الكلمة الثانية والثلاثون: وحده لا شريك له.
[هذه الكلمة تشرح معنى: «لا شريك له» بواسطة محاورة تمثيلية، ثم تبيِّن معاني الوحدانية والأحدية واستناد حقائق الموجودات إلى الأسماء الإلهية، ومعنى نسبة أفعل التفضيل إلى الله تعالى]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
الكلمة الثانية والثلاثون
هذه الكلمة ثلاثةُ مواقف
هذه الكَلِمةُ ذَيلٌ يُوضِّحُ اللَّمعةَ الثّامِنةَ مِنَ “الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِين”، وهي تَفسِيرٌ لِأوَّلِ لِسانٍ مِن خَمسةٍ وخَمسِين لِسانًا مِن أَلسِنةِ المَوجُوداتِ الشّاهِدةِ على وَحدانيّةِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، والَّتي أُشِيرَ إلَيها في رِسالةِ “قَطْرةٌ مِن بَحرِ التَّوحِيدِ” وهي في الوَقتِ نَفسِه حَقِيقةٌ مِنَ الحَقائقِ الزّاخِرةِ للآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ لَبِسَت ثَوبَ التَّمثِيلِ.
[الموقف الأول: بيان معنى “لا شريك له”]
المَوقِفُ الأوَّلُ
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾
﴿لَا إلٰهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ ولَهُ الحَمدُ، يُحيِي ويُمِيتُ وهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيرُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وإلَيهِ المَصِيرُ﴾
كُنتُ قد بَيَّنتُ في إِحدَى لَيالي رَمَضانَ المُبارَكِ، أنَّ في كلٍّ مِنَ الجُمَلِ الإحدَى عَشْرةَ مِن هذا الكَلامِ التَّوحِيدِيِّ بِشارةً سارّةً، ومَرتَبةً مِن مَراتِبِ التَّوحِيدِ، وقد بَسَطتُ الكَلامَ بَسْطًا يَقْرُبُ مِن فَهْمِ العَوامِّ لِتَوضِيحِ ما في جُملةِ “لا شَرِيكَ له” وَحْدَها مِن مَعانٍ جَمِيلةٍ؛ وذلك على صُورةِ مُحاوَرةٍ تَمثِيليّةٍ ومُناظَرةٍ افتِراضِيّةٍ، واتِّخاذِ لِسانِ الحالِ على هَيئةِ لِسانِ المَقالِ. وأُدرِجُ الآنَ تلك المُحاوَرةَ إسعافًا لِطَلَبِ إِخوَتي الأَعِزّاءِ الَّذين يُعينُونَني في شُؤُوني، ونُزُولًا عِندَ رَغبةِ رُفَقائي في المَسجِدِ ونَظَرًا لِطَلَبِهم. وهي على النَّحوِ الآتي:
نَفتَرِضُ شَخْصًا يُمَثِّـلُ الشُّرَكاءَ الَّذين يَتَوَهَّمُهم جَمِيعُ أَنواعِ أَهلِ الشِّركِ والكُفرِ والضَّلالِ مِن أَمثالِ عَبَدةِ الطَّبِيعةِ والمُعتَقِدِين بتَأْثيرِ الأَسبابِ والمُشرِكِين. ونَفرِضُ أنَّ ذلك الشَّخصَ المُفتَرَضَ يُرِيدُ أن يكُونَ رَبًّا لِشَيءٍ مِن مَوجُوداتِ العالَمِ، ويَدَّعِي التَّمَلُّكَ الحَقِيقيَّ له!
وهكذا، فقد قابَلَ ذلك المُدَّعِي أَوَّلًا ما هو أَصغَرُ شَيءٍ في المَوجُوداتِ -وهو الذَّرّةُ- فقال لها بلِسانِ الطَّبِيعةِ وبلُغةِ الفَلسَفةِ المادِّيّةِ: إنَّه رَبُّها ومالِكُها الحَقِيقيُّ!
فأَجابَتْه تلك الذَّرّةُ بلِسانِ الحَقِيقةِ وبلُغةِ الحِكْمةِ الرَّبّانيّةِ المُودَعةِ فيها: إنَّني أُؤَدِّي وَظائِفَ وأَعمالًا لا يَحصُرُها العَدُّ، فأَدخُلُ في كلِّ مَصنُوعٍ على اختِلافِ أَنواعِه؛ فإن كُنتَ أيُّها المُدَّعِي مالِكًا عِلْمًا واسِعًا يُحِيطُ بجَمِيعِ تلك الوَظائِفِ، وصاحِبَ قُدرةٍ شامِلةٍ تُوَجِّهُ جَمِيعَها، ولك حُكْمٌ نافِذٌ وهَيمَنةٌ كامِلةٌ على تَسخِيرِي وتَوجِيهِي معَ أَمثالي1نعم، كما أنَّ كلَّ شيءٍ مُتحرِّكٌ ابتِداءً مِنَ الذَّرّاتِ إلى الكَواكِبِ السَّيّارةِ يَدُلُّ على الوَحدانيّةِ، بما فيه مِن سِكّةِ الصَّمَدانيّةِ وطابَعِها، فإنَّه يَضُمُّ جَمِيعَ الأَماكِنِ الَّتي يَجُولُ فيها ضِمنَ مُلكِ مالِكِه الواحِدِ..
أمّا المَصنُوعاتُ السّاكِنةُ ابتِداءً مِنَ النَّباتاتِ إلى النُّجُومِ الثّابِتةِ فهي بمَثابةِ أَختامِ الوَحدانيّةِ حيثُ يُظهِرُ كلٌّ مِنها أنَّ مَوْضِعَه بمَثابةِ رِسالةٍ مِن صانِعِه ومَكتُوبٍ مِنه.
أي إنَّ كلَّ نَباتٍ، وكلَّ ثَمَرٍ، هو خَتْمُ وَحْدانيّةٍ، وسِكّةُ وَحْدةٍ، بحيثُ يَدُلُّ على أنَّ مَواضِعَه وأَوطانَه رِسالةٌ لِصانِعِه البَدِيعِ.
والخُلاصةُ: أنَّ كلَّ شَيءٍ يُسَيطِرُ بحَرَكتِه على جَمِيعِ الأَشياءِ باسمِ الوَحدانيّةِ، أي إنَّ الَّذي لا يَقبِضُ زِمامَ جَمِيعِ النُّجُومِ بيَدِه لن يكُونَ رَبًّا على الذَّرّةِ. مِنَ الذَّرّاتِ العامِلةِ والمُتَجوِّلةِ في الوُجُودِ.. وكذا لو كُنتَ تَتَمكَّنُ مِن أن تكُونَ مالِكًا حَقِيقيًّا للمَوجُوداتِ الَّتي أنا جُزءٌ مِنها، كالكُرَيّاتِ الحُمْرِ، وتَتَصرَّفَ فيها بانتِظامٍ تامٍّ.. فلكَ أن تَدَّعِيَ المالِكِيّةَ عَلَيَّ، وتُسنِدَ أَمرِي إلى غيرِ خالِقِي سُبحانَه.. وإلّا فاسْكُتْ! إذ لا تَقدِرُ على أن تَتَدخَّلَ في شُؤُوني، فَضْلًا عن أنَّك لا تَستَطِيعُ أن تكُونَ رَبًّا لي، لأنَّ ما في وَظائِفِنا وأَعمالِنا وحَرَكاتِنا مِنَ النِّظامِ المُتقَنِ الكامِلِ بحَيثُ لن يَقدِرَ علَيه مَن لم يكُن ذا حِكْمةٍ مُطلَقةٍ وعِلْمٍ مُحِيطٍ، فلو تَدَخَّلَ غَيرُه لَأَفْسَدَ. فأَنَّى لك أيُّها المُدَّعِي أن تَمُدَّ إصبَعَك في شُؤُونِنا وأنت العاجِزُ الجامِدُ الأَعمَى الأَسِيرُ بِيَدِ الطَّبِيعةِ والمُصادَفةِ العَمْياوَيْنِ!
فقال المُدَّعِي ما يقُولُه المادِّيُّون: “إذًا كُوني مالِكةً لِنَفسِكِ، فلِمَ تقُولين: إنَّك تَعمَلِين في سَبِيلِ غَيرِكِ؟”.
فأَجابَتْه الذَّرّةُ: “لو كان لي عَقلٌ جَبّارٌ كالشَّمسِ وعِلمٌ مٌحِيطٌ كضَوئِها وقُدرةٌ شامِلةٌ كحَرارَتِها وحَواسُّ ومَشاعِرُ واسِعةٌ كالأَلوانِ السَّبعةِ في ضِيائِها ووَجهٌ مُتَوجِّهٌ إلى كلِّ مَكانٍ أَسِيحُ فيه وعَينٌ ناظِرةٌ وكَلامٌ نافِذٌ إلى كلِّ مَوجُودٍ أَتَوجَّهُ إلَيه.. رُبَّما كُنتُ أَتَغابَى مِثلَك فأَدَّعِي الحاكِمِيّةَ لِنَفسِي!. تَنَحَّ عنِّي فلَيس لك مَوضِعٌ فينا”.
وعِندَما يَئِسَ داعِيةُ الشِّرْكِ مِنَ الذَّرّةِ، قابَلَ كُرَيّةً حَمْراءَ مِنَ الدَّمِ، عَلَّه يَظْفَرُ مِنها بشَيءٍ، فقالَ لها بلِسانِ الأَسبابِ ولُغةِ الطَّبِيعةِ ومَنطِقِ الفَلْسَفةِ: “أنا لكِ رَبٌّ ومالِكٌ!”.
فرَدَّت علَيه الكُريّةُ الحَمْراءُ بلِسانِ الحَقِيقةِ وبلُغةِ الحِكْمةِ الرَّبّانيّةِ: “إنَّني لَسْتُ وَحِيدةً مُنفَرِدةً، فأنا وأَمثالي جَمِيعًا في جَيشِ الدَّمِ الكَثِيفِ، نِظامُنا واحِدٌ ووَظائِفُنا مُوَحَّدةٌ، نَسِيرُ تحتَ إِمْرةِ آمِرٍ واحِدٍ؛ فإن كُنتَ تَقْدِرُ على أن تَملِكَ زِمامَ جَمِيعِ ما في الدَّمِ مِن أَمثالي، ولك حِكْمةٌ دَقِيقةٌ وقُدرةٌ عَظِيمةٌ تُحكِمانِ سَيطَرَتَهما على جَمِيعِ خَلايا الجِسْمِ الَّتي نَجُولُ فيها ونُستَخدَمُ لإنجازِ مُهِمّاتٍ فيها بكُلِّ حِكْمةٍ وانتِظامٍ، فهاتِها؛ فلَرُبَّما يكُونُ عِندَئذٍ لِدَعواك مَعنًى.. ولكِنَّك أيُّها المُدَّعِي لا تَملِكُ سِوَى قُوّةٍ عَمْياءَ وطَبِيعةٍ صَمّاءَ، فلا تَقْدِرُ على أن تَتَدخَّلَ في شُؤُونِنا ولو بمِقدارِ ذَرّةٍ، فَضْلًا عنِ ادِّعاءِ التَّمَلُّكِ علَينا، لأنَّ النِّظامَ الَّذي يُهَيمِنُ علَينا دَقيقٌ وصارِمٌ إلى حَدٍّ لا يُمكِنُ أن يَحكُمَنا إلّا مَن يَرَى كلَّ شَيءٍ ويَسمَعُ كلَّ شَيءٍ ويَعلَمُ كلَّ شَيءٍ ويَفعَلُ ما يَشاءُ. ولِهذا فاسْكُتْ، إذ لا تَدَعُ وَظائِفُنا الجَلِيلةُ ودِقَّتُها ونِظامُها مَجالًا لنا لِنَسمَعَ هَذَرَك..” وهكَذا تَطرُدُه الكُرَيّةُ الحَمْراءُ.
ولَمّا لم يَجِدْ ذلك المُدَّعي بُغيَتَه فيها، ذَهَب فقابَلَ خَلِيّةً في الجِسْمِ فقال لها: بمَنطِقِ الفَلسَفةِ ولِسانِ الطَّبِيعةِ: “لم أَتَمكَّنْ مِن أن أُسمِعَ دَعْوايَ إلى الذَّرّةِ، ولا إلى الكُرَيّةِ الحَمْراءِ، فلَعلِّي أَجِدُ مِنكِ أُذُنًا صاغِيةً، لأنَّكِ لَستِ إلّا حُجَيرةً صَغِيرةً حاوِيةً على أَشياءَ مُتَفرِّقةٍ! ولِهذا فإنَّني قادِرٌ على صُنْعِك، فكُوني مَصنُوعَتِي ومَملُوكَتي حَقًّا!”.
فقالَت له الخَلِيّةُ بِلُغةِ الحِكمةِ والحَقِيقةِ: “إنَّني صَغِيرةٌ جِدًّا حَقًّا، ولكِنْ لي وَظائِفُ جَلِيلةٌ وجَسِيمةٌ، ولي عَلاقاتٌ ورَوابِطُ وَثِيقةٌ ودَقِيقةٌ جِدًّا معَ جَمِيعِ خَلايا الجِسمِ؛ فلي وَظائِفُ مُتقَنةٌ معَ جَمِيعِ الأَوعِيةِ الدَّمَوِيّةِ مِن شَرايِينَ وأَورِدةٍ وأَعصابٍ مُحَرَّكةٍ وحِسِّيّةٍ، ومعَ جَمِيعِ القُوَى الَّتي تُنَظِّمُ الجِسمَ كالقُوّةِ الجاذِبةِ والدّافِعةِ والمُوَلِّدةِ والمُصَوَّرةِ وأَمثالِها.. فإن كان لك أيُّها المُدَّعِي عِلمٌ واسِعٌ وقُدرةٌ شامِلةٌ تُنشِئُ تلك العُرُوقَ والأَعصابَ والقُوَى المُودَعةَ في الجِسمِ وتُنَسِّقُها وتَستَخدِمُها في مُهِمّاتِها، وكذا إن كانَت لَدَيك حِكمةٌ شامِلةٌ وقُدرةٌ نافِذةٌ تَستَطِيعُ أن تَتَصرَّفَ في شُؤُونِ أَخَواتي مِن خَلايا الجِسمِ كلِّها، والَّتي تَتَشابَهُ في الإتقانِ والرَّوعةِ النَّوعِيّةِ، فهَيّا أَظْهِرْها، ثمَّ ادَّعِ بأنَّك تَتَمكَّنُ مِن صُنعِي.. وإلّا فاغْرُبْ عَنّا، فإنَّ الكُرَيّاتِ الحُمْرَ تُزَوِّدُني بالأَرزاقِ، والكُرَيّاتِ البِيضَ تُدافِعُ عَنِّي تُجاهَ الأَمراضِ المُهاجِمةِ؛ فلِيَ أَعمالٌ جِسامٌ، لا تَشغَلْني عنها، فإنَّ عاجِزًا قاصِرًا أَعمَى مِثلَك ليس له حَقُّ التَّدَخُّلِ في شُؤُونِنا الدَّقيقةِ أَبدًا، لأنَّ فينا مِنَ النِّظامِ المُحكَمِ الكامِلِ2
إنَّ الصَّانِعَ الحَكِيم قد خَلَق جسمَ الإنسان على هَيئةِ مَدِينةٍ مُنَسَّقة ومُنتَظِمة جدًّا، فقِسمٌ مِن العُرُوق يقوم بمُهِمّة التِّلغرافِ والهاتفِ، وقسمٌ منها بمَثابةِ الأنابيبِ التي تأتي بالماء مِنَ اليَنابِيعِ فيَسِيرُ فيها الدَّمُ، ذلك السّائلُ الباعِثُ على الحياة.. والدَّمُ نفسُه قد خُلِق فيه قسمانِ مِن الكُرَيّاتِ، يُطلَق على إحداهما الكُرَيّاتُ الحُمْرُ التي تقومُ بتَوزيعِ الأَرزاقِ إلى حُجَيراتِ البَدَن، فتُوصِلُ إليها أَرزاقَها بقانونٍ إلٰهِيٍّ مِثلَما يقومُ مُوَظَّفو الأَرزاقِ وتُجَّارُها بالتَّوزيعِ. والقِسمُ الآخَرُ هو الكُرَيّاتُ البِيضُ التي هي أقلُّ عَددًا مِنَ الأُولَى، وتقومُ بالدِّفاع عنِ الجِسمِ تِجاهَ الأمراضِ مُتَّخِذةً وَضْعًا سَرِيعًا عجِيبًا بنَوعَينِ مِنَ الدَّوَرانِ والحركة -كالمُرِيدِ المَوْلَوِيِّ- حالَما تَدخُل حَوْمةُ المَعركةِ.. أمّا مجموعُ الدَّم فله وَظِيفتانِ عامَّتانِ: الأُولى: تَعمِيرُ الحُجَيراتِ المُتَهدِّمة في الجسم وتَرميمُها.. والأخرى: تَنظيفُ الجِسمِ بجَمْعِ النِّفايات وأَنقاضِ الخَلايا.
وهناك قِسمانِ مِنَ العُرُوقِ أيضًا، يُطلَق على أَحَدِهما: الشَّرايِينُ الَّتي تقومُ بنَقْلِ الدَّمِ الصَّافي وتَوزيعِه، فهي بحُكْمِ مَجارِي الدَّمِ النَّقيِّ الصّافي.. والآخَرُ: هو مَجارِي الدَّمِ الفاسِدِ الذي يَجمَعُ النِّفاياتِ الضّارّةَ والأَنقاضَ، ويأتي بها إلى الرِّئةِ التي هي مَركَزُ التَّنفُّسِ.
إنَّ الصّانِعَ الحَكِيم قد خَلَق عُنصُرَينِ في الهَواءِ: أَحَدُهما: الآزُوتُ، والآخَرُ: مُوَلِّد الحُمُوضةِ (الأوكسجين)، فهذا الأَخيرُ ما إن يُلامِسُ الدَّمَ في أثناء التَّنفُّس حتى يَجذِبَ إليه الكَربُونَ الكَثِيفَ الَّذي لَوَّث الدَّمَ مُحَوِّلًا إيّاه إلى مادّةٍ سامّةٍ يُطلَقُ عليها “حامِضُ الكَربُون البُخاريّ” (ثُنائي أُوكسيد الكربون)، وبهذا يقومُ بتَنقِيةِ الدَّمِ وتَصفِيَتِه، فضلًا عن أنَّه يَضمَنُ الحَرارةَ الغَرِيزيّةَ للجِسمِ، ذلك لأنَّ الصَّانِعَ الحَكِيم قد وَهَب لِمُولِّد الحُمُوضة والكَربُون علاقةً شديدة تلك التي يُطلَقُ عليها (الأُلفةُ الكِيمياوِيّة) بحيثُ ما إن يَقتَرِبانِ حتى يَمتَزِجا معًا بقانُونٍ إلٰهِيٍّ، فتتولَّد الحَرارةُ من هذا الِامتِزاجِ كما هو ثابتٌ عِلمًا، إذ الِامتزاجُ نوعٌ مِنِ احتِراقٍ.
وحِكمةُ هذا السِّرِّ هي ما يأتي: إنَّ لِذَرّاتِ كلِّ عنصرٍ مِنَ العَناصرِ حَرَكاتٍ مُختَلِفةً، فأثناءَ الِامتِزاجِ تَمتَزِجُ الحَرَكتان معًا وتتحرَّكُ الذَّرَّتانِ حَرَكةً واحدةً، وتَظَلُّ حَرَكةٌ واحِدةٌ مُعَلَّقةٌ، سائبةٌ، فتنطَلِقُ، بقانونِ الصّانع الحكيم على صورة حَرارةٍ. ومعلومٌ أنَّ الحَرَكة تُولِّد الحرارةَ، كما هو ثابتٌ ومُقرَّر. وبناءً على هذا السِّرِّ فكما تتحقَّقُ حرارةُ الجسم الغريزيةُ بهذا الامتزاجِ الكيمياويِّ، يَتَصفَّى الدَّمُ أيضًا عندما يُسلَبُ مِنه الكربونُ.
وهكذا يُنَقِّي الشَّهِيقُ ماءَ حياةِ الجسمِ ويُشعِلُ نارَ الحياةِ. أمّا الزَّفيرُ فإنَّه يُثمِرُ الكلماتِ المَنطُوقةَ مِنَ الفمِ، التي هي مُعجِزاتُ القُدرةِ الإلٰهِيّة، فسُبحانَ مَن تَحَيَّر في صُنعِه العُقُولُ. ما لو يَحكُمُنا غَيرُ الحَكِيمِ المُطلَقِ والقَدِيرِ المُطلَقِ والعَلِيمِ المُطلَقِ لَفَسَد نِظامُنا وانفَرَط عِقْدُنا”. وهكذا يَئِسَ المُدَّعي مِنَ الخَلِيّة كذلك، ولكنَّه قابَلَ جِسْمَ الإنسانِ، فقال له كما يقولُ المادِّيُّون، بلِسانِ الطَّبِيعةِ العَمْياءِ والفَلسَفةِ الضّالّةِ: “أَنتَ مُلْكِي، فأنا الَّذي صَنَعتُك، أو في الأَقَلِّ لي حَظٌّ فيك”.
فرَدَّ عليه ذلك الجِسمُ الإنسانِيُّ بحَقِيقةِ النِّظامِ الحَكِيمِ الَّذي فيه: “إن كان لك أيُّها المُدَّعِي عِلْمٌ واسِعٌ وقُدرةٌ شامِلةٌ لها التَّصَرُّفُ المُطلَقُ في جَمِيعِ أَجسامِ البَشَرِ مِن أَمثالي، لِوَضْعِ العَلاماتِ الفارِقةِ الظّاهِرةِ في وُجُوهِنا، والَّتي هي طابَعُ القُدرةِ وخَتْمُ الفِطْرةِ.. وكذا لو كانَت لك ثَروةٌ طائِلةٌ وحاكِمِيّةٌ مُهَيمِنةٌ تَتَحكَّمُ في مَخازِنِ أَرزاقي المُمتَدّةِ مِنَ الهَواءِ والماءِ إلى النَّباتاتِ والحَيَواناتِ.. وكذا لو كانَت لك حِكْمةٌ لا حَدَّ لها وقُدْرةٌ لا مُنتَهَى لها بحيثُ تُمَكِّنُ اللَّطائِفَ المَعنَوِيّةَ الرّاقيةَ الواسِعةَ مِن رُوحٍ وقَلْبٍ وعَقْلٍ في بَوْدقَةٍ صَغِيرةٍ مِثلي، وتُسَيِّـرُها بحِكْمةٍِ بالِغةٍ إلى العُبُودِيّة، فأَرِنِيها ثمَّ ادَّعِ الرُّبُوبيّةَ لي، وإلَّا فاسكُتْ؛ فإنَّ صانِعِي الجَلِيلَ قادِرٌ على كلِّ شَيءٍ، عَلِيمٌ بكُلِّ شَيءٍ، بَصِيرٌ بكُلِّ شَيءٍ، سَمِيعٌ لِكُلِّ شَيءٍ، بشَهادةِ النِّظامِ الأَكمَلِ الَّذي يُسَيِّـرُني، وبدَلالةِ طابَعِ الوَحدانيّةِ المَوجُودِ في وَجْهِي، فلا يَقدِرُ عاجِزٌ وضالٌّ مِثلُك أن يَمُدَّ إصبَعَه إلى صَنْعَتِه البَدِيعةِ أَبدًا ولا أن يَتَدخَّلَ فيها ولو بمِقدارِ ذَرّةٍ”.
فانصَرَف داعِيةُ الشِّركِ حيثُ لم يَستَطِعْ أن يَجِدَ مَوْضِعًا لِلتَّدَخُّلِ في الجِسمِ، فقابَلَ نَوْعَ الإنسانِ، فحاوَرَ نَفسَه قائِلًا: “رُبَّما أَجِدُ في هذه الجَماعةِ المُتَشابِكةِ المُتَفرِّقةِ مَوْضِعًا، فأَتَدخَّلُ في أَحوالِ فِطْرَتِهم ووُجُودِهم مِثلَما يَتَدخَّلُ الشَّيطانُ بضَلالِه في أَفعالِهِمُ الِاختِيارِيّةِ وشُؤُونِهِمُ الِاجتِماعِيّةِ؛ وعِندَها أَتَمكَّنُ مِن أن أُجرِيَ حُكْمِي على جِسمِ الإنسانِ الَّذي طَرَدَني هو وما فيه مِن خَلايا”.
ولِهذا خاطَبَ نَوْعَ الإنسانِ بلِسانِ الطَّبِيعةِ الصَّمّاءِ والفَلسَفةِ الضّالّةِ أيضًا: “أَنتُم أيُّها البَشَرُ تَبدُون في فَوضَى، فلا أَرَى نِظامًا يُنَظِّمُكم، فأنا لكم رَبٌّ ومالِكٌ، أو في الأَقلِّ لي حِصّةٌ فيكُم”.
فرَدَّ عليه حالًا نَوعُ الإنسانِ بلِسانِ الحَقِّ والحَقِيقةِ وبلُغةِ الحِكْمةِ والِانتِظامِ: “إن كُنتَ -أيُّها المُدَّعي- مالِكًا قُدرةً تَتَمكَّنُ مِن أن تُلبِسَ الكُرةَ الأَرضِيّةَ حُلّةً قَشِيبةً مُلَوَّنةً بأَلوانٍ زاهِيةٍ مَنسُوجةٍ بكَمالِ الحِكْمةِ بخُيُوطِ أَنواعِ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ الَّتي تَنُوفُ على مِئةِ أَلفِ نَوْعٍ، الشَّبِيهةِ بنَوعِنا الإنسانِيِّ، ويكونَ بوُسْعِها نَسْجُ ذلك البِساطِ البَدِيعِ المَفرُوشِ على الأَرضِ مِن خُيُوطِ مِئاتِ الأُلُوفِ مِن أَنواعِ الكائِناتِ الحَيّةِ، والَّتي هي في أَبدَعِ نَقْشٍ وأَجمَلِه.. وفَضْلًا عن خَلْقِ هذا البِساطِ الرّائِعِ، وتَجَدُّدِه دَومًا وبحِكْمةٍ تامّةٍ! فإن كانَت لَدَيك قُدرةٌ مُحِيطةٌ وحِكْمةٌ شامِلةٌ كهذه، بحيثُ تَتَصرَّفُ في كُرةِ الأَرضِ الَّتي نحن مِن ثِمارِها، وتُدَبِّـرُ شُؤُونَ العالَمِ الَّذي نحن بُذُورُه، فتُرسِلَ بمِيزانِ الحِكْمةِ لَوازِمَ حَياتِنا إلَينا مِن أَقطارِ العالَمِ كُلِّه..
وإن كُنتَ -أيُّها المُدَّعي- تَنطَوِي على اقتِدارٍ يَخلُقُ عَلاماتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ المُمَيَّزةِ المُوَحَّدةِ في وُجُوهِنا، وفي أَمثالِنا مِنَ السّالِفِين والآتِين.. فإن كُنتَ مالِكًا لِما ذَكَرْنا فلَرُبَّما يكونُ لك حَقُّ ادِّعاءِ الرُّبُوبيّةِ علَيَّ؛ وإلّا فاخْرَسْ! ولا تَقُلْ: إنَّني أَتَمكَّنُ مِن أن أَتَدخَّلَ في شُؤُونِ هؤلاء الَّذين يَبدُون في اختِلاطٍ وتَشابُكٍ، إذِ الِانتِظامُ عِندَنا على أَتمِّه، وتلك الأَوضاعُ الَّتي تَظُنُّها فَوْضَى إنَّما هي استِنساخٌ للقُدرةِ الإلٰهِيّةِ بكَمالِ الِانتِظامِ على وَفْقِ القَدَرِ الإلٰهِيِّ.
فلَئِن كان النِّظامُ دَقِيقًا في أَدنَى دَرَجاتِ الحَياةِ كالنَّباتاتِ والحَيَواناتِ وهي تحتَ نَظْرَتِنا ويَرفُضُ أيَّ تَدَخّلٍ كان، فكيف بنا ونحنُ في قِمّةِ مَراتِبِ الحَياةِ؟ ألَيس الَّذي يَبدُو اختِلاطًا وفَوْضَى هو نَوعٌ مِن كِتابةٍ رَبّانيّةٍ حَكِيمةٍ؟ أفيُمكِنُ للَّذي مَكَّن خُيُوطَ النُّقُوشِ البَدِيعةِ لِهذا البِساطِ، كلًّا في مَوضِعِه المُناسِبِ، وفي أيِّ جُزءٍ وطَرَفٍ كان، أن يكُونَ غيرَ صانِعِه، غيرَ خالِقِه الحَقِيقيِّ، فهل يُمكِنُ أن يكُونَ خالِقُ النَّواةِ غيرَ خالقِ ثَمَرتِها؟ وهل يُمكِنُ أن يكونَ خالِقُ الثَّمَرةِ غيرَ خالِقِ شَجَرتِها؟ ولكنَّك أَعمَى لا تُبصِرُ! ألا تَرَى مُعجِزاتِ القُدرةِ في وَجْهِي وخَوارِقَ الصَّنْعةِ في فِطْرَتي؟ فإنِ استَطَعتَ أن تُشاهِدَها، فستُدرِكُ أنَّ خالِقِي لا يَخفَى علَيه شَيءٌ ولا يَصعُبُ علَيه أَمرٌ، ولا يُعجِزُه شَيءٌ، يُدِيرُ النُّجُومَ بيُسْرِ إدارةِ الذَّرّاتِ، ويَخلُقُ الرَّبيعَ الشّاسِعَ بسُهُولةِ خَلْقِ زَهرةٍ واحِدةٍ، وهو الَّذي أَدْرَجَ فِهرِسَ الكَونِ العَظِيمِ في ماهِيَّتي بانتِظامٍ دَقيقٍ، أفَيُمكِنُ لِعاجِزٍ أَعمَى مِثلِك أن يَحشُرَ نَفسَه فيَتَدخَّلَ في إبداعِ هذا الخالِقِ العَظِيمِ والصَّانِعِ الجَلِيلِ.. ولهذا فاسْكُتْ واصْرِفْ وَجْهَك عنِّي.. فيَمضِي مَطرُودًا.
ثمَّ يَذهَبُ ذلك المُدَّعي إلى البِساطِ الزّاهِي المَفرُوشِ على وَجْهِ الأَرضِ والحُلّةِ القَشِيبةِ المُزَيَّنةِ الَّتي أُلبِسَت، فخاطَبَه باسمِ الأَسبابِ وبِلُغةِ الطَّبِيعةِ ولِسانِ الفَلسَفةِ: “إنَّني أَتَمكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ في شُؤُونِك، فأنا إذًا مالِكٌ لك ولي حَظٌّ فيك في الأَقَلِّ”.
وعِندَ ذلك تَكَلَّم ذلك البِساطُ المُزَرْكَشُ وتلك الحُلّةُ القَشِيبةُ3ولكن مِثلَما أنَّ هذا النَّسِيجَ ذُو حَيَويّة، فهو كذلك في اهتِزازٍ مُنتَظِمٍ، إذ تتبدَّلُ نُقُوشُه باستمرارٍ وبحِكمةٍ كامِلةٍ وتَناسُقٍ تامٍّ، وذلك إظهارًا لِتَجَلِّياتِ الأسماءِ الحُسنَى المُختَلِفةِ لنَسّاجِه البديعِ في تجَلِّياتٍ مُتَنوِّعةٍ مُختَلِفةٍ. وخاطَب ذلك المُدَّعِيَ بلُغةِ الحَقِيقةِ وبلِسانِ الحِكْمةِ المُودَعةِ فيه: “إن كانَت لك قُدرةٌ نافِذةٌ وإتقانٌ بَدِيعٌ يَجعَلانِك تَنسُجُ جَمِيعَ هذه البُسُطَ المَفرُوشةَ والحُلَلَ البَهِيّةَ الَّتي تُخلَعُ على الأَرضِ بعَدَدِ القُرُونِ والسِّنِينَ، ثمَّ تَنزِعُها عنها بنِظامٍ تامٍّ وتَنشُرُها على حَبْلِ الزَّمانِ الماضِي، ومِن بعدِ ذلك تَخِيطُ ما يُخلَعُ علَيها مِن حُلَلٍ زاهِرةٍ بنُقُوشِها وتُفَصِّلُ تَصامِيمَها في دائِرةِ القَدَرِ.. وكذا إن كُنتَ مالِكًا لِيَدٍ مَعنَوِيّةٍ ذاتِ قُدرةٍ وحِكْمةٍ بحيثُ تَمتَدُّ إلى كلِّ شَيءٍ ابتِداءً مِن خَلْقِ الأَرضِ إلى دَمارِها، بل مِنَ الأَزَلِ إلى الأَبدِ، فتُجَدِّدُ وتُبَدِّلُ أَفرادَ لُحْمةِ بِساطِي هذا وسُداه.. وكذا إن كُنتَ تَستَطِيعُ أن تَقبِضَ على زِمامِ الأَرضِ الَّتي تَلبَسُنا وتَكتَسِي بنا وتَتَستَّـرُ.. نعم، إن كُنتَ هكذا فادَّعِ الرُّبُوبيّةَ علَيَّ.. وإلّا فاخرُجْ مَذمُومًا مَدحُورًا مِنَ الأَرضِ؛ فلَيس لك مُقامٌ هنا، إذ فينا مِن تَجَلِّياتِ الوَحدانِيّةِ وأَختامِ الأَحَدِيّةِ بحَيثُ مَن لم يكُن جَمِيعُ الكائِناتِ في قَبْضةِ تَصَرُّفِه ولم يَرَ جَمِيعَ الأَشياءِ بجَمِيعِ شُؤُونِها دُفعةً واحِدةً، ولم يَستَطِعْ أن يَعمَلَ أُمُورًا لا تُحَدُّ في آنٍ واحِدٍ، ولم يكُن حاضِرًا ورَقيبًا في كلِّ مَكانٍ ومُنَـزَّهًا عنِ المَكانِ والزَّمانِ.. لا يَتَمكَّنُ أن يكُونَ مالِكًا لنا أَبدًا، بل لا يُمكِنُ أن يَتَدخَّلَ في أُمُورِنا مُطلَقًا. أي: مَن لم يكُن مالِكًا لِقُدرةٍ مُطلَقةٍ وحِكْمةٍ مُطلَقةٍ وعِلْمٍ مُطلَقٍ، لا يُمكِنُ أن يَتَحكَّمَ فينا ويَدَّعِيَ المالِكِيةَ علَينا”.
وهكذا يَذهَبُ المُدَّعي مُخاطِبًا نَفسَه: “لِأَذهَبْ إلى الكُرةِ الأَرضِيّةِ عَلَّني أَستَغْفِلُها وأَجِدُ فيها مَوْضِعًا..” فتَوَجَّهَ إلَيها قائِلًا لها4الحاصلُ: إنَّ الذَّرّة تُحيل ذلك المُدَّعِيَ إلى الكُرَيّة الحَمراءِ، وهذه تُحِيلُه إلى الخَلِيّة، وهذه إلى الجِسمِ، والجِسمُ يُحِيلُه إلى النَّوعِ الإنسانِيِّ، والنَّوعُ إلى الحُلّةِ المَنسُوجةِ مِن الأحياءِ التي يَلبَسُها سَطحُ الأرضِ، وتُحِيلُه حُلّةُ سَطحِ الأرض إلى الأرضِ نفسِها، وهذه إلى الشَّمسِ، والشَّمسُ إلى النُّجُومِ.. وهكذا يقولُ كلٌّ مِنها: انصَرِفْ عنَّا.. فلوِ استَطَعتَ أن تُسَيطِرَ على من هو فوقي فحاوِلِ السَّيطَرةَ علَيَّ، وإلّا فأنت عاجِزٌ عنِ التَّحَكُّمِ فِيَّ! فإذًا مَن لم يُنفِذْ أَمرَه على النُّجُومِ كافّةً، لا يُمكِنُه أن يُنفِذَه على ذَرّةٍ واحِدةٍ. باسمِ الأَسبابِ وبلِسانِ الطَّبِيعةِ مَرّةً أُخرَى: “إنَّ دَوَرانَكِ هكذا دُونَ قَصْدٍ يَشِفُّ عن أنَّك سائِبةٌ دُونَ مالِكٍ، ولِهذا يُمكِنُ أن تَكُوني طَوْعَ أَمرِي!”.
فرَدَّتْ علَيه الأَرضُ بِصَيحةٍ كالصّاعِقةِ مُنكِرةً دَعواه بلِسانِ الحَقِّ والحَقِيقةِ المُضمَرةِ فيها: “لا تَهذِرْ أيُّها الأَحمَقُ الأَبلَهُ! كيف أَكُونُ هَمَلًا بلا مالِكٍ ومَولًى! فهل رَأَيتَ في ثَوبِي الَّذي أَلبَسُه خَيْطًا واحِدًا فقط نَشازًا بغيرِ حِكْمةٍ ومِن دُونِ إتقانٍ! حتَّى تَزعُمَ أنَّ حَبْلي على غارِبِي وأنَّني بلا مَولًى ولا مالِكٍ؟! انظُر إلى حَرَكاتي فحَسْبُ، ومِنها حَرَكَتِي السَّنَوِيّةُ 5إذا كان نِصفُ قُطرِ دائرةٍ مِئةً وثمانين مِليُونَ كيلومِترًا، فتلك الدّائرةُ تكونُ بمسافةِ خَمسٍ وعِشرين أَلفَ سَنةٍ تقريبًا. الَّتي أَسِيرُ فيها مسافةَ خَمسٍ وعِشرِين أَلفَ سَنةٍ في سَنةٍ واحِدةٍ فقط، مُنجِزةً وَظائِفِي المُلْقاةَ علَيَّ بكَمالِ المِيزانِ والحِكْمةِ.. فإن كانَت لَدَيكَ حِكْمةٌ مُطلَقةٌ وقُدرةٌ مُطلَقةٌ فتُسَيِّـرُ وتُجرِي معي رُفَقائِي مِنَ السَّيّاراتِ العَشرِ مِن أَمثالي في أَفلاكِها العُظمَى، وتَخلُقُ الشَّمسَ المُنِيرةَ الَّتي هي قائِدُنا وإمامُنا والَّتي تَربِطُنا وإيّاها جاذِبةُ الرَّحمةِ فتُدِيرُنا وتَجرِي بنا أنا والسَّيّاراتِ جَمِيعًا حَوْلَ الشَّمسِ بنِظامٍ تامٍّ وحِكْمةٍ كامِلةٍ.
نعم، أيُّها المُدَّعي إن كانَت لَدَيك قُدرةٌ مُطلَقةٌ وحِكْمةٌ مُطلَقةٌ على إدارةِ هذه الأُمُورِ الجِسامِ وتَدبِيرِها فادَّعِ بدَعْواك، وإلّا فاتْرُكْ هذا الهَذَيانَ المُفرِطَ، وسُحْقًا لك في جَهَنَّمَ وبِئسَ المَصِيرُ، فلا تَشْغَلْني عن مُهِمّاتي العَظِيمةِ، إذ إنَّ ما فينا مِنَ الِانتِظامِ الرّائِعِ والتَّناسُقِ المَهِيبِ والتَّسخِيرِ الحَكِيمِ يَدُلُّ بوُضُوحٍ على أنَّ جَمِيعَ المَوجُوداتِ مِنَ الذَّرّاتِ إلى النُّجُومِ وإلى الشُّمُوسِ طَوْعُ أَمرِ صانِعِنا ومُسَخَّرةٌ له؛ إذ مِثلَما يُنَظِّمُ الشَّجَرةَ بسُهُولةٍ ويُزَيِّنُ ثَمَراتِها فإنَّه بالسُّهُولةِ نَفسِها يُنَظِّمُ الشَّمسَ بسَيّاراتِها، فهُو الحَكِيمُ ذُو الجَلالِ والحاكِمُ المُطلَقُ ذو الكَمالِ”.
ثمَّ يَتَوجَّهُ ذلك المُدَّعي إلى الشَّمسِ بعدَ أن لم يَجِد له مَوْضِعَ قَدَمٍ في الأَرضِ، فَحَاورَ نفسَه قائِلًا: “إنَّ هذه الشَّمسَ شَيءٌ عَظِيمٌ، لَعلِّي أَجِدُ فيها ثَغرةً أُمَرِّرُ فيها دَعوايَ وأُسَخِّرُ بدَوْرِي الأَرضَ كذلك”.
فقال للشَّمسِ بلِسانِ الشِّركِ وأَضاليلِ الفَلسَفةِ الشَّيطانيّةِ، وكما يقُولُه المَجُوسُ: “أَنتِ يا شَمسُ سُلطانةُ العالَمِ، وأنتِ حَتْمًا مالِكةٌ لِنَفسِكِ، وتَتَصرَّفين في العالَمِ كيف تَشائِينَ”.
وعلى الفَوْرِ أَجابَتْه الشَّمسُ باسمِ الحَقِّ وبلِسانِ الحَقِيقةِ والحِكْمةِ الإلٰهِيّةِ: “كلَّا وأَلفُ مَرّةٍ كلَّا.. بل لَستُ إلّا مَأْمُورةً مُطِيعةً مُسَخَّرةً بوَظِيفةِ تَنوِيرِ مُستَضافِ سَيِّدِي؛ فلَستُ مالِكةً لِنَفسِي أبدًا، بل لَستُ مالِكةً حتَّى لِجَناحِ ذُبابةٍ مُلْكًا حَقِيقيًّا، لأنَّ في جِسمِ الذُّبابِ مِنَ الجَواهِرِ المَعنَوِيّةِ النَّفِيسةِ، كالعَينِ والأُذُنِ ومِن بَدائِعِ الصَّنْعةِ، ما لا أَملِكُه قَطُّ وما هو خارِجٌ عن طَوْقي”، وهكذا تُوَبِّخُ المُدَّعِيَ. فيَنبَرِي ذلك المُدَّعِي قائِلًا بلِسانِ الفَلسَفةِ المُتَغَطرِسةِ المُتَفرعِنةِ: “ما دُمتِ لَستِ مالِكةً لِنَفسِكِ، بل خادِمةً، فإذًا أنتِ مَملُوكةٌ لي وتحتَ تَصَرُّفي باسمِ الأَسبابِ”.
فرَدَّت عليه الشَّمسُ رَدًّا قَوِيًّا باسمِ الحَقِّ والحَقِيقةِ وبلِسانِ العُبُودِيّةِ قائِلةً: “إنَّما أَكُونُ مَملُوكةً لِمَن خَلَق نُجُومًا عالِيةً مِن أَمثالي، وأَسكَنَها في سَمائِه بكَمالِ حِكْمةٍ، وأَدارَها بكَمالِ هَيبةٍ، وزَيَّنَها بكَمالِ زِينةٍ”.
ثمَّ إنَّ ذلك المُدَّعِيَّ بَدَأ يُحَدِّثُ نَفسَه: “إنَّ النُّجُومَ مُختَلِطةٌ مُزدَحِمةٌ، وهي مُشَتَّتةٌ مُتَباعِدةٌ بعضُها عن بعضٍ، فلَعَلِّي أَجِدُ مِنها مَوضِعًا باسمِ مُوَكِّلي فأَظفَرُ مِنها بشَيءٍ..” فيَدخُلُ بينَ النُّجُومِ.
فقال لها كما يقولُ الصّابِئةُ عُبّادُ النُّجُومِ باسمِ الأَسبابِ وفي سَبِيلِ شُرَكائِه وبلِسانِ الفَلسَفةِ الطّاغِيةِ: “أَيَّتُها النُّجُومُ، إنَّ حُكّامًا كَثِيرين يَتَحكَّمُون فيكُم لِشِدّةِ تَشَتُّتِكم وتَبَعثُرِكم”.
فأَجابَته نَجمةٌ واحِدةٌ نِيابةً عنِ النُّجُومِ: ما أَشَدَّ بَلاهَتَك أيُّها المُدَّعِي الأَحمَقُ! ألا تَرَى عَلامةَ التَّوحِيدِ وطُغْراءَ الأَحَدِيّةِ على وُجُوهِنا، ألا تَفهَمُها؟ ألا تَعلَمُ أَنظِمَتَنا الرّاقيةَ وقَوانِينَ عُبُودِيَّتِنا الصّارِمةَ؟ أَتَظُنُّنا بلا نِظامٍ؟
فنحنُ مَخلُوقون عَبِيدًا لِواحِدٍ أَحَدٍ يُمسِكُ في قَبْضَتِه أُمُورَنا وأُمُورَ السَّماواتِ الَّتي هي بَحْرُنا، والكائِناتِ الَّتي هي شَجَرَتُنا، وفَضاءَ العالَمِ الواسِعِ الَّذي هو مَسِيرُنا. فنحنُ شَواهِدُ نُورانيّةٌ كالمَصابِيحِ المُنِيرةِ أَيّامَ المِهْرَجاناتِ نُبيِّنُ كَمالَ رُبُوبيَّتِه سُبحانَه، ونحن بَراهِينُ ساطِعةٌ نُعلِنُ عن سَلْطَنةِ رُبُوبيَّتِه، فكُلُّ طائِفةٍ مِنّا خَدَمَةٌ عامِلُون نُورانيُّون نَدُلُّ على عَظَمةِ سَلْطَنَتِه، في مَنازِلَ عُلْوِيّةٍ سُفْلِيّةٍ دُنيَوِيّةٍ بَرزَخِيّةٍ أُخرَوِيّةٍ.
نعم، إنَّنا مُعجِزةٌ باهِرةٌ مِن مُعجِزاتِ قُدرةِ الواحِدِ الأَحَدِ، وثَمَرةٌ يانِعةٌ لِشَجَرةِ الخِلْقةِ، وبُرهانٌ مُنَوَّرٌ للوَحدانيّةِ؛ فنحن للمَلائِكةِ مَنزِلٌ وطائِرةٌ ومَسجِدٌ، وللعَوالِمِ العُلْوِيّةِ مِصباحٌ وشَمسٌ، وعلى سَلْطَنةِ الرُّبُوبيّةِ شاهِدٌ، ولِفَضاءِ العالَمِ قَصرٌ وزِينةٌ وزَهرةٌ.. وكأنَّنا أَسماكٌ نُورانيّةٌ تَسْبَحُ في بَحرِ السَّماء، وعينٌ جَمِيلةٌ لِوَجهِ السَّماء6فنحن مُشاهِدُو مَصنُوعاتِ الخالقِ البَدِيعةِ، والمُشِيرون إليها، بل نَجعَلُ الآخَرِين يُشاهِدُونها بإعجابٍ.. أي كأنَّ السَّماءَ تَنظُرُ إلى عَجائِبِ الصَّنعةِ الإلٰهِيّة في الأرضِ بما لا يُحَدُّ لها مِن عُيُون.. فالنُّجومُ كمَلائِكةِ السَّماء تَنظُرُ إلى الأَرضِ التي هي مَحشَرُ العَجائبِ، ومَعرِضُ الغَرائبِ، بل تَستَقطِبُ أَنظارَ ذَوِي الشُّعُورِ إلَيها..
فكما أنَّ كُلًّا مِنّا هكذا، فإنَّ في مَجمُوعِنا سُكُوتًا في سُكُونٍ.. وحَرَكةً في حِكْمةٍ.. وزِينةً في هَيْبةٍ.. واستِواءَ خِلْقةٍ في انتِظامٍ.. وإتقانَ صَنْعةٍ في مَوزُونيّةٍ.. لهذا نَشهَدُ بأَلسِنةٍ غيرِ مَحدُودةٍ على وَحدانيّةِ صانِعِنا الجَلِيلِ وعلى أَحَديَّتِه وصَمَدانيَّتِه وعلى أَوصافِ جَمالِه وكَمالِه وجَلالِه، ونُعلِنُ هذه الشَّهادةَ على أَشهادِ الكائِناتِ جَمِيعِها.. أفَبَعدَ هذا تَتَّهِمُنا ونحن العَبِيدُ الطّاهِرُون المُطِيعُون المُسَخَّرُون بأنَّنا في فَوضَى واختِلاطٍ وعَبَثٍ، بل بلا مَولًى ومالِكٍ؟! فإنَّك لا شَكَّ تَستَحِقُّ التَّأدِيبَ على اتِّهامِك هذا.. فتَرجُمُ نَجمةٌ واحِدةٌ ذلك المُدَّعِيَ فتَطرَحُه مِن هناك إلى قَعْرِ جَهَنَّمَ وبِئسَ المَصِيرُ؛ وتَقذِفُ معَه الطَّبِيعةَ إلى وادِي الأَوهامِ7وبعدَما هَوَتِ الطَّبيعةُ نَدِمَت عَمّا فَعَلَت فتابَت، وعَلِمَت أنَّ وَظيفَتَها الحَقِيقيّةَ القَبُولُ والِانفِعالُ، لا التَّأثيرُ والفِعلُ، وأنَّها تَعمَلُ وَفْقًا لِقُدرةِ اللهِ ومَشِيئتِه، فهي كدَفتَرٍ للقَدَرِ الإلٰهِيِّ، دَفتَرٍ قابلٍ للتَّبدِيلِ والتَّغيِيرِ، وبما يُشبِهُ مَنهَجَ القُدرةِ الرَّبّانيّةِ، ونَوعًا مِن شَرِيعةٍ فِطْرِيّةٍ للقَدِيرِ ذي الجَلالِ، ومَجمُوعةَ قَوانينِه.. فقَبِلَتِ الطَّبِيعةُ وَظيفَتَها وهي العُبُوديّةُ بكَمالِ العَجْزِ والِانقِيادِ، وتَسَمَّت باسمِ الفِطْرةِ الإلٰهِيّة والصَّنعةِ الرَّبّانيّة.، وتُلقِي المُصادَفةَ إلى بِئرِ العَدَمِ، والشُّرَكاءَ إلى ظُلُماتِ الِامتِناعِ والمُحالِ، والفَلسَفةَ المُعادِيةَ للدِّينِ إلى أَسفَلِ سافِلِين.
فتُرتِّلُ تلك النَّجمةُ معَ النُّجُومِ كلِّها قولَه تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾، مُعلِنةً أنْ لا مَجالَ لِشَريكٍ قَطُّ ولا حَدَّ له أن يَتَدخَّل حتَّى في أَدنَى شَيءٍ، اعتِبارًا مِن جَناحِ ذُبابةٍ إلى قَنادِيلِ السَّماءِ.
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
﴿اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سِرَاجِ وحدَتِكَ فِي كَثرَةِ مَخلُوقَاتِكَ، ودَلّالِ وحدَانِيَّتِكَ فِي مَشهَرِ كَائِنَاتِكَ، وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ أَجمَعِينَ﴾
❀ ❀ ❀
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾
هذه الفِقْرةُ العَرَبيّةُ تُشِيرُ إلى زَهرةٍ واحِدةٍ مِنَ البُستانِ الأَزَليِّ لهذه الآيةِ الكَرِيمةِ:
حَتَّى كَأنَّ الشَّجَرَ المُزَهَّرَةَ قَصِيدَةٌ مَنظُومَةٌ مُحَرَّرَةٌ..
وَتُنشِدُ لِلْفَاطِرِ المَدَائِحَ المُبْهِرَةَ أوْ فَتَحَتْ بكَثْرَةٍ عُيُونَهَا المُبْصِرَةَ..
لِتُنظِرَ لِلصَّانِعِ العَجَائِبَ المُنَشَّرَةَ أوْ زَيَّنَتْ لِعِيدِهَا أَعْضَاءَهَا المُخْضَرَّةَ..
لِيَشْهَدَ سُلْطَانُهَا آثارَهُ المُنَوَّرَةَ وَتُشْهِرَ فِي المَحْضَرِ مُرَصَّعَاتِ الجَوْهَرِ..
وَتُعْلِنَ لِلْبَشَرِ حِكْمَةَ خَلْقِ الشَّجَرِ بكَنزِهَا المُدَّخَرِ مِن جُودِ رَبِّ الثَّمَرِ..
سُبْحَانَهُ مَا أحْسَنَ إِحْسَانَهُ! مَا أزْيَنَ بُرْهَانَهُ مَا أَبْيَنَ تِبْيَانَهُ!!
خَيَالْ بِينَدْ أَزِين اَشْجَارْ مَلَائِكْ رَا
جَسَدْ آمَدْ سَمَاوِى بَا هَزَارَان نَىْ..
اَزِين نَيْهَا شُنِيدَتْ هُوشْ سِتَايِشْهَاىِ ذَاتِ حَىْ..
وَرَقْهَارَا زَبَان دَارَندَ هَمَه هُو هُو ذِكْر آرَند بَدَرْ مَعْناَىِ حَىُّ حَىُّ..
چُو لآ اِلٰهَ اِلَّا هُو بَرَابَرْ مِيزَنَند هَرْ شَىْ..
دَمَا دَمْ جُويَدَند يَا حَقْ سَرَاسَرْ گُويَدَند يَا حَىْ
بَرَابَرْ مِيزَنَند اَللّه:
﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾
❀ ❀ ❀
[ذيل: تأمل في جمال وجه السماء]
ذيلٌ صغير للموقف الأول
فاستَمِعْ للآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا..﴾ إلى آخر الآية.
ثُمَّ انظُرْ إلَى وَجهِ السَّمَاءِ! كَيفَ تَرَى سُكُوتًا فِي سُكُونَةٍ، حَرَكَةً في حِكْمَةٍ، تَلَأْلُؤًا في حِشْمَةٍ، تَبَسُّمًا فِي زِينَةٍ، مَعَ انتِظَامِ الخِلْقَةِ، مَعَ اتِّزَانِ الصَّنعَةِ.. تَشَعْشُعُ سِرَاجِهَا، تَهَلْهُلُ مِصْبَاحِهَا تَلَأْلُؤُ نُجُومِهَا، تُعْلِنُ لِأَهْلِ النُّهَى، سَلْطَنةً بِلَا انتِهَاءٍ.
هذه الفِقراتُ “العَرَبيّةُ” إنَّما هي تَرجَمةُ بعضِ مَعاني الآيةِ الكَرِيمةِ المُتَصدِّرةِ، وهي تَعنِي أنَّ الآيةَ الكَرِيمةَ تَلفِتُ نَظَرَ الإنسانِ إلى وَجْهِ السَّماءِ الجَمِيلِ المُزَيَّنِ، لِيَرَى بتلك المُلاحَظةِ وإنعامِ النَّظَر سُكُوتًا وصَمْتًا في سُكُونٍ وهُدُوءٍ. ولِيَعلَمَ أنَّ السَّماءَ قدِ اتَّخَذَت ذلك الوَضْعَ الهادِئَ، بأَمرِ قَدِيرٍ مُطلَقِ القُدرةِ وبتَسخِيرهِ؛ إذ لولا تلك القُدرةُ المُطلَقةُ، أي: لو كانَتِ السَّماءُ مُفلَتةَ الزِّمامِ، طَلِيقةً في حَرَكاتِها وسَكَناتِها، لَكانَت تلك الأَجرامُ الهائِلةُ، المُتَداخِلُ بعضُها في البعضِ، وتلك الكُراتُ الضَّخْمةُ، تُحدِثُ بحَرَكاتِها الرَّهِيبةِ أَصواتًا مُدَوِّيةً مُخِيفةً تُصِمُّ سَمْعَ الكائِناتِ قاطِبةً، ولَحَدثَ مِنَ الِاختِلاطِ والِاضطِرابِ ما تَتَلاشَى مِن شِدَّتِه الكائِناتُ كلُّها، إذ مِنَ المَعلُومِ أنَّه لو ثارَ عِشرُون جامُوسًا في حَقْلٍ لَاختَلَط الحابِلُ بالنّابِلِ، ولَتَسبَّبَ الدَّمارُ والهَرْجُ والمَرْجُ، فكيف بأَجرامٍ سَماوِيّةٍ أَضخَمَ مِن أَرضِنا بأَلفِ مَرّةٍ، تَنطَلِقُ في سُرعةٍ هي أَسرَعُ مِنَ القَذِيفةِ بسَبعِين مَرّةً، كما هو ثابِتٌ في عِلْمِ الفَلَكِ!
فافْهَمْ مِن هذا أنَّ الهُدُوءَ الَّذي يَعُمُّ الأَجرامَ ويُخَيِّمُ على السَّماءِ إنَّما يُبيِّنُ مَدَى سَعةِ قُدرةِ القَدِيرِ ذِي الكَمالِ، ومَدَى هَيمَنةِ تَسخِيرِ الصّانِعِ الجَلِيلِ لها، ومَدَى انقِيادِ النُّجُومِ وخُضُوعِها لِأَوامِرِه تَعالَى.
“حَرَكَةً في حِكْمَةٍ“: ثمَّ إنَّ الآيةَ الكَرِيمةَ تَأمُرُ أيضًا بمُشاهَدةِ ما في وَجْهِ السَّماءِ مِن حَرَكةٍ ضِمنَ حِكْمةٍ، إذ إنَّها حَرَكاتٌ عَظِيمةٌ تَسِيرُ ضِمنَ حِكْمةٍ دَقِيقةٍ واسِعةٍ تَتَحيَّـرُ مِنها الأَلبابُ ويَقِفُ أَمامَها الإنسانُ بإعجابٍ وإكبارٍ.. فكما أنَّ صَنّاعًا ماهِرًا يُدِيرُ دَواليبَ مَعمَلٍ وتُرُوسَه على وَفْقِ حِكْمةٍ مُحَدَّدةٍ، إنَّما يُبيِّنُ بعَمَلِه هذا دَرَجةَ مَهارَتِه ودِقّةَ صَنْعَتِه ضِمنَ عَظَمةِ المَعمَلِ وانتِظامِه؛ كذلك القَدِيرُ المُطلَقُ الجَلِيلُ “ولَه المَثَلُ الأَعلَى” الَّذي يُعطِي للشَّمسِ وسَيّاراتِها وَضْعًا خاصًّا شَبِيهًا بوَضْعِ مَعمَلٍ عَظِيمٍ. فيُدِيرُ تلك الكُراتِ الهائِلةَ كأنَّها أَحجارُ مِقْلاعٍ صَغِيرةٌ، ودَواليبُ مَعمَلٍ بَسِيطٍ، يُدِيرُها حَوْلَ الشَّمسِ، أَمامَ الأَنظارِ لِيُدرِكَ الإنسانُ بتلك النِّسبةِ طَلاقةَ قُدرَتِه وسَعةَ حِكْمَتِه.
“تَلَألُؤًا في حِشمَةٍ، تَبَسُّمًا في زِينَةٍ“: أي إنَّ في وَجْهِ السَّماءِ أيضًا سُطُوعًا باهِرًا وتَهَلُّلًا مَهِيبًا، وتَبَسُّمًا وبَشاشةً في زِينةٍ وجَمالٍ، مِمّا يُبيِّنُ عَظَمةَ سَلْطنةِ الصّانِعِ الجَلِيلِ، ومَدَى الدِّقّةِ في صَنْعَتِه الجَمِيلةِ؛ إذ كما أنَّ إضاءةَ مَصابِيحَ وأَنوارٍ وإظهارَ مَظاهِرِ الفَرَحِ والبَهجةِ في يَومِ اعتِلاءِ السُّلطانِ العَرْشَ، إنَّما هو لبَيانِ دَرَجةِ كَمالِه في مِضْمارِ الرُّقيِّ الحَضارِيِّ، كذلك السَّماواتُ العَظِيمةُ بنُجُومِها المَهِيبةِ تُظهِرُ لِنَظَرِ المُتَأمِّلِ كَمالَ سَلْطَنةِ الصّانِعِ الجَليلِ وجَمالَ صَنْعتِه البَدِيعةِ.
“مَعَ انتِظَامِ الخِلْقَةِ، مَعَ اتِّزَانِ الصَّنعَةِ“: تقولُ العِبارةُ: انظُرْ إلى انتِظامِ المَخلُوقاتِ في وَجْهِ السَّماءِ، وافْهَمْ وِزانَ المَصنُوعاتِ بمَوازِينَ دَقيقةٍ، وأَدرِكْ مِن هذا: ما أَوْسَعَ قُدرةَ صانِعِ هذه المَخلُوقاتِ وما أَعَمَّ حِكْمَتَه!
نعم، إنَّ إدارةَ مَوادَّ صَغِيرةٍ أو أَجرامٍ وحَيَواناتٍ، وتَدوِيرَها وتَسخِيرَها، وسَوْقَ كلٍّ مِنها إلى طَرِيقٍ خاصٍّ يُعيَّنُ بمِيزانٍ مُخَصَّصٍ، تُبيِّنُ مَدَى قُدرةِ القائِمِ بها ومَدَى حِكْمَتِه ومَدَى طاعةِ تلك المَوادِّ والحَيَواناتِ وانقِيادِها لِأَوامِرِه؛ كذلك الأَمرُ في السَّماواتِ الواسِعةِ جِدًّا، فإنَّها تُبيِّنُ بعَظَمَتِها المُحَيِّرةِ، وبنُجُومِها الجَسِيمةِ الَّتي لا يَحصُرُها العَدُّ وبحَرَكاتِها الفائِقةِ، معَ عَدَمِ تَجاوُزِها عَمّا قُدِّر لها مِن حُدُودٍ ولو قِيدَ أَنمُلةٍ وعَدَمَ تَخَلُّفِها عنها ولو بلَحظةٍ، وعَدَمَ تَوانيها عن أَداءِ ما وُكِّلَ بها مِن واجِبٍ ولو بعُشْرِ مِعشارِ الدَّقيقةِ.. أَقُولُ: إنَّها تُبيِّنُ للأَنظارِ أنَّ صانِعَها وخالِقَها الجَلِيلَ يُظهِرُ رُبُوبيَّتَه الجَلِيلةَ بإجرائِه هذه الأُمُورَ بمِيزانٍ دَقيقٍ خاصٍّ.
“تَشَعْشُعُ سِرَاجِهَا، تَهلُّلُ مِصبَاحِهَا تَلَألُؤ نُجُومِهَا، تُعلِنُ لِأهْلِ النُّهَى، سَلطَنةً بِلَا انتِهَاءٍ“: أي إنَّ تَسخِيرَ الشَّمسِ والقَمَرِ والنُّجُوم الوارِدَ في آياتٍ كَثيرةٍ أَمثالَ هذه الآيةِ المُتَصدِّرةِ، وما وَرَد في سُورةِ “النَّبأِ” وغيرِها، كُلُّها تُبيِّنُ أنَّ تَعلِيقَ سِراجٍ كالشَّمسِ في سَقْفِ السَّماءِ المُزَيَّنِ، وهو السِّراجُ الوَهَّاجُ الَّذي يُشِعُّ النُّورَ ويَنشُرُ الدِّفْءَ.. وجَعْلُ ذلك النُّورِ كأنَّه حِبْرٌ لِكِتابةِ مَكاتيبِ اللهِ الصَّمَدانيّةِ على صَحِيفةِ الصَّيفِ والشِّتاءِ بخُطُوطِ اللَّيلِ والنَّهارِ.. وكذا جَعْلُ القَمَرِ مِيلًا لِساعةٍ زَمانيّةٍ كُبْرَى وآلةً لِقِياسِ المَواقيتِ، وتَعليقُه في الأَعالي شَبِيهًا بالسّاعاتِ المَنصُوبةِ على الأَبراجِ، وذلك بجَعْلِه في مَنازلِ أَهِلّةٍ مُتَفاوِتةٍ، حتَّى لَكَأنَّ الله سُبحانَه يَضَعُ في كلِّ ليلةٍ هِلالًا جَدِيدًا غيرَ السّابِقِ على وَجْهِ السَّماء، ثمَّ يُعِيدُ ويَجمَعُ تلك الأَهِلّةَ ويُحَرِّكُها في مَنازِلها بمِيزانٍ كامِلٍ وحِسابٍ دَقيقٍ.. ثمَّ إنَّ تَزيِينَ وَجْهِ السَّماءِ وتَجمِيلَه بالنُّجُومِ المُلَألَأةِ المُبتَسِمةِ في قُبّةِ السَّماءِ، لا شَكَّ أنَّه مِن شَعائرِ رُبُوبيّةٍ لا مُنتَهَى لِعَظَمَتِها، وهي في الوَقتِ نفسِه إشاراتٌ إلى أُلُوهيّةٍ جَلِيلةٍ لا مُنتَهَى لِكَمالِها.. كلُّ ذلك يَدعُو أَربابَ الفِكْرِ والعَقلِ إلى الإيمانِ والتَّوحِيدِ.
انظُرْ إلى الصَّحِيفةِ المُلَوَّنةِ الزّاهِيةِ لِكِتابِ الكَونِ.
كيفَ صَوَّرَها قَلَمُ القُدرةِ المُذَهَّبُ.
لم تَبقَ نُقطةٌ مُظلِمةٌ لِأَبصارِ أَربابِ القُلُوبِ.
فكَأنَّه سُبحانَه قد حَرَّر آياتِه مِن نُورٍ.
انظُرْ! ما أَعظَمَها مِن مُعجِزةِ حِكْمةٍ، تَقُودُ إلى الإذعانِ!
وما أَسماها مِن مَشاهِدَ بَدِيعةٍ في فَضاءِ الكَوْنِ!
واستَمِعْ إلى النُّجُومِ أيضًا، إلى حُلْوِ خِطابِها الطَّيِّبِ اللَّذِيذِ.
لِتَرى ما قَرَّره خَتْمُ الحِكْمةِ النَّيِّرُ على الوُجُودِ. إنَّها جَمِيعًا تَهتِفُ وتقُولُ مَعًا بلِسانِ الحَقِّ:
نحنُ بَراهِينُ ساطِعةٌ على هَيبةِ القَدِيرِ ذِي الجَلالِ
نحنُ شَواهِدُ صِدْقٍ على وُجُودِ الصّانِعِ الجَلِيلِ وعلى وَحْدانيَّتِه وقُدرَتِه.
نَتفَرَّجُ كالمَلائِكةِ على تلك المُعجِزاتِ اللَّطِيفةِ الَّتي جَمَّلَت وَجْهَ الأَرضِ.
فنحنُ أُلُوفُ العُيُونِ الباصِرةِ، تُطِلُّ مِنَ السَّماءِ إلى الأَرضِ وتَرنُو إلى الجَنّةِ.
نحنُ أُلُوفُ الثَّمَراتِ الجَمِيلةِ لِشَجَرةِ الخِلْقةِ، عَلَّقَتْنا يَدُ حِكْمةِ الجَمِيلِ ذِي الجَلالِ على شَطْرِ السَّماءِ وعلى أَغصانِ دَرْبِ التَّبّانةِ.
فنحنُ لِأَهلِ السَّماواتِ مَساجِدُ سَيّارةٌ، ومَساكِنُ دَوّارةٌ، وأَوكارٌ سامِيةٌ عاليةٌ، ومَصابِيحُ نَوّارةٌ، وسَفائِنُ جَبّارةٌ، وطائِراتٌ هائِلةٌ!
نحنُ مُعجِزاتُ قُدرةِ قَدِيرٍ ذِي كَمالٍ، وخَوارِقُ صَنْعةِ حَكِيمٍ ذِي جَلالٍ، ونَوادِرُ حِكْمةٍ ودَواهِي خِلْقةٍ وعَوالِمُ نُورٍ.
هكذا نُبيِّنُ مِئةَ أَلفِ بُرهانٍ وبُرهانٍ، بمِئةِ أَلفِ لِسانٍ ولِسانٍ، ونُسمِعُها مَن هو إنسانٌ حَقًّا.
عَمِيَتْ عَينُ المُلحِدِ لا يَرَى وُجُوهَنا النَّيِّرةَ، ولا يَسمَعُ أَقوالَنا البَيِّنةَ، فنحنُ آياتٌ ناطِقةٌ بالحَقِّ.
سِكَّتُنا واحِدةٌ، طُرَّتُنا واحِدةٌ، مُسبِّحاتٌ نحن عابِداتٌ لِرَبِّنا، مُسخَّراتٌ تحتَ أَمرِه.
نَذكُرُه تَعالَى ونحنُ مَجذُوباتٌ بحُبِّه، مَنسُوباتٌ إلى حَلْقةِ ذِكْرِ دَرْبِ التَّبّانةِ.
❀ ❀ ❀
[الموقف الثاني: ثلاثة أسئلة في ثلاثة مقاصد]
الموقف الثاني
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ﴾
لهذا الموقف ثلاثة مقاصِدَ.
[المقصد الأول: الوحدانية]
المَقصَدُ الأوَّل
إنَّ داعِيةَ أهلِ الشِّركِ والضَّلالِ الَّذي هَوَى إلى الأَرضِ برَجْمٍ مِن نَجمةٍ، تَخَلَّى عن ذلك النَّمَطِ مِنَ الدَّعوَى، لأنَّه عَجَز عن أن يَجِدَ في أيِّ مَوضِعٍ كان، مِثقالَ ذَرّةٍ مِنَ الشِّركِ، ابتِداءً مِنَ الذَّرّاتِ إلى المَجَرّاتِ، إلّا أنَّه عادَ -كالشَّيطانِ- وحاوَلَ تَشكِيكَ أَهلِ التَّوحِيدِ في التَّوحِيدِ، وذلك بإلقاءِ الشُّبُهاتِ فيما يَخُصُّ الأَحَدِيّةَ والوَحْدانيّةَ مِن خِلالِ ثلاثةِ أَسئِلةٍ مُهِمّةٍ:
[س1: كيف تثبت تفرُّد الله تعالى بالقدرة من غير شريك؟]
السُّؤالُ الأوَّل: إنَّه يقولُ بلِسانِ الزَّندَقةِ: يا أَهلَ التَّوحِيدِ، إنَّني لم أَتَمكَّنْ مِن إيجادِ شَيءٍ باسمِ مُوَكِّلي، وعَجَزتُ عن الوقُوعِ على شَيءٍ أَتشَبَّثُ به يُؤيِّدُ دَعاوِيَّ في المَوجُوداتِ كافّةً، فلم أَتَمكَّنْ مِن إثباتِ صَوابِ مَسْلَكِي؛ ولكِن كيف تُثبِتُون أنتُم وُجُودَ واحِدٍ أَحَدٍ قَدِيرٍ مُطلَقِ القُدرةِ؟ فلِمَ تَرَون أنَّه لا يُمكِنُ قَطْعًا أن تَدخُلَ أَيدٍ أُخرَى معَ قُدرَتِه.
الجَوابُ: لقد أُثبِتَ في “الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرينَ” إثباتًا قاطِعًا أنَّ جَمِيعَ المَوجُوداتِ مِنَ الذَّرّاتِ إلى السَّيّاراتِ، كُلٌّ مِنها بُرهانٌ نَيِّـرٌ على وُجُوبِ وُجُودِه سُبحانَه، وهو الواجِبُ الوُجُودِ والقَدِيرُ المُطلَقُ، فكُلُّ سِلسِلةٍ مِنَ السَّلاسِلِ المَوجُودةِ في العالَمِ دَليلٌ قاطِعٌ على وَحْدانيَّتِه، وقد أَثبَت القُرآنُ الكَرِيمُ هذا بما لا يُحَدُّ مِنَ البَراهِينِ، إلّا أنَّه يَزِيدُ مِن ذِكرِ البَراهِينِ الظّاهِرةِ لِعُمُومِ المُخاطَبِينَ. ففي قولِه تَعالَى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾، وقولِه تَعالَى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ وأَمثالِها مِنَ الآياتِ العَدِيدةِ يَعرِضُ القُرآنُ الكَرِيمُ خَلْقَ السَّماواتِ والأَرضِ بُرهانًا على الوَحْدانيّةِ بدَرَجةِ البَداهةِ.. فكُلُّ مَن يَملِكُ شُعُورًا مُضطَـرٌّ إلى تَصدِيقِ خالِقِه في خَلْقِه السَّماواتِ والأَرضَ كما في قولِه تَعالَى: ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾.
[ختم التوحيد الظاهر على الموجودات من المجرات إلى الذرات]
ولقد بَيَّـنّا في المَوقِفِ الأَوَّلِ بوُضُوحٍ خَتْمَ التَّوحِيدِ وسِكَّتَه على المَوجُوداتِ، ابتِداءً مِن ذَرّةٍ واحِدةٍ إلى السَّيّاراتِ وإلى السَّماواتِ؛ فالقُرآنُ الكَرِيمُ يَطرُدُ الشِّركَ ويَنفِيه ابتِداءً مِنَ النُّجُومِ والسَّماواتِ، وانتِهاءً إلى الذَّرّاتِ، بمِثلِ هذه الآياتِ الجَلِيلةِ، فيُشِيرُ ويُومِئُ إلى أنَّ القَدِيرَ المُطلَقَ الَّذي خَلَق السَّماواتِ والأَرضَ في نِظامٍ بَدِيعٍ لا بُدَّ وأن تكُونَ المَنظُومةُ الشَّمسِيّةُ الَّتي هي مِن دَوائِرِ مَصنُوعاتِه، في قَبضَتِه بالبَداهةِ.
وما دامَ ذلك القَدِيرُ المُطلَقُ يُمسِكُ الشَّمسَ وسَيّاراتِها في قَبضَتِه ويُنَظِّمُها ويُسَخِّرُها، ويُدِيرُها؛ فلا بُدَّ أنَّ الأَرضَ الَّتي هي جُزءٌ مِن تلك المَنظُومةِ ومُرتَبِطةٌ بالشَّمسِ في قَبضَتِه سُبحانَه وضِمنَ إدارَتِه وتَدبِيرِه أيضًا.
وما دامَتِ الكُرةُ الأَرضِيّةُ ضِمنَ تَدبِيرِه سُبحانَه وضِمنَ إدارَتِه، فمِن البَداهةِ أن تكُونَ المَصنُوعاتُ الَّتي تُخلَقُ وتُكتَبُ على وَجْهِ الأَرضِ الَّتي هي بمَثابةِ ثَمَراتِ الأَرضِ وغاياتِها في قَبضةِ رُبُوبيَّتِه سُبحانَه.
وما دامَت جَمِيعُ المَصنُوعاتِ المَنشُورةِ والمَنثُورةِ على وَجْهِ الأَرضِ والتي تُجَمِّلُها وتُزَيِّنُها وتَملَؤُها وتُفرِغُ مِنها كلَّ حِينٍ في قَبضَةِ قُدرَتِه وعِلْمِه، وأنَّها تُوزَنُ وتُنَظَّمُ بمِيزانِ عَدْلِه وحِكْمَتِه، وأنَّ جَمِيعَ الأَنواعِ في قَبضةِ قُدرَتِه سُبحانَه؛ فلا بُدَّ أنَّ أَفرادَها المُنتَظِمةَ المُتقَنةَ، الَّتي كلٌّ مِنها بمَثابةِ مِثالٍ مُصَغَّرٍ للعالَمِ وكَشَّافِ سِجِلّاتِ مِيزانيّةِ أَنواعِ الكائِناتِ وفَهارِسَ مُصَغَّرةٍ لِكِتابِ العالَمِ، تكُونُ بالبَداهةِ في قَبضةِ رُبُوبيَّتِه سُبحانَه وإيجادِه وضِمنَ إدارَتِه وتَربِيَتِه.
وما دامَ كلُّ ذِي حَياةٍ في قَبضةِ تَدبِيرِه وتَربِيَتِه، فلا بُدَّ أنَّ الحُجَيراتِ والكُرَيّاتِ والأَعضاءَ والأَعصابَ، الَّتي تُشَكِّلُ وُجُودَ ذلك الكائِنِ الحَيِّ، في قَبضةِ عِلْمِه وقُدرَتِه بالبَداهةِ. وما دامَت كلُّ حُجَيرةٍ وكل كُريَّةٍ دَمَويّةٍ مُنقادةً لِأَوامِرِه سُبحانَه، وضِمنَ تَدبِيرِه وتَصرِيفِه الأُمُورَ، وتَتَحرَّكُ وَفْقَ قانُونِه؛ فلا بُدَّ أنَّ جَمِيعَ مَوادِّها الأَساسِيّةِ، وجَمِيعَ ذَرّاتِها التي تُنسَجُ مِنها نُقُوشُ صُنْعِها، في قَبضةِ قُدرَتِه، وضِمنَ دائِرةِ عِلْمِه بالضَّرُورةِ، ولا بُدَّ أنَّها تَتَحرَّكُ بانتِظامٍ وتُؤَدِّي الوَظائِفَ على أَتمِّ وَجْهٍ بأَمرِه وإذنِه وقُوَّتِه.
وما دامَت حَرَكةُ كلِّ ذَرّةٍ وأَداؤُها الوَظائِفَ، بقانُونِه وإذنِه وأَمرِه، فلا بُدَّ أنَّ تَشَخُّصاتِ الوَجْهِ ومَلامِحَه ووُجُودَ العَلاماتِ الفارِقةِ المُمَيِّزةِ لِكُلِّ فَردٍ عنِ الآخَرِ، سَواءٌ في المَلامِحِ أو في الأَصواتِ أو في الأَلسِنةِ، إنَّما هو بعِلْمِه وحِكْمَتِه بالبَداهةِ.
فتَدَبَّرْ في هذه الآيةِ الكَرِيمةِ الَّتي تُبيِّنُ مَبدَأَ هذه السِّلسِلةِ (المَذكُورةِ) ومُنتَهاها: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾.
فيا داعِيةَ أَهلِ الشِّركِ، إنَّ البَراهِينَ الَّتي تُثبِتُ مَسْلَكَ التَّوحِيدِ، وتَدُلُّ على قَدِيرٍ مُطلَقِ القُدرةِ، قَوِيّةٌ كَثيرةٌ بقُوّةِ سِلسِلةِ الكائِناتِ؛ إذ ما دامَ خَلْقُ السَّماواتِ والأَرضِ يَدُلّ على صانِعٍ قَدِيرٍ، ويَدُلُّ على قُدرَتِه المُطلَقةِ، وعلى كَمالِ تلك القُدرةِ لَدَيه، فلا بُدَّ مِنِ استِغناءٍ مُطلَقٍ عنِ الشُّرَكاءِ، أي: لا حاجةَ إلى شُرَكاءَ في أيِّ جِهةٍ كانَت. فإذْ لا احتِياجَ -كما تَرَى- فَلِمَ إذًا تَنساقُ في هذا المَسلَكِ المُظلِمِ؟ ما الَّذي يَدفَعُك إلى الدُّخُولِ هناك؟ وحيثُ لا حاجةَ إلى شُرَكاءَ، والكائِناتُ كلُّها مُستَغنِيةٌ عنِ الشُّرَكاءِ استِغناءً مُطلَقًا، فلا شَكَّ أنَّ وُجُودَ شَرِيكٍ للرُّبُوبيّةِ وفي الإيجادِ أيضًا مُمتَنِعٌ مُحالٌ كاستِحالةِ شَرِيكٍ للأُلُوهِيّةِ، لأنَّ القُدرةَ الَّتي يَملِكُها صانِعُ السَّماواتِ والأَرضِ قُدرةٌ لا مُنتَهَى لها، وهي في غايةِ الكَمالِ -كما أَثبَتْنا- ولو وُجِد شَرِيكٌ يَلزَمُ أن تكُونَ قُدرةٌ أُخرَى مُتَناهِيةٌ تَغلِبُ تلك القُدرةَ غيرَ المُتَناهِيةِ، والَّتي هي في غايةِ الكَمالِ، وتَستَولي على مَوضِعٍ مِنها فتَمنَعُ عدمَ تَناهِيها، وتَجعَلُها في وَضْعِ عَجْزٍ مَعنَوِيٍّ، وتَحُدُّها وهي غيرُ مَحدُودةٍ بالذّاتِ؛ بمَعنَى أنَّ شَيئًا مُتَناهِيًا يُنهِي ما لا يَتَناهَى وهو في كَمالِ لاتَناهِيه ويَجعَلُه مُتَناهِيًا!! وهذا هو أَبعَدُ المُحالاتِ وأَبعَدُ المُمتَنِعاتِ عنِ العَقلِ والمَنطِقِ.
ثمَّ إنَّ الشُّرَكاءَ مُستَغنًى عنها، ومُمتَنِعةٌ بالذّاتِ، كما أنَّ وُجُودَها مُحالٌ، فادِّعاءُ الشُّرَكاءِ إذًا ادِّعاءٌ تَحَكُّمِيٌّ ليس إلَّا، إذ لِعَدَمِ وُجُودِ سَبَبٍ لِادِّعاءِ تلك الدَّعوَى عَقْلًا ومَنطِقًا وفِكْرًا يُعَدُّ كَلامًا لا مَعنَى له، ويُطلَقُ على مِثلِ هذه الدَّعاوَى في عِلمِ الأُصُولِ مُصطَلحُ: “تَحَكُّمِيٌّ”، بمَعنَى أنَّه دَعوَى مُجَرَّدةٌ لا مَعنَى لها.
[قاعدة: لا عبرة بالاحتمال غير الناشئ عن دليل]
ومِنَ الدَّساتيرِ المُقَرَّرةِ في عِلمِ الكَلامِ والأُصُولِ: “لا عِبْرةَ للِاحتِمالِ غيرِ النّاشِئِ عن دليلٍ، ولا يُنافي الإمكانُ الذّاتِيُّ اليَقِينَ العِلْميَّ”.
مِثالُ ذلك: مِنَ المُمكِنِ والمُحتَمَلِ أن تَتَحوَّلَ بُحَيرةُ “بارْلا” إلى دِبسٍ وتَنقَلِبَ إلى دُهْنٍ، وهذا احتِمالٌ؛ ولكنَّ هذا الِاحتِمالَ لا يَنشَأُ مِن أَمارةٍ، فلا يُؤثِّر ولا يُلقي شَكًّا ولا شُبهةً في يَقِينِنا العِلميِّ بأنَّ البُحيرةَ مِن ماءٍ.
وعلى غِرارِ هذا فقد سَأَلْنا مِن كلِّ ناحِيةٍ مِن نَواحِي المَوجُوداتِ، ومِن كلِّ زاوِيةٍ مِن زَوايا الكائِناتِ، ومِن كلِّ شَيءٍ ابتِداءً مِنَ الذَّرّاتِ إلى السَّيّاراتِ -كما في المَوقِفِ الأَوَّلِ- ومِن خَلْقِ السَّماواتِ والأَرضِ إلى اختِلافِ أَلوانِ الإنسانِ وأَلسِنَتِه -كما يُشاهَدُ في هذا المَوقِفِ الثّاني- فكان الجوابُ: شَهادةَ صِدْقٍ للوَحْدانيّةِ بلِسانِ الحالِ، ودَلالةً قاطِعةً بوُجُودِ خَتْمِ التَّوحِيدِ المَضرُوبِ على كلِّ شَيءٍ. وقد شاهَدتَه بنَفسِك أيضًا.
لِذا فلا تُوجَدُ أيّةُ أَمارةٍ في مَوجُوداتِ الكائِناتِ يُمكِنُ أن يُبنَى علَيها احتِمالُ الشِّرْكِ، بمَعنَى أنَّ دَعوَى الشِّركِ دَعوَى تَحَكُّمِيّةٌ بَحْتةٌ، أو كَلامٌ لا مَعنَى له، ودَعوَى مُجَرَّدةٌ عنِ الحَقِيقةِ، لِذا فإنَّ مَنِ ادَّعَى الشِّركَ بعدَ هذا فهو إذًا في جَهالةٍ جَهْلاءَ وبَلاهةٍ بَلْهاءَ.
[هل للأسباب تأثير حقيقي؟]
فأَمامَ هذه الحُجَجِ الدّامِغةِ يَبقَى داعِيةُ أَهلِ الضَّلالةِ مَبهُوتًا لا يَتَمكَّنُ مِنَ النُّطقِ بشَيءٍ، إلّا أنَّه يقولُ: إنَّ ما في الكائِناتِ مِن تَرتيبِ الأَشياءِ، أَمارةٌ على الشِّركِ، إذْ كلُّ شَيءٍ مَربُوطٌ بسَببٍ، بمَعنَى أنَّ للأَسبابِ تَأْثيرًا حَقِيقيًّا، وإذ لها تَأثيرٌ، فيُمكِنُ أن تكُونَ شُركاءَ!
الجَوابُ: إنَّ المُسبَّباتِ قد رُبِطَت بالأَسبابِ بمُقتَضَى المَشِيئةِ الإلٰهِيّةِ والحِكْمةِ الرَّبّانيّةِ، ولِاستِلزامِ ظُهُورِ كَثيرٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى، يُربَطُ كلُّ شَيءٍ بسَببٍ؛ ولقد أَثبَتْنا في كَثيرٍ مِنَ المَواضِعِ، وفي كَلِماتٍ مُتَعدِّدةٍ إثباتًا قاطِعًا أنَّه ليس للأَسبابِ تَأثيرٌ حَقِيقيٌّ في الإيجادِ والخَلْقِ، ونقولُ هنا: إنَّ الإنسانَ بالبَداهةِ هو أَشرَفُ الأَسبابِ وأَوسَعُها اختِيارًا وأَشمَلُها تَصَرُّفًا في الأُمُورِ، وهو في أَظهَرِ أَفعالِه الِاختِيارِيّةِ، كالأَكلِ والكَلامِ والفِكْرِ -الَّتي كلٌّ مِنها عِبارةٌ عن سِلسِلةٍ عَجِيبةٍ وفي غايةِ الِانتِظامِ والحِكْمةِ- ليس له نَصِيبٌ مِنها إلّا واحِدًا مِن مِئةِ جُزءٍ مِنَ السِّلسِلةِ.
فمَثَلًا: سِلسِلةُ الأَفعالِ الَّتي تَبدَأُ مِنَ الأَكلِ وتَغذِيةِ الحُجَيراتِ حَتَّى تَبلُغَ تَشَكُّلَ الثَّمَراتِ -ليس للإنسانِ- ضِمنَ هذه السِّلسِلةِ الطَّوِيلةِ، إلّا مَضْغُه للطَّعامِ؛ ومِن سِلسِلةِ التَّكلُّم ليس له إلَّا إدخالُ الهَواءِ إلى قوالِبِ مَخارِجِ الحُرُوفِ وإخراجُه مِنها، عِلمًا أنَّ كَلِمةً واحِدةً في فَمِه معَ كَونِها كالبِذرةِ، إلّا أنَّها في حُكْمِ شَجَرةٍ حيثُ إنَّها تُثمِرُ مَلايِينَ الكَلِماتِ نَفسِها في الهَواءِ وتَدخُلُ إلى أَسماعِ مَلايِينِ المُستَمِعِين، بَينَما لا تَصِلُ إلى هذه الشَّجَرةِ المِثاليّةِ والسُّنبُلِ المِثاليِّ إلّا يَدُ خَيالِ الإنسانِ.. فأَنَّى لِليَدِ القَصِيرةِ لِلاختِيارِ أن تَصِلَ إلَيه.
فإن كان الإنسانُ وهو أَشرَفُ المَوجُوداتِ وأَكثَرُها اختِيارًا، مَغلُولَ اليَدِ عنِ الإيجادِ الحَقِيقيِّ، فكيف بالجَماداتِ والبَهائِمِ والعَناصِرِ والطَّبِيعةِ، كيف تكُونُ مُتَصرِّفةً تَصَرُّفًا حَقِيقيًّا؟!
فتلك الأَسبابُ ما هي إلّا أَغلِفةُ المَصنُوعاتِ الرَّبّانيّةِ، وظُرُوفُ الهَدايا الرَّحمانيّةِ، وخَدَمةٌ لِتَقدِيمِها.. فلا شَكَّ أنَّ الصُّحُونَ الَّتي تُقدَّمُ فيها هَدايا السُّلطانِ، أوِ القِماشَ المُغَلَّفَ للهَدِيّةِ، أوِ الجُندِيَّ الَّذي سُلِّمَت بيَدِه هَدِيّةُ السُّلطانِ، لن يكُونَ شَرِيكًا للسُّلطانِ قَطْعًا، فمَن تَوَهَّم ذلك فقد تَفوَّه بِهَذَيانٍ ما بعدَه هَذَيانٌ.
وهكذا ليس للأسبابِ الظّاهِرِيّةِ والوَسائِطِ الصُّورِيّةِ حِصّةٌ في الرُّبوبيّةِ الإلٰهِيّةِ قَطْعًا، وليس لها إلَّا القِيامُ بخِدْماتِ العُبُودِيّةِ.
[المقصد الثاني: الأحدية والصمدية]
المَقصَدُ الثّاني
بعدَ أن عَجَز داعِيةُ أَهلِ الشِّركِ عن إثباتِ مَسلَكِ الشِّركِ، ويَئِسَ مِن إثباتِه في أَيّةِ جِهةٍ كانَت، رَغِبَ في مُحاوَلةِ إلقاءِ شُكُوكِه وشُبُهاتِه لِهَدْمِ مَسلَكِ أَهلِ التَّوحِيدِ.
[س2: كيف يمكن لذاتٍ واحدٍ أن يعمل أعمالًا بلا نهاية في أماكن بلا نهاية؟]
فسَأَلَ السُّؤالَ الثّانِيَ قائِلًا: “يا أَهلَ التَّوحِيدِ، أَنتُم تقُولُون: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ﴾، أي إنَّ خالِقَ العالَمِ واحِدٌ، أَحَدٌ، صَمَدٌ، وهو خالِقُ كلِّ شَيءٍ، بِيَدِه مَقاليدُ كلِّ شَيءٍ، وهو الأَحَدُ الفَرْدُ، بِيَدِه مَفاتِيحُ كلِّ شَيءٍ، آخِذٌ بِناصِيةِ كلِّ شَيءٍ، يَتَصرَّفُ في الأَشياءِ كُلِّها في آنٍ واحِدٍ، بأَحوالِها كافّةً دُونَ أن يَمنَعَ شَيءٌ شَيْئًا.. كيف يُمكِنُ تَصدِيقُ حَقِيقةٍ عَجِيبةٍ كهذه؟ فهل يُمكِنُ لِواحِدٍ مُشَخَّصٍ أن يَقُومَ بأَعمالٍ غيرِ مُتَناهِيةٍ في أَماكِنَ غيرِ مُتَناهِيةٍ وبلا صُعُوبةٍ؟!“.
الجوابُ: يُجابُ عن هذا السُّؤالِ بِبَيانِ سِرٍّ مِن أَسرارِ الأَحَدِيّةِ والصَّمَدانيّةِ، الَّذي هو في غايةِ العُمْقِ ومُنتَهَى الرِّفعةِ ونِهايةِ السَّعَةِ، حتَّى إنَّ فِكْرَ الإنسانِ يَقصُرُ عن فَهْمِ ذلك السِّرِّ العَظِيمِ إلّا بمِنظارِ التَّمثِيلِ ورَصْدِ المَثَلِ؛ وحيثُ إنَّه لا مِثْلَ ولا مَثِيلَ لِذاتِ اللهِ سُبحانَه ولا لِصِفاتِه الجَلِيلةِ، إلّا ما كان مِنَ المَثَل والتَّمثِيلِ في شُؤُونِه الحَكِيمةِ، لِذا نُشِيرُ إلى ذلك السِّرِّ بأَمثِلةٍ مادِّيّةٍ:
[مثال1: المرايا]
المِثالُ الأوَّل: كما أَثْبَتْنا في “الكَلِمةِ السّادِسةَ عَشْرةَ” أنَّ شَخْصًا واحِدًا يَكسِبُ صِفةً كُلِّيّةً بواسِطةِ المَرايا، ومعَ كَوْنِه جُزئيًّا حَقِيقيًّا يُصْبِحُ في حُكْمِ كُلِّيٍّ مالِكٍ لِشُؤُونٍ كَثِيرةٍ.
وكما أنَّ الزُّجاجَ والماءَ وأَمثالَهما مِنَ المَوادِّ تكُونُ مَرايا للأَشياءِ الجِسمانيّةِ (المادِّيّةِ) وتُكسِبُ الشَّيءَ المادِّيَّ صِفةً كُلِّيّةً، كذلك الهَواءُ والأَثيرُ وبعضُ مَوجُوداتِ عالَمِ المِثالِ يُصبِحُ في حُكْمِ مَرايا النُّورانيِّين والرُّوحانيِّين، ويَتَحوَّلُ إلى صُورةِ وَسائِطَ للسَّيرِ والسِّياحةِ في سُرعةِ البَرقِ والخَيالِ، بحيثُ يَتَجوَّلُ أُولَئِك النُّورانيّون والرُّوحانيُّون في تلك المَرايا الطّاهِرةِ، وفي تلك المَنازِلِ اللَّطِيفةِ في سُرعةِ الخَيالِ، فيَدخُلُون في آنٍ واحِدٍ أُلُوفَ الأَماكِنِ والمَواضِعِ؛ وحيثُ إنَّهم نُورانيُّون وصُوَرُهم في المَرايا هي عَينُهم ومالِكةٌ لِصِفاتِهم -بخِلافِ الجِسمانيِّين- فإنَّهم يُسَيطِرُون على تلك الأَماكِنِ كأَنَّهم مَوجُودون فيها بذَواتِهم. بَينَما صُوَرُ الجِسمانيِّين الكَثِيفةُ، لَيسَت عَيْنَها، كما أنَّها لَيسَت مالِكةً لِصِفاتِها، فهي مَيتةٌ.
مَثلًا: الشَّمسُ، مع أنَّها جُزئيٌّ مُشَخَّصٌ، إلّا أنَّها تُصبِحُ في حُكْمِ كُلِّيٍّ بواسِطةِ المَوادِّ اللَّمّاعةِ، إذ تُعطِي صُورَتَها ومِثالَها إلى كلِّ مادّةٍ لَمّاعةٍ على سَطْحِ الأَرضِ، وإلى كلِّ قَطْرةِ ماءٍ، وإلى كلِّ قِطْعةِ زُجاجٍ، كلٌّ حَسَبَ قابِلِيَّتِه، فتكُونُ حَرارةُ الشَّمسِ وضِياؤُها وما فيه مِن أَلوانٍ سَبعةٍ، معَ نَوعٍ مِن صُورةِ ذاتِها المِثاليّةِ، مَوجُودةً في كلِّ جَسمٍ لَمَّاعٍ.
فلو فُرِضَ أنَّ للشَّمسِ عِلْمًا وشُعُورًا، لَكانَت كلُّ مِرآةٍ شَبِيهةً بمَنزِلِها وبمَثابةِ عَرْشِها وكُرسِيِّها، وتَلتَقِي بِذاتِها كلَّ شَيءٍ، وتَتَّصِلُ -كما في الهاتِفِ- معَ كلِّ ذِي شُعُورٍ بواسِطةِ المَرايا، بل حتَّى بِبُؤْبُؤِ عَينِه؛ فما يَمنَعُ شَيءٌ شَيئًا، ولا تَحجُبُ مُخابَرةٌ بالهاتِفِ مُخابَرةً أُخرَى، فمعَ أنَّها مَوجُودةٌ في كلِّ مَكانٍ إلّا أنَّها لا يَحُدُّها مَكانٌ.
فالشَّمسُ الَّتي هي في حُكْمِ مِرآةٍ مادِّيّةٍ وجُزئيّةٍ وجامِدةٍ لِاسمٍ واحِدٍ مِن أَلفِ اسمٍ واسمٍ مِنَ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى وهو “النُّورُ”، إن كانَت معَ تَشَخُّصِها تَنالُ إلى هذه الدَّرَجةِ مِنَ الأَفعالِ الكُلِّيّةِ وتكُونُ في أَماكِنَ كُلِّيّةٍ، أفلا يَستَطِيعُ ذلك الجَلِيلُ ذُو الجَلالِ بأَحَدِيَّتِه الذّاتيّةِ أن يَفعَلَ ما لا يَتَناهَى مِنَ الأَفعالِ في آنٍ واحِدٍ؟!
[مثال2: الشجرة]
المِثالُ الثّاني: لَمّا كانَتِ الكائِناتُ في حُكْمِ شَجَرةٍ، يُمكِنُ اتِّخاذُها إذًا مِثالًا لِإِظهارِ حَقائِقِ الكائِناتِ؛ فنَأْخُذُ هذه الشَّجَرةَ الضَّخْمةَ الَّتي أَمامَ غُرفَتِنا، وهي شَجَرةُ الدُّلْبِ العَظِيمةُ، بوَصْفِها مِثالًا مُصَغَّرًا لِلكائِناتِ. وسنُبيِّنُ تَجَلِّيَ الأَحَدِيّةِ في الكائِناتِ بوَساطَتِها، على النَّحْوِ الآتي:
إنَّ لِهذه الشَّجَرةِ ما لا يَقِلُّ عن عَشَرةِ آلافِ ثَمَرةٍ، ولِكُلِّ ثَمَرةٍ ما لا يَقِلُّ عن مِئاتٍ مِنَ البُذُورِ المُجَنَّحةِ، أي إنَّ كلَّ هذه الأَثمارِ العَشَرةِ آلافٍ والمِليُونِ مِنَ البُذُورِ تكُونُ مَوضِعَ الإيجادِ والإتقانِ في آنٍ واحِدٍ؛ بَينَما تُوجَدُ العُقدةُ الحَياتيّةُ في البِذْرةِ الأَصلِيّةِ لِهذه الشَّجَرةِ، وفي جَذْرِها وفي جِذْعِها، وهي شَيءٌ جُزئيٌّ ومُشَخَّصٌ مِن تَجَلِّي الإرادةِ الإلٰهِيّةِ ونَواةٌ مِنَ الأَمرِ الرَّبّانِيِّ. وبهذا التَّجَلِّي الجُزئيِّ تتكَوَّنُ مَركَزِيّةُ قَوانينِ تَشكِيلِ الشَّجَرةِ، المَوجُودةُ في بِدايةِ كلِّ غُصنٍ وداخِلَ كلِّ ثَمَرةٍ وجَنْبَ كلِّ بِذْرةٍ، بحيثُ لا تَدَعُ شَيئًا ناقِصًا لِأَيِّ جُزءٍ مِن أَجزاءِ الشَّجَرةِ ولا يَمنَعُها مانِعٌ.
ثمَّ إنَّ ذلك التَّجَلِّيَ الواحِدَ للإرادةِ الإلٰهِيّةِ والأَمرِ الرَّبّانِيِّ، لا يَنتَشِرُ إلى كلِّ مَكانٍ، كانتِشارِ الضِّياءِ والحَرارةِ والهَواءِ، لأنَّه لا يَتْرُكُ أَثرًا في تلك المَسافاتِ البَعِيدةِ للأَماكِنِ الَّتي يَذهَبُ إلَيها، وفي المَصنُوعاتِ المُختَلِفةِ، بل لا يُرَى له أَثَـرٌ قَطُّ، إذْ لو كان ذلك بالِانتِشارِ لَبَانَ الأثَرُ؛ وإنَّما يكُونُ جَنْبَ كلِّ جُزءٍ مِنَ الأَجزاءِ دُونَ تَجزِئةٍ ولا انتِشارٍ، ولا تُنافي تلك الأَفعالُ الكُلِّيّةُ أَحَديَّتَه وذاتيَّتَه. لِذا يَصِحُّ أن يُقالَ: إنَّ ذلك التَّجَلِّيَ للإرادةِ وذلك القانُونَ الأَمرِيَّ، وتلك العُقدةَ الحَياتيّةَ مَوجُودةٌ جَنْبَ كلِّ جُزءٍ مِنَ الأَجزاءِ، ولا يَنحَصِرُ في أيِّ مَكانٍ أَصلًا؛ حتَّى كأنَّ في هذه الشَّجَرةِ المَهِيبةِ عُيُونًا وآذانًا لذلك القانُونِ الأَمْرِيِّ، بعَدَدِ الأَثمارِ والبُذُورِ، بل إنَّ كلَّ جُزءٍ مِن أَجزاءِ الشَّجَرةِ في حُكْمِ مَركَزٍ لِحَواسِّ ذلك القانُونِ الأَمرِيِّ، بحيثُ لا تكُونُ المَسافاتُ البَعِيدةُ مانِعًا بل وَسِيلةَ تَسهِيلٍ وتَقرِيبٍ -كأَسلاكِ الهاتِفِ- فالأَبعَدُ كالأَقرَبِ سَواءً بسَواءٍ.
فما دُمْنا نُشاهِدُ تَجَلِّيًا جُزئيًّا واحِدًا مِن تَجَلِّياتِ صِفةِ الإرادةِ للأَحَدِ الصَّمَدِ، في مِليُونٍ مِنَ الأَمكِنةِ، ويكُونُ مَبعَثَ مَلايِينِ الأَفعالِ، دُونَ داعٍ إلى وَساطةٍ، فلا بُدَّ مِن لُزُومِ اليَقِينِ بدَرَجةِ الشُّهُودِ، بقُدرةِ الذّاتِ الجَلِيلةِ على التَّصَرُّفِ في شَجَرةِ الخَلْقِ، بجَمِيعِ أَجزائِها وذَرّاتِها معًا، بتَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ قُدرَتِه وإرادَتِه سُبحانَه وتَعالَى.
وكما أَثبَتْنا وأَوْضَحْنا في “الكَلِمةِ السّادِسةَ عَشْرةَ”، نقُولُ هنا: إنَّ مَخلُوقاتٍ عاجِزةً ومُسَخَّرةً كالشَّمسِ، ومَصنُوعاتٍ شِبْهَ نُورانيّةٍ مُقيَّدةً بالمادّةِ كالرُّوحانِيِّ، وقَوانينَ أَمرِيّةً وجَلَواتٍ إرادِيّةً كعُقْدةِ الحَياةِ ومَركَزِ التَّصَرُّفِ لِشَجَرةِ الدُّلْبِ الَّتي هي نُورٌ ورُوحٌ مَعنَوِيٌّ لِتِلك الشَّجَرةِ، إن كان يُمكِنُ أن تُوجَدَ في مَوضِعٍ واحِدٍ وفي عِدّةِ مَواضِعَ في الوَقْتِ نَفسِه، بسِرِّ النُّورانيّةِ؛ إذ بَينَما هو جُزئيٌّ مُقيَّدٌ، يَكسِبُ حُكْمًا كُلِّـيًّا مُطلَقًا، يَفعَلُ باختِيارٍ جُزئيٍّ أَعمالًا كَثِيرةً في آنٍ واحِدٍ.. فكيف إذًا بمَن هو مُجَرَّدٌ عنِ المادّةِ، ومُقدَّسٌ عنها، ومَن هو مُنزَّهٌ عنِ التَّحدِيدِ بالقَيدِ وظُلمةِ الكَثافةِ، ومُبَرَّأٌ عنها، بل ما هذه الأَنوارُ والنُّورانيّاتُ كلُّها إلّا ظِلالٌ كَثيفةٌ لِأَنوارِ أَسمائِه الحُسنَى، وما جَمِيعُ الوُجُودِ والحَياةُ كلُّها وعالَمُ الأَرواحِ وعالَمُ المِثالِ إلّا مَرايا شِبهُ شَفّافةٍ لإظهارِ جَمالِ ذلك القُدُّوسِ الجَلِيلِ الَّذي صِفاتُه مُحِيطةٌ بكلِّ شَيءٍ وشُؤُونُه شامِلةٌ كلَّ شَيءٍ.
تُرَى أيُّ شَيءٍ يَستَطِيعُ أن يَتَستَّر عن تَوَجُّهِ أَحَديَّتِه في تَجَلِّي صِفاتِه المُحِيطةِ، وتَجَلِّي أَفعالِه بإرادَتِه الكُلِّيّةِ وقُدرَتِه المُطلَقةِ وعِلْمِه المُحِيطِ بكلِّ شَيءٍ؟ وأيُّ شَيءٍ يَصعُبُ علَيه؟ وأيُّ مَكانٍ يَستَطِيعُ أن يَختَفِيَ عنه؟ وأيُّ فَرْدٍ يَستَطِيعُ أن يَبتَعِدَ عنه؟ وأيُّ شَخصٍ أن يَتَقرَّبَ مِنه دُونَ أن يَكتَسِبَ الكُلِّيّةَ؟ أوَيُمكِنُ أن يَتَخفَّى مِنه شَيءٌ؟ أوَيُمكِنُ أن يَمنَعَ شَيءٌ شَيئًا؟ أفيُمكِنُ أن يَخلُوَ مَوضِعٌ مِن حُضُورِه؟ ألا يكُونُ له بَصَرٌ مَعنَوِيٌّ يُبصِرُ كلَّ مَوجُودٍ، وسَمْعٌ مَعنَوِيٌّ يَسمَعُ كلَّ مَوجُودٍ، كما قال ابنُ عَبّاسٍ رَضِيَ الله عَنهُ؟
أوَلا تكُونُ سِلسِلةُ الأَشياءِ كالأَسلاكِ والعُرُوقِ لِجَرَيانِ أَوامِرِه وقَوانينِه بسُرعةٍ؟ أفلا تكُونُ المَوانِعُ والعَوائِقُ وَسائِلَ ووَسائِطَ لِتَصرُّفِه؟ أوَلا تكُونُ الأَسبابُ والوَسائِطُ حُجُبًا ظاهِرِيّةً بَحْتةً؟
ألا يكُونُ في كلِّ مَكانٍ وهو المُنزَّهُ عنِ المَكانِ؟ أيُمكِنُ أن يكُونَ مُحتاجًا إلى التَّحيُّزِ والتَّمكُّنِ؟ أيُمكِنُ أن يكُونَ البُعدُ والصِّغَرُ وحُجُبُ طَبَقاتِ الوُجُودِ مَوانِعَ لِقُربِه وتَصَرُّفه وشُهُودِه؟ وهل يُمكِنُ أن تَلحَقَ بالذّاتِ المُقدَّسةِ للهِ سُبحانَه المُجَرَّدِ عنِ المادّةِ، الواجِبِ الوُجُودِ، نُورِ الأَنوارِ الواحِدِ الأَحَدِ، المُنزَّهِ عنِ القُيُودِ، المُبَرَّأِ عنِ الحُدُودِ، المُقدَّسِ عنِ القُصُورِ، والمُعَلَّى عنِ النُّقصانِ.. خَواصُّ المادِّيّاتِ والمُمكِناتِ والكَثِيفاتِ والكَثِيراتِ والمُقيَّداتِ، وما يَلزَمُ المادّةَ والإمكانَ والكَثافةَ والكَثرةَ والتَّقيُّدَ والمَحدُودِيّةَ مِن أُمُورٍ، أَمثالَ التَّغيُّرِ والتَّبدُّلِ والتَّحيُّزِ والتَّجَزُّؤِ؟ أَيلِيقُ به العَجْزُ؟ أيَقرُبُ القُصُورُ مِن طَرَفِ عِزَّتِه الجَلِيلةِ جَلَّ جَلالُه؟! حاشَ لله، وكلَّا، وتَعالَى عن ذلك عُلُوًّا كَبِيرًا.
[خاتمة: تفكُّر متسلسل]
خاتمة المَقصَد الثاني
بَينَما كُنتُ مُتَأمِّلًا ومُستَغرِقًا في تَفَكُّرٍ يَخُصُّ الأَحَديّةَ، نَظَرتُ إلى ثَمَراتِ شَجَرةِ الدُّلْبِ القَرِيبةِ مِن غُرفَتي، فخَطَر إلى القَلبِ تَفَكُّرٌ مُتَسَلسِلٌ بعِباراتٍ عَرَبيّة، فكَتَبتُه كما وَرَد بالعَرَبيّةِ، وسأَذكُرُ تَوضِيحًا مُختَصَرًا له.
نَعَم، فَالأَثمَارُ والبُذُورُ مُعجِزاتُ الحِكمةِ، خَوارِقُ الصَّنعةِ، هَدايا الرَّحمةِ، بَراهِينُ الوَحدةِ، بَشائِرُ لُطْفِه في دارِ الآخِرة، شَواهِدُ صادِقةٌ بأنَّ خَلّاقَها على كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، وبِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ، قد وَسِعَ كُلَّ شَيءٍ بالرَّحمةِ والعِلمِ والخَلقِ والتَّدبيرِ والصُّنعِ والتَّصوِيرِ؛ فالشَّمسُ كالبِذرةِ والنَّجمُ كالزَّهرةِ والأَرضُ كالحَبّةِ، لا تَثقُلُ علَيه بالخَلقِ والتَّدبيرِ والصُّنعِ والتَّصوير.
فالبُذُورُ والأثمارُ مَرايا الوَحدةِ في أقْطارِ الكَثرةِ، إشاراتُ القَدَرِ، رُمُوزاتُ القُدرَةِ بأنَّ تلك الكَثْرةَ مِن مَنبَعِ الوَحدةِ، تَصدُرُ شاهِدَةً لِوَحدةِ الفَاطِرِ في الصُّنعِ والتَّصويرِ؛ ثُمَّ إلى الوَحدَةِ تَنتَهي ذَاكِرَةً لِحِكمَةِ الصَّانِعِ في الخَلقِ والتَّدبيِرِ؛ وتَلْوِيحاتُ الحِكمَةِ بأنَّ خَالِقَ الكُلِّ بِكُلِّـيّةِ النَّظَرِ إلى الجُزْئيِّ يَنظُرُ، ثُمَّ إلى جُزْئِه، إذ إن كانَ ثَمَرًا فهو المَقْصُودُ الأَظهَرُ مِن خَلقِ هذا الشَّجَرِ.
فالبَشَرُ ثَمَرٌ لِهَذِه الكائِناتِ، فهُوَ المَقصُودُ الأَظهَرُ لِخَالِقِ المَوجُوداتِ، والقَلبُ كالنَّواةِ، فهُوَ المِرآةُ الأَنوَرُ لِصانِعِ المَخلُوقاتِ؛ ومِن هذِه الحِكمةِ فالإنسانُ الأَصغَرُ في هذِه الكائِناتِ هُوَ المَدارُ الأَظهَرُ للنَّشرِ والمَحشَرِ في هذِه المَوجُوداتِ، والتَّخرِيبِ والتَّبدِيلِ والتَّحوِيلِ والتَّجدِيدِ لِهَذِه الكَائِناتِ.
ومَبدَأُ هذه الفِقْرةِ العَرَبيّةِ هو: فسُبْحانَ مَن جَعَلَ حَدِيقَةَ أَرضِهِ مَشْهَرَ صَنعَتِهِ، مَحْشَرَ فِطْرَتِهِ، مَظْهَرَ قُدرَتِهِ، مَدَارَ حِكْمَتِهِ، مَزْهَرَ رَحْمَتِهِ، مَزْرَعَ جَنَّتِهِ، مَمَرَّ المَخْلُوقَاتِ، مَسِيلَ المَوجُودَاتِ، مَكيلَ المَصْنُوعَاتِ.
فَمُزَيَّنُ الحَيَوانَاتِ، مُنَقَّشُ الطُّيوراتِ، مُثَمَّرُ الشَّجَراتِ، مُزَهَّرُ النَّبَاتَاتِ: مُعْجِزَاتُ عِلمِهِ، خَوَارِقُ صُنعِهِ، هَدايَا جُودِهِ، بَراهِينُ لُطْفِهِ.
تَبَسُّمُ الأزهَارِ مِن زينَةِ الأثْمَارِ، تَسَجُّعُ الأطيَارِ في نَسَمَةِ الأسْحَارِ، تَهَزُّجُ الأَمطَار عَلى خُدُودِ الأَزهَارِ، تَرَحُّمُ الوَالِدَاتِ على الأَطفَالِ الصِّغَارِ.. تَعَرُّفُ وَدُودٍ، تَوَدُّدُ رَحمٰنٍ، تَرَحُّمُ حَنّانٍ، تَحَنُّنُ مَنّانٍ للِجِنِّ والإنسانِ والرُّوحِ والحَيَوَانِ وَالمَلَكِ وَالجَانِّ.
وتَوضِيحُ هذا التَّفكُّرِ الَّذي وَرَد باللُّغةِ العَرَبيّةِ هو أنَّ جَمِيعَ الأَثمارِ وما فيها مِن بُذَيراتٍ، مُعجِزاتُ الحِكْمةِ الإلٰهِيّةِ.. خَوارِقُ الصَّنْعةِ الإلٰهِيّةِ.. هَدايا الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ.. بَراهِينُ مادِّيّةٌ للوَحْدانيّةِ.. بَشائِرُ الأَلطافِ الإلٰهِيّة في الدّارِ الآخِرةِ.. شَواهِدُ صادِقةٌ بأنَّ خَلّاقَها على كلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، وبكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ.. فالبُذُورُ والأَثمارُ، مَرايا الوَحْدةِ في أَقطارِ عالَمِ الكَثْرةِ، وفي أَطرافِ هذه الشَّجَرةِ المُتَشعِّبةِ كالعالَمِ، تَصرِفُ الأَنظارَ مِن الكَثْرةِ إلى الوَحْدةِ. فكُلُّ ثَمَرٍ وبِذْرٍ يقُولُ بلِسانِ الحالِ: لا تَتَشتَّتْ في هذه الشَّجَرةِ الضَّخْمةِ المُمتَدّةِ الأَعضاءِ والعُرُوقِ، فكُلُّ ما فيها فينا، كَثْرَتُها داخِلةٌ ضِمنَ وَحْدَتِنا، حتَّى إنَّ البِذرةَ -وهي كقَلْبِ الثَّمَرةِ- هي الأُخرَى مِرآةٌ مادِّيّةٌ للوَحْدانيّةِ، فهي تَذكُرُ الأَسماءَ الحُسنَى ذِكْرًا قَلبِيًّا خَفِيًّا بمِثلِ ما تَذكُرُها الشَّجَرةُ ذِكْرًا جَهْرِيًّا.
فكَما أنَّ تلك الأَثمارَ والبُذُورَ مَرايا للوَحْدانيّةِ، فهي إشاراتٌ مَشهُوداتٌ للقَدَرِ، رُمُوزاتٌ مُجَسَّماتٌ للقُدرةِ، بحيثُ إنَّ القَدَرَ يُشِيرُ بها، والقُدرةَ تقولُ بها رَمْزًا: إنَّ هذه الشَّجَرةَ بأَغصانِها المُتَشابِكةِ قد نَمَت مِن بِذْرةٍ، فهي تَدُلُّ على وَحْدانيّةِ صانِعِها في الإيجادِ والتَّصوِيرِ، ثمَّ تَجمَعُ حَقِيقَتَها في ثَمَرةٍ بعدَ تَشَعُّبِ أَغصانِها وفُرُوعِها وتُدرِجُ مَعانيها كلَّها في بِذْرةٍ، فتَدُلُّ على حِكْمةِ خالِقِها الجَلِيلِ في الخَلْقِ والتَّدبِيرِ.
وكذلك شَجَرةُ الكائِناتِ هذه، فهي تَأْخُذُ وُجُودَها مِن مَنبَعِ الوَحْدانيّةِ وتَتَربَّى بها، وتُثمِرُ ثَمَرةَ الإنسانِ الدّالِّ على الوَحْدانيّةِ في هذه الكَثْرةِ مِنَ المَوجُوداتِ؛ وقَلبُه يَرَى سِرَّ الوَحْدانيّةِ بعَينِ الإيمانِ في هذه الكَثْرةِ.
وكذا، فإنَّ تلك الأَثمارَ والبُذُورَ تَلْوِيحاتُ الحِكْمةِ الرَّبّانيّةِ، فالحِكْمةُ تَنطِقُ بها وتُشعِرُ أَهلَ الشُّعُورِ بما يأتي:
إنَّ النَّظَرَ الكُلِّيَّ والتَّدبِيرَ الكُلِّيَّ في هذه الشَّجَرةِ، بكُلِّ شُمُوليَّتِهِما وسَعَتِهِما، يَتَوجَّهانِ إلى هذه الثَّمَرةِ، لأنَّ تلك الثَّمَرةَ مِثالٌ مُصَغَّرٌ لتلك الشَّجَرةِ، وهي المَقصُودُ مِنها، وذلك النَّظَرُ الكُلِّيُّ والتَّدبِيرُ العُمُوميُّ يَنظُرُ إلى ما في داخِل الثَّمَرةِ مِن بِذْرٍ أَيضًا، إذِ البِذرةُ تَحمِلُ مَعانِيَ الشَّجَرةِ وفِهْرِسَها، بمَعنَى أنَّ الَّذي يُدَبِّـرُ أُمُورَ الشَّجَرةِ بأَسمائِه الَّتي لَها علاقةٌ بِتَدبِيرِها مُتَوجِّهٌ إلى كلِّ ثَمَرةٍ مِن ثَمَراتِ الشَّجَرةِ الَّتي هي المَقصُودةُ مِن إيجادِ الشَّجَرةِ..
وهذه الشَّجَرةُ الضَّخْمةُ قد تُقَلَّمُ وتُكَسَّرُ بعضُ أَغصانِها، للتَّجدِيدِ، لِأَجلِ تلك الثَّمَراتِ الصَّغِيرةِ، وتُطَعَّمُ لِتُثمِرَ ثَمَراتٍ باقيةً، أَبهَى جَمالًا وأَزهَى لَطافةً؛ كذلك الإنسانُ الَّذي هو ثَمَرةُ شَجَرةِ الكائِناتِ، إذِ المَقصُودُ مِن إيجادِها إنَّما هو الإنسانُ، وغايةُ إيجادِ المَوجُوداتِ هي الإنسانُ، وبِذْرةُ تلك الثَّمَرةِ قَلبُ الإنسانِ، فهُو أَنوَرُ مِرآةٍ للصّانِعِ الجَلِيلِ وأَجمَعُها. وهكذا، بِناءً على هذه الحِكْمةِ، أَصبَحَ الإنسانُ الصَّغِيرُ هذا مِحْوَرَ انقِلاباتٍ عَظِيمةٍ للحَشْرِ والنُّشُورِ، وسَبَبًا لِدَمارِ الكائِناتِ وتَبدِيلِها، إذ يَنسَدُّ بابُ الدُّنيا لِأَجلِ مُحاكَمَتِه، ويُفتَحُ بابُ الآخِرةِ لِأَجلِه.
وإذ وَرَد بَحثٌ في الآخِرةِ، فقد آنَ أَوانُ ذِكْرِ حَقِيقةٍ بَلِيغةٍ تُبيِّنُ جانِبًا مِن جَزالةِ بَيانِ القُرآنِ الكَرِيمِ وقُوّةِ تَعابِيرِه في مَعرِض إثباتِ الحَشْرِ، وهي: أنَّ نَتِيجةَ هذا التَّفكُّرِ تُبيِّنُ أنَّه لِأَجلِ مُحاكَمةِ الإنسانِ وفَوْزِه بالسَّعادةِ الأَبَديّةِ، يُدَمَّرُ الكَوْنُ كلُّه إذا لَزِمَ الأَمرُ، فالقُوّةُ القادِرةُ على التَّدميرِ والتَّبدِيلِ مَوجُودةٌ فِعلًا وهي ظاهِرةٌ ومَشهُودةٌ، إلّا أنَّ لِلحَشرِ مَراتِبَ:
مِنها ما يَلْزَمُ مَعرِفتُه، والإيمانُ به فَرضٌ، وقِسمٌ آخَرُ يَظهَرُ حَسَبَ دَرَجاتِ التَّرقِّياتِ الرُّوحِيّةِ والفِكْريّةِ، ويكونُ عِلمُه والمَعرِفةُ به ضَرُورِيًّا.
فالقُرآنُ الكَرِيمُ لِأَجلِ إثباتِ أَبسَطِ وأَسهَلِ مَرتَبةٍ مِن مَراتِبِ الحَشْرِ إثباتًا قاطِعًا يُبيِّنُ قُدرةً قادِرةً على فَتْحِ أَوسَعِ دائِرةٍ مِن دَوائِرِ الحَشْرِ وأَعظَمِها.
فمَرتَبةُ الحَشْرِ الَّذي يَلْزَمُ العُمُومَ الإيمانُ به، هي أنَّ النّاسَ بعدَ المَوتِ تَذهَبُ أَرواحُهم إلى مَقاماتٍ أُخرَى وأَجسادُهم تَرِمُّ إلّا عَجْبَ الذَّنَبِ الَّذي هو جُزءٌ صَغِيرٌ لا يَندَثِرُ مِن جِسمِ الإنسانِ وهو في حُكْمِ بِذْرة، وأنَّ الله سُبحانَه يُنشِئُ مِن هذا الجُزءِ الصَّغِيرِ جَسَدَ الإنسانِ يَومَ الحَشْرِ، ويَبعَثُ إلَيه رُوحَه.
فهذه المَرتَبةُ مِنَ الحَشْرِ سَهلةٌ إلى دَرَجةِ أنَّ لها المَلايِينَ مِنَ الأَمثِلةِ في كلِّ رَبيعٍ، إلّا أنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ لِأَجلِ إثباتِ هذه المَرتَبةِ السَّهلةِ، يُبيِّنُ أَحيانًا قُدرةً قادِرةً على حَشْرِ جَمِيعِ الذَّرّاتِ ونَشْرِها، وأَحيانًا يُبيِّنُ آثارَ قُدْرةٍ وحِكْمةٍ تَتَمكَّنُ مِن إرسالِ المَخلُوقاتِ كافّةً إلى الفَناءِ والعَدَمِ، ثمَّ إعادَتِها مِن هناك.. ويُبيِّنُ في بعضِ آياتِه آثارَ وتَدابِيرَ قُدْرةٍ وحِكْمةٍ لها مِنَ المَقدِرةِ على نَثْرِ النُّجُومِ وشَقِّ السَّماواتِ وفَطْرِها.. وتُبيِّنُ آياتٌ أُخرَى تَدابِيرَ قُدْرةٍ وحِكْمةٍ قادِرةٍ على إماتةِ جَمِيعِ ذَوِي الحَياةِ وبَعثِهم بصَيْحةٍ واحِدةٍ، دُفْعةً واحِدةً.. ويُبيِّنُ في أُخرَى تَجَلِّياتِ قُدْرةٍ وحِكْمةٍ قادِرةٍ على حَشْرِ ما على الأَرضِ مِن ذَوِي الحَياةِ، ونَشْرِه كلًّا على انفِرادٍ.. ويُبيِّنُ أَحيانًا آثارَ قُدرةٍ وحِكْمةٍ قادِرةٍ على بَعثَرةِ الأَرضِ كلِّها ونَسْفِ الجِبالِ وتَبدِيلِها إلى صُورةٍ أَجمَلَ مِنها، بمَعنَى أنَّه مِمّا سِوَى مَرتَبةِ الحَشْرِ الَّذي هو مَفرُوضٌ على الجَمِيعِ الإيمانُ به ومَعرِفَتُه، فإنَّ كَثِيرًا مِن مَراتِبِه يُمكِنُ أن تَتَحقَّقَ بتلك القُدرةِ والحِكْمةِ، فإذا ما اقْتَضَتِ الحِكْمةُ الرَّبّانيّةُ قِيامَها، فلا بُدَّ أنَّه سيُقِيمُها جَمِيعًا معَ حَشْرِ الإنسانِ ونَشْرِه، أو سيُقِيمُ بعضًا مُهِمًّا مِنها.
[سؤال: القياس التمثيلي لا يفيد اليقين فكيف تستدل به؟]
سؤالٌ: تقُولُون: إنَّك تَستَعمِلُ في “الكَلِماتِ” القِياسَ التَّمثِيليَّ كَثِيرًا، بَينَما القِياسُ التَّمثِيليُّ لا يُفيدُ اليَقِينَ حَسَبَ “عِلْمِ المَنطِقِ”، إذ يَلزَمُ البُرهانُ المَنطِقِيُّ في المَسائِلِ اليَقِينيّةِ، أمّا القِياسُ التَّمثِيليُّ فيُستَعمَلُ في المَطالِبِ الَّتي يَكفِيها الظَّنُّ الغالِبُ، كما هو لَدَى عُلَماءِ أُصُولِ الفِقهِ.
فَضْلًا عن أنَّك تَذكُرُ التَّمثِيلاتِ في أُسلُوبِ الحِكايةِ، والحِكايةُ تكُونُ خَياليّةً لا حَقِيقيّةً، وقد تكُونُ مُخالِفةً للواقِعِ.
الجَوابُ: نعم، لقد وَرَد في عِلْمِ المَنطِقِ: أنَّ القِياسَ التَّمثِيليَّ لا يُفِيدُ اليَقِينَ العِلْميَّ، إلّا أنَّ للقِياسِ التَّمثِيليِّ نَوْعًا هو أَقوَى بكَثيرٍ مِنَ البُرهانِ اليَقِينيِّ للمَنطِقِ، بل هو أَكثَرُ يَقِينًا مِنَ الضَّرْبِ الأَوَّلِ مِنَ الشَّكلِ الأَوَّلِ للمَنطِقِ؛ وذلك القِسمُ هو إظهارُ جُزءٍ وطَرَفٍ مِن حَقِيقةٍ كُلِّيّةٍ بتَمثِيلٍ جُزئيٍّ، ثمَّ بِناءُ الحُكْمِ على تلك الحَقِيقةِ، وبَيانُ قانُونِ تلك الحَقِيقةِ في مادّةٍ خاصّةٍ، كي تُعرَف مِنها تلك الحَقِيقةُ العُظمَى، وتُرْجَعَ إلَيها المَوادُّ الجُزئيّةُ.
فمَثلًا: الشَّمسُ تُوجَدُ قَرِيبةً مِن كلِّ شَيءٍ لَمَّاعٍ -بواسِطةِ النُّورانيّةِ- معَ أنَّها ذاتٌ واحِدةٌ، فبِهذا المِثالِ يُبيَّنُ قانُونُ حَقِيقةٍ هي: أنَّه لا قَيدَ للنُّورِ والنُّورانِيِّ، فالبَعِيدُ والقَرِيبُ سَواءٌ، القَليلُ والكَثيرُ يَتَساوَى، فلا يَحُدُّه مَكانٌ.
ومَثلًا: إنَّ تَشكِيلَ أَثمارِ الشَّجَرةِ وأَوراقِها وتَصوِيرَها في آنٍ واحِدٍ، بطِرازٍ واحِدٍ، بسُهُولةٍ تامّةٍ، وعلى أَكمَلِ وَجْهٍ، مِن مَركَزٍ واحِدٍ، بقانُونٍ أَمرِيٍّ واحِدٍ، إنَّما هو مِثالٌ لإراءةِ جُزءٍ مِن حَقِيقةٍ عُظمَى وطَرَفٍ مِن قانُونٍ كُلِّيٍّ. فتلك الحَقِيقةُ وقانُونُها يُثبِتانِ إثباتًا قاطِعًا أنَّ تلك الكائِناتِ الهائِلةَ، كهذه الشَّجَرةِ، يَجرِي علَيها قانُونُ الحَقِيقةِ هذا، فهي كالشَّجَرةِ مَيدانُ جَوَلانِ سِرِّ الأَحَديّةِ ذاك.
فالقِياساتُ التَّمثِيليّةُ في “الكَلِماتِ” كلُّها مِن هذا الطِّرازِ، بحَيثُ تكُونُ أَقوَى مِنَ البُرهانِ القاطِعِ المَنطِقِيِّ وأَكثَرُ يَقِينًا مِنه.
[المعنى الأصلي في اللفظ الكنائي ليس محل صدقٍ أو كذب]
الجَوابُ عنِ السُّؤالِ الثّاني: مِنَ المَعلُومِ في فنِّ البَلاغةِ أنَّه إذا كان المَعنَى المَقصُودُ للَّفْظِ والكَلامِ يُرادُ لِقَصدٍ آخَرَ يُعرَفُ بـ”اللَّفظِ الكِنائيِّ”، ولا يكُونُ المَعنَى الأَصلِيُّ في اللَّفظِ الكِنائيِّ مَناطَ صِدْقٍ وكَذِبٍ، بلِ المَعنَى الكِنائيُّ هو الَّذي يكُونُ مَدارَ الصِّدقِ والكَذِبِ؛ فلو كان المَعنَى الكِنائيُّ صِدْقًا، فالكَلامُ صِدقٌ، وإن كان المَعنَى الأَصلِيُّ كَذِبًا، فلا يُفسِدُ كَذِبُ هذا صِدْقَ ذاك، ولكن لو لم يكُنِ المَعنَى الكِنائيُّ صِدْقًا، وكان المَعنَى الأَصلِيُّ صِدْقًا، فالكَلامُ كَذِبٌ.
مَثلًا: ” طَوِيلُ النِّجادِ” أي: شَخْصٌ حَمّالةُ سَيفِه طَوِيلةٌ. هذا الكَلامُ كِنايةٌ عن طُولِ قامةِ ذلك الشَّخصِ، فإن كان طَوِيلًا حَقًّا، فالكَلامُ صِدْقٌ وصَوابٌ وإن لم يكُن له سَيفٌ ولا نِجادٌ، ولكن إن لم يكُنِ الرَّجُلُ طَوِيلَ القامةِ وله سَيفٌ ونِجادٌ طَوِيلٌ، فالكَلامُ كَذِبٌ، لأنَّ المَعنَى الأَصلِيَّ غيرُ مَقصُودٍ.
فالحِكاياتُ الوارِدةُ في “الكَلِمةِ العاشِرةِ” و”الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِين” وأَمثالِهما، هي مِنَ الكِناياتِ بحَيثُ إنَّ الحَقائِقَ الَّتي تُختَمُ بها الحِكاياتُ، وهي في مُنتَهَى الصِّدْقِ والصَّوابِ والمُطابَقةِ معَ الواقِعِ، هي المَعاني الكِنائيّةُ لتلك الحِكاياتِ، فمَعانِيها الأَصلِيّةُ إنَّما هي مِنظارٌ تَمثِيليٌّ، فكَيفَما كان لا يُفسِدُ صِدْقَها وصَوابَها؛ فَضْلًا عن أنَّ تلك الحِكاياتِ إنَّما هي تَمثيلاتٌ أُظهِرَ فيها لِسانُ الحالِ في صُورةِ لِسانِ المَقالِ، وأُبرِزَ فيها الشَّخصُ المَعنَوِيُّ في صُورةِ شَخصٍ مادِّيٍّ، وذلك لِأَجلِ إفهامِ العامّةِ.
[المقصد الثالث: الإطلاقية]
المَقصَدُ الثالث
إنَّ داعِيةَ أَهلِ الضَّلالةِ، بَعدَما أَخَذ الجَوابَ القاطِعَ المُقنِعَ المُلزِمَ، عن سُؤالِه الثّاني ﴿(حاشية): المَقصُودُ السُّؤالُ الوارِدُ في بدايةِ المَقصَدِ الثّاني، وليس هذا السُّؤالَ الَّذي هو في نِهايةِ الخاتِمةِ.﴾ يَسأَلُ هذا السُّؤالَ، وهو الثّالِثُ فيقُولُ:
[السؤال3: كيف نفهم أفعل التفضيل الوارد في حق الله تعالى؟]
إنَّ في القُرآنِ: ﴿أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، ﴿أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ وأَمثالَهما مِنَ الكَلِماتِ القُرآنيّةِ الَّتي تُشعِرُ بوُجُودِ خالِقِين وراحِمِين آخَرِين؛ ثمَّ إنَّكُم تقُولُون: إنَّ رَبَّ العالَمِين له كَمالٌ لا مُنتَهَى له، فهو جامِعٌ لِأَقصَى نِهايةِ مَراتِبِ أَنواعِ الكَمالاتِ كُلِّها، بَينَما كَمالاتُ الأَشياءِ تُعرَفُ بأَضدادِها، إذ لولا الأَلَمُ لَما كانَتِ اللَّذّةُ كَمالًا، ولولا الظَّلامُ لَما تَحَقَّقَ الضِّياءُ، ولولا الفِراقُ لَما أَوْرَث الوِصالُ لَذّةً، وهكذا؟
الجَوابُ: نُجِيبُ عنِ الشِّقِّ الأَوَّلِ مِنَ السُّؤالِ بخَمسِ إشاراتٍ:
[خمس إشارات بخصوص القرآن الكريم]
[إشارة1: أعلى المراتب]
الإشارة الأُولى:
إنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ يُبيِّنُ التَّوحِيدَ مِن أَوَّلِه إلى آخِرِه، ويُثْبِتُه إثباتًا قاطِعًا، وهذا بحَدِّ ذاتِه دَليلٌ على أنَّ تلك الأَنواعَ مِنَ الكَلِماتِ القُرآنيّةِ لَيسَت كما تَفهَمُونَها. بل قوله تعالى: ﴿أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ يعني: هو في أَحسَنِ مَراتِبِ الخالقِيّةِ، فلَيس له أَيّةُ دَلالةٍ على وُجُودِ خالِقٍ آخَرَ، إذِ الخالقِيّةُ لها مَراتِبُ كَثِيرةٌ كسائِرِ الصِّفاتِ، فقَولُه تَعالَى: ﴿أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ يعني أنَّ الخالِقَ الجَلِيلَ هو في أَحسَنِ مَراتِبِ الخالقِيّةِ وأَقصَى مُنتَهاها.
[إشارة2: أنواع المخلوقية]
الإشارة الثانية:
إنَّ ﴿أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ وأَمثالَها مِنَ التَّعابِيرِ القُرآنيّةِ لا تَنظُرُ إلى تَعَدُّدِ الخالقِين، بل تَنظُرُ إلى أَنواعِ المَخلُوقيّةِ. أي إنَّ الخالِقَ الَّذي يَخلُقُ كلَّ شَيءٍ، يَخلُقُه بأَفضَلِ طِرازٍ وأَجمَلِ مَرتَبةٍ؛ وقد بيَّن هذا المَعنَى قَولُه تَعالَى: ﴿أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ وأَمثالُه مِنَ الآياتِ الكَرِيمةِ.
[إشارة3: لا مفاضلة في نفس الأمر بل بنظر أهل الغفلة]
الإشارة الثالثة:
إنَّ المُوازَنةَ المَوجُودةَ في تَعابِيرِ: ﴿أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ “اللهُ أكْبَرُ” ﴿خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ “خَيرُ المُحسِنِين” وأَمثالِها، لَيسَت مُوازَنةً وتَفضِيلًا بينَ صِفاتٍ وأَفعالٍ واقعِيّةٍ للهِ سُبحانَه وتَعالَى، وبينَ المَالِكِين لِنَماذِجِ تلك الصِّفاتِ والأَفعالِ، لأنَّ جَمِيعَ الكَمالاتِ المَوجُودةِ في الكَونِ قاطِبةً في الجِنِّ والإنسِ والمَلَكِ، ظِلٌّ ضَعِيفٌ بالنِّسبةِ لِكَمالِه جَلَّ وعَلا، فكيف يُمكِنُ عَقْدُ مُوازَنةٍ بَينَهما؟ وإنَّما المُوازَنةُ هي بالنِّسبةِ لِنَظَرِ النّاسِ ولا سِيَّما لِأَهلِ الغَفْلةِ.
نُورِدُ مِثالًا للتَّوضِيحِ: جُندِيٌّ يُقَدِّمُ أَتَمَّ الوَلاءِ والطّاعةِ لِعَرِيفِه في الجَيشِ، ويَرَى الإحْساناتِ والخَيْراتِ مِنه، وقد لا يَخطُرُ بِبالِه السُّلطانُ إلّا نادِرًا، بل لو خَطَر بِبالِه، فإنَّه يُقدِّمُ امتِنانَه وشُكْرَه أيضًا إلى العَرِيفِ، فيُقالُ لِمِثلِ هذا الجُندِيِّ: إنَّ السُّلطانَ أَكبَـرُ مِن عَرِيفِك، فقَدِّمْ شُكْرَك إلَيه وَحْدَه. فهذا الكَلامُ ليس مُوازَنةً بينَ القِيادةِ المَهِيبةِ للسُّلطانِ في الواقِعِ، وقِيادةِ العَرِيفِ الجُزئيّةِ الصُّورِيّةِ، لأنَّ مُوازَنةً كهذه، وتَفضِيلًا مِن هذا النَّوعِ، لا مَعنَى لهما أَصْلًا؛ وإنَّما المُوازَنةُ مَعقُودةٌ حَسَبَ ما لَدَى الجُندِيِّ مِن أَهَمِّيّةٍ وارتِباطٍ بعَرِيفِه، بحيثُ يُفَضِّلُه على غيرِه، فيُقدِّمُ شُكرَه وثَناءَه إلَيه، ويُحِبُّه وَحْدَه.
ومِثلُ هذا، فالأَسبابُ الظّاهِرِيّةُ الَّتي هي في وَهْمِ أَهلِ الغفلة في حُكْمِ خالِقٍ، ومُنعِمٍ، والَّتي تكُونُ حِجابًا دُونَ المُنعِمِ الحَقِيقيِّ، إذ يَتَشبَّثُون بها ويَرَوْن وُرُودَ النِّعمةِ والإحسانِ مِن تلك الحُجُبِ والأَسبابِ، فيُقدِّمُون ثَناءَهم ومَدْحَهم إلَيها، يقولُ القُرآنُ الكَرِيمُ لهم: “الله أكْبَرُ” ﴿أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ ﴿أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ فتَوَجَّهُوا إلَيه وَحْدَه، واشْكُرُوه وَحْدَه.
[إشارة4: المفاضلة على سبيل الإمكان والفرض]
الإشارة الرابعة:
تُعقَدُ المُوازَنةُ والتَّفضِيلُ بينَ المَوجُوداتِ الفَرْضِيّةِ والإمكانيّةِ مِثلَما تُعقَدُ بينَ الأَشياءِ الحَقِيقيّةِ، إذ كما أنَّ أَكثَرَ ماهِيّاتِ الأَشياءِ فيها مَراتِبُ مُتَعدِّدةٌ، كَذلِك في ماهِيّاتِ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى والصِّفاتِ الجَلِيلةِ المُقدَّسةِ يُمكِنُ أن تُوجَدَ مَراتِبُ كَثِيرةٌ؛ فاللهُ سبحانَه في أَكمَلِ تلك المَراتِبِ للصِّفاتِ والأَسماءِ مِنَ المَراتِبِ المُتَصَوَّرةِ والمُمكِنةِ، وفي أَحسَنِها؛ والكَونُ كُلُّه وما فيه مِن كَمالاتٍ شاهِدُ صِدْقٍ لِهذه الحَقِيقةِ، وقولُه تَعالَى: ﴿لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ وَصْفٌ لِأَسمائِه كُلِّها يُعبِّـرُ عن هذا المَعنَى.
[إشارة5: نوعان من التجليات الإلهية]
الإشارة الخامسة:
هذه المُوازَنةُ والمُفاضَلةُ لا تُقابِلُ ما سِواه تَعالَى، بل له جَلَّ وعَلا نَوعانِ مِنَ التَّجَلِّياتِ والصِّفاتِ.
الأُولَى: تَدبِيرُه وتَصرِيفُه الأُمُورَ على صُورةِ قانُونٍ عامٍّ، يَجرِي تحتَ سِتارِ الأَسبابِ وحِجابِ الوَسائِطِ، بسِرِّ الواحِدِيّةِ.
الثّانية: تَدبِيرُه وتَصرِيفُه الأُمُورَ تَدبِيرًا مباشَرًا خاصًّا، دُونَ حِجابِ الأَسبابِ، بسِرِّ الأَحَدِيّةِ؛ فإحسانُه المُباشَرُ وإيجادُه المُباشَرُ وتَجَلِّي كِبْرِيائِه المُباشَرُ -بسِرِّ الأَحَدِيّةِ- هو أَعظَمُ وأَجمَلُ وأَعلَى مِن إحسانِه وإيجادِه وكِبْرِيائِه المُشاهَدةِ آثارُها بالأَسبابِ والوَسائِطِ.
فمَثلًا: إنَّ جَمِيعَ مُوَظَّفِي السُّلطانِ وقُوّادِه إنَّما هم حُجُبٌ لا غيرُ، لو كان السُّلطانُ مِنَ الأَولياءِ، وكان الحُكْمُ والإجراءاتُ كلُّها بِيَدِه.
فتَدبِيرُ الأُمُورِ وتَصرِيفُها، لدى هذا السُّلطانِ نَوعانِ:
الأَوَّلُ: الأَوامِرُ الَّتي يُصدِرُها، والإجراءاتُ الَّتي يُنجِزُها بقانُونٍ عامٍّ مِن خِلالِ وَسائِطِ المُوَظَّفِين والقُوّادِ الظّاهِريِّين، وحَسَبَ قابِليّةِ المَقامِ.
الثّاني: إحساناتُه المُباشَرةُ وإجراءاتُه المُباشَرةُ الَّتي لا تَتِمُّ مِن خِلالِ قانُونٍ عامٍّ ولم يَتَّخِذْ فيها المُوَظَّفين الظّاهِريِّين حُجُبًا، فهذه أَجمَلُ وأَرفَعُ مِن تلك الَّتي تَتِمُّ بصُورةٍ غيرِ مُباشَرةٍ.
وهكذا -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- فهو سُبحانَه سُلْطانُ الأَزَلِ والأَبدِ، وهو ربُّ العالَمِين، قد جَعَل الأَسبابَ حُجُبًا لإجراءاتِه، إظهارًا لِعِزّةِ رُبُوبيَّتِه وعَظَمَتِها، فَضْلًا عن أنَّه وَضَع في قُلُوبِ عِبادِه هاتِفًا خاصًّا وأَمَرَهم بقَولِه تَعالَى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، أي: بعُبُودِيّةٍ خاصّةٍ لِيَتَوجَّهُوا إلَيه مُباشَرةً تارِكِين الأَسبابَ وَراءَهم ظِهْرِيًّا، وبهذا يَصرِفُ سُبحانَه وُجُوهَ عِبادِه مِنَ الكائِناتِ إلَيه تَعالَى.
ففي قَولِه تَعالَى: ﴿أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ ﴿أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ “الله أَكْبرُ” هذا المَعنَى المَذكُورُ.
[خمسة رموز في رد شبهة أهل الضلالة]
أمّا الشِّقُّ الثّاني مِن سُؤالِ داعِيةِ أَهلِ الضَّلالِ، فجُوابُه في خَمْسةِ رُمُوزٍ:
[رمز1: كيف يكون للشيء كمالٌ إن لم يكن له ضد؟]
الرَّمزُ الأوَّل:
يقولُ في السُّؤالِ: كيف يكُونُ للشَّيءِ كَمالٌ ما لم يكُن له ضِدٌّ؟
الجَوابُ: صاحِبُ هذا السُّؤالِ يَجهَلُ الكَمالَ الحَقِيقيَّ، إذ يَظُنُّه نِسْبِيًّا، بَينَما المَزايا والفَضائِلُ والتَّقدُّمُ على الآخَرِين الحاصِلةُ كلُّها نَتِيجةَ النَّظَرِ إلى الأَشياءِ الأُخرَى والمُفاضَلةِ معَها، لَيسَت فَضائِلَ حَقِيقيّةً وكَمالًا حَقِيقيًّا، بل هي فَضائِلُ نِسبِيّةٌ، فهي ضَعِيفةٌ واهِيةٌ تَسقُطُ مِنَ الِاعتِبارِ بإهمالِ الغَيرِ.
مَثلًا: لَذّةُ الحَرارةِ ومِيزَتُها هي بتَأثيرِ البُرُودةِ، واللَّذّةُ النِّسبِيّةُ للطَّعامِ بتَأثيرِ أَلَمِ الجُوعِ.
فإذا ما انتَفَت تلك التَّأثيراتُ، قَلَّتِ اللَّذّةُ وتَضاءَلَت، بَينَما اللَّذّةُ والمَحَبّةُ والكَمالُ والفَضِيلةُ الحَقِيقيّةُ هي الَّتي لا تُبنَى على تَصَوُّرِ الغَيرِ، بل تكُونُ مَوجُودةً في ذاتِها؛ وتكُونُ حَقِيقيّةً مُقرَّرةً بالذّاتِ كلَذّةِ الوُجُودِ ولَذّةِ الحَياةِ ولَذّةِ المَحَبّةِ ولَذّةِ المَعرِفةِ ولَذّةِ الإيمانِ ولَذّةِ البَقاءِ ولَذّةِ الرَّحمةِ ولَذّةِ الشَّفَقةِ.. وحُسْنَ النُّورِ وحُسْنَ البَصَرِ وحُسْنَ الكَلامِ وحُسْنَ الكَرَمِ وحُسْنَ السِّيرةِ وحُسْنَ الصُّورةِ.. وكَمالِ الذّاتِ وكَمالِ الصِّفاتِ وكَمالِ الأَفعالِ.. وأَمثالِها مِنَ المَزايا الذّاتيّةِ الَّتي لا تَتَبدَّلُ بوُجُودِ غيرِها أو عَدَمِه.
فكَمالاتُ الصّانِعِ الجَلِيلِ والفاطِرِ الجَمِيلِ والخالِقِ ذِي الكَمالِ كَمالاتٌ حَقِيقيّةٌ، ذاتيّةٌ، لا يُؤَثِّرُ فيها ما سِواه تَعالَى، بل ما سِواه مَظاهِرُ ليس إلّا.
[رمز2: سبب المحبة]
الرَّمزُ الثّاني:
لقد قال السَّيِّدُ الشَّرِيفُ الجُرجانِيُّ في كِتابِه “شَرحُ المَواقِفِ”: إنَّ سَبَب المَحَبّةِ إمّا اللَّذّةُ أوِ المَنفَعةُ أوِ المُشاكَلةُ، بينَ بَنِي الجِنسِ، أوِ الكَمالُ، لأنَّ الكَمالَ مَحبُوبٌ لِذاتِه؛ أي: أَيُّما شَيءٍ تُحِبُّه، فإمّا أنَّك تُحِبُّه للَّذّةِ، أو لِلمَنفَعةِ أو للمُشاكَلةِ الجِنسِيّةِ -كالمَيلِ إلى الأَولادِ- أو كَونِه كَمالًا؛ فإنْ كان السَّبَبُ كَمالًا فلا يَلزَمُ أيُّ سَبَبٍ آخَرُ أو غَرَضٌ آخَرُ، فهو مَحبُوبٌ لِذاتِه.
مَثلًا: مَحَبّةُ النّاسِ لِأَصحابِ الفَضائِلِ مِنَ الأَقدَمِين، فهم يُوْلُونَهم مَحَبَّتَهم وإعجابَهم على الرَّغمِ مِن عَدَمِ وُجُودِ رابِطةٍ وعَلاقةٍ تَربِطُهم بهم؛ فكَمالُ اللهِ سُبحانَه وكَمالُ مَراتِبِ أَسمائِه الحُسنَى كَمالٌ حَقِيقيٌّ، لِذا فهو مَحبُوبٌ لِذاته، واللهُ سُبحانَه وتَعالَى الَّذي هو مَحبُوبٌ بالحَقِّ، وحَبِيبٌ حَقِيقيٌّ يُحِبُّ كَمالَه الحَقِيقيَّ وجَمالَ صِفاتِه وأَسمائِه الحُسنَى بمَحَبّةٍ لائِقةٍ به جَلَّ وعَلا، ويُحِبُّ أيضًا مَحاسِنَ مَخلُوقاتِه وصَنْعَتَه ومَصنُوعاتِه الَّتي هي مَظاهِرُ ذلك الكَمالِ ومَراياه، فيُحِبُّ أَنبِياءَه وأَولياءَه ولا سِيَّما سِيِّدَ المُرسَلِين وسُلْطانَ الأَولياءِ حَبِيبَ رَبِّ العالَمِينَ ﷺ.
أي: لِمَحَبَّتِه سُبحانَه لِجَمالِه يُحِبُّ حَبِيبَه ﷺ، إذ هو مِرْآةُ ذلك الجَمالِ.. ولِمَحَبَّتِه لأَسمائِه الحُسنَى يُحِبُّ حَبِيبَه ﷺ وإخوانَه، إذ هو المُدْرِكُ الشّاعِرُ بتلك الأَسماءِ.. ولِمَحَبَّتِه لِصَنْعَتِه سُبحانَه يُحِبُّ حَبِيبَه ﷺ وأَمثالَه، إذ هو الدّالُّ على صَنْعَتِه والمُعلِنُ عنها.. ولِمَحَبَّتِه لِمَصنُوعاتِه سُبحانَه يُحِبُّ حَبِيبَه ﷺ ومَن هم خَلْفَه مِنَ المُقتَدِين بهَدْيِه، إذ هو الَّذي يُقَدِّرُ قِيمةَ المَصنُوعاتِ ويُبارِكُها بـ”ما أَجمَلَ صَنْعَتَها!”.. ولِمَحَبَّتِه لِمَحاسِنِ مَخلُوقاتِه يُحِبُّ حَبِيبَه ﷺ ومَن تَبِعَه وإخوانَه، إذ هو الجامِعُ لِمَكارِمِ الأَخلاقِ.
[رمز3: جميع الكمالات في الكون ظلالٌ للكمال الحقيقي]
الرَّمزُ الثّالث:
إنَّ جَمِيعَ أَنواعِ الكَمالِ المَوجُودةِ في الكَونِ كُلِّه آياتٌ لِكَمالِ ذاتٍ جَلِيلةٍ وإشاراتٌ إلى جَمالِه سُبحانَه، بل جَمِيعُ الحُسْنِ والكَمالِ والجَمالِ ما هو إلّا ظِلٌّ ضَعِيفٌ بالنِّسبةِ لِكَمالِه الحَقِيقيِّ. نُشِيرُ إلى خَمْسةِ حُجَجٍ لِهذه الحَقِيقةِ:
[الحجة الأولى: كمال الصنعة دليلٌ على كمال الصانع]
الحُجّةُ الأُولَى: كما أنَّ قَصْرًا فَخْمًا مُنَقَّشًا مُزَيَّنًا مُكَمَّلًا يَدُلُّ بالبَداهةِ على صَنْعةٍ ماهِرةٍ، وهذه الصَّنْعةُ الماهِرةُ -وهي فِعلٌ مُكَمَّلٌ رائِعٌ- يَدُلُّ بالضَّرُورةِ على فاعِلٍ وصَنّاعٍ ومُهَندِسٍ معَ عَناوِينِه وأَسمائِه كـ”النَّقّاشِ والمُصَوِّرِ”، وتلك الأَسماءُ الكامِلةُ أيضًا تَدُلُّ بلا شَكٍّ على صِفةِ الصَّنْعةِ المُكَمَّلةِ لَدَى ذلك الصَّنّاعِ. وذلك الكَمالِ في الصَّنْعةِ والصِّفاتِ يَدُلُّ بالبَداهةِ على كَمالِ استِعدادِ ذلك الصَّنّاعِ وكَمالِ قابِلِيَّتِه؛ وذلك الِاستِعدادُ الكامِلُ والقابِليّةُ الكامِلةُ يَدُلّانِ بالضَّرُورةِ على كَمالِ ذاتِ الصَّنّاعِ نَفسِه وعلى سُمُوِّ ماهِيَّتِه.
وعلى غِرارِ هذا، فقَصْرُ العالَمِ -هذا الأَثَرُ المُزَيَّنُ المُكَمَّلُ- يَدُلُّ بالبَداهةِ على أَفعالٍ في غايةِ الكَمالِ، لأنَّ أَنواعَ الكَمالِ الَّتي في الأَثَرِ نابِعةٌ مِن كَمالِ تلك الأَفعالِ، وكَمالُ الأَفعالِ يَدُلُّ بالضَّرُورةِ على فاعِلٍ كامِلٍ وعلى كَمالِ أَسمائِه، كالمُدَبِّرِ والمُصَوِّرِ والحَكِيمِ الرَّحِيمِ والمُزَيِّنِ وأَمثالها مِنَ الأَسماءِ المُتَعلِّقةِ بالأثَرِ؛ أمّا كَمالُ الأَسماءِ والعَناوِينِ فإنَّه يَدُلُّ بلا رَيبٍ على كَمالِ أَوصافِ ذلك الفاعِلِ، لأنَّ الصِّفاتِ إن لم تَكُنْ كامِلةً فالأَسماءُ النّاشِئةُ مِنها لن تكُونَ كامِلةً.
وكَمالُ تلك الأَوصافِ يَدُلُّ بالبَداهةِ على كَمالِ الشُّؤُونِ الذّاتيّةِ، لأنَّ مَبادِئَ الصِّفاتِ هي تلك الشُّؤُونُ الذّاتيّةُ؛ أمّا كَمالُ الشُّؤُونِ الذّاتيّةِ فإنَّه يَدُلُّ بعِلْمِ اليَقِينِ على كَمالِ ذاتٍ جَلِيلةٍ ذِي شُؤُونٍ، ويَدُلُّ علَيه دَلالةً قاطِعةً بحَيثُ إنَّ ضِياءَ ذلك الكَمالِ قد أَظهَر حُسْنَ الجَمالِ والكَمالِ في هذا الكَوْنِ على الرَّغْمِ مِن مُرُورِه مِن حُجُبِ الشُّؤُونِ والصِّفاتِ والأَسماءِ والأَفعالِ والآثارِ.
تُرَى ما أَهَمِّيّةُ كَمالٍ نِسبِيٍّ يَنظُرُ إلى الغَيرِ وإلى الأَمثالِ وإلى التَّفَوُّقِ على الأَضدادِ، بعدَ ثُبُوتِ وُجُودِ كَمالٍ ذاتِيٍّ حَقِيقيٍّ ثُبُوتًا إلى هذا الحَدِّ؟ ألا يكُونُ خافِتًا مُنطَفِئًا؟!
[الحجة الثانية: شهادة الوجدان]
الحُجّةُ الثّانية: عِندَما يُنظَرُ إلى هذا الكَونِ بنَظَرِ العِبْرةِ، يَشعُرُ الوِجْدانُ والقَلبُ، بحَدْسٍ صادِقٍ أنَّ الَّذي يُجَمِّلُ هذه الكائِناتِ ويُزَيِّنُها بأَنواعِ المَحاسِنِ لا شَكَّ أنَّ له جَمالًا وكَمالًا لا مُنتَهَى لهما، ولهذا يَظهَرُ الجَمالُ والكَمالُ في فِعْلِه.
[الحجة الثالثة: جمال الظاهر رشحاتٌ من جمال الباطن]
الحُجّةُ الثّالثةُ: مِنَ المَعلُومِ أنَّ الصَّنائِعَ المَوزُونةَ المُنتَظِمةَ الجَمِيلةَ تَستَنِدُ إلى بَرنامَجٍ في غايةِ الحُسْنِ والإتقانِ، والبَرنامَجُ الكامِلُ المُتقَنُ الجَمِيلُ يَستَنِدُ إلى عِلمٍ جَمِيلٍ وإلى ذِهْنٍ حَسَنٍ، وإلى قابِليّةٍ رُوحِيّةٍ كامِلةٍ، وهذا يَعني أنَّ الجَمالَ المَعنَوِيَّ للرُّوح يَظهَرُ في الصَّنْعةِ بالعِلْمِ.
فهذه الكائِناتُ وما فيها -معَ جَمِيعِ مَحاسِنِها المادِّيّةِ الَّتي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى- ما هي إلَّا تَرَشُّحاتُ مَحاسِنَ مَعنَوِيّةٍ وعِلْمِيّةٍ، وتلك المَحاسِنُ والكَمالُ العِلْمِيُّ والمَعنَوِيُّ لا شَكَّ أنَّها جَلَواتُ حُسْنٍ وجَمالٍ وكَمالٍ سَرْمَدِيٍّ.
[الحجة الرابعة: جمال الكائنات دالٌّ على جمال سرمدي]
الحُجّةُ الرّابعةُ: مِنَ المَعلُومِ أنَّ المُشِعَّ للنُّورِ يَستَلزِمُ أن يكُونَ مُتَنوِّرًا، وكلُّ مُضِيءٍ يَستَلزِمُ أن يكُونَ ذا ضَوْءٍ، والإحسانُ يَرِدُ مِنَ الغَنيِّ، واللُّطْفُ يَظهَرُ مِنَ اللَّطِيفِ؛ لِذا فإِضفاءُ الحُسْنِ والجَمالِ على الكائِناتِ ومَنْحُ المَوجُوداتِ أَنواعًا مِنَ الكَمالاتِ المُختَلِفةِ، يَدُلُّ على جَمالٍ سَرْمَدِيٍّ، كدَلالةِ الضَّوْءِ على الشَّمسِ.
ولَمّا كانَتِ المَوجُوداتُ تَجرِي جَرَيانَ النَّهرِ العَظِيمِ وتَلتَمِعُ بالكَمالِ ثمَّ تَمضِي، فمِثلَما يَلتَمِعُ ذلك النَّهرُ بجَلَواتِ الشَّمسِ، فإنَّ سَيْلَ المَوجُوداتِ هذا يَلتَمِعُ مُؤَقَّتًا بلَمَعاتِ الحُسْنِ والجَمالِ والكَمالِ، ثمَّ يَمضِي إلى شَأْنِه؛ ويُفهَمُ مِن تَعاقُبِ اللَّمَعاتِ بأنَّ جَلَواتِ حَباباتِ النَّهرِ الجارِي وجَمالَها لَيسَت ذاتيّةً، بل هو جَمالُ ضِياءِ شَمْسٍ مُنوَّرةٍ وجَلَواتُها، فالمَحاسِنُ والكَمالاتُ الَّتي تَلتَمِعُ مُؤَقَّتًا على سَيلِ الكائِناتِ إنَّما هي لَمَعاتُ جَمالِ أَسماءِ مَن هو نُورٌ سَرمَدِيٌّ.
“نعم، تَفاني المِرآةِ زَوالُ المَوجُوداتِ معَ التَّجَلِّي الدّائِمِ معَ الفَيضِ المُلازِمِ، مِن أَظهَرِ الظَّواهِرِ مِن أَبهَرِ البَواهِرِ على أنَّ الجَمالَ الظّاهِرَ، أنَّ الكَمالَ الزّاهِرَ، لَيسَا مُلْكَ المَظاهِرِ.. مِن أَفصَحِ تِبْيانٍ مِن أَوضَحِ بُرهانٍ، للجَمالِ المُجَرَّدِ للإحسانِ المُجَدَّدِ، للواجِبِ الوُجُودِ للباقي الوَدُودِ”.
[الحجة الخامسة: اتفاق أهل الكشف والشهود]
الحُجّةُ الخامِسةُ: مِنَ المَعلُومِ أنَّه إذا رَوَى أَشخاصٌ مُختَلِفُون أَتَوْا مِن طُرُقٍ مُتَبايِنةٍ وُقُوعَ حادِثةٍ مُعَيَّنةٍ بالذّاتِ، فإنَّ هذا يَدُلُّ بالتَّواتُرِ الَّذي يُفِيدُ اليَقِينَ على وُقُوعِ الحادِثةِ قَطْعًا.
فلقدِ اتَّفَق جَمِيعُ أَهلِ الكَشْفِ والذَّوقِ والشُّهُودِ والمُشاهَدةِ مِن جَمِيعِ الطَّبَقاتِ المُختَلِفةِ للمُحَقِّقين، والطُّرُقِ المُختَلِفةِ للأَولياءِ، والمَسالِكِ المُختَلِفةِ للأَصفِياءِ، والمَذاهِبِ المُختَلِفةِ للحُكَماءِ الحَقيقيِّين.. اتَّفَق هؤلاء المُختَلِفُون في المَشرَبِ والمَسلَكِ والِاستِعدادِ والعَصْرِ، بالكَشْفِ والذَّوْقِ والشُّهُودِ على أنَّ ما يَظهَرُ على الكائِناتِ ومَرايا المَوجُوداتِ مِنَ المَحاسِنِ والكَمالاتِ إنَّما هو تَجَلِّياتُ كَمالِ ذاتٍ جَلِيلةٍ وتَجَلِّياتُ جَمالِ أَسمائِه الحُسنَى جَلَّ جَلالُه.. أَقُولُ: إنَّ اتِّفاقَ هؤلاء جَمِيعًا حُجّةٌ قاطِعةٌ لا تَتَزَعْزَعُ، وإجماعٌ عَظِيمٌ لا يُجرَحُ.
أَظُنُّ أنَّ داعِيةَ الضَّلالِ مُضطَرٌّ إلى الفِرارِ، سادًّا أُذُنَيه، لِئَلّا يَسمَعَ حَقائِقَ هذا الرَّمْزِ.
نعم، إنَّ الرُّؤُوسَ المُظلِمةَ لا تَتَحمَّلُ -كالخُفّاشِ- رُؤْيةَ هذه الأَنوارِ، ولِهذا نحن بدَوْرِنا لا نُعِيرُ لها أَهَمِّيّةً تُذكَرُ.
[رمز4: مدار الموجودات على المحبة]
الرَّمزُ الرّابع:
إنَّ لَذّةَ الشَّيءَ وحُسْنَه وجَمالَه يَرجِعُ إلى مَظاهِرِه أَكثَرَ مِن رُجُوعِه إلى أَضدادِه وأَمثالِه.
فمَثلًا: الكَرَمُ صِفةٌ جَمِيلةٌ لَطِيفةٌ، فالكَرِيمُ يَتَلذَّذُ لَذّةً مُمتِعةً مِن تَلَذُّذِ مَن يُكرِمُهم، ويَستَمتِعُ بفَرَحِهم أَكثَرَ أَلفَ مَرّةً مِن لَذّةٍ نِسبِيّةٍ يَحصُلُ علَيها مِن تَفَوُّقِه على أَقرانِه مِنَ المُكرِمِين؛ وكذا الشَّفِيقُ والرَّحِيمُ، يَتَلذَّذُ لَذّةً حَقِيقيّةً بقَدْرِ راحةِ مَن يُشفِقُ علَيهم مِنَ المَخلُوقاتِ.
فاللَّذّةُ الَّتي تَحصُلُ علَيها الوالِدةُ مِن راحةِ أَولادِها ومِن سَعادَتِهم قَوِيّةٌ راسِخةٌ إلى حَدٍّ تُضَحِّي برُوحِها لِأَجلِ راحَتِهم، حتَّى إنَّ لَذّةَ تلك الشَّفَقةِ تَدفَعُ الدَّجاجةَ إلى الهُجُومِ على الأَسَدِ حِمايةً لأَفراخِها.
فاللَّذّةُ والحُسْنُ والكَمالُ والسَّعادةُ الحَقيقِيّةُ في الأَوصافِ الرّاقيةِ الرَّفيعةِ إذًا لا تَرجِعُ إلى الأَقرانِ ولا تَنظُرُ إلى الأَضدادِ، بل إلى مَظاهِرِها ومُتَعلَّقاتِها، فإنَّ جَمالَ رَحْمةِ ذِي الجَمالِ والكَمالِ، الحَيِّ القَيُّومِ، الحَنّانِ المَنّانِ، الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ، يَنظُرُ ويَتَوجَّهُ إلى المَرحُومِين الَّذين نالُوا رَحْمَتَه، ولا سِيَّما إلى أُولَئِك الَّذين نالُوا أَنواعَ رَحْمَتِه الواسِعةِ وشَفَقَتِه الرَّؤُوفةِ في الجَنّةِ الخالِدةِ.
وله جَلَّ وعلا ما يُشبِهُ المَحَبّةَ، تَلِيقُ بذاتِه سُبحانَه، بمِقدارِ سَعادةِ مَخلُوقاتِه، وبمَدَى تَنَعُّمِهم وفَرَحِهم، وله شُؤُونٌ سامِيةٌ مُقدَّسةٌ جَمِيلةٌ مُنزَّهةٌ ذاتُ مَعانٍ تَلِيقُ به سُبحانَه وتَعالَى، ما لا نَستَطِيعُ أن نَذكُرَها، لِعَدَمِ وُجُودِ إذنٍ شَرعِيٍّ، مِنَ التَّعابِيرِ المُنزَّهةِ للغايةِ والمُقدَّسةِ الجَلِيلةِ، والَّتي يُعبَّـرُ عنها باللَّذّةِ المُقدَّسةِ والعِشقِ المُقدَّسِ والفَرَحِ المُنزَّهِ والسُّرُورِ القُدسِيِّ، بحيثُ إنَّ كُلًّا مِنها هي أَسمَى وأَرفَعُ وأَنزَهُ بما لا يَتَناهَى مِن دَرَجاتِ العُلُوِّ والسُّمُوِّ والنَّزاهةِ مِمّا يَظهَرُ في الكائِناتِ وما نَشعُرُ به مِنَ العِشْقِ والسُّرُورِ بينَ المَوجُوداتِ.. كما أَثْبَتْناه في مَواضِعَ كَثِيرةٍ.
[مثال1: كرم الضيافة]
وإن شِئتَ أن تَنظُرَ إلى لَمْعةٍ مِن لَمَعاتِ تلك المَعاني الجَلِيلةِ فانظُرْ إلَيها بمِنظارِ هذا المِثالِ: شَخصٌ سَخِيٌّ كَرِيمٌ ذُو شَفَقةٍ ورَأْفةٍ، أَعَدَّ ضِيافةً جَمِيلةً للفُقَراءِ المُحتاجِين، فبَسَط ضِيافَتَه الفَخْمةَ على إِحدَى سُفُنِه الجَوّالةِ، واطَّلَع علَيهِم وهم يَتَنعَّمُون بإنعامِه تَنَعُّمًا بامتِنانٍ، تُرَى كم يكُونُ ذلك الشَّخصُ الكَرِيمُ مَسرُورًا فَرِحًا، وكم يَبتَهِجُ بتَنَعُّمِ هؤلاء الفُقَراءِ وتَلَذُّذِ الجِياعِ مِنهم، ورِضَى المُحتاجِين مِنهم، وثَنائِهم جَمِيعًا عليه؟ يُمكِنُك أن تَقِيسَه بنَفسِك.
وهكذا، فالإنسانُ الَّذي لا يَملِكُ مُلْكًا حَقِيقيًّا لِضِيافةٍ صَغِيرةٍ، وليس له مِن هذه الضِّيافةِ إلَّا إعدادُها وبَسْطُها، إن كان يَستَمتِعُ ويَنشَرِحُ إلى هذا القَدْرِ لَدَى إكرامِه الآخَرِين في ضِيافةٍ جُزئيّةٍ، فكيفَ بالَّذي تَنطَلِقُ له آياتُ الحَمْدِ والشُّكْرِ، وتُرفَعُ إلَيه أَكُفُّ الثَّناءِ والرِّضَى بالدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ، مِنَ الجِنِّ والإنسِ والأَحياءِ كافّةً، الَّذين حَمَّلَهم في سَفِينةٍ رَبّانيّةٍ جَبّارةٍ، تلك هي الكُرةُ الأَرضِيّةُ، ويُسيِّـرُها فيَسِيحُ بهم في عُبابِ فَضاءِ العالَمِ، وأَسبَغَ علَيهِم نِعَمَه ظاهِرةً وباطِنةً، داعِيًا جَمِيعَ ذَوِي الحَياةِ إلى تلك الضِّيافةِ الَّتي هي مِن قَبِيلِ فَطُورٍ بَسِيطٍ بالنِّسبةِ لِما بُسِطَ في دار البَقاءِ الَّتي كلُّ جَنّةٍ مِن جِنانِه كسُفْرةٍ مَفرُوشةٍ أَمامَهم مَشحُونةٍ بكُلِّ ما تَشتَهِيه الأَنفُسُ وتَلَذُّ الأَعيُنُ، أَعدَّها لِعِبادِه الَّذين لا يُحصَون، وهم في مُنتَهَى الحاجةِ وغايةِ الشَّوْقِ إلى لَذائِذَ لا تُحَدُّ إشباعًا لِلَطائِفَ لا تُحَدُّ، لِيَتَناوَلُوا مِن تلك الضِّيافةِ الحَقِيقيّةِ وليَتَنعَّمُوا تَنَعُّمًا حَقِيقيًّا في زَمَنٍ خالِدٍ أَبَدِيٍّ.. فقِسْ بنَفسِك على هذا ما نَعجِزُ عنِ التَّعبِيرِ عنه مِنَ المَعاني المُقدَّسةِ للمَحَبّةِ والتَّعابِيرِ المُنزَّهةِ لِنَتائِجِ الرَّحمةِ المُتَوجِّهةِ إلى الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ.
[مثال2: إبراز الجمال]
ومَثلًا: إذا قام صَنَّاعٌ ماهِرٌ بصُنعِ حاكٍ جَمِيلٍ يَنطِقُ مِن دُونِ حاجةٍ إلى أُسطُوانةٍ، ووَضَعَه مَوضِعَ التَّجرِبةِ والعَرْضِ للآخَرِين، فعَبَّر الجِهازُ عَمّا يُرِيدُه مِنه وعَمِلَ على أَفضَلِ وَجْهٍ يَرغَبُ فيه، فكم يكُونُ مُفتَخِرًا مُتَلذِّذًا برُؤيةِ صَنْعَتِه على هذه الصُّورةِ، وكم يكُونُ مَسرُورًا، حتَّى إنَّه يُرَدِّدُ في نَفسِه: بارَكَ اللهُ!!
وهكذا، فإن كان إنسانٌ صَغِيرٌ عاجِزٌ عنِ الإيجادِ والخَلْقِ يَغمُرُه السُّرُورُ إلى هذه الدَّرَجةِ بمُجَرَّدِ صُنْعِه صَنْعةً صَغِيرةً، فكيف بالصّانِعِ الجَليلِ الَّذي خَلَق هذا الكَونَ على صُورةِ مُوسِيقَى وحَاكٍ عَظِيمٍ، وبخاصّةٍ صَدَى تَسبِيحاتِ الأَحياءِ على الأَرضِ، ولا سِيَّما ما وُضِعَ في رَأْسِ الإنسانِ مِن حاكٍ رَبّانِيٍّ ومُوسِيقَى إلٰهِيّةٍ، حتَّى تَقِفُ حِكْمةُ البَشَرِ وعُلُومُه أَمامَه في ذُهُولٍ وحَيْرةٍ!
نعم، إنَّ جَمِيعَ المَصنُوعاتِ تُظهِرُ ما يُطلَبُ مِنها مِن نَتائِجَ، تُظهِرُها في مُنتَهَى الجَمالِ والكَمالِ، بانقِيادِها للأَوامِرِ التَّكوِينيّةِ، الَّتي تُعبِّـرُ عنها بالعِباداتِ المَخصُوصةِ والتَّسبِيحاتِ الخُصُوصِيّةِ والتَّحِيّاتِ المُعَيَّنةِ، وتُحَقِّقُ بهذا المَقاصِدَ الرَّبّانيّةَ المَطلُوبةَ مِنها، فيَحصُلُ مِنَ الِافتِخارِ والِامتِنانِ والسُّرُورِ وغيرِها مِنَ المَعاني المُقدَّسةِ والشُّؤُونِ المُنزَّهةِ الَّتي نَعجِزُ عنِ التَّعبِيرِ عنها، وهي سامِيةٌ مُقدَّسةٌ بحَيثُ إذا اتَّحَدَت جَمِيعُ عُقُولِ البَشَرِ في عَقْلٍ واحِدٍ عَجَز عن بُلُوغِ كُنْهِها والإحاطةِ بها.
[مثال3: إحقاق الحق]
ومَثلًا: إنَّ حاكِمًا عادِلًا يَجِدُ لَذّةً ومُتعةً عِندَما يَأخُذُ حقَّ المَظلُومِ مِنَ الظّالِمِ، ويَجعَلُ الحَقَّ يَأخُذُ نِصابَه، ويَفتَخِرُ لَدَى صِيانَتِه الضُّعَفاءَ مِن شُرُورِ الأَقوِياءِ، ويُسَرُّ لَدَى مَنحِه كلَّ فَرْدٍ ما يَستَحِقُّه مِن حُقُوقٍ؛ فلَك أن تَقِيسَ على هذا المَعانِيَ المُقدَّسةَ الوارِدةَ مِن إحقاقِ الحَكِيمِ المُطلَقِ والعادِلِ المُطلَقِ والقَهَّارِ الجَليلِ، الحَقَّ في المَوجُوداتِ كافّةً، وليس على الجِنِّ والإنسِ وَحْدَهم.
أي: الحاصِلةُ مِن مَنْحِه سُبحانَه وتَعالَى شُرُوطَ الحَياةِ في صُورةِ حُقُوقِ الحَياةِ للمَخلُوقاتِ قاطِبةً، ولا سِيَّما الأَحياءِ بإحسانِه إلَيهِم بأَجهِزةٍ تُحافِظُ على حَياتِهم وبحِمايَتِهم مِنِ اعتِداءِ المُعتَدِين، وبإيقافِه المَوجُوداتِ الرَّهيبةَ عِندَ حَدِّها، ولا سَيَّما المَعانِي المُقَدَّسةِ المُنبَعِثةِ مِنَ التَّجَلِّي الأَعظَمِ للعَدالةِ الكامِلةِ والحِكْمةِ التّامّةِ في الحَشْرِ الأَعظَمِ في الدّارِ الآخِرةِ على الأَحياءِ كافّةً فَضْلًا عنِ الجِنِّ والإنسِ.
وهكذا، على غِرارِ هذه الأَمثِلةِ الثَّلاثةِ، ففي كلِّ اسمٍ مِن أَلفِ اسمٍ مِنَ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى طَبَقاتُ حُسْنٍ وجَمالٍ وفَضْلٍ وكَمالٍ كَثيرةٌ جِدًّا؛ كما أنَّ فيها مَراتِبَ مَحَبّةٍ وفَخْرٍ وعِزّةٍ وكِبْرِياءٍ كَثِيرةً جِدًّا. ومِن هنا قال الأَولياءُ المُحَقِّقُون الَّذين حَظُوا باسمِ الوَدُودِ: “إنَّ جَوْهَرَ الكَونِ كُلِّه هو المَحَبّةُ، وإنَّ حَرَكةَ المَوجُوداتِ بالمَحَبّةِ؛ فقَوانِينُ الِانجِذابِ والجَذْبِ والجاذِبِيّةِ الَّتي تَجرِي في المَوجُوداتِ إنَّما هي آتيةٌ مِنَ المَحَبّةِ”، وقد قال أَحَدُهم:
فَلَكْ مَسْتْ مَلَكْ مَسْتْ نُجُومْ مَسْتْ سَمٰوَاتْ مَسْتْ شَمْسْ مَسْتْ قَمَرْ مَسْتْ زَمِينْ مَسْتْ عَنَاصِرْ مَسْتْ نَبَاتْ مَسْتْ شَجَرْ مَسْتْ بَشَرْ مَسْتْ سَرَاسَرْ ذِى حَيَاتْ مَسْتْ هَمَه ذَرَّاتِ مَوْجُودَاتْ بَرَابَرْ مَسْتْ دَرْمَسْتَسْتْ.
بمَعنَى أنَّ كلَّ شَيءٍ نَشْوانُ مِن شَرابِ المَحَبّةِ بتَجَلِّي المَحَبّةِ الإلٰهِيّةِ، كلٌّ حَسَبَ استِعدادِه؛ مِنَ المَعلُومِ أنَّ كلَّ قَلبٍ يُحِبُّ مَن يُحسِنُ إلَيه، ويُحِبُّ الكَمالَ الحَقِيقيَّ ويَعشَقُ الجَمالَ السّامِيَ ويَزِيدُ حُبُّه لِمَن يُحْسِنُ إلى مَن يُحِبُّهم ويُحسِنُ إلَيهِم.
تُرَى ما مَدَى العِشقِ والمَحَبّةِ الَّتي تَلِيقُ بمَن له في كلِّ اسمٍ مِن أَسمائِه أَلفُ كَنزٍ وكَنزٍ مِنَ الإحسانِ والإنعامِ؟! ومَن يُسعِدُ كُلَّ مَن نُحِبُّهم؟! ومَن هو مَنبَعُ أُلُوفِ أَنواعِ الكَمالاتِ؟! ومَن هو مَبعَثُ أُلُوفِ طَبَقاتِ الجَمالِ؟! ومَن هو مُسَمَّى أَلفِ اسمٍ واسمٍ؟! وهو الجَمِيلُ ذُو الجَلالِ والمَحبُوبُ ذُو الكَمالِ؟! ألا يُفهَمُ مِن هذا مَدَى الأَحَقِّيّةِ في نَشوةِ الكَونِ طُرًّا بمَحَبَّتِه؟
ولِأَجلِ هذا السِّرِّ قال قِسمٌ مِنَ الأَولياءِ الَّذين نالُوا شَرَفَ الحُظْوةِ باسمِ “الوَدُودِ”: “لَمْعةٌ مِن مَحَبّةِ اللهِ تُغنِينا عنِ الجَنّةِ”، ومِن ذلك السِّرِّ أَيضًا وَرَد في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ ما مَعناه: “إنَّ رُؤيةَ جَمالِ اللهِ في الجَنّةِ تَفُوقُ جَمِيعَ لَذائذِ الجَنّةِ”.
فكَمالاتُ المَحَبّةِ ومَزاياها هذه، إنَّما تَحصُلُ ضِمنَ دائِرةِ الواحِدِيّةِ والأَحَدِيّةِ بأَسمائِه سُبحانَه وبمَخلُوقاتِه، بمَعنَى: أنَّ ما يُتَوَهَّمُ مِن كَمالاتٍ خارِجَ تلك الدّائِرةِ لَيسَت كَمالاتٍ قَطْعًا.
[رمز5: الموقف من الدنيا]
الرَّمزُ الخامِسُ خَمسُ نِقاطٍ:
[نقطة1: للدنيا ثلاثة وجوه]
النُّقطةُ الأُولَى: يقولُ داعِيةُ أَهلِ الضَّلالِ: لقد لُعِنَتِ الدُّنيا في أَحادِيثِكم، وذُكِرَت أنَّها جِيفةٌ، ونَرَى أنَّ أَهلَ الوِلايةِ وأَهلَ الحَقِيقةِ يُحَقِّرُون الدُّنيا ويَستَهِينُون بها، ويقُولُون: إنَّها فاسِدةٌ، قَذِرةٌ. بَينَما تُظهِرُها أنت على أنَّها مَبعَثُ كَمالٍ إلٰهِيٍّ وحُجّةٌ له، وتَذكُرُها ذِكْرَ عاشِقٍ لها؟!
الجَوابُ: الدُّنيا لها ثَلاثةُ وُجُوهٍ:
الوَجهُ الأوَّل: يَنظُرُ إلى أَسماءِ اللهِ الحُسنَى ويُبيِّنُ آثارَ تلك الأَسماءِ ونُقُوشَها، وتُؤَدِّي الدُّنيا بهذا الوَجْهِ وَظِيفةَ مِرآةٍ لتلك الأَسماءِ بالمَعنَى الحَرفِيِّ، فهذا الوَجْهُ مَكاتِيبُ صَمَدانيّةٌ لا تُحَدُّ؛ لِذا يَستَحِقُّ العِشْقَ لا النُّفُورَ، لأنَّه في غايةِ الجَمالِ.
الوَجهُ الثَّاني: وَجْهٌ يَنظُرُ إلى الآخِرةِ، فهو مَزرَعةُ الآخِرةِ، مَزرَعةُ الجَنّةِ، مَوضِعُ إزهارِ أَزاهِيرِ الرَّحْمةِ الإلٰهِيّةِ؛ وهذا الوَجهُ جَمِيلٌ كالوَجْهِ الأَوَّلِ يَستَحِقُّ المَحَبّةَ لا التَّحقِيرَ.
الوَجهُ الثّالثُ: وَجْهٌ يَنظُرُ إلى أَهواءِ الإنسانِ، ويكُونُ سِتارَ الغافِلِين، ومَوضِعَ لَعِبِ أَهلِ الدُّنيا وأَهوائِهم؛ فهذا الوَجْهُ قَبِيحٌ دَمِيمٌ، لأنَّه فانٍ، زائلٌ، مُؤلمٌ، خَدَّاعٌ.
فالتَّحقِيرُ الوارِدُ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، والنُّفُورُ الَّذي لَدَى أَهلِ الحَقِيقةِ هو مِن هذا الوَجْهِ؛ أمّا ذِكْرُ القُرآنِ الكَرِيمِ للمَوجُوداتِ بأَهَمِّيّةٍ بالِغةٍ وإعجابٍ وإطراءٍ فهو مُتَوجِّهٌ إلى الوَجهَينِ الأَوَّلَينِ، وإنَّ الدُّنيا المَرغُوبَ فيها لَدَى الصَّحابةِ الكِرامِ وسائِرِ أَولياءِ اللهِ في الوَجْهَينِ الأَوَّلَينِ.
والآنَ نَذكُرُ أُولَئِك الَّذين يُحَقِّرُون الدُّنيا، وهم أَربَعةُ أَصنافٍ:
الأوَّل: هم أَهلُ المَعرِفةِ الإلٰهِيّةِ، فهم يُحَقِّرُونها لأنَّها تَحجُبُ عن مَعرِفةِ اللهِ سُبحانَه، وتَستُرُ عن مَحَبَّتِه والعِبادةِ له.
الثّاني: هم أَهلُ الآخِرةِ، فإمّا أنَّ ضَرُوراتِ الحَياةِ الدُّنيَوِيّةِ ومَشاغِلَها تَمنَعُهم عنِ الأَعمالِ الأُخرَوِيّةِ، أو أنَّهم يَرَوْن الدُّنيا قَبِيحةً بالنِّسبةِ لِكَمالاتِ الجَنّةِ وجَمالِها ومَحاسِنِها الَّتي يُشاهِدُونَها بإيمانٍ شُهُودِيٍّ.
نعم، فكما إذا قُورِنَ رَجُلٌ جَمِيلٌ معَ سَيِّدِنا يُوسُفَ عَليهِ السَّلام يَبدُو قَبِيحًا بلا شَكٍّ، كذلك تَبدُو جَمِيعُ مَفاتِنِ الدُّنيا القَيِّمةُ تافِهةً بالنِّسبةِ لِنَعِيمِ الجَنّةِ.
الثّالثُ: يُحَقِّرُ الدُّنيا لأنَّه لا يَحصُلُ علَيها، وهذا التَّحقِيرُ ناتِجٌ مِن مَحَبّةِ الدُّنيا لا مِنَ النُّفُورِ مِنها.
الرّابعُ: يُحَقِّرُ الدُّنيا لأنَّه يَحصُلُ علَيها إلَّا أنَّها لا تَظَلُّ عِندَه، بل تَرحَلُ عنه، فهو بِدَوْرِه يَغضَبُ، ولا يَجِدُ غيرَ تَحقِيرِ الدُّنيا لِيُسَلِّيَ نَفسَه، فيقُولُ: إنَّها قَذِرةٌ. فهذا التَّحقِيرُ أَيضًا ناتِجٌ مِن مَحَبّةِ الدُّنيا؛ بَينَما التَّحقِيرُ المَطلُوبُ هو النّاتِجُ مِن حُبِّ الآخِرةِ ومِن مَحَبّةِ مَعرِفةِ اللهِ. بمَعنَى أنَّ التَّحقِيرَ المَقبُولَ هو القِسمانِ الأَوَّلانِ.. اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنهُم.. آمِينَ بحُرمةِ سَيِّدِ المُرسَلِين ﷺ.
❀ ❀ ❀
[الموقف الثالث: مبحثان]
المَوقفُ الثالث
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾
هذا الموقفُ عبارةٌ عن نقطتَين، وهي مبحثان
[المبحث الأول: جميع حقائق الموجودات تستند إلى الأسماء الإلهية]
المبحَثُ الأوَّل
إنَّ في كلِّ شَيءٍ وُجُوهًا كَثِيرةً جِدًّا مُتَوجِّهةً -كالنَّوافِذِ- إلى اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، بمَضمُونِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾، إذ إنَّ حَقائِقَ المَوجُوداتِ وحَقِيقةَ الكائِناتِ تَستَنِدُ إلى الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى، فحَقِيقةُ كلِّ شَيءٍ تَستَنِدُ إلى اسمٍ مِنَ الأَسماءِ أو إلى كَثِيرٍ مِنَ الأَسماءِ.
وإنَّ الصِّفاتِ والصَّنعةَ المَوجُودةَ في الأَشياءِ أَيضًا تَستَنِدُ إلى اسمٍ مِنَ الأَسماءِ، حتَّى إنَّ عِلْمَ الحِكْمةِ الحَقِيقيَّ يَستَنِدُ إلى اسمِ اللهِ “الحَكِيم”، وعِلْمَ الطِّبِّ يَستَنِدُ إلى اسمِ اللهِ “الشَّافي”، وعِلْمَ الهَندَسةِ يَستَنِدُ إلى اسمِ اللهِ “المُقَدِّر”.. وهكذا كلُّ عِلْمٍ مِنَ العُلُومِ يَستَنِدُ إلى اسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى ويَنتَهِي إلَيه.
كما أنَّ حَقِيقةَ جَمِيعِ العُلُومِ وحَقِيقةَ الكَمالاتِ البَشَرِيّةِ وطَبَقاتِ الكُمَّلِ مِنَ البَشَرِ، تَستَنِدُ كلُّها إلى الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى؛ حتَّى قال أَولياءُ مُحَقِّقون: إنَّ “الحَقائِقَ الحَقِيقيّةَ للأَشياءِ، إنَّما هي الأَسماءُ الإلٰهِيّةُ الحُسنَى، أمّا ماهِيّةُ الأَشياءِ فهي ظِلالُ تلك الحَقائِقِ”، بل يُمكِنُ مُشاهَدةُ آثارِ تَجَلِّي عِشرِين اسمًا مِنَ الأَسماءِ على ظاهِرِ كلِّ ذِي حَياةٍ فحَسْبُ.
[مثال تقريبي]
نُحاوِلُ تَقرِيبَ هذه الحَقِيقةِ الدَّقِيقةِ والعَظِيمةِ الواسِعةِ في الوَقتِ نَفسِه إلى الأَذهانِ بمِثالٍ، نُصَفِّيه بمَصافٍ ونُحَلِّلُه بمُحَلِّلاتٍ مُختَلِفةٍ، ومَهما يَطُلِ البَحثُ بنا فإنَّه يُعَدُّ قَصِيرًا، فيَنبَغي عَدَمُ السَّأَمِ:
إذا أرادَ فَنّانٌ بارِعٌ في التَّصوِيرِ والنَّحْتِ رَسْمَ صُورةِ زَهْرةٍ فائِقةِ الجَمالِ، وعَمَلَ تِمثالِ حَسناءَ رائِعةِ الحُسْنِ، فإنَّه يَبدَأُ أوَّلَ ما يَبدَأُ بتَعيِينِ بعضِ خُطُوطِ الشَّكلِ العامِّ لكُلٍّ مِنهُما، فتَعيِينُه هذا إنَّما يَتِمُّ بتَنظِيمٍ، ويَعمَلُه بتَقدِيرٍ يَستَنِدُ فيه إلى عِلمِ الهَندَسةِ، فيُعيِّنُ الحُدُودَ وَفْقَه.. فهذا التَّنظِيمُ والتَّقدِيرُ يَدُلّانِ على أنَّهما فُعِلا بعِلْمٍ وبحِكْمةٍ. أي إنَّ فِعلَيِ التَّنظِيمِ والتَّحدِيدِ يَتِمّانِ وَفْقَ “بِرْكارِ” العِلمِ والحِكْمةِ، لِذا تَحكُمُ مَعانِي العِلمِ والحِكْمةِ وَراءَ التَّنظِيمِ والتَّحدِيدِ، إذًا ستُبيِّنُ ضَوابِطُ العِلمِ والحِكْمةِ نَفسَها.. نعم، وها هي تُبيِّنُ نَفسَها، إذ نُشاهِدُ الفَنّانَ قد بَدَأ بتَصوِيرِ العَينِ والأُذُنِ والأَنفِ للحَسناءِ وأَوراقِ الزَّهرةِ وخُيُوطِها اللَّطِيفةِ الدَّقيقةِ داخِلَ تلك الحُدُودِ الَّتي حَدَّدَها.
والآن نُشاهِدُ أنَّ تلك الأَعضاءَ التي عُيِّنَت وَفْقَ “بِرْكارِ” العِلمِ والحِكْمةِ أَخَذَت صِيغةَ الصَّنْعةِ المُتقَنةِ والعِنايةِ الدَّقيقةِ، لِذا تَحكُمُ مَعانِي الصُّنعِ والعِنايةِ وَراءَ “بِرْكارِ” العِلمِ والحِكْمةِ.. إذًا ستُبيِّنُ نَفسَها.. نعم، وها قد بَدَأَت قابِليّةُ الحُسنِ والزِّينةِ في الظُّهُورِ مِمّا يَدُلُّ على أنَّ الَّذي يُحرِّكُ الصَّنْعةَ والعِنايةَ هو إرادةُ التَّجمِيلِ والتَّحسِينِ وقَصْدُ التَّزيِينِ، لِذا يَحكُمانِ مِن وَراءِ الصَّنعةِ والعِنايةِ؛ وها قد بَدَأ “الفَنّانُ” بإضفاءِ حالةِ التَّبَسُّمِ لِتِمثالِ الحَسناءِ، وشَرَع بمَنْحِ أَوضاعٍ حَياتيّةٍ لِصُورةِ الزَّهرةِ، أي: بَدَأ بفِعلَيِ التَّزيِينِ والتَّنوِيرِ. لِذا فالَّذي يُحرِّكُ مَعنَى التَّحسِينِ والتَّنوِيرِ هما مَعنَيَا اللُّطْفِ والكَرَمِ.. نعم، إنَّ هذَينِ المَعنَيَينِ يَحكُمانِ، بل يُهَيمِنانِ إلى دَرَجةٍ كأنَّ تلك الزَّهرةَ لُطْفٌ مُجَسَّمٌ، وذلك التِّمثالَ كَرَمٌ مُتَجَسِّدٌ.
تُرَى ما الَّذي يُحرِّكُ مَعانِيَ الكَرَمِ واللُّطفِ، وما وراءَهما غيرُ مَعاني التَّودُّدِ والتَّعرُّفِ؟! أي: تَعرِيفُ نَفسِه بمَهارَتِه وفَنِّه وتَحبِيبُها إلى الآخَرِين، وهذا التَّعرِيفُ والتَّحبِيبُ آتِيانِ مِنَ المَيلِ إلى الرَّحمةِ وإرادةِ النِّعمةِ.
وحيثُ إنَّ الرَّحمةَ وإرادةَ النِّعمةِ مِن وَراءِ التَّوَدُّدِ والتَّعرُّفِ، فستَمْلَآنِ إذًا نَواحِيَ التِّمثالِ بأَنواعِ الزِّينةِ والنِّعَمِ، وستُعلَّقانِ على الصُّورةِ، صُورةِ الزَّهرةِ الجَمِيلةِ هَدِيّةً ثَمِينةً.. وها نحن نُشاهِدُ أنَّ “الفَنّانَ” قد بَدَأ بِمَلْءِ يَدَيِ التِّمثالِ وصَدْرِه بنِعَمٍ قيِّمةٍ ويُعلِّقُ على صُورةِ الزَّهرةِ دُرَرًا ثَمِينةً.. بمَعنَى أنَّ مَعانِيَ التَّرحُّمِ والتَّحنُّنِ والإشفاقِ قد حَرَّكَتِ الرَّحمةَ وإرادةَ النِّعمةِ.
وما الَّذي يُحرِّكُ مَعانِيَ التَّرحُّمِ والتَّحنُّنِ هذه، وما الَّذي يَسُوقُهما إلى الظُّهُورِ لَدَى ذلك المُستَغني عنِ النّاسِ، غيرُ ما في ذاتِه مِن جَمالٍ مَعنَوِيٍّ وكَمالٍ مَعنَوِيٍّ يُرِيدانِ الظُّهورَ؟! إذ إنَّ أَجمَلَ ما في ذلك الجَمالِ -وهو المَحَبّةُ- وأَلذَّ ما فيه -وهو الرَّحمةُ- كلٌّ مِنهُما -أي: المَحَبّةُ والرَّحمةُ- يُرِيدانِ إراءةَ نَفسَيهِما بمِرآةِ الصَّنعةِ، ويُرِيدُ -أي: الجَمالُ- رُؤيةَ نَفسِه بعُيُونِ المُشتاقين، لأنَّ الجَمالَ -وكذا الكَمالَ- مَحبُوبٌ لِذاتِه، يُحِبُّ نَفسَه أَكثَرَ مِن أيِّ شَيءٍ آخَرَ، حيثُ إنَّه حُسنٌ وعِشقٌ في الوَقتِ نَفسِه، فاتِّحادُ الحُسنِ والعِشقِ آتٍ مِن هذه النُّقطةِ.
ولَمّا كان الجَمالُ يُحِبُّ نَفسَه، فلا بُدَّ أنَّه يُرِيدُ رُؤيةَ نَفسِه في المَرايا، فالنِّعَمُ المَوضُوعةُ على التِّمثالِ، والثَّمَراتُ اللَّطِيفةُ المُعلَّقةُ على الصُّورةِ، تَحمِلُ لَمْعةً بَرّاقةً مِن ذلك الجَمالِ المَعنَوِيِّ -كلٌّ حَسَبَ قابِليَّتِه- فتُظهِرُ تلك اللَّمَعاتُ السّاطِعةُ نَفسَها إلى صاحِبِ الجَمالِ، وإلى الآخَرِين معًا.
وعلى غِرارِ هذا المِثالِ يُنظِّمُ الصّانِعُ الحَكِيمُ -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- الجَنّةَ والدُّنيا والسَّماواتِ والأَرضَ والنَّباتاتِ والحَيَواناتِ والجِنَّ والإنسَ والمَلَكَ والرُّوحانيّاتِ.. أي بتَعبِيرٍ مُوجَزٍ: يُنظِّمُ سُبحانَه جَمِيعَ الأَشياءِ كُلِّيِّها وجُزئيِّها.. يُنَظِّمُها جَمِيعًا بَتَجلِّياتِ أَسمائِه الحُسنَى، ويُعطِي لكُلٍّ مِنها مِقدارًا مُعيَّنًا حتَّى يَجعَلَه يَستَقرِئُ اسمَ “المُقَدِّر، المُنَظِّم، المُصَوِّر”.
وهكذا بتَعيِينِه سُبحانَه وتَعالَى حُدُودَ الشَّكلِ العامِّ لكُلِّ شَيءٍ تَعيِينًا دَقِيقًا يُظهِرُ اسمَيِ “العَلِيم، الحَكِيم”.
ثمَّ يَرسُمُ بمِسطَرةِ العِلمِ والحِكمةِ ذلك الشَّيءَ ضِمنَ الحُدُودِ المُعيَّنةِ، رَسْمًا مُتقَنًا إلى حَدٍّ يُظهِرُ مَعانِيَ الصُّنعِ والعِنايةِ، أي اسمَيِ: “الصَّانِع، الكَرِيم”.
ثمَّ يُضفِي على تلك الصُّورةِ جَمالًا وزِينةً، بفِرشاةِ العِنايةِ وباليَدِ الكَرِيمةِ للصَّنعةِ، فإن كانَتِ الصُّورةِ إنسانًا أَضفَى على أَعضائِه كالعَينِ والأَنفِ والأُذُنِ أَلوانًا مِنَ الحُسنِ والجَمالِ.. وإن كانَتِ الصُّورةُ زَهْرةً أَضفَى سُبحانَه إلى أَوراقِها وأَعضائِها وخُيُوطِها الرَّقيقةِ أَلوانًا مِنَ الجَمالِ والرُّواءِ والحُسنِ.. وإن كانَتِ الصُّورةُ أَرضًا مَنَح مَعادِنَها ونَباتاتِها وحَيَواناتِها أَلوانًا مِنَ الزِّينةِ وضُرُوبًا مِنَ الجَمالِ والحُسنِ.. وإن كانَتِ الصُّورةُ جَنّةَ النَّعِيمِ أَسبَغَ على قُصُورِها أَلوانًا مِنَ الحُسنِ وعلى حُورِها أَنواعًا مِنَ الزِّينةِ.. وهكذا قِسْ على هذا المِنوالِ.
ثمَّ يُزَيِّنُ ذلك الشَّيءَ ويُنوِّرُه بطِرازٍ بَدِيعٍ مِنَ الزِّينةِ والنُّورِ حتَّى تَحكُمَ علَيه مَعاني اللُّطفِ والكَرَمِ فتَجعَلَ ذلك المَوجُودَ المُزيَّنَ وذلك المَصنُوعَ المُنوَّرَ لُطْفًا مُجَسَّمًا وكَرَمًا مُتَجسِّدًا يُذَكِّرُ باسمَيِ “اللَّطِيف، الكَرِيم”. والَّذي يَسُوقُ ذلك اللُّطفَ والكَرَم إلى هذا التَّجَلِّي إنَّما هو التَّوَدُّدُ والتَّعرُّفُ، أي: شُؤُونُ تَحبِيبِ ذاتِه الجَلِيلةِ إلى ذَوِي الحَياةِ وتَعرِيفِ ذاتِه إلى ذَوِي الشُّعُورِ حتى يُقرَأَ على ذلك الشَّيءِ اسمَا “الوَدُودِ والمَعرُوفِ” اللَّذانِ هما وَراءَ اسمَيِ “اللَّطِيف، الكَرِيم”، بل يُسمِعانِ قِراءَتَه لذَينِك الِاسمَينِ مِن حالِ المَصنُوعِ نَفسِه..
ثمَّ يُجَمِّلُ سُبحانَه ذلك المَوجُودَ المُزَيَّن، وذلك المَخلُوقَ الجَمِيلَ، بثَمَراتٍ لَذِيذةٍ، بنَتائِجَ مَحبُوبةٍ، فيُحَوِّلُ جَلَّ وعلا الزِّينةَ إلى نِعمةٍ، واللُّطفَ إلى رَحمةٍ، حتَّى يَدفَعَ كلَّ مُشاهِدٍ لقِراءةِ اسمَيِ “المُنعِمِ، الرَّحِيمِ” حيثُ تَشِفُّ تَجَلِّياتُ ذَينِك الِاسمَينِ مِن وَراءِ الحُجُبِ الظّاهِرِيّة.
ثمَّ إنَّ الَّذي يَسُوقُ اسمَيِ “الرَّحِيمِ والكَرِيمِ” -وهو المُستَغني المُطلَقُ- إلى هذا التَّجَلِّي إنَّما هو شُؤُونُ “التَّرحُّمِ والتَّحَنُّنِ”، مِمّا يَجعَلُ المُشاهِدَ يَقرَأُ على الشَّيءِ اسمَيِ “الحَنَّانِ، الرَّحمٰنِ”.. والَّذي يَسُوقُ مَعانِيَ التَّرحُّمِ والتَّحنُّنِ إلى التَّجَلِّي، جَمالٌ وكَمالٌ ذاتيّانِ، يُرِيدانِ الظُّهُورَ، مِمّا يَدفَعُ المُشاهِدَ إلى قِراءةِ اسمِ “الجَمِيلِ”، واسمَيِ “الوَدُودِ، الرَّحيمِ” المُندَرِجَينِ فيه؛ إذِ الجَمالُ مَحبُوبٌ لِذاتِه، والجَمالُ وذُو الجَمالِ يُحِبُّ نَفسَه بالذّاتِ فهو حُسنٌ وهو مَحَبّةٌ، وكذا الكَمالُ مَحبُوبٌ لِذاتِه، أي: مَحبُوبٌ بلا داعٍ ولا سَبَبٍ، فهو مُحِبٌّ وهو مَحبُوبٌ.
فما دامَ جَمالٌ في كَمالٍ لا نِهايةَ له، وكذا كَمالٌ في جَمالٍ لا نِهايةَ له، يُحَبُّ كلٌّ مِنهُما غايةَ الحُبِّ ومُنتَهاه، وهما يَستَحِقّانِ المَحَبّةَ والعِشقَ، فلا بُدَّ أنَّهما يُرِيدانِ الظُّهُورَ في مَرايا، ويُرِيدانِ شُهُودَ لَمَعاتِهما وتَجَلِّياتِهما -حَسَبَ قابِليّةِ المَرايا- وإشهادِها الآخَرِين.
وهذا يَعنِي أنَّ الجَمالَ الذّاتِيَّ والكَمالَ الذّاتِيَّ للصّانِعِ ذِي الجَلالِ، والحَكِيمِ ذِي الجَمالِ، والقَدِيرِ ذِي الكَمالِ، يُرِيدانِ التَّرحُّمَ والتَّحنُّنَ، فيَسُوقانِ اسمَيِ “الرَّحمٰنِ، الحَنّانِ” إلى التَّجَلِّي.
والتَّرحُّمُ والتَّحَنُّنُ يَسُوقانِ اسمَيِ “الرَّحِيمِ والمُنعِمِ” إلى التَّجَلِّي، وذلك بإظهارِ الرَّحمةِ والنِّعمةِ معًا.
والرَّحمةُ والنِّعمةُ تَقتَضِيانِ شُؤُونَ التَّودُّدِ والتَّعرُّفِ وتَسُوقانِ اسمَيِ “الوَدُودِ والمَعرُوفِ” إلى التَّجَلِّي فيَظهَرانِ على المَصنُوعِ.
والتَّودُّدُ والتَّعرُّفُ يُحَرِّكانِ مَعنَى اللُّطفِ والكَرَمِ ويَستَقرِئانِ اسمَيِ “اللَّطِيفِ والكَرِيمِ”، في بعضِ نَواحِي المَصنُوعِ.
وشُؤُونُ اللُّطفِ والكَرَمِ تُحرِّكُ فِعلَيِ التَّزيِينِ والتَّنوِيرِ فتَستَقرِئُ اسمَيِ “المُزَيِّنِ المُنَوِّرِ” بلِسانِ حُسنِ المَصنُوعِ ونُورانيَّتِه.
وشُؤُونُ التَّزيِينِ والتَّحسِينِ تَقتَضِي مَعانِيَ الصُّنعِ والعِنايةِ، وتَستَقرِئُ اسمَيِ “الصّانِعِ والمُحسِنِ” في السِّيماءِ الجَمِيلِ لِذلك المَصنُوعِ.
وذلك الصُّنعُ والعِنايةُ تَقتَضِيانِ العِلمَ والحِكْمةَ، فيَستَقرِئُ المَصنُوعُ اسمَيِ “العَلِيمِ والحَكيمِ” في أَعضائِه المُنتَظِمةِ الحَكِيمةِ.
ولا شَكَّ أنَّ ذلك العِلمَ والحِكْمةَ تَقتَضِيانِ أَفعالَ التَّنظِيمِ والتَّصوِيرِ والتَّشكِيلِ، فيَستَقرِئُ المَصنُوعُ بشَكْلِه وبِهَيئَتِه، اسمَيِ “المُصَوِّر المُقَدِّر”.
وهكذا خَلَق الصَّانِعُ الجَلِيلُ مَصنُوعاتِه كُلَّها، حتَّى يَستَقرِئَ القِسمُ الغالِبُ مِنها -ولا سِيَّما ذَوِي الحَياةِ- كَثِيرًا جِدًّا مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى، وكأنَّه سُبحانَه قد أَلبَسَ كلَّ مَصنُوعٍ عِشرِين حُلّةً مُتَبايِنةً مُتَراكِبةً، أو كأنَّه لَفَّ مَصنُوعَه ذلك بعِشرِين غِطاءً وسَتَرَه بعِشرِين سِتارًا، وكَتَب على كلِّ حُلّةٍ، وعلى كلِّ سِتارٍ أَسماءَه المُختَلِفةَ.
[صحائف الأسماء الإلهية]
ففي زَهرةٍ واحِدةٍ جَمِيلةٍ، وفي حَسناءَ لَطِيفةٍ، مَثلًا في ظاهِرِ خَلْقِهِما صَحائِفُ كَثِيرةٌ جِدًّا -كما في المِثالِ- يُمكِنُك أن تَأْخُذَهما مِثالًا تَقِيسُ علَيهِما المَصنُوعاتِ الأُخرَى العَظِيمةَ.
الصَّحِيفةُ الأُولى: هَيْئةُ الشَّيءِ الَّتي تُبيِّنُ شَكْلَه العامَّ ومِقدارَه، والَّتي تُذَكِّرُ بأَسماءِ: يا مُصَوِّرُ، يا مُقَدِّرُ، يا مُنَظِّمُ.
الصَّحِيفةُ الثّانية: صُوَرُ الأَعضاءِ المُتَبايِنةِ المُنكَشِفةِ ضِمنَ تلك الهَيْئةِ البَسِيطةِ للزَّهرةِ والإنسانِ، الَّتي تُسَطِّـرُ في تلك الصَّحِيفةِ أَسماءً كَثِيرةً أَمثالَ: العَلِيمِ، الحَكِيمِ.
الصَّحيفةُ الثّالثة: إضفاءُ الحُسنِ والزِّينةِ على الأَعضاءِ المُتَبايِنةِ لِذَينِك المَخلُوقَينِ بأَنماطٍ مُتَنوِّعةٍ مِنَ الحُسنِ والزِّينةِ حتَّى تُكتَبَ في تلك الصَّحِيفةِ أَسماءٌ كَثيرةٌ مِن أَمثالِ: الصّانِعِ، البارِئِ.
الصَّحيفةُ الرّابعة: الزِّينةُ والحُسنُ البَدِيعُ المَوهُوبانِ إلى ذَينِك المَصنُوعَينِ، حتَّى كأنَّ اللُّطفَ والكَرَمَ قد تَجَسَّما فيهما، فتلك الصَّحِيفةُ تُذَكِّرُ وتَقرَأُ أَسماءً كَثِيرةً أَمثالَ: يا لَطِيفُ. يا كَرِيمُ.
الصَّحيفةُ الخامسة: تَعلِيقُ ثَمَراتٍ لَذِيذةٍ على تلك الزَّهرةِ، ومَنحُ الأَولادِ المَحبُوبِين والأَخلاقِ الفاضِلةِ لِتِلك الحَسناءِ، يَجعَلانِ تلك الصَّحِيفةَ تَستَقرِئُ أَسماءً كَثِيرةً أَمثالَ: يا وَدُودُ، يا رَحِيمُ، يا مُنعِمُ.
الصَّحيفةُ السّادسة: صَحِيفةُ الإنعامِ والإحسانِ الَّتي تَقرَأُ أَسماءً أَمثالَ: يا رَحمٰنُ يا حَنّانُ.
الصَّحيفةُ السّابعة: ظُهُورُ لَمَعاتِ حُسْنٍ وجَمالٍ واضِحةٍ في تلك النِّعَمِ وتلك النَّتائِجِ حتَّى تكُونَ أَهلًا لِشُكرٍ خالِصٍ عُجِنَ بشَوقٍ وشَفَقةٍ حَقِيقيَّينِ، ومُستَحِقًّا لِمَحبّةٍ خالِصةٍ طاهِرةٍ، فتُكتَبُ في تلك الصَّحِيفةِ وتُقرَأُ أَسماءُ: يا جَمِيلُ ذا الكَمالِ، يا كامِلُ ذا الجَمالِ.
نعم، إن كانَت زَهرةٌ جَمِيلةٌ واحِدةٌ، وإِنسِيّةٌ حَسْناءُ جَمِيلةٌ، يُظهِرانِ إلى هذا الحَدِّ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى في صُورَتِهما الظّاهِرِيّةِ المادِّيّةِ فقط، فإلى أيِّ حَدٍّ مِنَ السُّمُوِّ والكُلِّيّةِ تَستَقرِئُ جَمِيعُ الأزهار، وجَمِيعُ ذَوِي الحَياةِ والمَوجُوداتُ العَظِيمةُ الكُلِّيّةُ، الأَسماءَ الحُسنَى الإلٰهِيّةَ؟! يُمكِنُك أن تَقِيسَ ذلك بنَفسِك.
ويُمكِنُك في ضَوْءِ ذلك أن تَقِيسَ أَيضًا مَدَى ما يَقرَؤُه الإنسانُ وما يَستَقرِئُه مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى القُدسِيّةِ النُّورانيّةِ أَمثالَ: الحَيِّ، القَيُّومِ، المُحيِي، في كلٍّ مِن صَحائِفِ الحَياةِ واللَّطائِفِ الإنسانيّةِ كالرُّوحِ والقَلبِ والعَقلِ. وهكذا.. فالجَنّةُ زَهرةٌ. والحُورُ زَهرةٌ، وسَطحُ الأَرضِ زَهرةٌ، والرَّبيعُ زَهرةٌ، والسَّماءُ زَهرةٌ: والنُّجُومُ المُذَهَّبةُ نُقُوشُها البَدِيعةُ؛ والشَّمسُ زَهرةٌ: وأَلوانُ ضِيائِها السِّبعةُ أَصباغُ نُقُوشِ تلك الزَّهرةِ.
والعالَمُ إنسانٌ جَمِيلٌ عَظِيمٌ، مِثلَما أنَّ الإنسانَ عالَمٌ مُصَغَّرٌ، فنَوعُ الحُورِ، وجَماعةُ الرُّوحانيّاتِ، وجِنسُ المَلَكِ، وطائِفةُ الجِنِّ، ونَوعُ الإنسانِ، كلٌّ مِن هَؤُلاء قد صُوِّر ونُظِّم وأُوجِدَ في حُكْمِ إنسانٍ جَمِيلٍ؛ كما أنَّ كُلًّا مِنهم مَرايا مُتَنوِّعةٌ مُتَبايِنةٌ لِإظهارِ جَمالِه سُبحانَه وكَمالِه ورَحمَتِه ومَحَبَّتِه.. وكلٌّ مِنهم شاهِدُ صِدْقٍ لِجَمالٍ وكَمالٍ ورَحمةٍ ومَحَبّةٍ لا مُنتَهَى لها.. وكلٌّ مِنهم آياتُ جَمالٍ وكَمالٍ ورَحمةٍ ومَحَبّةٍ.
فهذه الأَنواعُ مِنَ الكَمالاتِ الَّتي لا نِهايةَ لها، حاصِلةٌ ضِمنَ دائِرةِ الواحِدِيّةِ والأَحَدِيّةِ، وهذا يَعنِي أنَّ ما يُتَوَهَّمُ مِن كَمالاتٍ خارِجَ تلك الدّائِرةِ لَيسَت كَمالاتٍ قَطْعًا.
فافْهَمْ مِن هذا استِنادَ حَقائِقِ الأَشياءِ إلى الأَسماءِ الحُسنَى، بلِ الحَقائِقُ الحَقِيقيّةُ إنَّما هي تَجَلِّياتُ تلك الأَسماءِ؛ وأنَّ كلَّ شَيءٍ بجِهاتٍ كَثيرةٍ وبأَلسِنةٍ كَثيرةٍ يَذكُرُ صانِعَه ويُسَبِّحُه ويُقَدِّسُه؛ وافْهَمْ مِن هذا مَعنًى واحِدًا مِن مَعاني الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾؛ وقُلْ: سُبحانَ مَنِ اختَفَى بشِدّةِ ظُهُورِه! وافْهَمْ سِرًّا مِن أَسرارِ خَواتِيمِ الآياتِ وحِكْمةَ تَكرارِ أَمثالِ: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
فإن لم تَستَطِعْ أن تَقرَأَ في زَهرةٍ واحِدةٍ الأَسماءَ الحُسنَى، وتَعجِزُ عن رُؤيَتِها بوُضُوحٍ، فانظُر إلى الجَنّةِ وتَأَمَّل في الرَّبيعِ وشَاهِدْ سَطْحَ الأَرضِ، عِندَ ذلك يُمكِنُك أن تَقرَأَ بوُضُوحٍ الأَسماءَ المَكتُوبةَ على الجَنّةِ وعلى الرَّبيعِ وعلى سَطْحِ الأَرضِ، الَّتي هي أَزاهِيرُ كَبِيرةً جِدًّا لِرَحمةِ اللهِ الواسِعةِ.
[المبحث الثاني: السعادة الحقيقية أين هي؟]
المبحث الثاني من المَوقِف الثالث من “الكلمة الثَّانية والثَّلاثين”:
إنَّ مُمَثِّلَ أَهلِ الضَّلالةِ والدّاعِيةَ لها، إذ لم يَجِدْ ما يَبنِي علَيه ضَلالَتَه، وعِندَما تَفُوتُه البَيِّنةُ وتَلزَمُه الحُجّةُ يقولُ: إنِّي أَرَى أنَّ سَعادةَ الدُّنيا، والتَّمَتُّعَ بلَذّةِ الحَياةِ، والرُّقيَّ والحَضارةَ، والتَّقدُّمَ الصِّناعِيَّ هي في عَدَمِ تَذَكُّرِ الآخِرةِ وفي عَدَمِ الإيمانِ باللهِ وفي حُبِّ الدُّنيا وفي التَّحَرُّرِ مِنَ القُيُودِ وفي الِاعتِدادِ بالنَّفسِ والإعجابِ بها.. لِذا سُقْتُ أَكثَرَ النّاسِ ولا زِلتُ أَسُوقُهم -بهِمّةِ الشَّيطانِ- إلى هذا الطَّرِيقِ.
الجَوابُ: ونحنُ بدَورِنا نقُولُ -باسمِ القُرآنِ الكَرِيمِ -: أيُّها الإنسانُ البائِسُ، عُدْ إلى رُشْدِك، لا تُصْغِ إلى داعِيةِ أَهلِ الضَّلالةِ؛ ولَئِن أَلقَيتَ السَّمْعَ إلَيه لَيَكُونَنَّ خُسْرانُك مِنَ الفَداحةِ ما يَقشَعِرُّ مِن هَوْلِ تَصَوُّرِه الرُّوحُ والعَقلُ والقَلبُ. فأَمامَك طَرِيقانِ:
الأَوَّلُ: هو طَرِيقٌ ذُو شَقاءٍ يُرِيك إيَّاه داعِيةُ الضَّلالةِ.
الثّاني: هو الطَّرِيقُ ذُو السَّعادةِ الَّذي يُبيِّنُه لك القُرآنُ الحَكِيمُ.
ولقد رَأَيتَ كَثِيرًا مِنَ المُوازَناتِ بينَ ذَينِك الطَّرِيقَينِ في كَثيرٍ مِنَ “الكَلِماتِ”، ولا سِيَّما في “الكَلِماتِ الصَّغِيرةِ”، والآنَ انسِجامًا معَ البَحثِ تَأَمَّلْ في واحِدةٍ مِن أَلفٍ مِنَ المُقارَناتِ والمُوازَناتِ وتَدَبَّرْها، وهي:
إنَّ طَرِيقَ الشِّركِ والضَّلالةِ والسَّفاهةِ والفُسُوقِ يَهوِي بالإنسانِ إلى مُنتَهَى السُّقُوطِ وإلى أَسفَلِ سافِلِينَ، ويُلقِي على كاهِلِه الضَّعِيفِ العاجِزِ في غَمْرةِ آلامٍ غيرِ مَحدُودةٍ عِبْئًا ثَقِيلًا لا نِهايةَ لِثِقَلِه، ذلك لأنَّ الإنسانَ إن لم يَعرِفِ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى وإن لم يَتَوكَّلْ علَيه، يكُونُ بمَثابةِ حَيَوانٍ فانٍ، يَتَألَّمُ دَوْمًا ويَحْزَنُ باستِمرارٍ، ويَتَقلَّبُ في عَجْزٍ وضَعْفٍ لا نِهايةَ لهما، ويَتَلوَّى في حاجةٍ وفَقْرٍ لا نِهايةَ لَهما، ويَتَعرَّضُ لِمَصائِبَ لا حَدَّ لها، ويَتَجرَّعُ آلامَ الفِراقِ مِنَ الَّتي استَهْواها ونَسَجَ بينَه وبَينَها خُيُوطَ العَلاقاتِ، فيُقاسِي -وما زال يُقاسِي -حتَّى يُغادِرَ ما بَقِيَ مِن أَحِبّائِه نِهايةَ المَطافِ ويُفارِقُهم جَزِعًا وَحِيدًا غَرِيبًا إلى ظُلُماتِ القَبْرِ.
وسَيَجِدُ نَفسَه طَوالَ حَياتِه أَمامَ آلامٍ وآمالٍ لا نِهايةَ لَهُما، معَ أنَّه لا يَملِكُ سِوَى إرادةٍ جُزئيّةٍ، وقُدرةٍ مَحدُودةٍ، وحَياةٍ قَصِيرةٍ، وعُمُرٍ زائِلٍ، وفِكْرٍ آفِلٍ.. فتَذهَبُ جُهُودُه في تَطمِينِها سُدًى، ويَسعَى هَباءً وَراءَ رَغَباتِه الَّتي لا تُحَدُّ. وهكذا تَمضِي حَياتُه دُونَ أن يَجنِيَ ثَمَرًا. وبَينَما تَجِدُه عاجِزًا عن حَمْلِ أَعباءِ نَفسِه، تَراه يُحَمِّلُ عاتِقَه وهامَتَه المِسكِينةَ أَعباءَ الدُّنيا الضَّخمةِ، فيَتَعذَّبُ بعَذابٍ مُحرِقٍ أَليمٍ قبلَ الوُصُولِ إلى عَذابِ الجَحِيمِ.
إنَّ أَهلَ الضَّلالةِ لا يَشعُرُون بهذا الأَلَمِ المَرِيرِ والعَذابِ الرُّوحِيِّ الرَّهِيبِ، إذ يُلقُون أَنفُسَهم في أَحضانِ الغَفْلةِ ليُبطِلُوا شُعُورَهم ويُخَدِّرُوا إحساسَهم مُؤَقَّـتًا بسُكْرِها.. ولكن ما إن يَدنُو أَحَدُهم مِن شَفِيرِ القَبْرِ حتَّى يُرهَفَ إحساسُه ويُضاعَفَ شُعُورُه بهذه الآلامِ دُفعةً واحِدةً، ذلك لأنَّه إن لم يكُن عَبدًا خالِصًا للهِ تَعالَى فسيَظُنُّ أنَّه مالِكُ نَفسِه، معَ أنَّه عاجِزٌ بإرادَتِه الجُزئيّةِ وقُدرَتِه الضَّئِيلةِ حتَّى عن إدارةِ كِيانِه وَحْدَه أَمامَ أَحوالِ هذه الدُّنيا العاصِفةِ، إذ يَرَى عالَمًا مِنَ الأَعداءِ يُحِيطُ به ابتِداءً مِن أَدَقِّ المَيكرُوباتِ وانتِهاءً بالزَّلازِلِ المُدَمِّرةِ، على أَتَمِّ استِعدادٍ للِانقِضاضِ علَيه والإجهازِ على حَياتِه، فتَرتَعِدُ فَرائصُه ويَرتَجِفُ قَلبُه رُعبًا وهَلَعًا كلَّما تَخَيَّل القَبْرَ ونَظَر إلَيه.
وبَينَما يُقاسِي هذا الإنسانُ ما يُقاسِي مِن وَضْعِه إذا بأَحوالِ الدُّنيا الَّتي يَتَعلَّقُ بها تُرهِقُه دَوْمًا، وإذا بأَوضاعِ بَنِي الإنسانِ الَّذي يَرتَبِطُ بهم تُنهِكُه باستِمرارٍ، ذلك لِظَنِّه أنَّ هذه الأَحداثَ والوَقائِعَ ناشِئةٌ مِن لَعِبِ الطَّبِيعةِ وعَبَثِ المُصادَفةِ، ولَيسَت مِن تَصَرُّفِ واحِدٍ أَحَدٍ حَكِيمٍ عَلِيمٍ، ولا مِن تَقدِيرِ قادِرٍ رَحِيمٍ كَرِيمٍ، فيُعاني معَ آلامِه هو آلامَ النَّاسِ كذلك، فتُصبِحُ الزَّلازِلُ والطّاعُونُ والطُّوفانُ والقَحْطُ والغَلاءُ والفَناءُ والزَّوالُ وما شابَهَها مَصائِبَ قاتِمةً وبَلايا مُزعِجةً مُعَذِّبةً!
فهذا الإنسانُ الَّذي اختارَ بنَفسِه هذا الوَضْعَ المُفجِعَ، لا يُثيرُ إشفاقًا علَيه، ولا رِثاءً على حالِه.. مثَلُه في هذا كمَثَلِ الَّذي ذُكِرَ في المُوازَنةِ بينَ الشَّقِيقَينِ في “الكَلِمةِ الثّامِنةِ” مِن أنَّ رَجُلًا لم يَقْنَعْ بِلَذّةٍ بَرِيئةٍ ونَشْوةٍ نَزِيهةٍ وتَسْلِيةٍ حُلْوةٍ ونُزهةٍ شَرِيفةٍ مَشرُوعةٍ، بينَ أَحِبّةٍ لُطَفاءَ في رَوْضةٍ فَيْحاءَ وَسَطَ ضِيافةٍ كَرِيمةٍ، فراحَ يَتَعاطَى الخَمْرَ النَّجِسةَ لِيَكسِبَ لَذّةً غيرَ مَشرُوعةٍ، فسَكِرَ حتَّى بَدَأ يُخيَّلُ إلَيه أنَّه في مَكانٍ قَذِرٍ، وبينَ ضَوارٍ مُفتَرِسةٍ، تُصِيبُه الرَّعشةُ كأنَّه في شِتاءٍ، وبَدَأ يَستَصرِخُ ويَستَنجِدُ فلم يَستَحِقَّ أن يُشفِقَ علَيه أَحَدٌ، لأنَّه تَصَوَّر أَصدِقاءَه الطَّـيِّبِين حَيَواناتٍ شَرِسةً، فحَقَّرَهم وأَهانَهم.. وتَوَهَّم الأَطعِمةَ اللَّذِيذةَ والأَوانِيَ النَّظِيفةَ الَّتي في صالةِ الضِّيافةِ أَحجارًا مُلَوَّثةً، فباشَرَ بتَحطِيمِها.. وظَنَّ الكُتُبَ القَيِّمةَ والرَّسائِلَ النَّفِيسةَ في المَجلِسِ نُقُوشًا عادِيّةً وزَخارِفَ لا مَعنَى لها، وشَرَع بتَمزِيقِها ورَمْيِها تحتَ الأَقدامِ.. وهكذا.
فكَما لا يكُونُ هذا الشَّخصُ وأَمثالُه أَهلًا للرَّحمةِ ولا يَستَحِقُّ الرَّأفةَ، بل يَستَوجِبُ التَّأدِيبَ والتَّأنِيبَ، كذلك الحالُ معَ مَن يَتَوهَّمُ بسُكْرِ الكُفرِ وجُنُونِ الضَّلالةِ النّاشِئَينِ مِن سُوءِ اختِيارِه أنَّ الدُّنيا الَّتي هي مَضِيفُ الصّانِعِ الحَكِيمِ لُعبةُ المُصادَفةِ العَمْياءِ، وأُلعُوبةُ الطَّبِيعةِ الصَّمّاءِ.. ويَتَصوَّرُ تَجدِيدَ المَصنُوعاتِ لِتَجلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى وعُبُورَها إلى عالَمِ الغَيبِ معَ تَيّارِ الزَّمنِ، بعدَ أن أَنهَتْ مَهامَّها واستَنفَدَت أَغراضَها، كأنَّها تَصُبُّ في بَحرِ العَدَمِ ووادِي الِانعِدامِ وتَغِيبُ في شَواطِئِ الفَناءِ.. ويَتَخيَّلُ أَصواتَ التَّسبِيحِ والتَّحمِيدِ الَّتي تَملَأُ الأَكوانَ والعَوالِمَ أَنينًا ونُواحًا يُطلِقُه الزّائِلُون الفانُون في فِراقِهِمُ الأَبَدِيِّ.. ويَحسَبُ صَحائِفَ هذه المَوجُوداتِ الَّتي هي رَسائِلُ صَمَدانيّةٌ رائِعةٌ خَلِيطًا لا مَعنَى له ولا مَغزَى.. ويَخالُ بابَ القَبْرِ الَّذي يَفتَحُ الطَّرِيقَ إلى عالَمِ الرَّحمةِ الفَسِيحِ نَفَقًا يُؤَدِّي إلى ظُلُماتِ العَدَمِ.. ويَتَصوَّرُ الأَجَلَ الَّذي هو دَعوةُ الوِصالِ واللِّقاءِ بالأَحبابِ الحَقِيقيِّين أَوانَ فِراقِ الأَحِبّةِ جَميعِهم!.
نعم، إنَّ الَّذي يَعِيشُ في دَوّامةِ هذه التَّصَوُّراتِ والأَوهامِ يُلقِي نَفسَه في أَتُونِ عَذابٍ دُنيَوِيٍّ أَليمٍ، ففَضْلًا عن أنَّه لا يكُونُ أَهلًا لِرَحمةٍ ولا لِرَأفةٍ، يَستَحِقُّ عَذابًا شَدِيدًا، لِتَحقِيرِه المَوجُوداتِ، باتِّهامِها بالعَبَثيّةِ، وتَزيِيفِه الأَسماءَ الحُسنَى، بإنكارِ تَجَلِّياتِها، وإنكارِه الرَّسائلَ الرَّبّانيّةَ برَدِّه شَهاداتِها على الوَحْدانيّةِ.
فيا أيُّها الضّالُّون السُّفَهاءُ، ويا أيُّها التُّعَساءُ الأَشقِياءُ، تُرَى هل يُجدِي أَعظَمُ عُلُومِكُم، وأَعلَى صُرُوحِ حَضارَتِكُم وأَرقَى مَراتِبِ نُبُوغِكُم وأَنفَذُ خُطَطِ دَهائِكُم شَيْئًا أَمامَ هذا السُّقُوطِ المُخِيفِ المُرِيعِ للإنسانِ؟ وهل يَستَطِيعُ الصُّمُودَ حِيالَ هذا اليَأْسِ المُدَمِّرِ للرُّوحِ البَشَرِيّةِ التَّوّاقةِ إلى السُّلوانِ؟ وهل يَقدِرُ ما تُطلِقُون مِن “طَبِيعةٍ” لكم، وما تُسنِدُون إلَيه الآثارَ الإلٰهِيّةَ مِن “أَسبابٍ” عِندَكم، وما تَنسُبُون إلَيه الإحساناتِ الرَّبّانيّةَ مِن “شَرِيكٍ” لَدَيكُم، وما تَتَباهَوْن به مِن “كُشُوفاتِكُم”، وما تَعتَزُّون به مِن “قَومِكُم”، وما تَعبُدُون مِن “مَعبُودِكُمُ” الباطِلِ.. هل يَستَطِيعُ كلُّ أُولَئِك إنقاذَكم مِن ظُلُماتِ المَوتِ الَّذي هو إعدامٌ أَبدِيٌّ لَدَيكُم؟ وهل يَستَطِيعُ كلُّ أُولَئك إمرارَكم مِن حُدُودِ القَبْرِ بسَلامةٍ، ومِن تُخُومِ البَرزَخِ بأَمانٍ، ومِن مَيدانِ الحَشرِ باطمِئْنانٍ، ويَتَمكَّنُ مِن أن يُعِينَكُم على عُبُورِ جِسرِ الصِّراطِ تَحتَ حُكْمِه، ويَجعَلَكم أَهلًا للسَّعادةِ الأَبدِيّةِ والحَياةِ الخالِدةِ؟
إنَّكم لا مَحالةَ ماضُونَ في هذا الطَّرِيقِ، إذ ليس بمَقدُورِكُم أن تُوصِدُوا بابَ القَبْرِ دُونَ أَحَدٍ. فأَنتُم مُسافِرُو هذا الطَّرِيقِ لا مَناصَ؛ ولا بُدَّ لِمَن يَمضِي في هذا الطَّرِيقِ مِن أن يَستَنِدَ ويَتَّـكِلَ على مَن له عِلمٌ مُحِيطٌ شامِلٌ بكُلِّ دُرُوبِه وشِعابِه وحُدُودِه الشّاسِعةِ، بل تكُونُ جَمِيعُ تلك الدَّوائِرِ العَظِيمةِ تحتَ تَصَرُّفِه وضِمنَ أَمرِه وحُكْمِه.
فيا أيُّها الضّالُّون الغافِلُون، إنَّ ما أُودِعَ في فِطْرَتِكُم مِنِ استِعدادِ المَحَبّةِ والمَعرِفةِ، ومِن وَسائِطِ الشُّكْرِ ووَسائِلِ العِبادةِ الَّتي يَلزَمُ أن تُبذَلَ إلى ذاتِ اللهِ تَبارَك وتَعالَى، ويَنبَغي أن تَتَوجَّه إلى صِفاتِه الجَلِيلةِ وأَسمائِه الحُسنَى، قد بَذَلتُمُوها -بَذْلًا غيرَ مَشرُوعٍ- لِأَنفُسِكُم وللدُّنيا، فتُعانُون مُستَحِقِّين عِقابَها، وذلك بسِرِّ القاعِدةِ: “إنَّ نَتِيجةَ مَحَبّةٍ غيرِ مَشرُوعةٍ مُقاساةُ عَذابٍ أَليمٍ بلا رَحمةٍ“، لأنَّـكم وَهَبتُم لِأَنفُسِكُمُ المَحَبّةَ الَّتي تَخُصُّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى، فتُعانُون مِن مَحبُوبَتِكُم بَلايا لا تُحَدُّ، إذ لم تَمنَحُوها راحَتَها الحَقِيقةَ.. وكذا لا تُسلِّمُون أَمرَها بالتَّوَكُّلِ إلى المَحبُوبِ الحَقِّ وهو اللهُ القَدِيرُ المُطلَقُ، فتُقاسُون الأَلَمَ دائِمًا.. وكذا فقد أَوْلَيتُمُ الدُّنيا المَحَبّةَ الَّتي تَعُودُ إلى أَسماءِ اللهِ الحُسنَى وصِفاتِه الجَلِيلةِ المُقدَّسةِ، ووَزَّعتُم آثارَ صَنْعَتِه البَدِيعةِ وقَسَّمتُمُوها بينَ الأَسبابِ المادِّيّةِ، فتَذُوقُون وَبالَ عَمَلِكُم، لأنَّ قِسْمًا مِن أَحِبّائِكُمُ الكَثِيرين يُغادِرُونَكم مُدْبِرِين دُونَ تَودِيعٍ، ومِنهم مَن لا يَعرِفُونكم أَصْلًا، وحتَّى إذا عَرَفُوكم لا يُحِبُّونَكم، وحتَّى إذا أَحَبُّوكم لا يَنفَعُونكم، فتَظَلُّون في عَذابٍ مُقِيمٍ مِن أَعْذِبةِ فِراقٍ لا حَدَّ له ومِن آلامِ زَوالٍ يائِسٍ مِنَ العَوْدةِ. فهذه هي حَقِيقةُ ما يَدَّعِيه أَهلُ الضَّلالةِ، وماهِيّةُ ما يَدْعُون إلَيه مِن “سَعادةِ الحَياةِ” و”كَمالِ الإنسانِ” و”مَحاسِنِ الحَضارةِ” و”لَذّةِ التَّحَرُّرِ”!!
ألا ما أَكثَفَ حِجابَ السَّفاهةِ والسُّكْرِ الَّذي يُخَدِّرُ الشُّعُورَ والإحساسَ!
ألا قُلْ: تَبًّا لِعَقلِ أُولَئِك الضّالِّين!.
أمّا الصِّراطُ المُستَقِيمُ أوِ الجادّةُ المُنَوَّرةُ للقُرآنِ الكَرِيمِ، فإنَّه يُداوِي جَمِيعَ تلك الجُرُوحِ الَّتي يُعاني مِنها أَهلُ الضَّلالةِ ويُضَمِّدُها بالحَقائِقِ الإيمانيّةِ، ويُبَدِّدُ كلَّ تلك الظُّلُماتِ السّابِقةِ في ذلك الطَّرِيقِ، ويَسُدُّ جَمِيعَ أَبوابِ الضَّلالةِ والهَلاكِ، بالآتي:
إنَّه يُداوِي ضَعْفَ الإنسانِ، وعَجْزَه، وفَقْرَه، واحتِياجَه بالتَّوَكُّلِ على القَدِيرِ الرَّحِيمِ، مُسَلِّمًا أَثقالَ الحَياةِ وأَعباءَ الوُجُودِ إلى قُدْرَتِه سُبحانَه وإلى رَحْمَتِه الواسِعةِ دُونَ أن يُحَمِّلَها على كاهِلِ الإنسانِ؛ بل يَجعَلُه مالِكًا لِزِمامِ نَفسِه وحَياتِه، واجِدًا له بذلك مَقامًا مُرِيحًا، ويُعرِّفُه بأنَّه ليس بحَيَوانٍ ناطِقٍ، بل هو إنسانٌ بحَقٍّ وضَيفٌ عَزِيزٌ مُكَرَّمٌ عِندَ المَلِكِ الرَّحمٰنِ.
ويُداوِي أَيضًا تلك الجُرُوحَ الإنسانيّةَ النّاشِئةَ مِن فَناءِ الدُّنيا وزَوالِ الأَشياءِ، ومِن حُبِّ الفانياتِ، يُداوِيها بِلُطْفٍ وحَنانٍ بإظهارِه الدُّنيا دارَ ضِيافةِ الرَّحمٰنِ ومُبيِّنًا أنَّ ما فيها مِنَ المَوجُوداتِ هي مَرايا الأَسماءِ الحُسنَى، ومُوضِحًا أنَّ مَصنُوعاتِها رَسائلُ رَبّانيّةٌ تَتَجدَّدُ كلَّ حِينٍ بإذنِ رَبِّها، فيُنقِذُ الإنسانَ مِن قَبْضةِ ظُلُماتِ الأَوهامِ.
ويُداوِي أيضًا تلك الجُرُوحَ الَّتي يَتْرُكُها المَوتُ، الَّذي يَتَلقّاه أَهلُ الضَّلالةِ فِراقًا أَبدِيًّا عنِ الأَحِبّةِ جَمِيعًا، ببَيانِه أنَّ المَوتَ مُقدِّمةُ الوِصالِ واللِّقاءِ معَ الأَحِبّاءِ الَّذين رَحَلُوا إلى عالَمِ البَرزَخِ والَّذين همُ الآنَ في عالَمِ البَقاءِ، ويُثبِتُ أنَّ ذلك الفِراقَ هو عَينُ اللِّقاءِ.
ويُزِيلُ كذلك أَعظَمَ خَوْفٍ للإنسانِ بإثباتِه أنَّ القَبْرَ بابٌ مَفتُوحٌ إلى عالَمِ الرَّحمةِ الواسِعةِ، وإلى دارِ السَّعادةِ الأَبدِيّةِ، وإلى رِياضِ الجِنانِ، وإلى بِلادِ النُّورِ للرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ، مُبيِّنًا أنَّ سِياحةَ البَرزَخِ الَّتي هي أَشَدُّ أَلَمًا وأَشقَى سِياحةً عِندَ أَهلِ الضَّلالةِ، هي أَمتَعُ سِياحةٍ وآنَسُها وأَسَرُّها، إذ ليس القَبْرُ فَمَ ثُعبانٍ مُرعِبٍ، بل هو بابٌ إلى رَوْضةٍ مِن رِياضِ الجَنّةِ.
ويقُولُ للمُؤمِنِ: إن كانَت إرادَتُك واختِيارُك جُزئيّةً، ففَوِّضْ أَمرَك لإرادةِ مَوْلاك الكُلِّيّة.. وإن كان اقتِدارُك ضَعِيفًا فاعتَمِدْ على قُدرةِ القادِرِ المُطلَقِ.. وإن كانَت حَياتُك فانِيةً وقَصِيرةً ففَكِّرْ بالحَياةِ الباقيةِ الأَبدِيّةِ.. وإن كان عُمُرُك قَصِيرًا فلا تَحْزَنْ فإنَّ لك عُمُرًا مَدِيدًا.
وإن كان فِكْرُك خافِتًا، فادْخُلْ تحتَ نُورِ شَمسِ القُرآنِ الكَرِيمِ، وانظُرْ بنُورِ الإيمانِ كي تَمنَحَك كلُّ آيةٍ مِنَ الآياتِ القُرآنيّةِ نُورًا كالنُّجُومِ المُتَلَألِئةِ السّاطِعةِ بَدَلًا مِن ضَوءِ فِكْرِك الباهِتِ.
وإن كانَت لك آمالٌ وآلامٌ غيرُ مَحدُودةٍ فإنَّ ثَوابًا لا نِهايةَ له ورَحمةً لا حَدَّ لها يَنتَظِرانِك.. وإن كانَت لك غاياتٌ ومَقاصِدُ لا تُحَدُّ، فلا تَقلَقْ مُتَفكِّرًا بها، فهذه الدُّنيا لا تَسَعُها، بل مَواضِعُها دِيارٌ أُخرَى، ومانِحُها جَوادٌ كَرِيمٌ واسِعُ العَطاءِ.
ويُخاطِبُ الإنسانَ أيضًا ويقُولُ: أيُّها الإنسانُ، أنت لَستَ مالِكًا لِنَفسِك.. بل أنت مَملُوكٌ للقادِرِ المُطلَقِ القُدرةِ، والرَّحِيمِ المُطلَقِ الرَّحمةِ، فلا تُرْهِقْ نَفسَك بتَحمِيلِها مَشَقّةَ حَياتِك، فإنَّ الَّذي وَهَب الحَياةَ هو الَّذي يُدِيرُها.
ثمَّ إنَّ الدُّنيا لَيسَت سائِبةً دُونَ مالِك حتَّى تَقلَقَ علَيها وتُكَلِّفَ نَفسَك حَمْلَ أَعبائِها وتُرهِقَ فِكْرَك في أَهوالِها، ذلك لأنَّ مالِكَها حَكِيمٌ ومَولاها عَلِيمٌ، وأنت لَستَ إلّا ضَيْفًا لَدَيه، فلا تَتَدخَّلْ بفُضُولٍ في الأُمُورِ، ولا تَخْلِطْها مِن غيرِ فَهْمٍ.
ثمَّ إنَّ الإنسانَ والحَيَوانَ لَيسُوا مَوجُوداتٍ مُهمَلةً، بل مُوَظَّفُون مَأْمُورُون تحتَ هَيْمَنةِ حَكِيمٍ رَحِيمٍ وتحتَ إشرافِه؛ فلا تُجَرِّعْ رُوحَك أَلَمًا بالتَّفَكُّرِ في مَشاقِّ أُولَئِك وآلامِهم، ولا تُقَدِّمْ رَأْفَتَك علَيهِم بينَ يَدَيْ رَحمةِ خالِقِهِمُ الرَّحِيمِ.
ثمَّ إنَّ زِمامَ أُولَئِك الَّذين اتَّخَذُوا طَوْرَ العَداءِ معَك ابتِداءً مِنَ المَيكرُوباتِ إلى الطّاعُونِ والطُّوفانِ والقَحْطِ والزَّلازِلِ، بل زِمامَ كلِّ شَيءٍ بِيَدِ ذلك الرَّحيمِ الكَرِيمِ سُبحانَه، فهو حَكِيمٌ لا يَصدُرُ مِنه عَبَثٌ، وهو رَحيمٌ واسِعُ الرَّحمةِ، فكُلُّ ما يَعمَلُه فيه أَثَرٌ مِن لُطْفٍ ورَأفةٍ. ويقُولُ أيضًا: إنَّ هذا العالَمَ معَ أنَّه فانٍ فإنَّه يُهيِّئُ لَوازِمَ العالَمِ الأَبدِيِّ.. ومعَ أنَّه زائِلٌ ومُؤَقَّتٌ إلّا أنَّه يُؤْتي ثَمَراتٍ باقيةً، ويُظهِرُ تَجَلِّياتٍ رائِعةً مِن تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى الخالِدةِ.. ومعَ أنَّ لَذائِذَه قَليلةٌ وآلامَه كَثِيرةٌ، إلّا أنَّ تَوَجُّهَ الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ وتَكَرُّمَه وتَفَضُّلَه هي بذاتِها لَذّاتٌ حَقِيقيّةٌ لا تَزُولُ، أمّا الآلامُ فهي الأُخرَى تُوَلِّدُ لَذّاتٍ مَعنَوِيّةً مِن جِهةِ الثَّوابِ الأُخرَوِيِّ؛ فما دامَتِ الدّائِرةُ المَشرُوعةُ كافيةً لِيَأخُذَ كلٌّ مِنَ الرُّوحِ والقَلبِ والنَّفسِ لَذّاتِها ونَشَواتِها جَمِيعًا، فلا داعِيَ إذًا أن تَلِجَ في الدّائِرةِ غيرِ المَشُروعةِ، لأنَّ لَذّةً واحِدةً مِن هذه الدّائِرةِ قد يكُونُ لها أَلفُ أَلَمٍ وأَلَمٍ، فَضْلًا عن أنَّها سَبَبُ الحِرمانِ مِن لَذّةِ تَكرِيمِ الرَّحمٰنِ الكَرِيمِ، تلك اللَّذّةِ الخالِصةِ الزَّكيّةِ الدّائِمةِ الخالِدةِ.
هكذا تَبيَّن مِمّا سَبَق: بأنَّ طَرِيقَ الضَّلالةِ يُردِي الإنسانَ إلى أَسفَلِ سافِلِين، إلى حَدٍّ تَعجِزُ أيّةُ مَدَنيّةٍ كانَت وأَيّةُ فَلسَفةٍ كانَت عن إيجادِ حَلٍّ له، بل يَعجِزُ الرُّقيُّ البَشَرِيُّ وما بَلَغَه مِن مَراتِبِ العِلمِ عن إخراجِه مِن تلك الظُّلُماتِ السَّحِيقةِ الَّتي في الضَّلالةِ.
بَينَما القُرآنُ الكَرِيمُ يَأْخُذُ بِيَدِ الإنسانِ بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، ويَرفَعُه مِن أَسفَلِ سافِلِين إلى أَعلَى عِلِّيِّين، ويُبيِّنُ له الدَّلائِلَ القاطِعةَ ويَبسُطُ أَمامَه البَراهِينَ الدّامِغةَ على ذلك، فيَردِمُ تلك الأَغوارَ العَمِيقةَ بمَراتِبِ رُقيٍّ مَعنَوِيٍّ وبأَجهِزةِ تَكامُلٍ رُوحِيٍّ.. وكذا يُيَسِّرُ له بسُهُولةٍ مُطلَقةٍ رِحْلتَه الطَّوِيلةَ المُضْنِيةَ العاصِفةَ نحوَ الأَبدِيّةِ، ويُهوِّنُها علَيه؛ وذلك بإبرازِه الوَسائِطَ والوَسائِلَ الَّتي يُمكِنُ أن يَقطَعَ بها مَسافةَ أَلفِ سَنةٍ، بل خَمسِين أَلفَ سَنةٍ في يَومٍ واحِدٍ.
وكذا يُضفِي على الإنسانِ جِلْبابَ العُبُودِيّةِ ويُكسِبُه طَوْرَ عَبدٍ مَأْمُورٍ، وضَيفٍ مُوَظَّفٍ لَدَى الذّاتِ الجَلِيلةِ، وذلك بتَعرِيفِه أنَّ اللهَ سُبحانَه هو مالِكُ الأَزَلِ والأَبدِ، فيَضمَنُ له راحةً تامّةً في سِياحَتِه في الدُّنيا المِضيافِ أو في مَنازِلِ البَرزَخِ في دِيارِ الآخِرةِ.. فكما أنَّ المُوَظَّفَ المُخلِصَ للسُّلطانِ يَتَجوَّلُ بيُسْرِ تامٍّ في دائِرةِ مَمْلَكةِ سُلْطانِه، ويَتَنقَّلُ مِن تُخُومِ وِلاياتِه بوَسائِطَ سَرِيعةٍ كالطّائِرةِ والباخِرةِ والقِطارِ، كذلك الإنسانُ المُنتَسِبُ بالإيمانِ إلى المالِكِ الأَزَليِّ والمُطِيعُ بالعَمَلِ الصّالِحِ فإنَّه يَمُرُّ مِن مَنازِلِ الدُّنيا المِضْيافِ ومِن دَوائِرِ عالَمَيِ البَرزَخِ والحَشرِ ومِن حُدُودِهما الواسِعةِ الشَّاسِعةِ بسُرعةِ البَرقِ والبُراقِ حتَّى يَجِدَ السَّعادةَ الأَبدِيّةَ.. فيُثبِتُ القُرآنُ الكَرِيمُ هذه الحَقائِقَ إثباتًا قاطِعًا ويُبْرِزُها عِيانًا للأَصفِياء والأَولياءِ.
ثمَّ تَستَأنِفُ حَقِيقتُه قائلةً: أيُّها المُؤمِنُ، لا تَبذُلْ ما تَملِكُه مِن قابِليّةٍ غيرِ مَحدُودةٍ للمَحَبّةِ إلى نَفسِك الَّتي هي أَمّارةٌ بالسُّوءِ وهي قَبِيحةٌ ناقِصةٌ، وشِرِّيرةٌ مُضِرّةٌ لك، ولا تَتَّخِذْها مَحبُوبَتَك ومَعشُوقَتَك، ولا تَجْعَلْ هَواها مَعبُودَك، بلِ اجعَلْ مَحبُوبَك مَن هو أَهلٌ لِمَحَبّةٍ غيرِ مُتَناهِيةٍ.. ذلِكُمُ القادِرَ على الإحسانِ إلَيك إحسانًا لا نِهايةَ له، والقادِرَ على إسعادِك سَعادةً لا مُنتَهَى لها، بل يُسعِدُك كذلك بما يُجزِلُ مِن إحساناتِه على جَمِيعِ مَن تَرتَبِطُ معَهم بعَلاقاتٍ، فهو الَّذي له الكَمالُ المُطلَقُ والجَمالُ المُقدَّسُ والمُنزَّهُ عن كلِّ نَقْصٍ وقُصُورٍ وزَوالٍ وفَناءٍ.. فجَمالُه لا حُدُودَ له، وجَمِيعُ أَسمائِه جَمِيلةٌ وحُسنَى.
نعم، إنَّ في كلِّ اسمٍ مِن أَسمائِه أَنوارَ حُسْنٍ وجَمالٍ لا نِهايةَ لها، فالجَنّةُ بجَمِيعِ لَطائِفِها وجَمالِها ونَعِيمِها إنَّما هي تَجَلٍّ لإظهارِ جَمالِ رَحمَتِه ورَحمةِ جَمالِه، وجَمِيعُ الحُسنِ والجَمالِ والمَحاسِنِ والكَمالاتِ المَحبُوبةِ والمُحَبَّبةِ في الكَونِ كلِّه ما هي إلّا إشارةٌ إلى جَمالِه ودَلالةٌ على كَمالِه سُبحانَه.
ويقولُ أيضًا: أيُّها الإنسانُ، إنَّ يَنابِيعَ المَحَبّةِ المُتَفجِّرةَ في أَعماقِك والمُتَوجِّهةَ إلى اللهِ سُبحانَه والمُتَعلِّقةَ بأَسمائِه الحُسنَى والمُوَلَّهةَ بصِفاتِه الجَلِيلةِ، لا تَجْعَلْها مُبتَذَلةً بتَشَبُّثِها بالمَوجُوداتِ الفانيةِ، ولا تُهدِرْها دُونَ فائِدةٍ على المَخلُوقاتِ الزّائِلةِ، ذلك لأنَّ الآثارَ والمَخلُوقاتِ فانِيةٌ، بَينَما الأَسماءُ الحُسنَى البادِيةُ تَجَلِّياتُها وجَمالُها على تلك الآثارِ وعلى تلك المَصنُوعاتِ باقيةٌ دائِمةٌ.. ففي كلِّ اسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى وفي كلِّ صِفةٍ مِنَ الصِّفاتِ المُقَدَّسةِ آلافٌ مِن مَراتِبِ الإحسانِ والجَمالِ، وآلافٌ مِن طَبَقاتِ الكَمالِ والمَحَبّةِ.
فانظُرْ إلى اسمِ “الرَّحمٰنِ” فحَسْبُ، لِتَرَى أنَّ الجَنّةَ إحدَى تَجَلِّياتِه، والسَّعادةَ الأَبدِيّةَ إِحدَى لَمَعاتِه، وجَمِيعَ الأَرزاقِ والنِّعَمِ المَبثُوثةِ في أَرجاءِ الدُّنيا كافّةً إِحدَى قَطَراتِه. فأَنعِمِ النَّظَرَ وتَدَبَّرْ في الآياتِ الكَرِيمةِ الَّتي تُشِيرُ إلى هذه المُوازَنةِ بينَ ماهِيّةِ أَهلِ الضَّلالةِ وأَهلِ الإيمانِ مِن حيثُ الحَياةُ ومِن حيثُ الوَظِيفةُ: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ والآيةِ الأُخرَى الَّتي تُشِيرُ إلى عُقبَى كلٍّ مِنهُما: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾، تَأَمَّلْ فيهِما لِتَجِدَ مَدَى سُمُوِّهما وإعجازِهما في بَيانِ ما عَقَدْناه مِنَ المُوازَنةِ والمُقارَنةِ.
أمّا الآياتُ الأُولَى فنُحِيلُ بَيانَ حَقِيقةِ ما تَتَضمَّنُه مِن إعجازٍ في إيجازٍ إلى “الكَلِمةِ الحادِيةَ عَشْرةَ” الَّتي تُبيِّنُها بَيانًا مُفَصَّلًا؛ وأمّا الآيةُ الثّانيةُ فسنُشِيرُ -إشارةً فحَسْبُ- إلى مَدَى إفادَتِها عن حَقِيقةٍ سامِيةٍ وهي كالآتي:
إنَّها تُخاطِبُ قائِلةً: إنَّ السَّماواتِ والأَرضَ لا تَبكِيانِ على مَوتِ أَهلِ الضَّلالةِ، وتَدُلُّ بالمَفهُومِ المُخالِفِ أنَّ السَّماواتِ والأَرضَ تَبكِيانِ على رَحِيلِ أَهلِ الإيمانِ عنِ الدُّنيا. أي: لَمّا كان أَهلُ الضَّلالةِ يُنكِرُون وَظائِفَ السَّماواتِ والأَرضِ ويَتَّهِمُونَهما بالعَبَثِيّةِ، ولا يُدرِكُون مَعانِيَ ما يُؤَدِّيانِه مِن مَهامَّ، فيَبخَسُون حَقَّهُما، بل لا يَعرِفُون خالِقَهما ولا دَلالاتَهُما على صانِعِهِما، فيَستَهِينُون بهما، ويَتَّخِذُون مِنهُما مَوْقِفَ العَداءِ والإهانةِ والِاستِخفافِ، فلا بُدَّ ألّا تَكتَفِيَ السَّماواتُ والأَرضُ بعَدَمِ البُكاءِ علَيهِم، بل تَدْعُوانِ علَيهِم بل تَرتاحانِ لِهَلاكِهم.
وتقُولُ كذلك بالمَفهُومِ المُخالِفِ: إنَّ السَّماواتِ والأَرضَ تَبكِيانِ على مَوتِ أَهلِ الإيمانِ، لأنَّهم يَعرِفُون وَظائِفَهُما، ويَقْدُرُونَهما حَقَّ قَدْرِهما، ويُصَدِّقُون حَقائِقَهُما الحَقّةَ، ويَفهَمُون بالإيمانِ ما تُفِيدانِ مِن مَعانٍ، حيثُ إنَّهم كلَّما تَأَمَّلُوا فيهما قالُوا بإعجابٍ: “ما أَجمَلَ خَلْقَهما! وما أَحسَنَ ما تُؤدِّيانِ مِن وَظائِفَ!”، فيَمنَحُونَهما ما يَستَحِقّانِ مِنَ القِيمةِ والِاحتِرامِ، حيثُ يَبُثُّون حُبَّهم لَهما بحُبِّهم للهِ، أي: لِأَجلِ الله، باعتِبارِهما مَرايا عاكِسةً لِتَجَلِّياتِ أَسمائِه الحُسنَى. ولهذا تَهتَزُّ السَّماواتُ وتَحزَنُ الأَرضُ، لِمَوتِ أَهلِ الإيمانِ وكأَنَّهما تَبكِيانِ على زَوالِهم.
[المحبة ليست اختيارية فكيف نكلَّف بتوجيهها؟]
سُؤالٌ مُهِمٌّ
تقُولُون: إنَّ المَحَبّةَ لَيسَتِ اختِيارِيّةً، لا تَقَعُ تحتَ إرادَتِنا، فأنا بمُقتَضَى حاجَتي الفِطْرِيّةِ أُحِبُّ الأَطعِمةَ اللَّذِيذةَ والفَواكِهَ الطَّـيِّبةَ، وأُحِبُّ والِدَيَّ وأَولادِي وزَوجَتي الَّتي هي رَفيقةُ حَياتي، وأُحِبُّ الأَنبِياءَ المُكرَمِين والأَولياءَ الصّالِحِين، وأُحِبُّ شَبابي وحَياتي، وأُحِبُّ الأَصدِقاءَ والأَحبابَ، وأُحِبُّ الرَّبيعَ وكلَّ شَيءٍ جَمِيل، وبعِبارةٍ أَوجَزَ: أنا أُحِبُّ الدُّنيا، ولِمَ لا أُحِبُّ كلَّ هذه؟! ولكن كيف أَستَطِيعُ أن أُقَدِّمَ جَمِيعَ هذه الأَنواعِ مِنَ المَحَبّةِ لله، وأَجعَلَ مَحَبَّتي لِأَسمائِه الحُسنَى ولِصِفاتِه الجَلِيلةِ ولِذاتِه المُقَدَّسةِ سُبحانَه؟ ماذا يعني هذا؟
الجَوابُ: علَيك أن تَستَمِعَ إلى النِّـكاتِ الأَربَعِ الآتيةِ:
[نكتة1: المحبة يمكن توجيهها]
النُّكتةُ الأُولَى:
إنَّ المَحَبّةَ وإن لم تَكُنِ اختِيارِيّةً، إلّا أنَّها يُمكِنُ أن يُحوَّل وَجْهُها بالإرادةِ مِن مَحبُوبٍ إلى آخَرَ؛ كأن يَظهَرَ قُبحُ المَحبُوبِ وحَقِيقَتُه مَثلًا، أو يُعرَفَ أنَّه حِجابٌ وسِتارٌ لِمَحبُوبٍ حَقيقيٍّ يَستَحِقُّ المَحَبّةَ، أو مِرآةٌ عاكِسةٌ لِجَمالِ ذلك المَحبُوبِ الحَقِيقيِّ، فعِندَها يُمكِنُ أن يُصرَف وَجْهُ المَحَبّةِ مِنَ المَحبُوبِ المَجازِيِّ إلى المَحبُوبِ الحَقِيقيِّ.
[نكتة2: لا تنافي بين جهات المحبة]
النُّكتةُ الثانية:
نحنُ لا نقُولُ لك: لا تَحمِلْ وُدًّا ولا حُبًّا لِكُلِّ ما ذَكَرْتَه آنِفًا. وإنَّما نقُولُ: اجْعَلْ مَحَبَّتَك لِما ذَكَرتَه في سَبِيلِ اللهِ ولِوَجهِه الكَرِيمِ.
[محبة اللذائذ]
فالتَّلذُّذُ بالأَطعِمةِ الشَّهِيّةِ وتَذَوُّقُ الفَواكِهِ الطَّيّبِة معَ التَّذكُّرِ بأنَّها إحسانٌ مِنَ اللهِ سُبحانَه وإنعامٌ مِنَ الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ، يعني المَحَبّةَ لِاسمِ “الرَّحمٰنِ” واسمِ “المُنعِمِ” مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى، عَلاوةً على أنَّه شُكرٌ مَعنَوِيٌّ. والَّذي يَدُلُّنا على أنَّ هذه المَحَبّةَ لم تكُن للنَّفسِ والهَوَى بل لِاسمِ “الرَّحمٰنِ” هو كَسْبُ الرِّزقِ الحَلالِ معَ القَناعةِ التّامّةِ ضِمنَ الدّائرةِ المَشرُوعةِ، وتَناوُلُه بالتَّفكُّرِ في أنَّه نِعمةٌ مِنَ اللهِ معَ الشُّكرِ له.
[محبة الوالدين]
ثمَّ إنَّ مَحَبَّتَك للوالِدَينِ واحتِرامَهُما، إنَّما يَعُودانِ إلى مَحَبَّتِك للهِ سُبحانَه، إذ هو الَّذي غَرَس فيهما الرَّحمةَ والشَّفَقةَ حتَّى قاما برِعايَتِك وتَربِيَتِك بكلِّ رَحمةٍ وحِكمةٍ؛ وعَلامةُ كَوْنِ مَحَبَّتِهما تلك لِوَجهِ اللهِ تَعالَى، هي المُبالَغةُ في مَحَبَّتِهما واحتِرامِهما عِندَما يَبلُغانِ الكِبَرَ، ولا يَبقَى لك فيهما مِن مَطْمَعٍ، فتُكثِرُ مِنَ الشَّفَقةِ علَيهِما والرَّحمةِ لهما رَغْمَ ما يَشغَلانِك بالمَشاكِلِ ويُثقِلانِ كاهِلَك بالمَشَقّةِ. فالآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ تَدعُو الأَولادَ إلى رِعايةِ حُقُوقِ الوالِدَينِ في خَمسِ مَراتِبَ، وتُبيِّنُ مَدَى أَهَمِّيّةِ بِرِّهما وشَناعةِ عُقُوقِهما.
وحيثُ إنَّ الوالِدَ لا يَقبَلُ أن يَتَقدَّمَه أَحَدٌ سِوَى وَلَدِه، إذ لا يَحمِلُ في فِطْرَتِه حَسَدًا إلَيه مِمّا يَسُدُّ على الوَلَدِ طَرِيقَ مُطالَبةِ حَقِّه مِنَ الوالِدِ، لأنَّ الخِصامَ إمّا يَنشَأُ مِنَ الحَسَدِ والمُنافَسةِ بينَ اثنَينِ، أو يَنشَأُ مِن غَمْطِ الحَقِّ، فالوالِدُ سَلِيمٌ مُعافًى مِنهُما فِطرةً، لِذا لا يَحِقُّ للوَلَدِ إقامةُ الدَّعوَى على والِدِه، بل حتَّى لو رَأَى مِنه بَغْيًا فلَيس له أن يَعصِيَه ويَعُقَّه؛ بمَعنَى أنَّ مَن يَعُقُّ والِدَه ويُؤذِيه ما هو إلّا إنسانٌ مَمسُوخٌ حَيَوانًا مُفتَرِسًا.
[محبة الأولاد]
أمّا مَحَبّةُ الأَولادِ فهي كذلك مَحَبّةٌ للهِ تَعالَى وتَعُودُ إلَيه، وذلك بالقِيامِ برِعايَتِهم بكَمالِ الشَّفَقةِ والرَّحمةِ بكَونِهم هِبةً مِنَ الرَّحِيمِ الكَرِيمِ؛ أمّا العَلامةُ الدّالّةُ على كَونِ تلك المَحَبّةِ للهِ وفي سَبِيلِه فهي الصَّبْرُ معَ الشُّكْرِ عِندَ البَلاءِ، ولا سِيَّما عِندَ المَوتِ والتَّرَفُّعِ عنِ اليَأْسِ والقُنُوطِ وهَدْرِ الدُّعاءِ، بل يَجِبُ التَّسلِيمُ بالحَمْدِ عِندَ القَضاءِ. كأن يقُولَ: إنَّ هذا المَخلُوقَ مَحبُوبٌ لَدَى الخالِقِ الكَرِيمِ، ومَملُوكٌ له، وقد أمَّنَنِي علَيه لِبُرهةٍ مِنَ الزَّمَنِ، فالآنَ اقتَضَت حِكْمَتُه سُبحانَه أن يَأْخُذَه مِنِّي إلى مَكانٍ آمَنَ وأَفضَلَ. فإن تَكُ لي حِصّةٌ واحِدةٌ ظاهِرِيّةٌ فيه، فله سُبحانَه أَلْفُ حِصّةٍ حَقِيقيّةٍ فيه. فلا مَناصَ إذًا مِنَ التَّسلِيمِ لِحُكْمِ اللهِ.
[محبة الأصدقاء]
أمّا مَحَبّةُ الأَصدِقاءِ ووُدُّهم، فإن كانُوا مِن أَصحابِ الإيمانِ والتَّقوَى فإنَّ مَحَبَّتَهم هي في سَبِيلِ اللهِ، وتعُودُ إلَيه سُبحانَه بمُقتَضَى “الحُبِّ في اللهِ”.
[محبة الزوجة]
ثمَّ إنَّ مَحَبّةَ الزَّوجةِ وهي رَفِيقةُ حَياتِك، فعلَيك بمَحَبَّتِها على أنَّها هَدِيّةٌ أَنيسةٌ لَطِيفةٌ مِن هَدايا الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ؛ وإيّاك أن تَربِطَ مَحَبَّتَك لها برِباطِ الجَمالِ الظّاهِرِيِّ السَّرِيعِ الزَّوالِ، بل أَوْثِقْها بالجَمالِ الَّذي لا يَزُولُ ويَزدادُ تأَلُّقًا يَوْمًا بعدَ يَومٍ، وهو جَمالُ الأَخلاقِ والسِّيرةِ الطَّـيِّبةِ المُنغَرِزةِ في أُنُوثَتِها ورِقَّتِها. وإنَّ أَحلَى ما فيها مِن جَمالٍ وأَسماه هو في شَفَقَتِها الخالِصةِ النُّورانيّةِ، فجَمالُ الشَّفَقةِ هذا، وحُسْنُ السِّيرةِ يَدُومانِ ويَزدادانِ إلى نِهايةِ العُمُرِ، وبِمَحَبَّتِهما تُصانُ حُقُوقُ هذه المَخلُوقةِ اللَّطِيفةِ الضَّعِيفةِ، وإلّا تَفْقِدْ حُقُوقَها في وَقتٍ هي أَحوَجُ ما تكُونُ إلَيها، بزَوالِ الجَمالِ الظّاهِرِيِّ.
[محبة الأنبياء والأولياء]
أمّا مَحَبّةُ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلَام والأَولياءِ الصّالِحِين فهي أَيضًا لِوَجهِ الله وفي سَبِيلِه مِن حيثُ إنَّهم عِبادُ اللهِ المُخلِصُون المَقبُولُون لَدَيه جَلَّ وعَلا، فمِن هذه الزّاوِيةِ تُصبِحُ تلك المَحَبّةُ لله.
[حب الحياة]
والحَياةُ أَيضًا الَّتي وَهَبَها اللهُ سُبحانَه وتَعالَى لك وللإنسانِ، هي رَأسُ مالٍ عَظِيمٌ تَستَطِيعُ أن تَكسِبَ به الحَياةَ الأُخرَوِيّةَ الباقيةَ؛ وهي كَنزٌ عَظِيمٌ يَحوِي أَجهِزةً وكَمالاتٍ خالِدةً.. مِن هنا فالمُحافَظةُ علَيها ومَحَبَّتُها مِن هذه الزّاوِيةِ، وتَسخِيرُها في سَبِيلِ المَولَى عزَّ وجَلَّ تعُودُ إلى اللهِ سُبحانَه أَيضًا.
[محبة الشباب]
ثمَّ إنَّ مَحَبّةَ الشَّبابِ وجَمالِه ولَطافَتِه، وتَقدِيرَه مِن حيثُ إنَّه نِعمةٌ رَبّانيّةٌ جَمِيلةٌ، ثمَّ العَمَلَ على حُسْنِ استِخدامِه، هي مَحَبّةٌ مَشرُوعةٌ، بل مَشكُورةٌ.
[حب الربيع]
ثمَّ مَحَبّةُ الرَّبيعِ والشَّوقُ إلَيه تكُونُ في سَبِيلِ اللهِ ومُتَوجِّهةً إلى أَسمائِه الحُسنَى، مِن حيثُ كَونُه أَجمَلَ صَحِيفةٍ لِظُهُورِ نُقُوشِ الأَسماءِ الحُسنَى النُّورانيّةِ، وأَعظَمَ مَعرِضٍ لِعَرْضِ دَقائِقِ الصَّنعةِ الرَّبّانيّةِ البَدِيعةِ.. فالتَّفكُّرُ في الرَّبيعِ مِن هذه الزّاوِيةِ مَحَبّةٌ مُتَوجِّهةٌ إلى الأَسماءِ الحُسنَى.
[حب الدنيا]
وحتَّى حُبُّ الدُّنيا والشَّغَفُ بها يَنقَلِبُ إلى مَحَبّةٍ لِوَجهِ اللهِ تَعالَى فيما إذا كان النَّظَرُ إلَيها مِن زاوِيةِ كَوْنِها مَزرَعةَ الآخِرةِ، ومِرآةَ الأَسماءِ الحُسنَى، ورَسائِلَ رَبّانيّةً إلى الوُجُودِ، ودارَ ضِيافةٍ مُؤَقَّتةٍ -وعلى شَرطِ عَدَمِ تَدَخُّلِ النَّفسِ الأَمّارةِ في تلك المَحَبّةِ-.
ومُجمَلُ القَولِ: اجْعَلْ حُبَّك للدُّنيا وما فيها مِن مَخلُوقاتٍ بالمَعنَى “الحَرفِيِّ” وليس بالمَعنَى “الِاسمِيِّ”، أي: لِمَعنَى ما فيها وليس لِذاتِها. ولا تَقُلْ لِشَيءٍ: “ما أَجمَلَ هذا!” بل قُلْ: “ما أَجمَلَه خَلْقًا!” أو “ما أَجمَلَ خَلْقَه!”، وإيّاك أن تَتْرُكَ ثَغرةً يَدخُلُ مِنها حُبٌّ لِغَيرِ اللهِ في باطِنِ قَلبِك، فإنَّ باطِنَه مِرآةُ الصَّمَدِ، وخاصٌّ به سُبحانَه وتَعالَى. وقُلْ: اللَّهُمَّ ارزُقْنا حُبَّك وحُبَّ ما يُقَرِّبُنا إلَيك.
وهكذا، فإنَّ جَمِيعَ ما ذَكَرناه مِن أَنواعِ المَحَبّةِ، إن وُجِّهَتِ الوِجْهةَ الصّائبةَ على الصُّورةِ المَذكُورةِ آنِفًا، أي: عِندَما تكُونُ لله وفي سَبِيلِه، فإنَّها تُورِثُ لَذّةً حَقِيقيّةً بلا أَلَمٍ، وتكُونُ وِصالًا حَقًّا بلا زَوالٍ، بل تَزِيدُ مَحَبّةَ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، فَضْلًا عن أنَّها مَحَبّةٌ مَشرُوعةٌ وشُكْرٌ للهِ في اللَّذّةِ نَفسِها، وفِكْرٌ في آلائِه في المَحَبّةِ عَينِها.
مِثالٌ للتَّوضِيحِ: إذا أَهدَى إلَيك سُلطانٌ عَظِيمٌ8لقد وَقَعَت هذه الحادثةُ فِعلًا فيما مضَى، عندَما دَخَل رئيسَا عشيرتَينِ إلى سُلطانٍ عظيمٍ وقاما بمِثلِ ما ذُكِرَ أَعلاه.﴾ تُفّاحةً مَثلًا، فإنَّك ستُكِنُّ لها نَوعَينِ مِنَ المَحَبّةِ، وستَلْتَذُّ بها بشَكْلَينِ مِنَ اللَّذّةِ:
الأُولَى: المَحَبّةُ الَّتي تعُودُ إلى التُّفّاحةِ، مِن حيثُ إنَّها فاكِهةٌ طَيِّبةٌ فيها لَذّةٌ بقَدْرِ ما فيها مِن خَصائِصَ، هذه المَحَبّةُ لا تعُودُ إلى السُّلطانِ، بل مَن يَأكُلُها بشَراهةٍ أَمامَه يُبدِي مَحَبَّتَه للتُّفّاحةِ وليس للسُّلطانِ، وقد لا يُعجِبُ السُّلطانَ ذلك التَّصَرُّفُ مِنه، ويَنفِرُ مِن تلك المَحَبّةِ الشَّدِيدةِ للنَّفسِ؛ عَلاوةً على أنَّ لَذّةَ التُّفّاحةِ جُزئيّةٌ وهي في زَوالٍ، إذ بمُجَرِّدِ الِانتِهاءِ مِن أَكلِها تَزُولُ اللَّذّةُ وتُورِثُ الأَسَفَ.
أمّا المَحَبّةُ الثّانية: فهي للتَّكرِمةِ السُّلطانيّةِ والْتِفاتَتِه اللَّطِيفةِ الَّتي ظَهَرَت بالتُّفّاحةِ.. فكأَنَّ تلك التُّفّاحةَ نَمُوذَجٌ للتَّوَجُّهِ السُّلطانِيِّ، ومَكرُمةٌ منه. فالَّذي يَتَسلَّمُ هَدِيّةَ السُّلطانِ حُبًّا وكَرامةً يُبدِي مَحَبَّتَه للسُّلطانِ وليس للتُّفّاحةِ؛ عِلْمًا أنَّ في تلك التّفّاحةِ الَّتي صارَت مَظهَرًا للتَّكرِمةِ لَذّةً تَفُوقُ وتَسمُو على أَلفِ تُفّاحةٍ أُخرَى. فهذه اللَّذّةُ هي الشُّكْرانُ بعَينِه، وهذه المَحَبّةُ هي مَحَبّةٌ ذاتُ احتِرامٍ وتَوقيرٍ يَلِيقُ بالسُّلطانِ.
وهكذا، فإذا ما وَجَّه الإنسانُ مَحَبَّتَه إلى النِّعَمِ والفَواكِهِ بالذّاتِ وتَلَذَّذ عن غَفْلةٍ بلَذّاتِها المادِّيّةِ وَحْدَها، فتلك مَحَبّةٌ نَفسانيّةٌ تعُودُ إلى هَوَى النَّفسِ، وتلك اللَّذّاتُ زائِلةٌ مُؤلِمةٌ؛ أمّا إذا كانَتِ المَحَبّةُ مُتَوجِّهةً إلى جِهةِ التَّكرِمةِ الرَّبّانيّةِ ونَحوَ أَلطافِ رَحمَتِه سُبحانَه وثَمَراتِ إحسانِه، مُقدِّرًا دَرَجاتِ الإحسانِ واللُّطفِ ومُتَلذِّذًا بها بشَهِيّةٍ كامِلةٍ، فهي شُكرٌ مَعنَوِيٌّ، وهي لَذّةٌ لا تُورِثُ أَلَمًا.
[نكتة3: طبقات محبة الأسماء الحسنى]
النُّكتةُ الثالثة:
إنَّ المَحَبّةَ المُتَوجِّهةَ إلى الأَسماءِ الحُسنَى لها طَبَقاتٌ: فقد يَتَوجَّهُ بالمَحَبّةِ إلى الأَسماءِ الحُسنَى بمَحَبّةِ الآثارِ الإلٰهِيّةِ المَبثُوثةِ في الكَونِ -كما بَيَّنّاه سابِقًا- وقد يَتَوجَّهُ بالمَحَبّةِ إلى الأَسماءِ الحُسنَى لِكَونِها عَناوِينَ كَمالاتٍ إلٰهِيّةٍ سامِيةٍ، وقد يكُونُ الإنسانُ مُشتاقًا إلى الأَسماءِ الحُسنَى لِحاجَتِه الماسّةِ إلَيها، وذلك لِجامِعِيّةِ ماهِيَّتِه وعُمُومِها وحاجاتِه غيرِ المَحدُودةِ، فيُحِبُّ تلك الأَسماءَ بدافِعِ الحاجةِ إلَيها.
ولْنُوضِّحْ ذلك بمِثالٍ: تَصَوَّرْ وأنت تَستَشعِرُ عَجْزَك وحاجَتَك الشَّدِيدةَ إلى مَن يُساعِدُك ويُعِينُك لإنقاذِ مَن تَحْنُو علَيهِم وتُشفِقُ على أَوضاعِهِم مِنَ الأَقارِبِ والفُقَراءِ، وحتَّى المَخلُوقاتِ الضَّعِيفةِ المُحتاجةِ، إذا بأَحَدِهم يَبْرُزُ في المَيدانِ، ويُحسِنُ لِأُولَئِك ويَتَفضَّلُ علَيهِم ويُسبِغُ علَيهِم نِعَمَه بما تُرِيدُه وتَرغَبُه.. فكم تَطِيبُ نَفسُك وكم تَرتاحُ إلى اسمِه “المُنعِم” و”الكَرِيم”! وكم تَنبَسِطُ أَسارِيرُك وتَنشَرِحُ مِن هذَينِ الِاسمَينِ، بل كم يَأخُذُ ذلك الشَّخصُ مِن إعجابِك وتَقدِيرِك، وكم تَتَوجَّهُ إلَيه بالحُبَّ بذَينِك الِاسمَينِ والعُنوانَينِ!
ففي ضَوءِ هذا المِثالِ تَدَبَّرْ في اسمَينِ فقط مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى وهما: “الرَّحمٰنُ” و”الرَّحيمُ”، تَجِدْ أنَّ جَمِيعَ المُؤمِنين مِنَ الآباءِ والأَجدادِ السّالفِين وجَمِيعَ الأَحِبّةِ والأَقارِبِ والأَصدِقاءِ، هؤُلاءِ الَّذين تُحِبُّهُم وتَحِنُّ إلَيهِم وتُشفِقُ علَيهِم، يُنعَمُون في الدُّنيا بأَنواعٍ مِنَ النِّعَمِ اللَّذِيذةِ، ثمَّ يُسعَدُون في الآخِرةِ بما لَذَّ وطابَ مِنَ النِّعَمِ، بل يَزِيدُهم سُبحانَه -وهو الرَّحمٰنُ الرَّحِيمُ- سَعادةً ونَعِيمًا بلِقاءِ بعضِهم بعضًا وبرُؤْيةِ الجَمالِ السَّرمَدِيِّ هناك.. فكم يكُونُ اسمَا “الرَّحمٰنِ” و”الرَّحِيمِ” جَدِيرَينِ إذًا بالمَحَبّةِ؟ وكم تكُونُ رُوحُ الإنسانِ تَوّاقةً إلَيهِما؟ قِسْ بنَفسِك ذلك لِتُدرِكَ مَدَى صَوابِ قَولِنا: الحَمدُ لله على رَحمانيَّتِه ورَحِيمِيَّتِه. ثمَّ إنَّك تَتَعلَّقُ بالمَوجُوداتِ المَبثُوثةِ على الأَرضِ وتَتَألَّمُ بشَقائِها، حتَّى لَكَأنَّ الأَرضَ برُمَّتِها مَسكَنُك الجَمِيلُ وبَيتُك المَأْنُوسُ؛ فإذا ما أَنعَمْتَ النَّظَرَ تَجِدُ في رُوحِك شَوْقًا عارِمًا وحاجةً شَدِيدةً إلى اسمِ “الحَكِيمِ” وعُنوانِ “المُرَبِّي” للَّذي يُنَظِّمُ هذه المَخلُوقاتِ كافّةً بحِكْمةٍ تامّةٍ وتَنظِيمٍ دَقِيقٍ وتَدبِيرٍ فائِقٍ وتَربِيةٍ رَحِيمةٍ.
ثمَّ إذا أَنعَمْتَ النَّظَرَ في البَشَرِيّةِ جَمْعاءَ تَجِدُك تَتَعلَّقُ بهم وتَتَألَّمُ لِحالِهمُ البائِسةِ وتَتَألَّمُ أَشَدَّ الأَلَمِ بزَوالِهم ومَوتِهم، وإذا برُوحِك تَشتاقُ إلى اسمِ “الوارِثِ الباعِثِ”، وتَحتاجُ إلى عُنوانِ “الباقي، الكرِيمِ، المُحيِي، المُحسِنِ” للخالِقِ الكَرِيمِ الَّذي يُنقِذُهم مِن ظُلُماتِ العَدَمِ ويُسكِنُهم في مَسكَنٍ أَجمَلِ مِنَ الدُّنيا وأَفضَلَ مِنها.
وهكذا، فلِأنَّ ماهِيّةَ الإنسانِ عاليةٌ وفِطرَتَه جامِعةٌ فهو مُحتاجٌ بأَلفِ حاجةٍ وحاجةٍ إلى أَلفِ اسمٍ واسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى، وإلى كَثيرٍ جِدًّا مِن مَراتِبِ كلِّ اسمٍ؛ فالحاجةُ المُضاعَفةُ هي الشَّوقُ، والشَّوقُ المُضاعَف هو المَحَبّةُ، والمَحَبّةُ المُضاعَفةُ كذلك هي العِشْقُ، فحَسَبَ تَكَمُّلِ رُوحِ الإنسانِ تَنكَشِفُ مَراتِبُ المَحَبّةِ وَفْقَ مَراتِبِ الأَسماءِ، ومَحَبّةُ جَمِيعِ الأَسماءِ أَيضًا تَتَحوَّلُ إلى مَحَبّةِ ذاتِه الجَليلةِ سُبحانَه، إذ إنَّ تلك الأَسماءَ عَناوِينُ وتَجَلِّياتُ ذاتِه جَلَّ وعَلا.
والآنَ سنُبيِّنُ مِن بينِ أَلفِ اسمٍ واسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى مَرتَبةً واحِدةً فقط وعلى سَبِيلِ المِثالِ مِن بينِ أَلفِ مَرتَبةٍ ومَرتَبةٍ لِاسمِ “العَدْلِ والحَكَمِ والحَقِّ والرَّحِيمِ” على النَّحوِ الآتي: إن شِئْتَ أن تُشاهِدَ ما في نِطاقِ الحِكْمةِ والعَدْلِ مِنِ اسمِ “الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ، الحَقِّ” ضِمنَ دائرةٍ واسِعةٍ عُظمَى، فتَأَمَّلْ في هذا المِثالِ:
جَيشٌ يَضُمُّ أَربعَ مِئةِ طائِفةٍ مُتَنوِّعةٍ مِنَ الجُنُودِ، كلٌّ مِنها تَختَلِفُ عنِ الأُخرَى فيما يُعجِبُها مِن مَلابِسَ، وتَتَبايَنُ فيما تَشتَهِيه مِن أَطعِمةٍ، وتَتَغايَرُ فيما تَستَعمِلُه بيُسْرٍ مِن أَسلِحةٍ، وتَتَنوَّعُ فيما تَتَناوَلُه مِن عِلاجاتٍ تُناسِبُها.. فعلى الرَّغمِ مِن هذا التَّبايُنِ والِاختِلافِ في كلِّ شَيءٍ، فإنَّ تلك الطَّوائِفَ الأَربعَ مِئةٍ لا تَتَميَّـزُ إلى فِرَقٍ وأَفواجٍ، بل يَتَشابَكُ بعضُها في بعضٍ مِن دُونِ تَميِيزٍ.. فإذا ما وُجِدَ سُلطانٌ واحِدٌ يُعطِي لكُلِّ طائِفةٍ ما يَلِيقُ بها مِن مَلابِسَ، وما يُلائِمُها مِن أَرزاقٍ، وما يُناسِبُها مِن عِلاجٍ، وما يُوافِقُها مِن سِلاحٍ، بلا نِسيانٍ لِأَحَدٍ ولا الْتِباسٍ ولا اختِلاطٍ، ومِن دُونِ أن يكُونَ له مُساعِدٌ ومُعِينٌ، بل يُوَزِّعُها كلَّها علَيهِم بِذاتِه، بما يَتَّصِفُ به مِن رَحمةٍ ورَأفةٍ وقُدرةٍ وعِلمٍ مُعجِزٍ وإحاطةٍ تامّةٍ بالأُمُورِ كُلِّها، معَ عَدالةٍ فائِقةٍ وحِكْمةٍ تامّةٍ.. نعم، إذا ما وُجِدَ سُلْطانٌ كهذا الَّذي لا نَظِيرَ له، وشاهَدتَ بنَفسِك أَعمالَه المُعجِزةَ الباهِرةَ، تُدرِكُ عِندَئذٍ مَدَى قُدرَتِه ورَأفَتِه وعَدْلِه، ذلك لأنَّ تَجهِيزَ كَتيبةٍ واحِدةٍ تَضُمُّ عَشَرةَ أَقوامٍ مُختَلِفِين بأَعتِدةٍ مُتَبايِنةٍ وأَلبِسةٍ مُتَنوِّعةٍ أَمرٌ عَسِيرٌ جِدًّا، حتَّى يُلْجأَ إلى تَجهِيزِ الجَيشِ بطِرازٍ مُعَيَّنٍ ثابِتٍ مِنَ الأَلبِسةِ والأَعتِدةِ مَهما اختَلَفَتِ الأَجناسُ والأَقوامُ.
فإذا شِئتَ -في ضَوءِ هذا المِثالِ- أن تَرَى تَجَلِّيَ اسمِ اللهِ “الحَقِّ” و”الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ” ضِمنَ نِطاقِ العَدلِ والحِكْمةِ، فسَرِّحْ نَظَرَك في الرَّبيعِ إلى تلك الخِيامِ المَنصُوبةِ على بِساطِ الأَرضِ لِأَربعِ مِئةِ أَلفٍ مِنَ الأُمَمِ المُتَنوِّعةِ، الَّذين يُمَثِّلُون جَيشَ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ، أَنعِمِ النَّظَرَ فيها تَجِدْ أنَّ جَمِيعَ تلك الأُمَمِ والطَّوائِفِ، معَ أنَّها مُتَداخِلةٌ، وأَلبِسَتُهم مُختَلِفةٌ وأَرزاقُهم مُتَفاوِتةٌ وأَسلِحَتُهم مُتَنوِّعةٌ وطُرُقُ مَعِيشَتِهم مُتَبايِنةٌ وتَدرِيبُهم وتَعلِيماتُهم مُتَغايِرةٌ، وتَسرِيحاتُهم وإجازاتُهم مُتَميِّزةٌ.. وهم لا يَملِكُون قُدرةً لتَأْمينِ حاجاتِهم، ولا أَلسِنةً يَطلُبُون بها تَلبِيةَ رَغَباتِهم.. مع كلِّ هذا فإنَّ كُلًّا مِنها تُدارُ وتُرَبَّى وتُراعَى باسمِ “الحَقِّ والرَّحمٰنِ والرَّزّاقِ والرَّحيمِ والكَرِيمِ” دُونَ الْتِباسٍ ولا نِسيانٍ ضِمنَ نِطاقِ الحِكْمةِ والعَدْلِ بمِيزانٍ دَقيقٍ وانتِظامٍ فائِقٍ.. فشَاهِدْ هذا التَّجَلِّيَ وتَأَمَّلْ فيه؛ فهل يُمكِنُ أن يَتَدخَّلَ أَحَدٌ غيرُ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى في هذا العَمَلِ الَّذي يُدارُ بمِثلِ هذا النِّظامِ البَدِيعِ والمِيزانِ الدَّقيقِ؟ وهل يُمكِنُ لِأَيِّ سَبَبٍ مَهما كان أن يَمُدَّ يَدَه لِيتَدَخَّلَ في هذه الصَّنعةِ الباهِرةِ والتَّدبِيرِ الحَكِيمِ والرُّبُوبيّةِ الرَّحِيمةِ والإدارةِ الشّامِلةِ غيرُ الواحِدِ الأَحَدِ الحَكِيمِ القَدِيرِ على كلِّ شيءٍ؟
[نكتة4: نتائج المحبة المشروعة وفوائدها]
النُّكتةُ الرابعة:
تقولُ: إنَّني أَحمِلُ أَنواعًا مُتَبايِنةً مِنَ المَحَبّةِ في نَفسِي، تَتَعلَّقُ بالأَطعِمةِ اللَّذِيذةِ، وبنَفسِي وزَوجَتِي وبأَولادِي ووالِدَيَّ وبأَحبابي وأَصدِقائي، وبالأَولياءِ الصّالِحِين والأَنبِياءِ المُكْرَمين، بل يَتَعلَّقُ حُبِّي بكلِّ ما هو جَمِيلٌ، وبالرَّبيعِ الزّاهِي خاصّةً وبالدُّنيا عامّةً.. فلو سارَت هذه الأَنواعُ المُختَلِفةُ مِنَ المَحَبّةِ وَفْقَ ما يَأمُرُ به القُرآنُ الكَرِيمُ، فما تكُونُ نَتائِجُها وما فَوائِدُها؟
الجَوابُ: إنَّ بَيانَ تلك النَّتائِجِ وتَوضِيحَ تلك الفَوائِدِ كُلِّها يَحتاجُ إلى تَأْليفِ كِتابٍ ضَخْمٍ في هذا الشَّأْنِ، لِذا سنُشِيرُ هنا إلى نَتِيجةٍ واحِدةٍ أو نَتيجَتَينِ مِنها إشارةً مُجمَلةً؛ وسنُبيِّنُ أوَّلًا النَّتائِجَ الَّتي تَحصُلُ في الدُّنيا، ثمَّ بعدَ ذلك نُبيِّنُ النَّتائِجَ الَّتي ستَظهَرُ في الآخِرةِ.. وهي كالآتي:
لقد ذَكَرنا سابِقًا: أنَّ أَنواعَ المَحَبّةِ الَّتي لَدَى أَربابِ الغَفلةِ والدُّنيا والَّتي لا تَنبَعِثُ إلّا لإشباعِ رَغَباتِ النَّفسِ، لها نَتائِجُ أَليمةٌ وعَواقِبُ وَخِيمةٌ مِن بَلايا ومَشَقّاتٍ، معَ ما فيها مِن نَشْوةٍ ضَئِيلةٍ وراحةٍ قَليلةٍ؛ فمَثلًا: الشَّفَقةُ تُصبِحُ بَلاءً مُؤْلمًا بسَبَبِ العَجْزِ، والحُبُّ يَغدُو حُرقةً مُفجِعةً بسَبَبِ الفِراقِ، واللَّذّةُ تكُونُ شَرابًا مَسمُومًا بسَبَبِ الزَّوالِ.. أمّا في الآخِرةِ فستَبقَى دُونَ جَدْوَى ولا نَفْعٍ، لأنَّها لم تكُن في سَبِيلِ اللهِ تَعالَى، أو تكُونُ عَذابًا أَليمًا إن ساقَت إلى الوُقُوعِ في الحَرامِ.
[هل يمكن أن تخلو محبة الأنبياء والأولياء من الفائدة؟]
سُؤالٌ: كيف يَظَلُّ حُبُّ الأَنبِياءِ الكِرامِ والأَولياءِ الصّالِحِين دُونَ نَفْعٍ أو فائِدةٍ؟
الجَوابُ: مِثلَما لا يَنتَفِعُ النَّصارَى المُعتَقِدُون بالتَّثلِيثِ مِن حُبِّهِم لِسَيِّدِنا عِيسَى عَليهِ السَّلام، وكذا الرَّوافِضُ مِن حُبِّهِم لِسَيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ!
أمَّا ما ذَكَرتَه مِن أَنواعِ المَحَبّةِ: فإن كانَت وَفْقَ إرشادِ القُرآنِ الكَرِيمِ وفي سَبِيلِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى ومَحَبّةِ الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ، فإنَّ نَتائِجَ جَمِيلةً تُثمِرُ في الدُّنيا، فَضْلًا عن نَتائِجِها الطَّـيِّبةِ الخالِدةِ في الآخِرةِ.
أمّا نَتائِجُها في الدُّنيا: فإنَّ مَحَبَّتَك لِلأَطعِمةِ اللَّذِيذةِ والفَواكِهِ الطَّـيِّبةِ فهي نِعمةٌ إلٰهِيّةٌ لا يَشُوبُها أَلمٌ، ولَذّةٌ لَطِيفةٌ في الشُّكْرِ بعَينِه.
أمّا مَحَبَّتُك لِنَفسِك أي: إشفاقُك علَيها، والجُهدُ في تَربِيَتِها وتَزكِيَتِها، ومَنعِها عنِ الأَهواءِ الرَّذِيلةِ، تَجعَلُها مُنقادةً إليك، فلا تُسَيِّـرُك ولا تُقيِّدُك بأَهوائِها، بل تَسُوقُها أنت إلى حيثُ الهُدَى دُونَ الهَوَى.
أمّا مَحَبَّتُك لِزَوجَتِك وهي رَفيقةُ حَياتِك: فلِأَنَّها قد أُسِّسَت على حُسْنِ سِيرَتِها وطِيبِ شَفَقَتِها، وكَونِها هِبةً مِنَ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ، فستُولِيها حُبًّا خالِصًا ورَأْفةً جادّةً، وهي بدَوْرِها تُبادِلُك هذه المَحَبّةَ معَ الِاحتِرامِ والتَّوقِيرِ، وهذه الحالةُ تَزدادُ بَينَكُما كُلَّما تَقَدَّمتُما في العُمُرِ، فتَقضِيانِ حَياةً سَعِيدةً هَنِيئةً بإذنِ الله.. ولكن لو كان ذلك الحُبُّ مَبنِيًّا على جَمالِ الصُّورةِ الَّذي تَهواه النَّفسُ، فإنه سَرْعانَ ما يَخبُو ويَذبُلُ، وتَفسُدُ الحَياةُ الزَّوجِيّةُ أَيضًا.
أمّا مَحَبَّتُك للوالِدِ والوالِدةِ: فهي عِبادةٌ تُثابُ علَيها ما دامَت في سَبِيلِ الله، ولا شَكَّ أنَّك ستَزِيدُ الحُبَّ والِاحتِرامَ لَهما عِندَما يَبلُغانِ الكِبَرَ، وتَكسِبُ لَذّةً رُوحِيّةً خالِصةً وراحةً قَلبِيّةً تامّةً لَدَى القِيامِ بخِدْمَتِهما وتَقبِيلِ أَيدِيهما وتَبجِيلِهما بإخلاصٍ، فتَتَوجَّهُ إلى المَولَى القَدِيرِ -وأنت تَشعُرُ هذا الشُّعُورَ السّامِيَ والهِمّةَ الجادّةَ- بأن يُطِيلَ عُمُرَهما لِتَحصُلَ على مَزِيدٍ مِنَ الثَّوابِ.. ولكن لو كان ذلك الحُبُّ والِاحتِرامُ لِأَجلِ كَسْبِ حُطامِ الدُّنيا ونابِعًا مِن هَوَى النَّفسِ، فإنَّه يُوَلِّدُ أَلمًا رُوحِيًّا قاتِمًا يَنبَعِثُ مِن شُعُورٍ سافِلٍ مُنحَطٍّ وإحساسٍ دَنِيءٍ وَضِيعٍ هو النُّفُورُ مِن ذَينِك المُوَقَّرَينِ اللَّذينِ كانا السَّبَبَ لِحَياتكَ أنت، واستِثْقالِهِما وقد بَلَغا الكِبَرَ وباتا عِبْئًا علَيك، ثمَّ الأَدْهَى مِن ذلك تَمَنِّي مَوتِهما وتَرَقُّبُ زَوالِهِما!
أمّا مَحَبَّتُك لأَولادِك، أي: حُبُّكَ لِمَنِ استَودَعَك اللهُ إيّاهم أَمانةً، لِتَقُومَ بتَربِيَتِهم ورِعايَتِهم.. فحُبُّ أُولَئِك المُؤنِسِين المَحبُوبِين مِن خَلقِ اللهِ، إنَّما هو حُبٌّ مُكَلَّلٌ بالسَّعادةِ والبَهجةِ، وهو نِعمةٌ إلٰهِيّةٌ في الوَقتِ نَفسِه، فإذا شَعَرتَ بهذا فلا يَحْزُنُك مُصابُهم، ولا تَصرُخُ مُتَحسِّرًا على وَفاتِهم، إذ -كما ذَكَرنا سابِقًا- إنَّ خالِقَهُم رَحِيمٌ بهم حَكِيمٌ في تَدبِيرِ أُمُورِهم، وعِندَ ذلك تقُولُ: إنَّ المَوتَ بحَقِّ هَؤُلاء لَهُو سَعادةٌ لهم. فتَنجُو بهذا مِن أَلَمِ الفِراقِ، وتَتَفكَّرُ أن تَستَدِرَّ رَحْمَتَه تَعالَى علَيك.
أمّا مَحَبَّتُك للأَصدِقاءِ والأَقرِباءِ: فلِأنَّها لِوَجهِ اللهِ تَعالَى، فلا يَحُولُ فِراقُهم ولا مَوتُهم دُونَ دَوامِ الصُّحبةِ معَهم، ودَوامِ أُخُوَّتِكُم ومَحَبَّتِكُم ومُؤانَسَتِكُم؛ إذ تَدُومُ تلك الرّابِطةُ الرُّوحِيّةُ والحُبُّ المَعنَوِيُّ الخالِصُ، فتَدُومُ بدَورِهما لَذّةُ اللِّقاءِ ومُتعةُ الوِصالِ.. ولكن إن لم يكُن ذلك الحُبُّ لِأَجلِه تَعالَى ولا في سَبِيلِه، فإنَّ لَذّةَ لِقاءِ يَومٍ واحِدٍ يُورِثُ آلامَ الفِراقِ لِمِئةِ يَومٍ9 إنَّ ثَانيةً واحِدة من لِقاءٍ في سَبيلِ الله تَعَالَى تُعَدُّ سَنةً مِن العُمُر، بينما سَنةٌ مِن لِقاءٍ لَأجلِ الدُّنيا الفَانية لا تُساوِي ثانيةً..
أمّا مَحَبَّتُك للأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلَام والأَولياءِ الصّالِحِين: فإنَّ عالَمَ البَرزَخِ الَّذي هو عالَمٌ مُظلِمٌ مُوحِشٌ في نَظَرِ أَربابِ الضَّلالةِ والغَفْلةِ تَراه مَنازِلَ مِن نُورٍ تَنَوَّرَت بأُولَئِك المُنَوَّرِين، وعِندَها لا تَستَوحِشُ مِنَ اللَّحاقِ بهم، ولا تَجفِلُ مِن عالَمِ البَرزَخِ، بل تَشتاقُ إلَيه، وتَحِنُّ إلَيه مِن دُونِ أن يُعكِّرَ ذلك تَمَتُّعَك بالحَياةِ الدُّنيا.. ولكن لو كان حُبُّهم شَبِيهًا بحُبِّ أَربابِ المَدَنيّةِ لِمَشاهِيرِ الإنسانيّةِ، فإنَّ مُجَرَّدَ التَّفَكُّرِ في فَناءِ أُولَئِك الكُمَّلِ، وتَرَمُّمِ عِظامِهم في مَقبَرةِ الماضِي الكُبْرَى، يَزِيدُ أَلمًا على آلامِ الحَياةِ، ويَدفَعُ المَرءَ إلى تَصَوُّرِ مَوتِه وزَوالِه حيثُ يقولُ: سأَدخُلُ يومًا هذه المَقبَرةَ الَّتي تُرِمُّ عِظامَ العُظَماءِ! يقُولُه بكُلِّ مَرارةٍ وحَسْرةٍ وقَلَقٍ.. بَينَما في المَنظُورِ الأَوَّلِ يَراهُم يُقِيمُون براحةٍ وهَناءٍ في عالَمِ البَرزَخِ الَّذي هو قاعةُ المُستَقبَلِ ورِواقُه، بعدَ أن تَرَكُوا مَلابِسَهُمُ الجَسَدِيّةَ في الماضِي.. فيَنظُرُ إلى المَقبَرةِ نَظْرةَ شَوْقٍ وأُنْسٍ.
ثمَّ إنَّ مَحَبَّتَك للأَشياءِ الجَمِيلةِ والأُمورِ الطَّـيِّبةِ، لَمّا كانَت مَحَبّةً في سَبِيلِ الله، وفي سَبِيلِ مَعرِفةِ صانِعِها الجَليلِ بحيثُ يَجعَلُك تقولُ: ما أَجمَلَ خَلْقَه! فإنَّ هذه المَحَبّةَ في حَدِّ ذاتِها تَفَكُّرٌ ذُو لَذّةٍ ومُتعةٍ، فَضْلًا عن أنَّها تَفتَحُ السَّبِيلَ أَمامَ أَذواقِ حُبِّ الجَمالِ والشَّوقِ إلى الحُسنِ لِتَتَطلَّعَ إلى مَراتِبِ أَذواقٍ أَسمَى وأَرفَعَ وأَقدَسَ وأَجمَلَ مِن ذلك الجَمالِ بآلافِ المَرّاتِ، وتُرِيه هناك كُنُوزَ تلك الخَزائِنِ النَّفِيسةِ فيَتَملّاها المَرءُ في نَشوةٍ سامِيةٍ عاليةٍ؛ ذلك لأنَّ هذه المَحَبّةَ تَفتَحُ آفاقًا أمامَ القَلبِ لِيُحَوِّلَ نظَرَه مِن آثارِ الصّانِعِ الجَليلِ إلى جَمالِ أَفعالِه البَدِيعةِ، ومِن جَمالِ الأَفعالِ إلى جَمالِ أَسمائِه الحُسنَى، ومِن جَمالِ الأَسماءِ الحُسنَى إلى جَمالِ صِفاتِه الجَلِيلةِ، ومِن جَمالِ الصِّفاتِ الجَليلةِ إلى جَمالِ ذاتِه المُقدَّسةِ.. فهذه المَحَبّةُ وبهذا السَّبِيلِ إنَّما هي عِبادةٌ لَذِيذةٌ وتَفَكُّرٌ رَفيعٌ مُمتِعٌ في الوَقتِ نَفسِه.
أمّا مَحَبَّتُك للشَّبابِ: فلِأَنَّك قد أَحبَبْتَ عَهْدَ شَبابِك لِكَونِه نِعمةً جَمِيلةً للهِ سُبحانَه، فلا شَكَّ أنَّك ستَصرِفُه في عِبادَتِه تَعالَى ولا تَقتُلُه غَرَقًا في السَّفَهِ وتَمادِيًا في الغَيِّ؛ إذِ العِباداتُ الَّتي تَكسِبُها في عَهْدِ الشَّبابِ إنَّما هي ثَمَراتٌ يانِعةٌ باقيةٌ خالِدةٌ أَثمَرَها ذلك العَهْدُ الفاني، فكُلَّما جاوَزْتَ ذلك العَهْدَ وطَعَنتَ في السِّنِّ حَصَلْتَ على مَزِيدٍ مِن ثَمَراتِه الباقيةِ، ونَجَوتَ تَدرِيجِيًّا مِن آفاتِ النَّفسِ الأَمّارةِ بالسُّوءِ وسَيِّئاتِ طَيشِ الشَّبابِ، فتَرجُو مِنَ المَولَى القَدِيرِ أن يُوَفِّقَك إلى كَسْبِ المَزِيدِ مِنَ العِبادةِ في الشَّيخُوخةِ، لِتكُونَ أَهلًا لِرَحمَتِه الواسِعةِ، وتَربَأُ بنَفسِك أن تكُونَ مِثلَ أُولَئك الغافِلين الَّذين يَقضُون خَمسِين سَنةً مِن عُمُرِ شَيخُوخَتِهم وشَيبِهِم أَسَفًا ونَدَمًا على ما فَقَدُوه مِن مَتاعِ الشَّبابِ في خَمسِ أو عَشرِ سَنَواتٍ. حتَّى عَبَّر أَحَدُ الشُّعَراءِ عن ذلك النَّدَمِ والأَسَفِ بقَولِه:
فيالَيتَ الشَّبابَ يعُودُ يَومًا فأُخبِرَه بِما فَعَلَ المَشِيبُ
أمّا مَحَبَّتُك للمَناظِرِ البَهِيجةِ ولا سِيَّما مَناظِرِ الرَّبيعِ، فحيثُ إنَّها مُشاهَدةٌ لِبَدائِعِ صُنْعِ اللهِ والِاطِّلاعِ علَيها، فذَهابُ ذلك الرَّبيعِ لا يُزِيلُ لَذّةَ المُشاهَدةِ ومُتعةَ التَّفرُّجِ، إذ يَتْرُكُ وَراءَه مَعانِيَه الجَمِيلةَ، حيثُ الرَّبيعُ أَشبَهُ ما يكُونُ برِسالةٍ رَبَّانيّةٍ زاهِيةٍ تُفتَحُ للمَخلُوقاتِ. فخَيالُك والزَّمَنُ شَبِيهانِ بالشَّرِيطِ السِّينِمائيِّ يُدِيمانِ لك لَذّةَ المُشاهَدةِ هذه، ويُجَدِّدانِ دَوْمًا تلك المَعانِيَ الَّتي تَحمِلُها رِسالةُ الرَّبيعِ.. فلا يكونُ حُبُّك إذًا مُؤَقَّتًا ولا مَغمُورًا بالأَسَفِ والأَسَى، بل صافِيًا خالِصًا لَذِيذًا مُمتِعًا.
أمّا حُبُّك للدُّنيا فلِأَنَّه حُبٌّ للهِ ولِأَجلِه سُبحانَه، فإنَّ مَوجُوداتِها المُثِيرةَ للرُّعبِ والدَّهشةِ تُصبِحُ لك أَصدِقاءَ مُؤْنِسِين، ولأنَّك تَتَوجَّهُ إلَيها بالحُبِّ مِن حيثُ كَونُها مَزرَعةَ الآخِرةِ، تَستَطِيعُ أن تَجنِيَ مِن كلِّ شَيءٍ فيها ما يُمكِنُ أن يكُونَ ثَمَرةً مِن ثِمارِ الآخِرةِ، أو تَغنَمَ مِنها ما يُمكِنُ أن يكُونَ رَأسَ مالٍ للآخِرةِ؛ فمَصائِبُها إذًا لا تُخِيفُك وزَوالُها وفَناؤُها لا يُضايِقُك. وهكذا تَقضِي مُدّةَ إقامَتِك فيها، وأنتَ ضَيفٌ مُكَرَّمٌ.. ولكن لو كان حُبُّك لها كحُبِّ أَربابِ الغَفْلةِ، فقد قُلْنا لك مِرارًا: ستُغرِقُ نَفسَك وتَفنَى بحُبٍّ ساحِقٍ، خانِقٍ، زائِلٍ، لا طائِلَ وَراءَه ولا نَفْعَ! وهكذا، فقد حاوَلْنا أن نُرِيَ لَطِيفةً واحِدةً مِن مِئاتِ اللَّطائِفِ الَّتي تَعُودُ لِكُلٍّ مِمّا ذَكَرتَه، عِندَما يكُونُ حُبُّك له وَفْقَ إرشادِ القُرآنِ الكَرِيمِ، وأَشَرْنا في الوَقتِ نَفسِه إلى واحِدٍ مِن مِئاتِ أَضرارِ ذلك الحُبِّ إن لم يكُن وَفْقَ ما يَأمُرُ به القُرآنُ الكَرِيمُ.
[فائدة أخروية للمحبة المشروعة]
فإن كُنتَ تُرِيدُ أن تُدرِكَ نَتائِجَ هذه الأَنواعِ المُختَلِفةِ مِنَ المَحَبّةِ في دارِ البَقاءِ وعالَمِ الآخِرةِ، مِثلَما أَشارَت إلَيها الآياتُ البَيِّناتُ للقُرآنِ الكَرِيمِ، فسنُبيِّنُ لك بَيانًا مُجمَلًا فائِدةً واحِدةً أُخرَوِيّةً مِن فَوائِدِ تلك الأَنواعِ المَشرُوعةِ مِنَ المَحَبّةِ، وذلك في تِسْعِ إشاراتٍ، بعدَ أن نُقدِّمَ بينَ يَدَيها مُقدِّمةً:
المقدِّمة: إنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى -بأُلُوهيَّتِه الجَليلةِ، ورَحمَتِه الجَمِيلةِ، ورُبُوبيَّتِه الكَبِيرةِ، ورَأْفَتِه الكَرِيمةِ، وقُدرَتِه العَظِيمةِ، وحِكْمَتِه اللَّطِيفةِ- قد زَيَّن هذا الإنسانَ الصَّغيرَ بحَواسَّ ومَشاعِرَ كَثيرةً جِدًّا، وجَمَّلَه بجَوارِحَ وأَعضاءٍ وآلاتٍ مُختَلِفةٍ عَدِيدةٍ، وجَهَّزَه بلَطائِفَ ومَعنَوِيّاتٍ مُتَنوِّعةٍ؛ ليُشْعِرَه بطَبَقاتِ رَحْمَتِه الواسِعةِ ويُذِيقَه أَنواعَ آلائِه الَّتي لا تُعَدُّ، ويُعَرِّفَه أَقسامَ إحساناتِه الَّتي لا تُحصَى، ويُطلِعَه عَبْرَ تلك الأَجهِزةِ والأَعضاءِ الكَثيرةِ على أَنواعِ تَجَلِّياتِه الَّتي لا تُحَدُّ لِأَلفِ اسمٍ واسمٍ مِن أَسمائِه الحُسنَى، ويُحَبِّـبُها إلَيه، ويَجعَلُه يُحسِنُ تَقدِيرَها حَقَّ قَدْرِها.
فلِكُلِّ عُضوٍ مِن تلك الأَعضاءِ الكَثِيرةِ، ولِكُلِّ جِهازٍ وآلةٍ مِنها، وَظائِفُها المُتَنوِّعةُ وعِباداتُها المُتَبايِنةُ، كما أنَّ لَذائِذَها مُختَلِفةٌ وآلامَها مُتَغايِرةٌ وثَوابَها مُتَميِّـزٌ.
فمَثلًا: العَينُ، تُشاهِدُ الجَمالَ في الصُّوَرِ، وتَرَى مُعجِزاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ الجَمِيلةِ في عالَمِ الشُّهُودِ، فتُؤَدِّي وَظِيفَتَها بتَقدِيمِ الشُّكرِ لله مِن خِلالِ نَظْرَتِها ذاتِ العِبْرةِ. ولا يَخفَى على أَحَدٍ مَدَى ما يَتَعلَّقُ بالرُّؤيةِ مِن لَذّةٍ وأَلَمٍ، لِذا لا داعِيَ لِوَصْفِ ذلك.
ومَثلًا: الأُذُن، تَشْعُرُ بلَطائفِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ السَّارِيةِ في عالَمِ المَسمُوعاتِ، بسَماعِها أَنواعَ الأَصواتِ ونَغَماتِها اللَّطِيفةِ المُختَلِفةِ، فلَها عِبادةٌ خاصّةٌ بها، ولَذّةٌ تَخُصُّها، وثَوابٌ يَعُودُ إلَيها.
ومَثلًا: حاسّةُ الشَّمِّ الَّتي تَشعُرُ بلَطائِفِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ الفَوَّاحةِ مِن شَذَى أَنواعِ العُطُورِ والرَّوائِحِ، فإنَّ لها لَذَّتَها الخاصّةَ بها ضِمنَ أَدائِها شُكرَها الخاصَّ، ولا شَكَّ أنَّ لها ثَوابًا خاصًّا بها.
ومَثلًا: حاسَّةُ الذَّوْقِ الَّتي في الفَمِ، فهي تُؤَدِّي وَظِيفَتَها وتُقدِّمُ بشُكْرِها المَعنَوِيِّ بأَنماطٍ شَتَّى مِن خِلالِ إدراكِها مَذاقاتِ أَنواعِ الأَطعِمةِ ولَذائِذِها.
وهكذا، فلِكُلِّ جِهازٍ مِن أَجهِزةِ الإنسانِ ولِكُلِّ حاسّةٍ وجارِحةٍ، ولِكُلِّ لَطِيفةٍ مِن لَطائِفِه المُهِمّة -كالقَلبِ والرُّوحِ والعَقلِ وغيرِها- وَظائِفُها المُختَلِفةُ، ولَذائِذُها المُتَنوِّعةُ الخاصّةُ بها.. فمِمّا لا رَيبَ فيه أنَّ الخالِقَ الحَكِيمَ الَّذي سَخَّر هذه الأَجهِزةَ لتلك الوَظائِفِ سيَجْزِي كُلًّا مِنها بما يُلائِمُها ويَستَحِقُّها مِن جَزاءٍ.
إنَّ النَّتائِجَ العاجِلةَ للأنواعِ المُتَعدِّدةِ مِنَ المَحَبّةِ -المَذكُورةِ سابِقًا- يَشعُرُ بها كلُّ إنسانٍ شُعُورًا وِجْدانيًّا، ويَستَدِلُّ على شُعوُرِه هذا ويَتَيقَّنُ مِنه بحَدْسٍ صادِقٍ؛ أمّا نَتائِجُها الأُخرَوِيّةُ فقد أَثبَتَتْها إِجمالًا اثْنَتا عَشْرةَ حَقِيقةً مِنَ الحَقائِقِ السّاطِعةِ للكَلِمةِ العاشِرةِ والأُسُسُ السِّتّةُ الباهِرةُ للكَلِمةِ التّاسِعةِ والعِشرِين.
أمّا تَفصِيلُها فهو ثابِتٌ قَطْعًا بالقُرآنِ الكَرِيمِ الَّذي هو أَصْدَقُ كَلامٍ وأَبلَغُ نِظامٍ، وهو كَلامُ اللهِ المَلِكِ العَزِيزِ العَلّامِ، في تَصرِيحِ آياتِه البَيِّناتِ وتَلْوِيحِها وفي رُمُوزِها وإشاراتِها.. لِذا لا نَرَى داعِيًا لإيرادِ بَراهِينَ مُطَوَّلةٍ في هذا الشَّأْنِ، عِلْمًا أنَّنا سَرَدْنا بَراهِينَ كَثيرةً جِدًّا في “كَلِماتٍ” أُخرَى وفي المَقامِ الثّاني العَرَبيِّ مِنَ “الكَلِمةِ الثّامِنةِ والعِشرِين” الخاصّةِ بالجَنّةِ، وفي “الكَلِمةِ التّاسِعةِ والعِشرِين”.
[إشارة1: محبة اللذائد]
الإشارةُ الأُولَى: إنَّ النَّتيجةَ الأُخرَوِيّةَ للمَحَبّةِ المَشرُوعةِ المُكَلَّلةِ بالشُّكرِ للهِ، نحوَ الأَطعِمةِ اللَّذِيذةِ والفَواكِهِ الطَّـيِّبةِ في الدُّنيا، هي تلك الأَطعِمةُ والفَواكِهُ الطَّـيِّبةُ اللّائِقةُ بالجَنّةِ الخالِدةِ.. كما يَنُصُّ علَيه القُرآنُ الكَرِيمُ. وهي أيضًا مَحَبّةٌ ذاتُ اشتِياقٍ واشتِهاءٍ لِتلك الجَنّةِ وفَواكِهِها، حتَّى إنَّ الفاكِهةَ الَّتي تَأْكُلُها في الدُّنيا وتَذكُرُ علَيها “الحَمدُ للهِ” تَتَجسَّمُ في الجَنّةِ فاكِهةً خاصّةً بها، وتُقَدَّمُ إلَيك طَيِّبةً مِن طَيِّباتِ الجَنّةِ. فأنتَ تَأْكُلُ هنا فاكِهةً، وهُناك “الحَمدُ للهِ” مُجَسَّمةً في فاكِهةٍ مِن فَواكِهِ الجَنّةِ.. وحَيثُ إنَّك تُقدِّمُ شُكْرًا مَعنَوِيًّا لَذِيذًا برُؤْيَتِك الإنعامَ الإلٰهِيَّ والِالتِفاتَ الرَّبّانِيَّ في الأَطعِمةِ والفَواكِهِ الَّتي تَتَناوَلُها هنا، فستُسَلَّمُ إلَيك هناك في الجَنّةِ أَطعِمةٌ لَذِيذةٌ وفَواكِهُ طَيِّبةٌ، كما هو ثابِتٌ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ وبإشاراتِ القُرآنِ الكَرِيمِ، وبمُقتَضَى الحِكْمةِ الإلٰهِيّةِ ورَحْمةِ اللهِ الواسِعةِ.
[إشارة2: محبة النفس]
الإشارةُ الثَّانية: إنَّ نَتِيجةَ المَحَبّةِ المَشرُوعةِ في الدُّنيا نحوَ النَّفسِ، أي: مَحَبَّتِها المَبنِيّةِ على رُؤْيةِ نَقائِصِها دُونَ مَحاسِنِها، ومُحاوَلةِ إكمالِها، وتَزكِيَتِها ورِعايَتِها بالشَّفَقةِ والرَّأفةِ، ودَفْعِها إلى سَبِيلِ الخَيرِ، هي إعطاءُ البارِئِ عزَّ وجَلَّ مَحبُوبِين يَلِيقُون بها في الجَنّةِ، فالنَّفسُ الَّتي عافَت في الدُّنيا هَواها وشَهَواتِها وتَرَكَت رَغَباتِها في سَبِيلِ اللهِ، واستُخدِمَت ما فيها مِن أَجهِزةٍ مُتَنوِّعةٍ على أَفضَلِ وَجْهٍ وأَتمِّه، سيَمنَحُها البارِئُ الكَرِيمُ سُبحانَه مُكافأةً على هذه المَحَبّةِ المَشرُوعةِ المُكلَّلةِ بالعُبُودِيّةِ لله، الحُورَ العِينَ المُتَرفِّلاتِ بسَبعِين حُلّةً مِن حُلَلِ الجَنّةِ المُتَنوِّعةِ بأَنواعِ لَطائِفِها وزِينَتِها، والمُتَجَمِّلاتِ بسَبعِين نَوْعًا مِن أَنواعِ الحُسْنِ والجَمالِ، حتَّى كَأَنَّهُن جَنّةٌ مُجَسَّمةٌ مُصَغَّرةٌ تَنبِضُ بالرُّوحِ والحَياةِ، لِتَقَرَّ بها عَينُ النَّفسِ الَّتي أَطاعَتِ اللهَ وتَهدَأَ بها المَشاعِرُ الَّتي اطْمَأَنَّت إلى أَوامِرِ اللهِ.. فهذه النَّتِيجةُ لا رَيبَ فيها، إذِ الآياتُ الكَرِيمةُ تُصَرِّحُ بها يَقِينًا.
ثمَّ إنَّ نَتِيجةَ المَحَبّةِ المُتَوجِّهةِ نحوَ الشَّبابِ في الدُّنيا، أي: صَرْفِ قُوّةِ الشَّبابِ ونَضارَتِه في العِبادةِ والتَّقوَى، هي شَبابٌ دائِمٌ خالِدٌ في دارِ البَقاءِ والنَّعِيمِ المُقِيمِ.
[إشارة3: محبة الزوجة]
الإشارةُ الثّالثة: أمّا النَّتِيجةُ الأُخرَوِيّةُ لِمَحَبّةِ الزَّوجةِ المُؤَسَّسَةِ على حُسْنِ سِيرَتِها وجَمِيلِ خَصْلَتِها ولَطِيفِ شَفَقَتِها، والَّتي تَصُونُها عنِ النُّشُوزِ وتُجَنِّـبُها الخَطايا والذُّنُوبَ، فهي جَعْلُ تلك الزَّوجةِ الصّالِحةِ مَحبُوبةً ومُحِبّةً وصَدِيقةً صَدُوقةً وأَنيسةً مُؤْنِسةً، في الجَنّةِ، جَمالُها أَبْهَى مِنَ الحُورِ العِينِ، زِينَتُها أَزهَى مِن زِينَتِهِنَّ، حُسْنُها يَفُوقُ حُسْنَهُنَّ.. تَتَجاذَبُ معَ زَوجِها أَطرافَ الحَدِيثِ، يَستَذكِرانِ أَحداثَ أَيّامٍ خَلَت.. هكذا وَعَد الرَّحِيمُ الكَرِيمُ. فما دامَ قد وَعَد فسيَفِي بوَعْدِه حَتْمًا.
[إشارة4: محبة الوالدين والأولاد]
الإشارةُ الرّابعة: أمّا نَتِيجةُ مَحَبّةِ الوالِدَينِ والأَولادِ فهي أنَّ الرَّحمٰنَ الرَّحِيمَ جَلَّ وعلا يُحسِنُ إلى تلك العائِلةِ السَّعِيدةِ المَحظُوظةِ، رَغمَ تَفاوُتِ مَراتِبِهم في الجَنّةِ بلِقاءِ بَعضِهم بَعضًا والمُعاشَرةِ والمُجالَسةِ والمُحادَثةِ فيما بَينَهم بما يَلِيقُ بالجَنّةِ ودارِ البَقاءِ، كما هو ثابِتٌ بنَصِّ القُرآنِ الكَرِيمِ؛ ويُنعِمُ على أُولَئِك الآباءِ بمُلاطَفةِ أَولادِهمُ الَّذين تُوُفُّوا في دار الدُّنيا قبلَ سِنِّ البُلُوغِ، ويَجعَلُهم لهم وِلْدانًا مُخَلَّدِين، في أَلطَفِ وَضْعٍ وأَحَبِّه إلى نُفُوسِهم، وبهذا تُطَمْأَنُ رَغبةُ مُداعَبةِ الأَطفالِ المَغرُوزةُ في فِطْرةِ الإنسانِ، فيَستَمتِعُون بمُتعةٍ خالِدةٍ وذَوقٍ دائِمٍ في الجَنّةِ، حيثُ خُلِّد لهم أَطفالُهمُ الصِّغارُ -الَّذين لم يَبلُغُوا سِنَّ التَّكلِيفِ- ولقد كان يُظَنُّ أنْ ليس في الجَنّةِ مُداعَبةُ الأَطفالِ، لأنَّها لَيسَت مَحَلًّا للتَّوالُدِ، ولكِنَّ الجَنّةَ لأنَّها تَحوِي أَفضَلَ لَذائِذِ الدُّنيا وأَجْوَدَها، فمُلاطَفةُ الأَولادِ ومُداعَبةُ الأَطفالِ لا بُدَّ أنَّها مَوجُودةٌ فيها بأَفضَلِ صُوَرِها وأَجمَلِ أَشكالِها.. فيا بُشْرَى أُولَئِك الآباءِ الَّذين فَقَدُوا أَطفالَهم في دارِ الدُّنيا!
[إشارة5: محبة الأصدقاء]
الإشارةُ الخامسةُ: إنَّ نَتِيجةَ مَحَبَّتِك لِصالِحِ الأَصدِقاءِ والأَقرِباءِ الَّتي يَتَطلَّبُها “الحُبُّ في اللهِ”، إنَّما هي في مُجالَسَتِكُم دُونَ فِراقٍ على سُرُرٍ مُتَقابِلين ومُؤانَسَتِكُم بلَطائِفِ الذِّكرَياتِ، ذِكرَياتِ أيّامِ الدُّنيا وخَواطِرِها الجَمِيلةِ، وقَضاءِ وَقتٍ مُمتِعٍ وجَمِيلٍ بهذه المُحاوَرةِ والمُجالَسةِ. كما هو ثابِتٌ بنَصِّ القُرآنِ الكَرِيمِ.
[إشارة6: محبة الأنبياء والأولياء]
الإشارةُ السّادسةُ: أمّا نَتِيجةُ مَحَبّةِ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلَام والأَولياءِ الصّالِحِين حَسَبَ ما بَيَّنه القُرآنُ الكَرِيمُ، فهي كَسْبُ شَفاعةِ أُولَئِك الأَنبِياءِ الكِرامِ والأَولياءِ الصّالِحِين في عالَمِ البَرزَخِ، وفي الحَشْرِ الأَعظَمِ فَضْلًا عنِ الِاستِفاضةِ -بتلك المَحَبّةِ- مِن فُيُوضاتِ مَقاماتِهمُ الرَّفيعةِ ومَراتِبِهِمُ العاليةِ اللّائِقةِ بهم.
نعم، إنَّ الحَدِيثَ الشَّرِيفَ يَنُصُّ على أنَّ “المَرءَ معَ مَن أَحَبَّ” فالإنسانُ إذًا يَستَطِيعُ أن يَرتَفِعَ إلى أَعلَى مَقامٍ وأَرفَعِه بما نَسَج معَ صاحِبِه مِن أَواصِرِ المَحَبّةِ وبانتِمائِه إلَيه واتِّباعِه له.
[إشارة6: محبة الربيع]
الإشارةُ السّابعة: إنَّ مَحَبَّـتَك للأَشياءِ الجَمِيلةِ وللرَّبيعِ، أي: نَظَرَك إلَيها مِن زاوِيةِ قَولِك: “ما أَجمَلَ خَلْقَه!” وتَوجِيهَ مَحَبَّتِك إلى ما وَراءَ ذلك الشَّيءِ الجَمِيلِ مِن جَمالِ الأَفعالِ وانتِظامِها، وإلى ما وَراءَ تلك الأَفعالِ المُنَسَّقةِ مِن جَمالِ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى، وإلى ما وَراءَ تلك الأَسماءِ الحُسنَى مِن تَجَلِّياتِ الصِّفاتِ الجَليلةِ.. وهكذا.. إنَّ نَتِيجةَ هذه المَحَبّةِ المَشرُوعةِ هي مُشاهَدةُ جَمالٍ أَسمَى مِن ذلك الجَمالِ الَّذي شاهَدْتَه في المَصنُوعاتِ بأُلُوفِ أُلُوفِ المَرّاتِ. أي: مُشاهَدةُ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى وجَمالِ الصِّفاتِ الجَلِيلةِ بما يَلِيقُ بالجَنّةِ ودارِ البَقاءِ؛ حتَّى قال الإمامُ الرَّبَّانِيُّ السِّرهِندِيُّ رَضِيَ الله عَنهُ: “إنَّ لَطائِفَ الجَنّةِ إنَّما هي تَمَثُّلاتُ الأَسماءِ الحُسنَى”، فتَأَمَّلْ!
[إشارة8: محبة الدنيا]
الإشارةُ الثّامنةُ: أمّا مَحَبَّـتُك للدُّنيا مَحَبّةً مَشرُوعةً، أي: مَحَبَّـتُك لها معَ التَّأَمُّلِ والتَّفَكُّرِ في وَجْهَيْها الجَمِيلَينِ اللَّذَينِ هما: مَزرَعةُ الآخِرةِ، ومِرآةُ التَّجَلِّياتِ للأَسماءِ الحُسنَى، فإنَّ نَتِيجَتَها الأُخرَوِيّةَ هي أنَّه سيُوهَبُ لك جَنّةٌ تَسَعُ الدُّنيا كلَّها، ولكِنَّها لا تَزُولُ مِثلَها، بل هي خالِدةٌ دائِمةٌ؛ وستُظهَرُ لك في مَرايا تلك الجَنّةِ تَجَلِّياتُ الأَسماءِ الحُسنَى بأَزهَى شَعْشَعَتِها وبَهائِها، تلك الَّتي رَأَيتَ بعضَ ظِلالِها الضَّعِيفةِ في الدُّنيا.
ثمَّ إنَّ مَحَبّةَ الدُّنيا في وَجْهِها الَّذي هو مَزْرَعةٌ للآخِرةِ، أي: باعتِبارِ كَونِ الدُّنيا مَشْتَلًا صَغِيرًا جِدًّا لِاستِنْباتِ البُذُورِ لِتَتَسَنبَلَ في الآخِرةِ وتُثمِرَ هناك، فإنَّ نَتيجَتَها هي أَثمارُ جَنّةٍ واسِعةٍ تَسَعُ الدُّنيا كلَّها، تَنكَشِفُ فيها جَمِيعُ الحَواسِّ والمَشاعِرِ الإنسانيّةِ الَّتي يَحمِلُها الإنسانُ في الدُّنيا كبُذَيْراتٍ صَغِيرةٍ، انكِشافًا تامًّا ونُمُوًّا كامِلًا، وتَتَسنبَلُ فيها بُذَيراتُ الِاستِعداداتِ الفِطْريّةِ حامِلةً جَمِيعَ أَنواعِ اللَّذائِذِ والكَمالاتِ.. هذه النَّتيجةُ ثابِتةٌ بمُقتَضَى رَحمةِ الله الواسِعةِ وحِكْمَتِه المُطلَقةِ؛ وهي ثابِتةٌ كذلك بنَصِّ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ وإشاراتِ القُرآنِ الكَرِيمِ.
ولَمّا كانَت مَحَبَّـتُك للدُّنيا لَيسَت لِذلك الوَجهِ المَذمُومِ الَّذي هو رَأْسُ كلِّ خَطِيئةٍ، وإنَّما هي مَحَبّةٌ مُتَوجِّهةٌ إلى وَجْهَيْها الآخَرَينِ -أي: إلى الأَسماءِ الحُسنَى والآخِرةِ- وقد عَقَدتَ لِأَجْلِهما أَواصِرَ المَحَبّةِ معَها وعَمَرْتَ ذَينِك الوَجْهَينِ بالعِبادةِ التَّفكُّرِيّةِ، حتَّى كأنَّك قُمتَ بالعِبادةِ بدُنياك كلِّها.. فلا بُدَّ أنَّ الثَّوابَ الحاصِلَ مِن هذه المَحَبّةِ يكُونُ ثَوابًا أَوسَعَ مِنَ الدُّنيا كلِّها، وهذا هو مُقتَضَى الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ والحِكْمةِ الرَّبَّانيّةِ. ثمَّ لأنَّ تلك المَحَبّةَ قد حَصَلَت بمَحَبّةِ الآخِرةِ وكَونِها مَزرَعةً لها، وبمَحَبّةِ اللهِ سُبحانَه، وكَونِها مِرآةً لإظهارِ أَسمائِه الحُسنَى.. فلا شَكَّ أنَّها تُقابَلُ بمَحبُوبٍ أَوْسَعَ مِنَ الدُّنيا كلِّها، وما هو إلّا الجَنّةُ الَّتي عَرْضُها السَّماواتُ والأَرضُ.
سُؤالٌ: ما فائِدةُ جَنّةٍ خالِيةٍ وواسِعةٍ سَعةَ الدُّنيا؟
الجَوابُ: لو كان مِنَ المُمكِنِ أن تَتَجوَّلَ بسُرعةِ الخَيالِ في أَقطارِ الأَرضِ كُلِّها، وتَزُورَ أَغلَبَ النُّجُومِ الَّتي في السَّماءِ، لَكُنتَ تقُولُ عِندَئذٍ: إنَّ العالَمَ كلَّه لي. فلا يُزاحِمُ حُكْمَك هذا ولا يُنافيه وُجُودُ المَلائِكةِ والنّاسِ الآخَرِين والحَيَواناتِ معَك في هذا العالَمِ الواسِعِ.
وكذلك يُمكِنُك أن تقُولَ: إنَّ تلك الجَنّةَ لي، حتَّى لو كانَت مَلِيئةً بالقادِمِين إلَيها.
وقد بَيَّنّا في رِسالةِ “الجَنّةِ” -وهي “الكَلِمةُ الثّامِنةُ والعِشرُون”- مَعنَى الحَدِيثِ الوارِدِ مِن أنَّه يُعطَى لِبَعضِ أَهلِ الجَنّةِ جَنّةٌ سَعَتُها خَمسُ مِئةِ سَنةٍ، وكذا بَيَّنّاه في رِسالةِ “الإخلاصِ”.
[إشارة9: محبة الله]
الإشارةُ التّاسعة: إنَّ نَتِيجةَ الإيمانِ باللهِ ومَحَبَّتِه سُبحانَه هي رُؤْيةُ جَمالٍ مُقَدَّسٍ وكَمالٍ مُنزَّهٍ لِلذّاتِ الجَلِيلةِ سُبحانَه وتَعالَى، كما هي ثابِتةٌ بالحَدِيثِ الصَّحِيحِ والقُرآنِ الكَرِيمِ؛ هذه الرُّؤْيةُ الَّتي تُساوِي ساعةٌ مِنها أَلفَ سَنةٍ مِن نَعِيمِ الجَنّةِ، ذلك النَّعِيمِ الَّذي ساعةٌ مِنه تَفُوقُ أَلفَ سَنةٍ مِن حَياةِ الدُّنيا الهَنِيئةِ، كما هو ثابِتٌ لَدَى أَهلِ العِلمِ والكَشْفِ بالِاتِّفاقِ.
ويُمكِنُك قِياسُ مَدَى الشَّوقِ واللَّهْفةِ الَّتي تَنطَوِي علَيهِما فِطْرةُ الإنسانِ لِرُؤيةِ ذلك الجَمالِ المُقَدَّسِ والكَمالِ المُنزَّهِ، ومَدَى ما فيها مِن رَغبةٍ جَيّاشةٍ وتَوْقٍ شَدِيدٍ والْتِياعٍ لِشُهُودِهما، بالمِثالِ الآتي:
كلُّ إنسانٍ يَشعُرُ في وِجْدانِه بلَهْفةٍ شَدِيدةٍ لِرُؤيةِ سَيِّدِنا سُلَيمانَ عَليهِ السَّلام الَّذي أُوتِيَ الكَمالَ، ويَشعُرُ أَيضًا بشَوْقٍ عَظِيمٍ نحوَ رُؤْيةِ سَيِّدِنا يُوسُفَ عَليهِ السَّلام الَّذي أُوتِيَ شَطْرَ الجَمالِ.. فيا تُرَى كم يكُونُ مَدَى الشَّوقِ واللَّهْفةِ لَدَى الإنسانِ لِرُؤْيةِ جَمالٍ مُقَدَّسٍ وكَمالٍ مُنزَّهٍ، مِن تَجَلِّياتِهما: الجَنّةُ الخالِدةُ بجَمِيعِ مَحاسِنِها ونَعِيمِها وكَمالاتِها الَّتي تفُوقُ أَضْعافًا لا حَدَّ لَها مِنَ المَرّاتِ جَمِيعَ مَحاسِنِ الدُّنيا وكَمالاتِها..
﴿اللَّهُمَّ ارزُقنَا فِي الدُّنيَا حُبَّكَ وحُبَّ مَا يُقَرِّبُنَا إِلَيكَ، والِاستِقَامَةَ كَمَا أَمَرتَ، وفِي الآخِرَةِ رَحمَتَكَ وَرُؤيَتَكَ﴾
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
﴿اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى مَن أَرسَلتَهُ رَحمَةً لِلعَالَمِينَ، وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ أَجمَعِينَ. آمِينَ﴾
❀ ❀ ❀
[تنبيه]
تنبيهٌ
لا تُعَدُّ التَّفصِيلاتُ الوارِدةُ في خِتامِ هذه الكَلِمةِ طَوِيلةً، بل هي مُختَصَرةٌ بالنِّسبةِ لِأَهمِّيَّتِها، إذ تَحتاجُ إلى إطْنابٍ أَكثَرَ.
والمُتَـكلِّمُ في “الكَلِماتِ” كلِّها ليس أنا، بلِ الحَقِيقةُ هي الَّتي تَتَـكلَّمُ باسمِ “الإشاراتِ القُرآنيّةِ”، والحَقِيقةُ إنَّما تَنطِقُ بالحَقِّ وتقُولُ الصِّدْقَ.
لِذا إن رَأَيتُم خَطَأً فاعلَمُوا يَقِينًا أنَّ فِكْرِي قد خالَطَ البَحْثَ وعَكَّرَ صَفْوَه وأَخطَأَ دُونَ إرادَتِي.
❀ ❀ ❀
[مناجاة أويسية]
مناجاة
يا ربِّ.. إنَّ مَن لا يُفتَحُ له بابُ قَصْرٍ عَظِيمٍ، يَدُقُّ ذلك البابَ بصَدَى صَوْتِ
مَن هو مَقبُولٌ مَأْنُوسٌ لَدَى البَوّابِ.
فأَنا الضَّعِيفُ المِسكِينُ أَدُقُّ بابَ رَحمَتِك بنِداءِ عَبدِك المَحبُوبِ لَدَيك “أُوَيسٍ القَرْنِيّ” وبُمناجاتِه، فكما فَتَحْتَ له بابَ رَحمَتِك يا إلٰهِي، افْتَحْه لي يا رَبُّ كذلك. أقُولُ كما قال:
إلٰهِي أنتَ رَبِّي وَأنَا العَبْدُ وَأَنتَ الخَالِقُ وَأنَا المَخلُوقُ
وَأَنتَ الرَّزّاقُ وَأنَا المَرزُوقُ وَأَنتَ المَالِكُ وَأنَا المَمْلُوكُ
وَأَنتَ العَزِيزُ وَأنَا الذَّليلُ وَأَنتَ الغَنِيُّ وَأنَا الفَقِيرُ
وَأَنتَ الحَيُّ وَأنَا المَيِّتُ وَأَنتَ البَاقي وَأنَا الفَاني
وأَنتَ الكَرِيمُ وَأنَا اللَّئِيمُ وأَنتَ المُحسِنُ وَأنَا المُسِيءُ
وَأَنتَ الغَفُورُ وَأنَا المُذنِبُ وَأَنتَ العَظِيمُ وَأنَا الحَقِيرُ
وَأَنتَ القَوِيُّ وَأنَا الضَّعِيفُ وأَنتَ المُعطِي وَأنَا السَّائلُ
وأَنتَ الأَمِينُ وَأنَا الخائِفُ وَأَنتَ الجَوَادُ وَأنَا المِسكِينُ
وأَنتَ المُجِيبُ وَأنَا الدَّاعي وَأَنتَ الشَّافي وَأنَا المَرِيضُ
فاغفِرْ لي ذُنُوبي وتَجَاوَزْ عَنِّي وَاشْفِ أَمراضِي يَا اللهُ يَا كافِي، يَا رَبُّ يَا وافي، يَا رَحِيمُ يَا شَافي، يَا كَرِيمُ يا مُعافي، فَاعْفُ عَنِّي مِن كُلِّ ذَنْبٍ وَعافِني مِن كُلِّ دَاءٍ، وارْضَ عَنِّي أَبَدًا، بِرَحمَتِكَ يَا أَرحَمَ الرَّاحِمينَ
﴿وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
❀ ❀ ❀