَّ الصَّحابةَ الكِرامَ رِضْوانُ اللهِ علَيْهِم أَجمَعِين اهتَمُّوا اهتِمامًا بالِغًا بمُلاحَظةِ جَمِيعِ أَحوالِه ﷺ وحَرَكاتِه، ونَقَلُوها بأَمانةٍ واعتِناءٍ، فلِمَ رُوِيَت أَمثالُ هذه المُعجِزةِ العَظِيمةِ بعِشرِينَ طَرِيقًا فَقَط ولم تُرْوَ -في الأَقَلِّ- بمِئةِ طَرِيقٍ؟ ولِمَ جاءَت أَكثَرُ الرِّواياتِ عن أَنَسٍ وجابِرٍ وأبي هُرَيرةَ، ولم يَأْتِ عن طَرِيقِ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ إلّا القَلِيلُ مِنها؟
الجَوابُ: الشِّقُّ الأَوَّلُ مِنَ السُّؤالِ مَضَى جَوابُه في “الأَساسِ الثّالِثِ مِنَ الإِشارةِ الرّابِعةِ”.
أمّا جَوابُ الشِّقِّ الثّاني فهُو: أنَّ الإِنسانَ إذا احتاجَ إلى الدَّواءِ يُراجِعُ الطَّبِيبَ، وإذا احتاجَ إلى بِناءٍ يُراجِعُ المُهَندِسَ، وإذا احتاجَ إلى تَعَلُّمِ مَسأَلةٍ شَرعيّةٍ يَأْتي المُفْتيَ ويَستَفتِيه.. وهكذا، فقد كانَت مُهِمّةُ بَعضِ عُلَماءِ الصَّحابةِ مُنحَصِرةً في حَمْلِ الحَدِيثِ ونَشْرِه ونَقْلِه إلى العُصُورِ الأُخرَى، فكانُوا يَسْعَوْن بكُلِّ ما آتاهُمُ اللهُ مِن قُوّةٍ في هذه الغايةِ؛ فأَبُو هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنهُ كَرَّس جَمِيعَ حَياتِه لِحِفْظِ الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، في الوَقْتِ الَّذي كان عُمَرُ رَضِيَ الله عَنهُ مُنهَمِكًا في حَمْلِ أَعباءِ الخِلافةِ الكُبْرَى وسِياسةِ الدَّوْلةِ؛ لِذا اعتَمَد على هَؤُلاءِ الصَّحابةِ: أبي هُرَيرةَ وأَنسٍ وجابِرٍ وأَمثالِهِم في نَقْلِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ إلى الأُمّةِ، فنَدَرَتِ الرِّوايةُ عنه.
ثمَّ إنَّ الرَّاوِيَ الصَّادِقَ المُصَدَّقَ مِن قِبَلِ الجَمِيعِ يُكتَفَى برِوايَتِه، ولا داعِيَ إلى رِوايةِ غَيرِه، ولِذلك يُنقَلُ بَعضُ الحَوادِثِ المُهِمّةِ بطَرِيقَينِ أو ثَلاثٍ.
[الإشارة الحادية عشرة: معجزات نبوية في الأحجار والجبال]
الإشارة الحاديةَ عَشْرةَ
تُبيِّنُ هذه الإِشارةُ المُعجِزةَ النَّبَوِيّةَ في الأَحجارِ والجِبالِ مِنَ الجَماداتِ كما أَشارَتِ “الإِشارةُ العاشِرةُ” إلى المُعجِزةِ النَّبَوِيّةِ في الأَشجارِ، نَذكُرُ مِن بَينِ أَمثِلَتِها الكَثِيرةِ ثَمانِيةَ أَمثِلةٍ:
[مثال 1: تسبيح الطعام]
المِثالُ الأَوَّلُ: رَوَى البُخارِيُّ وعَلَّامةُ المَغرِبِ القاضي عِياضٌ عنِ ابنِ مَسعُودٍ -خادِمِ النَّبِيِّ ﷺ- أنَّه قالَ: “لقد كُنّا نَسْمَعُ تَسبِيحَ الطَّعامِ وهُو يُؤْكَلُ”.
[مثال 2: تسبيح الحصى]
المِثالُ الثَّاني: وثَبَت كَذلِك عن أَنَسٍ وأبي ذَرٍّ رَضِيَ الله عَنهُما، قال أَنَسٌ: “أَخَذ النَّبِيُّ ﷺ كَفًّا مِن حَصًى، فسَبَّحْنَ في يَدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ حتَّى سَمِعْنا التَّسبِيحَ، ثمَّ صَبَّهُنَّ في يَدِ أبي بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنهُ فسَبَّحْنَ، ثمَّ في أَيدِينا فما سَبَّحْنَ”.
ورَوَى مِثلَه أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ الله عَنهُ وذَكَر أَنَّهُنَّ سَبَّحْنَ في كَفِّ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُ، ثمَّ وَضَعَهُنَّ على الأَرضِ فخَرِسْنَ، ثمَّ أَخَذَهُنَّ ووَضَعَهُنَّ في كَفِّ عُثْمانَ، فسَبَّحْنَ ثمَّ وَضَعَهُنَّ في أَيدِينا فخَرِسْنَ.
[مثال 3: تسبيح الحجر والشجر]
المِثالُ الثَّالث: ثَبَت بنَقْلٍ صَحِيحٍ عن عَلِيٍّ وجابِرٍ وعائِشةَ رَضِيَ الله عَنهُم أنَّه ما كان يَمُرُّ النَّبِيُّ ﷺ بجَبَلٍ ولا حَجَرٍ إلّا قال: السَّلامُ علَيْك يا رَسُولَ اللهِ. ففي رِوايةِ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ قال: “كُنّا بمَكّةَ -في بِدايةِ النُّبوّةِ- معَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فخَرَجَ إلى بَعضِ نَواحِيها، فما اسْتَقبَلَهُ شَجَرةٌ ولا جَبَلٌ إلّا قالَ له: السَّلامُ علَيْك يا رَسُولَ اللهِ”.
وفي رِوايةِ جابِرٍ رَضِيَ الله عَنهُ قال: “لم يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ يَمُرُّ بحَجَرٍ ولا شَجَرٍ إلّا سَجَدَ لَه” أي: كُلٌّ مِنهُما يَنقادُ لَه ويقُولُ: السَّلامُ علَيْك يا رَسُولَ اللهِ.
وفي رِوايةٍ أُخرَى “عن جابِرِ بنِ سَمُرةَ رَضِيَ الله عَنهُ عنِ النَّبِيِّ ﷺ: إنِّي لَأَعرِفُ حَجَرًا كان يُسَلِّمُ عَلَيَّ” أي: قَبلَ أن أُبعَثَ، “قِيلَ: إنَّه إِشارةٌ إلى الحَجَرِ الأَسوَدِ”.
“وعن عائِشةَ رَضِيَ الله عَنهَا قالَت: قال النَّبِيُّ ﷺ: لَمَّا استَقْبَلَني جِبْرِيلُ بالرِّسالةِ جَعَلتُ لا أَمُرُّ بحَجَرٍ ولا شَجَرٍ إلّا قال: السَّلامُ علَيْك يا رَسُولَ اللهِ”.
[مثال 4: تأمين أركان البيت على دعائه ﷺ]
المِثالُ الرَّابع: “وفي حَدِيثِ العَبَّاسِ رَضِيَ الله عَنهُ إذِ اشتَمَلَ علَيْه النَّبِيُّ ﷺ وعلى بَنِيه” وهُم عَبدُ اللهِ وعُبَيدُ اللهِ والفَضْلُ وقُثَمُ “بمُلاءةٍ، ودَعا لَهُم بالسَّتر مِنَ النّارِ” إذ قال: يا رَبِّ هذا عَمِّي وصِنْوُ أَبي، وهَؤُلاءِ بَنُوه، فاسْتُرْهُم مِنَ النّارِ كسَتْرِي إيّاهم بمَلاءَتي. “فأَمَّنَت أُسْكُفّةُ البابِ وحَوائِطُ البَيتِ: آمِينَ آمِينَ”، واشْتَرَكْنَ في الدُّعاءِ.
[مثال 5: اهتزاز الجبل فرحًا به ﷺ]
المِثالُ الخامس: رَوَتِ الكُتُبُ الصِّحاحُ مُتَّفِقةً وفي المُقدِّمةِ البُخارِيُّ وابنُ حِبّانَ وأبو داوُدَ والتِّرمِذِيُّ عن أَنَسٍ وأبي هُرَيرةَ وعن عُثْمانَ ذِي النُّورَينِ وسَعِيدِ ابنِ زَيدٍ أَحَدِ العَشَرةِ المُبَشَّرِينَ بالجَنّةِ أنَّه: “صَعِدَ النَّبِيُّ ﷺ وأَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ أُحُدًا، فرَجَفَ بهم” مِن مَهابَتِهِم أو مِن سُرُورِه وفَرَحِه، “فقال: اُثبُتْ يا أُحُدُ، فإنَّما علَيْك نَبِيٌّ وصِدِّيقٌ وشَهِيدانِ”. فبِهَذا الحَدِيثِ يُنبِئُ ﷺ عن شَهادةِ عُمَرَ وعُثْمانَ إِخبارًا غَيْبِيًّا.
وقد نُقِلَ -تَتِمّةً لِهذا المِثالِ- أنَّه لَمّا هاجَرَ الرَّسُولُ ﷺ مِن مَكّةَ وطَلَبَه كُفّارُ قُرَيشٍ صَعِدَ على جَبَلِ ثَبِيرٍ، “قالَ لَه ثَبِيرٌ: اِهْبِطْ يا رَسُولَ اللهِ، فإنِّي أَخافُ أن يَقتُلُوك على ظَهْرِي فيُعَذِّبَني اللهُ. فقالَ لَه حِراءٌ: يا رَسُولَ اللهِ إِليَّ”.
مِن هَذا يَستَشعِرُ أَهلُ القَلْبِ والصَّلاحِ الخَوْفَ في “ثَبِيرٍ”، والأَمْنَ والِاطْمِئْنانَ في “حِراءٍ”.
يُفهَمُ مِن مَجمُوعِ هذه الأَمثِلةِ أنَّ الجِبالَ العَظِيمةَ مَأْمُورةٌ ومُنْقادةٌ كأيِّ فَردٍ مِنَ الأَفرادِ. وهيَ كأَيِّ عَبدٍ مَخلُوقٍ تُسَبِّحُ اللهَ تَعالَى ولَها وَظِيفةٌ خاصّةٌ بها، وأنَّها تَعرِفُ النَّبِيَّ ﷺ وتُحِبُّه.. فما خُلِقَتِ الجِبالُ باطِلًا.
[مثال 6: ارتجاف المنبر به ﷺ]
المِثالُ السَّادس: “ورَوَى ابنُ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُما: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ على المِنبَرِ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ،﴾ ثمَّ قال: يُمَجِّدُ الجَبَّارُ نَفسَه يقُولُ: أنا الجَبَّارُ، أنا الجَبَّارُ، أنا الكَبِيرُ المُتَعالِ. فرَجَفَ المِنبَرُ حتَّى قُلْنا: لَيَخِرَّنَّ عنه”.
[مثال 7: تهاوي الأصنام بإشارةٍ من يده ﷺ]
المِثالُ السَّابع: عن حَبْرِ الأُمّةِ وتَرجُمانِ القُرآنِ ابنِ عَبّاسٍ رَضِيَ الله عَنهُما، وعنِ ابنِ مَسعُودٍ رَضِيَ الله عَنهُ -مِن عُلَماءِ الصَّحابةِ- رِضْوانُ اللهِ علَيْهِم أَجمَعِينَ، أنَّه قالَ: “كانَ حَوْلَ البَيتِ سِتُّون وثَلاثُ مِئةِ صَنَمٍ مُثْبَتةُ الأَرجُلِ بالرَّصاصِ في الحِجارةِ، فلَمَّا دَخَل رَسُولُ اللهِ ﷺ المَسجِدَ عامَ الفَتْحِ جَعَل يُشِيرُ بقَضِيبٍ في يَدِه إلَيْها ولا يَمَسُّها، ويقُولُ: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا،﴾ فما أَشارَ إلى وَجْهِ صَنَمٍ إلّا وَقَع لِقَفاه، ولا لِقَفاه إلّا وَقَع لِوَجْهِه، حتَّى ما بَقِي مِنها صَنَمٌ”.
[مثال: سجود الحجر والشجر له ﷺ]
المِثالُ الثَّامن: هو قِصَّةُ بَحِيراءَ الرّاهِبِ المَشهُورةُ وهي: “أنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَج قَبلَ البِعْثةِ معَ عَمِّه أبي طالِبٍ وجَماعةٍ مِن قُرَيشٍ إلى نَواحِي الشَّامِ؛ ولَمّا وَصَلُوا إلى جِوارِ كَنِيسةِ الرَّاهِبِ جَلَسُوا هُناك”، وكان الرَّاهِبُ لا يَخرُجُ إلى أَحَدٍ، فخَرَج وجَعَل يَتَخَلَّلُهم، حتَّى أَخَذ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فقالَ: “هذا سَيِّدُ العالَمِينَ، يَبعَثُه اللهُ رَحْمةً لِلعالَمِينَ”، فقالَ لَه أَشياخٌ مِن قُرَيشٍ: ما عِلمُك؟ فقال: “إنَّه لم يَبْقَ شَجَرٌ ولا حَجَرٌ إلّا خَرَّ ساجِدًا لَه، ولا يَسجُدُ إلّا لِنَبِيٍّ”، “ثمَّ قالَ: وأَقْبَلَ ﷺ وعلَيْه غَمامةٌ تُظِلُّه، فلَمّا دَنا مِنَ القَوْمِ وَجَدَهُم سَبَقُوه إلى فَيْءِ الشَّجَرةِ، فلَمّا جَلَس مالَ الفَيْءُ إلَيْه”.
وهكذا، فهُنالِكَ ثَمانُون مِثالًا كهَذِه الأَمثِلةِ الثَّمانِيةِ، فلو وُحِّدَت هذه الأَمثِلةُ الثَّمانِيةُ لَأَصبَحَتْ قَوِيّةً لا يُمكِنُ أن تَنالَ مِنها شُبْهةٌ مَهْما كانَت.
فهذا النَّوعُ مِنَ المُعجِزاتِ -أي: تَكَلُّمُ الجَماداتِ- يُشَكِّلُ دَلِيلًا جازِمًا على إِثباتِ دَعْوَى النُّبوّةِ، وهُو في حُكْمِ التَّواتُرِ مِن حَيثُ المَعنَى؛ فكُلُّ مِثالٍ يَستَمِدُّ قُوّةً أُخرَى مِن قُوّةِ الجَمِيعِ تَفُوقُ قُوَّتَه الفَرْدِيّةَ. مَثَلُه في هَذا مَثَلُ رَجُلٍ ضَعِيفٍ انخَرَطَ في سِلْكِ الجَيشِ، فيَتَقَوَّى حتَّى يَستَطِيعُ أن يَتَحَدَّى أَلْفًا مِنَ الرِّجالِ، أو كعَمُودٍ ضَعِيفٍ لو ضُمَّ معَ أَعمِدةٍ قَوِيّةٍ يَتَقَوَّى.
[الإشارة الثانية عشرة: أمثلة مرتبطة بالإشارة الحادية عشرة]
الإشارةُ الثانيةَ عَشْرةَ
أَمثِلةٌ ثَلاثةٌ مُهِمّةٌ تَرتَبِطُ بالإِشارةِ الحادِيةَ عَشْرةَ:
[مثال 1: وما رميتَ إذْ رميتَ ولكن الله رمى]
المِثالُ الأوَّلُ: تُصَرِّحُ الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ بنَصِّها القاطِعِ وبتَحقِيقِ عُمُومِ المُفَسِّرِينَ العُلَماءِ وأَئِمّةِ الحَدِيثِ: أنَّ الرَّسُولَ ﷺ أَخَذ في غَزْوةِ بَدْرٍ قَبْضةً مِن تُرابٍ وحَصَيَاتٍ ورَماها في وُجُوهِ جَيشِ الكُفّارِ وقال: “شاهَتِ الوُجُوهُ”، فدَخَلَت تلك القَبْضةُ مِنَ التُّرابِ في أَعيُنِ كُلِّ المُشرِكِينَ، مِثلَما وَصَلَت كَلِمةُ “شاهَتِ الوُجُوهُ” إلى آذانِ كُلٍّ مِنهُم، فصارُوا يُعالِجُونَ عُيُونَهُم مِنَ التُّرابِ، ففَرُّوا بَعدَما كانُوا في حالةِ كَرٍّ على المُسلِمِينَ.
ويَروِي الإِمامُ مُسلِمٌ: أنَّ الكُفَّارَ في غَزْوةِ حُنَينٍ عِندَما كانُوا يَصُولُون على المُسلِمِينَ، أَخَذ النَّبِيُّ ﷺ قَبْضةً مِن تُرابٍ ورَمَى بها في وُجُوهِ المُشرِكِين، وقال: “شاهَتِ الوُجُوهُ”، فما مِن أَحَدٍ مِنهُم إلّا مَلَأَ عَيْنَيه -بإِذنِ اللهِ- تُرابٌ كما سَمِعَت أُذُنُه هذه الكَلِمةَ، فوَلَّوْا مُدْبِرِين. فهذه الحادِثةُ الخارِقةُ لِلعادةِ قد وَقَعَت في بَدْرٍ وحُنَينٍ، فهي حادِثةٌ تَفُوقُ طاقةَ البَشَرِ، كما أنَّها لا يُمكِنُ إِسنادُها إلى الأَسبابِ العادِيّةِ، لِذا قال تَعالَى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾، أي إنَّها حادِثةٌ نابِعةٌ مِن قُدْرةٍ إلٰهِيّةٍ مَحْضةٍ.
[مثال 2: حادثة الشاة المسمومة]
المِثالُ الثّاني: تَذكُرُ كُتُبُ أَئِمّةِ الحَدِيثِ وفي مُقَدِّمَتِها البُخارِيُّ ومُسلِمٌ: “أنَّ يَهُودِيّةً -واسمُها زَينَبُ بِنتُ الحارِثِ- أَهْدَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ بخَيْبَرَ شاةً مَصْلِيّةً سَمَّمَتْها، فأَكَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنها، وأَكَل القَوْمُ، فقالَ: ارْفَعُوا أَيدِيَكُم، فإنَّها أَخبَرَتْني أنَّها مَسمُومةٌ. فرَفَع الجَمِيعُ أَيدِيهِم، إلّا أنَّ بِشْرَ بنَ البَراءِ ماتَ مِن أَثَرِ السُّمِّ، فدَعا ﷺ اليَهُودِيّةَ وقالَ لَها: “ما حَمَلَكِ على ما صَنَعْتِ؟” قالَت: إن كُنتَ نَبِيًّا لم يَضُرَّك الَّذي صَنَعتُ، وإن كُنتَ مَلِكًا أَرَحْتُ النّاسَ مِنك. فأَمَرَ بها فقُتِلَتْ”، وفي بَعضِ الرِّواياتِ أنَّه لم يَأْمُرْ بقَتْلِها. قال العُلَماءُ المُحَقِّقُون: لم يَأْمُر بقَتْلِها، بل دَفَعَها لِأَوْلياءِ بِشرِ بنِ البَراءِ، فقَتَلُوها.
فاسْتَمِعِ الآنَ إلى هذه النِّقاطِ الثَّلاثِ لِبَيانِ إِعجازِ هذه الحادِثةِ:
النُّقطةُ الأُولَى: جاءَ في إِحْدَى الرِّواياتِ: أنَّ عَدَدًا مِنَ الصَّحابةِ سَمِعُوا قَوْلَها حِينَما أَخبَرَتِ الشّاةُ أنَّها مَسمُومةٌ.
النُّقطةُ الثَّانية: وفي رِوايةٍ أُخرَى أنَّه بَعدَما أَخبَرَ الرَّسُولُ ﷺ عنِ القَضِيّةِ قال: قُولُوا: بِاسمِ اللهِ، ثمَّ كُلُوا، فإنَّه لا يَضُرُّ السُّمُّ بَعدَه. هذه الرِّوايةُ وإن لم يَقْبَلْها ابنُ حَجَرٍ العَسْقَلانِيُّ، إلّا أنَّ عُلَماءَ آخَرِينَ قَبِلُوها.
النُّقطةُ الثَّالثة: لَقدِ اطْمَأَنَّ كُلُّ مَن سَمِعَ كَلامَه ﷺ: “إنَّها أَخبَرَتْني بأَنِّي مَسمُومةٌ” وكأَنَّه سَمِعَه بنَفسِه، إذ لم يُسْمَعْ مِنه ﷺ قَوْلٌ مُخالِفٌ لِلواقِعِ قَطُّ، وهذه واحِدةٌ مِنه؛ فبَينَما يُبيِّتُ اليَهُودُ الكَيْدَ لِيُنزِلُوا ضَرْبتَهُمُ القاضِيةَ بالرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ وصَحْبِه الكِرامِ رِضْوانُ اللهِ علَيْهِم، إذا بالمُؤامَرةِ تَنكَشِفُ على إِثرِ خَبَرٍ مِنَ الغَيبِ، وتُبطِلُ الدَّسِيسةَ والمَكْرَ السَّيِّئَ، ويَقَعُ الخَبَرُ كما أَخبَرَ عَنه ﷺ.
[مثال 3: معجزة يده وعصاه ﷺ]
المِثالُ الثّالث: هو مُعجِزةُ الرَّسُولِ ﷺ في ثَلاثِ حَوادِثَ تُشْبِهُ مُعجِزةَ سَيِّدِنا مُوسَى عَليهِ السَّلام، في مُعجِزةِ يَدِه البَيضاءِ وعَصاه.
الحادِثةُ الأُولَى: أَخرَجَ الإِمامُ أَحمَدُ الحَدِيثَ الصَّحِيحَ عن أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ الله عَنهُ: أنَّ الرَّسُولَ ﷺ “أَعطَى قَتادةَ بنَ النُّعمانِ -وصَلَّى مَعَه العِشاءَ- في لَيْلةٍ مُظلِمةٍ مَطِرةٍ عُرْجُونًا، وقال: انْطَلِقْ بِه فإنَّه سيُضِيءُ لَك مِن بَينِ يَدَيْك عَشْرًا، ومِن خَلْفِك عَشْرًا؛ فإِذا دَخَلْتَ بَيْتَك فسَتَرَى سَوادًا فاضْرِبْه حتَّى يَخرُجَ، فإنَّه الشَّيْطانُ. فانْطَلَق، فأَضاءَ لَه العُرْجُونُ (كاليَدِ البَيْضاءِ) حتَّى دَخَل بَيْتَه ووَجَد السَّوادَ فضَرَبَه حتَّى خَرَج”.
الحادِثةُ الثَّانيةُ: انْقَطَع سَيْفُ عُكَّاشةَ بنِ مِحْصَنٍ الأَسَدِيِّ وهُو يُقاتِلُ به في غَزْوةِ بَدْرٍ الكُبْرَى -تلك المَعرَكةِ الَّتي هي مَنبَعُ الغَرائِبِ- فأَعطاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ جَذْلًا مِن حَطَبٍ -أي: عُودًا غَلِيظًا- “وقال: اضْرِبْ به. فعادَ في يَدِه سَيْفًا صارِمًا طَوِيلَ القامةِ أَبْيضَ شَدِيدَ المَتْنِ، فقاتَلَ به، ثمَّ لم يَزَلْ عِندَه يَشهَدُ به المَواقِفَ إلى أنِ استُشهِدَ في قِتالِ أَهلِ الرِّدّةِ” في اليَمامةِ.
هذه الحادِثةُ ثابِتةٌ قَطْعًا، وكان عُكّاشةُ يَفتَخِرُ بذَلِك السَّيفِ طَوالَ حَياتِه، وكان السَّيفُ يُسَمَّى بـ”العَوْنِ”، فاشْتِهارُ السَّيفِ بـ”العَوْنِ” وافتِخارُ عُكّاشةَ به حُجَّتانِ أَيضًا على ثُبُوتِ الحادِثةِ.
الحادِثةُ الثَّالثةُ: رَوَى ابنُ عَبدِ البَرِّ وهُو مِن أَعلامِ عَصْرِه مِن بَينِ العُلَماءِ المُحَقِّقِين: أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ جَحْشٍ ابنَ عَمّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ “وقد ذَهَب سَيْفُه” في غَزْوةِ أُحُدٍ وهُو يُحارِبُ، فأَعطاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ “عَسِيبَ نَخْلٍ، فرَجَعَ في يَدِه سَيْفًا”.
يقُولُ ابنُ سَيِّدِ النَّاسِ في “سِيَرِه”: فبَقِي هذا السَّيفُ مُدّةً ولم يَزَل يُتَناقَلُ حتَّى بِيعَ إلى شَخْصٍ يُدْعَى بُغاءُ التُّركيُّ بمِئَتَيْ دِينارٍ.
فهذانِ السَّيْفانِ مُعجِزَتان كمُعجِزةِ عَصا مُوسَى، إلّا أنَّه لم يَبْقَ وَجهُ الإِعجازِ لِعَصا مُوسَى بَعدَ وَفاتِه عَليهِ السَّلام، وبَقِي هذانِ السَّيْفانِ مُعجِزَتَينِ بعدَ وَفاتِه ﷺ.
[الإشارة الثالثة عشرة: شفاء المرضى بنَفْثِه المبارك ﷺ]
الإشارةُ الثَّالثةَ عَشْرةَ
ومِن مُعجِزاتِه ﷺ: شِفاءُ المَرضَى والجَرْحَى بنَفْثِه المُبارَكِ، وهذا النَّوعُ مِنَ المُعجِزاتِ مُتَواتِرٌ مَعنَوِيٌّ -مِن حَيثُ النَّوعُ- أَمّا جُزئيّاتُها فقِسْمٌ مِنها بحُكْمِ المُتَواتِرِ المَعنَوِيِّ، وقِسمٌ آخَرُ آحادِيٌّ، إلّا أنَّه يُورِثُ القَناعةَ العِلْمِيّةَ والِاطمِئْنانَ، وذلك لِتَوثِيقِ العُلَماءِ لَه وتَصحِيحِ أَئِمّةِ الحَدِيثِ.
سنَذكُرُ مِن أَمثِلةِ هذا النَّوعِ مِنَ المُعجِزاتِ بِضْعةَ أَمثِلةٍ فَقَط مِن بَينِ أَمثِلَتِها الغَزِيرةِ.
[مثال 1: سيدنا سعد بن أبي وقاص وقتادة]
المِثالُ الأوَّلُ: يَرْوِي القاضِي عِياضٌ عن سَعْدِ بنِ أبي وَقّاصٍ وهُو مِنَ العَشَرةِ المُبَشَّرِينَ بالجَنّةِ وتَوَلَّى خِدْمةَ النَّبِيِّ ﷺ، وأَصبَحَ أَحَدَ قُوَّادِه، وقادَ جَيشَ الإِسلامِ في عَهْدِ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ رَضِيَ الله عَنهُ، أنَّه قال: “إنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَيُناوِلُني السَّهْمَ لا نَصْلَ لَهُ، فيَقُولُ: اِرْمِ به. وقد رَمَى رَسُولُ الله ﷺ يَوْمَئذٍ عن قَوْسِه حتَّى انْدَقَّت” كان ذلك في غَزْوةِ أُحُدٍ، وكانَتِ السِّهامُ الَّتي لا نَصْلَ لَها تَمرُقُ كالمُرَيَّشةِ وتَثبُتُ في جَسَدِ الكُفّارِ.
وقالَ أَيضًا: “وأُصِيبَت يَوْمَئِذٍ عَينُ قَتادةَ (بنِ النُّعمانِ) حتَّى وَقَعَتْ على وَجْنَتِه، فرَدَّها رَسُولُ اللهِ ﷺ” بِيَدِه المُبارَكةِ الشّافِيةِ “فكانَت أَحسَنَ عَيْنَيه”، واشْتَهَرَت هذه الحادِثةُ حتَّى إنَّ أَحَدَ أَحفادِ قَتادةَ حِينَما جاءَ إلى عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزِيزِ عَرَّفَ نَفسَه بإِنشادِه الأَبياتَ الآتِيةَ:
أنا ابنُ الَّذي سَالَت على الخَدِّ عَيْنُه ٭ فرُدَّتْ بكَفِّ المُصْطَفَى أَحسَنَ الرَّدِّ
فعادَت كَما كانَت لِأَوَّلِ أَمْرِها ٭ فيا حُسْنَ ما عَيْنٍ ويا حُسْنَ ما رَدِّ
وثَبَت أَيضًا: أنَّه جَعَل رِيقَه على جِراحةٍ: “أَثَرِ سَهْمٍ في وَجْهِ أَبي قَتادةَ في يَوْمِ ذِي قَرَدٍ قال: فما ضَرَب عَلَيّ ولا قاحَ” إذ مَسَحَه رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدِه المُبارَكةِ.
[مثال 2: سيدنا علي وسلمة بن الأكوع]
المِثالُ الثّاني: رَوَى البُخارِيُّ ومُسلِمٌ وغَيرُهُما: أنَّ الرَّسُولَ ﷺ أَعطَى الرّايةَ عَلِيًّا يَومَ خَيْبَرَ، وكانَ رَمِدًا، فلَمّا تَفَلَ في عَيْنِه أَصبَحَ تِرْياقًا لِعَيْنِه، فبَرِئَت بإِذنِ اللهِ.
ولَمّا جاءَ الغَدُ أَخَذ عَلِيٌّ بابَ القَلْعةِ وهُو مِن حَدِيدٍ، وكأَنَّه تُرْسٌ في يَدِه، وفَتَحَ القَلْعةَ.
“ونَفَثَ على ضَرْبةٍ بساقِ سَلَمةَ بنِ الأَكْوَعِ يَوْمَ خَيْبَرَ، فبَرِئَت”.
[مثال 3: كشف البصر لأعمى]
المِثالُ الثّالثُ: “رَوَى النَّسائيُّ عن عُثْمانَ بنِ حُنَيفٍ: أنَّ أَعمَى أَتَى إلى رَسُولِ الله ﷺ، فقال: يا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أنْ يَكشِفَ لي عن بَصَرِي. قال: أوْ أَدَعُك؟ قال: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّه قد شَقَّ عَلَيَّ ذَهابُ بَصَرِي. قال: فانْطَلِقْ وتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكعَتَينِ وقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسأَلُك وأَتَوجَّهُ إلَيْك بنَبِيِّي مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمةِ، يا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوجَّهُ إلى رَبِّك بِك، أن يَكْشِفَ لي عن بَصَرِي، اللَّهُمَّ شَفِّعْه فِيَّ”، فرَجَعَ وقد كَشَفَ اللهُ عن بَصَرِه.
[مثال 4: سيدنا معوذ وخبيب]
المِثالُ الرَّابع: “قَطَع أَبُو جَهْلٍ يَومَ بَدْرٍ يَدَ مُعَوَّذِ ابنِ عَفْراءَ” أَحَدِ الأَربَعةَ عَشَرَ الَّذِين استُشهِدُوا في بَدْرٍ، “فجاءَ يَحمِلُ يَدَه فبَصَقَ علَيْها رَسُولُ اللهِ ﷺ وأَلصَقَها فلَصِقَتْ، رَواهُ ابنُ وَهْبٍ” وهُو مِن أَئِمّةِ الحَدِيثِ، ثمَّ عادَ إلى القِتالِ فقاتَلَ حتَّى استُشهِدَ.
“ومِن رِوايَتِه أَيضًا: أن خُبَيبَ بنَ يَسافٍ أُصِيبَ يَومَ بَدْرٍ معَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، بضَرْبةٍ على عاتِقِه حتَّى مالَ شِقُّه، فرَدَّه رَسُولُ اللهِ ﷺ، ونَفَثَ علَيْه حتَّى صَحَّ”.
فهاتانِ الحادِثَتانِ وإن كانَتا آحادِيّةً إلّا أنَّ تَصحِيحَ الإِمامِ الجَلِيلِ ابنِ وَهْبٍ لَهُما، وكَوْنَ وُقُوعِهِما في مَنبَعِ المُعجِزاتِ: بَدْرٍ، ولِوُجُودِ شَواهِدَ كَثِيرةٍ مِن أَمثالِهِما يَجعَلُهُما لا يَشُكُّ أَحَدٌ في وُقُوعِهِما.
وهكذا، هُنالِك أَلفُ مِثالٍ ومِثالٍ قد ثَبَتَ بالأَحادِيثِ الصَّحِيحةِ: أنَّ يَدَ الرَّسُولِ الأَعظَمِ ﷺ أَصبَحَت شِفاءً ودَواءً لِذَوِي العاهاتِ والمَرْضَى.
[قطعةٌ من السيرة تُسطر بماء الذهب]
لو سُطِّرَت هذه القِطعةُ بماءِ الذَّهَب ورُصِّعَت بالأَلماسِ.. لَكانَت جَدِيرةً
حَقًّا! وكما مَرَّ سابِقًا: إنَّ تَسبِيحَ الحَصَى وخُشُوعَه في كَفِّه ﷺ.
وتَحَوُّلَ التُّرابِ والحَصَيَاتِ فيها كقَذائِفَ في وُجُوهِ الأَعداءِ حتَّى وَلَّوْا مُدْبِرِينَ بقَوْلِه تَعالَى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾.
وانفِلاقَ القَمَرِ فِلْقَتَينِ بأُصبُع مِنَ الكَفِّ نَفسِها كما هُو نَصُّ القُرآنِ الكَرِيمِ: ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾.
وفَوَرانَ الماءِ كعَينٍ جارِيةٍ مِن بَينِ الأَصابِعِ العَشَرةِ وارْتِواءَ الجَيشِ مِنه.
وكَوْنَ تلك اليَدِ بَلْسَمًا لِلجَرْحَى وشِفاءً للمَرْضَى.
لَيُبيِّنُ بجَلاءٍ: مَدَى بَرَكةِ تلك اليَدِ الشَّرِيفةِ.. ومَدَى كَوْنِها مُعجِزةَ قُدرةٍ إلٰهِيّةٍ عَظِيمة؛ لَكَأَنَّ كَفَّ تلك اليَدِ:
زَاوِيةُ ذِكْرٍ سُبْحانيّةٌ صَغِيرةٌ بَينَ الأَحبابِ، لو دَخَلَها الحَصَى لَسَبَّحَ وذَكَر..
وتِرْسانةٌ رَبّانيّةٌ صَغِيرةٌ تِجاهَ الأَعداءِ، لو دَخَلَها التُّرابُ لَتَطايَرَ تَطايُرَ القَنابِلِ..
وتَعُودُ صَيدَليّةً رَحْمانِيّةً صَغِيرةً لِلمَرْضَى والجَرْحَى، لَو لامَسَتْ داءً لَغَدَتْ له شِفاءً..
وحِينَما تَنهَضُ تلك اليَدُ تَنهَضُ بجَلالٍ فتَشُقُّ القَمَرَ شِقَّينِ بأُصبُعٍ مِنها.
وإذا الْتَفَتَتِ الْتِفاتةَ جَمالٍ فجَّرَتْ يَنبُوعَ رَحْمةٍ يَدْفُقُ مِن عَشْرِ عُيُونٍ تَجْرِي كالكَوْثَرِ السَّلسَبِيلِ
فلَئِن كانَت يَدُ هذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ ﷺ مَوْضِعَ مُعجِزاتٍ باهِرةٍ إلى هذا الحَدِّ.. ألا يُدرَكُ بَداهةً: مَدَى حُظْوَتِه عِندَ رَبِّه.. مَبْلغُ صِدْقِه في دَعْوَتِه.. ومَدَى سَعادةِ أُولَئِك الَّذين بايَعُوا تلك اليَدَ المُبارَكةَ؟
[سؤال: روايات متواترة ولكن لم نسمع بها من قبل!]
سؤالٌ: إنَّك تَقُولُ في كَثِيرٍ مِنَ الرِّواياتِ أنَّها مُتَواتِرةٌ، بَينَما لم نَسمَعْ بها إلّا الآنَ! فهل يُجْهَلُ التَّواتُرُ إلى هذا الحَدِّ؟
الجَوابُ: هُنالِك أُمُورٌ كَثِيرةٌ مُتَواتِرةٌ لَدَى عُلَماءِ الشَّرعِ، بَينَما هي مَجهُولةٌ لَدَى غَيرِهم، فلَدَى عُلَماءِ الحَدِيثِ مِنَ الأَحادِيثِ المُتَواترةِ ما لا يُعرَفُ إلّا بالآحادِ لَدَى سِواهُم.. وهكذا، فبَدِيهِيّاتُ كُلِّ عِلمٍ ونَظَرِيّاتُه إنَّما تُبيَّنُ حَسَبَ ما تَواضَعَ علَيْه أَهلُ اختِصاصِ ذلك العِلمِ؛ أمّا بَقِيّةُ النّاسِ فهُم يَعتَمِدُون علَيْهِم في ذلك العِلمِ. فإمّا أنَّهم يَستَسْلِمُون لِقَوْلِهم، أو يَعكُفُون على دِراسةِ ذلك العِلمِ فيَجِدُونَ ما وَجَدُوه.
فما أَخْبَرْنا عنه مِنَ المُتَواتِرِ الحَقِيقيِّ أوِ المَعنَوِيِّ، أو ما هُو بحُكْمِ المُتَواتِرِ مِنَ الحَوادِثِ، قد بَيَّنَ حُكْمَه رِجالُ الحَدِيثِ، وعُلَماءُ الشَّرِيعةِ وعُلَماءُ الأُصُولِ، وأَغلَبُ العُلَماءِ الآخَرِينَ؛ فإذا جَهِلَه العَوامُّ الغافِلُون، أو مَن يُغمِضُ عَيْنَه عنِ العِلمِ مِنَ الجُهّالِ، فلا يَقَعُ اللَّوْمُ إلّا علَيْهِم.
[مثال 5: سيدنا علي]
المِثالُ الخامِس: أَخرَجَ الإمامُ البَغَوِيُّ: أُصِيبَت “ساقُ عَلِيِّ بنِ الحَكَمِ يَوْمَ الخَندَقِ إذِ انكَسَرَت” فمَسَحَها رَسُولُ اللهِ ﷺ “فبَرِئَ مَكانَه، وما نَزَل عن فَرَسِه”.
[مثال 6: سيدنا علي]
المِثالُ السّادِس: رَوَى البَيهَقِيُّ وغَيرُه: “اشْتَكَى عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ، فجَعَلَ يَدْعُو، فقالَ النَّبِيُّ ﷺ: اللَّهُمَّ اشْفِه أو عافِه. ثمَّ ضَرَبَه برِجْلِه، فما اشْتَكَى ذلك الوَجَعَ بَعدُ”.
[مثال 7: شرحبيل الجعفي]
المِثالُ السّابعُ: “كانَت في كَفِّ شُرَحْبِيلَ الجُعْفِيِّ سِلْعةٌ تَمنَعُه القَبْضَ على السَّيفِ وعَنانِ الدّابّةِ فشكاها لِلنَّبِيِّ ﷺ، فما زالَ يَطْحَنُها بكَفِّه حتَّى رَفَعَها ولم يَبْقَ لَها أَثَرٌ”.
[مثال 8: ستة أطفال من صغار الصحابة]
المِثالُ الثَّامن: سِتّةٌ مِنَ الأَطفالِ نالُوا -كُلٌّ على حِدَةٍ- مُعجِزةً مِن مُعجِزاتِ الرَّسُولِ الأَكرَمِ ﷺ.
الأوَّل: رَوَى ابنُ أبي شَيْبةَ -وهُو مِن أَئِمّةِ الحَدِيثِ- أنَّه: “أَتَتْه ﷺ امْرَأةٌ مِن خَثْعَمَ مَعَها صَبِيٌ به بَلاءٌ لا يَتَكلَّمُ، فأُتِي بماءٍ، فمَضْمَضَ فاهُ وغَسَل يَدَيه، ثمَّ أَعطاها إيّاه، وأَمَرَها بسَقْيِه ومَسِّه به، فبَرَأَ الغُلامُ وعَقَلَ عَقْلًا يَفْضُلُ عُقُولَ النّاسِ”.
الثَّاني: “وعنِ ابنِ عَبّاسٍ: جاءَتِ امْرَأةٌ بابنٍ لَها به جُنُونٌ، فمَسَح ﷺ صَدْرَه فثَعَّ ثَعَّةً فخَرَج مِن جَوْفِه مِثلُ الجَرْوِ الأَسْوَدِ” -شَيءٌ أَسوَدُ كالخِيارِ الصَّغِيرِ- فشُفِيَ.
الثَّالثُ: رَوَى الإِمامُ البَيهَقِيُّ والنَّسائيُّ: “انكَفَأَتِ القِدْرُ على ذِراعِ مُحَمَّدِ ابنِ حاطِبٍ وهُو طِفْلٌ، فمَسَحَ علَيْه ﷺ ودَعا له”، ونَفَخَ نَفْخًا فيه رِيقُه الشَّرِيفُ فبَرَأَ لِحِينِه.
الرَّابع: “أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُتِيَ بصَبِيٍّ قد شَبَّ” أي: كَبِرَ “لم يَتَكلَّم قَطُّ، فقال: مَن أَنا؟ فقال: أَنتَ رَسُولُ اللهِ”، فأَنطَقَه اللهُ.
الخَامسُ: أَخرَجَ إِمامُ العَصْرِ جَلالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ -الَّذي تَشَرَّف في اليَقَظةِ برُؤْيةِ النَّبِيِّ ﷺ مِرارًا- أنَّه: جاءَ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَجُلٌ مِن أَهلِ اليَمامةِ بغُلامٍ يَوْمَ وُلِدَ، فقال لَه رَسُولُ اللهِ ﷺ: يا غُلامُ مَن أَنا؟ فقال: أَشهَدُ أنَّك رَسُولُ اللهِ. قال: صَدَقْتَ بارَكَ اللهُ فيك. ثمَّ إنَّ الغُلامَ لم يَتَكلَّمْ حتَّى شَبَّ، فكان يُسمَّى بـ”مُبارَكِ اليَمامةِ” لِدُعاءِ النَّبِيِّ ﷺ لَه بالبَرَكةِ.
السَّادسُ: دَعا على صَبِيٍّ خَشِنِ الطَّبْعِ قَطَعَ علَيْه الصَّلاةَ: “اللَّهُمَّ اقْطَعْ أَثَرَه”، ونالَ جَزاءَ فَظاظَتِه.
السَّابعُ: “سَأَلَتْه جارِيةٌ طَعامًا وهُو يَأْكُلُ، فناوَلَها مِن بَينِ يَدَيْه، وكانَت قَلِيلةَ الحَياءِ، فقالَت: إنَّما أُرِيدُ مِنَ الَّذي في فِيكَ، فناوَلَها ما في فِيه، ولم يَكُن يُسأَلُ شَيْئًا فيَمْنَعَه. فلَمّا استَقَرَّ في جَوْفِها أُلْقِيَ علَيْها مِنَ الحَياءِ ما لم تَكُنِ امْرَأةٌ بالمَدِينةِ أَشَدَّ حَياءً مِنها”.
وهكذا، ثمّةَ أَمثِلةٌ غَزِيرةٌ تَربُو على الثَّمانِ مِئةِ مِثالٍ، كالَّتي ذَكَرْناها، وقد بَيَّنَت كُتُبُ الأَحادِيثِ والسِّيَرِ مُعْظَمَها.
[كونه ﷺ شفاءً لمن قصَدَه]
نعم، لَمّا كانَتِ اليَدُ المُبارَكةُ لِلرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ كصَيدِليّةِ لُقْمانَ الحَكِيمِ، وبُصاقُه كماءِ عَينِ الحَياةِ لِلخَضِرِ عَليهِ السَّلام، ونَفثُه كنَفْثِ عِيسَى عَليهِ السَّلام في الشِّفاءِ، وأنَّ بَنِي البَشَرِ يَتَعرَّضُونَ لِلمَصائِبِ والبَلايا، فلا رَيْبَ أنَّه قد أَتَى إلَيْه ما لا يُحَدُّ مِنَ المَرْضَى والصِّبْيانِ والمَجانِينِ، ولا شَكَّ أنَّهُم قد شُفُوا جَمِيعًا مِن أَمراضِهِم وعاهاتِهِم؛ حتَّى إنَّ طاوُوسًا اليَمانِيَ وهُو مِن أَئِمّةِ التّابِعِينَ المَشهُورَ بزُهْدِه وتَقْواه، إذ حَجَّ أَربَعِينَ مَرّةً وصَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ بوُضُوءِ العِشاءِ أَربَعِينَ سَنةً، ولَقِيَ كَثِيرًا مِنَ الصَّحابةِ الكِرامِ، هذا العالِمُ الجَلِيلُ يُخبِرُ جازِمًا فيَقُولُ: “ما مِن مَجنُونٍ جاءَ إلى النَّبِيِّ ﷺ، فوَضَع ﷺ يَدَه الشَّرِيفةَ على صَدْرِه إلّا شُفِيَ مِن جُنُونِه”.
فإذا أَخبَرَ إِمامٌ كالطّاوُوسِ اليَمانِيْ -الَّذي أَدْرَكَ الصَّحابةَ الكِرامَ- هذا الخَبَرَ الجازِمَ فلا رَيبَ أنَّه قد جاءَ إلى النَّبِيِّ ﷺ كَثِيرٌ جِدًّا مِنَ المَرْضَى، رُبَّما يَبلُغُ الأُلُوفَ وكُلُّهُم شُفُوا مِن أَمراضِهِم.
[الإشارة الرابعة عشرة: إجابة دعائه ﷺ]
الإشارة الرابعةَ عَشْرةَ
ومِن أَنواعِ مُعجِزاتِه ﷺ نَوْعٌ عَظِيمٌ، وهُو الخَوارِقُ الَّتي ظَهَرَت بدُعائِه، فهذا النَّوعُ لا شَكَّ فيه ومُتَواتِرٌ تَواتُرًا حَقِيقيًّا، وأَمثِلَتُها وجُزئيّاتُها وَفيرةٌ جِدًّا لا تُحصَرُ، وقد بَلَغ كَثِيرٌ مِن أَمثِلَتِها دَرَجةَ المُتَواتِرِ، بل صارَت مَشهُورةً قَرِيبةً مِنَ التَّواتُرِ، ومِنها ما نَقَلَه أَئِمّةٌ عِظامٌ بحَيثُ يُفِيدُ القَطْعِيّةَ فيه كالمُتَواتِرِ المَشهُورِ.
ونحنُ هُنا نَذكُرُ على سَبِيلِ المِثالِ بَعضًا مِن أَمثِلَتِها الكَثِيرةِ جِدًّا الَّتي هي قَرِيبةٌ مِنَ المُتَواتِرِ، أو الَّتي هي بدَرَجةِ المَشهُورِ، كما سنَذكُرُ جُزئيّاتٍ مِن كلِّ مِثالٍ:
[مثال 1: إجابة دعائه في الاستسقاء]
المِثالُ الأوَّل: رَوَى أَئِمّةُ الحَدِيثِ وفي مُقَدِّمَتِهمُ البُخارِيُّ ومُسلِمٌ أنَّ دُعاءَ النَّبِيِّ ﷺ لِلِاستِسقاءِ كان يُستَجابُ في الحالِ، وحَدَث ذلك مِرارًا كَثِيرةً، حتَّى إنَّه كان يَرفَعُ يَدَيْه أَحيانًا لِلِاستِسقاءِ وهُو على المِنبَرِ، فيُستَجابُ لَه قَبلَ أن يَنزِلَ، وهذه الرِّواياتُ ثابِتةٌ بَلَغَت حَدَّ التَّواتُرِ. وقد ذَكَرْنا آنِفًا: أنَّه أَصابَ النّاسَ عَطَشٌ في السَّفَرِ، فكان السَّحابُ يَتَراكَمُ في كلِّ مَرّةٍ يَحتاجُونَ إلى الماءِ فيُسقَوْنَ ثمَّ يُقلِعُ.
بل كان دُعاؤُه ﷺ يُستَجابُ حتَّى قَبلَ النُّبوّةِ، فكان عَبدُ المُطَّلِبِ جَدُّ النَّبِيِّ ﷺ يَستَسقِي بِوَجْهِه الكَرِيمِ في صِباه، فكان المَطَرُ يَنزِلُ، وقدِ اشتَهَرَت هذه الحادِثةُ حتَّى ذَكَرَها عَبدُ المُطَّلِبِ في بَعضِ أَشعارِه. ولَقدِ استَسْقَى عُمَرُ بنُ الخَطّابِ رَضِيَ الله عَنهُ بالعَبّاسِ عَمِّ النَّبِيِّ بَعدَ وَفاتِه ﷺ فقال: “اللَّهُمَّ إنّا كُنّا نَتَوسَّلُ إلَيْك بنَبِيِّنا فتَسقِينا، وإنّا نَتَوسَّلُ إلَيْك بعَمِّ نَبِيِّنا فاسْقِنا، قال: فيُسقَوْنَ”.
ورَوَى الشَّيخانِ أنَّ الرَّسُولَ ﷺ سُئِلَ أن يُغِيثَهُمُ اللهُ بالمَطَرِ “فدَعا ﷺ بدُعاءِ الِاستِسقاءِ فسُقُوا، ثمَّ شَكَوْا إلَيْه المَطَرَ فدَعا فأَصْحَوْا”.
[مثال 2: دعاؤه بإسلام عمر]
المِثالُ الثاني: وَرَدَت رِوايةٌ مَشهُورةٌ قَرِيبةٌ مِنَ التَّواتُرِ أنَّه ﷺ حِينَما كان المُؤمِنُون قِلّةً ويَكتُمُون إِيمانَهُم وعِبادَتَهُم “دَعا بعِزِّ الإسلامِ بعُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُ أو بأَبي جَهْلٍ، فاستُجِيبَ لَه في عُمَرَ” إذ قال: “اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسلامَ بعُمَرَ بنِ الخَطّابِ أو بعَمْرِو بنِ الهِشامِ، فأَصبَحَ فغَدا عُمَرُ على رَسُولِ اللهِ ﷺ فأَسْلَمَ” فكان سَبَبًا لِعِزِّ الإِسلامِ، ولِذلِك نالَ شَرَفَ أن يُلقَّبَ بالفارُوقِ.
[مثال 3: دعاؤه لأصحابه ﷺ]
المِثالُ الثَّالث: ولَقَد دَعا النَّبِيُّ الكَرِيمُ ﷺ لِبَعضِ الصَّحابةِ لِمَقاصِدَ شَتَّى فاستُجِيبَ لَه استِجابةً خارِقةً، حتَّى بلَغَت كَرامةُ تلك الأَدعِيةِ دَرَجةَ الإِعجازِ.
مِن ذلك ما رَوَى البُخارِيُّ ومُسلِمٌ وغَيرُهُما أنَّه: “دَعا لِابنِ عَبَّاسٍ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ في الدِّينِ، وعَلِّمْه التَّأْوِيلَ” فَسُمِّيَ بَعدُ الحَبْرَ وتَرجُمانَ القُرآن، حتَّى كان عُمَرُ رَضِيَ الله عَنهُ يَأْذَنُ لِابنِ عَبّاسٍ -معَ حَداثةِ سِنِّه- أنْ يَجلِسَ في مَجلِسِ أَكابِرِ الصَّحابةِ الأَجِلّاءِ.
ورَوَى البُخارِيُّ وغَيرُه “عن أَنَسٍ رَضِيَ الله عَنهُ قال: قالَت أُمِّي: يا رَسُولَ اللهِ، خادِمُك أَنَسٌ، اُدْعُ اللهَ لَه. قال: اللَّهُمَّ أَكثِرْ مالَه ووَلَدَه وبارِك لَه فيما أَعطَيتَه”، وفي رِوايةِ عِكْرِمةَ قال أَنَسٌ: فوَاللهِ إنَّ مالي لَكَثِيرٌ، وإنَّ وَلَدِي ووَلَدَ وَلَدِي لَيُعادُّونَ اليَومَ على نَحوِ المِئةِ”، وفي رِوايةٍ: “فما أَعلَمُ أَحَدًا أَصابَ مِن رَخاءِ العَيشِ ما أَصَبْتُ، ولَقَد دَفَنتُ بِيَدَيَّ هاتَين مِئةً مِن وَلَدِي لا أَقُولُ سِقْطًا ولا وَلَدَ وَلَدٍ”، وكلُّ ذلك كان بِبَرَكةِ دُعاءِ النَّبِيِّ ﷺ.
ورَوَى الإِمامُ البَيهَقِيُّ وغَيرُه مِن أَئِمّةِ الحَدِيثِ أنَّه ﷺ “دَعا لِعَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوْفٍ بالبَرَكةِ”، وهُو أَحَدُ العَشَرةِ المُبَشَّرِينَ بالجَنّةِ، فأَصابَ مالًا وَفِيرًا بِبَرَكةِ ذلك الدُّعاءِ، حتَّى إنَّه “تَصَدَّق مَرّةً بِعِيرٍ فيها سَبعُ مِئةِ بَعِيرٍ وَرَدَتْ علَيْه تَحمِلُ مِن كُلِّ شَيْءٍ، فتَصَدَّق بها وبما علَيْها وبِأَقْتابِها وأَحلاسِها”، فما شاءَ اللهُ في هذه البَرَكةِ! وتَبارَكَ اللهُ!
ورَوَى البُخارِيُّ وغَيرُه أنَّه ﷺ دَعا لِعُرْوةَ بنِ أبي الجَعْدِ بالبَرَكةِ في تِجارةٍ لَه، فقال: “فلَقَد كُنتُ أَقُومُ بالكُناسةِ، فما أَرجِعُ حتَّى أَربَحَ أَربَعِينَ أَلفًا”، وقال البُخارِيُّ في حَدِيثِه: “فكانَ لوِ اشْتَرَى التُّرابَ رَبِحَ فيه”.
“ودَعا لِعَبدِ اللهِ بنِ جَعفَرٍ بالبَرَكةِ في صَفْقةِ يَمِينهِ، فما اشْتَرَى شَيْئًا إلّا رَبِحَ فيه”، حتَّى اشْتَهَر في زَمانِه بالثَّرْوةِ والمالِ بمِثلِ ما اشْتَهَرَ بالكَرَمِ والسَّخاءِ.
ولِهذا النَّوعِ أَمثِلةٌ كَثِيرةٌ جِدًّا أَوْرَدْنا هذه الأَربَعةَ على سَبِيلِ المِثالِ.
ورَوَى الإِمامُ التِّرمِذِيُّ: أنَّه ﷺ دَعا لِسَعْدِ بنِ أبي وَقّاصٍ فقال: “اللَّهُمَّ أَجِبْ دَعوَتَه”، فكان مُستَجابَ الدَّعْوةِ يَرهَبُ النّاسُ مِن دُعائِه علَيْهِم.
“وقال لِأَبي قَتادةَ: أَفلَحَ اللهُ وَجْهَك، اللَّهُمَّ بارِكْ له في شَعَرِه وبَشَرِه. فماتَ وهُو ابنُ سَبْعِينَ سَنةً وكأَنَّه ابنُ خَمْسَ عَشْرةَ سَنةً”، وقدِ اشْتَهَرَت هذه الرِّوايةُ الثّابِتةُ.
“وعِندَما أَنشَدَ الشَّاعِرُ المَشهُورُ النَّابِغةُ بَينَ يَدَيْه ﷺ:
بَلَغْنا السَّما في مَجْدِنا وسَنائِنا * وإنّا نُرِيدُ فَوقَ ذلك مَظْهَرَا
قال لَه الرَّسُولُ ﷺ: إلى أَينَ يا أَبا لَيْلَى؟ قال: إلى الجَنّةِ يا رَسُولَ اللهِ.
ثمَّ أَنشَدَ قَصِيدةً أُخرَى تَحمِلُ مَعانِيَ جَلِيلةً، فقالَ الرَّسُولُ ﷺ: “لا يَفْضُضِ اللهُ فاكَ”، فما سَقَطَتْ له سِنٌّ، وكانَ أَحسَنَ النّاسِ ثَغْرًا، إذا سَقَطَت لَه سِنٌّ نَبَتَت لَه أُخرَى. وعاشَ عِشْرِينَ ومِئةً. وقِيلَ: أَكثَرَ مِن هذا.
وفي رِوايةٍ صَحِيحةٍ أنَّه ﷺ دَعا لِعَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ، فقال: اللَّهُمَّ اكْفِهِ الحَرَّ والقَرَّ، فكان بِبَرَكةِ هذا الدُّعاءِ “يَلبَسُ في الشِّتاءِ ثِيابَ الصَّيفِ، وفي الصَّيفِ ثِيابَ الشِّتاءِ، ولا يُصِيبُه حَرٌّ ولا بَرْدٌ”. “ودَعا لِابنَتِه فاطِمةَ: “اللَّهُمَّ لا تُجِعْها”، قالَت: فما جُعْتُ بَعدُ”.
“وسَأَلَه الطُّفَيلُ بنُ عَمْرٍو آيةً لِقَوْمِه، فقال: اللَّهُمَّ نَوِّرْ له. فسَطَع لَه نُورٌ بَينَ عَيْنَيه، فقال: يا رَبِّ أَخافُ أن يَقُولُوا: مُثْلَةٌ. فتَحَوَّل إلى طَرَفِ سَوْطِه، فكان يُضِيءُ في اللَّيْلةِ المُظلِمةِ، فسُمِّي ذا النُّورِ”.
فهَذِه الحَوادِثُ لا رَيبَ في رِواياتِها قَطُّ.
“عن أبي هُرَيرةَ قال: قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنِّي أَسمَعُ مِنك حَدِيثًا كَثِيرًا أَنساهُ. قال: اُبسُطْ رِداءَك. فبَسَطتُه. قال: فغَرَف بيَدَيْه (كمَن يَأْخُذُ شَيْئًا مِنَ الغَيْبِ)، ثمَّ قالَ: ضُمَّه. فضَمَمْتُه، فما نَسِيتُ شَيْئًا بَعدَه”.
فهَذِه الحَوادِثُ مِنَ الأَحادِيثِ المَشهُورةِ.
[مثال 4: دعاؤه على عدوه]
المِثالُ الرَّابع: نُبيِّنُ عِدّةَ أَمثِلةٍ في صَدَدِ استِجابةِ أَدعِيةٍ دَعا بها النَّبِيُّ ﷺ على بَعضٍ مِنَ النَّاسِ.
الأوَّل: جاءَ الخَبَرُ إلى النَّبِيِّ ﷺ بتَمزِيقِ مَلِكِ الفُرْسِ المُسَمَّى “بَرْوِيز” كِتابَ النَّبِيِّ ﷺ فقال: اللَّهُمَّ مَزِّقْه. فمُزِّق كُلَّ مُمَزَّقٍ، إذ قَتَلَه ابنُه “شِيرَوَيْه” بالخَنجَرِ، ومَزَّق سَعدُ بنُ أبي وَقّاصٍ مُلْكَه “فلم تَبْقَ له باقِيةٌ ولا بَقِيَت لِفارِسَ رِياسةٌ في أَقْطارِ الدُّنيا”، بَينَما ظَلَّ مُلْكُ قَيْصَرَ وسائِرِ المُلُوكِ لِاحتِرامِهِم كُتُبَ الرَّسُولِ ﷺ إلَيْهِم.
الثّاني: ثَبَت بالحَدِيثِ المَشهُورِ القَرِيبِ مِنَ المُتَواتِرِ -وبِما تَرمُزُ إلَيْه الآيةُ الكَرِيمةُ- أنَّه اجْتَمَع رُؤَساءُ قُرَيشٍ في المَسجِدِ الحَرامِ، وعامَلُوا النَّبِيَّ ﷺ مُعامَلةً سَيِّئةً، فدَعا علَيْهِم، وسَمَّاهُم. قال ابنُ مَسعُودٍ: “فلَقَد رَأَيتُهُم قُتِلُوا يَومَ بَدْرٍ”.
الثَّالث: ودَعا على مُضَرَ وهي قَبِيلةٌ عَظِيمةٌ، بما كَذَّبَتْه، “فأُقحِطُوا حتَّى استَعْطَفَتْه قُرَيشٌ فدَعا لَهُم فسُقُوا” هذه الرِّوايةُ قَرِيبةٌ مِنَ التَّواتُرِ.
[مثال 5: دعاؤه على أشخاص بأعيانهم]
المِثالُ الخَامس: هُو استِجابةُ دُعاءِ النَّبِيِّ ﷺ الَّذي دَعا به على رِجالٍ مُعَيَّنِينَ، نَذْكُرُ على سَبِيلِ المِثالِ ثَلاثةً مِن بَينِ أَمثِلَتِه الكَثِيرةِ.
الأوَّل: دَعا على عُتْبةَ بنِ أَبي لَهَبٍ، وقال: “اللَّهُمَّ سَلِّطْ علَيْه كَلْبًا مِن كِلابِك”، فسافَرَ عُتْبةُ بَعدَ ذلك فجاءَ أَسَدٌ يَبحَثُ عنه، فأَخَذَه مِن بَينِ القافِلةِ وأَكَلَه. هذه الحادِثةُ مَشهُورةٌ نَقَلَها أَئِمّةُ الحَدِيثِ وصَحَّحُوها.
الثَّاني: بَعَثَ الرَّسُولُ ﷺ سَرِيّةً وعلى رَأْسِها عامِرُ بنُ الأَضْبَطِ، وكان مُحَلِّمُ بنُ جَثَّامةَ في مَعِيَّتِه، فاغْتالَه مُحَلِّمٌ غَدْرًا، فلَمَّا جاءَ الخَبَرُ إلى النَّبِيِّ ﷺ غَضِبَ وقال: اللَّهُمَّ لا تَغْفِرْ لِمُحَلِّمٍ. فمات مُحَلِّمٌ بَعدَ سَبْعةِ أَيّامٍ، “فلَفَظَتْهُ الأَرْضُ ثمَّ وُورِيَ، فلَفَظَتْهُ مَرّاتٍ، فأَلقَوْه بَينَ صُدَّينِ وضَمُّوا علَيْه بالحِجارةِ. الصُّدُّ جانِبُ الوادِي”.
الثَّالث: “وقالَ لِرَجُلٍ رَآه يَأْكُلُ بشِمالِه: كُلْ بِيَمِينِك، قال: لا أَستَطِيعُ، فقال: لا اسْتَطَعْتَ. فلم يَرْفَعْها إلى فيه”.
[مثال 6: بركة أثره وحضوره ﷺ]
المِثالُ السَّادس: سنَذْكُرُ عِدّةَ خَوارِقَ ثابِتةٍ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا مِن تلك الَّتي ظَهَرَت بدُعاءِ النَّبِيِّ ﷺ وبلَمْسِه.
الأوَّل: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَعطَى شَعَراتٍ مِن شَعَرِه إلى خالِدِ بنِ الوَليدِ (سَيْفِ اللهِ) ودَعا له بالنَّصْرِ، فوَضَعَها خالِدٌ في قَلَنسُوَتِه “فلَم يَشْهَدْ بها قِتالًا إلّا رُزِقَ النَّصْرَ”.
الثَّاني: أنَّ سَلْمانَ الفارِسِيَّ كان عَبْدًا لِليَهُودِ، “فكاتَبَه مَوَاليه على ثَلاثِ مِئةِ وَدِيّةٍ يَغرِسُها لَهُم، كُلُّها تَعْلَقُ وتُطْعِمُ، وعلى أَربَعِينَ أُوقيّةً مِن ذَهَبٍ، فقام ﷺ وغَرَسَها لَه بِيَدِه إلّا واحِدةً غَرَسَها غَيرُه، فأَخَذَت كُلُّها إلّا تلك الواحِدةُ، فقَلَعَها النَّبِيُّ ﷺ ورَدَّها، فأَخَذَت”.
وفي كِتابِ البَزّارِ: “فأَطْعَمَ النَّخْلُ مِن عامِه إلّا الواحِدةَ، فقَلَعَها رَسُولُ الله ﷺ وغَرَسَها، فأَطْعَمَت مِن عامِها. وأَعْطاهُ مِثلَ بَيْضةِ الدَّجاجةِ مِن ذَهَبٍ بَعدَ أن أَدارَها على لِسانِه، فوَزَن مِنها لِمَواليه أَربَعِينَ أُوقيّةً وبَقِي عِندَه مِثلُ ما أَعْطاهُم”. هذه الحادِثةُ هي مِنَ الخَوارِقِ المُهِمّةِ الَّتي مَرَّت بِحَياةِ سَلْمانَ الفارِسِيِّ رَضِيَ الله عَنهُ، رَواها الأَئِمّةُ الثِّقاتُ.
الثَّالث: “كانَت لِأُمِّ مالِكٍ الصَّحابِيّةِ عُكّةٌ تُهْدِي فيها لِلنَّبِيِّ ﷺ سَمْنًا، فأَمَرَها النَّبِيُّ ﷺ ألّا تَعْصِرَها، ثمَّ دَفَعَها إلَيْها، فإذا هي مَمْلُوءةٌ سَمْنًا، فيَأْتِيها بَنُوها يَسأَلُونَها الأُدْمَ ولَيسَ عِندَهُم شَيْءٌ، فتَعمِدُ إلَيْها، فتَجِدُ فيها سَمْنًا، فكانَت تُقِيمُ أُدْمَها حتَّى عَصَرَتْها” فلم يَجِدُوا فيها شَيْئًا بَعدَ ذلك.
[مثال 7: انقلاب الماء عذبًا]
المِثالُ السَّابع: إنَّ المِياهَ المُرّةَ تَتَحوَّلُ إلى عَذْبةٍ حُلْوةٍ وتَفُوحُ مِنها رائِحةٌ طَيِّبةٌ ببَرَكةِ دُعاءِ النَّبِيِّ ﷺ ولَمْسِه لَها. نَسُوقُ بِضْعةَ أَمثِلةٍ فَقَط:
الأوَّل: رَوَى البَيهَقِيُّ وأَئِمّةُ الحَدِيثِ أنَّ بِئْرَ “قُبا” كانَت تَنزِفُ في بَعضِ الأَحيانِ “وسَكَبَ مِن فَضْلِ وَضُوئِه في بِئْرِ قُبا فما نَزَفَت بَعدُ”.
الثّاني: رَوَى أَبُو نُعَيمٍ في دَلائِلِ النُّبوّةِ، ورِجالُ الحَدِيثِ أنَّه كانَ في دارِ أَنَسٍ بِئْرٌ، فبَزَق ﷺ فيها ودَعا “فلم يَكُن في المَدِينةِ أَعْذَبَ مِنها”.
الثَّالث: رَوَى ابنُ ماجَهْ أنَّه ﷺ “أُتِيَ بدَلْوٍ مِن ماءِ زَمْزَمَ فمَجَّ فيه، فصارَ أَطْيَبَ مِنَ المِسْكِ”.
الرَّابع: رَوَى الإِمامُ أَحمَدُ بنُ حَنْبَلٍ أنَّه ﷺ أُتِيَ بدَلْوٍ مِن بِئْرٍ، فمَجَّ فيه ثمَّ أُفرغَ فيها، فصارَت أَطْيَبَ مِنَ المِسْكِ.
الخَامس: رَوَى حَمَّادُ بنُ سَلَمةَ وهُو مِنَ الرِّجالِ المَوْثُوقِين الَّذين يَرْوِي عَنهُمُ الإمامُ مُسلِمٌ: أنَّه ﷺ مَلَأَ “سِقاءَ ماءٍ بَعدَ أن أَوْكاه ودَعا فيه”، وأَعطاهُ لِصَحابةٍ كِرام وأَمَرَهُم ألّا يَحُلُّوه إلّا لِلوُضُوءِ، “فلَمّا حَضَرَتْهُمُ الصَّلاةُ نَزَلُوا فحَلُّوه، فإذا به لَبَنٌ طَيِّبٌ وزُبْدةٌ في فَمِه”.
هذه الأَمثِلةُ الخَمْسةُ الجُزئِيّةُ بَعضُها مَشهُورٌ، ويَنقُلُها أَئِمّةٌ أَعْلامٌ، فهذه والَّتي لم نَذْكُرْها هنا بمَجْمُوعِها تُحَقِّقُ بالتَّواتُرِ المَعنَوِيِّ هذه المُعجِزةَ تَحَقُّقًا كامِلًا.
[مثال 8: در اللبن بعد نضوبه]
المِثالُ الثّامن: الشِّياهُ الَّتي دَرَّ ضَرْعُها باللَّبَنِ ببَرَكةِ دُعاءِ النَّبِيِّ ﷺ ولَمْسِه إيّاه بَعدَ أن كان قد جَفَّ. هُناك أَمثِلةٌ كَثِيرةٌ جِدًّا لِهذا، إلّا أنَّنا نَذكُرُ ثَلاثةً مِنها مَشهُورةً وثابِتةً.
الأوَّل: رَوَت جَمِيعُ كُتُبِ السِّيَرِ المَوثُوقِ بها أنَّ الرَّسُولَ الأَكرَمَ ﷺ لَمَّا هاجَرَ ومَعَه أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَرَّ على خِباءِ عاتِكةَ بِنتِ خالِدٍ الخُزاعِيِّ المَدْعُوّةِ بأُمِّ مَعْبَدٍ، فنَزَل عِندَها وكان لَها شاةٌ عَجْفاءُ لا لَبَنَ فيها. فقالَ لَها: أَلَيسَ بها لَبَنٌ؟ فقالَت أُمُّ مَعْبَدٍ: لَيسَ فيها دَمٌ فمِن أَينَ اللَّبَنُ؟ فمَسَّ ﷺ ظَهْرَها ومَسَحَ ضَرْعَها، ثمَّ قال: ائْتُوا بإِناءٍ واحْلُبُوها. فحَلَبُوها فشَرِبَ ﷺ هُو وأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وبَقِيَت في الإِناءِ بَقِيّةٌ، فشَرِبَ مَن كان في الخِباءِ إلى أن شَبِعُوا جَمِيعًا. وهكذا بَقِيَت تلك الشّاةُ مُبارَكةً قَوِيّةً.
الثَّاني: قِصّةُ شاةِ ابنِ مَسعُودٍ رَضِيَ الله عَنهُ وهي:
“عنِ ابنِ مَسعُودٍ قال: كُنتُ أَرعَى غَنَمًا لِعُقْبةَ بنِ أَبي مُعَيْطٍ، فمَرَّ بي رَسُولُ اللهِ ﷺ وأَبُو بَكْرٍ، فقال: يا غُلامُ، هل مِن لَبَنٍ؟ قُلتُ: نعم، ولَكِنِّي مُؤْتَمَنٌ. قال: فهل مِن شاةٍ لم يَنْزُ علَيْها الفَحْلُ؟ فأَتَيتُه بِشاةٍ فمَسَحَ ضَرْعَها، فنَزَلَ لَبَنٌ فحَلَبَه في إِناءٍ، فشَرِبَ وسَقَى أبا بَكْرٍ…”، وكان هذا سَبَبَ إِسلامِ ابنِ مَسعُودٍ رَضِيَ الله عَنهُ.
الثَّالث: قِصّةُ “غَنَمِ حَلِيمةَ السَّعْدِيّةِ مُرضِعَتِه ﷺ”، وهي قِصّةٌ مَشهُورةٌ حَيثُ كان في تلك السَّنةِ قَحْطٌ أَصابَ أَرْضَ قَوْمِها، فكانَتِ الأَغنامُ عِجافًا، جافّةَ الضُّرُوعِ، لم تَرْعَ حتَّى الشِّبَعِ. فلَمَّا أُرسِلَ الرَّسُولُ ﷺ إلى حَلِيمةَ السَّعْدِيّةِ صارَت أَغنامُها تَأْتِي المَرْعَى وقد رَعَت كَثِيرًا ودَرَّ لَبَنُها، وغَنَمُ قَوْمِها على خِلافِ ذلك. وما ذاك إلّا بِبَرَكَتِه ﷺ.
وهُناك أَمثِلةٌ كَثِيرةٌ أُخرَى في كُتُبِ السِّيَرِ، والَّتي أَوْرَدْناها تَكْفِي ما نَحنُ بصَدَدِه.
[مثال 9: بركة مسحه الرأس والوجه]
المِثالُ التَّاسع: نَذكُرُ بِضْعةَ أَمثِلةٍ مِنَ الأَمثِلةِ الكَثِيرةِ المَشهُورةِ لِلخَوارِقِ الَّتي ظَهَرَت عِندَ مَسْحِ الرَّسُولِ ﷺ رُؤُوسَ بَعضِهِم ووُجُوهَهُم بِيَدِه ودُعائِه لَهُم:
الأوَّلُ: “مَسَحَ على رَأْسِ عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ وبَرَّك، فماتَ وهُو ابنُ ثَمانِينَ، فما شابَ”.
الثّاني: “ومَسَحَ على رَأْسِ قَيْسِ بنِ زَيدٍ الجُذاميِّ ودَعا له، فهَلَكَ وهُو ابنُ مِئةِ سَنةٍ، ورَأسُه أَبيَضُ ومَوْضِعُ كَفِّ النَّبِيِّ ﷺ وما مَرَّت يَدُه علَيْه مِن شَعَرِه أَسوَدُ، فكان يُدْعَى الأَغَرَّ”.
الثَّالثُ: “ومَسَحَ رَأْسَ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ زَيدِ بنِ الخَطّابِ وهُو صَغِيرٌ، وكانَ دَمِيمًا، ودَعا له بالبَرَكةِ، ففَرَعَ الرِّجالَ طُولًا وتَمامًا”.
الرَّابعُ: “سَلَتَ الدَّمَ عن وَجْهِ عائِذِ بنِ عَمْرٍو وكان جُرِحَ يَومَ حُنَينٍ، ودَعا له فكان له غُرّةٌ كغُرّةِ الفَرَسِ”.
الخَامسُ: “مَسَحَ وَجْهَ قَتادةَ بنِ مِلْحانَ، فكان لِوَجْهِه بَرِيقٌ حتَّى كان يُنظَرُ في وَجْهِه كما يُنظَرُ في المِرْآةِ”.
السَّادسُ: “نَضَح في وَجْهِ زَينَبَ بِنتِ أُمِّ سَلَمةَ -وهي صَغِيرةٌ- نَضْحةً مِن ماءٍ كان يَتَوضَّأُ به؛ فما كانَ يُعرَفُ في وَجْهِ امْرَأةٍ مِنَ الجَمالِ ما بها”.
وهُناك أَمثِلةٌ كَثِيرةٌ كهَذِه الجُزْئيّاتِ الَّتي أَوْرَدْناها رَواها أَئِمّةُ الحَدِيثِ فهي بمَجْمُوعِها تُفِيدُ التَّواتُرَ المَعنَوِيَّ، وتُبيِّنُ وُقُوعَ المُعجِزةِ الأَحمَدِيّةِ المُطْلَقةِ.. فحَتَّى لو فَرَضْنا كُلَّ واحِدٍ مِن هذه الأَمثِلةِ خَبَرًا آحادِيًّا، وضَعِيفًا، فإنَّ مَجمُوعَها يكُونُ بحُكْمِ المُتَواتِرِ المَعنَوِيِّ، لِأَنَّه لو نُقِلَت حادِثةٌ ما في صُوَرٍ مُتَبايِنةٍ ورِواياتٍ مُختَلِفةٍ، فهذا يَعنِي أنَّ الحادِثةَ واقِعةٌ لا شَكَّ فيها، إلَّا أنَّ رِواياتِها وصُوَرَها مُختَلِفةٌ أو ضَعِيفةٌ.
فمَثلًا: إذا سُمِعَ في مَجْلِسٍ دَوِيٌّ، فقال بَعضُهُم: انْهَدَم بَيتُ فُلانٍ. وقال آخَرُ: انْهَدَم بَيتُ شَخْصٍ آخَرَ. وقال آخَرُ: بَيتُ فُلانٍ.. وهكَذا، فكُلُّ رِوايةٍ مِن هذه الرِّواياتِ معَ أنَّها قد تكُونُ آحادِيّةً وضَعِيفةً أو مُخالِفةً لِلواقِعِ، إلّا أنَّ الحادِثةَ الأَصلِيّةَ لا شَكَّ في وُقُوعِها، وهي انْهِدامُ بَيتٍ؛ فالرِّواياتُ بمَجْمُوعِها تُفِيدُ قَطْعِيّةَ وُقُوعِ الحادِثةِ وهي مُتَّفِقةٌ في الأَصْل، بَينَما الأَمثِلةُ الجُزئيّةُ الَّتي ذَكَرْناها رِواياتٌ صَحِيحةٌ كُلُّها، حتَّى إنَّ بَعضًا مِنها بَلَغ دَرَجةَ المَشهُورِ؛ فلو فَرَضْنا كُلًّا مِنها ضَعِيفةً لَكانَت دَلالةُ مَجمُوعِها أَيضًا دَلالةً قَطْعِيّةً على وُجُودِ المُعجِزةِ الأَحمَدِيّةِ مِثلَما دَلَّتِ الرِّواياتُ في المِثالِ على انْهِدامِ بَيتٍ مِنَ البُيُوتِ.
وهكَذا، فكُلُّ نَوْعٍ مِن أَنواعِ المُعجِزاتِ الأَحمَدِيّةِ الباهِرةِ ثابِتٌ لا رَيبَ فيه، وما جُزْئيّاتُها إلّا نَماذِجُ وصُوَرٌ مُختَلِفةٌ لِتِلك المُعجِزةِ المُطلَقةِ. وكما أنَّ يَدَه ﷺ وأَصابِعَه ورِيقَه ونَفْثَه وأَقوالَه -أي: دُعاءَه- مَنشَأٌ لِكَثِيرٍ مِنَ المُعجِزاتِ، فإنَّ جَمِيعَ لَطائِفِه الأُخرَى وحَواسِّه وأَجهِزَتِه مَدارٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الخَوارِقِ أَيضًا. وقد بَيَّنَت كُتُبُ السِّيرةِ والتَّارِيخِ تلك الخَوارِقَ، وأَوْضَحَت كَثِيرًا مِن دَلائِلِ النُّبوّةِ الَّتي هي في سِيرَتِه وصُورَتِه وجَوارِحِه ومَشاعِرِه ﷺ.
[الإشارة الخامسة عشرة: معرفة الحيوانات والأموات والجن والملائكة بالنبي ﷺ]
الإشارةُ الخامِسةَ عَشْرةَ
إنَّ الحَيَواناتِ والأَمواتَ والجِنَّ والمَلائِكةَ تَعرِفُ ذلك النَّبِيَّ الكَرِيمَ ﷺ، فتُبْرِزُ كلُّ طائِفةٍ مِنها بَعضًا مِن مُعجِزاتِه تَصْدِيقًا لِنُبُوَّتِه، وإِعلانًا عنها مِثلَما أَظْهَرَتْها الأَحجارُ والأَشجارُ والقَمَرُ والشَّمسُ، وبَيَّنَت أنَّها تَعرِفُ النَّبِيَّ ﷺ وتُصَدِّقُ نُبُوَّتَه.
هذه الإِشارةُ الخامِسةَ عَشْرةَ تَتَضمَّنُ ثَلاثَ شُعَبٍ:
[الشعبة الأولى: معرفة جنس الحيوان للنبي ﷺ]
الشُّعبةُ الأُولى:
هي مَعرِفةُ جِنسِ الحَيَوانِ لِلنَّبِيِّ ﷺ وإِظهارُه مُعجِزاتِه، لِهَذِه الشُّعبةِ أَمثِلةٌ كَثِيرةٌ نَذكُرُ هنا بَعضَ ما هُو مَشهُورٌ ومَقطُوعٌ به بالتَّواتُرِ المَعنَوِيِّ مِنَ الحَوادِثِ، أو ما هُو مَقبُولٌ لَدَى أَئِمّةِ العِلمِ، أو تَلَقَّتْه الأُمّةُ بالقَبُولِ.
[حادثة 1: الحمام والعنكبوت]
الحادِثةُ الأُولَى: حادِثةُ الغارِ المَشهُورةُ إلى حَدِّ التَّواتُرِ المَعنَوِيِّ، وهي أنَّ الرَّسُولَ الأَكرَمَ ﷺ، عِندَما تَحَصَّن في الغارِ معَ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نَجاةً مِن طَلَبِ قُرَيشٍ له، “أَمَر اللهُ حَمامَتَينِ فوَقَفَتا بفَمِ الغارِ، وفي حَدِيثٍ آخَرَ: أنَّ العَنكَبُوتَ نَسَجَتْ على بابِه”، حتَّى إنَّ أَحَدَ صَنادِيدِ قُرَيشٍ أُمَيّةَ بنَ خَلَفٍ قال حِينَ طَلَبَ مِنه كَفَرةُ قُرَيشٍ دُخُولَ الغارِ: “ما أَرَبُكُم فيه؟! وعلَيْه مِن نَسْجِ العَنكَبُوتِ ما أَرَى أنَّه نُسِجَ قَبلَ أن يُولَدَ مُحَمَّدٌ”، ورَقَدَت حَمَامَتانِ على فَمِ الغارِ، فقالَت قُرَيشٌ: “لو كانَ فيه أَحَدٌ لم تَكُنِ الحَمَامَتانِ بِبابِه. والنَّبِيُّ ﷺ يَسمَعُ كَلامَهم، فانصَرَفُوا”.
“ورَوَى ابنُ وَهْبٍ: أنَّ حَمَامَ مَكَّةَ، أَظلَّتِ النَّبِيَّ ﷺ يَوْمَ فَتْحِها، فدَعا لَها بالبَرَكةِ”. “وعن عائِشةَ رَضِيَ الله عَنهَا قالَت: كان عِندَنا داجِنٌ، فإذا كانَ عِندَنا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَرَّ وثَبَت مَكانَه، فلم يَجِئْ ولم يَذْهَبْ، وإذا خَرَج رَسُولُ اللهِ ﷺ جاءَ وذَهَب”، أي: أنَّ ذلك الحَمامَ كان يُوَقِّرُ النَّبِيَّ ﷺ فيَهْدَأُ ويَسْكُنُ في حُضُورِه.
[حادثة 2: الذئب]
الحادثةُ الثانيةُ: “وهي قِصَّةُ الذِّئبِ المَشهُورةُ”، وقد رُوِيَت بطُرُقٍ كَثِيرةٍ حتَّى أَخَذَت حُكْمَ التَّواتُرِ، وقد نُقِلَت هذه القِصَّةُ العَجِيبةُ بطُرُقٍ كَثِيرةٍ عن مَشاهِيرِ الصَّحابةِ الكِرامِ، مِنهُم: أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، وسَلَمةُ بنُ الأَكوَعِ، وابنُ أَبي وَهْبٍ، وأَبُو هُرَيْرةَ، وصاحِبُ القِصَّةِ: الرَّاعِي أُهْبانُ. فقد رَوَى هَؤُلاءِ بطُرُقٍ عَدِيدةٍ أنَّه “بَيْنَا راعٍ يَرْعَى غَنَمًا له، عَرَضَ الذِّئْبُ لِشاةٍ مِنها، فأَخَذَها مِنه، فأَقْعَى الذِّئبُ، وقال لِلرّاعي: أَلَا تَتَّقِي اللهَ! حُلْتَ بَينِي وبَينَ رِزْقِي! قال الرَّاعِي: العَجَبُ مِن ذِئْبٍ يَتَكلَّمُ بِكَلامِ الإِنسِ! فقالَ الذِّئبُ: أَلَا أُخبِرُك بأَعجَبَ مِن ذلك؟ رَسُولُ اللهِ بَينَ الحَرَّتَينِ يُحَدِّثُ النّاسَ بأَنباءِ ما سَبَق.. قد فُتِحَت له أَبوابُ الجَنّةِ.. يَدْعُوكُم إلَيْها”.
ومعَ أنَّ كُلَّ الطُّرُقِ مُجْمِعةٌ على تَكَلُّمِ الذِّئبِ، إلَّا أنَّ أَقْواها هُو الحَدِيثُ الَّذي رَواه أَبُو هُرَيْرةَ رَضِيَ الله عَنهُ ففيه: “قال الرَّاعي: مَن لي بِغَنَمي؟ قال الذِّئبُ: أَنا أَرْعاها حتَّى تَرجِعَ، فأَسْلَمَ الرَّجُلُ إلَيْه غَنَمَه ومَضَى، وذَكَر قِصَّتَه، وإِسلامَه، ووُجُودَه النَّبِيَّ ﷺ يُقاتِلُ”، فرَجَع فوَجَد الذِّئبَ راعِيًا أَمِينًا، ولا نَقْصَ في الأَغنامِ “وذَبَحَ لِلذِّئبِ شاةً مِنها” جَزاءَ إِرشادِه له.
وفي طَرِيقٍ آخَرَ: “أنَّه جَرَى لِأَبي سُفْيانَ بنِ حَرْبٍ وصَفْوانَ بنِ أُمَيّةَ معَ ذِئبٍ وَجَداه أَخَذ ظَبْيًا، فدَخَل الظَّبْيُ الحَرَمَ، فانصَرَف الذِّئبُ، فعَجِبا مِن ذلك، فقال الذِّئبُ: أَعجَبُ مِن ذلك مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ بالمَدِينةِ يَدْعُوكُم إلى الجَنّةِ.. فقال أَبُو سُفْيانَ: واللّاتِ والعُزَّى لَئِن ذَكَرْتَ هذا بمَكّةَ لَتَتْرُكَنَّها خُلُوفًا”.
نَخلُصُ مِن هَذا إلى أنَّ قِصَّةَ الذِّئبِ تُورِثُ قَناعةً واطْمِئْنانًا كالمُتَواتِرِ المَعنَوِيِّ.
[حادثة 3: الجمَل]
الحادثةُ الثَّالثة: هي قِصَّةُ الجَمَلِ المَرْوِيّةُ بخَمْسةِ أو سِتّةِ طُرُقٍ عن مَشاهِيرِ الصَّحابةِ: أَبي هُرَيْرةَ، وثَعْلَبةَ بنِ مالِكٍ، وجابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ، وعَبدِ اللهِ بنِ جَعفَرٍ، وعَبدِ اللهِ بنِ أَبي أَوْفَى، وأَمثالِهم، فهَؤُلاءِ جَمِيعًا مُتَّفِقُون على أنَّ: الجَمَلَ قد جاءَ النَّبِيَّ ﷺ وسَجَد بَينَ يَدَيه سَجْدةَ تَعظِيمٍ وإِكرامٍ، وتَكَلَّم مَعَه؛ ويُخبِرُون بطُرُقٍ أُخرَى: أنَّ ذلك الجَمَلَ قد ثارَ في بُستانٍ “وكانَ لا يَدخُلُ أَحَدٌ الحائِطَ إلّا شَدَّ علَيْه الجَمَلُ، فلَمَّا دَخَل علَيْه النَّبِيُّ ﷺ دَعاه فوَضَعَ مِشْفَرَه على الأَرضِ وبَرَكَ بَينَ يَدَيْه فخَطَمَه”.
“وفي خَبَرٍ آخَرَ في حَدِيثِ الجَمَلِ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَأَلَهُم عن شَأْنِه، فأَخبَرُوا أنَّهُم أَرادُوا ذَبْحَه”.
“وفي رِوايةٍ: إنَّه شَكا إِليَّ أنَّكُم أَرَدتُم ذَبْحَه بَعدَ أنِ استَعْمَلتُمُوه في شاقِّ العَمَلِ مِن صِغَرِه. فقالُوا: نعم”.
وأَيضًا أنَّ ناقةَ النَّبِيِّ ﷺ المُسَمّاةَ بالعَضْباءِ “لم تَأْكُلْ ولم تَشْرَبْ بَعدَ مَوْتِه ﷺ حتَّى ماتَت”، وذَكَر أَبُو إِسحاقَ الإِسْفرايِينيُّ “مِن قِصّةِ العَضْباءِ وكَلامِها لِلنَّبِيِّ ﷺ” في أَمرٍ مُهِمٍّ.
وثَبَت في الصَّحِيحِ أنَّ جَمَلَ جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ الأَنصارِيِّ أَعْيا في سَفَرٍ فلم يُمكِن له أنْ يَدُومَ على المَسِيرِ، فنَخَسَه النَّبِيُّ ﷺ نَخْسةً خَفِيفةً، “فنَشِطَ حتَّى كان لا يَمْلِكُ زِمامَه”، وذلك بما رَأَى مِن لُطْفِ مُعامَلَتِه ﷺ.
[حادثة 4: الفرس والضب والظبي]
الحادِثةُ الرَّابِعة: رَوَى البُخارِيُّ وأَئِمّةُ الحَدِيثِ: “لَقَد فَزِعَ أَهلُ المَدِينةِ لَيْلةً، فانطَلَق ناسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ، فتَلَقَّاهُم رَسُولُ اللهِ ﷺ راجِعًا قد سَبَقَهُم إلى الصَّوْتِ، وقدِ اسْتَبْرَأَ الخَبَرَ على فَرَسٍ لِأَبي طَلْحةَ عُرْيٍ والسَّيْفُ في عُنُقِه وهُو يَقُولُ: لن تُراعُوا”، وقال لِأَبي طَلْحةَ: وَجَدتُ فَرَسَك بَحْرًا، وكان به قِطافٌ، أي يُبطِئُ. فأَصبَحَ بَعدَ تلك اللَّيْلةِ لا يُجارَى.
وثَبَت برِوايةٍ صَحِيحةٍ أنَّه “قالَ لِفَرَسِه -عَليهِ السَّلام- وقد قامَ إلى الصَّلاةِ في بَعضِ أَسفارِه: لا تَبْرَحْ بارَكَ اللهُ فيك حتَّى نَفْرُغَ مِن صَلاتِنا. وجَعَلَه قِبْلَتَه، فما حَرَّكَ عُضْوًا حتَّى صَلَّى ﷺ”. الحادثةُ الخامسةُ: هي “تَسخِيرُ الأَسَدِ لِسَفِينةَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، إذ وَجَّهَه إلى مُعاذٍ باليَمَنِ، فلَقِيَ الأَسَدَ فعَرَّفَه أنَّه مَوْلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، ومَعَه كِتابُه، فهَمْهَمَ وتَنَحَّى عنِ الطَّرِيقِ. وذَكَر في مُنصَرَفِه مِثلَ ذلك”، وفي رِوايةٍ أُخرَى عنه: أنَّ سَفِينةَ ضَلَّ الطَّرِيقَ في العَوْدةِ فرَأَى الأَسَدَ، قال: “جَعَلَ يَغمِزُني بمَنكِبِه حتَّى أَقامَنِي على الطَّرِيقِ”.
“ورُوِيَ عن عُمَرَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كان في مَحْفَلٍ مِن أَصحابِه، إذ جاءَ أَعرابِيٌّ قد صادَ ضَبًّا، فقال: مَن هذا؟ قالُوا: نَبِيُّ اللهِ، فقال: واللّاتِ والعُزَّى لا آمَنتُ بك أو يُؤْمِنَ بك هذا الضَّبُّ. وطَرَحَه بَينَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ، فقال النَّبِيُّ ﷺ له: يا ضَبُّ. فأَجابَه بلِسانٍ بَيِّنٍ يَسمَعُه القَوْمُ جَمِيعًا: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ”، فآمَنَ الأَعرابيُّ.
“وعن أُمِّ سَلَمةَ: كان النَّبِيُّ ﷺ في صَحْراءَ، فنادَتْه ظَبْيةٌ: يا رَسُولَ اللهِ” إلى آخِرِ الحَدِيثِ، “فخَرَجَتْ تَجْرِي وهي تَقُولُ: أَشهَدُ أنْ لا إلٰهَ إلّا اللهُ، وأنَّك رَسُولُ اللهِ”.
وهكَذا، فثَمَّةَ نَماذِجُ كَثِيرةٌ جدًّا أَمثالُ هذه، لم نُبيِّنْ إلّا ما اشْتَهَرَ مِنَ الأَمثِلةِ القاطِعةِ.
فيا أَيُّها الإِنسانُ، ويا مَن لا يَعرِفُ هذا الرَّسُولَ الكَرِيمَ ﷺ ولا يُطِيعُه، اعْتَبِرْ.. واسْعَ لِئَلّا تَتَرَدَّى فيما هُو أَدْنَى مِنَ الذِّئبِ والأَسَدِ، فهذه الحَيَواناتُ تَعرِفُ الرَّسُولَ الكَرِيمَ وتُطِيعُه.
[الشعبة الثانية: معرفة الموتى والجن والملائكة الرسولَ ﷺ]
الشُّعبةُ الثَّانيةُ:
هي مَعرِفةُ المَوْتَى والجِنِّ والمَلائِكةِ الرَّسُولَ الكَرِيمَ ﷺ، ولَها وَقائِعُ كَثِيرةٌ جِدًّا سنَذْكُرُ مِنها على سَبِيلِ المِثالِ بِضْعةَ أَمثِلةٍ مَشهُورةٍ نَقَلَها الأَئِمّةُ الثِّقاتُ.. سنَذْكُرُ أَوَّلًا أَمثِلةَ المَوْتَى، أمّا الجِنُّ والمَلائِكةُ فأَمثِلَتُها مُتَواتِرةٌ وكَثِيرةٌ جِدًّا.
[مثال 1]
المِثالُ الأوَّلُ: رَوَى الإمامُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ، وهُو إِمامُ عُلَماءِ الظّاهِرِ والباطِنِ، ومِن أَصدَقِ تَلامِيذِ الإمامِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَه في عَهْدِ التّابِعِينَ: “أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ، فذَكَر له أنَّه طَرَح بُنيَّةً له في وادِي كذا”، فرَقَّ علَيْه رَسُولُ اللهِ ﷺ “فانْطَلَق مَعَه إلى الوادِي وناداها بِاسْمِها: يا فُلانةُ، أَجِيبِي بإِذنِ اللهِ تَعالَى. فخَرَجَتْ وهي تَقُولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ. فقالَ لَها: إنَّ أَبَوَيْكِ قد أَسْلَما، فإِن أَحْبَبْتِ أن أَرُدَّكِ علَيْهِما. قالَت: لا حاجةَ لي فيهِما، وَجَدتُ اللهَ خَيْرًا لي مِنهُما”.
[مثال 2]
المِثالُ الثّاني: رَوَى الإِمامُ البَيهَقِيُّ والإِمامُ ابنُ عَدِيٍّ مُسنَدًا “عن أَنَسٍ أنَّ شابًّا مِنَ الأَنصارِ تُوُفِّي، وله أُمٌّ عَجُوزٌ عَمْياءُ، وهُو وَحِيدُها، فسَجَّيْناه، وعَزَّيْناها، فقالَت: ابني! قُلْنا: نعم. قالت: اللَّهُمَّ إن كُنتَ تَعلَمُ أنِّي هاجَرْتُ إلَيْك وإلى نَبِيِّك رَجاءَ أن تُعِينَنِي على كُلِّ شِدّةٍ، فلا تَحْمِلَنَّ عَلَيَّ هذه المُصِيبةَ. فما بَرِحْنا أن كَشَفَ الثَّوْبَ عن وَجْهِه، فطَعِمَ وطَعِمْنا”.
وقد أَشارَ إلى هذه الحادِثةِ العَجِيبةِ الإِمامُ البُوصِيرِيُّ في قَصِيدَتِه “بُردةِ المَدِيحِ” قائِلًا:
لو ناسَبَتْ قَدْرَه آياتُه عِظَمًا ٭ أَحْيَا اسمُه حِينَ يُدْعَى دارِسَ الرِّمَم
[مثال 3]
الحادِثةُ الثَّالثة: رَوَى الإِمامُ البَيهَقِيُّ وغَيرُه “عن عَبدِ اللهِ بنِ عُبَيدِ اللهِ الأَنصارِيِّ: كُنتُ فيمَن دَفَنَ ثابِتَ بنَ قَيْسٍ، وكان قُتِلَ في اليَمامةِ، فسَمِعْناه حِينَ أَدْخَلْناه القَبْرَ يقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وعُمَرُ الشَّهِيدُ، عُثْمانُ البَرُّ الرَّحِيمُ. فنَظَرْنا إلَيْه فإذا هُو مَيِّتٌ”، فأَخبَرَ عنِ استِشْهادِ عُمَرَ قَبلَ تَوَلِّيه الخِلافةَ.
[مثال 4]
الحادِثةُ الرّابعة: “رَوَى الإِمامُ الطَّبَرانِيُّ وأَبُو نُعَيمٍ في دَلائلِ النُّبوّةِ عنِ النُّعمانِ ابنِ بَشِيرٍ أنَّ زَيدَ بنَ خارِجةَ خَرَّ مَيْتًا في بَعضِ أَزِقّةِ المَدِينةِ، فرُفِعَ وسُجِّي، إذ سَمِعُوه بَينَ العِشاءَينِ والنِّساءُ يَصْرُخْنَ حَوْلَه يقُولُ: أَنصِتُوا أَنصِتُوا، فحَسَر عن وَجْهِه، فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، السَّلامُ علَيْك يا رَسُولَ اللهِ. ثمَّ عادَ مَيْتًا كما كان”.
فإذا كان المَوْتَى الَّذين لا حَياةَ لَهُم يُصَدِّقُون رِسالَتَه ﷺ، فكَيفَ إن لم يُصَدِّقْه مَن له حَياةٌ؟ أَلَيسَ هَؤُلاءِ الأَحياءُ الأَشقِياءُ هُم أَكثَرَ فَقْدًا لِلحَياةِ مِن أُولَئِك المَوْتَى؟!
أمّا خِدْمةُ المَلائِكةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ وظُهُورُهُم له وإِيمانُ الجِنِّ به وطاعَتُهُم له، فهُو ثابِتٌ بالتَّواتُرِ، وقد صَرَّح القُرآنُ الكَرِيمُ بذلك في كَثِيرٍ مِن آياتِه الكَرِيمةِ، وكانَت خَمْسةُ آلافٍ مِنَ المَلائِكةِ طَوْعَ أَمْرِه -كالصَّحابةِ الكِرامِ- في غَزْوةِ بَدْرٍ كما وَرَد في القُرآنِ الكَرِيمِ، حتَّى إنَّ أُولَئِك المَلائِكةَ نالُوا -بَينَ المَلائِكةِ الآخَرِينَ- شَرَفَ الِاشتِراكِ في المَعرَكةِ كما نالَه أَصحابُ بَدْرٍ. في هذه المَسأَلةِ جِهَتانِ:
الأُولَى: وُجُودُ الجِنِّ والمَلائِكةِ وعَلاقاتُهُم مَعَنا، فهذا ثابِتٌ ثُبُوتًا قاطِعًا كوُجُودِ الحَيَوانِ والإِنسانِ الَّذي لا يَشُكُّ فيه أَحَدٌ. وقد أَثْبَتْنا هذا بيَقِينٍ جازِمٍ في “الكَلِمةِ التّاسِعةِ والعِشْرِينَ”، فنُحِيلُ الإِثباتَ إلى تلك الكَلِمةِ.
الجِهةُ الثّانية: هي رُؤْيةُ أَفرادِ الأُمّةِ وتَكَلُّمُهُم معَ المَلائِكةِ والجِنِّ بما حازُوا مِن شَرَفِ الِانتِسابِ إلى الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ، وإِظهارًا لِأَثَرٍ مِن آثارِ مُعجِزاتِه.
فقد رَوَى البُخارِيُّ ومُسلِمٌ وأَئِمّةُ الحَدِيثِ بالِاتِّفاقِ: “عن عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُ قال: بَينَما نَحنُ جُلُوسٌ عِندَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ذاتَ يَوْم، إذ طَلَع علَيْنا رَجُلٌ شَدِيدُ بَياضِ الثِّيابِ، شَدِيدُ سَوادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى علَيْه أَثَرُ السَّفَرِ، ولا يَعرِفُه مِنّا أَحَدٌ، حتَّى جَلَس إلى النَّبِيِّ ﷺ..”، فسَأَلَه: “ما الإِسلامُ؟ وما الإِيمانُ؟ وما الإِحسانُ؟”، وقد عَرَّف له الرَّسُولُ ﷺ كُلًّا مِمّا سَأَلَ، “ثُمَّ قال: يا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السّائِلُ؟ قُلتُ: اللهُ ورَسُولُه أَعلَمُ. قال: فإنَّه جِبْرِيلُ أَتاكُم يُعَلِّمُكُم دِينَكُم”.
وثَبَت برِواياتٍ صَحِيحةٍ مَقطُوعٍ بها وفي دَرَجةِ التَّواتُرِ المَعنَوِيِّ يَرْوِيها أَئِمّةُ الحَدِيثِ: أنَّ الصَّحابةَ كَثِيرًا ما كانُوا يَرَوْنَ جِبْرِيلَ عَليهِ السَّلام عِندَ النَّبِيِّ ﷺ في صُورةِ دِحْيةَ الكَلْبِيِّ رَضِيَ الله عَنهُ صاحِبِ الحُسْنِ والجَمالِ، مِنهُم عُمَرُ وابنُ عَبّاسٍ وأُسامةُ وحارِثٌ وعائِشةُ الصِّدِّيقةُ وأُمُّ سَلَمةَ رَضِيَ الله عَنهُم فيَقُولُون: إنّا نَرَى جِبْرِيلَ عِندَ النَّبِيِّ ﷺ في صُورةِ دِحْيةَ الكَلْبِيِّ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحيانِ. أفَيُمكِنُ أن يَقُولَ هَؤُلاءِ لِشَيءٍ: نَرَى، وهُم لم يَرَوْه؟!
وثَبَت بإِسنادٍ صَحِيحٍ عن سَعْدِ بنِ أَبي وَقّاصٍ -أَحَدِ المُبَشَّرِينَ بالجَنّة وفاتِحِ فارِسَ- قال: إنَّنا رَأَيْنا في غَزْوةِ أُحُدٍ أنَّ الرَّسُولَ ﷺ “على يَمِينِه ويَسارِه جِبْرِيلُ ومِيكائِيلُ في صُورةِ رَجُلَينِ علَيْهِما ثِيابٌ بِيضٌ”، وهُما على هَيْئةِ حارِسَيْنِ مُحافِظَينِ له. فإذا قال بَطَلٌ مِن أَبطالِ الإِسلامِ مِثلُ سَعْدٍ: رَأَيْنا.. فهل يُمكِنُ أن يَحدُثَ الخِلافُ؟! ثمَّ إنَّ أبا سُفْيانَ بنَ الحارِثِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ -ابنَ عَمِّ الرَّسُولِ ﷺ- رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ “رِجالًا بِيضًا على خَيْلٍ بُلْقٍ بَينَ السَّماءِ والأَرضِ”.
“وأَرَى النَّبِيُّ ﷺ لِحَمْزةَ جِبْرِيلَ في الكَعْبةِ، فخَرَّ مَغْشِيًّا علَيْه”.
فأَمثِلةُ رُؤْيةِ المَلائِكةِ هذه كَثِيرةٌ جِدًّا، وجَمِيعُ هذه الوَقائِعِ تُظهِرُ نَوْعًا مِنَ المُعجِزاتِ الأَحمَدِيّةِ وتَدُلّ على أنَّ المَلائِكةَ تَحُومُ كالفَراشِ حَوْلَ نُورِ نُبُوَّتِه.
أمّا اللِّقاءُ معَ الجِنِّ ومُشاهَدَتُهُم، فيَقَعُ كَثِيرًا جِدًّا حتَّى معَ عامّةِ النّاسِ، فكَيفَ بالصَّحابةِ الكِرام رِضْوانُ اللهِ علَيْهِم أَجمَعِينَ، إلّا أنَّ أَئِمّةَ الحَدِيثِ يَنقُلُون إلَيْنا أَصَحَّ الأَخبارِ وأَثبَتَها.
“رَأَى عَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ الجِنَّ لَيْلةَ الجِنِّ -أي: اهتِدائِهِم في بَطْنِ نَخْلٍ- وسَمِعَ كَلامَهُم وشَبَّهَهُم برِجالِ الزُّطِّ”، وهُم قَومٌ مِنَ السُّودانِ طِوالٌ.
ثمَّ إنَّ حادِثةً مَشهُورةً يَنقُلُها ويُخَرِّجُها أَئِمّةُ الحَدِيثِ ويَقبَلُون بها، وهي “قَتلُ خالِدِ بنِ الوَليدِ -عِندَ هَدْمِه العُزَّى- لِلسَّوْداءِ الَّتي خَرَجَت له ناشِرةً شَعَرَها عُرْيانةً، فجَزَلَها بسَيْفِه وأَعْلَمَ النَّبِيَّ ﷺ فقال: تلك العُزَّى”، فكان النَّاسُ يَعبُدُونَها وهي في صَنَمِ العُزَّى. ولن تُعبَدَ أَبدًا.
“وعن عُمَر بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنهُ أنَّه قال: بَيْنا نَحنُ جُلُوسٌ معَ النَّبِيِّ ﷺ إذ أَقبَلَ شَيْخٌ بِيَدِه عَصًا فسَلَّم على النَّبِيِّ ﷺ فرَدَّ علَيْه. وقال ﷺ: نَغْمةُ الجِنِّ، مَن أَنتَ؟ قال: أنا هامَةُ”، في حَدِيثٍ طَوِيلٍ، و”أنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّمَه سُوَرًا مِنَ القُرآنِ”، فهَذِه الحادِثةُ رَغْمَ أنَّها انتُقِدَت مِن قِبَلِ رِجالِ الحَدِيثِ، إلّا أنَّ أَئِمّةً آخَرِينَ قد حَكَمُوا بصِحَّتِها..
وعلى كُلِّ حالٍ، فلا نَرَى ضَرُورةً في الإِسهابِ، فالأَمثِلةُ في هذا البابِ كَثِيرةٌ جِدًّا.
ونَقُولُ أيضًا:
إنَّ الَّذِين تَنَوَّرُوا بنُورِ النَّبِيِّ ﷺ وتَرَبَّوْا بتَعالِيمِه واقْتَفَوْا أَثَرَه وهُم يَرْبُونَ على الأُلُوفِ مِن أَمثالِ الشَّيخِ الگيْلانِيِّ مِنَ الأَولياءِ الأَقطابِ والعُلَماءِ الأَصفِياءِ قدِ الْتَقَوُا المَلائِكةَ والجِنَّ وتَكَلَّمُوا مَعَهُم، فالرِّواياتُ مُتَواتِرةٌ ومَوفُورةٌ وقَطْعِيّةٌ.
نعم، إنَّ لِقاءَ الأُمّةِ المُحَمَّدِيّةِ المَلائِكةَ والجِنَّ وتَكَلُّمَهُم مَعَهُم إنَّما هُو أَثَرٌ مِن آثارِ التَّربِيةِ النَّبَوِيّةِ وهِدايَتِها الخارِقةِ.
[الشعبة الثالثة: عصمة الله نبيَّه ﷺ من الناس]
الشُّعبةُ الثالثة:
[واللهُ يعصمك من الناس]
إنَّ عِصْمةَ اللهِ تَعالَى لِلرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ وحِفْظَه لَه مِن أَذَى النّاسِ مُعجِزةٌ باهِرةٌ وحَقِيقةٌ جَلِيّةٌ نَصَّ علَيْها القُرآنُ الكَرِيمُ في قَولِه تَعالَى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.
ففي هذه الآيةِ الكَرِيمةِ مُعجِزاتٌ كَثِيرةٌ، إذ لَمّا أَعلَنَ الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ نُبُوَّتَه فإنَّه لم يَتَحَدَّ طائِفةً واحِدةً ولا قَوْمًا ولا ساسةً ولا حُكّامًا مُعَيَّنِين ولا مُجتَمَعَه، بل تَحَدَّى جَمِيعَ السَّلاطِينِ وجَمِيعَ أَهلِ الأَديانِ، تَحَدّاهُم جَمِيعًا ولا عاصِمَ له إلّا اللهُ، وحتَّى عَمُّه قد ناصَبَه العَداءَ، وقَوْمُه وقَبِيلَتُه كانُوا أَعداءً له، ومعَ هذا ظَلَّ ثَلاثًا وعِشْرِينَ سَنةً مِن غَيرِ حارِسٍ يَحرُسُه، رَغمَ تَعَرُّضِه لِمَخاطِرَ ومَهالِكَ كَثِيرةٍ، ولَقَد عَصَمَه اللهُ مِنَ النّاسِ وحَفِظَه حتَّى انتَقَل إلى المَلَأِ الأَعلَى باطْمِئْنانٍ كامِلٍ.. مِمّا يَدُلُّنا دَلالةَ الشَّمسِ في وَضَحِ النَّهارِ مَدَى رَصانةِ الحَقِيقةِ الَّتي تَنطَوِي علَيْها الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾، ومَدَى كَوْنِها نُقطةَ استِنادٍ له ﷺ.
[سبعة حوادث عصمة]
وسنَذكُرُ بِضْعًا مِنَ الحَوادِثِ الَّتي هي ثابِتةٌ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا، ونَسُوقُها على سَبِيلِ المِثالِ:
[الحادثة الأولى: في حادثة الهجرة]
الحادثةُ الأُولى: يَرْوِي أَهلُ السِّيرةِ والحَدِيثِ -مُتَّفِقين- أنَّه: عِندَما اجْتَمَعَت قُرَيشٌ على قَتْلِه ﷺ جاءَهُم إِبلِيسُ في هَيْئةِ شَيْخٍ ودَلَّهُم على أن يُؤْخَذَ مِن كُلِّ قَبِيلةٍ فَتًى -لِئَلّا يَقَعَ النِّزاعُ بَينَهُم- فسارَ ما يُناهِزُ مِئَتَيْ رَجُلٍ بقِيادةِ أبي جَهْلٍ وأَبي لَهَبٍ نَحْوَ بَيتِ النَّبِيِّ ﷺ، وكان عِندَه عَلِيٌّ رَضِيَ الله عَنهُ، فأَمَرَه أن يَنامَ على فِراشِه، وانتَظَرَهُمُ الرَّسُولُ ﷺ حتَّى أَتَت قُرَيشٌ وحاصَرُوا البَيتَ، “فخَرَجَ علَيْهِم ﷺ مِن بَيتِه فقامَ على رُؤُوسِهِم وقد ضَرَب اللهُ تَعالَى على أَبصارِهِم، وذَرَّ التُّرابَ على رُؤُوسِهِم، وخَلَصَ مِنهُم”. وأَيضًا “حِمايَتُه عن رُؤْيَتِهِم في الغارِ بما هَيَّأ اللهُ مِنَ الآياتِ ومِنَ العَنكَبُوتِ الَّذي نَسَجَ علَيْه.. ووَقَفَت حَمامَتانِ على فَمِ الغارِ”.
[الحادثة الثانية: سراقة بن مالك]
الحادثةُ الثّانيةُ: وهي قِصّةُ سُراقةَ بنِ مالِكٍ “حِينَ الهِجْرةِ، وقد جَعَلَتْ قُرَيشٌ فيه ﷺ وفي أبي بَكْرٍ الجَعائِلَ، فأُنْذِرَ به، فرَكِبَ فَرَسَه واتَّبَعَه حتَّى إذا قَرُب مِنه دَعا علَيْه النَّبِيُّ ﷺ، فساخَتْ قَوائِمُ فَرَسِه فخَرَّ عَنْها… ثمَّ رَكِبَ ودَنا حتَّى سَمِعَ قِراءَةَ النَّبِيِّ ﷺ وهُو لا يَلتَفِتُ، وأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنهُ يَلتَفِتُ، وقال لِلنَّبِيِّ ﷺ أُتِينَا! فقال: لا تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنا” كما قالَه في الغارِ، “فساخَت ثانيةً إلى رُكْبَتَيْها وخَرَّ عَنها، فزَجَرَها فنَهَضَت ولِقَوائِمِها مِثلُ الدُّخانِ، فناداهُم بالأَمانِ، فكَتَب له النَّبِيُّ ﷺ أَمانًا… وأَمَرَه النَّبِيُّ ﷺ ألّا يَتْرُكَ أَحَدًا يَلحَقُ بهم، فانْصَرَفَ”.
“وفي خَبَرٍ آخَرَ أنَّ راعِيًا عَرَف خَبَرَهُما، فخَرَج يَشتَدُّ يُعلِمُ قُرَيشًا، فلَمّا وَرَد مَكّةَ ضُرِبَ على قَلْبِه، فما يَدْرِي ما يَصْنَعُ، وأُنسِيَ ما خَرَج له حتَّى رَجَع إلى مَوْضِعِه”، ثمَّ عَرَف أنَّه قد أُنسِيَ.
[الحادثة الثالثة: مَن يمنعك مني؟]
الحادثةُ الثّالثةُ: يَروِي أَئِمّةُ الحَدِيثِ بطُرُقٍ مُتَعدِّدةٍ أنَّه في غَزْوةِ (غَطَفانَ) و(أَنمارٍ) أَرادَ رَئِيسُ قَبِيلَتِه وهُو “غَوْرَثُ بنُ الحارِثِ المُحارِبيُّ أن يَفتِكَ بالنَّبِيِّ ﷺ، فلم يَشْعُرْ به ﷺ إلّا وهُو قائِمٌ على رَأْسِه مُنتَضِيًا سَيْفَه، فقال: اللَّهُمَّ اكْفِنِيه بما شِئْتَ، فانكَبَّ لِوَجْهِه مِن زُلَّخَةٍ زُلِخَها بَينَ كَتِفَيه، ونَدَر سَيْفُه مِن يَدِه”.
ورُوِيَ أنَّه ﷺ أَتاه أَعرابيٌّ “فاخْتَرَط سَيْفَه ثمَّ قال: مَن يَمنَعُك مِنِّي؟ فقال: اللهُ! فارْتَعَدَتْ يَدُ الأَعرابيِّ وسَقَط سَيْفُه” فأَخَذَه النَّبِيُّ ﷺ وقال: ومَن يَمنَعُك الآنَ؟ ثمَّ عَفا عنه النَّبِيُّ ﷺ “فرَجَع إلى قَوْمِه وقال: جِئْتُكُم مِن عِندِ خَيرِ النّاسِ. وقد حُكِيَت مِثلُ هذه الحِكايةِ أنَّها جَرَت له يَوْمَ بَدْرٍ، وقدِ انفَرَد مِن أَصحابِه لِقَضاءِ حاجَتِه، فتَبِعَه رَجُلٌ مِنَ المُنافِقِين، وذَكَر مِثلَه” أنَّه رَفَع سَيْفَه لِيَهْوِيَ به على رَسُولِ اللهِ ﷺ، وإذا به يَنظُرُ إلَيْه فيَرتَعِدُ المُنافِقُ ويَسقُطُ السَّيفُ مِن يَدِه.
[الحادثة الرابعة: مع كفار قريش]
الحادثةُ الرّابعةُ: رَوَى أَئِمّةُ الحَدِيثِ خَبَرًا مَشهُورًا قَرِيبًا مِنَ التَّواتُرِ، وذَكَر أَكثَرُ عُلَماءُ التَّفسِيرِ أنَّ سَبَبَ نُزُولِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ٭ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ أنَّ أبا جَهْلٍ أَقسَمَ: لَئِن أَرَى مُحَمَّدًا ساجِدًا لَأَضْرِبَنَّه بهذه الصَّخْرةِ “فجاءَه بصَخْرةٍ وهُو ساجِدٌ وقرَيشٌ يَنظُرُونَ، لِيَطْرَحَها علَيْه، فلَزِقَتْ بِيَدِه ويَبِسَتْ يَداه إلى عُنُقِه”، وبَعدَ أن أَتَمَّ الرَّسُولُ ﷺ صَلاتَه انصَرَف وانطَلَقَت يَدُ أَبي جَهْلٍ، إمّا بإِذْنِه ﷺ أو لِانتِفاءِ الحاجةِ.
إنَّ الوَلِيدَ بنَ المُغِيرةِ “أَتَى النَّبِيَّ ﷺ لِيَقتُلَه بصَخْرةٍ كَبِيرةٍ، فطَمَسَ اللهُ على بَصَرِه، فلم يَرَ النَّبِيَّ ﷺ، وسَمِعَ قَوْلَه، فرَجَع إلى أَصحابِه فلم يَرَهُم حتَّى نادَوْه”، حتَّى إذا خَرَجَ الرَّسُولُ ﷺ مِنَ المَسجِدِ عاد بَصَرُه، لِانتِفاءِ الحاجةِ.
وثَبَت عن أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عَنهُ أنَّه: بَعدَما نَزَلَت سُورةُ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ أَتَت أُمُّ جَمِيلٍ، امْرَأةُ أَبي لَهَبٍ المُلَقَّبةُ بحَمّالةِ الحَطَبِ “رَسُولَ اللهِ ﷺ وهُو جالِسٌ في المَسجِدِ ومَعَه أَبُو بَكْرٍ وفي يَدِها فِهْرٌ مِن حِجارةٍ، فلَمّا وَقَفَتْ علَيْهِما لم تَرَ إلّا أبا بَكْرٍ، وأَخَذَ اللهُ تَعالَى ببَصَرِها عن نَبِيِّه ﷺ، فقالَت: يا أبا بَكْرٍ، أَينَ صاحِبُك؟ فقد بَلَغَنِي أنَّه يَهجُوني! واللهِ لو وَجَدتُه لَضَربْتُ بهذا الفِهْرِ فاهُ”.
نعم. لا تَرَى حَطّابةُ جَهَنَّمَ -بلا شَكٍّ- سُلْطانًا عَظِيمًا كهذا الَّذي خَصَّه اللهُ بالدَّرَجةِ الرَّفيعةِ.
[الحادثة الخامسة: عامر بن الطفيل]
الحادثةُ الخامِسةُ: ثَبَت بالنَّقلِ الصَّحِيحِ “خَبَرُ عامِرِ بنِ الطُّفَيلِ وأَربَدَ بنِ قَيسٍ حِينَ وَفَدا على النَّبِيِّ ﷺ، وكان عامِرٌ قال لَه: أنا أَشغَلُ عَنك وَجْهَ مُحَمَّدٍ، فاضْرِبْه أَنتَ، فلم يَرَه فَعَلَ شَيْئًا، فلَمّا كَلَّمَه في ذلك، قال له: واللهِ ما هَمَمْتُ أن أَضْرِبَه إلّا وَجَدتُك بَينِي وبَينَه، أَفَأَضرِبُك؟!”.
[الحادثة السادسة: شيبة بن عثمان وفضالة بن عمرو]
الحادثةُ السَّادسةُ: وثَبَت بالنَّقلِ الصَّحِيحِ أَيضًا “أنَّ شَيْبةَ بنَ عُثْمانَ الحَجَبِيَّ أَدْرَكَه يَومَ حُنَينٍ أو أُحُدٍ، وكان حَمْزةُ قد قَتَلَ أَباه وعَمَّه، فقال: اليَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِن مُحَمَّدٍ، فلَمّا اخْتَلَط النَّاسُ أَتاه مِن خَلْفِه ورَفَع سَيْفَه لِيَصُبَّه علَيْه. قال: وأَحَسَّ بي النَّبِيُّ ﷺ، فدَعاني فوَضَع يَدَه على صَدْرِي وهُو أَبغَضُ الخَلْقِ إِلَيَّ، فما رَفَعَها إلّا وهُو أَحَبُّ الخَلْقِ إِلَيَّ. وقال لي: اُدْنُ. فقاتِلْ، فتَقَدَّمتُ أَمامَه أَضْرِبُ بسَيْفِي وأَقِيه بنَفْسِي، ولَو لَقِيتُ أَبي تلك السّاعةَ لَأَوْقَعْتُ به دُونَه”.
وعن فَضالةَ بنِ عَمْرٍو قالَ: “أَرَدتُ قَتْلَ النَّبِيِّ ﷺ عامَ الفَتْحِ، وهُو يَطُوفُ بالبَيتِ، فلَمَّا دَنَوْتُ مِنه قال: أَفَضالةُ؟ قُلتُ: نعم.. قال: ما كُنتَ تُحَدِّثُ به نَفْسَك؟ قُلتُ: لا شَيْءَ. فضَحِكَ واسْتَغْفَرَ لي ووَضَع يَدَه على صَدْرِي، فسَكَن قَلْبِي، فوَاللهِ ما رَفَعَها حتَّى ما خَلَق اللهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنه”.
[الحادثة السابعة: مع اليهود وغيرهم]
الحادثةُ السَّابعةُ: ثَبَت بالنَّقْلِ الصَّحِيحِ: أنَّ اليَهُودَ تَآمَرُوا علَيْه عِندَما “جَلَس إلى جِدارٍ.. فانْبَعَث أَحَدُهُم لِيَطْرَحَ علَيْه رَحًى، فقامَ النَّبِيُّ ﷺ فانْصَرَف”، فبَطَل ما كانُوا يَفْعَلُون بحِفْظِ اللهِ.
وهُنالك حَوادِثُ كَثِيرةٌ مِن أَمثالِ هذه الحادِثةِ: فيَرْوِي الإِمامانِ البُخارِيُّ ومُسلِمٌ وأَئِمّةُ الحَدِيثِ “عن عائِشةَ رَضِيَ الله عَنهَا قالَت: كان النَّبِيُّ ﷺ يُحْرَسُ حتَّى نَزَلَت هذه الآيةُ: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾، فأَخْرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَأْسَه مِنَ القُبّةِ وقال: يا أَيُّها النّاسُ، انْصَرِفُوا فقد عَصَمَنِي رَبِّي عَزَّ وجَلَّ”.
[شمول معجزاته ﷺ تَشهَد بعموم رسالتهﷺ]
هذه الرِّسالةُ تُوَضِّحُ مُنذُ البِدايةِ إلى هُنا أنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِن أَنواعِ هذه الكائِناتِ، وكُلَّ عالَمٍ مِنها، يَعْرِفُ النَّبِيَّ ﷺ، وله مَعَه رابِطةٌ وعَلاقةٌ، إذ تُشاهَدُ مُعجِزاتُه ﷺ مِن كُلِّ نَوْعٍ مِن أَنواعِ الكائِناتِ، أي: أنَّ هذا النَّبِيَّ الكَرِيمَ ﷺ رَسُولٌ ومَبعُوثٌ مِن قِبَلِ اللهِ بوَصْفِه رَبَّ العالَمِينَ وخالِقَ الكَوْنِ.
نعم، كما أنَّ مُوَظَّفًا مَرمُوقًا ومُفَتِّشًا ذا مَنزِلةٍ عِندَ السُّلْطانِ تَعرِفُه كُلُّ دائِرةٍ مِن دَوائِرِ الدَّوْلةِ، وإذا ما دَخَل أَيًّا مِنها سيَلْقَى تَرْحابًا حارًّا، لِأَنَّه مَأْمُورٌ مِن قِبَلِ السُّلطانِ الأَعظَمِ، إذ لو فَرَضْنا أنَّه كان مُفَتِّشًا لِلعَدْلِ فحَسْبُ، فسوف تُرَحِّبُ به دَوائِرُ العَدْلِ فقط، ولا تَعْرِفُه جَيِّدًا الدَّوائِرُ الأُخرَى، ولو كان مُفَتِّشًا عامًّا لِلجَيْشِ فلا تَعرِفُه الدَّوائِرُ الرَّسمِيّةُ الأُخرَى لِلدَّوْلةِ.. بَينَما يُفْهَمُ مِنَ الأَمثِلةِ السّابِقةِ أنَّ جَمِيعَ دَوائِرِ السَّلْطَنةِ الإلٰهِيّةِ تَعرِفُه ﷺ مَعرِفةً جَيِّدةً، أو يُعَرِّفُه اللهُ لَهُمُ ابتِداءً مِنَ المَلائِكةِ إلى الذُّبابِ والعَنكَبُوتِ؛ فهُو بلا شَكٍّ خاتَمُ الأَنبِياءِ، ورَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ، وأنَّ رِسالَتَه عامّةٌ لِلكائِناتِ قاطِبةً لا تَختَصُّ بأُمّةٍ دُونَ أُمّةٍ كغَيرِه مِنَ الأَنبِياءِ والمُرسَلِينَ.
[الإشارة السادسة عشرة: الإرهاصات قبل النبوة]
الإشارةُ السَّادسةَ عَشْرةَ
وهي الإِرهاصاتُ، أي: الخَوارِقُ الَّتي ظَهَرَت قَبلَ النُّبوّةِ، وتُعَدُّ مِن دَلائِلِ النُّبوّةِ، لِعَلاقَتِها بها، وهي على ثَلاثةِ أَقسامٍ:
[القسم الأول: إخبارات الكتب السماوية]
القِسمُ الأوَّلُ:
ما أَخبَرَتْ به التَّوراةُ والإِنجِيلُ والزَّبُورُ وصُحُفُ الأَنبِياءِ عَلَيهمِ السَّلام عن نُبُوّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ، وهُو ثابِتٌ بنَصِّ القُرآنِ الكَرِيمِ.
نعم، فما دامَت تلك الكُتُبُ كُتُبًا سَماوِيّةً، وأَصحابُها هُم أَنبِياءُ كِرامٌ عَلَيهم السَّلام، فلا بُدَّ أنَّ إِخبارَها عَمَّن سيُضِيءُ بالنُّورِ الَّذي يَأْتي به نِصْفَ المَعمُورةِ، ويَنسَخُ الأَدْيانَ الأُخرَى، ويُغَيِّرُ مَلامِحَ الكَوْنِ، أَقُولُ: لا بُدَّ أنَّ ذِكْرَها لِهَذِه الذّاتِ المُبارَكةِ ضَرُورِيٌّ وقَطْعِيٌّ.
أفَيُمكِنُ لِتِلك الكُتُبِ الَّتي لا تُهْمِلُ حَوادِثَ جُزئيّةً ألّا تَذكُرَ أَعظَمَ حادِثةٍ في تارِيخِ البَشَرِيّةِ، تلك هي حادِثةُ البِعْثةِ المُحَمَّدِيّةِ؟
وإذا كان لا بُدَّ لَها أن تَبحَثَ عنها وتَذْكُرَها، فهي إمّا ستُكَذِّبُها كي تَصُونَ دِينَها وكِتابَها مِنَ النَّسْخِ والتَّخْرِيبِ، أو ستُصَدِّقُها، أي: تُصَدِّقُ ذلك النَّبِيَّ الحَقَّ كي تُحافِظَ على دِينِها وكِتابِها مِن تَسَرُّبِ الخُرافاتِ وتَسَلُّلِ التَّحرِيفاتِ؛ ولَمَّا كان الأَصدِقاءُ والأَعداءُ مُتَّفِقِينَ على عَدَمِ وُجُودِ أَيّةِ أَمارةٍ في تلك الكُتُبِ لِلتَّكذِيبِ مَهْما كانَت، فهُناك إِذًا أَماراتُ التَّصدِيقِ. فما دامَ التَّصدِيقُ قائِمًا بصُورةٍ مُطلَقةٍ، وأنَّ هُناك عِلّةً قاطِعةً، وسَبَبًا أَساسًا يَقتَضِي وُجُودَ هذا التَّصْدِيقِ، فنَحنُ بدَوْرِنا سنُثبِتُ ذلك التَّصدِيقَ بثَلاثِ حُجَجٍ قاطِعةٍ تَدُلُّ على وُجُودِه:
[ثلاث حُجج تدل على ذكر النبي ﷺ في الكتب السماوية السابقة]
[الحجة الأولى: العجز أمام التحدي]
الحُجّةُ الأُولَى: إنَّ الرَّسُولَ الأَعظَمَ ﷺ تَلا علَيْهِم آياتٍ كَرِيمةً يَتَحدّاهُم بها، وكأَنَّه يَقُولُ لَهُم بلِسانِ القُرآنِ الكَرِيمِ: إنَّ كُتُبَكُم تُصَدِّقُ ما تَشتَمِلُ علَيْه شَمائِلِي وأَوْصافي، وتُصَدِّقُ ما أُبَلِّغُه لِلعالَمِينَ، ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾.
ومعَ هذا التَّحَدِّي الواضِح لم يَتَقَدَّمْ حَبْرٌ مِن أَحبارِ اليَهُودِ، ولا قَسٌّ مِن قُسُوسِ النَّصارَى، إلى إِظهارِ خِلافِ ما يَقُولُه ﷺ؛ فلو كان هُناك شَيءٌ مَهْما كانَ طَفِيفًا مِن هذا القَبِيلِ، لَأَعْلَنَه أُولَئِك الكُفَّارُ والمُنافِقُون مِنَ اليَهُودِ، ذَوُو العِنادِ والحَسَدِ، وهُم كَثِيرُون في كُلِّ مَكانٍ وزَمانٍ.
فكانَ التَّحَدِّي: إمَّا أن يَجِدُوا أَيَّ خِلافٍ كان فيما يُبَلِّغُ مِن أَوامِرِ اللهِ سُبحانَه، أو سيُجاهِدُهُم جِهادًا لا هَوادةِ فيه؛ وهُم لِعَجْزِهِم عنِ الإِتيانِ بخِلافِ ما يُبَلِّغُ آثَرُوا الحَرْبَ والدَّمارَ والهِجْرةَ، أي إنَّهُم لم يَجِدُوا شَيْئًا كي يُلزِمُوه، ولو وَجَدُوا خِلافَ قَوْلِه لَكانَ إِظهارُه أَهْوَنَ علَيْهِم مِن بَذْلِ النُّفُوسِ والأَموالِ وتَخْرِيبِ الدِّيارِ.
[الحجة الثانية: إقرار رجال الدين من اليهود والنصارى]
الحُجّةُ الثَّانية: لقد خالَطَتْ آياتِ التَّوراةِ والإِنجِيلِ والزَّبُورِ كَلِماتٌ غَرِيبةٌ عَنها، لِتَوالِي تَرْجَماتِها، والْتِباسِ كَلامِ المُفَسِّرِينَ وتَأْوِيلاتِهِمُ الخاطِئةِ معَ آياتِها، حَيثُ إنَّ آياتِها لَيسَ فيها الإِعجازُ الَّذي في آياتِ القُرآنِ الكَرِيمِ، فَضْلًا عَمّا قامَ به الجُهَلاءُ وذَوُو الأَغراضِ السَّيِّئةِ مِن تَحْرِيفاتٍ في تلك الكُتُبِ، فزادَت مِن تلك التَّحرِيفاتِ والتَّغيِيراتِ، حتَّى إنَّ العَلّامةَ المَشهُورَ “رَحْمَةَ اللهِ الهِنْدِيَّ” أَلْزَمَ الحُجّةَ عُلَماءَ اليَهُودِ والنَّصارَى بإِظهارِ أُلُوفٍ مِنَ التَّحْرِيفاتِ في الكُتُبِ السَّابِقةِ.
ومعَ هذا القَدْرِ مِنَ التَّحْرِيفاتِ، فقدِ استَخْرَجَ في هذا العَصْرِ العالِمُ المَشهُورُ “حُسَينٌ الجِسْرُ” رَحِمَه الله مِئةً وعَشَرةَ أَدِلّةٍ على نُبُوَّتِه ﷺ مِن تلك الكُتُبِ، وأَثْبَتَها في كِتابِه المُسَمَّى بـ”الرِّسالةِ الحَمِيدِيّة”، وقامَ المَرحُومُ “إِسماعِيلُ حَقِّي المَنَاسْطِرِيُّ” بتَرجَمةِ الكِتابِ إلى اللُّغةِ التُّركِيّةِ، فمَن أَرادَ فلْيُراجِعْه.
ثمَّ إنَّ كَثِيرًا مِن عُلَماءِ اليَهُودِ والنَّصارَى قد أَقَرُّوا أنَّ في كُتُبِهم أَوْصافَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ، مِنهُم: هِرَقْلُ مِن مُلُوكِ الرُّومِ الَّذي اعْتَرَف قائِلًا: “إنَّ عِيسَى عَليهِ السَّلام قد بَشَّرَ بمُحَمَّدٍ ﷺ”، كما اعْتَرَف صاحِبُ مِصْرَ المُقَوقِسُ، وابنُ صُورِيا، وابنُ أَخْطَبَ، وأَخُوه كَعبُ بنُ أَسَدٍ، والزَّبِيرُ بنُ باطِيا، وغَيرُهُم مِن عُلَماءِ اليَهُودِ ورُؤَسائِهِم قائِلِين: “نعم، إنَّ أَوْصافَه مَوجُودةٌ في كُتُبِنا، ومَذكُورةٌ فيها”.
كما أنَّ كَثِيرًا مِن مَشاهِيرِ عُلَماءِ اليَهُودِ والنَّصارَى قد نَبَذُوا الخُصُومةَ والعِنادَ، وآمَنُوا بالإِسلامِ بَعدَما رَأَوْا أَوْصافَ النَّبِيِّ ﷺ في كُتُبِهِم، وبَيَّنُوها لِغَيْرِهِم مِنَ العُلَماءِ، فأَلزَمُوهُمُ الحُجّةَ، مِنهُم: عَبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ، ووَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ، وأبو ياسِرٍ، وشامُولُ -صاحِبُ تُبَّعٍ- كما آمَنَ تُبَّعٌ قَبلَ البِعثةِ غِيابًا، وابْنا سَعْيةَ وهُما أَسِيدٌ وثَعْلَبةُ اللَّذانِ نادَيَا في قَبِيلةِ بَنِي النَّضِيرِ مُنَدِّدَينِ بِهِم عِندَما حارَبَتِ الرَّسُولَ ﷺ قائِلَينِ: “واللهِ هُو الَّذي عَهِدَ إلَيْكُم فيه ابنُ الهَيْبَانِ”، وابنُ الهَيْبانِ هذا هو الرَّجُلُ العارِفُ باللهِ الَّذي كان قد نَزَل ضَيْفًا على بَنِي النَّضِيرِ قَبلَ البِعْثةِ، وقال لَهُم: “قَرِيبٌ ظُهُورُ نَبِيٍّ هذا دارُ هِجْرَتِه”، وتُوُفِّي هُنالك، إلّا أنَّ قَبِيلةَ بَنِي النَّضِيرِ لم تُلقِ بالًا لَهُما، فأَصابَهُم ما أَصابَهُم.
كما آمَنَ مِن عُلَماءِ اليَهُودِ: ابنُ يامِينَ، ومُخَيْرِيقُ، وكَعْبُ الأَحْبارِ، وأَمثالُهُم كَثِيرٌ مِمَّن رَأَوْا نَعْتَ الرَّسُولِ ﷺ في كُتُبِهِم، وأَلْزَمُوا الحُجّةَ مَن لم يُؤْمِنُوا.
ومِمَّن أَسلَمَ مِن عُلَماءِ النَّصارَى بَحِيرا الرَّاهِبُ -كما مَرَّ سابِقًا- وذلك عِندَما ذَهَب ﷺ معَ عَمِّه أَبي طالِبٍ إلى الشّامِ، وهُو ابنُ اثنَتَيْ عَشْرةَ سَنةً، فصَنَعَ بَحِيرا طَعامًا لِقافِلةِ قُرَيشٍ إِكرامًا لِلنَّبِيِّ ﷺ، ثمَّ نَظَر وإذا بالغَمامةِ الَّتي تُظِلُّ القافِلةَ باقِيةٌ في مَكانِها، قال: فالَّذي أرِيدُه إِذًا ما زالَ باقِيًا هُناك، فأَرسَلَ إلَيْه مَن يَأْتي به، وقال لِعَمِّه أبي طالِبٍ: عُدْ به إلى مَكّةَ، فاليَهُودُ حُسَّادٌ يَكِيدُون له، فإنّا نَجِدُ أَوْصافَه في التَّوْراةِ.
وقد آمَنَ كُلٌّ مِن نَسْطُورِ الحَبَشةِ ومَلِيكِها النَّجاشِي، لَمّا رَأَيا أَوْصافَ النَّبِيِّ ﷺ في كِتابِهِم؛ وأَعلَنَ العالِمُ النَّصْرانِيُّ المَشهُورُ ضَغاطِرُ أَوْصافَه ﷺ بَينَ الرُّومِ، فاسْتُشهِدَ.
وقد آمَنَ أَيضًا حارِثُ بنُ أَبي شَمِرٍ الغَسّانِيُّ -العالِمُ النَّصْرانِيُّ المَشهُورُ- ورُؤَساءُ الرُّوحانيِّينَ في الشّامِ، ومُلُوكُها، أي: صاحِبُ إِيْلِيَا، وهِرَقْلُ، وابنُ ناطُورٍ، وجارُودُ، وأَمثالُهُم، لَمَّا رَأَوْا أَوْصافَه ﷺ في كُتُبِهِم؛ إلّا أنَّ هِرَقْلَ لم يُعْلِنْ إِيمانَه حِرْصًا على الحُكْمِ والسُّلْطةِ.
وأَمثالُ هَؤُلاءِ كَثِيرٌ مِثلَ: سَلْمانَ الفارِسِيِّ الَّذي كان نَصْرانيًّا، وما إن رَأَى أَوْصافَه ﷺ حتَّى أَخَذ يَتَحرَّى عنه، ولَمَّا رَآه أَسلَمَ؛ وكذلك تَمِيمٌ وهُو عالِمٌ جَلِيلٌ، والنَّجاشِي مَلِكُ الحَبَشةِ المَشهُورُ، ونَصارَى الحَبَشةِ، وأَساقِفةُ نَجْرانَ.. فهَؤُلاءِ كُلُّهُم يُخبِرُونَ بالِاتِّفاقِ: أنَّنا آمَنّا لَمّا رَأَيْنا أَوْصافَه ﷺ في كُتُبِنا.
[الحجة الثالثة: نصوص من التوراة والإنجيل]
الحُجّةُ الثّالثةُ: سنَذكُرُ -على سَبِيلِ المِثالِ فحَسْبُ- آياتٍ مِنَ التَّوراةِ والإِنجِيلِ والزَّبُورِ الَّتي تُبَشِّرُ بالرَّسُولِ ﷺ.
الأوَّل: في الزَّبُورِ آيةٌ مُفادُها ما مَعناه: “اللَّهُمَّ ابْعَثْ لَنا مُقِيمَ السُّنّةِ بَعدَ الفَتْرةِ”، ومُقِيمُ السُّنّةِ هُو مِن أَسمائِه ﷺ.
وآيةُ الإِنجِيلِ: “قالَ المَسِيحُ: إنِّي ذاهِبٌ لِيَبْعَثَ فِيكُمُ الفَارِقْلِيطَا” أي: لِيَبعَثَ فيكُم أَحمَدَ.
وآيةٌ أُخرَى مِنَ الإِنجِيلِ: “وإنِّي أَطلُبُ مِن رَبِّي فارِقْلِيطًا يكُونُ مَعَكُم إلى الأَبَدِ”.
والفارِقْلِيطُ: الفارِقُ بَينَ الحَقِّ والباطِلِ، وهُو اسمُ النَّبِيِّ ﷺ في تلك الكُتُبِ.
وآيةُ التَّوْراةِ: “إنَّ اللهَ قالَ لِإِبراهِيمَ: إنَّ هاجَرَ تَلِدُ، ويَكُونُ مِن وَلَدِها مَن يَدُه فَوْقَ الجَمِيعِ، ويَدُ الجَمِيعِ مَبسُوطةٌ إلَيْه بالخُشُوعِ”.
وآيةٌ أُخرَى في التَّوْراةِ: “وقال: يا مُوسَى إنِّي مُقِيمٌ لَهُم نَبِيًّا مِن بَنِي إِخوَتِهم مِثلَك، وأُجْرِي قَوْلي في فَمِه؛ والرَّجُلُ الَّذي لا يَقبَلُ قَوْلَ النَّبِيِّ الَّذي يَتَكلَّمُ بِاسمِي فأَنا أَنتَقِمُ مِنه”.
وآيةٌ ثالِثةٌ في التَّوراةِ: “قال مُوسَى: رَبِّ إنِّي أَجِدُ في التَّوراةِ أُمّةً هُم خَيرُ أُمّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ، يَأمُرُونَ بالمَعرُوفِ ويَنهَوْنَ عنِ المُنكَرِ ويُؤْمِنُونَ باللهِ، فاجْعَلْهُم أُمَّتِي، قال: تلك أُمّةُ مُحَمَّدٍ”.
[تنبيه: وَرَد اسمه ﷺ في الكتب السماوية بأسماءَ عبرية أو سريانية]
تنبيه:
لقد عَبَّرَتِ الكُتُبُ عنِ اسمِ مُحَمَّدٍ ﷺ بأَسماءٍ سُرْيانيّةٍ ضِمنَ أَسماءٍ عِبْرِيّةٍ، فمَثَلًا: (مُشَفَّح، مُنْحَمَنّا، حَمْياطا) وغَيرُها مِنَ الأَسماءِ الَّتي تَرِدُ بمَعنَى مُحَمَّدٍ في اللُّغةِ العَرَبِيّةِ؛ أمّا الِاسمُ الصَّرِيحُ “مُحَمَّدٌ” ﷺ فلَم يَأْتِ إلّا نادِرًا، وهذا قد حَرَّفَه اليَهُودُ لِحَسَدِهِم وعِنادِهِم، مِنها آيةُ الزَّبُورِ:
“يا داوُدُ يَأْتي بَعدَك نَبِيٌّ يُسَمَّى أَحمَدَ ومُحَمَّدًا، صادِقًا سَيِّدًا، أُمَّتُه مَرحُومةٌ”، وقد أَعلَن عن وُجُودِ هذه الآيةِ الآتِيةِ في التَّوراةِ قَبلَ أن تَلعَبَ فيها أَيدِي التَّحرِيفِ كَثِيرًا، كُلٌّ مِن عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ وهُو أَحَدُ العَبادِلةِ السَّبْعةِ ومِنَ الَّذين لَهُمُ اطِّلاعٌ واسِعٌ على الكُتُبِ السَّابِقةِ، وعَبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ وهُو مِن مَشاهِيرِ عُلَماءِ اليَهُودِ الَّذي سَبَق أَقْرانَه في الإِسلامِ، وكَعبُ الأَحبارِ وهُو مِن عُلَماءِ اليَهُودِ.. الآيةُ تُخاطِبُ سَيِّدَنا مُوسَى عَليهِ السَّلام، ثمَّ تَتَّجِهُ إلى النَّبِيِّ الَّذي سيَأْتي:
“يا أَيُّها النَّبِيُّ إنّا أَرْسَلْناك شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا، وحِرْزًا لِلأُمِّيِّين، أَنتَ عَبْدِي، سَمَّيتُك المُتَوَكِّلَ، لَيسَ بِفَظٍّ ولا غَلِيظٍ، ولا صَخّابٍ في الأَسْواقِ، ولا يَدْفَعُ السَّيِّئةَ بالسَّيِّئةِ، بل يَعْفُو ويَغْفِرُ، ولن يَقبِضَه اللهُ حتَّى يُقِيمَ به المِلّةَ العَوْجاءَ بأَن يَقُولُوا: لا إلٰهَ إلّا اللهُ”.
وآيةٌ أُخرَى مِنَ التَّوْراةِ: “مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، مَوْلِدُه بمَكّةَ، وهِجْرَتُه بطَيْبةَ، ومُلْكُه بِالشّامِ، وأُمَّتُه الحَمّادُون”، ولَفظُ “مُحَمَّد” في هذه الآيةِ قد وَرَد بِاسمٍ سُرْيانِيٍّ يَعنِي مُحَمَّدًا.
وأَيضًا آيةٌ أُخرَى مِنَ التَّوْراةِ: “أَنتَ عَبْدِي ورَسُولي، سَمَّيتُك المُتَوَكِّلَ”، فهَذِه الآيةُ تُخاطِبُ الَّذي سيُبْعَثُ بَعدَ مُوسَى عَليهِ السَّلام مِن بَنِي إِسماعِيلَ الَّذين هُم إِخوةُ بَنِي إِسحاقَ.
وآيةٌ أُخرَى مِنَ التَّوْراةِ: “عَبْدِي المُخْتارُ، لَيسَ بِفَظٍّ ولا غَلِيظٍ”، والمُخْتارُ هُو المُصْطَفَى، وهُو اسمٌ مِن أَسماءِ النَّبِيِّ ﷺ.
وقد جاءَت تَعارِيفُ مُتَنوِّعةٌ تَخُصُّ “رَئِيسَ العالَمِ” الَّذي بُشِّرَ به بَعدَ عِيسَى عَليهِ السَّلام في الإِنجِيلِ، مِنها: “مَعَه قَضِيبٌ مِن حَدِيدٍ يُقاتِلُ به، وأُمَّتُه كَذلِك”، فقَضِيبٌ مِن حَدِيدٍ يَعنِي السَّيفَ. أي: سيَأْتِي مَن هُو صاحِبُ السَّيْفِ، وأُمَّتُه مَأْمُورةٌ بالجِهادِ، كما وَصَفَهُم القُرآنُ الكَرِيمُ في خِتامِ سُورةِ الفَتْحِ: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾.
وهُناك آياتٌ كَثِيرةٌ أُخرَى مُشابِهةٌ لِهذِه في الإِنجِيلِ.
جاءَت في البابِ الثّالِثِ والثَّلاثِينَ مِنَ الكِتابِ الخامِسِ مِنَ التَّوْراةِ هذه الآيةُ: “وقالَ: جاءَ الرَّبُّ مِن سَيْنا، وأَشْرَق لَنا مِن ساعِيرَا، واستعْلَن مِن جِبَالِ فاران، ومَعَه أُلُوفُ راياتِ الأَطْهارِ”.
فهَذِه الآيةُ مِثلَما تُخبِرُ عن نُبُوّةِ مُوسَى عَليهِ السَّلام بإِقبالِ الحَقِّ مِن طُورِ سَيْناء، فهِي تُخبِرُ عن نُبُوّةِ عِيسَى عَليهِ السَّلام بـ”أَشْرَق لَنا مِن ساعِيرَا”، وفي الوَقْتِ نَفسِه تُخبِرُ عن نُبُوّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بظُهُورِ الحَقِّ مِن فاران الَّتي هي جِبالُ الحِجازِ بالِاتِّفاقِ، فالآيةُ تُخبِرُ بالضَّرُورةِ عن نُبُوَّتِه ﷺ؛ أمّا “ومَعَه أُلُوفُ الأَطْهارِ” فهِي تُصَدِّقُ حُكْمَ الآيةِ الكَرِيمةِ في خِتامِ سُورةِ الفَتْحِ في: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ… ﴾، إذ تَصِفُ أَصْحابَه ﷺ بالأَطْهارِ القِدِّيسِينَ، وهُمُ الأَوْلياءُ الصّالِحُونَ.
وجاءَت هذه الآيةُ في البابِ الثّاني والأَربَعِينَ مِن كِتابِ النَّبِيِّ أَشْعِيا: “إنَّ الحَقَّ سُبحانَه سيَبْعَثُ صَفِيَّه في آخِرِ الزَّمانِ، وسيُرسِلُ إلَيْه الرُّوحَ الأَمِينَ وهُو جِبْرائِيلُ يُعَلِّمُه، ثمَّ بَعدَ ذلك يُعَلِّمُ النّاسَ كما عَلَّمَه جِبْرائِيلُ، ويَحكُمُ بَينَ النّاسِ بالحَقِّ، وهُو نُورٌ سيُخرِجُ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ. وقد عَلَّمَني رَبِّي ما سيَقَعُ فأَقُولَ لَكُم..”، فهَذِه الآيةُ تُبيِّنُ بوُضُوحٍ تامٍّ أَوْصافَ الرَّسُولِ ﷺ.
وفي البابِ الرَّابِعِ مِن كِتابِ النَّبِيِّ مِيخائِيلَ الآيةُ التّالِيةُ: “ستَكُونُ في آخِرِ الزَّمانِ أُمّةٌ مَرحُومةٌ تَعبُدُ الحَقَّ وتُوْثِرُ الجَبَلَ المُقَدَّسَ، ويَجتَمِعُ إلَيْها خَلْقٌ كَثِيرٌ هُناك مِن كُلِّ إِقْلِيمٍ، تَعبُدُ الرَّبَّ ولا تُشْرِكُ به”. فهَذِه الآيةُ تُبيِّنُ “عَرَفةَ”، والخَلْقُ الكَثِيرُ هُمُ الحُجّاجُ الَّذين يَقْصِدُونَ ذلك الجَبَلَ المُقَدَّسَ، ويَعبُدُونَ اللهَ، وإنَّ الأُمّةَ المَرْحُومةَ هي أُمّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، حَيثُ إنَّ هذا الوَصْفَ شِعارُهُم.
وفي البابِ الثّاني والسَّبعِينَ مِنَ الزَّبُورِ هذه الآيةُ: “إنَّه يَمْلِكُ مِنَ البَحْرِ إلى البَحْرِ، ومِنَ الأَنهارِ إلى أَقاصِي الأَرضِ، وتَرِدُه الهَدايا مِنَ اليَمَنِ والجَزائِرِ، وتَسجُدُ له المُلُوكُ وتَنقادُ إلَيْه، ويُصَلَّى علَيْه كلَّ وَقْتٍ، ويُدْعَى لَه بالبَرَكةِ كلَّ يَوْمٍ، وتُشِعُّ أَنوارُه مِنَ المَدِينةِ، وسيَدُومُ ذِكْرُه أَبَدَ الآبادِ، وأنَّ اسْمَه مَوجُودٌ قَبلَ أن تُخْلَقَ الشَّمسُ، وسيَبْقَى اسْمُه ما بَقِيَتِ الشَّمْسُ”.
فهَذِه الآيةُ صَرِيحةٌ في وَصْفِ النَّبِيِّ ﷺ، فهل جاءَ بَعدَ نَبِيِّ اللهِ داوُدَ عَليهِ السَّلام نَبِيٌّ غَيرُ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّذي أَعلَن الدِّينَ شَرْقًا وغَرْبًا، وجَعَل المُلُوكَ يُعطُونَ له الجِزْيةَ صاغِرِينَ، وانْقادَ له المُلُوكُ والسَّلاطِينُ انقِيادَ خُضُوعٍ ومَحَبّةٍ، وتُوهَبُ له الصَّلَواتُ والأَدْعِيةُ يَومِيًّا مِن خُمُسِ البَشَرِيّةِ، وبَزَغَت أَنْوارُه مِنَ المَدِينةِ.. فهَل هُناك غَيرُه؟
والآيةُ العِشرُونَ مِنَ البابِ الرّابعَ عَشَرَ مِن إِنجِيل يُوحَنّا (المُتَرجَمِ إلى التُّركِيّةِ) هي: “لا أَتَكلَّمُ أَيضًا مَعَكُم كَثِيرًا لِأَنَّ رَئِيسَ هذا العالَمِ يَأْتي، ولَيسَ له فِيَّ شَيءٌ أو لَيسَ له عِندِي مَثِيلٌ”.
فعِبارةُ “رَئِيس العالَمِ” هُو فَخْرُ العالَمِ، وهُو عُنوانٌ مَشهُورٌ لِسَيِّدِنا الرَّسُولِ ﷺ.
والآيةُ السّابِعةُ مِنَ البابِ السّادِسَ عَشَرَ مِن إِنجِيلِ يُوحَنّا: “لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الحَقَّ أنَّه خَيرٌ لَكُم أن أَنْطَلِقَ، لِأَنَّه إن لم أَنطَلِقْ لا يَأْتيكُمُ المُعَزِّي”، فهَلِ المُسَلِّي بَعدَ عِيسَى عَليهِ السَّلام غَيرُ مُحَمَّدٍ ﷺ، فهُو الَّذي يُنقِذُ البَشَرِيّةَ مِن حُكْمِ الزَّوالِ والإِعدامِ الأَبَدِيِّ فيُسَلِّيها، وهُو سَيِّدُ العالَمِينَ وفَخْرُ الكائِناتِ.
والآيةُ الثَّامِنةُ مِنَ البابِ السَّادِسَ عَشَرَ مِن إِنجِيلِ يُوحَنّا: “ومَتَى جاءَ ذاك يُبَكِّتُ العالَمَ على خَطِيّةٍ، وعلى بِرٍّ، وعلى دَيْنُونَةٍ” (أي: يُلزِمُهُم على الخَطِيئةِ والصَّلاح والحُكْمِ)، فالَّذي يُبَدِّلُ فَسادَ العالَمِ إلى صَلاح، ويُنقِذُ النَّاسَ مِنَ الآثامِ والخَطايا والشِّرْكِ، ويُبَدِّلُ أُسُسَ السِّياسةِ والحاكِمِيّةِ في الدُّنيا، مَن يَكُونُ غَيرَ مُحَمَّدٍ ﷺ؟
والآيةُ الحادِيةَ عَشْرةَ مِنَ البابِ السّادِسَ عَشَرَ مِن إِنجِيلِ يُوحَنّا: “لقد جاءَ زَمانُ قُدُومِ سَيِّدِ العالَمِ”، أو: “وأَمّا على دَينُونةٍ فلِأَنَّ رَئِيسَ هذا العالَمِ قد دِينَ”، فلا بُدَّ أنَّ المُرادَ بسَيِّدِ العالَمِ2نعم، أَعظِم به مِن سَيِّد، يَنقادُ له كلَّ عَصْرٍ ثلاثُ مئةٍ وخمسُون مِليونِ شَخصٍ انقِيادَ طاعةٍ وحُبٍّ منذُ ألفٍ وثلاث مئةِ سنة، ويَستَسلِمُون لِأَوامرِه، ويُجَدِّدون معَه البَيعةَ يوميًّا بالسَّلام عليه.﴾ هو سَيِّدُ البَشَرِيّةِ مُحَمَّدٌ ﷺ.
والآيةُ الثّالِثةَ عَشْرةَ مِنَ البابِ السّادِسَ عَشَرَ مِن إِنجِيلِ يُوحَنّا: “إذا جاءَ رُوحُ الحَقِّ ذاك، فهُو الَّذي يُرشِدُكُم إلى الحَقِّ كُلِّه، لِأَنَّه لا يَنطِقُ مِن عِندِه، بل يَتَكلَّمُ بكُلِّ ما يَسمَعُ، ويُخبِرُكُم بالآتي مِنَ الأُمُورِ”.
فهَذِه الآيةُ صَرِيحةٌ في حَقِّ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ، فمَن غَيرُه ﷺ دَعا النَّاسَ جَمِيعًا إلى الحَقِّ؟ ومَن غَيرُه لا يَنطِقُ إلَّا بالوَحْيِ، ويَقُولُ ما يَسمَعُه مِن جِبْرائِيلَ عَليهِ السَّلام؟ ومَن غَيرُه يُخبِرُ عن أَحْداثِ القِيامةِ والآخِرةِ إِخبارًا مُفَصَّلًا؟
ثمَّ إنَّ في صُحُفِ الأَنبِياءِ أَسْماءً لِلرَّسُولِ ﷺ تُفِيدُ مَعنَى “مُحَمَّد” “أَحمَد” “المُختار” “مُصْطَفًى” وذلك باللُّغةِ السُّريانيّةِ والعِبْرِيّة.
ففي صُحُفِ شُعَيْبٍ عَليهِ السَّلام: ثَمّةَ: (مُشَفَّحٌ) وهي بمَعنَى: “مُحَمَّدٌ”، كما أنَّ في التَّوراةِ اسمَ: (مُنْحَمَنّا) وهذا بمَعنَى اسمِ “مُحَمَّد”، كما جاءَ في الزَّبُورِ: (حُمَياطا) وهُو بمَعنَى نَبِيِّ الحَرَمِ، وفيه أَيضًا (المُختارُ)، وقد جاءَ في التَّوْراةِ اسمُ (الحاتِم، الخاتَم)، وجاءَت كَلِمةُ (مُقِيمُ السُّنّة) في كُلٍّ مِنَ التَّوْراةِ والزَّبُورِ، وفي صُحُفِ إِبراهِيمَ والتَّوْراةِ: (مازماز)، وفي التَّوْراةِ أَيضًا: (أَحِيدُ).
وقد قالَ الرَّسُولُ ﷺ: “اِسْمِي في القُرآنِ مُحَمَّدٌ، وفي الإِنجِيلِ أَحمَدُ، وفي التَّوْراةِ أَحِيدُ”.
ومِنَ الأَسماءِ النَّبَوِيّةِ الَّتي وَرَدَت في الإِنجِيل: “صاحِبُ القَضِيبِ والهِراوةِ”، فلا شَكَّ أنَّه أَعظَمُ نَبِيٍّ بَينَ الأَنبِياءِ بجِهادِه وجِهادِ أُمَّتِه.
وكَذلِك: “إنَّه صاحِبُ التَّاجِ”، فهَذِه الصِّفةُ خاصّةٌ به ﷺ، إذِ الأُمّةُ العَرَبِيّةُ هُمُ المَعرُوفُونَ بالعِمامةِ والعِقالِ بَينَ الأُمَمِ، والتَّاجُ والعِمامةُ بمَعنًى واحِدٍ؛ فصاحِبُ التَّاجِ المَذكُورُ في الإِنجِيلِ لَيسَ إلّا الرَّسُولَ ﷺ.
وفيه كَذلِك: “البارِقْلِيط”، أو: “الفارِقْلِيطُ”، ومَعناه كما جاءَ في تَفسِيرِ الإِنجِيلِ: الفارِقُ بَينَ الحَقِّ والباطِلِ، وهُو اسمُ النَّبِيِّ ﷺ الَّذي يَدْعُو النَّاسَ إلى الحَقِّ.
وقد قال عِيسَى عَليهِ السَّلام في الإِنجِيلِ: “سأَذْهَبُ كي يَجِيءَ سَيِّدُ العالَم”، فهل غَيرُ مُحَمَّدٍ ﷺ قد جاءَ بَعدَ عِيسَى عَليهِ السَّلام، وتَرَأَّسَ العالَمَ وفَرَّق بَينَ الحَقِّ والباطِلِ، وأَرْشَدَ النّاسَ إلى الخَيرِ والصَّلاحِ؟ أي إنَّ عِيسَى عَليهِ السَّلام كان يُبَشِّرُ دَوْمًا أنَّه سيَأْتِي أَحَدُهم بَعدِي، ولا تَبقَى الحاجةُ إِلَيَّ، فأَنا مُقَدِّمةٌ له، كما يُصَرِّحُ بذلك القُرآنُ الكَرِيمُ: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾.
نعم، إنَّ عِيسَى عَليهِ السَّلام قد بَشَّرَ أُمَّتَه كَثِيرًا بأنَّه سيَجِيءُ سَيِّدُ العالَمِ 3لقد رَأَى الرَّحّالُ التُّركيُّ المَشهُورُ “أُوليا چَلَبيّ” في مَقبَرة شَمعُون الصَّفا إنجيلًا مكتوبًا على جِلدِ الغزال، فقرأ فيه الآية الآتية: (ايتون) مولود (آزربيون) من نسلِ إبراهيم (بروفتون) يُصبح نبيًّا (لوغسلين) ليس كذّابًا (بنت افنزولات) يكون مولدُه بمكّة (كه كالوشير) يأتي بالصلاح والرشاد (تونو منين) اسمُه المبارَكُ (مواميت) (محرّفة عن “محمد”) أَحمَد مُحمَّد (ايسفيدوس) الذين معه ويتَّبِعُونه (تاكرديس) هم أساسُ هذه الدنيا (بيست بيث) وهو سيِّد العالَم. ورَئِيسُه، ويَذْكُرُه بأَسماءٍ مُختَلِفةٍ سَواءٌ بالسُّرْيانيّةِ أوِ العِبْرِيّةِ؛ فالعُلَماءُ المُحَقِّقُون يَرَوْن أن هذه الأَسماءَ تَعنِي: أَحمَد، مُحَمَّد، الفارِق بَينَ الحَقِّ والباطِلِ.
[لماذا بشَّر سيدنا عيسى بالنبي ﷺ أكثر مما بشَّر سائر الأنبياء؟]
سُؤالٌ: لِمَ بَشَّر عِيسَى عَليهِ السَّلام بقُدُومِ النَّبِيِّ ﷺ أَكثَرَ مِن غَيرِه مِنَ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلام، بَينَما اكْتَفَى الآخَرُونَ بالإِخبارِ عنه فَقَطْ؟
الجَوابُ: لِأَنَّ الرَّسُولَ الكَرِيمَ ﷺ قد أَنقَذَ عِيسَى عَليهِ السَّلام مِن تَكْذِيبِ اليَهُودِ ومِنِ افْتِراءاتِهِمُ الشَّنِيعةِ، وأَنقَذ دِينَه مِن تَحرِيفاتٍ فَظِيعةٍ، فَضْلًا عن أنَّه أَتَى بشَرِيعةٍ سَمْحاءَ بَدَلًا مِن تلك الشَّرِيعةِ الَّتي أَرْهَقَت بَنِي إِسرائِيلَ الَّذِين لا يُؤْمِنُون بعِيسَى عَليهِ السَّلام، فهذه الشَّرِيعةُ الغَرَّاءُ جامِعةٌ لِلأَحكامِ، مُكَمِّلةٌ لِما هُو ناقِصٌ في شَرِيعةِ عِيسَى عَليهِ السَّلام.. ومِن هُنا تَأْتي بِشارةُ عِيسَى عَليهِ السَّلام بالرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ بأنَّه سيَأْتي رَئِيسُ العالَمِ.
وهكَذا، نَرَى كَيفَ أنَّ التَّوْراةَ والإِنجِيلَ والزَّبُورَ وسائِرَ صُحُفِ الأَنبِياءِ قدِ اعتَنَت بنَبِيِّ آخِرِ الزَّمانِ، وتَضُمُّ آياتٌ كَثِيرةٌ نُعُوتَه، كما بَيَّنّا نَماذِجَ مِنها.. فهُو مَذْكُورٌ بأَسماءٍ ونُعُوتٍ مُختَلِفةٍ في تلك الكُتُبِ.. تُرَى! مَن يكُونُ نَبِيُّ آخِرِ الزَّمانِ الَّذي ذَكَرَتْه جَمِيعُ كُتُبِ الأَنبِياءِ ذِكْرًا جادًّا إلى هذا الحَدِّ، في آياتٍ مُكَرَّرةٍ مِنها، غَيرُ مُحَمَّد ﷺ؟!
[القسم الثاني: إخبارات الكهان والأولياء في زمن الفترة]
القِسمُ الثّاني مِنَ الإِرهاصاتِ ودَلائِلِ النُّبوّةِ: إِخبارُ الكُهَّانِ والأَوْلياءِ العارِفِين باللهِ في عَهْدِ “الفَتْرةِ” (أي: قَبلَ البِعثةِ النَّبَوِيّةِ) عن مَجِيئِه ﷺ، فقد أَعلَنُوا عنه أَمامَ المَلَأِ، وتَرَكُوا أَخبارَهُم لَنا في أَشْعارِهِم.. هذه الإِخباراتُ كَثِيرةٌ جِدًّا، فلا نَذكُرُ مِنها إلّا ما هُو مُنتَشِرٌ ومَشهُورٌ ومَقبُولٌ لَدَى رِجالِ السِّيَرِ والتّارِيخِ.
[ثمانية أخبارٍ من الأولياء العارفين بالله في زمن الفترة]
الأوَّلُ: ما رآه المَلِكُ تُبَّعٌ -مِن مُلُوكِ اليَمَنِ- مِن أَوْصافِ الرَّسُولِ ﷺ في الكُتُبِ القَدِيمةِ، وآمَن، وأَعلَن ذلك شِعْرًا:
شَهِدتُ على أَحمَدٍ أنَّهُ * رَسُولٌ مِنَ اللهِ بارِي النَّسَمْ
فلو مُدَّ عُمْري إلى عُمْرِهِ * لَكُنتُ وَزِيرًا له وابنَ عَمّ
أي: كُنتُ له كعَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ.
الثَّاني: إِعلانُ قُسِّ بنُ ساعِدةَ -الشَّهِيرُ بأَبلَغِ خُطَباءِ العَرَبِ والمُوَحِّدُ- عنِ الرِّسالةِ الأَحمَدِيّةِ شِعْرًا قَبلَ البِعثةِ بالأَبياتِ الآتِيةِ:
أُرسِلَ فينا أَحمَدٌ * خَيرُ نَبِيٍّ قد بُعِثْ
صَلَّى علَيْه اللهُ ما * عَجَّ له رَكْبٌ وحَثّ
الثَّالثُ: ما قالَه كَعبُ بنُ لُؤَيٍّ وهُو أَحَدُ أَجْدادِ النَّبِيِّ ﷺ، فأُلهِمَ هذا البَيْتَ عنِ الرِّسالةِ الأَحمَدِيّةِ.
على غَفْلةٍ يَأْتي النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ * فيُخْبِرُ أَخبارًا صَدُوقًا خَبِيرُها
الرّابعُ: ما رَآه سَيْفُ بنُ ذِي يَزَنَ أَحَدُ مُلُوكِ اليَمَنِ في الكُتُبِ السَّابِقةِ مِن أَوْصافِ الرَّسُولِ ﷺ، وآمَنَ به واشْتاقَ إلَيْه، وعِندَما ذَهَب جَدُّ النَّبِيِّ ﷺ إلى اليَمَنِ معَ قافِلةِ قُرَيْشٍ دَعاهُمُ المَلِكُ سَيْفُ بنُ ذِي يَزَنَ وقالَ لَهُم: إذا وُلِدَ بتِهامةَ، وَلَدٌ بَينَ كَتِفَيْه شامةٌ، كانَت له الإِمامةُ، وإنَّك -عَبدَ المُطَّلِبِ- لَجَدُّه.
الخامِسُ: عِندَما نَزَل الوَحْيُ لِأَوَّلِ مَرّةٍ على الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ، أَخَذَه الخَوْفُ والرَّوْعُ، فانْطَلَقَتْ به خَدِيجةُ حتَّى أَتَت وَرَقةَ بنَ نَوْفَلٍ (ابنَ عَمِّ خَدِيجةَ)، فقالَت: يا ابنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابنِ أَخِيك. فقال له وَرَقةُ: يا ابنَ أَخِي، ماذا تَرَى؟ فأَخبَرَه رَسُولُ اللهِ ﷺ ما رَأَى. فقال له وَرَقةُ: هذا النَّامُوسُ الَّذي نَزَّلَ اللهُ على مُوسَى، يا لَيتَنِي فيها جَذَعًا! يا لَيتَنِي أَكُونُ حَيًّا إذ يُخرِجُك قَوْمُك!
ومِمّا قالَه وَرَقةُ: بَشِّرْ يا مُحَمَّدُ، إنِّي أَشهَدُ أنَّك أَنتَ النَّبِيُّ المُنتَظَرُ، وبَشَّرَ بكَ عِيسَى.
السَّادسُ: لَمّا رَأَى عَثْكَلانُ الحِمْيَريُّ العارِفُ بالله قُرَيْشًا قَبلَ البِعْثةِ قال لَهُم: هل فِيكُم مَن يَدَّعِي النُّبوّةَ؟ فأَجابُوه: لا، ثمَّ سَأَل السُّؤالَ نَفْسَه زَمَنَ البِعْثةِ، فقالُوا: نعم، إنَّ فِينا مَن يَدَّعِي النُّبوّةَ، فقال: إنَّ العالَمَ يَنتَظِرُه.
السَّابعُ: أَخبَرَ أَحَدُ عُلَماءِ النَّصارَى وهُو (الجارُودُ ابنُ عَبدِ اللهِ) عنِ النَّبِيِّ ﷺ قَبلَ البِعْثةِ، ثمَّ جاءَ بَعدَ البِعْثةِ فرَأَى النَّبِيَّ ﷺ وقال له: والَّذي بَعَثَك بالحَقِّ لَقَد وَجَدتُ صِفَتَك في الإِنجِيلِ، وبَشَّر بك ابنُ البَتُولِ.
الثَّامِنُ: قال النَّجاشِي مَلِكُ الحَبَشةِ الَّذي سَبَق ذِكْرُه: لَيْتَ لي خِدْمَتُه بَدَلًا عن هذه السَّلْطَنةِ.
[أخبار من الكهان في زمن الفترة]
وبَعدَما ذَكَرْنا ما تَنَبَّأَ به هَؤُلاءِ العارِفُونَ بإِلهامٍ مِنَ اللهِ عن مَجِيءِ الرَّسُولِ ﷺ، نُورِدُ ما قالَه الكُهّانُ وتَنَـبَّؤُوا به مِن أَخبارِ الغَيْبِ بواسِطةِ الأَرواحِ والجِنِّ، فقد صَرَّحُوا بمَجِيءِ النَّبِيِّ ﷺ، وتَنَـبَّؤُوا عن نُبُوَّتِه وهُم كَثِيرُونَ، لَكِنَّنا لن نُورِدَ هُنا إلّا ما هُو في حُكْمِ المُتَواتِرِ، ومَذكُورٌ في كُتُبِ السِّيرةِ والتّارِيخِ، ونُحِيلُ قِصَصَهُمُ المُطَوَّلةَ وأَقوالَهُمُ المُسْهَبةَ إلى كُتُبِ السِّيرةِ؛ فلا نَذكُرُ هُنا إلّا الخُلاصةَ.
الأوَّلُ: الكاهِنُ المَوْسُومُ بـ”شِقّ” الَّذي كان شِقَّ إِنسانٍ: يَدًا واحِدةً، ورِجْلًا واحِدةً، وعَيْنًا واحِدةً؛ أَخبَرَ هذا الكاهِنُ عنِ النَّبِيِّ ﷺ مِرارًا حتَّى بَلَغَت أَقوالُه حَدَّ التَّواتُرِ.
الثَّاني: كاهِنُ الشَّامِ المُسَمَّى بـ”سَطِيح” الَّذي كان أُعجُوبةً مِنَ العَجائِبِ، حَيثُ كان جَسَدًا لا جَوارِحَ له ولا عَظْمَ فيه إلّا الرَّأْسُ، ووَجْهُه في صَدْرِه، وقد عاشَ كَثِيرًا، اشْتَهَرَت أَخبارُه الغَيبِيّةُ الصّادِقةُ كَثِيرًا حتَّى إنَّ كِسْرَى مَلِكَ فارِسَ عِندَما رَأَى الرُّؤْيا العَجِيبةَ الَّتي هالَتْه إِضافةً إلى انشِقاقِ شُرُفاتِ إِيوانِه الأَربَعَ عَشْرةَ وسُقُوطِها زَمَنَ وِلادةِ الرَّسُولِ ﷺ، بَعَثَ عالِمًا اسمُه “مُوبَذانُ” لِيَسْأَلَ سَطِيحًا عن حِكْمةِ هذه الأُمورِ، فأَرسَلَ إلى كِسْرَى كَلامًا بهذا المَعنَى: “سيَحْكُمُ فيكُم أَربَعةَ عَشَرَ مَلِكًا، ثمَّ ستُمْحَى سَلْطَنَتُكُم وتُزالُ دَوْلتُكُم، وسيَأْتي مَن يُظهِرُ دِينًا جَدِيدًا، فيَكُونُ سَبَبًا في زَوالِ دِينِكُم ودَوْلَتِكُم”، وهكذا أَخبَرَ سَطِيحٌ خَبَرًا صَرِيحًا عن مَجِيءِ نَبِيِّ آخِرِ الزَّمانِ.
وقد أَخبَرَ سَوادُ بنُ قارِبٍ الدَّوْسِيُّ، وخَنافِرُ وأَفعَى نَجْرانَ (مِن مُلُوكِها)، وجَذْلُ بنُ جَذْلٍ الكِنْدِيُّ، وابنُ خَلَصةَ الدَّوْسِيُّ، وفاطِمةُ بِنتُ النُّعمانِ النَّجّارِيّةُ وأَمثالُهُم مِنَ الكُهّانِ المَشهُورِينَ، قد أَخبَرُوا جَمِيعًا عن مَجِيءِ نَبِيِّ آخِرِ الزَّمانِ، وأنَّه مُحَمَّدٌ ﷺ كما ذَكَرَتْه كُتُبُ التّارِيخِ والسِّيرةِ مُفَصَّلًا.
وإنَّ سَعْدَ بنَ بِنتِ كُرَيزٍ وهُو مِن أَقارِبِ عُثْمانَ رَضِيَ الله عَنهُ قد تَلَقَّى بطَرِيقِ الكَهانةِ خَبَرَ نُبُوّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ الغَيْبِ، فأَشارَ إلى عُثْمانَ رَضِيَ الله عَنهُ بالإِيمانِ في أَوَّلِ ظُهُورِ الإِسلامِ قائِلًا: انْطَلِقْ إلى مُحَمَّدٍ وآمِنْ. فآمَنَ عُثْمانُ، وأَوْرَدَه سَعْدٌ شِعْرًا:
هَدَى اللهُ عُثْمانَ بقَوْلي إلى الَّتي * بها رُشْدُه واللهُ يَهْدِي إلى الحَقِّ
[إخبارات الهواتف الغيبية]
وأَخبَرَتِ الهَواتِفُ أَيضًا كما أَخبَرَ الكُهّانُ عن مَجِيءِ الرَّسُولِ ﷺ. والهاتِفُ هو الصَّوْتُ العالي الَّذي يُسْمَعُ مِمَّن لا يُرَى شَخْصُه.
مِنها: سَماعُ ذِيابِ بنِ الحارِثِ هاتِفًا مِن جِنِّيٍّ، وأَصبَحَ سَبَبًا لإِسْلامِه وإِسلامِ غَيرِه:
يا ذِيابُ يا ذِياب
اِسْمَعِ العَجَبَ العُجابْ
بُعِثَ مُحَمَّدٌ بالكِتابْ
يَدْعُو بمَكّة فلا يُجابْ
ومِنها: سَماعُ ابنِ قُرّةَ الغَطَفانِيُّ هاتِفًا يقُولُ:
جاءَ حَقٌّ فسَطَعْ
ودُمِّر باطِلٌ فانْقَمَعْ
فكانَ سَبَبًا في إِيمانِ بَعضِ النّاسِ.
وهكَذا، فبِشارةُ الكُهّانِ والهَواتِفِ مَشهُورةٌ وكَثِيرةٌ جِدًّا.
وقد سُمِعَ مِن جَوْفِ الأَصنامِ وذَبائِحِ النُّصُبِ خَبَرُ مَجِيءِ النَّبِيِّ ﷺ كما سُمِعَ مِنَ الكُهّانِ والهَواتِفِ.
مِنها: أنَّ صَنَمَ قَبِيلةِ مازِنٍ أَخبَرَ عنِ الرِّسالةِ الأَحمَدِيّةِ، إذ نادَى فقال: هذا النَّبِيُّ المُرسَلُ، جاءَ بالحَقِّ المُنزَلِ.
وكَذلِك فإنَّ سَبَبَ إِسلامِ عَبّاسِ بنِ مِرْداسٍ هذه الحادِثةُ المَشهُورةُ: أنَّه كان له صَنَمٌ يُسَمَّى بـ”ضِمار”، فقالَ ذلك الصَّنَمُ يَوْمًا.
أَوْدَى ضِمارٌ وكان يُعبَد
قَبلَ البَيانِ مِنَ النَّبِيِّ مُحَمَّد
وقد سَمِعَ عُمَرُ رَضِيَ الله عَنهُ قَبلَ إِسلامِه صَوْتًا مِن عِجْلٍ قرَّبَه رَجُلٌ لِيَذْبَحَه قُرْبانًا لِصَنَمٍ يقُولُ: يا آلَ الذَّبِيح، أَمْرٌ نَجِيح، رَجُلٌ فَصِيح، يَقُولُ: لا إلٰهَ إلّا اللهُ.
وهكذا، فهُناك حَوادِثُ مُشابِهةٌ كَثِيرةٌ جِدًّا أَمثالَ ما ذَكَرْناه قد نَقَلَتْها الكُتُبُ المَوثُوقةُ في السِّيرةِ والتّارِيخِ.
وكما أنَّ الكُهّانَ والعارِفِينَ باللهِ والهَواتِفَ -حتَّى الأَصنامَ والذَّبائِحَ- أَخبَرُوا عنِ الرِّسالةِ الأَحمَدِيّةِ، وأَصبَحَ كُلُّ حادِثٍ سَبَبًا لِإِسلامِ قِسمٍ مِنَ النّاسِ، كذَلِك بَعضُ الأَحجارِ وشَواهِدِ القُبُورِ وُجِدت علَيْها عِباراتٌ بالخَطِّ القَدِيمِ “مُحَمَّدٌ مُصْلِحٌ أَمِينٌ”، وقد آمَنَ بسَبَبِ ذلك قِسمٌ مِنَ النّاسِ.
نعم، إنَّ عِبارةَ “مُحَمَّدٌ مُصْلِحٌ أَمِينٌ” حَرِيَّةٌ بالنَّبِيِّ ﷺ، إذ هُو المُتَّصِفُ بالمُصْلِحِ الأَمِينِ، ولِأَنَّه لم يَكُن قَبلَ ذلك مَن يَتَسَمَّى بِاسمِ مُحَمَّدٍ سِوَى رِجالٍ، وهُم غَيرُ جَدِيرِينَ بهذا الوَصفِ.
[القسم الثالث: الحوادث التي ظهرت عند مولده ﷺ]
القِسمُ الثَّالثُ مِنَ الإِرهاصاتِ: الآياتُ والحَوادِثُ الَّتي ظَهَرَت عِندَ مَوْلِدِه ﷺ، فالحَوادِثُ الَّتي يَرتَبِطُ ظُهُورُها بمَوْلِدِه، والَّتي حَدَثَتْ قَبلَ البِعْثةِ، يُعَدُّ كُلٌّ مِنها مُعجِزةً مِن مُعجِزاتِه، وهي كَثِيرةٌ جِدًّا، إلّا أنَّنا سنُورِدُ هُنا أَمثِلةً مَشهُورةً قَبِلَها أَئِمّةُ الحَدِيثِ، وثَبَتَت لَدَيْهِم صِحَّتُها.
الأوَّلُ: ما رَأَتْه أُمُّه ﷺ “مِنَ النُّورِ الَّذي خَرَج مَعَه عِندَ وِلادَتِه”، ورَأَتْه أُمُّ عُثْمانَ بنِ العاصِ وأُمُّ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوْفٍ اللَّتانِ باتَتا عِندَها لَيْلةَ الوِلادةِ. فقد قُلْنَ: رَأَيْنا نَوْرًا حِينَ الوِلادةِ أَضاءَ لَنا ما بَينَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ.
الثَّاني: انتِكاسُ مُعظَمِ الأَصنامِ الَّتي كانَت في الكَعْبةِ.
الثَّالثُ: “ارْتِجاجُ إِيوانِ كِسْرَى وسُقُوطُ شُرُفاتِه” الأَرْبَعَ عَشْرةَ.
الرَّابعُ: “غَيضُ بُحَيْرةِ ساوَةَ” تلك اللَّيْلةَ، وهي الَّتي كانَت تُقَدَّسُ؛ “وخُمُودُ نارِ فارِسَ وكانَ لَها أَلفُ عامٍ لم تَخْمُدْ” حَيثُ كانَت تُوقَدُ في إِصْطَخْرَابادَ، ويَعبُدُها المَجُوسُ.
فهذه الحَوادِثُ الأَربَعُ إنَّما هي إِشاراتٌ إلى أنَّ ذلك المَوْلُودَ الجَدِيدَ سيَحْظُرُ عِبادةَ الأَصنامِ، وسيُدَمِّرُ سَلْطَنةَ فارِسَ، وسيُحَرِّمُ تَقدِيسَ ما لا يَأْذَنُ به اللهُ.