المكتوبات

المكتوب الرابع: خواطر على شجر صنوبر

[هذا المكتوب رسالة بعث بها الأستاذ إلى بعض طلابه يشاركهم خواطرَه في خلوته، ويتحدث فيها عن نَيل تجلي اسمٍ من الأسماء الحسنى، وعن حديث النجوم بلسان حالها]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

إن بعض أهل الحقيقة ينظرون إلى الموجودات من خلال اسم الله "الودود"، أما أخوكم الفقير هذا فقد حَظِي من أسماء الله تعالى باسمَي "الرحيم" و"الحكيم".
إن بعض أهل الحقيقة ينظرون إلى الموجودات من خلال اسم الله “الودود”، أما أخوكم الفقير هذا فقد حَظِي من أسماء الله تعالى باسمَي “الرحيم” و”الحكيم”.

المكتوب الرابع‌

 

بِاسْمِهِ سُبحَانَهُ

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه

سَلامُ اللهِ ورَحمَتُه وبَرَكاتُه علَيكُم وعلى إخوانِكُم، لا سِيَّما… إلخ.

إخوَتي الأعِزَّاءَ..‌

أنا الآنَ في مَوضِعٍ، على ذِروةِ شَجَرةِ صَنَوبَرٍ ضَخْمةٍ عَظِيمةٍ، مُنتَصِبةٍ على قِمّةٍ شاهِقةٍ مِن قِمَمِ جَبَلِ “چام”.. لقدِ استَوْحَشتُ مِنَ الإِنسِ واستَأْنَستُ بالوُحُوشِ، وحِينَما أَرغَبُ في المُحاوَرةِ والمُجالَسةِ معَ النَّاسِ أَتَصوَّرُكُم بقُربي خَيالًا، وأُجاذِبُكُمُ الحَدِيثَ وأَجِدُ السُّلوانَ بكم.. وأنا أَرغَبُ في البَقاءِ هنا وَحِيدًا مُدّةَ شَهرٍ أو شَهرَينِ إن لم يَحدُثْ ما يَمنَعُ؛ وإن رَجَعتُ إلى “بارلا” نَتَحرَّى مَعًا حَسَبَ رَغبَتِكُم وَسِيلةً لِمُجالَسةٍ ومُحاوَرةٍ بَينَنا، فقدِ اشتَقتُ إلَيْها أَكثَرَ مِنكُم.

والآنَ أَكتُبُ إلَيْكُم ما وَرَد بالبالِ مِن خَواطِرَ على شَجَرةِ الصَّنَوبَرِ هذه:

[نَيل تجلي اسمٍ من الأسماء الإلهية]

أُوَّلاها: خاطِرةٌ فيها شَيءٌ مِنَ الخُصُوصِيّةِ، فهي مِن أَسرارِي، ولكِن لا يُكتَمُ عَنكُمُ السِّرُّ، وهو أنَّ قِسمًا مِن أَهلِ الحَقِيقةِ يَحظَونَ بِاسمِ اللهِ “الوَدُودِ” مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى، ويَنظُرُونَ إلى واجِبِ الوُجُودِ مِن خِلالِ نَوافِذِ المَوجُوداتِ بتَجَلِّياتِ المَرتَبةِ العُظمَى لِذَلِك الِاسمِ؛ كَذلِك أَخُوكُم هذا الَّذي لا يُعَدُّ شَيئًا يُذكَرُ، وهو لا شَيءٌ، قد وُهِبَ له وَضْعٌ يَجعَلُه يَحظَى بِاسمِ اللهِ “الرَّحِيمِ” واسمِ اللهِ “الحَكِيمِ” مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى، وذلك في أَثناءِ ما يكُونُ مُستَخدَمًا لِخِدمةِ القُرآنِ فحَسبُ، وحِينَما يكُونُ مُنادِيًا لِتِلك الخَزِينةِ العُظمَى الَّتي لا تَنتَهِي عَجائِبُها.. فجَمِيعُ “الكَلِماتِ” إنَّما هي جَلَواتُ تلك الحُظْوةِ.. نَرجُو مِنَ اللهِ تَعالَى أن تكُونَ نائِلةً لِمَضمُونِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.

[حديث النجوم بلسان حالها]

ثانيتُها: لقد وَرَدَت هذه الفِقْرةُ الرَّقيقةُ فَجْأةً بالبالِ، وهي: أنَّ ما يُقالُ في الطَّرِيقةِ النَّقْشَبَندِيّةِ:

“دَرْ طَرِيقِ نَقشِبَنْدِى لَازم آمَدْ چَارِ تَرك:

تَركِ دُنيَا، تَركِ عُقبَى، تَركِ هَستِى، تَركِ تَرك”.

ووَرَدَت هذه الفِقرةُ الآتِيةُ عَقِبَ الفِقْرةِ السَّابِقةِ مُباشَرةً وهي:

“دَرْ طَريقِ عَجزِ مَنْدِى لَازم آمدْ چَارِ چِيز

فَقرِ مُطلَق عَجزِ مُطلَق شُكرِ مُطلَق شَوقِ مُطلَقْ أَيْ عَزِيز”.‌

ثمَّ خَطَر بالبالِ ما كَتَبتَه أَنتَ: “انظُر إلى الصَّحِيفةِ المُتَلوِّنةِ الزَّاهِيةِ لِكِتابِ الكَونِ… إلخ” ذلك الشِّعرِ الغَنِيِّ بالمَعاني والزَّاهِي بأَلوانِ الوَصْفِ.

نَظَرتُ إلى النُّجُومِ المُتَدلِّيةِ في سَقفِ السَّماءِ، مِن خِلالِ ذلك الشِّعرِ، وقُلتُ: لَيتَنِي كُنتُ شاعِرًا، فأُتِمَّ هذا الشِّعرَ؛ ومعَ أنَّني لا أَملِكُ مَوهِبةً في الشِّعرِ والنَّظمِ، إلّا أنَّني شَرَعتُ به، ولكِن لم أَستَطِع أن أَنظُمَه شِعرًا، فكَتَبتُه كما وَرَد في القَلبِ.. فإن شِئتَ حَوِّلْه نَظْمًا يا مَن أَنتَ وارِثِي.

والخاطِرةُ الَّتي ورَدَت دُفعةً هي:

واستَمِعْ إلى النُّجُومِ أَيضًا، إلى حُلْوِ خِطابِها الطَّيِّبِ اللَّذِيذِ.

لِتَرَى ما قَرَّرَه خَتمُ الحِكْمةِ النَّـيِّـرُ على الوُجُودِ.

إنَّها جَمِيعًا تَهتِفُ وتقُولُ مَعًا بلِسانِ الحَقِّ:

نَحنُ بَراهِينُ ساطِعةٌ على هَيبةِ القَدِيرِ ذِي الجَلالِ. نَحنُ شَواهِدُ صِدْقٍ على وُجُودِ الصّانِعِ الجَلِيلِ وعلى وَحدانيَّتِه وقُدرَتِه.

نَتفَرَّجُ كالمَلائِكةِ على تلك المُعجِزاتِ اللَّطِيفةِ الَّتي جَمَّلَت وَجهَ الأَرضِ.

فنَحنُ أُلُوفُ العُيُونِ الباصِرةِ تُطِلُّ مِنَ السَّماءِ إلى الأَرضِ وتَرنُو إلى الجَنّةِ1أي: أنَّ وجهَ الأرض مَشتَلُ أَزاهِيرِ الجَنّة ومَزرَعتُها، تَعرِضُ فيه ما لا يُحَدُّ مِن مُعجِزاتِ القُدرةِ الإلٓهيّة. ومِثلَما تَتَفرَّجُ مَلائِكةُ عالَمِ السَّماواتِ وتُشاهِدُ تلك المُعجِزاتِ تُشاهِدُها أيضًا النُّجُومُ التي هي بمَثابةِ عُيُونِ الأَجرامِ السَّماوية الباصِرةِ، فهي كُلَّما نَظَرَت كالمَلائكةِ إلى تلك المَصنُوعاتِ اللَّطيفة الَّتي تَملَأُ وَجهَ الأَرضِ، نَظَرَت إلى عالَمِ الجَنّة أيضًا، فتُشاهِدُ تلك الخَوارِقَ المُؤقَّتةَ في صُورَتِها الباقيةِ هناك. أي: أنَّها عِندَما تُلقِي نَظرةً إلى الأَرضِ تُلقِي الأُخرَى إلى الجَنّة، بمعنى أنَّ لها إِشرافًا على ذَينِك العالَمَينِ معًا..

نَحنُ أُلُوفُ الثَّمَراتِ الجَمِيلةِ لِشَجَرةِ الخِلْقةِ، عَلَّقَتْنا يَدُ حِكْمةِ الجَمِيلِ ذِي الجَلالِ على شَطرِ السَّماءِ وعلى أَغصانِ دَرْبِ التَّبّانةِ.

فنَحنُ لِأَهلِ السَّماواتِ مَساجِدُ سَيّارةٌ ومَساكِنُ دَوَّارةٌ وأَوكارٌ سامِيةٌ عالِيةٌ ومَصابِيحُ نَوَّارةٌ وسَفائِنُ جَبَّارةٌ وطائِراتٌ هائِلةٌ!

نَحنُ مُعجِزاتُ قُدرةِ قَدِيرٍ ذِي كَمالٍ وخَوارِقُ صَنعةِ حَكِيمٍ ذِي جَلالٍ، ونَوادِرُ حِكْمةٍ ودَواهِي خِلْقةٍ وعَوالِمُ نُورٍ.

هكذا نُبيِّنُ مِئةَ أَلفِ بُرهانٍ وبُرهانٍ، بمِئةِ أَلفِ لِسانٍ ولِسانٍ، ونُسمِعُها إلى مَن هو إِنسانٌ حَقًّا.

عَمِيَتْ عَينُ المُلحِدِ لا يَرَى وُجُوهَنا النَّـيِّرةَ، ولا يَسمَعُ أَقوالَنا البَيِّنةَ.. فنَحنُ آياتٌ ناطِقةٌ بالحَقِّ.

سِكَّتُنا واحِدةٌ، طُرَّتُنا واحِدةٌ، مُسَبِّحاتٌ نَحنُ عابِداتٌ لِرَبِّنا، مُسَخَّراتٌ تَحتَ أَمرِه.

نَذكُرُه تَعالَى ونَحنُ مَجذُوباتٌ بحُبِّه، مَنسُوباتٌ إلى حَلْقةِ ذِكرِ دَربِ التَّبّانةِ.

﴿الباقي هو الباقي﴾

  سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ‌

  ❀  ❀‌

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى