المكتوب الثالث عشر: [عن حال سعيد الجديد في المنفى]
[في هذا المكتوب يجيب الأستاذ النورسي عن ثلاثة أسئلة بخصوص وضعه في المنفى، وعدم مراجعته السلطات للحصول على تسهيلات، وعدم اهتمامه بأمور السياسة]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

المكتوب الثالث عشر
بِاسْمِهِ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه
السَّلامُ على مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى.. والمَلامُ على مَنِ اتَّبَعَ الهَوَى..
إِخوَتي الأَعِزّاءَ..
تَسأَلُون كَثِيرًا عن حالِي وراحَتِي، وعن عَدَمِ مُراجَعَتِي الجِهاتِ المَسؤُولةَ لِلحُصُولِ على شَهادةٍ (لِلمَنفِيِّينَ)، وعن عَدَمِ اهتِمامي بأَحوالِ العالَمِ السِّياسِيّةِ.. وحَيثُ إنَّ أَسئِلَتَكُم تَتَكرَّرُ كَثِيرًا، فَضْلًا عن أنَّها تُسأَلُ مِنِّي مَعنًى، أُضطَرُّ إلى الإِجابةِ على هذه الأَسئِلةِ الثَّلاثةِ بلِسانِ “سَعِيدٍ القَدِيمِ” ولَيسَ بلِسانِ “سَعِيدٍ الجَدِيدِ”.
[السؤال الأول حول حال الأستاذ في المنفى]
سُؤالُكُمُ الأوَّلُ: كَيفَ حالُكُم؟ أأنتُم في خَيرٍ وعافِيةٍ؟
الجَوابُ: إنَّني أَحمَدُ اللهَ تَعالَى حَمْدًا لا أُحصِيه، إذ حَوَّلَ أَنواعَ الظُّلمِ والمَكارِهِ الَّتي جابَهَنِي بها أَهلُ الدُّنيا إلى أَنواعٍ مِنَ الفَضلِ والرَّحْمةِ.. وإلَيْكُمُ البَيانَ:
بَينَما كُنتُ مُنعَزِلًا في مَغارةِ أَحَدِ الجِبالِ، وقد طَلَّقتُ السِّياسةَ وتَجَرَّدتُ عنِ الدُّنيا مُنشَغِلًا بأُمُورِ آخِرَتي، أَخرَجَني أَهلُ الدُّنيا مِن هُناك ونَفَوْني ظُلمًا وعُدْوانًا؛ فجَعَل الخالِقُ الرَّحِيمُ الحَكِيمُ هذا النَّفيَ لي رَحْمةً، إذ حَوَّل ذلك الِانزِواءَ في الجَبَلِ الَّذي كان مُعَرَّضًا لِعَوامِلَ تُخِلُّ بالإِخلاصِ والأَمانِ، إلى خَلْوةٍ في جِبالِ “بارْلا” يُحِيطُ بها الأَمنُ والِاطمِئْنانُ والإِخلاصِ.
وقد عَزَمتُ عِندَما كُنتُ أَسِيرًا في “رُوسيا” ورَجَوتُ اللهَ أن أَنزَوِيَ في أَواخِرِ عُمُرِي في مَغارةٍ، فجَعَل أَرحَمُ الرّاحِمِينَ “بارْلا” في مَقامِ تلك المَغارةِ، ويَسَّر لي فائِدَتَها، ولم يُحَمِّلْ كاهِلِي الضَّعِيفَ مَتاعِبَ المَغارةِ وصُعُوباتِها إلّا ما أَصابَنِي مِن مُضايَقاتٍ بسَبَبِ أَوْهامٍ ورُيُوبٍ كان يَحمِلُها بِضْعةُ أَشخاصٍ فيها، فهَؤُلاءِ الَّذين كانُوا أَصدِقائي -وقد رَكِبَتْهُمُ الأَوْهامُ ظَنًّا مِنهُم أنَّهُم يَعمَلُونَ لِصالِحِي ولِراحَتِي- إلّا أنَّهُم بأَوْهامِهِم هذه قد جَلَبُوا الضِّيقَ على قَلبِي والضَّرَرَ على خِدْمةِ القُرآنِ.
وعلى الرَّغمِ مِن أنَّ أَهلَ الدُّنيا أَعطَوْا لِلمَنفِيِّينَ جَمِيعًا وَثائِقَ العَودةِ وأَخلَوْا سَبِيلَ المُجرِمِينَ مِنَ السُّجُونِ وعَفَوْا عَنهُم، فقد مَنَعُوا الوَثِيقةَ عنِّي ظُلمًا وجَوْرًا، ولكِنَّ رَبِّي الرَّحِيمَ شاء أن يُبقِيَني في هذه الغُربةِ لِيَستَخدِمَنِي في خِدْمةِ القُرآنِ أَكثَرَ، ولِيُهَيِّـئَني لِكِتابةِ هذه الأَنوارِ القُرآنِيّةِ الَّتي سَمَّيتُها: “الكَلِماتِ” أَكثَرَ فأَكثَرَ، فأَبقاني في هذه الغُربةِ بلا ضَجّةٍ ولا ضَوْضاءَ، وحَوَّلَها إلى رَحْمةٍ سابِغةٍ.
ومعَ أنَّ أَهلَ الدُّنيا سَمَحُوا لِذَوِي النُّفُوذِ والشُّيُوخِ ولِرُؤَساءِ العَشائِرِ (مِنَ المَنفِيِّينَ)، الَّذين يُمكِنُهُمُ المُداخَلةُ في دُنياهُم، بِالبَقاءِ في الأَقضِيةِ والمُدُنِ الكَبِيرةِ، وسَمَحُوا لِأَقارِبِهِم ولِجَمِيعِ مَعارِفِهِم بزِيارَتِهِم، فإنَّهُم فَرَضُوا عَلَيَّ حَياةَ العُزلةِ ظُلمًا وعُدْوانًا، وأَرسَلُوني إلى قَريةٍ صَغِيرةٍ، ولم يَسمَحُوا لِأَقارِبِي ولا لِأَهلِ بَلدَتي -بِاستِثناءِ واحِدٍ أوِ اثنَينِ- بزِيارَتي.. فقَلَبَ خالِقِي الرَّحِيمُ هذه العُزلةَ إلى رَحْمةٍ غامِرةٍ بالنِّسبةِ إلَيَّ، إذ جَعَل هذه العُزلةَ وَسِيلةً لِصَفاءِ ذِهنِي وتَخْلِيصِه مِن تَوافِهِ الأُمُورِ وتَوجِيهِه لِلِاستِفاضةِ مِنَ القُرآنِ الحَكِيمِ على صَفائِه ونَقائِه.
ثمَّ إنَّ أَهلَ الدُّنيا استَكْثَرُوا عَلَيَّ في البَدْءِ حتَّى كِتابةَ رِسالةٍ أو رِسالَتَينِ اعتِيادِيَّتَينِ في مُدّةِ سَنَتَينِ كامِلَتَينِ، بل إنَّهُم حتَّى اليَومَ لا يَرتاحُونَ عِندَما يَحضُرُ لِزِيارَتي ضَيفٌ أو ضَيفانِ مَرّةً كُلَّ عَشَرةِ أَيّامٍ أو كُلَّ عِشرِينَ يَومًا أو كُلَّ شَهرٍ، معَ أنَّ غَرَضَ الزِّيارةِ هو الرَّغبةُ في الحُصُولِ على ثَوابِ الآخِرةِ لَيسَ إِلّا! فارْتَكَبُوا الظُّلمَ في حَقِّي، ولكِنَّ رَبِّي الرَّحِيمَ وخالِقِي الحَكِيمَ بَدَّل لي ذلك الظُّلمَ إلى رَحْمةٍ، إذ أَدخَلَني في خَلْوةٍ مَرغُوبةٍ وعُزْلةٍ مَقبُولةٍ في هذه الشُّهورِ الثَّلاثةِ الَّتي يَكسِبُ المَرءُ فيها تِسعِينَ سَنةً مِن حَياةٍ مَعنَوِيّةٍ. فالحَمدُ للهِ على كُلِّ حالٍ.
هذه هي حالي وظُرُوفُ راحَتي.
[السؤال الثاني حول عدم مراجعته المسؤولين]
سُؤالُكُمُ الثَّاني: لِمَ لا تُراجِعُ (المَسؤُولِينَ) لِلحُصُولِ على شَهادةٍ؟
الجَوابُ: إِنَّني في هذه المَسأَلةِ مَحكُومٌ لِلقَدَرِ ولَستُ مَحكُومًا لِأَهلِ الدُّنيا، لِذا أُراجِعُ القَدَرَ؛ وأَرحَلُ مِن هاهُنا مَتَى سَمَح القَدَرُ وقُطِعَ رِزقي هُنا.
وحَقِيقةُ هذا المَعنَى هي أنَّ في كلِّ ما يُصِيبُ الإِنسانَ سَبَبَينِ:
الأوَّل: سَبَبٌ ظاهِرٌ. والآخَرُ: حَقِيقيٌّ.
وقد أَصبَحَ أَهلُ الدُّنيا سَبَبًا ظاهِرًا وأَتَوْا بي إلى هُنا، أمّا القَدَرُ الإِلٰهِيُّ فهُو السَّبَبُ الحَقِيقيُّ، فحَكَمَ علَيَّ بهذه العُزلةِ. والسَّبَبُ الظّاهِرُ ظَلَمَ، أمّا السَّبَبُ الحَقِيقيُّ فقد عَدَلَ.
والسَّبَبُ الظّاهِرُ فَكَّر على هذا النَّمَطِ: “إنَّ هذا الرَّجُلَ يَخدُمُ العِلمَ والدِّينَ بإِفراطٍ، فلَرُبَّما يَتَدخَّلُ في أُمُورِ دُنيانا”، فنَفَوْني بِناءً على هذا الِاحتِمالِ، وظَلَمُوا ظُلمًا مُضاعَفًا بثَلاثِ جِهاتٍ.
أمّا القَدَرُ الإِلٰهِيُّ فقد رَأَى أَنَّني لا أَخدُمُ الدِّينَ والعِلمَ خِدْمةً خالِصةً كامِلةً، فحَكَم عَلَيَّ بهذا النَّفيِ، وحَوَّلَ ظُلمَهُمُ المُضاعَفَ إلى رَحْمةٍ مُضاعَفةٍ.
فما دامَ القَدَرُ هو الحاكِمَ في نَفيِي، والقَدَرُ عادِلٌ، فأنا أُراجِعُه وأَرجِعُ إلَيْه وأُفَوِّضُ أَمرِي إلَيْه؛ أمّا السَّبَبُ الظّاهِرُ فلَيسَ له إلّا حُجَجٌ ومُبَرِّراتٌ تافِهةٌ، بمَعنَى أنَّ مُراجَعةَ أَهلِ الدُّنيا لا يَعنِي شَيئًا ولا يُجدِي نَفْعًا، فلو كانُوا يَملِكُون حَقًّا أو أَسبابًا قَوِيّةً فلَرُبَّما يُمكِنُ مُراجَعَتُهُم.
إنَّني في الوَقتِ الَّذي تَرَكتُ فيه دُنياهُم تَركًا نِهائِيًّا -تَبًّا لَها- وفي المَرحَلةِ الَّتي أَعرَضتُ فيها عن سِياساتِهِم كُلِّيًّا -وتَعْسًا لَها- فإنَّ كلَّ ما يُساوِرُهُم مِن شُكُوكٍ وأَوْهامٍ لا أَصلَ لَه إِطلاقًا؛ لِذا لا أَرغَبُ في أنْ أُضفِيَ صِبْغةَ الحَقِيقةِ على تلك الرُّيُوبِ والأَوْهامِ بمُراجَعَتِهِم.
فلو كان لي أَقَلُّ رَغبةٍ في التَّدَخُّلِ بسِياسَتِهِمُ الدُّنيَوِيّةِ الَّتي طَرَفُ حِبالِها بأَيدِي الأَجانِبِ، لَكانَت تُظهِرُ نَفسَها في ثَماني ساعاتٍ ولَيسَ في ثَماني سَنَواتٍ.. عِلْمًا أنَّني لم أَرغَب في قِراءةِ جَرِيدةٍ واحِدةٍ ولم أَقْرَأْها طَوالَ ثَماني سَنَواتٍ، فمُنذُ أَربَعِ سَنَواتٍ وأنا هُنا تَحتَ المُراقَبةِ، لم تَبدُ مِنِّي ظاهِرةٌ مِن ذلك، بمَعنَى أنَّ خِدْمةَ القُرآنِ لها مِنَ السُّمُوِّ والرِّفعةِ ما يَعلُو على جَمِيعِ السِّياساتِ، مِمّا يَجعَلُني أَتَرفَّعُ عنِ التَّدَخُّلِ في السِّياساتِ الدُّنيَوِيّةِ الَّتي يَغلُبُ علَيْها الكَذِبُ.
والسَّبَبُ الثّاني لِعَدَمِ مُراجَعَتِهِم هو: أنَّ ادِّعاءَ الحَقِّ إِزاءَ مَن يَظُنُّونَ الباطِلَ حَقًّا، نَوعٌ مِنَ الباطِلِ، فلا أُرِيدُ ارْتِكابَ ظُلمٍ كهذا.
[السؤال الثالث: حول عدم اهتمامه بشؤون السياسة العالمية؟]
سُؤالُكُمُ الثَّالثُ: لِمَ لا تَهتَمُّ إلى هذا الحَدِّ بمُجرَياتِ السِّياسةِ العالَمِيّةِ الحاضِرةِ؟! نَراك لا تُغَيِّرُ مِن طَوْرِكَ أَصلًا أَمامَ الحَوادِثِ الجارِيةِ على صَفَحاتِ العالَمِ! أَفتَرتاحُ إلَيْها أم أنَّك تَخافُ خَوْفًا يَدفَعُك إلى السُّكُوتِ؟!
الجَوابُ: إنَّ خِدْمةَ القُرآنِ الكَرِيمِ هي الَّتي مَنَعَتْني بشِدّةٍ عن عالَمِ السِّياسةِ، بل أَنسَتْني حتَّى التَّفَكُّرَ فيها، وإلّا فإنَّ مُجرَياتِ حَياتي كُلِّها تَشهَدُ بأنَّ الخَوفَ لم يُكَبِّلني ولا يَمنَعُني مِن مُواصَلةِ سَيْرِي فيما أَراه حَقًّا.
ثمَّ مِمَّ يكُونُ خَوْفي؟ فلَيسَ لي معَ الدُّنيا عَلاقةٌ غَيرَ الأَجَلِ، إذ لَيسَ لي أَهلٌ وأَوْلادٌ أُفكِّرُ فِيهِم، ولا أَموالٌ أُفكِّرُ فيها، ولا أُفكِّرُ في شَرَفِ الأَصالةِ والحَسَبِ والنَّسَبِ؛ ورَحِمَ اللهُ مَن أَعانَ على القَضاءِ على السُّمْعةِ الِاجتِماعِيّةِ الَّتي هي الرِّياءُ والشُّهرةُ الكاذِبةُ، فَضْلًا عنِ الحِفاظِ علَيْها.. فلم يَبقَ إلّا أَجَلِي، وذلك بِيَدِ الخالِقِ الجَلِيلِ وَحْدَه.. ومَن يَجرُؤُ أن يَتَعرَّضَ له قَبلَ أَوانِه! فنَحنُ نُفَضِّلُ أَصلًا مَوتًا عَزِيزًا على حَياةٍ ذَلِيلةٍ.
ولقد قال أَحَدُهُم مِثلَ “سَعِيدٍ القَدِيمِ”:
ونَحنُ أُناسٌ لا تَوَسُّطَ بَيْنَنا ٭ لنا الصَّدْرُ دُونَ العالَمِينَ أوِ القَبْرُ
إنَّما هي خِدْمةُ القُرآنِ تَمنَعُني عنِ التَّفكُّرِ في الحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ السِّياسِيّةِ، وذلك أنَّ الحَياةَ البَشَرِيّةَ ما هي إلّا كَرَكْبٍ وقافِلةٍ تَمضِي، ولقد رَأَيتُ بنُورِ القُرآنِ الكَرِيمِ في هذا الزَّمانِ: أنَّ طَرِيقَ تلك القافِلةِ الماضِيةِ أَدَّت بهم إلى مُستَنقَعٍ آسِنٍ، فالبَشَرِيّةُ تَتَعثَّرُ في سَيرِها، فهِي لا تكادُ تَقُومُ حتَّى تَقَعَ في أَوْحالٍ مُلَوَّثةٍ مُنتِنةٍ.
ولكِنَّ قِسْمًا مِنها يَمضِي في طَرِيقٍ آمِنةٍ.
وقِسمٌ آخَرُ قد وَجَد بَعضَ الوَسائِلِ لِتُنجِيَه -قَدْرَ المُستَطاعِ- مِنَ الوَحْلِ والمُستَنقَعِ.
وقِسمٌ آخَرُ وهُمُ الأَغلَبِيّةُ يَمضُونَ وَسَطَ ظَلامٍ دامِسٍ في ذلك المُستَنقَعِ المُوحِلِ المُتَّسِخِ.
فالعِشرُونَ مِنَ المِئةِ مِن هَؤُلاءِ يُلَطِّخُونَ وُجُوهَهُم وأَعيُنَهُم بذلك الوَحْلِ القَذِرِ، ظَنًّا مِنهُم أنَّه المِسْكُ والعَنبَرُ، بسَبَبِ سُكْرِهِم، فتارةً يقُومُونَ وأُخرَى يَقَعُونَ.. وهكَذا يَمضُونَ حتَّى يَغرَقُونَ.
أمّا الثَّمانُونَ مِنَ المِئةِ، فهُم يَعلَمُونَ حَقِيقةَ المُستَنقَعِ ويَتَحسَّسُونَ عُفُونَتَه وقَذارَتَه، إلّا أنَّهُم حائِرُونَ، إذ يَعجِزُونَ عن رُؤْيةِ الطَّرِيقِ الآمِنةِ.
وهكَذا فهُناك عِلاجانِ اثنانِ إِزاءَ هَؤُلاءِ:
أوَّلُهُما: إِيقاظُ العِشرِينَ مِنهُم المَخمُورِينَ بالمِطْرَقةِ.
وثانيهما: إِراءةُ طَرِيقِ الأَمانِ والخَلاصِ لِلحائِرِينَ بإِظهارِ نُورٍ لَهُم (أي بالإِرشادِ).
فالَّذي أَراه أنَّ ثَمانِينَ رَجُلًا يُمسِكُونَ بالمِطْرَقةِ بأَيدِيهِم تِجاهَ العِشرِينَ، بَينَما يَظَلُّ أُولَئِك الثَّمانُونَ الحائِرُونَ البائِسُونَ دُونَ أن يُبَصَّرُوا النُّورَ الحَقَّ، وحتَّى لو بُصِّرُوا فإنَّ هَؤُلاءِ لِكَونِهِم يَحمِلُونَ في أَيدِيهِم عَصًا ونُورًا مَعًا فلا يُوثَقُ بهم.. فيُحاوِرُ الحائِرُ نَفسَه في قَلَقٍ واضطِرابٍ: تُرَى! أَيُرِيدُ هذا أن يَستَدرِجَني بالنُّورِ لِيَضرِبَني بالمِطْرَقةِ؟!
ثمَّ حِينَما تَتَحطَّمُ المِطْرَقةُ بالعَوارِضِ أَحيانًا، يَذهَبُ ذلك النُّورُ أَيضًا أَدْراجَ الرِّياحِ أو يَنطَفِئُ.
وهكَذا، فذَلِك المُستَنقَعُ هُو الحَياةُ الِاجتِماعِيّةُ البَشَرِيّةُ العابِثةُ المُلَوَّثةُ الغافِلةُ المُلَطَّخةُ بالضَّلالةِ.
وأُولَئِك المَخمُورُونَ همُ المُتَمرِّدُونَ الَّذين يَتَلذَّذُونَ بالضَّلالةِ.
وأُولَئِك الحائِرُونَ همُ الَّذين يَشمَئِزُّونَ مِنَ الضَّلالةِ، ولكِنَّهُم لا يَستَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنها، فهُم يُرِيدُونَ الخَلاصَ ولكِنَّهُم لا يَهتَدُونَ سَبِيلًا.. فهُم حائِرُونَ.
أمّا تلك المَطارِقُ فهِي التَّيّاراتُ السِّياسِيّةُ، وأمّا تلك الأَنوارُ فهِي حَقائِقُ القُرآنِ، فالنُّورُ لا تُثارُ حِيالَه الضَّجّةُ ولا يُقابَلُ بالعَداءِ قَطْعًا، ولا يَنفِرُ مِنه إلّا الشَّيطانُ الرَّجِيمُ.
ولِذلِك قُلتُ: “أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ والسِّياسةِ” لِكَي أُحافِظَ على نُورِ القُرآنِ، واعتَصَمتُ بكِلْتا يَدَيَّ بذَلِك النُّورِ، مُلْقِيًا مِطْرَقةَ السِّياسةِ جانِبًا.
ورَأَيتُ أنَّ في جَمِيعِ التَّيّاراتِ السِّياسِيّةِ -سَواءٌ المُوافِقةُ مِنها أوِ المُخالِفةُ- عُشّاقًا لِذلِك النُّورِ، فالدَّرسُ القُرآنِيُّ الَّذي يُلقَى مِن مَوضِعٍ طاهِرٍ زَكيٍّ مُبَرَّأٍ مِن مُوحِياتِ أَفكارِ التَّيّاراتِ السِّياسِيّةِ والِانحِيازاتِ المُغرِضةِ جَمِيعِها، ويُرشَدُ إلَيْه مِن مَقامٍ أَرفَعَ وأَسمَى مِنها جَمِيعًا، لا يَنبَغِي أن تَتَحرَّجَ مِنه جِهةٌ، ولا يكُونَ مَوضِعَ شُبهةِ فِئةٍ، مَهما كانَت.. اللَّهُمَّ إلّا أُولَئِك الَّذين يَظُنُّونَ الكُفرَ والزَّندَقةَ سِياسةً فيَنحازُونَ إلَيْها، وهَؤُلاءِ هم شَياطِينُ في صُورةِ أَناسِيَّ أو حَيَواناتٌ في أَجسادِ بَشَرٍ.
وحَمْدًا للهِ، فإنَّني بسَبَبِ تَجَرُّدِي عنِ التَّيّاراتِ السِّياسِيّةِ لم أَبخَسْ قِيمةَ حَقائِقِ القُرآنِ الَّتي هي أَثمَنُ مِنَ الأَلماسِ، ولم أَجعَلْها بتَفاهةِ قِطَعٍ زُجاجِيّةٍ بتُهْمةِ الدِّعايةِ السِّياسِيّةِ؛ بل تَزِيدُ قِيمةُ تلك الجَواهِرِ القُرآنيّةِ على مَرِّ الأَيّامِ، وتَتَألَّقُ أَكثَرَ أَمامَ أَنظارِ كُلِّ طائِفةٍ.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾
﴿الباقي هو الباقي﴾
سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ
❀ ❀ ❀