المكتوبات

المكتوب الخامس عشر: [حول الفتن التي جرت في الصدر الأول]

[هذا المكتوب يفسر بعض وقائع الفتن التي جرت في زمن الخلافة الراشدة، كما يبيِّن بعض مسائل آخر الزمان كنزول سيدنا عيسى وخروج الدجال]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

وإن القَدَر الإلهي قد قضى أن يتسنَّم الحسن والحسين وآل البيت سلطنة معنوية سامية باقية، بدلًا من سلطنة دنيوية مؤقتة.
وإن القَدَر الإلهي قد قضى أن يتسنَّم الحسن والحسين وآل البيت سلطنة معنوية سامية باقية، بدلًا من سلطنة دنيوية مؤقتة.
المحتويات عرض

المكتوب الخامس عشر‌

 

بِاسْمِهِ سُبحَانَهُ

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه

أَخِي العَزِيزَ..‌

[س (1): لماذا لم يكشف الصحابة المفسدين زمن الخلافة الراشدة؟]

إنَّ سُؤالَك الأَوَّلَ الَّذي هو: مَعلُومٌ أنَّ صِغارَ الصَّحابةِ هم أَعظَمُ بكَثِيرٍ مِن أَعاظِمِ الأَولِياءِ، فلِماذا إِذًا لم يَكشِفِ الصَّحابةُ الكِرامُ بنَظَرِ وِلايَتِهِمُ المُفسِدِينَ المُندَسِّينَ في المُجتَمَعِ، حتَّى سَبَّبُوا استِشْهادَ ثَلاثةٍ مِنَ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ؟

جَوابُه: في مَقامَينِ اثنَينِ:

[المقام الأول: حول سر ولاية الصحابة رضي الله عنهم]

المقام الأوَّل:‌

بتَوضِيحِ سِرٍّ دَقِيقٍ لِلوِلايةِ وبَيانِه تُحَلُّ عُقْدةُ السُّؤالِ، وهُو أنَّ وِلايةَ الصَّحابةِ الكِرامِ هي “الوِلايةُ الكُبْرَى”، ومَنبَعُها وأُصُولُها الأُولَى مِن وِراثةِ النُّبوّةِ، وطَرِيقُها: النُّفُوذُ مِنَ الظّاهِرِ إلى الحَقِيقةِ مُباشَرةً، مِن دُونِ المُرُورِ بطَرِيقِ البَرزَخِ؛ فهِي وِلايةٌ مُتَوجِّهةٌ إلى انكِشافِ “الأَقرَبِيّةِ الإِلٰهِيّةِ” حَيثُ إنَّ طَرِيقَ هذه الوِلايةِ رَغمَ قِصَرِها الشَّدِيدِ سامِيةٌ وعالِيةٌ جِدًّا، خَوارِقُها قَلِيلةٌ وكُشُوفاتُها وكَراماتُها نادِرًا ما تَظهَرُ، إلّا أنَّ مَزاياها وفَضائِلَها عالِيةٌ جِدًّا.

بَينَما كَراماتُ الأَولِياءِ أَغلَبُها لَيسَتِ اختِيارِيّةً، فقد يَظهَرُ مِنهُم أَمرٌ خارِقٌ لِلعادةِ مِن حَيثُ لم يَحتَسِبُوا، إِكرامًا مِنَ اللهِ لَهُم، وأَغلَبُ هذه الكُشُوفاتِ والكَراماتِ يَظهَرُ لَهُم أَثناءَ مَرحَلةِ السَّيرِ والسُّلُوكِ وعِندَ مُرُورِهِم في بَرزَخِ الطَّرِيقةِ؛ وحِينَما يَتَجرَّدُونَ -إلى حَدٍّ مّا- مِن حُظُوظِ البَشَرِيّةِ يَنالُونَ حالاتٍ خارِقةً لِلعادةِ.

أمَّا الصَّحابةُ الكِرامُ رِضوانُ اللهِ علَيْهِم أَجمَعِينَ فهُم لَيسُوا مُضطَرِّينَ إلى قَطعِ الدّائِرةِ العَظِيمةِ بالسَّيرِ والسُّلُوكِ ضِمنَ الطَّرِيقةِ لِلوُصُولِ إلى الحَقِيقةِ، وذلك لِتَشَرُّفِهِم بانعِكاسِ أَنوارِ الصُّحبةِ النَّبوِيّةِ الشَّرِيفةِ، فهُم قادِرُونَ -بهذا السِّرِّ- أن يَنفُذُوا مِنَ الظّاهِرِ إلى الحَقِيقةِ بخُطْوةٍ واحِدةٍ وفي جَلسةٍ واحِدة.

[“القربية الإلهية” و”الأقربية الإلهية”]

فمَثلًا: إنَّ هُنالِك طَرِيقَينِ لِإِدراكِ لَيْلةِ القَدْرِ الَّتي مَضَت لَيْلَتُها بالأَمسِ وغَدَت ماضِيًا:

الأُولَى: مُعاناةُ الأَيّامِ يَوْمًا بَعدَ يَوْمٍ سَنةً كامِلةً، لِأَجلِ الوُصُولِ إلى تلك اللَّيْلةِ المُبارَكةِ مَرّةً أُخرَى ومُقابَلَتِها ومُوافَقَتِها؛ فلا بُدَّ مِنَ السَّيرِ والسُّلُوكِ وقَطْعِ سَنةٍ كامِلةٍ لِلظَّفَرِ بهذه “القُربِيّةِ الإِلٰهِيّةِ“، وهذا هو مَسلَكُ مُعظَمِ السّالِكِينَ مِن أَهلِ الطُّرُقِ.

الثَّانيةُ: الِانسِلالُ مِن غِلافِ الجِسمِ المادِّيِّ المُقَيَّدِ بالزَّمانِ، والتَّسامِي رُوحِيًّا بالتَّجَرُّدِ، ورُؤْيةِ لَيْلةِ القَدْرِ الماضِيةِ بالأَمسِ معَ لَيْلةِ العِيدِ المُقبِلةِ بَعدَ يَومٍ حاضِرَتَينِ ماثِلَتَينِ كأنَّهُما اليَومُ الحاضِرُ، حَيثُ إنَّ الرُّوحَ لَيسَت مُقَيَّدةً بالزَّمانِ.. فحِينَما تَسمُو الأَحاسِيسُ الإِنسانيّةُ إلى دَرَجةِ رَهافةِ الرُّوحِ يَتَوسَّعُ ذلك الزَّمانُ الحاضِرُ، ويَطْوِي فيه الماضِيَ والمُستَقبَلَ، فتكُونُ الأَوقاتُ الماضِيةُ والمُستَقبَلةُ بالنِّسبةِ لِلآخَرِينَ بمَثابةِ الحاضِرِ بالنِّسبةِ إلَيْه.

في ضَوْءِ هذا التَّمثِيلِ، يكُونُ العُبُورُ إلى لَيْلةِ القَدْرِ الماضِيةِ بالأَمسِ، بالرُّقيِّ إلى مَرتَبةِ الرُّوحِ ومُشاهَدةِ الماضِي كأَنَّه الحاضِرُ.. وأَساسُ هذا السِّرِّ الغامِضِ إنَّما هو انكِشافُ “الأَقرَبِيّةِ الإِلٰهِيّةِ“.

ولْنُوَضِّحْ هذا بمِثالٍ:

إنَّ الشَّمسَ قَرِيبةٌ مِنّا لِأنَّ ضِياءَها وحَرارَتَها وصُورَتَها تَتَمثَّلُ في مِرآتِنا الَّتي في أَيدِينا، ولكِن نَحنُ بَعِيدُونَ عنها، فلو أَحسَسْنا بأَقرَبِيَّتِها مِن حَيثُ النُّورانيّةُ، وأَدْرَكْنا عَلاقَتَنا معَ صُورَتِها المِثاليّةِ في مِرآتِنا، وعَرَفْناها بتِلك الواسِطةِ، ولَمَسْنا حَقِيقةَ ضِيائِها وحَرارَتِها وهَيْئَتِها، فإنَّ أَقرَبِيَّتَها تَنكَشِفُ لنا لِدَرَجةٍ تُغرِينا بتَكْوِينِ عَلاقةٍ مَعَها عن مَعرِفةٍ وقُربٍ.

ولكِن لو أَرَدْنا التَّقَرُّبَ إلَيْها والتَّعَرُّفَ علَيْها مِن حَيث بُعدُنا عنها، لَاضْطُرِرنا إلى كَثِيرٍ جِدًّا مِنَ السَّيرِ الفِكْرِيِّ والسُّلُوكِ العَقْلِيِّ لِنَصعَدَ فِكْرِيًّا بصُحْبةِ القَوانِينِ العِلمِيّةِ إلى السَّماواتِ، ونَتَصوَّرَ مِن ثَمّةَ الشَّمسَ مُتَألِّقةً في فَضاءِ الكَونِ، ولا بُدَّ مِنَ الِاستِعانةِ بهذه القَوانِينِ والتَّدقِيقاتِ المُطَوَّلةِ جِدًّا لِإِدراكِ ما في ماهِيَّتِها مِن ضِياءٍ وحَرارةٍ وأَلوانٍ سَبعةٍ.. وبَعدَ هذا كُلِّه قد نَحصُلُ على القُربِيّةِ المَعنَوِيّةِ مِنها، بمِثلِ الَّتي حَصَل علَيْها الشَّخصُ الأَوَّلُ بتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ في مِرآتِه.

وعلى غِرارِ هذا المِثالِ: فالنُّبوّةُ، والوِلايةُ المَورُوثةُ عنها، مُتَوجِّهَتانِ إلى انكِشافِ “الأَقرَبِيّةِ الإِلٰهِيّةِ“؛ أمّا سائِرُ الوِلاياتِ فإنَّ مُعظَمَها تَسلُكُ على أَساسِ “القُربِيّةِ الإِلٰهِيّةِ“، فتُضطَرُّ إلى السَّيرِ والسُّلُوكِ عَبْرَ مَراتِبَ عِدّةٍ قَبلَ بُلُوغِها المَقامَ المَطلُوبَ.

[المقام الثاني: مصدر الفتن لم يكن قلةً من اليهود]

المقام الثَّاني:‌

إنَّ الَّذي كان وَراءَ حَوادِثِ الفِتَنِ لَيسَ هو عَددًا قَلِيلًا مِنَ اليَهُودِ كي يُمكِنَ حَصْرُهُم وإِيقافُ ذلك الفَسادِ، وإِطفاءُ تلك الفِتَنِ بمُجَرَّدِ كَشْفِهِم، إذ بدُخُولِ أَقوامٍ كَثِيرةٍ مُتَبايِنةٍ إلى حَظِيرةِ الإِسلامِ، تَداخَلَت واختَلَطَت تَيّاراتٌ وأفكارٌ مُتَناقِضةٌ معَ بَعضِها وغَيرُ مُتَجانِسةٍ، وبخاصّةٍ أُولَئِك الَّذين أُصِيبَ غُرُورُهُمُ القَومِيُّ بالضَّرَباتِ القَوِيّةِ مِن يَدِ سَيِّدِنا عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُ، فكانُوا يُضمِرُونَ في نُفُوسِهِمُ الِانتِقامَ ويَتَرقَّبُونَ الفُرصةَ له حَيثُ أُبطِلَ دِينُهُمُ السّابِقُ ودُمِّرَ سُلطانُهُم وأُزِيلَت دَوْلَتُهُمُ الَّتي كانَت مَدارَ افتِخارِهِم وعِزِّهِم؛ لِذا فقد كانُوا يَحمِلُونَ إِحساسًا بالِانتِقامِ شُعُورِيًّا وغَيرَ شُعُورِيٍّ مِن خِلافةِ الإِسلامِ.. ولِهَذا قِيلَ: إنَّ المُنافِقِينَ الدَّسَّاسِينَ الأَذكِياءَ أَمثالَ اليَهُودِ قدِ استَغَلُّوا تلك الحالةَ الِاجتِماعِيّةَ.

أي إِنَّ مُقاوَمةَ تلك الفِتَنِ وإِزالَتَها هو بمُواجَهَتِها بإِصلاحِ ذلك المُجتَمَعِ وتَنوِيرِ الأَفكارِ المُختَلِفةِ، ولَيسَ بكَشْفِ قِلّةٍ مِنَ المُفسِدِينَ.

وإذا قِيلَ: إنَّ سَيِّدَنا عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُ قد هَتَف مِن فَوقِ المِنبَرِ بـ”سارِيةَ” أَحَدِ قُوَّادِ سَراياه وهو على بُعدِ مَسِيرةِ شَهرٍ مِنه بـ”يا سارِيةُ الجَبَلَ الجَبَلَ!”، فهُتافُه هذا وتَوجِيهُه هذا أَصبَحا سَبَبًا مِن أَسبابِ نَيلِ النَّصرِ في تلك المَعرَكةِ.. هذه الحادِثةُ المَشهُورةُ تُبيِّنُ مَدَى نَفاذِ بَصِيرَتِه الحادّةِ.

والسُّؤالُ هو: لِماذا لم تَرَ تلك البَصِيرةُ بنَظَرِها الثّاقِبِ قاتِلَه “فَيرُوزَ” الَّذي كان قَرِيبًا مِنه؟

الجَوابُ: نُجِيبُ على هذا السُّؤالِ بما أَجابَ به سَيِّدُنا يَعقُوبُ عَليهِ السَّلام1 ز مصرش بوى پيراهن شنيدى

چرا در چاه كنعانش نديدى

بگفت: احوال ما برق جهان است

دمى پيدا و ديگر دم نهان است

گهى بر طارم أعلى نشينم

گهى بر پُشت پاى خود نبينم.

، فقد سُئِل عَليهِ السَّلام: كَيفَ وَجَدتَ رِيحَ يُوسُفَ عَليهِ السَّلام مِن قَمِيصِه الَّذي في أَرضِ مِصرَ، ولم تَرَه في الجُبِّ القَرِيبِ مِنك في أَرضِ كَنْعانَ؟

فأَجابَ عَليهِ السَّلام: إنَّ حالاتِنا كالبَرقِ الخاطِفِ، يَظهَرُ أَحيانًا ويَختَفِي أُخرَى، فنكُونُ أَحيانًا كمَن هو جالِسٌ في أَعلَى مَقامٍ ويَرَى جَمِيعَ ما حَوْلَه، وأَحيانًا أُخرَى لا نَرَى ظَهْرَ أَقْدامِنا.

والخُلاصةُ: إنَّه مَهما كان الإِنسانُ فاعِلًا ذا اختِيارٍ، إلّا أنَّ المَشِيئةَ الإِلٰهِيّةَ هي الأَصلُ، والقَدَرُ الإِلٰهِيُّ حاكِمٌ مُهَيمِنٌ، والمَشِيئةُ الإِلٰهِيّةُ تَرُدُّ المَشِيئةَ الإِنسانِيّةَ، بمَضمُونِ قَولِه تَعالَى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾، وإذا جاءَ القَدَرُ عَمِيَ البَصَرُ، فيُنفِذُ حُكْمَه، وإذا ما تَكَلَّم القَدَرُ تَسكُتُ القُدرةُ البَشَرِيّةُ، ويَصمُتُ الِاختِيارُ الجُزئيُّ.

[س (2): ما حقيقة الوقائع التي جرت في زمن سيدنا علي؟ وما حكم من ماتوا فيها؟]

مَضمُونُ سُؤالِكُمُ الثَّاني هو: ما حَقِيقةُ الوَقائِعِ الَّتي دَبَّت في صُفُوفِ المُسلِمِينَ في عَهدِ سَيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ؟ وماذا نُسَمِّي أُولَئِك الَّذين ماتُوا وقُتِلُوا فيها؟

الجَوابُ: إنَّ “مَعرَكةَ الجَمَلِ” الَّتي دارَت رَحاها بَينَ سَيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ وجَماعَتِه مِن جِهةٍ، وبَينَ طَلْحةَ والزُّبَيرِ وعائِشةَ رَضِيَ الله عَنهُم أَجمَعِينَ مِن جِهةٍ أُخرَى، هي مَعرَكةٌ بَينَ العَدالةِ المَحْضةِ والعَدالةِ الإِضافِيّةِ (النِّسبِيّةِ)، وتَوضِيحُها كالآتي:

لقد جَعَل سَيِّدُنا عَلِيٌّ رَضِيَ الله عَنهُ العَدالةَ المَحْضةَ أَساسًا لِسِياسَتِه في إِدارةِ دَفّةِ الحُكْمِ، وسارَ بمُقتَضاها على وَفقِ اجتِهادِه وبمِثلِ ما كان الشَّيخانِ يَسِيرانِ علَيْه مِن قَبلِه؛ أمّا مُعارِضُوه فقد قالُوا: إنَّ صَفاءَ القُلُوبِ وطَهارةَ النُّفُوسِ في عَهدِ الشَّيخَينِ كانا مُلائِمَينِ ومُمَهِّدَينِ لِكي تَنشُرَ العَدالةُ المَحْضةُ سُلْطانَها على المُجتَمَعِ، إلّا أنَّ دُخُولَ أَقوامٍ مُتَبايِنةِ الطَّبائِعِ والِاتِّجاهاتِ -وهُم على ضَعفِ الإِسلامِ بمُرُورِ الزَّمَنِ- في هذا المُجتَمَعِ أَدَّى إلى وَضعِ عَوائِقَ مُهِمّةٍ إِزاءَ تَطبِيقِ العَدالةِ المَحْضةِ، فغَدا تَطبِيقُها صَعْبًا، لِذا فقد اجتَهَدُوا على أَساسٍ مِنَ العَدالةِ النِّسبِيّةِ الَّتي هي اختِيارٌ لِأَهوَنِ الشَّرَّينِ؛ ولكِن، لِأنَّ المُنافَسةَ حَولَ هذَينِ النَّوعَينِ مِنَ الِاجتِهادِ آلَت إلى مَيدانِ السِّياسةِ، فقد نَشِبَتِ الحَربُ بَينَ الطَّرَفَينِ.

وحَيثُ إنَّ كلَّ طَرَفٍ قد تَوَصَّلَ إلى اجتِهادِه بنِيّةٍ خالِصةٍ ابتِغاءَ مَرضاةِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى ومَصلَحةِ الإِسلامِ، ونَشِبَتِ الحَربُ نَتِيجةَ هذا الِاجتِهادِ الخالِصِ للهِ، فيَصِحُّ أن نقُولَ: القاتِلُ والمَقتُولُ كِلاهُما مِن أَهلِ الجَنّةِ، وكِلاهُما مَأْجُورانِ مُثابانِ، رَغمَ مَعرِفَتِنا أنَّ اجتِهادَ الإِمامِ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ كان صَوابًا، وأنَّ اجتِهادَ مُخالِفِيه مُجانِبٌ لِلصَّوابِ.. وهَؤُلاءِ المُخالِفُونَ لَيسُوا أَهلًا لِلعِقابِ الأُخرَوِيِّ، إذِ المُجتَهِدُ للهِ إذا أَصابَ فلَه أَجرانِ، وإن أَخطَأَ فلَه أَجرٌ واحِدٌ، أي إنَّه يَنالُ ثَوابَ بَذْلِه الجُهْدَ في الِاجتِهادِ الَّذي هو نَوعٌ مِنَ العِبادةِ، وهو مَعذُورٌ في خَطَئِه.

وقد قال أَحَدُ أَعلامِ عُلَمائِنا المُحَقِّقِينَ شِعرًا باللُّغةِ الكُردِيّةِ ويُعَدُّ قَولُه حُجّةً:

ژِى شَرِّ صَحَابَانْ مَكَه قَالُ وقِيلْ ٭ لَوْرَا جَنَّتِينَه قَاتِلُ وهَمْ قَتِيلْ

أي: لا تَخُضْ فيما وَقَع بَينَ الصَّحْبِ الكِرامِ، لِأنَّ القاتِلَ والمَقتُولَ كِلَيهِما في الجَنّةِ.

[الفرق بين العدالة المحضة والعدالة النسبية]

أمّا إِيضاحُ الفَرقِ بَينَ العَدالةِ المَحْضةِ والعَدالةِ الإِضافِيّةِ فهُو:

إنَّ حَقَّ الشَّخصِ البَرِيءِ الواحِدِ لا يَبطُلُ لِأَجلِ النّاسِ جَمِيعًا، أي إنَّ حَقَّه مَحفُوظٌ، وهذا المَعنَى هو الَّذي تُشِيرُ إلَيْه الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾، فلا يُضَحَّى بفَردٍ واحِدٍ لِأَجلِ الحِفاظِ على سَلامةِ الجَمِيعِ، إذِ الحَقُّ هو حَقٌّ ضِمنَ إِطارِ الرَّحْمةِ الإِلٰهِيّةِ، فلا يُنظَرُ إلى كَونِه صَغِيرًا أو كَبِيرًا، لِذا لا يُفدَى بالصَّغِيرِ لِأَجلِ الكَبِيرِ، ولا بحَياةِ فَردٍ وحَقِّه لِأَجلِ سَلامةِ جَماعةٍ والحِفاظِ علَيْها، إن لم يكُن له رِضًا في الأَمرِ.. أمّا إذا كانَتِ التَّضحِيةُ برِضاه ورَغبةً مِنه فهِي مَسأَلةٌ أُخرَى.

أمّا العَدالةُ الإِضافيّةُ فهِي أنَّ الجُزءَ يُضَحَّى به لِأَجلِ سَلامةِ الكُلِّ، فهذه العَدالةُ لا تَأخُذُ حَقَّ الفَردِ بنَظَرِ الِاعتِبارِ لِأَجلِ الجَماعةِ، وإنَّما تُحاوِلُ القِيامَ بنَوعٍ مِن عَدالةٍ إِضافيّةٍ مِن حَيثُ الشَّرُّ الأَهوَنُ؛ ولكِن إذا كانَتِ العَدالةُ المَحْضةُ قابِلةً لِلتَّطِبيقِ فلا يُصارُ إلى العَدالةِ الإِضافِيّةِ، وإنْ صارَ إلَيْها فقد وَقَع الظُّلمُ؛ فالإِمامُ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عَنهُ قال: إنَّ العَدالةَ المَحْضةَ قابِلةٌ لِلتَّطبِيقِ، كما كان علَيْه في عَهْدِ الشَّيخَينِ، لِذا حاوَلَ بِناءَ الخِلافةِ الإِسلامِيّةِ على تلك القاعِدةِ مِنَ العَدالةِ المَحْضةِ.. بَينَما مُعارِضُوه كانُوا يقُولُونَ: إنَّ هذه العَدالةَ المَحْضةَ غَيرُ قابِلةٍ لِلتَّطبِيقِ، حَيثُ هُنالِك عَوائِقُ ومُشكِلاتٌ كَثِيرةٌ تَظهَرُ أَثناءَ تَطبِيقِها، فانصَرَف اجتِهادُهُم إلى العَدالةِ الإِضافِيّةِ.

أمّا ما أَوْرَدَه التّارِيخُ مِن أَسبابٍ أُخرَى فهِي لَيسَت أَسبابًا حَقِيقيّةً، بل حُجَجٌ ومُبَرِّراتٌ واهِيةٌ.

[لماذا لم يوفَّق سيدنا علي في الحكم كما وُفق أسلافه؟]

فإن قُلتَ: لِمَ لَمْ يُوَفَّقِ الإِمامُ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عَنهُ بمِثلِ ما وُفِّقَ أَسلافُه في إِدارةِ دَفّةِ الخِلافةِ رَغمَ اتِّصافِه -مِن هذه النّاحِيةِ- بقابِلِيّاتٍ فائِقةٍ وذَكاءٍ خارِقٍ، ولَياقةٍ تامّةٍ جَدِيرةٍ بمَنصِبِ الخِلافةِ؟

الجَوابُ: إنَّ الإِمامَ عَلِيًّا كان حَرِيًّا ومُؤَهَّلًا لِلقِيامِ بمُهِمّاتٍ جِسامٍ تَفُوقُ أَهَمِّيّةَ السِّياسةِ والحُكْمِ، إذ لو كان التَّوفِيقُ تامًّا له في السِّياسةِ والحُكْمِ لَما كان يُحرِزُ لَقَبَ “سَيِّدِ الأَوْلياءِ” بجَدارةٍ تامّةٍ، ذلك المَقامَ المَعنَوِيَّ الَّذي هو أَهلٌ له بحَقٍّ؛ فظَفِرَ بسَلْطَنةٍ مَعنَوِيّةٍ وبحُكْمٍ مَعنَوِيٍّ أَرقَى بكَثِيرٍ مِن خِلافةٍ سِياسِيّةٍ ظاهِرِيّةٍ، حَيثُ أَصبَحَ بمَثابةِ أُستاذِ الجَمِيعِ، وغَدا حُكْمُه المَعنَوِيُّ سارِيًا وماضِيًا إلى يَومِ القِيامةِ.

أمَّا ما وَقَع مِن حَربٍ بَينَ الإِمامِ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ وسَيِّدِنا مُعاوِيةَ رَضِيَ الله عَنهُ وأَنصارِه في واقِعةِ “صِفِّينَ” فهِي حَربٌ بَينَ الخِلافةِ والسَّلْطَنةِ -المُلكِ الدُّنيَوِيِّ- أي إنَّ الإِمامَ عَلِيًّا رَضِيَ الله عَنهُ قدِ اتَّخَذ أَحكامَ الدِّينِ وحَقائِقَ الإِسلامِ والآخِرةَ أَساسًا، فكان يُضَحِّي بقِسمٍ مِن قَوانِينِ الحُكْمِ والسَّلْطَنةِ وما تَقتَضِيه السِّياسةُ مِن أُمُورٍ فيها إِجحافٌ، في سَبِيلِ الحَقائِقِ والأَحكامِ.. أمّا سَيِّدُنا مُعاوِيةُ ومَن مَعَه، فقدِ التَزَمُوا الرُّخْصةَ الشَّرعِيّةَ وتَرَكُوا الأَخذَ بالعَزِيمةِ، لِأَجلِ إِسنادِ الحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ الإِسلامِيّةِ بسِياساتِ الحُكْمِ والدَّوْلةِ، فعَدُّوا أَنفُسَهُم مُضطَرِّينَ في الأَخذِ بهذا المَسلَكِ في عالَمِ السِّياسةِ.. لِذا رَجَّحُوا الرُّخْصةَ على العَزِيمةِ، فوَقَعُوا في الخَطَأِ.

أمّا مُقاوَمةُ الحَسَنِ والحُسَينِ رَضِيَ الله عَنهُما لِلأُمَوِيِّينَ، فهِي في حَقِيقَتِها صِراعٌ بَينَ الدِّينِ والقَوْمِيّةِ، إذِ اعتَمَد الأُمَوِيُّونَ على جِنسِ العَرَبِ في تَقْوِيةِ الدَّولةِ الإِسلامِيّةِ، وقَدَّمُوهُم على غَيرِهِم، أي: فَضَّلُوا رابِطةَ القَوْمِيّةِ على رابِطةِ الإِسلامِ، فأَضَرُّوا مِن جِهَتَينِ:

الأُولَى: آذَوُا الأَقوامَ الأُخرَى بنَظْرَتِهِم هذه، فوَلَّدُوا فِيهِمُ الكَراهِيةَ والنُّفُورَ.

الثّانيةُ: إنَّ الأُسُسَ المُتَّبَعةَ في القَوْمِيّةِ والعُنصُرِيّةِ أُسُسٌ ظالِمةٌ لا تَتبَعُ العَدالةَ ولا تُوافِقُ الحَقَّ، إذ لا تَسِيرُ تلك الأُسُسُ على وَفقِ العَدالةِ، لِأنَّ الحاكِمَ العُنصُرِيَّ يُفَضِّلُ مَن هم بَنُو جِنسِه على غَيرِهِم، فأَنَّى له أن يَبلُغَ العَدالةَ! بَينَما الإِسلامُ يَجُبُّ ما قَبلَه مِن عَصَبِيّةٍ جاهِلِيّةٍ، لا فَرقَ بَينَ عَبدٍ حَبَشِيٍّ وسَيِّدٍ قُرَشِيٍّ إذا أَسلَما. فلا يُمكِنُ إِقامةُ رابِطةِ القَوْمِيّةِ بَدَلًا مِن رابِطةِ الدِّينِ في ضَوءِ هذا الأَمرِ الجازِمِ، إذ لا تكُونُ هُنالِك عَدالةٌ قَطُّ، وإنَّما تُهدَرُ الحُقُوقُ ويَضِيعُ الإِنصافُ.

وهكَذا، فإنَّ سَيِّدَنا الحُسَينَ رَضِيَ الله عَنهُ قد تَمَسَّكَ برابِطةِ الدِّينِ، وهُو مُحِقٌّ في ذلك، لِذا قاوَمَ الأُمَويِّينَ حتَّى رُزِقَ مَرتَبةَ الشَّهادةِ.

[كيف سمحت الرحمة الإلهية بفاجعة مقتل الحسين؟]

وإذا قِيلَ: لِمَ لَمْ يَنجَحْ سَيِّدُنا الحُسَينُ رَضِيَ الله عَنهُ في مَسعاه رَغمَ أنَّه كان على حَقٍّ وصَوابٍ؟ وكَيفَ سَمَحَتِ الرَّحْمةُ الإِلٰهِيّةُ والقَدَرُ الإِلٰهِيُّ أن تكُونَ عاقِبَتُه وعاقِبةُ آلِ بَيتِه فاجِعةً أَلِيمةً؟

الجَوابُ: إذا استَثْنَيْنا المُقَرَّبِينَ مِن سَيِّدِنا الحُسَينِ رَضِيَ الله عَنهُ، نَجِدُ أنَّ الأَقوامَ المُختَلِفةَ الَّذين التَحَقُوا بهم هم مِمَّن أُصِيبَ غُرُورُهُمُ القَومِيُّ بجُرُوحٍ بِيَدِ العَرَبِ المُسلِمِينَ، فهُم يُضمِرُونَ ثَأْرًا تِجاهَهُم، مِمّا كَدَّر صَفاءَ النِّيّةِ ونَقاءَها الَّذي كان يَتَحلَّى بها مَسلَكُ الحُسَينِ ومَن مَعَه، وأَدَّى تَعَكُّرُ ذلك الصَّفاءِ وخُفُوتُ سُطُوعِ ذلك النَّهجِ القَوِيمِ إلى تَقَهقُرِهِم أَمامَ أُولَئِك.

[مقتل الحسن والحسين من منظار القَدَر]

أمّا حِكْمةُ تلك الحادِثةِ المُؤْلِمةِ مِن زاوِيةِ نَظَرِ القَدَرِ الإِلٰهِيِّ فهِي:

أنَّ الحَسَنَ والحُسَينَ رَضِيَ الله عَنهُما وذَوِيهِما ونَسلَهُما كانُوا مُرشَّحِينَ لِسَلْطَنةٍ مَعنَوِيّةٍ، ومُؤَهَّلِينَ لِتَسَنُّمِ مَرتَبةٍ سامِيةٍ مَعنَوِيّةٍ؛ ولَمّا كان الجَمعُ بَينَ سَلْطَنةِ الدُّنيا وتلك السَّلْطَنةِ المَعنَوِيّةِ مِنَ الصُّعُوبةِ بمَكانٍ، لِذا جَعَلَهُمُ القَدَرُ الإِلٰهِيُّ يُعرِضُونَ عنِ الدُّنيا، وأَظهَر لَهُم وَجْهَ الدُّنيا الدَّمِيمَ، لِئَلّا تَبقَى لَهُم عَلاقةٌ قَلبِيّةٌ معَ الدُّنيا، ودَفَعَهُم إلى أن يَنفُضُوا أَيدِيَهُم مِن سَلْطَنةٍ صُورِيّةٍ دُنيَوِيّةٍ مُؤَقَّتةٍ زائِلةٍ، بَينَما عَيَّنَهُم لِتَسَنُّمِ الأُمُورِ لَدَى سَلْطنةٍ مَعنَوِيّةٍ سامِيةٍ دائِمةٍ، فأَصبَحُوا مَرجِعًا لِأَقطابِ الأَوْلِياءِ بَدَلًا مِن أن يكُونُوا مَرجِعًا لِلوُلاةِ الِاعتِيادِيِّينَ.

[س (3): ما سبب المصائب التي نزلت بآل البيت؟]

أمّا سُؤالُكُمُ الثّالِثُ الَّذي هو: ما الحِكْمةُ في المُصِيبةِ الأَلِيمةِ والمُعامَلةِ الظّالِمةِ الَّتي أَصابَت أُولَئِك الطّاهِرِينَ المَيامِينِ؟

الجَوابُ: لقد بَيَّنّا سابِقًا أنَّ هُنالِك ثَلاثةَ أُسُسٍ كان مُعارِضُو سَيِّدِنا الحُسَينِ رَضِيَ الله عَنهُ -وهُمُ الأُمَوِيُّونَ- يَسِيرُونَ علَيْها، والَّتي أَدَّت إلى ارتِكابِ تلك المَظالِمِ والمُعامَلاتِ القاسِيةِ:

الأوَّلُ: هو دُستُورُ السِّياسةِ الظّالِمةِ، ومُؤَدّاه أنَّ الأَشخاصَ يُضَحَّى بهم في سَبِيلِ الحِفاظِ على الدَّوْلةِ واستِتْبابِ النِّظامِ في البِلادِ.

الثَّاني: كانَت دَوْلَتُهُم تَستَنِدُ إلى القَوْمِيّةِ والعُنصُرِيّةِ، وكان الحاكِمَ المُهَيمِنَ على الأُمُورِ قانُونُ القَومِيّةِ الظّالِمُ، وهُو: “كُلُّ شَيءٍ يُضَحَّى به في سَبِيلِ الحِفاظِ على سَلامةِ الأُمّةِ”.

الثّالثُ: تَأَصَّلَ عِرقُ المُنافَسةِ لَدَى الأُمَويِّينَ مُنذُ مُدّةٍ طَوِيلةٍ تِجاهَ الهاشِمِيِّينَ، فظَهَر في “يَزِيدَ” وأَمثالِه، مِمّا سَبَّبَ تَفَجُّرَ استِعداداتٍ ظالِمةٍ قاسِيةٍ لا رَحْمةَ فيها ولا رَأْفةَ.

وهُنالِك سَبَبٌ رابِعٌ وهُو الَّذي يَخُصُّ الَّذين انضَمُّوا إلى صَفِّ سَيِّدِنا الحُسَينِ رَضِيَ الله عَنهُ، وهُو أنَّ اعتِمادَ الأُمَوِيِّينَ على قَوْمِيّةِ العَرَبِ وَحْدَهُم في إِدارةِ شُؤُونِ الدَّوْلةِ، ونَظْرَتَهُمُ المُتَعالِيةَ على سائِرِ الأَقوامِ كأَنَّهُم عَبِيدٌ لَدَيهِم وتَسمِيَتَهُم بالمَوالي، أَصابَ غُرُورَ أُولَئِك، مِمّا دَفَعَهُم إلى الِالتِحاقِ بصَفِّ سَيِّدِنا الحُسَينِ، وهم يَحمِلُونَ نِيّةً غَيرَ خالِصةٍ للهِ. وهِي نِيّةٌ أَساسُها دافِعُ الثَّأْرِ.. هذا الأَمرُ هَيَّجَ العَصَبِيّةَ القَوْمِيّةَ لَدَى الأُمَوِيِّينَ فأَدَّى بهِمُ الأَمرُ إلى ارتِكابِ تلك الفاجِعةِ الأَلِيمةِ الَّتي لا تَجِدُ فيها رَحْمةً ولا عَطْفًا ولا رَأْفةً.

هذه الأَسبابُ الأَربَعةُ المَذكُورةُ هي أَسبابٌ ظاهِرِيّةٌ، إلّا أنَّنا إذا نَظَرْنا إلى الأَمرِ مِن زاوِيةِ القَدَرِ الإِلٰهِيِّ نَجِدُ أنَّ سَيِّدَنا الحُسَينَ وذَوِيه رَضِيَ الله عَنهُم قد أَحرَزُوا نَتائِجَ أُخرَوِيّةً وسَلْطَنةً رُوحِيّةً ورُقِيًّا مَعنَوِيًّا، مِن جَرَّاءِ تلك الفاجِعةِ الأَلِيمةِ، بحَيثُ تكُونُ تلك الآلامُ والصُّعُوباتُ الَّتي لاقَوْها في تلك الحادِثةِ الأَلِيمةِ زَهِيدةً ويَسِيرةً تِجاهَ تلك المَنازِلِ الرَّفِيعةِ الَّتي حَظُوا بها.

فمَثلًا: إنَّ الَّذي يُستَشهَدُ نَتِيجةَ تَعذِيبٍ يَستَغرِقُ ساعةً يَغنَمُ مِنَ المَراتِبِ العالِيةِ والدَّرَجاتِ السّامِيةِ لِلشَّهادةِ ما لا يُمكِنُ أن يَحصُلَ علَيْه مَن يَسعَى بجُهْدٍ مُتَواصِلٍ خِلالَ عَشرِ سِنِينَ؛ فلو سُئِلَ ذلك الشَّهِيدُ بَعدَ فَوْزِه بدَرَجةِ الشَّهادةِ عن ذلك التَّعذِيبِ لَأَجابَ: لقد فُزتُ فَوْزًا كَبِيرًا جِدًّا بشَيءٍ يَسِيرٍ جِدًّا.

[س (4): كيف يعود الناس إلى الكفر بعد سيدنا عيسى عليه السلام؟]

فَحْوَى سُؤالِكُمُ الرّابعِ: أنَّ الأَكثَرِيّةَ المُطلَقةَ مِنَ النّاسِ يَدخُلُونَ الدِّينَ الحَقَّ بَعدَ قَتلِ سَيِّدِنا عِيسَى عَليهِ السَّلام الدَّجَّالَ في آخِرِ الزَّمانِ، بَينَما وَرَدَ في رِواياتٍ أُخرَى: “لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى لا يُقالَ في الأَرضِ: الله.. الله..”، فكَيفَ يَسقُطُ النّاسُ بهذه الكَثْرةِ في هاوِيةِ الكُفرِ بَعدَ أن دَخَلُوا بكَثْرةٍ مُطلَقةٍ في حَظِيرةِ الإِيمانِ؟

الجَوابُ: إنَّ ضِعافَ الإِيمانِ يَستَبعِدُونَ ما جاءَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِن نُزُولِ سَيِّدِنا عِيسَى عَليهِ السَّلام وقَتْلِه الدَّجّالَ وعَمَلِه بالشَّرِيعةِ الإِسلامِيّةِ، ولكِن لو وُضِّحَت حَقِيقةُ الرِّوايةِ لا يَبقَى مَوضِعٌ لِلِاستِبعادِ قَطُّ، وذلك أنَّ المَعنَى الَّذي يُفِيدُه ذلك الحَدِيثُ والرِّواياتُ الوارِدةُ حَولَ المَهدِيِّ والسُّفيانِيِّ هو الآتي:

إنَّ تَيّارَينِ لِلإِلحادِ سيَشتَدّانِ ويَتَقوَّيانِ في آخِرِ الزَّمانِ:

الأوَّلُ: إنَّ شَخْصًا رَهِيبًا يُقالُ له “السُّفْيانِيُّ” سيُنكِرُ الرِّسالةَ الأَحمَدِيّةَ (نُبُوّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ) مُتَستِّرًا بالنِّفاقِ، ويَتَولَّى قِيادةَ المُنافِقِينَ، ويَسعَى لِتَدمِيرِ الشَّرِيعةِ الإِسلامِيّةِ، وسيُقابِلُه شَخصٌ نُورانِيٌّ مِن آلِ البَيتِ يُسَمَّى مُحَمَّدًا المَهْدِيَّ يَتَولَّى قِيادةَ أَهلِ الوِلايةِ وأَهلِ الكَمالِ المُرتَبِطِينَ بالسُّلالةِ النُّورانيّةِ لِآلِ البَيتِ، ويَقتُلُ تَيّارَ النِّفاقِ الَّذي يُمَثِّلُ شَخصَ السُّفيانِيِّ المَعنَوِيَّ ويُدَمِّرُه تَدمِيرًا.

أمّا التَّيّارُ الثّاني: فهُو التَّيّارُ الطّاغِي المُتَمَرِّدُ، المُتَولِّدُ مِن فَلسَفةِ الطَّبِيعِيِّينَ والمادِّيِّينَ، هذا التَّيّارُ يَنتَشِرُ ويَتَقوَّى تَدرِيجِيًّا بواسِطةِ الفَلسَفةِ المادِّيّةِ في آخِرِ الزَّمانِ حتَّى يَبلُغَ به الأَمرُ إلى إِنكارِ الأُلُوهِيّةِ، ويَمنَحُ أَفرادُ هذا التَّـيّارِ المُنكِرُونَ للهِ سُبحانَه أَنفُسَهُم نَوْعًا مِنَ الرُّبُوبيّةِ كأَنَّهُم نَمارِدةٌ صِغارٌ، مِثلَما يَمنَحُ الجاهِلُ بالسُّلطانِ غَيرُ المُعتَرِفِ بجُنُودِه وضُبّاطِه نَوْعًا مِنَ السَّلطَنةِ وشَكْلًا مِنَ الحاكِمِيّةِ إلى كُلِّ جُندِيٍّ؛ أمّا الدَّجّالُ وهُو كَبِيرُهُمُ الَّذي يَتَولّاهُم فيُؤْتَى مِنَ الخَوارِقِ ما يُشبِهُ أَعمالَ السِّحرِ والتَّنوِيمِ المِغْناطِيسِيِّ، ويَتَمادَى كَثِيرًا حتَّى يُضفِيَ على حُكُومَتِه الجَبّارةِ ظاهِرًا نَوْعًا مِنَ الرُّبُوبيّةِ، ويُعلِنَ أُلُوهِيَّتَه.. ولا رَيبَ أنَّ ادِّعاءَ إِنسانٍ عاجِزٍ الأُلُوهِيّةَ، والَّذي يَقهَرُه ذُبابٌ ويَعجِزُ حتَّى عن خَلقِ جَناحِها، حَماقةٌ ما بَعدَها حَماقةٌ، تَستَحِقُّ مُنتَهَى الهُزْءِ والسُّخْرِيةِ.

وهكذا، ففي مِثلِ هذه المَرحَلةِ، وحِينَما يَبدُو ذلك التَّيّارُ قَوِيًّا شَدِيدًا يَظهَرُ الدِّينُ الحَقُّ الَّذي أَتَى به عِيسَى عَليهِ السَّلام، والَّذي هو الشَّخصِيّةُ المَعنَوِيّةُ لِسَيِّدِنا عِيسَى عَليهِ السَّلام، أي يَنزِلُ مِن سَماءِ الرَّحْمةِ الإِلٰهِيّةِ، فتَتَصفَّى النَّصْرانيّةُ الحاضِرةُ تِجاهَ تلك الحَقِيقةِ وتَتَجرَّدُ مِنَ الخُرافاتِ والتَّحرِيفاتِ وتَتَّحِدُ معَ حَقائِقِ الإِسلامِ، أي إنَّ النَّصْرانِيّةَ ستَنقَلِبُ مَعنًى إلى نَوعٍ مِنَ الإِسلامِ، فذَلِك الشَّخصُ المَعنَوِيُّ لِلنَّصْرانيّةِ يكُونُ تابِعًا باقتِدائِه بالقُرآنِ الكَرِيمِ، ويَظَلُّ الإِسلامُ في مَقامِ الإِمامِ المَتبُوعِ، ويَجِدُ الدِّينُ الحَقُّ نَتِيجةَ هذا الِالتِحاقِ قُوّةً عُظمَى، إذ في الوَقتِ الَّذي كان الإِسلامُ والنَّصْرانيّةُ فيه مُنفَرِدَينِ -كُلٌّ على حِدةٍ- غَيرَ قادِرَينِ على صَدِّ تَيّارِ الإِلحادِ يكُونانِ بفَضلِ الِاتِّحادِ بَينَهُما على استِعْدادٍ لِتَدمِيرِ تَيّارِ الإِلحادِ تَدمِيرًا كامِلًا؛ ففي هذه الأَثناءِ يَتَولَّى شَخصُ عِيسَى عَليهِ السَّلام المَوجُودُ بجِسْمِه البَشَرِيِّ في عالَمِ السَّماواتِ قِيادةَ تَيّارَ الدِّينِ الحَقِّ. أَخْبَرَ بهذا مُخبِرٌ صادِقٌ استِنادًا إلى وَعدٍ مِن لَدُنْ قَدِيرٍ على كُلِّ شَيءٍ، وإذ هُو قد أَخبَرَ، فالأَمرُ حَقٌّ لا رَيبَ فيه، وإذ وَعَد به القَدِيرُ على كُلِّ شَيءٍ، فلا شَكَّ أنَّه سيُنجِزُه.

نعم، إنَّ الَّذي يُرسِلُ المَلائِكةَ تَتْرَى مِنَ السَّماواتِ إلى الأَرضِ ويَجعَلُهُم أَحيانًا في صُورةِ إِنسانٍ (كما جَعَل سَيِّدَنا جِبْرِيلَ عَليهِ السَّلام في صُورةِ الصَّحابِيِّ دِحْيةَ الكَلبِيِّ)، ويُرسِلُ الرُّوحانِيِّينَ مِن عالَمِ الأَرواحِ، ويَجعَلُهُم يَتَمثَّلُونَ في صُوَرٍ بَشَرِيّةٍ، بل يُرسِلُ حتَّى أَرواحَ كَثِيرٍ مِنَ الأَولِياءِ المُتَوفَّينَ في أَجسادِهِمُ المِثالِيّةِ إلى الدُّنيا.. لا يُستَبعَدُ مِن حِكْمةِ هذا الحَكِيمِ ذِي الجَلالِ أنْ يُرسِلَ عِيسَى عَليهِ السَّلام المَوجُودَ حَيًّا بجَسَدِه في سَماءِ الدُّنيا إلى الدُّنيا، بل حتَّى لو كانَ ذاهِبًا إلى أَقصَى نَواحِي عالَمِ الآخِرةِ وكان مَيِّتًا حَقًّا فإنَّه سُبحانَه قادِرٌ، وتَقتَضِي حِكْمَتُه أن يُلبِسَه جَسَدًا مِن جَدِيدٍ، ويُرسِلَه إلى الدُّنيا لِأَجلِ هذه النَّتِيجةِ الجَلِيلةِ العَظِيمةِ، ولِيَكُونَ مِسكَ الخِتامِ والنَّهايةَ الجَلِيلةَ لِلدِّينِ الَّذي أَتَى به عِيسَى عَليهِ السَّلام؛ وقد وَعَدَ بهذا سُبحانَه وتَعالَى لِاقتِضاءِ حِكْمَتِه الجَلِيلةِ، وإذ قد وَعَد فإنَّه سيُرسِلُه حَتْمًا، ولا يَلزَمُ أن يَعرِفَ كُلُّ أَحَدٍ أنَّه عِيسَى عَليهِ السَّلام بذاتِه أَثناءَ نُزُولِه إلى الدُّنيا، وإنَّما يَعرِفُه خَواصُّه والمُقَرَّبُونَ مِنه بنُورِ الإِيمانِ، إذ لا يَعرِفُه النّاسُ كُلُّهُم بدَرَجةِ البَداهةِ.

[أسئلة حول الدجال]

سُؤالٌ: لقد جاءَ في الرِّواياتِ: أنَّ لِلدَّجّالِ جَنّةً كاذِبةً يُلقِي فيها أَتباعَه، وله جَهَنَّمٌ كاذِبةٌ يُلقِي فيها مَن لا يَتَّبِعُه، حتَّى إنَّه جَعَل أَحَدَ أُذُنَي دابَّتِه كالجَنّةِ والأُخرَى كجَهَنَّمَ، وله جِسمٌ عَظِيمٌ طُولُه كذا وكذا.. وغَيرُها مِنَ الأَوْصافِ الَّتي يُعرَفُ بها . فالسُّؤالُ: ما المُرادُ مِن هذه الرِّواياتِ؟

[الدجال شخصٌ حقيقي وله شخصٌ معنوي]

الجَوابُ: إنَّ الشَّخصَ الظّاهِرِيَّ لِلدَّجّالِ هو كالإِنسانِ، فهُو إِنسانٌ دَسّاسٌ، شَيطانٌ أَحمَقُ مَغرُورٌ، تَفَرْعَنَ وطَغَى ونَسِيَ اللهَ تَعالَى حتَّى أَطلَقَ على حاكِمِيَّتِه الصُّوريّةِ الجَبّارةِ اسمَ الأُلُوهِيّةِ.

أمّا شَخْصُه المَعنَوِيُّ الَّذي هو تَيّارُ الإِلحادِ الطّاغِي فهُو شَخصٌ جَسِيمٌ جِدًّا، وما وَرَد مِن رِواياتٍ في أَوْصافِه الدّالّةِ على الضَّخامةِ يُشِيرُ إلى ذلك الشَّخصِ المَعنَوِيِّ؛ كما صُوِّرَ في وَقتٍ مّا القائِدُ العامُّ لِلقُوّاتِ اليابانيّةِ تَصوِيرَ إِنسانٍ واضِعٍ إِحدَى قَدَمَيه في البَحرِ المُحِيطِ الهادِي والأُخرَى في قَلعةِ (بُورْت آرْثَر) الَّتي تَبعُدُ عنِ الأُولَى مَسافةَ عَشَرةِ أَيّامٍ.. فهذا التَّصوِيرُ لِذَلِك القائِدِ الصَّغِيرِ أَظهَرَ ومَثَّل الشَّخصَ المَعنَوِيَّ العَظِيمَ لِجَيشِه.

[جنةُ الدجال ونارُه ودابَّتُه]

أمّا الجَنّةُ الكاذِبةُ لِلدَّجّالِ، فهِي مَلاهِي الحَضارةِ وزَخارِفُها الفاتِنةُ.

أمّا دابَّتُه فهِي واسِطةُ نَقلٍ شَبِيهةٌ بالقِطارِ، في رَأْسِه مَوقِدُ النّارِ يُرمَى فيها أَحيانًا مَن لا يَتَّبِعُه؛ والأُذُنُ الأُخرَى لِتِلك الدّابّةِ -أي رَأسُها الآخَرُ- مَفرُوشٌ بفُرُشٍ وَثِيرةٍ كالجَنّةِ أَعَدَّها لِجُلُوسِ أَتباعِه.

وحَقًّا إنَّ القِطارَ دابّةٌ مُهِمّةٌ لِلحَضارةِ السَّفِيهةِ الظّالِمةِ، إذ يَأْتِي بجَنّةٍ كاذِبةٍ لِأَهلِ السَّفاهةِ والدُّنيا، إلّا أنَّه بِيَدِ المَدَنيّةِ الحاضِرةِ يكُونُ كزَبانِيةِ جَهَنَّمَ يَأْتي بالهَلاكِ والأَسْرِ والذُّلِّ لِأَهلِ الدِّينِ والإِسلامِ المَساكِينِ.

[تغلُّب تيار الكفر والإلحاد مجدَّدًا قبل قيام الساعة]

وعلى الرَّغمِ مِن نَشرِ الدِّينِ الحَقِيقيِّ الَّذي أَتَى به عِيسَى عَليهِ السَّلام نُورَه على الأَكثَرِيّةِ المُطلَقةِ مِنَ النّاسِ، وذلك بظُهُورِه وانقِلابِه إلى الإِسلامِ، إلّا أنَّه عِندَ قُربِ قِيامِ السّاعةِ يَبْرُزُ تَيّارُ إِلحادٍ مَرّةً أُخرَى ويَتَغلَّبُ، فلا يَبقَى على وَجْهِ الأَرضِ -بالأَكثَرِيّةِ العُظمَى- مَن يقُولُ: الله.. الله.. أي: لا تَتَولَّى جَماعةٌ مُهِمّةٌ لها شَأنُها مَوقِعًا مُهِمًّا على الكُرةِ الأَرضِيّةِ..

ولا يَعنِي الحَدِيثُ أنَّه لا يَبقَى أَهلُ الحَقِّ والدّاعُونَ له على وَجهِ الأَرضِ، بل سيَبقَى أَهلُ الحَقِّ الَّذين يَظَلُّونَ في الأَقَلِّيّةِ إِزاءَ الإِلحادِ أو يُغلَبُونَ على أَمرِهِم، سيَبقَوْنَ إلى يَومِ القِيامةِ، إلّا أنَّه في أَثناءِ قِيامِها تُقبَضُ أَرْواحُ أَهلِ الإِيمانِ أَوَّلًا رَحْمةً مِنه سُبحانه بهم لِئَلّا يَرَوْا أَهوالَ القِيامةِ، وتقُومُ القِيامةُ على رُؤُوسِ الكُفّارِ .‌

[س (5): هل تتأثر الأرواح الباقية بأهوال القيامة؟]

فَحْوَى سُؤالِكُمُ الخامِسِ: هل تَتَأثَّرُ الأَرْواحُ الباقِيةُ بأَهوالِ القِيامةِ؟

الجَوابُ: نعم، تَتَأثَّرُ حَسَبَ دَرَجاتِها، كما تَتَأثَّرُ المَلائِكةُ تَأَثُّرًا خاصًّا بهم بالتَّجَلِّياتِ القَهْرِيّةِ، إذ كما لوِ اطَّلَع مَن كان في مَكانٍ دافِئٍ على أُناسٍ يَرتَجِفُونَ في الثُّلُوجِ يَتَأثَّرُ ويَتَألَّمُ لِحالِهِم لِما يَحمِلُ مِن عَقلٍ ووِجْدانٍ، كَذلِك الأَرواحُ الباقِيةُ الَّتي لها شُعُورٌ ذاتُ عَلاقةٍ معَ الكَونِ، تَتَأثَّرُ بالحَوادِثِ العَظِيمةِ الَّتي تَجرِي فيه، كُلٌّ حَسَبَ دَرَجَتِه، والإشاراتُ القُرآنيّةُ تُبيِّنُ تَأثُّرَ الأَرواحِ بأَلَمٍ إن كانَت مِن أَهلِ العَذابِ، وإنْ كانَت مِن أَهلِ السَّعادةِ فإنَّها تَتَأثَّرُ بالِاستِحسانِ والإِعجابِ، بل بِنَوعٍ مِنَ الِاستِبشارِ.

ولَمّا كان القُرآنُ الحَكِيمُ يَذكُرُ عَجائِبَ أَهوالِ القِيامةِ في أُسلُوبِ تَهدِيدٍ وزَجرٍ قائِلًا: ﴿لَتَرَوُنَّهَا﴾ بَينَما الَّذين سيَرَوْنَ تلك الأَهوالَ بأَجسامِهِمُ الإِنسانيّةِ همُ الَّذين يَبلُغُونَ قِيامَ السّاعةِ مِنَ النّاسِ، إذًا الأَرواحُ الَّتي رُمَّت أَجسادُها في القُبُورِ لها نَصِيبُها مِن هذا التَّهدِيدِ القُرآنِيِّ أَيضًا.

[س (6): ﴿كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهَه﴾ هل تشمل الجنة والنار؟]

فَحْوَى سُؤالِكُمُ السَّادِسِ: أَتَشمَلُ هذه الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ الآخِرةَ والجَنّةَ وجَهَنَّمَ وأَهلِيها، أم لا؟

الجَوابُ: لقد صارَت هذه المَسأَلةُ مَوضِعَ بَحثِ كَثِيرٍ جدًّا مِنَ العُلَماءِ المُحَقِّقِينَ وأَصحابِ الكَشْفِ والأَولِياءِ الصَّالِحِينَ، فالقَولُ قَولُهُم في هذه المَسأَلةِ، فَضْلًا عن أنَّ لِهذه الآيةِ الكَرِيمةِ سَعةً عَظِيمة جِدًّا معَ تَضَمُّنِها لِمَراتِبَ كَثِيرةٍ جِدًّا.

فقد قالَ القِسمُ الأَعظَمُ مِنَ المُحَقِّقِينَ: لا تَشمَلُ هذه الآيةُ عالَمَ البَقاءِ. في حِينِ قالَ آخَرُونَ: إنَّ تلك العَوالِمَ تَتَعرَّضُ أَيضًا لِنَوعٍ مِنَ الهَلاكِ في زَمَنٍ قَصِيرٍ جِدًّا بحَيثُ يُعَدُّ آنًا، وهُو زَمانٌ قَصِيرٌ إلى دَرَجةٍ لا يُشعَرُ بذَهابِها إلى الفَناءِ والعَوْدةِ مِنه.

أمّا ما يَحكُمُ به بَعضُ أَصحابِ الكَشفِ المُفرِطِينَ في أَفكارِهِم مِن حُدُوثِ الفَناءِ المُطلَقِ، فلَيسَ حَقِيقةً ولا صَوابًا، لِأنَّ ذاتَ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى دائِمِيّةٌ وسَرمَدِيّةٌ، فلا بُدَّ أنَّ صِفاتِه وأَسماءَه أَيضًا دائِمِيّةً وسَرمَدِيّةً.. ولَمّا كانَت صِفاتُه وأَسماؤُه دائِمِيّةً فلا بُدَّ أنَّ أَهلَ البَقاءِ والباقِياتِ المَوجُودةَ في عالَمِ البَقاءِ، الَّتي هي مَراياها وجَلَواتُها ونُقُوشُها ومَظاهِرُها، لا تَذهَبُ بالضَّرُورةِ إلى الفَناءِ المُطلَقِ قَطْعًا.

وحالِيًّا وَرَدَت نُقطَتانِ مِن فَيضِ القُرآنِ الحَكِيمِ إلى البالِ نَكتُبُهما إِجمالًا:

[الوجود والعدم بالنسبة إلى القدرة الإلهية]

أُولاهُما: إِنَّ قُدْرةَ اللهِ جَلَّ وعَلا لا حُدُودَ لها، حتَّى إنَّ الوُجُودَ والعَدَمَ بالنِّسبةِ إلى قُدْرَتِه وإِرادَتِه تَعالَى كمَنزِلَينِ، يُرسِلُ إلَيْهِما الأَشياءَ ويَجلُبُها مِنهُما بكُلِّ يُسرٍ وسُهُولةٍ، فإن شاءَ يَجلُبُها في يَومٍ واحِدٍ أو في آنٍ واحِدٍ.

ثمَّ إنَّ العَدَمَ المُطلَقَ لا وُجُودَ له أَصْلًا لِوُجُودِ العِلمِ المُحِيطِ، عِلْمًا أنَّه لا شَيءَ خارِجَ دائِرةِ العِلمِ الإِلٰهِيِّ، كي يُلقَى إلَيْه شَيءٌ.

والعَدَمُ المَوجُودُ ضِمنَ دائِرةِ العِلمِ هو عَدَمٌ خارِجِيٌّ، وعُنوانٌ صارَ سِتارًا على الوُجُودِ العِلْمِيِّ، حتَّى حَدا ببَعضِ العُلَماءِ المُحَقِّقِينَ التَّعبِيرُ عن هذه المَوجُوداتِ العِلْمِيّةِ أنَّها “أَعيانٌ ثابِتةٌ”، لِذا فالذَّهابُ إلى الفَناءِ إنَّما هو نَزعُ الأَشياءِ لِأَلبِسَتِها الخارِجِيّةِ مُؤَقَّتًا، ودُخُولُها في وُجُودٍ مَعنَوِيٍّ وعِلْمِيٍّ، أي إنَّ الهالِكاتِ والفانِياتِ تَترُكُ الوُجُودَ الخارِجِيَّ وتَلبَسُ ماهِيّاتُها وُجُودًا مَعنَوِيًّا، وتَخرُجُ مِن دائِرةِ القُدْرةِ داخِلةً في دائِرةِ العِلمِ.

[المتوجه إلى الباقي يبقى]

النُّقطةُ الثّانيةُ: لقد أَوْضَحْنا في كَثِيرٍ مِنَ “الكَلِماتِ” أنَّ كُلَّ شَيءٍ فانٍ بمَعناه الِاسمِيِّ، وبالوَجهِ النّاظِرِ إلى ذاتِه، فلَيسَ له وُجُودٌ مُستَقِلٌّ ثابِتٌ بذاتِه، ولَيسَت له حَقِيقةٌ قائِمةٌ بذاتِها وَحْدَها؛ ولكِنَّ الشَّيءَ في الوَجهِ النّاظِرِ إلى اللهِ سُبحانَه -أي: إذا صارَ بالمَعنَى الحَرفِيِّ- فلَيسَ فانِيًا، لِأنَّ فيه جَلَواتٍ ظاهِرةً لِأَسماءٍ باقِيةٍ فلا يكُونُ مَعدُومًا، لِأنَّه يَحمِلُ ظِلًّا لِوُجُودٍ سَرمَدِيٍّ، وله حَقِيقةٌ ثابِتةٌ وهي حَقِيقةٌ سامِيةٌ لِأنَّها ظِلٌّ ثابِتٌ لِاسمٍ باقٍ تَجَلَّى فيه.

ثمَّ إنَّ قَولَه تَعالَى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ سَيفٌ لِيَقطَعَ يَدَ الإِنسانِ عَمّا سِوَى اللهِ تَعالَى، حَيثُ إنَّ الآيةَ تَقطَعُ العَلائِقَ معَ الأَشياءِ الفانِيةِ، في دُنيا فانِيةٍ، في غَيرِ سَبِيلِ اللهِ.. فحُكْمُ الآيةِ الكَرِيمةِ إذًا يَنظُرُ إلى الفانِياتِ في الدُّنيا، بمَعنَى أنَّ الشَّيءَ إنْ كانَ في سَبِيلِ اللهِ، أي: إن كانَ بالمَعنَى الحَرفِيِّ، أي: إن كانَ لِوَجهِ اللهِ، فلا يَدخُلُ ضِمنَ ما سِواه تَعالَى، أي: لا يُضرَبُ عُنُقُه بسَيفِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾.

حاصِلُ الكَلامِ: إذا كانَ الأَمرُ للهِ، ووَجَدَ اللهَ، فلا غَيرَ إِذًا، حتَّى يُقطَعَ رَأسُه؛ ولكِن إنْ لم يَجِدِ اللهَ، ولم يَنظُر في سَبِيلِ اللهِ فكُلُّ شَيءٍ غَيرٌ.. فعَلَيْه أن يَسُلَّ سَيفَ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾، ويُمَزِّقَ الحِجابَ حتَّى يَجِدَه سُبحانَه وتَعالَى.

﴿الباقي هو الباقي﴾

  سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ‌

    

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى