المكتوبات

المكتوب الحادي عشر: أربعة دروسٍ من أربع آيات

[يتحدث هذا المكتوب عن أن الخواطر الكُفْرية لا تَضُر صاحبها، وأن نظام الميراث في الشريعة عدلٌ ورحمة، بينما هو في المدنية الحديثة ظلمٌ وإجحاف]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

فإن أحكام القرآن هي عين الحق ومحض العدل.
فإن أحكام القرآن هي عين الحق ومحض العدل.

المكتوب الحادي عشر‌

 

بِاسْمِهِ سُبحَانَهُ

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه

 

إن هذا المَكتُوبَ عِلاجٌ مُهِمٌّ، يُشِيرُ إلى دُرَيْراتٍ أُخرِجَت مِن خَزائِنَ عُظمَى لِآياتٍ أَربَعٍ كَرِيمات.

أَخِي العَزِيزَ..‌

إنَّ القُرآنَ الحَكِيمَ قد دَرَّسَ نَفسِي الأَمّارةَ بالسُّوءِ هذه المَسائِلَ المُختَلِفةَ الأَربَعَ في أَوْقاتٍ مُتَبايِنةٍ، كَتَبتُها لِمَن شاءَ مِن إِخواني الَّذين يَرغَبُونَ أن يَأْخُذُوا حَظًّا أو دَرْسًا مِنها.

فهَذِه المَسائِلُ تُبيِّنُ دُرَيْراتٍ مِن خَزِينةِ الحَقائِقِ لِأَربَعِ آياتٍ كَرِيماتٍ مُختَلِفةٍ مِن حَيثُ المَبحَثُ، ولِكُلِّ مَبحَثٍ مِن تلك المَباحِثِ صُورَتُه وفائِدَتُه الخاصّةُ به.

[المبحث الأول: كيد الشيطان]

المبحث الأوَّل:‌ قال تَعالَى: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا..﴾

يا نَفسِي الآيِسةَ مِن جَرّاءِ الوَساوِسِ والشُّبُهاتِ..

إنَّ تَداعِيَ الخَيالاتِ، وتَخَطُّرَ الفَرْضِيّاتِ نَوعٌ مِنِ ارتِسامٍ غيرِ اختِيارِيٍّ، والِارتِسامُ إن كان آتِيًا مِنَ الخَيرِ والنُّورانِيّاتِ، يَسرِي حُكمُ حَقِيقَتِه إلى صُورَتِه ومِثالِه، إلى حَدٍّ مّا، مِثلَما يَنتَقِلُ ضَوءُ الشَّمسِ وحَرارَتُها إلى صُورَتِها في المِرآةِ؛ وإن كان الِارتِسامُ صادِرًا مِنَ الشَّرِّ ومِنَ الكَثِيفِ، فلا يَسرِي حُكمُ الأَصلِ وخاصِّيَّـتُه إلى صُورَتِه، ولا إلى مِثالِه، كصُورةِ النَّجَسِ والقَذارةِ في المِرآةِ.. لَيسَت نَجِسةً ولا قَذِرةً، وصُورةِ الحَيّةِ في المِرآةِ لا تَلدَغُ.

وبِناءً على هذا: إنَّ تَصَوُّرَ الكُفرِ لَيسَ كُفرًا، وتَخَيُّلَ الشَّتمِ لَيسَ شَتمًا، ولا سِيَّما إن كان بلا اختِيارٍ، وكان تَخَطُّرًا فَرْضِيًّا، فلا ضَرَرَ فيه على الإِطلاقِ.

ثمَّ إنَّ قُبحَ الشَّيءِ ونَجاسَتَه وقَذارَتَه هو بسَبَبِ النَّهيِ الإلٰهِيِّ، حَسَبَ مَذهَبِ أَهلِ الحَقِّ، أَهلِ السُّنّةِ والجَماعةِ؛ وحَيثُ إنَّ الأَمرَ خاطِرٌ فَرْضِيٌّ، وتَداعٍ خَيالِيٌّ، بلا اختِيارٍ ولا رِضًا، فلا يَتَعلَّقُ به النَّهيُ الإلٰهِيُّ.. ولِهذا فلا يكُونُ الأَمرُ قَبِيحًا ولا قَذِرًا ولا نَجِسًا مَهما كان صُورةً لقَبِيحٍ وقَذِرٍ ونَجِسٍ.

[المسألة الثانية: ثمرةُ تفكُّر]

المسألة الثانية: ثَمَرةٌ أَينَعَت في مَرعَى جَبَلٍ في “بارْلا”، تَحتَ شَجَرةِ الصَّنَوبَرِ والقَطِرانِ، أُدرِجَت في كِتابِ “الكَلِماتِ“.

[المسألة الثالثة: عدالة ﴿للذكر مثل حظ الأنثيين﴾]

المسألة الثالثة:‌

هذه المَسأَلةُ والَّتي بَعدَها، قِسمٌ مِنَ الأَمثِلةِ الَّتي تُبيِّنُ عَجْزَ المَدَنيّةِ الحَدِيثةِ إِزاءَ إِعجازِ القُرآنِ، والمَذكُورِ في “الكَلِمةِ الخامِسةِ والعِشرِينَ”؛ وهُما مِثالانِ مِن أُلُوفِ الأَمثِلةِ الَّتي تُثبِتُ مَدَى الظُّلمِ والإِجحافِ في الحُقُوقِ المَدَنيّةِ لِلحَضارةِ الحَدِيثةِ، والَّتي تُخالِفُ أَحكامَ القُرآنِ.

إنَّ الحُكمَ القُرآنِيَّ: ﴿فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ مَحْضُ العَدالةِ وعَينُ الرَّحمةِ في الوَقتِ نَفسِه.

نعم، إنَّ ذلك الحُكمَ عَدالةٌ، لِأنَّ الرَّجُلَ الَّذي يَنكِحُ امْرَأةً يَتَكفَّلُ بنَفَقَتِها كما هو في الأَكثَرِيّةِ المُطلَقةِ؛ أمّا المَرأةُ فهي تَتَزوَّجُ الرَّجُلَ وتَذهَبُ إلَيْه، وتَحمِلُ نَفَقَتَها علَيْه، فتُلافي نَقْصَها في الإِرْثِ.

ثمَّ إنَّ الحُكمَ القُرآنِيَّ رَحْمةٌ، لِأنَّ تلك البِنتَ الضَّعِيفةَ مُحتاجةٌ كَثِيرًا إلى شَفَقةِ والِدِها وعَطْفِه علَيْها، وإلى رَحْمةِ أَخِيها ورَأْفَتِه بها، فهِي تَجِدُ -حَسَبَ الحُكمِ القُرآنِيِّ- تلك الشَّفَقةَ علَيْها مِن والِدِها وعَطْفَه دُونَ أن يُكَدِّرَها حَذَرٌ، إذ يَنظُرُ إلَيْها والِدُها نَظْرةَ مَن لا يَخشَى مِنها ضَرَرًا، ولا يقُولُ بأنَّها ستكُونُ سَبَبًا في انتِقالِ نِصفِ ثَروَتِي إلى الأَجانِبِ والأَغيارِ. فلا يَشُوبُ تلك الشَّفَقةَ والعَطْفَ الأَبَوِيَّ الحَذَرُ والقَلَقُ.

ثمَّ إنَّها تَرَى مِن أَخِيها رَحْمةً وحِمايةً لا يُعَكِّرُها حَسَدٌ ولا مُنافَسةٌ، إذ لا يَنظُرُ إلَيْها أَخُوها نَظَرَ مَن يَجِدُ فيها مُنافِسًا له يُمكِنُ أن تُبَدِّدَ نِصفَ ثَروةِ أَبِيهِما بوَضْعِها في يَدِ الأَجانِبِ؛ فلا يُعَكِّرُ صَفْوَ تلك الرَّحْمةِ والحِمايةِ حِقْدٌ وكَدَرٌ.

فتِلك البِنتُ اللَّطِيفةُ الرَّقِيقةُ فِطْرةً، والضَّعِيفةُ النَّحِيفةُ خِلْقةً، تَفقِدُ في هذه الحالةِ شَيْئًا قَلِيلًا في ظاهِرِ الأَمرِ، إلّا أنَّها تَكسِبُ -بَدَلًا مِنه- ثَرْوةً لا تَفنَى مِن شَفَقةِ الأَقارِبِ وعَطْفِهِم علَيْها ورَحْمَتِهِم بها.

وإلّا فإنَّ إِعطاءَها نَصِيبًا أَكثَرَ مِمّا تَستَحِقُّ بزَعْمِ أنَّ ذلك رَحْمةٌ في حَقِّها أَزيَدُ مِن رَحْمةِ اللهِ سُبحانَه، لَيسَ رَحْمةً بها قَطُّ، بل ظُلْمٌ شَنِيعٌ في حَقِّها، رُبَّما يَفتَحُ سَبِيلًا أَمامَ الحِرصِ الوَحْشِيِّ المُستَوْلي على النُّفُوسِ في هذا الزَّمانِ لِارتِكابِ ظُلمٍ أَشنَعَ، يُذَكِّرُ بالغَيرةِ الوَحْشِيّةِ الَّتي كانَت مُستَولِيةً على النُّفُوسِ في زَمَنِ الجاهِلِيّةِ في وَأْدِهِمُ البَناتِ.

فجَمِيعُ الأَحكامِ القُرآنِيّةِ المُماثِلةُ لهذا الحكم تُصادِقُ على الحُكمِ في قَولِه تَعالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.

[المسألة الرابعة: من مظالم المدنية الحديثة في ميراث الأم]

المسألة الرابعة:‌ قَولُه تَعالَى: ﴿فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾.

إنَّ المَدَنيّةَ (وهِي بلا مِيمٍ) -أي: الدَّنِيّةَ- كما قد أَصبَحَت سَبَبًا لِمِثلِ هذا الظُّلمِ (المَذكُورِ في المَسأَلةِ السّابِقةِ) في حَقِّ البَناتِ بإِعطائِها أَكثَرَ مِمّا تَستَحِقُّ، كَذلِك تَقتَرِفُ ظُلْمًا أَدهَى وأَنكَى بحَقِّ الوالِداتِ، وذلك بحِرمانِهِنَّ مِن حُقُوقِهِنَّ.

نعم، إنَّ شَفَقةَ الوالِدةِ وحَنانَها الَّذي هو أَلطَفُ جَلْوةٍ مِن رَحْمَتِه تَعالَى، بل أَلَذُّها وأَجدَرُها بالِاحتِرامِ، أَسمَى وأَكرَمُ حَقِيقةٍ مِن بَينِ حَقائِقِ الوُجُودِ.

والوالِدةُ هي بالذّاتِ أَكرَمُ صَدِيقةٍ عَزِيزةٍ وأَرحَمُ مُضَحِّيةٍ، بل إنَّها تُضَحِّي بدُنياها وحَياتِها وراحَتِها لِوَلَدِها، بدافِعٍ مِن حَنانِها وعَطْفِها؛ حتَّى إنَّ الدَّجاجةَ الَّتي هي في أَبسَطِ مَراتِبِ الأُمُومةِ، وتَحمِلُ بَصِيصًا مِن تلك الشَّفَقةِ، لا تَتَردَّدُ في الهُجُومِ على الكَلبِ والصَّوْلةِ على الأَسَدِ دِفاعًا عن فِراخِها، رَغمَ خَوْفِها وجُبْنِها.

فحِرمانُ الوالِدةِ الَّتي تَطْوِي جَوانِحَها على مِثلِ هذه الحَقِيقةِ العَزِيزةِ وإلى هذا الحَدِّ، مِن تَرِكةِ وَلَدِها، ظُلمٌ مُرِيعٌ وعَمَلٌ إِجرامِيٌّ، وإِهانةٌ بحَقِّها، وكُفْرانُ نِعمةٍ إِزاءَ الحَقِيقةِ الجَدِيرةِ بالتَّوقِيرِ، بحَيثُ يَهتَزُّ لها عَرشُ الرَّحْمةِ؛ وفَوقَ ذلك فهُو دَسٌّ لِلسُّمِّ في التِّرياقِ النّافِعِ لِحَياةِ البَشَرِ الِاجتِماعِيّةِ.. فإن لم يُدرِكْ هذا وُحُوشُ البَشَرِيّةِ الَّذين يَدَّعُونَ خِدْمَتَها، فإنَّ النّاسَ الحَقِيقيِّينَ الكامِلِينَ يَعلَمُونَ أنَّ حُكمَ القُرآنِ الحَكِيمِ في قَولِه تَعالَى: ﴿فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ عَينُ الحَقِّ ومَحضُ العَدلِ.

﴿الباقي هو الباقي

سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ‌

❀   ❀   ❀

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى