المكتوبات

المكتوب الثالث: (فلا أقسم بالخُنَّس.. الجَوارِ الكُنَّس).

[هذا المكتوب مطالعةٌ تفكُّريةٌ في صحائف النجوم والقمر والأرض ليلًا.. تَشرح معنى ﴿الخُنَّس الجَوارِ الكُنَّس﴾ وغيرها من الآيات]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

(فلا أقسم بالخُنَّس * الجَوارِ الكُنَّس).. هذه الآية تَعرِض أمامَ نَظَرِ المُشاهِدِ نَقْشًا بَدِيعًا مُتقَنَ الصُّنعِ في وَجهِ السَّماءِ، وتَرسُمُ لَوْحةً رائِعةً تُلَقِّنُ العِبرةَ والدَّرس.
(فلا أقسم بالخُنَّس * الجَوارِ الكُنَّس).. هذه الآية تَعرِض أمامَ نَظَرِ المُشاهِدِ نَقْشًا بَدِيعًا مُتقَنَ الصُّنعِ في وَجهِ السَّماءِ، وتَرسُمُ لَوْحةً رائِعةً تُلَقِّنُ العِبرةَ والدَّرس.

المكتوب الثالث‌

[مطالعةٌ تفكرية في صحيفة السماء في الليل]

 

بِاسْمِهِ سُبحَانَهُ

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه

 

قِسمٌ من الرِّسَالة الَّتي بَعثَهَا إلى طَالِبه المَّعرُوف

……….

خامسًا: كُنتَ قد كَتَبتَ في إِحدَى رَسائِلِك رَغبَتَك في أن تُشارِكَني ما تَجِيشُ به مَشاعِرِي وأَحاسِيسِي هُنا، فاستَمِعْ إذًا إلى واحِدةٍ مِن أَلفٍ مِنها، وهو:

[مطالعةٌ في صحيفة ﴿فلا أقسم بالخُنَّس الجَوارِ الكُنَّس﴾]

في إِحدَى اللَّيالي، كُنتُ على ارتِفاعٍ عَظِيمٍ، في خُصٍّ مَنصُوبٍ على قِمّةِ شَجَرةِ “القَطِرانِ” المُرتَفِعةِ على قِمّةٍ مِن قِمَمِ جَبَلِ “چام”؛ نَظَرتُ مِن هُناك إلى وَجهِ السَّماءِ الأَنِيس الجَمِيلِ المُزَيَّنِ بمَصابِيحِ النُّجُومِ، فرَأَيتُ أنَّ في القَسَمِ الوارِدِ في الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ نُورًا سامِيًا مِن أَنوارِ الإِعجازِ، وشاهَدتُ فيه سِرًّا بَلِيغًا لامِعًا مِن أَسرارِ البَلاغةِ.

نعم، إنَّ هذه الآيةَ الكَرِيمةَ تُشِيرُ إلى النُّجُومِ السَّيّارةِ وإلى استِتارَتِها وانتِشارِها، فتَعرِضُ الآيةُ أَمامَ نَظَرِ المُشاهِدِ نَقْشًا بَدِيعًا مُتقَنَ الصُّنعِ في وَجهِ السَّماءِ، وتَرسُمُ لَوْحةً رائِعةً تُلَقِّنُ العِبرةَ والدَّرسَ.

نعم، هذه السَّيّاراتُ ما إن تَخرُجُ مِن دائِرةِ قائِدِها الشَّمسِ، وتَدخُلُ في دائِرةِ النُّجُومِ الثّابِتةِ، إلّا وتَعرِضُ في وَجهِ السَّماءِ رَوائعَ النَّقشِ المُتَجدِّدِ وبَدائِعَ الإِتقانِ تَتَجدَّدُ حِينًا بَعدَ حِينٍ..

فقد تَتَكاتَفُ إِحداها معَ مَثِيلَتِها، وتُظهِرانِ مَعًا آيةً باهِرةً في الجَمالِ.

وقد تَدخُلُ إِحداها بَينَ صُغَيراتِ النُّجُومِ فتَقُودُها قِيادةَ الكَبِيرةِ لِلصَّغِيراتِ، ولا سِيَّما نَجمُ الزُّهْرةِ اللَّامِعُ في الأُفُقِ بَعدَ الغُرُوبِ في هذا المَوسِمِ خاصَّةً، ونَظِيرٌ له آخَرُ يَسطَعُ قَبلَ الفَجرِ.. فيا لَه مِن جَمالٍ زاهِرٍ يُضْفِيانِه على الأُفُقِ!

ثمَّ بَعدَ إِنهاءِ كلِّ نَجمٍ وَظِيفَتَه، وإِشرافِه على الأُخرَياتِ، وإِيفاءِ خِدْماتِه كالمَكُّوكِ في نَسجِ نُقُوشِ الصَّنعةِ البَدِيعةِ، يَرجِعُ إلى دائِرةِ سُلْطانِه المَهِيبةِ: الشَّمسِ، فيَتَسَربَلُ بالنُّورِ، ويَتَستَّرُ، ويَختَفِي عنِ الأَنظارِ.

فهذه السَّيّاراتُ الَّتي عَبَّر عنها القُرآنُ الكَرِيمُ بـ”الخُنَّسِ”، “الكُنَّسِ”، يُجرِيها سُبحانَه وتَعالَى معَ أَرضِنا هذه جَرَيانَ سَفِينةٍ تَمخُرُ عُبابَ الكَونِ، ويُسَيِّـرُها طَيَرانَ الطَّيرِ في فَضاءِ العالَمِ، ويَسِيحُ بها سِياحةً طَوِيلةً، في انتِظامٍ كامِلٍ، دالًّا بها على عَظَمةِ رُبُوبيَّتِه وأُبَّهةِ أُلُوهِيَّتِه جَلَّ جَلالُه، كالشَّمسِ في وَضَحِ النَّهارِ.

فيا لَأُبَّهةِ مَلِيكٍ مُقتَدِرٍ، مِن بَينِ سَفائِنِه وطائِراتِه ما هو أَكبَرُ جَسامةً مِنَ الأَرضِ أَلفَ مَرّةٍ، وتَقطَعُ مَسافةَ ثَماني ساعاتٍ في ثانيةٍ واحِدةٍ! قِسْ بنَفسِك مَدَى السَّعادةِ السَّامِيةِ، ومَدَى الشَّرَفِ العَظِيمِ في العُبُودِيّةِ لِهذا المَلِيكِ الجَلِيلِ، والِانتِسابِ إلَيْه بالإِيمانِ، والضِّيافةِ على مائِدةِ إِكرامِه وأَفضالِه.

[مطالعةٌ في صحيفة ﴿والقمرَ قدَّرناه منازل﴾]

ثمَّ نَظَرتُ إلى القَمَرِ، ورَأَيتُ أنَّ الآيةَ الكَرِيمةَ: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ تُعَبِّرُ عن نُورٍ مُشرِقٍ مِنَ الإِعجازِ.

نعم، إنَّ تَقدِيرَ القَمَرِ تَقدِيرًا دَقِيقًا جِدًّا، وتَدوِيرَه حَولَ الأَرضِ وتَدبِيرَه وتَنوِيرَه، وإِعطاءَه أَوْضاعًا إِزاءَ الأَرضِ والشَّمسِ مَحسُوبةً بحِسابٍ في مُنتَهَى الدِّقّةِ والعِنايةِ، تَتَحيَّـرُ مِنه العُقُولُ، يُرشِدُ كلَّ ذِي شُعُورٍ يُشاهِدُ هذه الدِّقّةَ في التَّقدِيرِ أن يقُولَ: إنَّ القَدِيرَ الَّذي يُنَظِّمُ هذه الأُمُورَ على هذه الشَّاكِلةِ الخارِقةِ ويُقدِّرُها تَقدِيرًا دَقِيقًا، لا يَصعُبُ علَيْه شَيءٌ.. مِمّا يُوحِي أنَّ الَّذي يَفعَلُ هذا قادِرٌ على كُلِّ شَيءٍ.

ثمَّ إنَّ القَمَرَ يَعقُبُ الشَّمسَ، هذا التَّعقِيبُ مُقَدَّرٌ حِسابُه، لا يُخطِئُ حتَّى في ثانيةٍ واحِدةٍ، ولا يَتَباطَأُ عن عَمَلِه قِيدَ أَنمُلةٍ، مِمّا يَدفَعُ كلَّ مُتأَمِّلٍ فيه إلى القَولِ: سُبحانَ مَن تَحَيَّر في صُنعِه العُقُولُ! إذ يَأخُذُ القَمَرُ شَكلَ هِلالٍ رَقِيقٍ، ولا سِيَّما نِهايةَ شَهرِ أَيّارَ، مِثلَما يَحدُثُ في أَحيانٍ أُخرَى؛ ويَتَّخِذُ شَكلَ عُرجُونٍ قَدِيمٍ أَثناءَ دُخُولِه مَنزِلَ الثُّرَيّا، حتَّى لَكَأَنَّ الثُّرَيّا عُنقُودٌ يَتَدلَّى بهذا العُرجُونِ القَدِيمِ مِن وَراءِ سِتارِ الخَضْراءِ القاتِمةِ، مِمّا يُوحِي لِلخَيالِ وُجُودَ شَجَرةٍ عَظِيمةٍ نُورانيّةٍ وكَأَنَّ غُصْنًا دَقِيقًا مِن تلك الشَّجَرةِ قد خَرَق ذلك السِّتارَ وأَخرَج نِهايَتَه معَ عُنقُودٍ هُناك، وصارا الثُّرَيّا والهِلالَ.

هذه اللَّوْحةُ الرّائِعةُ تُلقِي إلى الخَيالِ أنَّ النُّجُومَ الأُخرَى ثَمَراتُ تلك الشَّجَرةِ الغَيبِيّةِ، فشاهِدْ لَطافةَ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ وذُقْ حَلاوةَ بَلاغَتِها.

[مطالعةٌ في صحيفة ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذَلولًا﴾]

ثمَّ خَطَرَت بالبالِ الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ الَّتي تُشِيرُ إلى أنَّ الأَرضَ سَفِينةٌ مُسَخَّرةٌ ومَركُوبٌ مَأْمُورٌ.. مِن هذه الإِشارةِ رَأَيتُ نَفسِي في مَوقِعٍ رَفِيعٍ مِن تلك السَّفِينةِ العَظِيمةِ السّائِرةِ سَرِيعًا في فَضاءِ الكَونِ، فقَرَأتُ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ الَّتي تُسَنُّ قِراءَتُها حِينَ رُكُوبِ المَركُوبِ مِن فَرَسٍ وسَفِينةٍ وغَيرِهِما.

وكذا رَأَيتُ أنَّ الكُرةَ الأَرضِيّةَ قد أَخَذَت بهذه الحَرَكةِ طَوْرَ ماكِينةِ السِّينِما الَّتي تُبيِّنُ المَشاهِدَ وتَعرِضُها، فحَرَّكَتْ ما في السَّماواتِ مِن نُجُومٍ، وبَدَأَت تَسوقُها سَوْقَ الجَيشِ، عارِضةً مَناظِرَ جَذّابةً ومَشاهِدَ لَطِيفةً تُوقِعُ أَهلَ الفِكْرِ والعَقلِ في حَيْرةٍ وإِعجابٍ، وتَجعَلُهُم في نَشوةٍ مِن مُشاهَدَتِها؛ فقُلتُ: سُبحانَ اللهِ! ما أَقلَّ هذه التَّكالِيفَ الَّتي تُؤَدَّى بها هذه الأَعمالُ العِظامُ العَجِيبةُ الغَرِيبةُ والرّاقِيةُ الرَّفِيعة!

ومِن هذه النُّقطةِ خَطَرَت بالبالِ نُكتَتانِ إِيمانيَّتانِ:

[كيف يُساق أهل جهنم إلى جهنم؟]

أُولاهُما: قَبلَ بِضْعةِ أَيّامٍ سَأَلَني أَحَدُ ضُيُوفي سُؤالًا، أَساسُ سُؤالِه المُنطَوِي على شُبْهةٍ هو: أنَّ الجَنّةَ وجَهَنَّمَ بَعِيدَتانِ جِدًّا.. هَبْ أنَّ أَهلَ الجَنّةِ يَمُرُّونَ ويَطِيرُونَ كالبَرْقِ والبُراقِ مِنَ المَحشَرِ ويَدخُلُونَ الجَنّةَ بلُطفٍ إلٰهِيٍّ، ولكِن كَيفَ يَذهَبُ أَهلُ جَهَنَّمَ إلى جَهَنَّمَ وهُم يَرزَحُونَ تَحتَ أَثقالِ أَجسادِهِم وأَحمالِ ذُنُوبِهِم الجَسِيمةِ؟ وبأَيّةِ واسِطةٍ يَذهَبُونَ إلَيْها؟

والَّذي وَرَد بالبالِ هو: لو دُعِيَتِ الأُمَمُ جَمِيعًا إلى مُؤتَمَرٍ عامٍّ يُعقَدُ في أَمرِيكا مَثلًا، فإنَّ كلَّ أُمّةٍ تَركَبُ سَفِينَتَها الكَبِيرةَ وتَذهَبُ إلى هُناك؛ وكَذلِك سَفِينةُ الأَرضِ الَّتي اعتادَتِ السَّياحةَ الطَّوِيلةَ في بَحرِ مُحِيطِ الكَونِ، والَّتي تَقطَعُ في سَنةٍ واحِدةٍ مَسافةً تَبلُغُ خَمْسًا وعِشرِينَ أَلفَ سَنةٍ، هذه الأرضُ تَأخُذُ أَهلِيها وتَحمِلُهُم إلى مَيدانِ الحَشرِ وتُفرِغُهُم هُناك؛ وكذا تُفرِغُ نارَ جَهَنَّمَ الصُّغرَى المَوجُودةَ في جَوفِها، والَّتي تَبلُغُ دَرَجةُ حَرارَتِها مِئَتَيْ أَلفِ دَرَجةٍ -مُوافَقةً لِما جاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ- بدَلالةِ تَزايُدِ الحَرارةِ كُلَّ ثَلاثٍ وثَلاثِينَ مِتْرًا دَرَجةً واحِدةً، والَّتي تُؤَدِّي بَعضَ وَظائِفِ جَهَنَّمَ الكُبْرَى في الدُّنيا والبَرزَخِ -حَسَبَ رِوايةِ الحَدِيثِ- تُفْرِغُها في جَهَنَّمَ؛ ثمَّ تَتبَدَّلُ الأَرضُ بأَمرِ اللهِ إلى أَرضٍ باقِيةٍ جَمِيلةٍ غَيرِها، وتُصبِحُ مَنزِلًا مِن مَنازِلِ عالَمِ الآخِرةِ.

[من دلائل الوحدانية: إنجاز وظائف جليلة بعملٍ يسير]

النُّكتة الثَّانية الَّتي ورَدَت بِالبَال:‌

إنَّ الصَّانِعَ القَدِيرَ، الفاطِرَ الحَكِيمَ، الواحِدَ الأَحَدَ، قد سَنَّ سُنّةً وأَجرَى عادةً، وهي أَداءُ أَعمالٍ كَثِيرةٍ جِدًّا بشَيءٍ قَلِيلٍ جِدًّا، وإِنجازُ وَظائِفَ جَلِيلةٍ جِدًّا بشَيءٍ يَسِيرٍ جِدًّا، إِظهارًا لِكَمالِ قُدرَتِه وجَمالِ حِكْمَتِه ودَلِيلًا على وَحْدانيَّتِه جَلَّ جَلالُه.

ولقد ذَكَرتُ في بَعضِ “الكَلِماتِ” أنَّه إذا أُسنِدَتِ الأَشياءُ كلُّها إلى واحِدٍ أَحَدٍ، تَحصُلُ سُهُولةٌ ويُسْرٌ بدَرَجةِ الوُجُوبِ، وإن أُسنِدَت إلى أَسبابٍ عِدّةٍ وصُنّاعٍ كَثِيرِينَ تَظهَرُ مَشاكِلُ وعَوائِقُ وصُعُوباتٌ بدَرَجةِ الِامتِناعِ، لِأنَّ شَخْصًا واحِدًا -ولْيَكُن ضابِطًا أو بَنّاءً- يَحصُلُ على النَّتِيجةِ الَّتي يُرِيدُها، ويُقرِّرُ الوَضعَ المَطلُوبَ لِكَثرةٍ مِنَ الجُنُودِ، أو كَثرةٍ مِنَ الأَحجارِ، بحَرَكةٍ واحِدةٍ وبسُهُولةٍ تامّةٍ، بحَيثُ لو أُحِيلَ ذلك الأَمرُ إلى أَفرادِ الجَيشِ أو إلى أَحجارِ البِناءِ لَتَعسَّر استِحصالُ تلك النَّتائِجِ، بل لا يُمكِنُ قَطْعًا إلّا بصُعُوبةٍ عَظِيمةٍ.

فما يُشاهَدُ في هذه الكائِناتِ مِن أَفعالِ السَّيرِ والجَوَلانِ والِانجِذابِ والدَّوَرانِ ومِنَ المَناظِرِ اللَّطِيفةِ والمَشاهِدِ المُعَبِّرةِ عنِ التَّسبِيحِ، ولا سِيَّما في الفُصُولِ الأَربَعةِ وفي اختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ.. أَقُولُ: لو أُسنِدَت هذه الأَفعالُ إلى الوَحدانيّةِ فإنَّ واحِدًا أَحَدًا بأَمرٍ واحِدٍ مِنه إلى كُرةٍ واحِدةٍ بالحَرَكةِ يَستَحصِلُ على أَوْضاعٍ رَفِيعةٍ ونَتائِجَ ثَمِينةٍ كإِظهارِ عَجائِبِ الصَّنعةِ في تَبَدُّلِ المَواسِمِ وغَرائِبِ الحِكْمةِ في اختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ، ولَوْحاتٍ راقِيةٍ في حَرَكةِ النُّجُومِ والشَّمسِ والقَمَرِ الظّاهِرِيّةِ وأَمثالِها مِنَ الأَفعالِ، تَحصُلُ كُلُّها لِأنَّ المَوجُوداتِ كُلَّها جُنُودُه، فيُعَيِّنُ جُندِيًّا بَسِيطًا كالأَرضِ حَسَبَ إِرادَتِه، ويَجعَلُه قائِدًا على النُّجُومِ، ويَجعَلُ الشَّمسَ الضَّخمةَ سِراجًا لإِعطاءِ أَهلِ الأَرضِ الحَرارةَ والنُّورَ، ويَجعَلُ الفُصُولَ الأَربَعةَ الَّتي هي أَلواحُ نُقُوشِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ مَكُّوكًا، واللَّيلَ والنَّهارَ اللَّذَينِ هُما صَحِيفةُ كِتابةِ الحِكْمةِ الرَّبّانيّةِ نابِضًا، ويُقَدِّرُ القَمَرَ مَنازِلَ لِمَعرِفةِ المَواقِيتِ، ويَجعَلُ النُّجُومَ على هَيئةِ مَصابِيحَ مُضِيئةٍ لَطِيفةٍ مُتَلَألِئةٍ بأَيدِي المَلائِكةِ المُنجَذِبِينَ بنَشْوةِ السُّرُورِ والفَرَحِ.. هكذا يُظهِرُ حِكَمًا كَثِيرةً تَخُصُّ الأَرضَ بمِثلِ هذه الأَوضاعِ الجَمِيلةِ.

فهذه الأَوضاعُ إنْ لم تُطلَبْ مِن ذاتٍ جَلِيلةٍ يَنفُذُ حُكْمُه في المَوجُوداتِ كُلِّها، ويَتَوجَّهُ إلَيْها كُلِّها بنِظامِه وقانُونِه وتَدبِيرِه، يَلزَمُ أن تَقطَعَ الشُّمُوسُ والنُّجُومُ كُلُّها مَسافاتٍ لا حَدَّ لَها في كلِّ يَومٍ بحَرَكةٍ حَقِيقيّةٍ، وبسُرعةٍ لا حَدَّ لَها!

وهكَذا، ففي الوَحْدانيّةِ سُهُولةٌ بلا نِهايةٍ، كما أنَّ في الكَثْرةِ صُعُوبةٌ بلا نِهايةٍ؛ ولِأَجلِ هذا يُعطِي ذَوُو المِهَنِ والتِّجارةِ وَحْدةً لِلكَثرةِ، أي يُشكِّلُونَ شَرِكاتٍ فيما بَينَهُم تَسهِيلًا لِلأُمُورِ وتَيسِيرًا لها.

حاصِلُ الكَلامِ: إنَّ في طَرِيقِ الضَّلالِ مُشكِلاتٍ لا نِهايةَ لها، وفي طَرِيقِ الوَحْدانيّةِ والهِدايةِ سُهُولةً لا نِهايةَ لها.

﴿الباقي هو الباقي﴾

  سَعِيدٌ النُّورْسِيُّ‌

  ❀  ❀

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى