المكتوبات

المكتوب الثاني: إن أجري إلا على الله.

[في هذا المكتوب يتحدث الأستاذ النورسي عن ستة أسباب تجعله يمتنع عن قبول الهدايا ويتعفف عن أموال الناس]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

إنني أُفَضِّل أن آكل كِسرةَ خبزٍ يابس، وألبسَ ثوبًا فيه مئةُ رقعةٍ ورقعةٍ ينقذني من التصنُّع والتملق، على أن آكلَ أطيبَ حلوى الآخرين، وألبسَ أفخرَ ملابسهم، وأُضطَرَّ إلى مراعاة مشاعرِهم.. وهذا ما أَكرَهُه.
إنني أُفَضِّل أن آكل كِسرةَ خبزٍ يابس، وألبسَ ثوبًا فيه مئةُ رقعةٍ ورقعةٍ ينقذني من التصنُّع والتملق، على أن آكلَ أطيبَ حلوى الآخرين، وألبسَ أفخرَ ملابسهم، وأُضطَرَّ إلى مراعاة مشاعرِهم.. وهذا ما أَكرَهُه.

المكتوب الثاني‌

بِاسْمِهِ سُبحَانَه

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه

[ستة أسبابٍ تجعلني أمتنع عن قبول الهدايا]

“قِطعة مِن الجَواب الَّذي بعَثه إلى تِلميذِه المَذكور المَعلوم‌ لِما أرسَل من هديَّة”‌

……..

ثالثًا: لقد أَرسَلتَ إِلَيَّ هَدِيّةً، تُرِيدُ أن تُغيِّرَ بها قاعِدةً مِن قَواعِدِ حَياتي في غايةِ الأَهَمِّيّةِ.

إنَّني يا أَخِي لا أَقُولُ: “لا أَقبَلُ هَدِيَّتَك مِثلَما لا أَقبَلُها مِن شَقِيقِي عَبدِ المَجِيدِ وابنِ أَخِي عَبدِ الرَّحمَن، فإنَّك أَسبَقُ مِنهُما وأَقرَبُ إلى رُوحِي؛ لِذلِك: فلو تُرَدُّ هَدِيّةُ كلِّ شَخصٍ، فهَدِيَّتُك لا تُرَدُّ، على أن تكُونَ لِمَرّةٍ واحِدةٍ فقط.

وأُبيِّنُ بهذه المُناسَبةِ سِرَّ قاعِدَتي تلك بالآتي:

كان (سَعِيدٌ القَدِيمُ) لا يَتَحمَّلُ أَذَى المَنِّ مِن أَحَدٍ، بل كان يُفَضِّلُ المَوتَ على أن يَظَلَّ تَحتَ ثِقَلِ المِنّةِ؛ ولم يُخالِفْ قاعِدَتَه رَغمَ مُقاساتِه المَشقّاتِ والعَناءَ.. فهذه الخَصلةُ المَورُوثةُ مِن (سَعِيدٍ القَدِيمِ) إلى أَخِيك العاجِزِ هذا، لَيسَت تَزَهُّدًا ولا استِغناءً مُصطَنَعًا عنِ النَّاسِ، بل تَرتَكِزُ إلى بِضعةِ أَسبابٍ واضِحةٍ:

[(1): علوم الدين لا تُتَّخَذ مغنمًا]

الأوَّلُ: إنَّ أَهلَ الضَّلالِ يَتَّهِمُونَ العُلَماءَ باتِّخاذِهِمُ العِلمَ مَغْنَمًا، فيُهاجِمُونَهُم ظُلمًا وعُدْوانًا بقَولِهِم: “إنَّهُم يَجعَلُونَ العِلمَ والدِّينَ وَسِيلةً لِكَسبِ مَعيشَتِهِم”، فيَجِبُ تَكذِيبُ هَؤُلاءِ تَكذِيبًا فِعلِيًّا.

[(2): نهج الأنبياء ﴿إن أجري إلا على الله﴾]

الثَّاني: نَحنُ مُكلَّفُونَ باتِّباعِ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلام في نَشرِ الحَقِّ وتَبلِيغِه.. والقُرآنُ الكَرِيمُ يَذكُرُ الَّذين نَشَرُوا الحَقَّ أنَّهُم أَظهَرُوا الِاستِغناءَ عنِ النّاسِ بقَولِهِم: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ.. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾، وإنَّ الآيةَ الكَرِيمةَ: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ في سُورةِ (يسٓ)، تُفِيدُ مَعانِيَ جَمّةً، ومَغزًى عَمِيقًا، فيما يَخُصُّ مَسأَلتَنا هذه.

[(3): باسم الله أخذًا وعطاءً]

الثَّالث: لقد بُـيِّنَ في “الكَلِمةِ الأُولَى” أنَّه يَلزَمُ الإِعطاءُ بِاسمِ اللهِ، والأَخذُ بِاسمِ اللهِ، ولكِنَّ الَّذي يَحدُثُ غالِبًا هو أنَّ المُعطِيَ غافِلٌ، فيُعطِي بِاسمِ نَفسِه، فيَتَمنَّنُ ضِمْنًا، أو أنَّ الآخِذَ غافِلٌ يُسنِدُ الشُّكرَ والثَّناءَ الخاصَّ بالمُنعِمِ الحَقِيقيِّ إلى الأَسبابِ الظّاهِرِيّةِ فيُخطِئُ.

[(4): التوكل والقناعة والاقتصاد خزائن لا تنفد]

الرَّابع: إنَّ التَّوكُّلَ والقَناعةَ والِاقتِصادَ خَزِينةٌ عَظِيمةٌ، وكَنزٌ ثَمِينٌ لا يُعوَّضانِ بشَيءٍ.. لا أُرِيدُ أن أَسُدَّ أَبوابَ تلك الخَزائِنِ والكُنُوزِ الَّتي لا تَنفَدُ بأَخذِ المالِ مِنَ النَّاسِ.. فشُكرًا لِلرَّزَّاقِ ذِي الجَلالِ آلافَ المَرّاتِ أنَّه لم يُلجِئْني مُنذُ طُفُولَتي إلى البَقاءِ تَحتَ مِنّة أَحَدٍ مِنَ النّاسِ.. فأَسألُه برَحمَتِه تَعالَى مُعتَمِدًا على كَرَمهِ أن يُمضِيَ بَقِيّةَ عُمُرِي أَيضًا بتلك القاعِدةِ.

[(5): لستُ مأذونًا بقبول أموال الناس]

الخامس: لقدِ اقتَنَعتُ اقْتِناعًا تامًّا مُنذُ حَوالَيْ سَنَتَينِ بأَماراتٍ وتَجارِبَ كَثِيرةٍ أنَّني لَستُ مَأْذُونًا بقَبُولِ أَموالِ النَّاسِ، ولا سِيَّما هَدايا الأَغنِياءِ والمُوَظَّفِينَ، إذ أَتأَذَّى بقِسمٍ مِنها، بل كأنَّه يُدفَعُ بتلك الهَدايا والأَموالِ إلى الأَذَى لِيُحالَ دُونَ أَكلِها، وأَحيانًا يُحَوَّلُ إلى صُورةٍ تَضُرُّني.. فهذه الحالةُ إذًا أَمرٌ مَعنَوِيٌّ بعَدَمِ أَخذِ أَموالِ النَّاسِ ونَهيٌ عن قَبُولِها.

وكذا، فإنَّ فيَّ استِيحاشًا مِنَ النَّاسِ، لا أَستَطِيعُ قَبُولَ زِيارةِ كلِّ شَخصٍ في كلِّ حِينٍ؛ فقَبُولُ هَدايا النَّاسِ يُلزِمُني قَبُولَ زِيارَتِهم في وَقتٍ لا أَرِيدُه، مُراعاةً لِشُعُورِهم.. وهذا ما لا أُحَبِّذُه.

إنَّني أُفَضِّلُ أن آكُلَ كِسرةَ خُبزٍ يابِسٍ، وأن أَلْبَسَ ثَوْبًا فيه مِئةُ رُقعةٍ ورُقعةٍ يُنقِذُني مِنَ التَّصَنُّعِ والتَّمَلُّقِ، على أن آكُلَ أَطْيَبَ حَلْوَى الآخِرينَ، وأَلْبَسَ أَفْخَرَ مَلابِسِهِم، وأُضطَرَّ إلى مُراعاةِ مَشاعِرِهِم.. وهذا ما أَكرَهُه.

[(6): صلاح المرء ليس سلعة]

السَّادس: إنَّ السَّبَبَ الأَهَمَّ لِلِاستِغناءِ عنِ النّاسِ هو ما يقُولُه ابنُ حَجَرٍ المَوثُوقُ حَسَبَ مَذهَبِنا (الشَّافعِيِّ): “يَحرُمُ قَبُولُ ما يُوهَبُ لك بنِيّةِ الصَّلاحِ، إن لم تكُن صالِحًا”.

نعم، إنَّ إِنسانَ هذا العَصرِ يَبِيعُ هَدِيَّتَه البَخْسةَ بثَمَنٍ باهِظٍ، لِحِرصِه وطَمَعِه، فيَتَصوَّرُ شَخْصًا مُذنِبًا عاجِزًا مِثلِي وَليًّا صالِحًا، ثمَّ يُعطِيني رَغِيفًا هَدِيّةً؛ فإذا اعتَقَدتُ أنَّني صالِحٌ -حاشَ للهِ- فهذا عَلامةُ الغُرُورِ، ودَلِيلُ عَدَمِ الصَّلاحِ، وإنْ لم أَعتَقِدْ صَلاحِي، فقَبُولُ ذلك المالِ غيرُ جائِزٍ لي.

وأَيضًا: إنَّ أَخذَ الصَّدَقةِ والهَدِيّةِ مُقابِلَ الأَعمالِ المُتَوجِّهةِ لِلآخِرةِ يَعنِي قَطْفَ ثَمَراتٍ خالِدةٍ لِلآخِرةِ، بصُورةٍ فانيةٍ في الدُّنيا.

﴿الباقي هو الباقي﴾

  سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ‌

  ❀  ❀‌

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى