المكتوب العاشر: حول الإمام المبين والكتاب المبين.
[هذا المكتوب يجيب عن سؤالَين: أين ميدان الحشر؟ وما الفرق بين “الكتاب المبين” و”الإمام المبين”؟ وعلاقة كلٍّ منهما بالقضاء والقدَر]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
المكتوب العاشر
جَوابٌ عن سُؤالَينِ
بِاسْمِهِ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه
[الفرق بين ﴿الإمام المبين﴾ و ﴿الكتاب المبين﴾]
الأوَّل: هو هامِشُ المَقصَدِ الثَّاني مِنَ “الكَلِمةِ الثَّلاثِينَ” الخاصَّةِ بـ”أنا وتَحَوُّلاتُ الذَّرّاتِ”:
لقد ذُكِرَ في القُرآنِ الكَرِيمِ: ﴿إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ و﴿كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ في عِدّةِ مَواضِعَ. وقال قسمٌ من المُفسِّرين: إنهما بمعنًى واحِدٍ. وقال آخَرون: معناهما مُختلِف. وفسَّروا حقيقَتَهما بوُجُوهٍ مُتَضارِبة. وخلاصةُ ما قالوه أنهما عُنوانان للعِلمِ الإلٰهيِّ.
ولقد حَصَل لي الِاطمئنانُ التامُّ والقناعةُ التامَّةُ بفيضِ القرآن الكريم أنَّ:
“الإمامَ المُبِينَ” عنوانٌ لنوعٍ من العلمِ الإلٰهيِّ وأَمرِه، بحيث يَتَوجَّهُ إلى عالَمِ الغَيبِ أكثرَ ممّا يَتَوجَّهُ إلى عالَمِ الشَّهادة. أي إنَّه يَتَوجَّه إلى الماضي والمُستَقبَل أكثرَ مِن تَوَجُّهِه إلى الحال والزَّمَن الحاضر. وبعبارةٍ أُخرى: إنَّه سِجِلٌّ للقَدَر الإلٰهيِّ يَنظُر إلى أصلِ كلِّ شيءٍ وإلى نَسْلِه، إلى عُرُوقِه وإلى بُذُورِه، أكثرَ ممّا يَنظُر إلى وُجُودِه الظّاهِريّ. وقد أُثبِت وُجُودُ هذا السِّجِلِّ في “الكلمة السادسة والعشرين” وفي حاشية “الكلمة العاشرة“.
نعم، إنَّ هذا الإمامَ المُبِينَ عُنوانٌ لنَوعٍ مِن عِلمِ اللهِ وأَمرِه، وهذا يعني أنَّ إنتاجَ مَبادِئِ الأشياءِ وجُذُورِها وأُصُولِها، للأشياء، في غايةِ الإبداعِ والإتقانِ، يَدُلُّ على أن ذلك التَّنظيمَ والإتقان إنَّما يَتِمّانِ وَفْقَ سِجِلِّ دَساتيرَ للعِلمِ الإلٰهيِّ. كما أنَّ نتائِجَ الأشياء وأَنسالَها وبُذُورَها، سِجِلٌّ صغيرٌ للأَوامِرِ الإلٰهيّةِ لكَونِها تتضمَّنُ بَرامِجَ ما سيأتي مِنَ المَوجُودات وفهارِسَه، فيَصِحُّ أن يُقالَ: إنَّ البِذرةَ -مثلًا- عبارةٌ عن بَرامِجَ وفَهارسَ مُجَسَّمةٍ مُصَغَّرةٍ لجميعِ ما يُنَظِّم تركيبَ الشَّجرة الضَّخمة، وللأوامر التكوينيّة التي تُعَيِّنُ تلك التَّصاميمَ والفَهارِسَ وتُحَدِّدُها.
الحاصِلُ أنَّ “الإمامَ المُبِينَ” هو في حُكمِ فِهْرِسِ وبَرنامَجِ شجرةِ الخَلْقِ، المُمتَدّةِ عُرُوقُها وأغصانُها وفروعُها حولَ الماضي والمُستقبَلِ وعالَمِ الغَيبِ. فـ”الإمامُ المُبِينُ” بهذا المعنى سِجِلّ للقَدَرِ الإلٰهيِّ، وكُرّاسُ دَساتيرِه. والذَّرّاتُ تُساقُ إلى حَرَكاتِها ووَظائفِها في الأشياءِ بإملاءٍ مِن تلك الدَّساتيرِ وبحُكْمِها. أمّا “الكِتابُ المُبِينُ” فهو يَتَوجَّه إلى عالَمِ الشَّهادة أكثرَ مِن تَوَجُّهِه إلى عالَمِ الغَيبِ، أي: يَنظُرُ إلى الزَّمانِ الحاضر أكثرَ ممّا يَنظُرُ إلى الماضي والمُستقبَل. فهو عنوانٌ للقُدرةِ الإلٰهيّةِ والإرادةِ الرَّبّانيّةِ، وسِجِلٌّ لهما وكتابٌ، أكثرَ ممّا هو عنوانٌ لِعِلمِ اللهِ وأَمرِه.
وبتعبيرٍ آخَرَ: إنَّه إذا كان “الإمامُ المُبِينُ” سِجِلًّا للقَدَر الإلٰهيِّ فـ”الكتابُ المُبِينُ” سِجِلٌّ للقُدرةِ الإلٰهيّة. أي إنَّ الِانتِظامَ والإتقان في كلِّ شيءٍ، سواءٌ في وُجُودِه، في هُوِيَّتِه، في صِفاتِه، في شُؤُونِه يَدُلّانِ على أن الوُجُودَ يُضفى على الشَّيءِ وتُعيَّنُ له صُوَرُه، ويُشَخَّصُ مِقدارُه، ويُعطَى له شَكلُه الخاصُّ، بدَساتيرِ قُدرةٍ كاملةٍ وقَوانينِ إرادةٍ نافِذةٍ. فتلك القُدرةُ الإلٰهيّةُ والإرادة الإلٰهيّةُ إذًا لهما قَوانينُ كُلِّيّةٌ وعُمُوميّةٌ مَحفُوظةٌ في سِجِلٍّ عظيمٍ، بحيثُ يُفصَّلُ ويُخاطُ ثَوبُ أَنماطِ الوُجُودِ الخاصِّ لكُلِّ شيءٍ ويُلبَسُ عليه ويُعطَى له صُوَرُه المَخصُوصةُ، وَفْقَ تلك القَوانينِ. وقد أُثبِت وُجُودُ هذا السِّجلِّ في رسالةِ “القَدَرُ الإلٰهيُّ والجُزءُ الاختيارِيُّ” كما أُثبِت فيها “الإمامُ المُبِينُ”.
فانظُر إلى حَماقةِ الفلاسِفةِ وأربابِ الضَّلالة والغَفلة! فلقد شَعَرُوا بوُجُودِ اللَّوحِ المَحفُوظ للقُدرةِ الإلٰهيّة الفاطِرة، وأَحَسُّوا بمَظاهِر ذلك الكتابِ البَصيرِ للحِكمةِ الرَّبَّانيَّة، والإرادةِ الإلٰهيّةِ النّافِذةِ في الأشياء، ولَمَسُوا صُوَرَه ونَماذِجَه، إلّا أنَّهم أَطلَقوا عليه اسمَ “الطَّبيعة” -حاشَ لله- فأَخمَدُوا نُورَه.
وهكذا، بإملاءٍ مِن الإمامِ المُبِينِ، أي: بحُكمِ القَدَر الإلٰهيِّ ودُستُورِه النّافِذ، تَكتُبُ القُدرةُ الإلٰهيّةُ -في إيجادِها- سِلسِلةَ المَوجُوداتِ التي كلٌّ مِنها آيةٌ، وتُوجِد وتُحَرِّكُ الذَّرّاتِ في لَوحِ “المَحْوِ والإثباتِ” الَّذي هو الصَّحِيفةُ المِثاليةُ للزَّمان.
أي: إنَّ حَرَكاتِ الذَّرّاتِ إنَّما هي اهتِزازاتٌ وحَرَكاتٌ في أثناءِ عُبُورِ المَوجُوداتِ، مِن تلك الكِتابةِ، ومِن ذلك الِاستِنساخِ، ومِن عالَمِ الغَيبِ، إلى عالَمِ الشَّهادة، أي: مِن العِلمِ إلى القُدرةِ.
[حقيقة الزمان]
أمّا “لَوحُ المَحْوِ والإثباتِ” فهو سِجِلٌّ مُتَبدِّلٌ للَّوحِ المَحفُوظِ الأَعظمِ الثّابتِ الدّائمِ، ولَوحةُ “كتابةٍ ومَحْوٍ” في دائرةِ المُمكِناتِ، أي: هو سِجِلٌّ للأشياءِ المُعرَّضةِ دَومًا إلى المَوتِ والحياةِ، إلى الفَناءِ والوُجُودِ. بحيث إنَّ حقيقةَ الزَّمان هو هذا.
نعم، فكما أنَّ لكلِّ شيءٍ حَقيقةً، فحقيقةُ ما نُسمِّيه بالزَّمان الذي يَجرِي جَرَيانَ النَّهرِ العظيمِ في الكَونِ هي في حُكمِ صَحِيفةٍ ومِدادٍ لكِتاباتِ القُدرةِ الإلٰهيّةِ في لَوحِ المَحْوِ والإثباتِ. ولا يَعلَمُ الغَيبَ إلّا اللهُ.
[أين ميدان الحشر؟]
السُّؤالُ الثّاني: أَينَ مَيدانُ الحَشرِ؟
الجَوابُ: العِلمُ عِندَ اللهِ.. وإنَّ حِكْمةَ الخالِقِ الحَكِيمِ الرَّفِيعةَ الَّتي يُظهِرُها في كُلِّ شَيءٍ حتَّى في رَبطِ حِكَمٍ كَثِيرةٍ جَلِيلةٍ بشَيءٍ صَغِيرٍ جِدًّا، تُشِيرُ صَراحةً إلى أنَّ الكُرةَ الأَرضِيّةَ لا تَخُطُّ في أَثناءِ سَيرِها السَّنَوِيِّ دائِرةً عَظِيمةً عَبَثًا وعلى غَيرِ هُدًى، بل إنَّها تَدُورُ حَولَ شَيءٍ عَظِيمٍ، وتَخُطُّ دائِرةً مُحِيطةً لِمَيدانٍ عَظِيمٍ، وتُعَيِّنُ حُدُودَه، وتَجُولُ حَولَ مَشهَرٍ عَظِيمٍ، وتُسَلِّمُ مَحاصِيلَها المَعنَوِيّةَ إلَيْه، لِتُعرَضَ تلك المَعرُوضاتُ أَمامَ أَنظارِ النَّاسِ في ذلك المَحشَرِ.
بمَعنَى أنَّ مَيدانَ حَشرٍ عَظِيمًا سيُبسَطُ مِن مَنطِقةِ الشَّامِ -كما في رِوايةٍ- الَّتي ستكُونُ في حُكْمِ نَواةٍ تَملَأُ دائِرةً عَظِيمةً، مُحِيطُها يَبلُغُ ما يَقرُبُ مَسافةَ خَمسٍ وعِشرِينَ أَلفَ سَنةٍ. وتُرسَلُ الآنَ مَحاصِيلُ الأَرضِ المَعنَوِيّةُ إلى دَفاتِرِ وأَلواحِ ذلك المَيدانِ المَعنَوِيِّ، المَحجُوبِ عَنّا تَحتَ سِتارِ الغَيبِ، وحِينَما يُفتَحُ المَيدانُ في المُستَقبَلِ، ستُفرَغُ الأَرضُ أَيضًا بأَهلِيها إلى المَيدانِ نَفسِه، وتَنتَقِلُ مَحاصِيلُها المَعنَوِيّةُ تلك مِنَ الغَيبِ إلى الشَّهادةِ.
نعم، إنَّ الكُرةَ الأَرضِيّةَ في حُكْمِ مَزرَعةٍ، وبمَثابةِ نَبْعٍ، وكأَنَّها مِكْيالٌ، قد أَنتَجَت مِنَ المَحاصِيلِ الوَفِيرةِ ما يَملَأُ ذلك المَيدانَ الأَكبَرَ، وسالَت مِنها مَخلُوقاتٌ كَثِيرةٌ يَستَوعِبُها ذلك المَيدانُ، وخَرَجَت مِنها مَصنُوعاتٌ كَثِيرةٌ تَملَأُ ذلك المَيدانَ. أي: أنَّ الكُرةَ الأَرضِيّةَ نَواةٌ، وأنَّ مَيدانَ الحَشرِ معَ ما فيه، شَجَرةٌ وسُنبُلٌ ومَخزَنٌ.
نعم، كما أنَّ نُقطةً نُورانيّةً تَخُطُّ خَطًّا أو دائِرةً بحَرَكَتِها السَّرِيعةِ، فالكُرةُ الأَرضِيّةُ كَذلِك تكُونُ سَبَبًا لِتَمثِيلِ دائِرةِ وُجُودٍ، بحَرَكَتِها السَّرِيعةِ والحَكِيمةِ؛ وتلك الدّائِرةُ معَ مَحاصِيلِها تكُونُ مِحْوَرَ تَشَكُّلِ مَيدانِ الحَشرِ الأَكبَرِ.
﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ﴾
﴿الباقي هو الباقي﴾
سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ
❀ ❀ ❀