الكلمة الثالثة والثلاثون: النوافذ.
[هذه الكلمة ثلاث وثلاثون نافذة تطل على مَشاهد كثيرة في الآفاق والأنفس تنقل المرء من الإيمان التقليدي إلى الإيمان التحقيقي]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
الكلمة الثالثة والثلاثون
الكلمة الثالثة والثلاثون
وهي عبارة عن ثلاثٍ وثلاثين نافذةً.
[مقدمة]
هَذه الكَلِمة هِي “الكَلِمة الثَّالثة والثَّلَاثون” مِن جِهة، وهِي “المَكُتوب الثَّالث والثَّلاثُون” مِن جِهة أُخرَى.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾
سؤالٌ: نَرجُو أن تُوَضِّحَ لنا تَوضِيحًا مُجمَلًا ومُختَصَرًا، ما في هاتَينِ الآيَتَينِ الجامِعَتَينِ مِن دَلائِلَ على وُجُوبِ وُجُودِ اللهِ سُبحانَه، وعلى وَحْدانيَّتِه وأَوصافِه الجَلِيلةِ وشُؤُونِه الرَّبّانيّةِ، سَواءٌ أكانَ وَجهُ الدَّلائِلِ في العالَمِ الأَصغَرِ أوِ الأَكبَرِ، أي: في الإنسانِ أوِ الكَونِ؛ فلَقد أَفرَطَ المُلحِدُون وتَمادَوا في غَيِّهم حتَّى بَدَؤُوا يُجاهِرُون بقَولِهم: إلى مَتَى نَرفَعُ أَكُفَّنا ونَدعُو: “وهو على كلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ”؟
الجَوابُ: إنَّ ما كُتِبَ في كِتابِ “الكَلِماتِ” مِن ثلاثٍ وثلاثينَ “كَلِمةً”، ما هي إلَّا ثلاثٌ وثلاثونَ قَطْرةً تَقَطَّرَت مِن فَيضِ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ؛ يُمكِنُكم أن تَجِدُوا ما يُقنِعُكم بمُراجَعَتِها، أمّا هنا فسنُشِيرُ مُجَرَّدَ إشارةٍ إلى رَشَحاتِ قَطْرةٍ مِن ذلك البَحرِ العَظِيمِ، فنُمَهِّدُ لها بمِثالٍ:
إنَّ الَّذي يَملِكُ قُدرةً مُعجِزةً ومَهارةً فائِقةً، إذا ما أَرادَ أن يَبنِيَ قَصْرًا عَظِيمًا فلا شَكَّ أنَّه قبلَ كلِّ شَيءٍ يُرسِي أُسُسَه بنِظامٍ مُتقَنٍ، ويَضَعُ قَواعِدَه بحِكْمةٍ كامِلةٍ، ويُنَسِّقُه تَنسِيقًا يُلائِمُ لِما يُبنَى لِأَجلِه مِن غاياتٍ وما يُرجَى مِنه مِن نَتائِجَ؛ ثمَّ يَبدَأُ بتَقسِيمِه وتَفصِيلِه بما لَدَيه مِن مَهارةٍ وإبداعٍ إلى أَقسامٍ ودَوائِرَ وحُجُراتٍ، ثمَّ نَراه يُنَظِّمُ تلك الحُجُراتِ ويُزَيِّنُها برَوائِعِ النُّقُوشِ الجَمِيلةِ، ثمَّ يُنَوِّرُ كلَّ رُكنٍ مِن أَركانِ القَصرِ بمَصابِيحَ كَهرَبائيّةٍ عَظِيمةٍ، ثمَّ لِأَجلِ تَجدِيدِ إحسانِه وإظهارِ مَهارَتِه نَراه يُجَدِّدُ ما فيه مِنَ الأَشياءِ ويُبَدِّلُها ويُحَوِّلُها؛ ثمَّ يَربِطُ بكلِّ حُجْرةٍ مِنَ الحُجُراتِ هاتِفًا خاصًّا يَتَّصِلُ بمَقامِه، ويَفتَحُ مِن كلٍّ مِنها نافِذةً يُرَى مِنها مَقامُه الرَّفيعُ.
وعلى غِرارِ هذا المِثالِ -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- فالصّانِعُ الجَلِيلُ الَّذي له أَلفُ اسمٍ واسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى، أَمثالَ: الحاكِمِ الحَكِيمِ، والعَدْلِ الحَكَمِ، والفاطِرِ الجَلِيلِ، الَّذي ليس كمِثْلِه شَيءٌ، أَرادَ -وإرادَتُه نافِذةٌ- خَلْقَ شَجَرةِ الكائِناتِ العَظِيمةِ، وإيجادَ قَصرِ الكَونِ البَدِيعِ.. هذا العالَمِ الأَكبَرِ.. فوَضَع أُسُسَ ذلك القَصرِ وأُصُولَ تلك الشَّجَرةِ في سِتّةِ أَيّامٍ بدَساتِيرِ حِكْمَتِه المُحِيطةِ وقَوانِينِ عِلْمِه الأَزَليِّ؛ ثمَّ صَوَّرَه وأَحسَنَ صُوْرَتَه بدَساتيرِ القَضاءِ والقَدَرِ، وفَصَّله تَفصِيلًا دَقِيقًا إلى طَبَقاتٍ وفُرُوعٍ عُلْوِيّةٍ وسُفْلِيّة؛ ثمَّ نَظَّم كلَّ طائِفةٍ مِنَ المَخلُوقاتِ وكلَّ طَبَقةٍ مِنها بدَساتيرِ الصُّنْعِ والعِنايةِ؛ ثمَّ زَيَّن كلَّ شَيءٍ وكلَّ عالَمٍ بما يَلِيقُ به مِن جَمالٍ، فزَيَّن السَّماءَ مَثلًا بالنُّجُومِ، وجَمَّل الأَرضَ بالأَزاهِيرِ؛ ثمَّ نَوَّرَ مَيادِينَ تلك القَوانينِ الكُلِّيّةِ وآفاقَ تلك الدَّساتيرِ العامّةِ بتَجَلِّياتِ أَسمائِه الحُسنَى؛ ثمَّ أَمَدَّ الَّذين يَستَغِيثُون به مِمّا يُلاقُونَه مِن مُضايَقاتِ تلك القَوانينِ الكُلِّيّةِ، فتَوَجَّه إلَيهِم باسمِ “الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ”، أي إنَّه وَضَع في ثَنايا قَوانِينِه الكُلِّيّةِ ودَساتِيرِه العامّةِ مِنَ الإحساناتِ الخاصّةِ والإغاثاتِ الخاصّةِ والتَّجَلِّياتِ الخاصّةِ ما يُمَكِّنُ كلَّ شَيءٍ أن يَتَوجَّهَ إلَيه سُبحانَه في كلِّ حِينٍ ويَسأَلَه كلَّ ما يَحتاجُه؛ وفَتَح مِن كلِّ مَنزِلٍ، ومِن كلِّ طَبَقةٍ، ومِن كلِّ عالَمٍ، ومِن كلِّ طائِفةٍ، ومِن كلِّ فَردٍ، ومِن كلِّ شَيءٍ نَوافِذَ تَتَطلَّعُ إلَيه وتُظهِرُه، أي: تُبيِّنُ وُجُودَه الحَقَّ ووَحدانيَّتَه، فأَوْدَع في كلِّ قَلبٍ هاتِفًا يتَّصِلُ به.
وبعدُ، فلن نُقحِمَ أَنفُسَنا فيما لا طاقةَ لنا به مِن بَحْثِ هذه النَّوافِذِ الَّتي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، بل نُحِيلُها إلى عِلمِ اللهِ المُحِيطِ بكلِّ شَيءٍ، إلَّا ما نُشِيرُ مِن إشاراتٍ مُجمَلةٍ فقط إلى ثلاثٍ وثلاثينَ نافِذةً مِنها، تَألَّقَت مِن لَمَعاتِ آياتِ القُرآنِ الكَرِيمِ، فأَصبَحَتِ “المَكتُوبَ الثّالِثَ والثَّلاثينَ” مِن “الكَلِمةِ الثّالثةِ والثَّلاثينَ”، وقد حَصَرْناها في ثلاثٍ وثلاثينَ نافِذةً تَبَرُّكًا بالأَذكارِ الَّتي تَأْتِي عَقِبَ الصَّلَواتِ الخَمْسِ؛ ونَدَعُ إيضاحاتِها المُفَصَّلةَ إلى الرَّسائِلِ الأُخرَى.
[نافذة 1: افتقار الموجودات]
النَّافذةُ الأولَى
نُشاهِدُ في المَوجُوداتِ جَمِيعِها -ولا سِيَّما الأَحياءِ مِنها- افتِقارًا إلى حاجاتٍ مُختَلِفةٍ ومَطالِبَ مُتَنوِّعةٍ لا تُحصَى.. وإنَّ تلك الحاجاتِ تُساقُ إلَيها مِن حيثُ لا تَحتَسِبُ، وتلك المَطالِبَ تَتْرَى علَيها كلٌّ في وَقْتِه المُناسِبِ.. عِلْمًا أنَّ أَيدِيَ ذَوِي الحاجةِ تَقصُرُ عن بُلُوغِ أَدنَى حاجاتِها فَضْلًا عن أَوْسَعِ غاياتِها ومَقاصِدِها.
فإن شِئتَ فتَأَمَّلْ في نَفسِك تَجِدْها مَغلُولةَ اليَدَينِ إزاءَ كَثيرٍ مِمّا يَلْزَمُها مِن حاجاتٍ، أمثالِ حَواسِّك الظّاهِرةِ والباطِنةِ، وكذا حاجاتِ هذه الحَواسِّ.. فقِسْ على نَفْسِك نُفُوسَ جَمِيعِ الأَحياءِ، وتَأَمَّلْ فيها، تَجِدْ أنَّ كلَّ كائِنٍ مِنها يَشهَدُ بفَقْرِه وحاجاتِه المَقْضِيَّةِ مِن غيرِ حَوْلٍ مِنه ولا قُوّةٍ على الواجِبِ الوُجُودِ، ويُشِيرُ بهما إلى وَحْدانيَّتِه سُبحانَه وتَعالَى، كما يَدُلُّ علَيه بمَجمُوعِه كدَلالةِ ضَوءِ الشَّمسِ على الشَّمسِ نَفسِها، ويُبيِّنُ للعَقلِ المُنصِفِ أنَّه سُبحانَه في مُنتَهَى الكَرَمِ والرَّحمةِ والرُّبُوبيّةِ والتَّدبِيرِ.
فما أَبغَضَ جَهْلَك.. وأَلْعَنَ غَفْلَتَك.. أيُّها الجاهِلُ الغافِلُ المُكابِرُ!! كيف تُفَسِّرُ هذه الفَعَّاليَّةَ الحَكِيمةَ والبَصِيرةَ والرَّحِيمةَ؟! أبِالطَّبِيعةِ الصَّمّاءِ؟ أم بالقُوّةِ العَمْياءِ؟ أم بالمُصادَفةِ العَشْواءِ؟ أم بالأَسبابِ الجامِدةِ العاجِزةِ؟
[نافذة 2: العلامات الفارقة بين الموجودات]
النَّافذةُ الثانية
بَينَما تَتَردَّدُ الأَشياءُ وتَحارُ في وُجُودِها وتَشَخُّصِها بينَ طُرُقِ الإمكاناتِ والِاحتِمالاتِ غيرِ المُتَناهِيةِ، إذا بها تُمنَحُ صُورةً مُمَيَّزةً، غايةً في الِانتِظامِ والحِكْمةِ..
تأَمَّلْ في العَلاماتِ الفارِقةِ المَوجُودةِ في وَجْهِ كُلِّ إنسانٍ، تلك العَلاماتِ الَّتي تُمَيِّـزُه عن كلِّ واحِدٍ مِن أَبناءِ جِنْسِه، وأَمعِنِ النَّظَرَ فيما أُودِعَ فيه بحِكْمةٍ بَدِيعةٍ مِن حَوَاسَّ ظاهِرةٍ ومَشاعِرَ باطِنةٍ.. ألا يُثبِتُ ذلك أنَّ هذا الوَجْهَ الصَّغِيرَ آيةٌ ساطِعةٌ للأَحَدِيّةِ؟
فكما أنَّ كلَّ وَجْهٍ يَدُلُّ -بمِئاتِ الدَّلائِلِ- على وُجُودِ صانِعٍ حَكِيمٍ، ويَشهَدُ على وَحْدانيَّتِه، فمَجمُوعُ الأَوجُهِ أيضًا، وفي الأَحياءِ كافّةً تُبيِّنُ للبَصِيرةِ النّافِذةِ أنَّها آيةٌ كُبْرَى جَلِيلةٌ للخالِقِ الواحِدِ الأَحَدِ.
فيا أيُّها المُنكِرُ، أَتَقدِرُ أن تُحِيلَ هذه العَلاماتِ والأَختامَ الَّتي لا تُقَلَّدُ، أو أن تُسنِدَ الآيةَ الكُبْرَى للأَحَدِ الصَّمَدِ السّاطِعةَ في مَجمُوعِها.. إلى غيرِ بارِئِها المُصَوِّرِ؟
[نافذة 3: التدبير والتربية]
النَّافذةُ الثالثة
إنَّ أَنواعَ النَّباتِ، وطَوائِفَ الحَيَوانِ، المُنتَشِرةَ على الأَرضِ هي أَكثَرُ مِن أَربعِ مِئةِ أَلفِ نَوعٍ وطائِفة1بَل إنَّ عَدَد أَفرادِ قِسمٍ مِن تِلكَ الطَّوائِفِ -خِلالَ سَنةٍ واحِدةٍ- هو أَكثَرُ مِن عَدَدِ البَشَرِيّةِ منذُ آدَمَ عَليهِ السَّلام إلى قيامِ السّاعةِ.﴾ وكأنَّها جَيشٌ هائِلٌ عَظِيمٌ، فنَرَى أنَّ كلَّ نَوعٍ مِن هذا الجَيشِ له رِزْقُه المُختَلِفُ عنِ الآخَرِ وصُورَتُه المُتَبايِنةُ، وأَسلِحَتُه المُتَنوِّعةُ ومَلابِسُه المُتَميِّزةُ، وتَدرِيبُه الخاصُّ وتَسرِيحُه المُتَفاوِتُ مِنَ الخِدمةِ.. وتَجرِي هذه كلُّها في نِظامٍ مُتقَنٍ، ووَفْقَ تَقدِيرٍ دَقِيقٍ؛ فإدارةُ هذا الجَيشِ العَظِيمِ، وتَربِيةُ أَفرادِه، دُونَما نِسيانٍ لِأَحَدٍ ولا الْتِباسٍ، لَهِي آيةٌ ساطِعةٌ كالشَّمسِ للواحِدِ الأَحَدِ.
فمَن ذا يَستَطِيعُ أن يَمُدَّ يَدَ المُداخَلةِ في هذه الإدارةِ المُعجِزةِ مِن دُونِ مالِكِها القَدِيرِ الَّذي لا حَدَّ لِقُدرَتِه، ولا حُدُودَ لِعِلمِه، ولا نِهايةَ لِحِكْمَتِه! ذلك لأنَّ الَّذي يَعجِزُ عن إدارةِ وتَربِيةِ هذه الأَنواعِ المُتَداخِلةِ ببَعضِها والأُمَمِ المُكتَنِفِ بعضُها في بعضٍ، دُفعةً واحِدةً وفي آنٍ واحِدٍ، يَعجِزُ كُلِّـيًّا عن مُباشَرةِ خَلْقِ واحِدٍ مِنها، إذ لو حَصَلَت مُداخَلَتُه في أيٍّ مِنها لَظَهَر أَثَرُه، وبانَ النَّقْصُ والقُصُورُ ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾، فلا فُطُورَ ولا نَقْصَ، إذًا فلا شَرِيكَ.
[نافذة 4: إجابة الدعوات كافة]
النَّافذةُ الرَّابعة
هي استِجابةُ الخالِقِ لِجَمِيعِ الأَدعِيةِ المُنطَلِقةِ بلِسانِ استِعداداتِ البُذُورِ، وبلِسانِ احتِياجاتِ الحَيَواناتِ، وبلِسانِ اضطِرارِ المُستَغِيثينَ مِن بَنِي الإنسانِ..
نعم، إنَّ الِاستِجابةَ لِجَمِيعِ هذه الأَدعِيةِ غيرِ المَحدُودةِ استِجابةً فِعْلِيّةً، بادِيةً أَمامَنا، نُشاهِدُها رَأْيَ العَينِ.
فكما يُشِيرُ كُلٌّ مِنها إلى “الواجِبِ الوُجُودِ” وإلى الوَحْدانيّةِ، فإنَّ مَجمُوعَ تلك الِاستِجاباتِ تَدُلُّ بالبَداهةِ وبمِقْياسٍ أَوْسَعَ وأَعظَمَ على خالِقٍ رَحِيمٍ كَرِيمٍ مُجِيبٍ، وتُوَجِّهُ الأَنظارَ إلَيه سُبحانَه.
[نافذة 5: بروز الموجودات في أتم هيئةٍ ابتداءً]
النَّافذةُ الخامسة
إذا أَمْعَنَّا النَّظَرَ في الأَشياءِ -ولا سِيَّما الأَحياءِ- نُشاهِدُها وكأنَّها قد خَرَجَت مِن يَدِ الخَلْقِ لِتَوِّها، وبَرَزَت إلى الوُجُودِ بُرُوزًا فُجائيًّا.. فبَينَما يَنبَغي أن تكُونَ الأَشياءُ المُرَكَّبةُ آنِيًّا وعلى عَجَلٍ بَسِيطةَ التَّركِيبِ ومُشَوَّهةَ الشَّكْلِ، ومِن دُونِ إتقانٍ، نَراها تُخلَقُ في أَتقَنِ صَنْعةٍ وأَبدَعِها؛ هذا الإتقانِ والإبداعِ الَّذي يَتَطلَّبُ مَهارةً فائِقةً؛ ونَراها في أَرْوَعِ نَقْشٍ وأَدَقِّ صُورةٍ، هذه الرَّوعةِ والدِّقّةِ الَّتي تَحتاجُ إلى صَبْرٍ عَظِيمٍ وزَمَنٍ مَدِيدٍ؛ ونَراها في زِينةٍ فاخِرةٍ وجَمالٍ أَخّاذٍ، هذه الزِّينةِ وهذا الجَمالِ اللَّذينِ يَستَدعِيانِ آلاتِ تَجمِيلٍ مُتَنوِّعةً، ووَسائِلَ زِينةٍ كَثِيرةً.
فهذا الإتقانُ المُعجِزُ، والصُّورةُ البَدِيعةُ، والهَيْئةُ المُنَسَّقةُ، والإبداعُ الآنِيُّ، كلٌّ مِنه يَشهَدُ على وُجُودِ الصَّانِعِ الحَكِيمِ، ويُشِيرُ إلى وَحْدانيّةِ رُبُوبيَّتِه؛ كما أنَّ مَجمُوعَه يُبيِّنُ بوُضُوحٍ “الواجِبَ الوُجُودِ” القَدِيرَ الحَكِيمَ، ويُبيِّنُ وَحْدانيَّـتَه سُبحانَه.
فيا أيُّها الغافِلُ عن رَبِّه، الحائِرُ في أَمرِ المَوجُوداتِ.. هيَّا.. بماذا تُوَضِّحُ هذا الأَمرَ وتُفَسِّرُه؟ أفتُفَسِّرُه بالطَّبِيعةِ العاجِزةِ البَلِيدةِ الجاهِلةِ؟ أم تَرِيدُ أن تَقتَرِفَ بجَهْلِك خَطَأً لا حُدُودَ له، فتُقلِّدَ الطَّبِيعةَ صِفاتِ الأُلُوهِيّةِ، وتَنسُبَ إلَيها بهذه الحُجّةِ مُعجِزاتِ قُدرةِ ذلك الصّانِعِ الجَلِيلِ المُنَزَّهِ عن كلِّ نَقْصٍ وعَيْبٍ، فتَرتَكِبَ أَلفَ مُحالٍ ومُحالٍ؟!!
[نافذة 6: آيات في الآفاق والأنفس]
النَّافذةُ السادسة
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
هذه الآيةُ الكَرِيمةُ كما أنَّها تُبيِّنُ وُجُودَ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى وتَدُلُّ على وَحْدانيَّتِه، فهي في الحَقِيقةِ نافِذةٌ عَظِيمةٌ جِدًّا تُطِلُّ على الِاسمِ الأَعظَمِ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى.
وزُبدةُ خُلاصَتِها أنَّ جَمِيعَ عوالِمِ الكَونِ -عُلْوِيِّها وسُفْلِيِّها- تَدُلُّ بأَلسِنةٍ مُختَلِفةٍ على نَتِيجةٍ واحِدةٍ، أي: على رُبُوبيّةِ صانِعٍ حَكِيمٍ واحِدٍ، وكما يَأْتِي:
إنَّ جَرَيانَ الأَجرامِ في “السَّماواتِ” بمُنتَهَى النِّظامِ لِبُلُوغِ غاياتٍ جَلِيلةٍ، ونَتائِجَ سامِيةٍ -بتَقرِيرِ عِلْمِ الفَلَكِ نَفسِه- إنَّما يَدُلُّ على وُجُودِ إلٰهٍ قَدِيرٍ ذِي جَلالٍ، ويَشهَدُ على وَحْدانيَّتِه ورُبُوبيَّتِه الكامِلةِ.
كما أنَّ التَّحَوُّلاتِ المُنتَظِمةَ في “الأَرضِ” والمُشاهَدةَ في المَواسِمِ لِحُصُولِ مَنافِعَ عَظِيمةٍ ومَصالِحَ شَتَّى -بتَقريرِ الجُغْرافيةِ- إنَّما تَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على ذَلِكُمُ القَدِيرِ ذِي الجَلالِ، وتَشهَدُ على وَحْدانيَّتِه ورُبُوبيَّتِه الكامِلةِ.
ثمَّ إنَّ جَمِيعَ “الحَيَواناتِ” الَّتي تَمْلَأُ البَـرَّ والبَحْرَ والَّتي يُرسَلُ رِزقُ كُلٍّ مِنها برَحْمةٍ واسِعةٍ، وتُكسَى بأَثوابٍ مُتَنوِّعةٍ، بحِكْمةٍ تامّةٍ، وتُجَهَّزُ بحَواسَّ مُختَلِفةٍ، برُبُوبيّةٍ كامِلةٍ.. يُشِيرُ كلٌّ مِنها إلى ذلك القَدِيرِ ذِي الجَلالِ، ويَشهَدُ على وَحْدانيَّتِه، كما أنَّ مَجمُوعَها ككُلٍّ يَدُلُّ معًا وبمِقياسٍ واسِعٍ جِدًّا على عَظَمةِ الأُلُوهيّةِ وكَمالِ الرُّبُوبيّةِ.
وكذا الحالُ في “النَّباتاتِ” المَوزُونةِ المُنتَظِمةِ الَّتي تَفرُشُ الأَرضَ والبَساتِينَ والزُّرُوعَ، كلٌّ مِنها يَدُلُّ على ذلك الصّانِعِ الحَكِيمِ، ويُشِيرُ إلى وَحْدانيَّتِه بما تَحمِلُ مِن أَزاهِيرَ جَمِيلةٍ، وما تُنتِجُ هذه الأَزاهِيرُ مِن ثِمارٍ مَوزُونةٍ، وما على هذه الثِّمارِ مِن نُقُوشٍ رائِعةٍ، فكما أنَّ كلًّا مِنها على حِدَةٍ يَدُلُّ على الصّانِعِ فإنَّ مَجمُوعَها يُظهِرُ جَمالَ رَحْمَتِه سُبحانَه، وكَمالَ رُبُوبيَّتِه.
ثمَّ إنَّ “القَطَراتِ” المُسَخَّرةَ لحِكَمٍ غَزِيرةٍ، ولِغاياتٍ سامِيةٍ، ومَنافِعَ جَلِيلةٍ، وفَوائِدَ جَمّةٍ، والَّتي تُرسَلُ مِنَ السُّحُبِ الثِّقالِ المُعَلَّقةِ بينَ السَّماءِ والأَرضِ، تَدُلُّ بعَدَدِ القَطَراتِ على ذلك الصّانِعِ الحَكِيمِ، وتَشهَدُ على وَحْدانيَّتِه وكَمالِ رُبُوبيَّتِه.
كما أنَّ “الجِبالَ” الرَّاسِياتِ، وما في أَجوافِها مِن مَعادِنَ، وما لِكُلٍّ مِنها مِن خَواصَّ، وما ادُّخِرَ فيها مِن غاياتٍ شَتَّى، والمُعَدّةِ لِمَصالِحَ عِدّةٍ، كلٌّ مِنها على حِدَةٍ وبمَجمُوعِها معًا، تَدُلُّ دَلالةً أَقوَى مِنَ الشُّمِّ الرَّواسِي على ذلك الصّانِعِ الحَكِيمِ وعلى وَحْدانيَّتِه وكَمالِ رُبُوبيَّتِه.
ثمَّ إنَّ أَنواعَ “الأَزاهِيرِ” الجَمِيلةِ اللَّطِيفةِ المَنثُورةِ على التِّلالِ والرَّوابي والصَّحارَى، وقد أَضفَى علَيها البَهاءَ والجَمالَ، كُلٌّ مِنها يَدُلُّ على ذلك الصّانِعِ الحَكِيمِ ويَشهَدُ على وَحْدانيَّتِه، مِثلَما أنَّ مَجمُوعَها العامَّ يَدُلُّ على عَظِيمِ سُلطانِه وكَمالِ رُبُوبيَّتِه.
ثمَّ إنَّ أَنواعَ “الأَوراقِ” وأَشكالَها المُنَسَّقةَ، واهتِزازاتِها اللَّطِيفةَ الجَذّابةَ في النَّباتاتِ والأَشجارِ والأَعشابِ كافّةً تَشهَدُ بعَدَدِ الأَوراقِ على ذلك الصّانِعِ الحَكِيمِ، وعلى وَحْدانيَّتِه وكَمالِ رُبُوبيَّتِه.
ثمَّ إنَّ “نُمُوَّ الأَجسامِ” بخُطُواتٍ هادِفةٍ مُطَّرِدةٍ، وتَجهِيزَ كلٍّ مِنها بأَنواعٍ مِنَ الأَجهِزةِ المُتَوجِّهةِ معًا إلى تَكْوِينِ الثِّمارِ، وكأنَّه تَوَجُّهٌ شُعُورِيٌّ، يَجعَلُ كلَّ جِسْمٍ نامٍ بأَجزائِه ومَجمُوعِه، يَشهَدُ لِذلك الصّانِعِ الحَكِيمِ ويَشِيرُ إلى وَحْدانيَّتِه، ويَدُلُّ دَلالةً أَعظَمَ على قُدرَتِه المُحِيطةِ، وحِكْمَتِه الشّامِلةِ، وصَنْعَتِه الجَمِيلةِ، ورُبُوبيَّتِه الكامِلةِ.
ثمَّ إنَّ إيداعَ “النَّفسِ” في الجَسَدِ، وتَمكِينَ “الرُّوحِ” مِن كلِّ كائِنٍ حَيَوانِيٍّ بحِكْمةٍ تامّةٍ، وتَسلِيحَه بأَسلِحةٍ مُتَنوِّعةٍ، وتَزوِيدَه بأَعتِدةٍ مُختَلِفةٍ بنِظامٍ كامِلٍ، وتَوجِيهَه إلى مُهِمّاتٍ جَلِيلةٍ، واستِخدامَه في وَظائِفَ مُتَنوِّعةٍ بحِكْمةٍ تامّةٍ، يُشِيرُ إشاراتٍ بعَدَدِ الحَيَواناتِ بل بعَدَدِ أَجهِزَتِها وأَعضائِها إلى وُجُودِ ذلك الصّانِعِ الحَكِيمِ، ويَشهَدُ على وَحْدانيَّتِه، مِثلَما أنَّ مَجمُوعَها الكُلِّيَّ يَدُلُّ دَلالةً ساطِعةً على جَمالِ رَحْمَتِه وكَمالِ رُبُوبيَّتِه.
ثمَّ إنَّ جَمِيعَ “الإلهاماتِ” الغَيبِيّةِ الَّتي تُرشِدُ قُلُوبَ النّاسِ وتُفَقِّهُها بالعُلُومِ والحَقائِقِ، وتُعَلِّمُ الحَيَوانَ الِاهتِداءَ إلى تَوفيرِ ما يَحتاجُه مِن حاجاتٍ.. هذه الإلهاماتُ الغَيبِيّةُ بأَنواعِها المُختَلِفةِ تُشعِرُ كُلَّ ذِي بَصِيرةٍ بوُجُودِ رَبٍّ رَحِيمٍ، وتُشِيرُ إلى رُبُوبيَّتِه.
ثمَّ إنَّ جَمِيعَ “المَشاعِرِ” المُتَنوِّعةِ والحَواسِّ المُختَلِفةِ -الظّاهِرةِ مِنها والباطِنةِ مِثلَ شُعاعاتِ الأَعيُنِ- الَّتي تَجنِي الأَزاهِيرَ المَعنَوِيّةَ مِن بُستانِ الكَونِ، وكَوْنَ كلِّ حاسَّةٍ مِنها مِفتاحًا لِعالَمٍ مِنَ العَوالِمِ المُختَلِفةِ في الكَونِ الواسِعِ، تَدُلُّ كالشَّمسِ على وُجُودِ صانِعٍ حَكِيمٍ عَلِيمٍ، وخالِقٍ رَحِيمٍ، ورَزَّاقٍ كَرِيمٍ، وتَشهَدُ على واحِدِيَّتِه وأَحَديَّتِه وكَمالِ رُبُوبيَّتِه.
فهذه النَّوافِذُ الِاثنَتا عَشْرةَ، كلٌّ مِنها تُمثِّـلُ وَجْهًا لِنافِذةٍ واسِعةٍ، فتَدُلُّ باثنَيْ عَشَرَ لَوْنًا مِن أَلوانِ الحَقِيقةِ على أَحَدِيّةِ اللهِ سُبحانَه، ووَحْدانيَّتِه وكَمالِ رُبُوبيَّتِه.
فيا أيُّها المُكَذِّبُ الشَّقِيُّ.. كيف تَستَطِيعُ أن تَسُدَّ هذه النّافِذةَ الواسِعةَ سَعَةَ الأَرضِ.. بلِ الواسِعةَ سَعةَ مَدارِها السَّنَوِيِّ؟! وبأَيِّ شَيءٍ يُمكِنُك أن تُطفِئَ مَنْبَعَ هذا النُّورِ السَّاطِعِ كالشَّمسِ؟ وبأيِّ سِتارٍ مِن سَتائِرِ الغَفْلةِ يُمكِنُك أن تُخفِيَه؟!
[نافذة 7: النظام والاتزان والجمال]
النَّافذةُ السابعة
إنَّ ما يَبدُو عِيانًا في جَمِيعِ المَصنُوعاتِ المَبثُوثةِ على صَفَحاتِ الكَونِ مِن مَظاهِرِ النِّظامِ والمُوازَنةِ التّامّةِ، وما تَتَشكَّلُ فيه مِن صُوَرِ الزِّينةِ والجَمالِ، وما يُشاهَدُ مِن سُهُولةٍ مُتَناهِيةٍ في انبِعاثِها إلى الوُجُودِ وتَمَلُّكِها للحَياةِ، وما هي علَيه مِن تَشابُهِ بَعضِها للبَعضِ الآخَرِ في المَظاهِرِ أوِ الماهِيّاتِ فَضْلًا عنِ إظهارِها فِطْرةً واحِدةً.. كلٌّ مِن هذه المَظاهِرِ والخَصائِصِ دَليلٌ واسِعٌ سَعةَ الكَونِ على الخالِقِ القَدِيرِ، وشَهادةٌ صادِقةٌ قاطِعةٌ على وَحْدانيَّتِه سُبحانَه وقُدرَتِه المُطلَقةِ.
وكذا إنَّ “إيجادَ مُرَكَّباتٍ” مُنتَظِمةٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى مِن عَناصِرَ جامِدةٍ بَسِيطةِ التَّركِيبِ، يَشهَدُ شَهادةً قاطِعةً بعَدَدِ المُرَكَّباتِ على ذلك الخالِقِ القَدِيرِ الواجِبِ الوُجُودِ سُبحانَه، ويُشِيرُ إشارةً صَرِيحةً إلى وَحْدانيَّتِه، فَضْلًا عن أنَّ مَجمُوعَها العامَّ يُبيِّنُ بَيانًا باهِرًا كَمالَ قُدرَتِه ووَحدانيَّتِه.
وكذا إنَّ ما يُشاهَدُ مِن “تَمايُزٍ” واضِحٍ و”افتِراقٍ” كامِلٍ أَثناءَ تَجَدُّدِ المَوجُوداتِ -بالتَّحلِيلِ والتَّركِيبِ- رَغْمَ كَوْنِها في مُنتَهَى الِاختِلاطِ والِامتِزاجِ يَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على ذلك الحَكِيمِ المُطلَقِ الحِكْمةِ، والعَلِيمِ المُطلَقِ العِلْمِ، والقَدِيرِ المُطلَقِ القُدرةِ، ويُشِيرُ إلى وُجُوبِ وُجُودِه سُبحانَه وكَمالِ قُدْرَتِه.
فخُذْ -مَثلًا- تَسَنبُلَ الحُبُوبِ المَدفُونةِ في جَوْفِ الأَرضِ، ونُمُوَّ أُصُولِ الأَشجارِ إلى نَباتاتٍ مُختَلِفةٍ وأَشجارٍ مُتَبايِنةٍ، رَغْمَ الِاختِلاطِ والتَّشابُكِ، وكذلك تَمَيُّـزُ المَوادِّ المُختَلِفةِ الدّاخِلةِ في النَّباتاتِ والأَشجارِ المُتَنوِّعةِ إلى أَوراقٍ زاهِيةٍ وأَلوانٍ جَمِيلةٍ، وثِمارٍ لَطِيفةٍ رَغْمَ الِامتِزاجِ الشَّدِيدِ؛ بل حتَّى تَمايُزُ وتَجَزُّؤُ المَوادِّ الغِذائيّةِ الدَّقِيقةِ الدّاخِلةِ في حُجَيراتِ الجِسمِ بحِكْمةٍ كامِلةٍ وبمِيزانٍ دَقيقٍ رَغْمَ الِامتِزاجِ والِاختِلاطِ.
وكذا تَسخِيرُ “ذَرّاتٍ” جامِدةٍ عاجِزةٍ جاهِلةٍ للقيامِ بمَهامَّ في غايةِ الِانتِظامِ والشُّعُورِ والقُدرةِ والحِكْمةِ، وجَعْلُ “عالَمِ الذَّرّاتِ” ما يُشبِهُ مَزْرَعةً عَظِيمةً هائِلةً تُزرَعُ فيها كلَّ حِينٍ عَوالِمُ، وتُحصَدُ أُخرَى بحِكمةٍ تامّةٍ.. كلُّها دَلائلُ واضِحةٌ على وُجُوبِ وُجُودِ ذلِكُمُ القَدِيرِ ذِي الجَلالِ، وذلِكُمُ الخالِقِ ذِي الكَمالِ، وتَشهَدُ شَهادةً قَوِيّةً على كَمالِ قُدرَتِه، وعَظِيمِ رُبُوبيَّتِه، وعلى وَحْدانيَّتِه وكَمالِ رُبُوبيَّتِه.
وهكذا تُؤَدِّي بنا هذه الطُّرُقُ الأَربَعُ الواسِعةُ إلى نَّافِذةٍ عَظِيمةٍ جِدًّا تَنفَتِحُ على المَعرِفةِ الإلٰهِيّةِ، حيثُ يُطِلُّ مِنها نَظَرُ العَقْلِ الحادُّ على وُجُودِ الخالِقِ الحَكِيمِ.
فيا أيُّها الغافِلُ الشَّقِيُّ بغَفْلَتِه، إن لم تُرِدْ بعدَ هذا كلِّه رُؤيَتَه ومَعرِفَتَه، فعُدَّ نَفسَك مِنَ الأَنعامِ!
[نافذة 8: الأنبياء والأولياء والعلماء]
النَّافذةُ الثَّامنة
إنَّ جَمِيعَ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلَام الَّذين هم أَصحابُ الأَرواحِ النَّـيِّرةِ في النَّوعِ الإنسانِيِّ مُستَنِدِين إلى مُعجِزاتِهِمُ الظّاهِرةِ الباهِرةِ، وجَمِيعَ الأَولياءِ الَّذين يُمثِّـلُون أَقطابَ القُلُوبِ المُنَوَّرةِ مُعتَمِدِين على كَشْفِيّاتِهم وكَراماتِهم، وجَمِيعَ الأَصفِياءِ العُلَماءِ الَّذين يُمَثِّـلُون أَربابَ العُقُولِ النُّورانيّةِ مُستَنِدِين إلى تَحقِيقاتِهِمُ العِلمِيّةِ.. يَشهَدُون جَمِيعًا على وُجُوبِ وُجُودِ الواحِدِ الأَحَدِ الخالِقِ لِكُلِّ شَيءٍ، ويَدُلُّون على كَمالِ رُبُوبيَّتِه ووَحْدانيَّتِه.
هذه النّافِذةُ واسِعةٌ جِدًّا ومُنَوَّرةٌ مُضِيئةٌ ساطِعةٌ، وهي مَفتُوحةٌ أبدًا لإظهارِ ذلك المَقامِ الرَّفيعِ للرُّبُوبيّةِ.
فيا أيُّها المُنكِرُ الحَيرانُ.. بِمَ تَعْتَدُّ وتَفتَخِرُ، حتَّى لا تُلقِيَ لِهَؤُلاءِ سَمْعًا؟! لَعلَّك تَظُنُّ أنَّك بإطباقِ جَفْنَيك تَستَطِيعُ أن تَجعَلَ نَهارَ الدُّنيا لَيلًا.. ألا هَيْهاتَ.
[نافذة 9: عبادات الكائنات]
النَّافذةُ التَّاسعة
إنَّ “العِباداتِ” الَّتي تُؤَدِّيها الكائِناتُ بأَسْرِها تَدُلُّ بالبَداهةِ على مَعبُودٍ مُطلَقٍ..
نعم، إنَّ العُبُودِيّةَ الخالِصةَ الَّتي تُؤَدِّيها المَلائِكةُ والرُّوحانيّاتُ عُمُومًا، والثّابِتةَ بشَهادةِ الَّذين عَبَـرُوا إلى عالَمِ الأَرواحِ مِنَ البَشَرِ، واستَبْطَنُوا بَواطِنَ الوُجُودِ، والْتَقَوْا هناك المَلائِكةَ والرُّوحانيّاتِ، وشاهَدُوهم في عِباداتِهم وتَسابِيحِهم؛ وقِيامَ جَمِيعِ ذَوِي الحَياةِ -مَهما كانُوا- بمَهامِّهِمُ الَّتي خُلِقُوا لها على أَتَمِّ نِظامٍ، وامتِثالَهُم للأَوامِرِ الإلٰهِيّةِ امتِثالَ عَبدٍ مَأْمُورٍ؛ وأَداءَ جَمِيعِ الجَماداتِ خِدْماتِها المُتَّسِمةَ بعُبُودِيّةٍ كامِلةٍ على أَتَمِّ طاعةٍ.. إنَّ جَمِيعَ هذه العِباداتِ المُشاهَدةِ تُشِيرُ إلى المَعبُودِ الحَقِّ الواجِبِ الوُجُودِ وإلى وَحْدانيَّتِه.
وإنَّ جَمِيعَ “المَعارِفِ” الحَقّةِ الَّتي يَحمِلُها جَمِيعُ العارِفِين نَتِيجةَ إخلاصِهم في عُبُودِيَّتِهم للهِ، والشُّكْرَ المُثمِرَ النّابِعَ مِن صَمِيمِ قُلُوبِ الشّاكِرِين، والأَذكارَ المُنَوَّرةَ الَّتي تُرَطِّبُ أَلسِنةَ الذّاكِرِين، والحَمْدَ الزّائِدَ للنِّعمةِ الَّذي يَلْهَجُ به الحامِدُون، والتَّوحِيدَ الحَقِيقيَّ المُصَدَّقَ بآياتِ جَمِيعِ المَوجُوداتِ الَّذي يَبُثُّه المُوَحِّدُون، والحُبَّ الإلٰهِيَّ وعِشْقَه الصّادِقَ الَّذي يُشِيعُه المُحِبُّون والواجِدُون، ورَغَباتِ المُرِيدِين الخالِصةَ في اللهِ، وحَزْمَ إرادَتِهم في السَّيرِ إلَيه، والإنابةَ الصّادِقةَ، والتَّوَسُّلَ الحَزِينَ لَدَى المُنِيبِين.. كلُّ هذه الظَّواهِرِ المُنبَعِثةِ مِن جَمِيعِ هؤلاء الَّذين يَحمِلُ كلٌّ مِنهم قُوّةَ التَّواتُرِ والإجماعِ، تَدُلُّ دَلالةً قَوِيّةً على وُجُوبِ وُجُودِ ذَلِكُمُ المَعبُودِ الأَزَليِّ؛ المَعرُوفِ، المَذكُورِ، المَشكُورِ، المَحمُودِ، الواحِدِ، المَحبُوبِ، المَرغُوبِ، المَقصُودِ؛ وتَدُلُّ على كَمالِ رُبُوبيَّتِه ووَحْدانيَّتِه.
ثمَّ إنَّ جَمِيعَ العِباداتِ المَقبُولةِ الَّتي يَتَعبَّدُ بها الكامِلُون مِنَ النّاسِ، وما يَنبَعِثُ مِن تلك العِباداتِ المَرضِيّةِ مِن فُيُوضاتٍ ومُناجاةٍ ومُشاهَداتٍ وكَشْفِيّاتٍ، جَمِيعَها تَدُلُّ دَلالةً قَوِيّةً جِدًّا على ذلك المَوجُودِ الباقي، وذلك المَعبُودِ الأَبدِيِّ، وعلى أَحَدِيَّتِه وكَمالِ رُبُوبيَّتِه.
فهذه النّافِذةُ المُضِيئةُ والواسِعةُ جِدًّا، تَنفَتِحُ مِن ثلاثِ جِهاتٍ انفِتاحًا على الوَحدانيّةِ.
[نافذة 10: تعاون الموجودات]
النَّافذةُ العاشِرةُ
﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾
إنَّ مُعاوَنةَ المَوجُوداتِ بعضِها للبعضِ الآخَرِ وتَجاوُبَها فيما بَينَها، وتَسانُدَها في الوَظائِفِ والواجِباتِ.. تَدُلُّ على أنَّ كلَّ المَخلُوقاتِ تحتَ تَربيةِ ورِعايةِ مُرَبٍّ واحِدٍ أَحَدٍ، وأنَّ الكُلَّ تَحتَ أَمرِ مُدَبِّرٍ واحِدٍ أَحَدٍ، وأنَّ الكُلَّ تحتَ تَصَرُّفِ واحِدٍ أَحَدٍ.
ذلك لأنَّ “دُستُورَ التَّعاوُنِ” بينَ المَوجُوداتِ يَجرِي ابتِداءً مِنَ الشَّمسِ الَّتي تُهيِّئُ بأَمرِ اللهِ لَوازِمَ الحَياةِ للأَحياءِ، ومِنَ القَمَرِ الَّذي يُعْلِمُنا المَواقِيتَ، وانتِهاءً إلى إمدادِ الضَّوءِ والهَواءِ والماءِ والغِذاءِ لِذَوِي الحَياةِ، وإمدادِ النَّباتاتِ للحَيَواناتِ، وإمدادِ الحَيَواناتِ للإنسانِ، بل حتَّى إمدادِ كلِّ عُضْوٍ مِن أعضاءِ الجِسمِ للآخَرِ، وإمدادِ ذَرّاتِ الغِذاءِ لِحُجَيراتِ الجِسمِ.
فخُضُوعُ هذه المَوجُوداتِ الجامِدةِ الفاقِدةِ للشُّعُورِ وانقِيادُها لِدُستُورِ التَّعاوُنِ وارتباطُها معًا ارتِباطَ تَفاهُمٍ وتَجاوُبٍ في مُنتَهَى الحِكْمةِ، وفي مُنتَهَى الإيثارِ والكَرَمِ، وجَعْلُ كلٍّ مِنها يَسعَى لإغاثةِ الآخَرِ وإمدادِه بلَوازِمِ حَياتِه، ويُهرَعُ لِقَضاءِ حاجِيّاتِه وإسعافِه، تحتَ ظِلِّ قانُونِ الكَرَمِ ونامُوسِ الرَّأْفةِ، ودُستُورِ الرَّحمةِ.. كلُّ ذلك يَدُلُّ بَداهةً على أنَّ جَمِيعَها مَخلُوقاتٌ مَأْمُوراتٌ ومُسَخَّراتٌ عامِلاتٌ للواحِدِ الأَحَدِ، الفَرْدِ الصَّمَدِ، القَدِيرِ المُطلَقِ القُدرةِ، والعَلِيمِ المُطلَقِ العِلْمِ، والكَرِيمِ المُطلَقِ الكَرَمِ.
فيا أيُّها المُتَفلسِفُ المُفلِسُ.. ما تقُولُ في هذه النَّافِذةِ العَظِيمةِ؟ أيُمكِنُ للمُصادَفةِ الَّتي تَعتَقِدُ بها أن تَتَدخَّلَ في هذه الأُمُورِ؟!
[نافذة 11: راحة الأرواح في معرفة الواحد الأحد]
النَّافذةُ الحاديةَ عَشْرةَ
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
إنَّه لا خَلاصَ للقُلُوبِ والأَرواحِ مِن قَبضةِ القَلَقِ الرَّهِيبِ، ومِن دَوّاماتِ الِاضطِرابِ والخَوفِ، ومِن ظَمَأِ الضَّلالةِ وحُرقةِ نارِ البُعدِ عنِ اللهِ إلَّا بمَعرِفةِ خالِقٍ واحِدٍ أَحَدٍ.. إذ ما إنْ يُسلَّمُ أَمرُ القُلُوبِ والأَرواحِ، وأَمرُ كلِّ المَوجُوداتِ إلى خالِقٍ واحِدٍ أَحَدٍ حتَّى تَجِدَ راحَتَها، وتَحظَى بخَلاصِها مِن عَناءِ تلك الزَّلازِلِ النَّفسِيّةِ المُدَمِّرةِ وتَسكُنَ مِن ذلك القَلَقِ وتَستَقِرَّ وتَطمَئِنَّ.
لأنَّه إن لم يُسنَدْ أَمرُ المَوجُوداتِ كافّةً إلى واحِدٍ أَحَدٍ، فسَيُحالُ خَلْقُ كلِّ شَيءٍ إذًا إلى ما لا يُحَدُّ مِنَ الأَسبابِ.. وعِندَها يكُونُ إيجادُ شَيءٍ واحِدٍ مُشكِلًا وعَوِيصًا كخَلْقِ المَوجُوداتِ كلِّها، ولقد أَثْبَتْنا في “الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِين” أنَّه إنْ فُوِّضَ أَمرُ الخَلْقِ إلى اللهِ، فقد فُوِّضَ إذًا ما لا يُحَدُّ مِنَ الأَشياءِ إلى الواحِدِ الأَحَدِ، وإلّا فسيكُونُ أَمرُ كلِّ شَيءٍ بِيَدِ ما لا يُحَدُّ مِنَ الأَسبابِ، وفي هذه الحالةِ يكُونُ خَلْقُ ثَمَرةٍ واحِدةٍ مَثلًا فيه مِنَ المُشكِلاتِ والصُّعُوباتِ بقَدْرِ الكَونِ كُلِّه، بل أَكثَرُ.
ولْنُوضِّحْ ذلك بمِثالٍ: فكما أنَّ تَفوِيضَ إدارةِ جُندِيٍّ واحِدٍ إلى أُمَراءَ عَدِيدِين فيه مَشاكِلُ عَدِيدةٌ جِدًّا، بَينَما تَفوِيضُ إدارةِ مِئةِ جُندِيٍّ إلى ضابِطٍ واحِدٍ فيه سُهُولةٌ بالِغةٌ كإدارةِ جُندِيٍّ واحِدٍ، كذلك اتِّفاقُ ما لا يُحَدُّ مِنَ الأَسبابِ في إيجادِ شَيءٍ واحِدٍ فيه مِئاتُ الأَضعافِ مِنَ الإشكالاتِ؛ بَينَما في إيجادِ الواحِدِ الأَحَدِ للأَشياءِ العَدِيدةِ، فيه مِئاتُ الأَضعافِ مِنَ السُّهُولةِ. وهكذا، فما يَستَشعِرُه الإنسانُ مِن لَهْفةٍ إلى الحَقِيقةِ وتَوْقٍ إلَيها، يَجعَلُه دائِمَ القَلَقِ والِاضطِرابِ ما لم يَبلُغْها؛ فلا يَجِدُ الِاطمِئْنانَ والسُّكُونَ إلَّا بتَوحِيدِ الخالِقِ ومَعرِفةِ اللهِ سُبحانَه، ما دامَ في سَبِيلِ الكُفرِ والشِّركِ ما لا يُحَدُّ مِنَ الِاضطِراباتِ والمَشاكِلِ فهُو مُحالٌ؛ ولا حَقِيقةَ له أصلًا؛ وما دامَ في سَبِيلِ التَّوحِيدِ ما لا يُحَدُّ مِنَ السُّهُولةِ واليُسرِ -بما يَتَوافَقُ معَ سُهُولةِ خَلْقِ المَوجُوداتِ وكَثْرَتِهم وحُسْنِ تَسوِيَتِهِم- فهُو واجِبٌ وحَقِيقةٌ.
فيا مَن يَتْبَعُ الضَّلالةَ.. ويا أيُّها الشَّقِيُّ المِسكِينُ.. تَأَمَّلْ طَرِيقَ الضَّلالةِ ما أَظلَمَه وما أَشَدَّه إيلامًا لِوِجْدانِ الإنسانِ! فما الَّذي يَدفَعُك لِسُلُوكِه؟! ثمَّ تَأَمَّلْ في طَرِيقِ التَّوحِيدِ فما أَسهَلَه وما أَصفاه فاسْلُكْه وانجُ بنَفسِك!
[نافذة 12: التصوير المقدَّر والرسم المحدَّد]
النَّافذة الثَّانيةَ عَشْرةَ
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾
هذه الآياتُ الكَرِيمةُ تُرشِدُنا إلى أنَّ جَمِيعَ الأَشياءِ ولا سِيَّما الأَحياءَ تَظهَرُ إلى الوُجُودِ وكأنَّها خَرَجَت مِن قالَبٍ مُصَمَّمٍ تَصمِيمًا حَكِيمًا يَهَبُ لكُلِّ شَيءٍ مِقدارًا مُنتَظِمًا وصُورةً بَدِيعةً يَشِفَّانِ عن حِكْمةٍ واضِحةٍ؛ فنَرَى في الجِسمِ خُطُوطًا مُتَعرِّجةً، وانحِناءاتٍ وانعِطافاتٍ تَنشَأُ عنها فَوائِدُ شَتَّى للجِسمِ، ومَنافِعُ عَدِيدةٌ تُسَهِّلُ له أَمرَ أَداءِ وَظِيفَتِه الَّتي خُلِقَ مِن أَجلِها على أَتَمِّ وَجْهٍ.
فالمَوجُودُ له صُورةٌ مَعنَوِيّةٌ في عِلمِ اللهِ تُمَثِّـلُ مُقَدَّراتِه الحَياتيّةَ، وهي تُلازِمُ الصُّورةَ المادِّيّةَ وتَنتَقِلُ معَها في مَراحِلِ نُمُوِّها، ثمَّ تَتَبدَّلُ تلك الصُّورةُ والمَقادِيرُ في مَسِيرةِ حَياتِه تَبَدُّلًا يُلائِمُ الحِكْمةَ في خَلْقِه ويَنسَجِمُ كُلِّـيًّا معَ المَصالِحِ المُرَكَّبةِ علَيه، مِمّا يَدُلُّ بالبَداهةِ على أنَّ صُوَرَ تلك الأَجسامِ ومَقادِيرَها تُفصَّلُ وتُقَدَّرُ تَقدِيرًا مُعَيَّنًا في دائِرةِ القَدَرِ الإلٰهِيِّ لِلقَدِيرِ ذِي الجَلالِ والحَكِيمِ ذِي الكَمالِ، وتُنظَّمُ تلك الصُّوَرُ وتُنسَّقُ بِيَدِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ وتَمنَحُها الوُجُودَ المُعَيَّنَ المُقَدَّرَ. فتلك المَوجُوداتُ غيرُ المَحدُودةِ تَدُلُّ على الواجِبِ الوُجُودِ، وتَشهَدُ بأَلسِنةٍ لا تُحَدُّ على وَحْدانيَّتِه وكَمالِ قُدرَتِه.
تَأَمَّلْ فيما يَحوِيه جِسْمُك وأَعضاؤُك أيُّها الإنسانُ مِن حُدُودٍ مُتَعرِّجةٍ والْتِواءاتٍ دَقِيقةٍ.. وتَأَمَّلْ في فَوائِدِها ونَتائِجِ خِدْماتِها، وشاهِدْ كَمالَ القُدرةِ في كَمالِ الحِكْمةِ.
[نافذة 13: تسبيحات الموجودات بلسان الحال والمقال]
النَّافذة الثَّالثةَ عَشْرةَ
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾
إنَّ كلَّ شَيءٍ يَذكُرُ خالِقَه ويُسَبِّحُه بلِسانِه الخاصِّ، كما هو المَفهُومُ مِن هذه الآيةِ الكَرِيمةِ. نعم، إنَّ التَّسبِيحاتِ المَرفُوعةَ مِن قِبَلِ المَوجُوداتِ سَواءٌ بلِسانِ الحالِ أوِ المَقالِ، تَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على وُجُودِ ذاتٍ مُقَدَّسةٍ لِواحِدٍ أَحَدٍ.. نعم، إنَّ دَلالةَ الفِطْرةِ صادِقةٌ، وشَهادَتَها لا تُرَدُّ، ولا سِيَّما إذا كانَتِ الشَّهادةُ صادِرةً عن دَلالةِ الحالِ، وبخاصَّةٍ إذا تَوافَرَتِ الدَّلالاتُ مِن جِهاتٍ عِدّةٍ، فهي شَهادةٌ صادِقةٌ لا تَقبَلُ الشَّكَّ قَطْعًا.
فتَأَمَّلِ الآنَ في صُوَرِ المَوجُوداتِ المُتَناسِقةِ، تَرَها قدِ اتَّفَقَت كما تَتَّفِقُ الدَّوائِرُ المُتَداخِلةُ في تَوَجُّهِها نحوَ نُقطةِ المَركَزِ؛ لِذا فهي تَنطَوِي على دَلالاتٍ بلِسانِ الحالِ وبأَنماطٍ لا حَدَّ لها، وعلى شَهاداتِ الفِطْرةِ بأَنواعٍ لا حَدَّ لها، إذ كلُّ صُورةٍ مِنها لِسانٌ شاهِدٌ بحَدِّ ذاتِه، وهَيْئَتُها المُتَناسِقةُ هي الأُخرَى لِسانٌ شاهِدٌ صادِقٌ، بل حَياةُ المَوجُودِ كلُّها لِسانُ ذاكِرٍ بالتَّسبِيحِ.
ولقد أَثبَتْنا في “الكَلِمةِ الرّابِعةِ والعِشرِين” أنَّ جَمِيعَ هذه التَّسبِيحاتِ البادِيةِ للمُتَأَمِّلِ، والمُنبَعِثةِ بأَلسِنةِ الحالِ أوِ المَقالِ مِن جَمِيعِ المَوجُوداتِ وتَحِيّاتِها وشَهاداتِها الدّالّةِ على ذاتٍ مُقَدَّسةٍ، تُظهِرُ بوُضُوحٍ ذلك الواحِدَ الأَحَدَ الواجِبَ الوُجُودِ، وتَدُلُّ على كَمالِ أُلُوهِيَّتِه سُبحانَه.
[نافذة 14:الافتقار المطلق]
النَّافذة الرَّابعةَ عَشْرةَ
﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾
﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾
﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾
يُفهَمُ مِن هذه الآياتِ الكَرِيمةِ أنَّ كلَّ شَيءٍ، في كلِّ شَأْنٍ مِن شُؤُونِه، مُفتَقِرٌ إلى الخالِقِ الواحِدِ الأَحَدِ ذِي الجَلالِ.
فبإلقاءِ نَظرةٍ فاحِصةٍ على ما هو مُنبَسِطٌ بينَ أَيدِينا مِن مَوجُوداتِ الكَونِ، نُشاهِدُ مَظاهِرَ قُوّةٍ مُطلَقةٍ تَنضَحُ مِن خِلالِ ضَعفٍ مُطلَقٍ مُشاهَدٍ؛ ونُشاهِدُ آثارَ قُدرةٍ مُطلَقةٍ تَبِينُ مِن بينِ ثَنايا عَجْز مُطلَقٍ مَلمُوسٍ، كالحالاتِ الخارِقةِ الَّتي تُظهِرُها بُذُورُ النَّباتاتِ وأُصُولُها في أَثناءِ نُمُوِّها وانتِباهِ العُقَدِ الحَيّاتيّةِ فيها.
ونَرَى أَيضًا مَظاهِرَ غِنًى مُطلَقٍ تَتَظاهَرُ ضِمنَ فَقْرٍ مُطلَقٍ وجَدْبٍ تامٍّ، كما في الثَّروةِ الطّافِحةِ، وأَوضاعِ الخِصْبِ الغامِرِ للأَرضِ والنَّباتاتِ في الرَّبِيعِ بعدَ أن كانَت في يُبُوسةٍ وجَدْبٍ في الشِّتاء.
ونَرَى تَرَشُّحاتِ حَياةٍ مُطلَقةٍ ضِمنَ جُمُودٍ مُطلَقٍ، وخُمُودٍ تامٍّ، كما هو في انقِلابِ العَناصِرِ الجامِدةِ -كالتُّرابِ والماءِ- إلى مَوادَّ تَنبِضُ بالحَياةِ في الكائِناتِ الحَيّة.
ونَرَى مَظاهِرَ شُعُورٍ كامِلٍ طَيَّ جَهْلٍ مُطبِقٍ، كما هو في حَرَكاتِ كلِّ شَيءٍ وجَرَيانِه ابتِداءً مِنَ الذَّرّاتِ إلى المَجَرّاتِ، تلك الحَرَكاتِ المُتَّسِمةِ بالشُّعُورِ الكامِلِ والِانسِجامِ التّامِّ معَ نِظامِ الكَونِ كُلِّه، والمُلائِمةِ مُلاءَمةً تامّةً لمُقتَضَياتِ الحَياةِ ومَطالِيبِ الحِكْمةِ المَقصُودةِ مِنَ الوُجُودِ.
فالقُدرةُ الكامِنةُ في الضَّعفِ والعَجْزِ، والقُوّةُ الَّتي تَتَراءَى ضِمنَ مَعدِنِ الضَّعْفِ، والثَّروةُ والغِنَى المَوجُودانِ في ذاتِ الفَقْرِ، وأَنوارُ الحَياةِ والشُّعُورِ المُحِيطِ المُشِعَّانِ مِن خِلالِ الجُمُودِ والجَهْلِ.. فكُلُّ مَظهَرٍ مِن هذه المَظاهِرِ يَفتَحُ مِن جانِبِه نَوافِذَ تُظهِرُ بالبَداهةِ والضَّرُورةِ وُجُوبَ وُجُودِ ووَحْدانيّةِ ذاتٍ مُقَدَّسةٍ لِقَدِيرٍ مُطلَقِ القُدرةِ، وغَنِيٍّ مُطلَقِ الغِنَى.. لِقَوِيٍّ مُطلَقِ القُوّةِ وعَلِيمٍ مُطلَقِ العِلْمِ، وحَيٍّ قَيُّومٍ.. فَضْلًا عن أنَّ مَجمُوعَها يَشهَدُ على وَحْدَتِه، ويُبيِّنُ الصِّراطَ السَّوِيَّ بَيانًا واضِحًا وبمِقْياسٍ أَعظَمَ.
فيا أيُّها الغافِلُ المُتَرَدِّي في مُستَنقَعِ الطَّبِيعةِ، إن لم تَعرِفْ عَظَمةَ القُدرةِ الرَّبّانيّةِ، ولم تَنبِذْ مَفهُومَ خَلّاقيّةِ الطَّبِيعةِ، فما علَيك إلَّا أن تُسنِدَ إلى كلِّ شَيءٍ في الوُجُودِ -بل حتَّى إلى ذَرّةٍ- قُوّةً هائِلةً لا حُدُودَ لها، وقُدرةً عَظِيمةً لا مُنتَهَى لها، وحِكْمةً بالِغةً لا حَدَّ لِحُدُودِها، ومَهارةً فائِقةً بلا نِهايةٍ.. بل عليك أن تُسنِدَ إلى كلِّ شَيءٍ اقتِدارًا يُبصِرُ ويَعلَمُ ويُدِيرُ أَكثَرَ الأَشياءِ!!.
[نافذة 15: تَناسُب كل شيءٍ مع شؤونه]
النَّافذة الخامسةَ عَشْرةَ
﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾
إنَّ كُلَّ شَيءٍ قد فُصِّلِ على قَدِّ قامةِ ماهِيَّتِه، تَفصِيلًا مُتقَنًا، ووُزِنَ بمِيزانٍ دَقِيقٍ كامِلِ الوَزْنِ علَيها، ونُظِّمَ تَنظِيمًا تامًّا فيها، ونُسِّقَ تَنسِيقًا بارِعًا، وصُنِعَ بمَهارةٍ، وأُلبِسَ أَجمَلَ صُورةٍ، وأَلطَفَ ثَوْبٍ، وأَبْهَى طِرازٍ، مِن أَقرَبِ طَرِيقٍ إلَيه، وأَسهَلِ شَكْلٍ يُعينُه على أَداءِ مُهِمَّتِه، ووُهِب له وُجُودٌ يَنضَحُ حِكْمةً، لا عَبثَ فيه ولا إسرافَ.
فخُذْ مَثلًا: الطُّـيُور؛ لِباسُها الرِّيشُ النّاعِمُ اللَّطِيفُ.. فهل يُمكِنُ أن تَلبَسَ ثَوْبًا أَنسَبَ لها ولِحِكْمةِ خَلْقِها مِن هذا اللِّباسِ النّاعِمِ؟! أيُّ لُطْفٍ وجَمالٍ حينَ تُنَظِّفُه! وأيُّ يُسْرٍ وسُهُولةٍ حِينَ تُحَرِّكُه وتَستَخدِمُه في شَتَّى أُمُورِها الحَياتيّةِ والمَعاشِيّةِ!.
وهكذا، كلُّ ما في الوُجُودِ شاهِدٌ ناطِقٌ -كهذا المِثالِ- على الخالِقِ الحَكِيمِ، وكلٌّ مِنه إشارةٌ واضِحةٌ إلى قَدِيرٍ عَلِيمٍ مُطلَقِ القُدرةِ والعِلْمِ.
[نافذة 16: مظاهر الجمال والنوال]
النَّافذة السادسةَ عَشْرةَ
إنَّ ما يُشاهَدُ على سَطْحِ الأَرضِ مِنِ انتِظامٍ واطِّرادٍ في خَلْقِ المَخلُوقاتِ، وتَدبِيرِ أُمُورِها، وتَجدِيدِها باستِمرارٍ في كلِّ مَوسِمٍ، يَدُلُّ بالبَداهةِ على حِكْمةٍ عامّةٍ تَغمُرُ المَوجُوداتِ.. هذه الحِكْمةُ العامّةُ تَدُلُّ بالضَّرُورةِ على حَكِيمٍ مُطلَقِ الحِكْمةِ، إذ لا صِفةَ دُونَ مَوصُوفٍ.
ثمَّ إنَّ أَنواعَ الزِّينةِ البَدِيعةِ الَّتي تُؤَطِّرُ سِتارَ الحِكْمةِ العامّةِ الَّذي يَتَلفَّعُ الوُجُودُ به، تَدُلُّ بالبَداهةِ على عِنايةٍ فائِقةٍ عامّةٍ، وهذه العِنايةُ تَدُلُّ بالضَّرُورةِ على خالِقٍ كَرِيمٍ.
وإنَّ أَنواعَ اللُّطفِ والكَرَمِ، وأَلوانَ الرِّفقِ والإحسانِ المَرسُومةَ على سِتارِ العِنايةِ الَّذي يُغَطِّي الوُجُودَ كُلَّه، تَدُلُّ بالبَداهةِ على رَحمةٍ واسِعةٍ، وهذه الرَّحمةُ الواسِعةُ تَدُلُّ بالضَّرُورةِ على “الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ”.
ثمَّ إنَّ أَنواعَ الرِّزقِ، وأَنماطَ الإعاشةِ، المُزْهِرةَ على أَغصانِ الرَّحمةِ الَّتي تُظَلِّلُ بأَفنانِها كُلَّ شَيءٍ، والمُعدَّةَ للأَحياءِ المُحتاجةِ إلى الرِّزقِ، وإعاشَتَها إعاشةً تُلائِمُها تَمامًا، يَدُلُّ بالبَداهةِ على رَزّاقيّةٍ ذاتِ تَربِيةٍ ورِعايةٍ، ورُبُوبيّةٍ ذاتِ رَأفةٍ ورَحمةٍ.. وهذه التَّربِيةُ والإدارةُ تَدُلّانِ بالضَّرُورةِ على رَزَّاقٍ كَرِيمٍ.
نعم، ما على الأَرضِ مِن مَخلُوقاتٍ تُربَّى بحِكمةٍ كامِلةٍ، وتُزَيَّنُ بعِنايةٍ كامِلةٍ، وتُسبَغُ علَيها النِّعَمُ برَحمةٍ كامِلةٍ، وتُمَدُّ بوَسائِلِ عَيشِها برَأْفةٍ كامِلةٍ، فكُلٌّ مِنها لِسانٌ ناطِقٌ ومُشِيرٌ إلى اللهِ الحَكِيمِ، الكَرِيمِ، الرَّحِيمِ، الرَّزّاقِ. وكُلٌّ مِنها أَيضًا يُشِيرُ إلى وَحْدانيَّتِه.
كما أنَّ ما على الأَرضِ مِن حِكْمةٍ ظاهِرةٍ يُستَشَفُّ مِنها القَصْدُ والإرادةُ.. وما علَيها مِن عِنايةٍ عامّةٍ تَتَضمَّنُ تلك الحِكْمةَ.. وما علَيها مِن رَحمةٍ تَسَعُ الوُجُودَ والَّتي تَتَضمَّنُ العِنايةَ والحِكْمةَ.. وما علَيها مِن رِزْقٍ شامِلٍ عامٍّ للأَحياءِ وإعاشةٍ كَرِيمةٍ لَطِيفةٍ، والَّتي تَتَضمَّنُ الرَّحمةَ والعِنايةَ والحِكْمةَ.. فكلٌّ مِن هذه المَظاهِرِ وبمَجمُوعِها تَدُلُّ دَلالةً عَظِيمةً جِدًّا على الحَكِيمِ، الكَرِيمِ، الرَّحِيمِ، الرَّزّاقِ، وتَدُلُّ على وُجُوبِ وُجُودِه سُبحانَه وعلى وَحْدانيَّتِه وكَمالِ رُبُوبيَّتِه؛ إذ إنَّ ما في الحِكْمةِ مِن عِنايةٍ، وما في العِنايةِ مِن رَحمةٍ، وما في الرَّحمةِ مِن إعاشةٍ وإرزاقٍ، دَلالاتٌ قاطِعةٌ وبمِقْياسٍ واسِع جِدًّا على الواجِبِ الوُجُودِ، بمِثلِ دَلالةِ الأَلوانِ السَّبعةِ على ضَوْءِ الشَّمسِ الَّذي يَمْلَأُ النَّهارَ نُورًا.
فيا أيُّها الغافِلُ الحائِرُ الجاحِدُ.. كيفَ تُفَسِّرُ هذه التَّربِيةَ المُكَلَّلةِ بالحِكْمةِ البالِغةِ، والكَرَمِ الشّامِلِ، والرَّحمةِ الواسِعةِ، والرِّزقِ الوَفيرِ، وبِمَ تُوَضِّحُ هذه المَظاهِرَ المُعجِزةَ؟
أفيُمكِنُ تَفسِيرُها بالمُصادَفةِ العَشْواءِ؟ أم يُمكِنُ تَوضِيحُها بالقُوّةِ المَيتةِ مَواتَ قَلبِك؟ أم يُمكِنُ ذلك بالطَّبِيعةِ الصَّمَّاءِ صَمَمَ عَقْلِك؟ أم بالأَسبابِ العاجِزةِ الجامِدةِ الجاهِلةِ مِثلَك؟ أم تُرِيدُ أن تَرتَكِبَ خَطَأً جَسِيمًا -ما بَعدَه خَطَأٌ- وهو إطلاقُك على البارِئِ الجَلِيلِ المُنَزَّهِ المُتَعالِ والقَدِيرِ العَلِيمِ السَّمِيعِ البَصِيرِ، اسمَ “الطَّبِيعةِ” العاجِزةِ الجاهِلةِ الصَّمَّاءِ العَمْياءِ؟!
فبِأَيِّ قُوّةٍ يُمكِنُك أن تُطفِئَ سِراجَ هذه الحَقِيقةِ السّاطِعةِ سُطُوعَ الشَّمسِ؟ وتحتَ أيِّ سِتارٍ مِن أَستارِ الغَفْلةِ يُمكِنُك أن تَستُرَها؟
[نافذة 17: اجتماع الأوصاف المتضادة في كل موجود]
النَّافذة السَّابعةَ عَشْرةَ
﴿إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
إذا تَأَمَّلْنا وَجْهَ الأَرضِ المَبسُوطَ أَمامَنا، نَرَى أنَّ سَخاءً مُطلَقًا يَتَجلَّى في إيجادِ الأَشياءِ: فبَينَما يَقتَضِي السَّخاءُ أن تكُونَ الأَشياءُ في فَوْضَى وعَدَمِ انتِظامٍ، إذا بِنا نُشاهِدُها في غايةِ الِانسِجامِ ومُنتَهَى الِانتِظامِ.. شاهِدْ جَمِيعَ النَّباتاتِ الَّتي تُزَيِّنُ وَجْهَ الأَرضِ، تَرَ هذه الحَقِيقةَ.
ونَرَى أَيضًا سُرعةً مُطلَقةً تَتَبيَّنُ في إيجادِ الأَشياءِ: فبَينَما تَقتَضِي السُّرعةُ أن تكُونَ الأَشياءُ مُشَوَّهةَ الصُّورةِ، مُختَلّةَ المادّةِ، ومُضطَرِبةَ المِيزانِ، ويَنقُصُها الإتقانُ، إذا بنا نُشاهِدُها في غايةِ التَّقدِيرِ والضَّبْطِ والسَّبْكِ، ومُنتَهَى الدِّقّةِ والمُوازَنةِ.. لاحِظْ جَمِيعَ الأَثمارِ الَّتي تُجَمِّلُ وَجْهَ الأَرضِ حيثُ تَبدُو هذه الحَقِيقةُ فيها على أَحسَنِ وَجْهٍ.
ونَرَى أيضًا وَفْرةً وغَزارةً مُطلَقةً في إيجادِ الأَشياءِ: فبَينَما تَقتَضِي الكَثْرةُ أن تكُونَ الأَشياءُ تافِهةً ومُبتَذَلةً بل قَبِيحةً، إذا بِنا نُشاهِدُها في إتقانٍ رائِعٍ، وصَنْعةٍ بَدِيعةٍ وجَمالٍ أخَّاذٍ.. انظُرْ وتَأَمَّلْ في جَمِيعِ الأَزهارِ الَّتي تُرَصِّعُ وَجْهَ الأَرضِ، ألا يَبدُو ذلك فيها تَمامًا!
ونَرَى أَيضًا سُهُولةً مُطلَقةً تَبدُو في إيجادِ الأَشياءِ، فبَينَما تَقتَضِي السُّهُولةُ أن تكُونَ الأَشياءُ بَسِيطةً ومُفتَقِرةً إلى الإتقانِ والمَهارةِ، إذا بِنا نُشاهِدُها في كَمالِ الإبداعِ ورَوْعةِ المَهارةِ.. شاهِدِ البُذُورَ وأَمعِنِ النَّظَرَ في النُّوَى، تلك العُلَبِ الدَّقِيقةِ الحامِلةِ في مادّةِ تَركِيبِها فَهارِسَ أَجهِزةِ الشَّجَرِ وخَرائِطَ أَجسامِ النَّباتِ.
ونَرَى أَيضًا بُعْدًا مُطلَقًا يَفصِلُ بينَ أَزمِنةِ وأَمكِنةِ إيجادِ الأَشياءِ: فبَينَما تَقتَضِي هذه الأَبعادُ المَهُولةُ أن تَأْتِيَ الأَشياءُ مُختَلِفةً ومُتَبايِنةً، إذا بِنا نُشاهِدُها في اتِّفاقٍ تامٍّ في الصِّفاتِ والخَواصِّ.. شاهِدْ أَنواعَ الحُبُوبِ المَزرُوعةِ في أَقطارِ الأَرضِ كافّةً رَغمَ البُعدِ الزَّمانِيِّ والمَكانِيِّ الَّذي يَفصِلُ بينَها.
ونَرَى أَيضًا اختِلاطًا مُطلَقًا وتَشابُكًا مَتِينًا في إيجادِ الأَشياءِ: فبَينَما يَقتَضِي هذا الِاختِلاطُ تَداخُلَ المَوادِّ بعضِها في البعضِ الآخَرِ وتَشابُكَها، إذا بنا نُشاهِدُها في تَمايُزٍ كامِلٍ، وتَخَصُّصٍ مُنتَظِمٍ.. شَاهِدِ البُذُورَ المَنثُورةَ المَدفُونةَ تحتَ التُّرابِ، وأَمعِنِ النَّظَرَ في تَمايُزِها في أَثناءِ نُمُوِّها وتَسَنبُلِها، رَغمَ تَشابُهِ تَراكِيبِها؛ وتَأَمَّلْ في المَوادِّ المُختَلِفةِ الدّاخِلةِ في بُنيةِ الأَشجارِ، وتَحَوُّلِها إلى مُختَلِفِ الأَشكالِ مِنَ الأَوراقِ الرَّقيقةِ، والأَزهارِ الزّاهِيةِ، والثِّمارِ اللَّطِيفةِ؛ وتَأَمَّلْ في أَنواعِ الطَّعامِ والأَغذِيةِ المُختَلِفةِ الدّاخِلةِ في المَعِدةِ، وتَمايُزِ بعضِها عنِ البعضِ، ودُخُولِ كلٍّ مِنها إلى العُضْوِ الَّذي يُناسِبُها، بل إلى الحُجَيرةِ الَّتي تُلائِمُها بتَمايُزٍ واضِحٍ.. شَاهِدْ آثارَ القُدرةِ المُطلَقةِ، مِن خِلالِ الحِكْمةِ المُطلَقةِ.
ونَرَى أَيضًا وَفْرةً مُتَناهِيةً في الأَشياءِ، وكَثْرةً كاثِرةً مِن أَنواعِها وأَشكالِها: فبَينَما تَقتَضِي هذه الوَفْرةُ أن تكُونَ الأَشياءُ رَخِيصةً بَسِيطةً، إذا بنا نُشاهِدُها في غايةِ النَّفاسةِ ومُنتَهَى الجَودةِ.. شَاهِدِ الآثارَ البَدِيعةَ المُعَدَّةَ لِمائِدةِ الأَرضِ، وأَمعِنِ النَّظَرَ في ثَمَرةٍ واحِدةٍ -ولْتَكُنْ ثَمَرةَ التُّوتِ مَثلًا- ألا تُمَثِّـلُ هذه الثَّمَرةُ نَمُوذجًا رائِعًا لِحَلْوَى مَصنُوعةٍ بِيَدِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ؟ شاهِدْ كَمالَ الرَّحمةِ، مِن ثَنايا كَمالِ الإبداعِ.
وهكذا نُشاهِدُ على وَجهِ الأَرض جَمِيعِه جَودةً ونَفاسةً في المَصنُوعاتِ رَغمَ وَفْرَتِها غيرِ المُتَناهِيةِ..ونَرَى ضِمنَ هذه الوَفْرةِ تَمَيُّـزًا للمَوجُوداتِ رَغمَ اختِلاطِها وتَشابُكِها.. ونَجِدُ في هذا الِاختِلاطِ والتَّشابُكِ اتِّفاقًا وتَشابُهًا في المَوجُوداتِ رَغمَ البُعدِ فيما بَينَها.. ونُبصِرُ مِن ثَنايا هذا التَّوافُقِ جَمالًا رائِعًا في المَوجُوداتِ ورِعايةً بالِغةً بها رَغمَ السُّهُولةِ المُتَناهِيةِ في إيجادِها.. ونَلمَحُ ضِمنَ هذه الرِّعايةِ التّامّةِ تَقدِيرًا دَقِيقًا بلا إسرافٍ ومُوازَنةً حسَّاسةً رَغمَ السُّرعةِ في إيجادِها.. ونُلاحِظُ ضِمنَ هذا التَّقدِيرِ والمُوازَنةِ وعَدَمِ الإسرافِ إبداعًا في الصَّنْعةِ ورَوْعةً فيها رَغمَ كَثْرَتِها المُتَناهِيةِ.. ونُشاهِدُ ضِمنَ هذه الرَّوعةِ في الصَّنعةِ انتِظامًا بَدِيعًا رَغمَ السَّخاءِ المُطلَقِ في إيجادِها..
فإذا تَأَمَّلْنا في هذه الأُمُورِ كلِّها، نَراها تَدُلُّ دَلالةً واضِحةً أَوضَحَ مِن دَلالةِ النَّهارِ على الضِّياءِ، وأَسطَعَ مِن دَلالةِ الضِّياءِ على الشَّمسِ؛ على وُجُوبِ وُجُودِ قَدِيرٍ ذِي جَلالٍ، وحَكِيمٍ ذِي كَمالٍ، ورَحِيمٍ ذِي جَمالٍ، وتَشهَدُ على وَحدانيَّتِه وأَحَدِيَّتِه وكَمالِ قُدرَتِه وجَمالِ رُبُوبيَّتِه، وتُبيِّنُ بجَلاءٍ سِرًّا مِن أَسرارِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾.
وبعدُ، فيا أيُّها الغافِلُ العَنِيدُ، ويا أيُّها الجاهِلُ المِسكِينُ.. بماذا تُفَسِّرُ هذه الحَقِيقةَ العُظمَى الَّتي تَراها رَأْيَ العَينِ؟ وبماذا تُوضِّحُ هذه الأَوضاعَ الخارِقةَ المَعرُوضةَ أَمامَك؟ وإلى مَن تُسنِدُ أَمرَ هذه المَصنُوعاتِ البَدِيعةِ العَجِيبةِ؟ وبأَيِّ سِتارٍ مِن سَتائِرِ الغَفلةِ يُمكِنُك أن تَستُرَ هذه النّافِذةَ الواسِعةَ سَعةَ الأَرضِ نَفسِها؟!
أين المُصادَفةُ الَّتي تَعتَقِدُ بها والطَّبِيعةُ الَّتي تَعتَمِدُ علَيها وهي بلا شُعُورٍ؟ بل أينَ أَوهامُ الضَّلالةِ الَّتي تَستَنِدُ إلَيها، وتُلازِمُها وتُرافِقُها وتُصادِقُها؟! أين جَمِيعُها أمامَ هذه الحَقائقِ المُحَيِّرةِ والأَحوالِ البَدِيعةِ المُذهِلةِ؟ أليس مُحالًا في مِئةِ مُحالٍ أن تَدخُلَ المُصادَفةُ في أمثالِ هذه الأُمُورِ؟ أوَلَيس مُحالًا في أَلفِ مُحالٍ أن يُسنَدَ واحِدٌ مِن هذه الأُمُورِ إلى الطَّبِيعةِ، ناهِيك عن جَمِيعِها؟! أم أنَّك تَعتَقِدُ في الطَّبِيعةِ الجامِدةِ العاجِزةِ إمكانَ امتِلاكِها لَمَكائِنَ مَعنَوِيّةٍ في كلِّ شَيءٍ؟ وبعَدَدِ الأَشياءِ كُلِّها؟ فيا لَلضَّلالةِ!
[نافذة 18: آثار تدل على الأفعال والأسماء والصفات والشؤون والذات]
النَّافذة الثَّامنةَ عَشْرةَ
﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
تَأَمَّلْ في هذا المِثالِ الَّذي سَبَق أن ذَكَرناه في “الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِين”:
إنَّ أَثَرًا رائِعًا كالقَصرِ الفَخْمِ، كامِلَ الأَجزاءِ، مُنتَظِمَ الأَركانِ، مُتقَنَ البِناءِ، يَدُلُّ بالبَداهةِ على فِعلٍ مُتقَنٍ.
أي إنَّ البِنَاءَ يَدُلُّ على صَنعةِ البَنّاءِ وفِعلِه؛ والفِعلُ الكامِلُ المُتقَنُ يَدُلُّ بالضَّرُورةِ على فاعِلٍ حاذِقٍ، ومِعمارِيٍّ ماهِرٍ.
وهذه العَناوِينُ (فاعِلٌ حاذِقٌ – مِعمارِيٌّ ماهِرٌ – بَنّاءٌ مُتْقِنٌ)، تَدُلُّ بالبَداهةِ على صِفاتٍ كامِلةٍ لا نَقْصَ فيها يَتَّصِفُ بها ذلك الفاعِلُ، أي: تَدُلُّ على مَلَكةِ الإبداعِ عِندَه.
وإنَّ الصِّفاتِ الكامِلةَ ومَلَكةَ الإبداعِ الكامِلةَ، تَدُلُّ بالبَداهةِ على وُجُودِ استِعدادٍ كامِلٍ وقابِليّةٍ تامّةٍ؛ والِاستِعدادُ الكامِلُ هذا يَدُلُّ على ذاتٍ رَفِيعةٍ، ورُوحٍ عالِيةٍ.
وهكذا -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- فهذه الآثارُ المُتَجدِّدةُ البادِيةُ للعِيانِ والَّتي تَمْلَأُ الأَرضَ بلِ الكَونَ، تَدُلُّ بالبَداهةِ على أَفعالٍ في مُنتَهَى الكَمالِ؛ وإنَّ هذه الأَفعالَ الظّاهِرةَ مِن خِلالِ مُنتَهَى الإتقانِ وغايةِ الحِكْمةِ تَدُلُّ بالبَداهةِ على فاعِلٍ كامِلٍ مُنَزَّهٍ عنِ النَّقْصِ في عَناوِينِه وأَسمائِه، لأنَّ الأَفعالَ المُتقَنةَ والحَكِيمةَ مَعلُومٌ بَداهةً أنَّها لا تَحصُلُ دُونَما فاعِلٍ.. وإنَّ العَناوِينَ الَّتي هي في مُنتَهَى الكَمالِ تَدُلُّ على صِفاتٍ هي في مُنتَهَى الكَمالِ لذلك الفاعِلِ، لأنَّه كما يُشتَقُّ اسمُ الفاعِلِ مِنَ المَصدَرِ حَسَبَ عِلمِ الصَّرفِ، فإنَّ مَنشَأَ العَناوِينِ ومَصادِرَ الأَسماءِ هي الصِّفاتُ؛ والصِّفاتُ الَّتي هي في مُنتَهَى الكَمالِ، لا شَكَّ أنَّها تَدُلُّ على شُؤُونٍ ذاتيّةٍ هي في مُنتَهَى الكَمالِ؛ والقابِلِيّةُ الذّاتيّةُ أو تلك الشُّؤُونُ الذّاتيّةُ الَّتي نَعجِزُ عنِ التَّعبِيرِ عَنها، تَدُلُّ بحَقِّ اليَقِينِ على ذاتٍ مُنَزَّهةٍ في كَمالٍ مُطلَقٍ.
وحيثُ إنَّ كلَّ أَثَرِ مِنَ الآثارِ البَدِيعةِ الماثِلةِ أَمامَنا في الكَونِ وفي جَمِيعِ المَخلُوقاتِ، هو كامِلٌ بَدِيعٌ بِحَدِّ ذاتِه.. وإنَّ هذا الأَثرَ البَدِيعَ يَشهَدُ على فِعلٍ، والفِعْلَ يَشهَدُ على اسمٍ، والِاسمَ يَشهَدُ على صِفةٍ، والصِّفةَ تَشهَدُ على شَأْنٍ، والشَّأْنَ يَشهَدُ على ذاتٍ.. لِذا فإنَّ كُلًّا مِنها مِثلَما يَشهَدُ شَهادةً صادِقةً على صانِعٍ جَلِيلٍ واحِدٍ أَحَدٍ واجِبِ الوُجُودِ، ويُشِيرُ إلى أَحَدِيَّتِه -أي: مِثلَما أنَّ هنالك شَهاداتٍ وإشاراتٍ بعَدَدِ المَخلُوقاتِ إلى التَّوحِيد- فإنَّ كُلًّا مِنها أَيضًا معَ مَجمُوعِ الآثارِ والمَخلُوقاتِ في الكَونِ إنَّما هو مِعراجٌ عَظِيمٌ لِمَعرِفةِ اللهِ سُبحانَه، له مِنَ القُوّةِ ما للمَخلُوقاتِ جَمِيعًا.. فَضْلًا عن أنَّه بُرهانٌ دامِغٌ على الحَقِيقةِ، لا يُمكِنُ أن تَدنُوَ مِنه أيّةُ شُبهةٍ مَهما كانَت.
والآنَ أيُّها الغافِلُ الجاحِدُ.. بماذا تَستَطِيعُ أن تَجرَحَ هذا البُرهانَ القَوِيَّ قُوّةَ الكَونِ؟ وبماذا تَستُرُ هذه النّافِذةَ الواسِعةَ الَّتي تُبيِّنُ شُعاعاتِ الحَقِيقةِ مِن أَلفِ نافِذةٍ ونافِذةٍ، بل مِن نَوافِذَ بعَدَدِ المَخلُوقاتِ؛ وبأَيِّ غِطاءِ الغَفْلةِ يُمكِنُك أن تَستُرَها؟!
[نافذة 19: السموات والأرض ومن فيهن]
النَّافذة التَّاسعةَ عَشْرةَ
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾
نعم، مِثلَما أَوْدعَ الصّانِعُ الجَلِيلُ حِكَمًا لا تُعَدُّ، ومَعانِيَ سامِيةً لا تُحصَى في الأَجرامِ السَّماوِيّةِ، فزَيَّن تلك السَّماواتِ بكَلِماتِ الشُّمُوسِ والأَقمارِ والنُّجُومِ لِتُعَبِّـرَ عن جَلالِه وجَمالِه سُبحانَه.. كذلك رَكَّب جَلَّ وعَلا في مَوجُوداتِ جَوِّ السَّماءِ حِكَمًا عالِيةً، وعَلَّق علَيها مَعانِيَ سامِيةً، ومَقاصِدَ عُظمَى، وأَنطَقَ جَوَّ السَّماءِ بكَلِماتِ الرُّعُودِ والبُرُوقِ وقَطَراتِ الأَمطارِ لِيُعْلِمَ بها، ويُعَرِّفَ عن طَرِيقِها كَمالَ حِكْمَتِه، وجَمالَ رَحمَتِه.
ومِثلَما جَعَل سُبحانَه وتَعالَى كُرةَ الأَرضِ تَتَـكلَّمُ بكَلِماتٍ ذاتِ مَغزًى، وأَنطَقَها بما بَثَّ فيها مِنَ الحَيَواناتِ والنَّباتاتِ الَّتي هي كَلِماتٌ بَلِيغةٌ، مُبَيِّنًا بذلك كَمالَ صَنْعَتِه للوُجُودِ.. كذلك جَعَل النَّباتاتِ والأَشجارَ نَفسَها تَنطِقُ بلِسانِ أَوراقِها وأَزهارِها وثِمارِها، مُعلِنةً كَمالَ صَنْعَتِه سُبحانَه، وجَمالَ رَحمَتِه جَلَّ جَلالُه.. وجَعَل الزَّهرةَ أيضًا، والثَّمَرةَ كذلك -وهي كَلِمةٌ واحِدةٌ مِن تلك الكَلِماتِ- جَعَلها البارِئُ المُصَوِّرُ تَتَـكلَّمُ بلِسانِ بُذَيراتِها الدَّقِيقةِ، فأَشارَ بها سُبحانَه إلى دَقائِقِ صَنْعَتِه، وكَمالِ رُبُوبيَّتِه، لِمَن يُحسِنُ الرُّؤيةَ مِن ذَوِي الإحساسِ والشُّعُورِ.
فدُونَك -إن شِئتَ- الِاستِماعَ إلى ما لا يُحَدُّ مِن كَلِماتِ التَّسبِيحِ والأَذكارِ في الكَوْنِ.. وسنَستَمِعُ الآنَ إلى ذلك النَّمَطِ مِنَ الكَلامِ مُتَمثِّلًا في كَلامِ زَهرةٍ واحِدةٍ مِن بينِ أَزهارِ العالَمِ، وسنُصغِي إلى إفادةِ سُنبُلةٍ واحِدةٍ مِن بينِ سَنابِلِ الأَرضِ، لِنَزدادَ يَقِينًا كيفَ أنَّ هذا كُلَّه يَشهَدُ شَهادةً صادِقةً على مِصداقيّةِ التَّوحِيدِ.
نعم، إنَّ كلَّ نَباتٍ وكلَّ شَجَرٍ، دَلِيلٌ واضِحٌ على صانِعِه، وشاهِدُ صِدْقٍ على وَحْدانيّةِ خالِقِه بمُختَلِفِ الأَلسِنةِ، بحَيثُ إنَّ تلك الشَّهادةَ تَجعَلُ المُدَقِّقَ المُتَمعِّنَ فيها في حَيرةٍ وذُهُولٍ، فيقُولُ: يا سُبحانَ اللهِ!! ما أَجمَلَ شَهادةَ هذا على أَحَقِّيّةِ التَّوحِيدِ!
نعم، إنَّه واضِحٌ جَلِيٌّ كوُضُوحِ النَّباتِ نَفسِه، وجَمِيلٌ كذلك كجَمالِ النَّباتِ نَفسِه، تلك التَّسبِيحاتُ الَّتي يَهمِسُ بها كلُّ نَباتٍ في إشراقِ تَبَسُّمِه، عندَ تَفَتُّحِ زَهرِه، ونُضْجِ ثَمَرِه، وتَسَنبُلِ سُنبُلِه، لأنَّه بالثَّغرِ الباسِمِ لكُلِّ زَهرةٍ، وباللِّسانِ الدَّقِيقِ للسُّنبُل المُنتَظِمِ، وبكَلِماتِ البُذُورِ المَوزُونةِ، والحُبُوبِ المُنَسَّقةِ، يَظهَرُ “النِّظامُ” الَّذي يَدُلُّ على “الحِكْمةِ”..
وهذا النِّظامُ كما هو مُشاهَدٌ، في ثَنايا “مِيزانٍ” دَقِيقٍ حَسّاسٍ، يَدُلُّ على “العِلْمِ” ويُبيِّنُه ويُبْرِزُه.. وذلك “المِيزانُ” هو ضِمنَ “الصَّنعةِ الدَّقيقةِ” الَّتي تَدُلُّ على “المَهارةِ الفائِقةِ”.. وتلك الصَّنعةُ الدَّقِيقةُ والنُّقُوشُ البَدِيعةُ هي الأُخرَى ضِمنَ الزِّينةِ الرّائِعةِ الَّتي تُبيِّنُ “اللُّطفَ والكَرَمَ”.. وتلك الزِّينةُ البَهِيجةُ هي بدَورِها مُعَبَّقةٌ بالرَّوائِحِ الطَيِّبةِ الفَوّاحةِ، والعُطُورِ الزَّكيّةِ اللَّطِيفةِ الَّتي تُظهِرُ “الرَّحمةَ والإحسانَ”.
فتلك الأَوضاعُ والحالاتُ الَّتي لها مَعانٍ عَمِيقةٌ مُتداخِلةٌ ومُكتَنِفٌ بعضُها ببعضٍ، لِسانُ شَهادةٍ عُظمَى للتَّوحِيدِ، بحَيثُ تُعرِّفُ الصَّانِعَ ذا الجَمالِ بأَسمائِه المُقدَّسةِ الحُسنَى، وتَصِفُه بأَوصافِه الجَلِيلةِ السّامِيةِ، وتَشرَحُ وتُفَسِّرُ أَنوارَ تَجَلِّياتِ أَسمائِه الحُسنَى، وتُعبِّرُ عن تَوَدُّدِه وتَحَبُّبِه سُبحانَه وتَعالَى.
فلَئِنِ استَمَعْتَ إلى شَهادةٍ كهذه مِن زَهرةٍ واحِدةٍ فقط، وتَمَكَّنتَ مِنَ الإصغاءِ إلى الشَّهادةِ العُظمَى الصّادِرةِ مِن جَمِيعِ الأَزهارِ في جَمِيعِ البَساتِينِ الرَّبّانيّةِ على سَطْحِ الأَرضِ، واستَمَعتَ إلى ذلك الإعلانِ المُدَوِّي الهائِلِ الَّذي تُعلِنُه تلك الأَزهارُ في وُجُوبِ وُجُودِه سُبحانَه ووَحْدانيَّتِه، فهل تَبقَى لَدَيك ثَمّةَ غَفْلةٌ أو أيّةُ شُبهةٍ؟ وإن بَقِيَتْ لَدَيك غَفلةٌ، فهل يُمكِنُ أن يُطلَقَ علَيك بأنَّك إنسانٌ ذُو شُعُورٍ سامٍ مُتجاوِبٍ معَ مَشاعِرِ الكَوْنِ وأَحاسِيسِه؟!.
فتَعالَ لِنَتأَمَّلَ شَجَرةً.. نحنُ أَمامَ نُشُوءِ الأَوراقِ ونُمُوِّها في الرَّبيعِ بانتِظامٍ ودِقّةٍ مُتَناهِيةٍ، وأَمامَ تَفتُّحِ الأَزهارِ وخُرُوجِها مِن أَكمامِها بشَكلٍ مَوزُونٍ، وأَمامَ نُمُوِّ الثِّمارِ بحِكْمةٍ ورَحمةٍ.. فهَلَّا أَمْعَنْتَ النَّظَرَ في مَنظَرِ مُلاعَبةِ النَّسِيمِ للأَوراقِ برِقّةٍ وبَراءةٍ كبَراءةِ الطُّفُولةِ النَّقِيّةِ الرَّقيقةِ؟
وشاهِدْ مِن فَمِ الشَّجَرةِ، كيفَ تَنطِقُ هذه الأَلْسُنُ وتُفصِحُ عن حالِها؛ لِسانُ الأَوراقِ المُخضَرّةِ بِيَدِ الكَرَمِ.. ولِسانُ الأَزهارِ المُبتَسِمةِ بنَشوةِ اللُّطفِ.. ولِسانُ الثِّمارِ الفَرِحةِ بتَجَلِّي الرَّحمةِ.. كُلٌّ مِنها يُعَبِّـرُ عن ذلك “المِيزانِ” الدَّقيقِ العادِلِ الَّذي هو ضِمنَ “النِّظامِ” البَدِيعِ الحَكِيمِ، وفي هذا المِيزانِ الدَّقيقِ الَّذي يَدُلُّ على “العَدْلِ” نُقُوشُ صَنْعةٍ دَقيقةٍ بَدِيعةٍ، وزِينةٍ فائِقةٍ تَضُمُّ مَذاقاتٍ مُتَنوِّعةً، ورَوائحَ مُختَلِفةً طَيِّبةً لَطِيفةً، تَدُلُّ على الرَّحمةِ والإحسانِ، وفي تلك المَذاقاتِ اللَّطِيفةِ بُذُورٌ ونُوًى هي بِحَدِّ ذاتِها مُعجِزةٌ مِن مُعجِزاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ، ألا يَدُلُّ ذلك بوُضُوحٍ، ويُظهِرُ بجَلاءٍ وُجُوبَ وُجُودِ خالِقٍ كَرِيمٍ ورَحِيمٍ، مُحسِنٍ، مُنعِمٍ، مُجَمِّلٍ، مُفَضِّلٍ، واحِدٍ، أَحَدٍ، ويَشهَدُ كذلك على جَمالِ رَحمَتِه سُبحانَه وكَمالِ رُبُوبيَّتِه؟
فإنِ استَطَعتَ أن تَسمَعَ هذا مِن لِسانِ حالِ جَمِيعِ الأَشجارِ على سَطْحِ الأَرضِ معًا، فستَفْهَمُ، بل سَتَرَى كم مِنَ الجَواهِرِ الجَمِيلةِ النَّفيسةِ الرّائِعةِ في خَزِينةِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.﴾
فيا أيُّها الغافِلُ المِسكِينُ، ويا مَن يَظُنُّ نَفسَه هَمَلًا دُونَ حِسابٍ، ويا مَن يَغرَقُ في نُكرانِ الجَميلِ والكُفرانِ.. إنَّ الكَرِيمَ ذا الجَمالِ يُعرِّفُ نَفسَه ويُحَبِّـبُها إلَيك بهذا الحَشْدِ مِنَ الأَلسِنةِ الَّتي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، إن أَرَدتَ أن تَصرِفَ نَفسَك عن ذلك التَّعرِيفِ، فما علَيك إلَّا أن تُكَمِّمَ جَمِيعَ هذه الأَفواهِ، وتُسكِتَ تلك الأَلسِنةَ كافّةً، وأنَّى لك هذا!!
فما دامَ إسكاتُ تلك الأَلسِنةِ النّاطِقةِ بالتَّوحِيدِ غيرَ مُمكِنٍ، فما علَيك إلَّا الإصغاءُ والإنصاتُ إلَيها، وإلّا فلن تَنجُوَ بمُجَرَّدِ سَدِّ الأُذُنِ بأَصابِعِ الغَفلةِ، لأنَّ عَمَلَك هذا لا يُسكِتُ الكَونَ، فالكَونُ جَمِيعًا، والمَوجُوداتُ كافّةً ناطِقةٌ بالتَّوحِيدِ.. فدَلائِلُ التَّوحِيدِ وأَصداؤُه شَواهِدُ عَدْلٍ لا تَنقَطِعُ ولا تَنتَهِي أَبدًا، فلا بُدَّ أنَّها ستُدينُك.
[نافذة 20: العناصر الكلية والمخلوقات العظيمة]
النافذة العشرون2
إنَّ حَقيقةَ النافذةِ العشرين هذه وَرَدَت إلى القلبِ ذاتَ يومٍ باللُّغة العربيّة كما يأتي:
تَلَألُؤُ الضِّياء مِن تَنويرِك، تَشهِيرُك. تَمَوُّجُ الأَعصارِ مِن تَصريفِك، توظيفُك.. سُبحانَك ما أَعظَمَ سُلطانَك! تفجُّرُ الأنهارِ مِن تَدخِيرِك، تَسخِيرُك. تَزيُّنُ الأَحجارِ مِن تَدبِيرِك، تَصوِيرُك.. سُبحانَك ما أَبدَعَ حِكْمَتَك! تَبَسُّمُ الأَزهارِ مِن تَزيينِك، تَحسِينُك. تَبَرُّجُ الأَثمارِ مِن إنعامِك، إكرامُك.. سُبحانَك ما أَحسَنَ صَنْعتَك! تَسَجُّعُ الأَطيارِ مِن إنطاقِك، إرفاقُك. تَهزُّجُ الأَمطارِ مِن إنزالِك، إفضالُك.. سُبحانَك ما أَوسَعَ رَحمَتَك! تَحَرُّكُ الأَقمارِ مِن تَقدِيرِك، تَدبيرُك، تَدوِيرُك، تَنوِيرُك.. سُبحانَك ما أَنورَ بُرهانَك وأَبهَرَ سُلطانَك!
﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾
كما يُشاهَدُ كَمالُ الحِكْمةِ، وجَمالُ الإتقانِ في الجُزئيّاتِ والفَرْعيّاتِ، وفي النَّتائِجِ والفَوائِدِ، فإنَّ العَناصِرَ الكُلِّيّةَ، والمَخلُوقاتِ العَظِيمةَ الَّتي تَبدُو مُختَلِطةً ومُتَشابِكةً، وتُوهِمُ أنَّها لُعبةُ المُصادَفةِ، تَتَّخِذُ أَيضًا أَوضاعًا تَتَّسِمُ بالحِكْمةِ والإتقانِ، رَغمَ الِاختِلاطِ الظّاهِرِ علَيها.
فمَثلًا: النُّورُ أوِ الضَّوءُ، بدَلالةِ وَظائِفِه الحَكِيمةِ الأُخرَى إنَّما هو للإعلانِ عن مَصنُوعاتِ اللهِ سُبحانَه، وعَرْضِها بإذنِه أَمامَ الأَنظارِ. أي إنَّ الضَّوءَ مُسَخَّرٌ مِن لَدُنْ خالِقٍ حَكِيمٍ، ليُظِهرَ به سُبحانَه عَجائِبَ مَخلُوقاتِه، ويَعرِضَ تحتَ شُعاعِه بَدائِعَ مَصنُوعاتِه، في مَعارِضِ سُوقِ العالَمِ.
وانظُرِ الآنَ إلى الرِّياحِ؛ تَرَ أنَّها تَجرِي لإنجازِ وَظائِفَ مُهِمّةٍ وخِدْماتٍ جَلِيلةٍ، يَشهَدُ بهذا ما يُحَمَّلُ على وَظائِفِها الحَكِيمةِ مِن مَنافِعَ كَرِيمةٍ.. فمَوجاتُ الأَعاصِيرِ إذًا هي تَوظِيفٌ وتَصرِيفٌ وتَسخِيرٌ مِن لَدُنِ الخالِقِ الحَكِيمِ، وما يُشَاهَدُ مِن عَصْفِها وشِدّةِ هُبُوبِها، فلِإِسراعِها في تَنفِيذِ الأَوامِرِ الرَّبّانيّةِ وامتِثالِها لِحُكمِها.
وانظُرِ الآنَ إلى اليَنابِيعِ والجَداوِلِ والأَنهارِ، وتَأَمَّلْ في تَفَجُّرِها مِنَ الأَرضِ أوِ الجِبالِ، تَجِدْ أنَّه لا مُصادَفةَ فيها ولا عَبَثَ قطُّ؛ إذ تَتَرتَّبُ علَيها الفَوائِدُ والمَصالِحُ الَّتي هي آثارُ رَحمةٍ إلٰهِيّةٍ واضِحةٍ، أمّا النَّتائِجُ الحاصِلةُ مِنها فهي مَوزُونةٌ مَحسُوبةٌ؛ وكذلك ادِّخارُها وخَزْنُها في الجِبالِ إنَّما يَجرِي ضِمنَ حِسابٍ دَقِيقٍ، ووَفْقَ حاجاتِ الأَحياءِ، ومِن بعدِ ذلك تَفجِيرُها وإرسالُها بمِيزانٍ هو الغايةُ في الحِكْمةِ.. كلُّ ذلك دَلالاتٌ وشَواهِدُ ناطِقةٌ أنَّ ذلك التَّسخِيرَ والِادِّخارَ إنَّما يَتِمُّ مِن لَدُنْ رَبٍّ حَكِيمٍ.. وما نَراه مِن شِدّةِ فَوَرانِها وتَفَجُّرِها مِنَ الأَرضِ إنَّما هو تَوْقُها العَظِيمُ لِامتِثالِ الأَوامِرِ الرَّبَّانيّةِ حالَ صُدُورِها.
وانظُرِ الآنَ إلى أَنواعِ الأَحجارِ، وأَشكالِ الصُّخُورِ، ودَقائِقِ الجَواهِرِ، وصِفاتِ المَعادِنِ، وتَأَمَّلْ في تَزيِيناتِها ومَزاياها الَّتي تَتَرتَّبُ علَيها مَنافِعُ شَتَّى، تَجِدْ أنَّ ما يَتَعلَّقُ بها مِن فَوائِدَ حَكِيمةٍ، ومِنِ انسِجامٍ تامٍّ بينَ نَتائِجِها الَّتي تَصِيرُ إلَيها ومُقتَضَياتِ الحَياةِ، ومِن ثَمَّ مُلاءَمَتِها لِمُتَطلَّباتِ الإنسانِ، وقَضائِها لِحاجاتِه وحاجاتٍ أُخرَى للأَحياءِ.. كلُّ ذلك دَلالاتٌ على أنَّ ذلك التَّزيِينَ والتَّنظِيمَ والتَّدبِيرَ والتَّصوِيرَ، إنَّما هو مِن لَدُنْ رَبٍّ حَكِيمٍ.
وانظُرِ الآنَ إلى الأَزهارِ والأَثمارِ، تَجِدْ أنَّ بِشْرَ وُجُوهِها، وحَلاوةَ مَطعُوماتِها، وجَمالَها الأَخّاذَ، ونُقُوشَها البَدِيعةَ، وشَذَى عِطْرِها الطَّـيِّبِ، كلُّها بمَثابةِ دُعاةٍ وأَدِلّاءَ إلى ضِيافةِ الرَّبِّ الكَرِيمِ، والمُنعِمِ الرَّحِيمِ.. وهي رَسائِلُ تَعرِيفٍ به بينَ يَدَي مَوائِدِه المَنصُوبةِ على الأَرضِ كافَّةً. فكُلُّ لَونٍ مِنَ الأَلوانِ المُختَلِفةِ، وكلُّ رائِحةٍ مِنَ الرَّوائِحِ المُتَنوِّعةِ، وكلُّ طَعْمٍ مِنَ الطُّعُومِ المُتَبايِنةِ، يَدُلُّ على ذلك الخالِقِ الكَرِيمِ، ويُعرِّفُ ذلك المُنعِمَ الرَّحِيمَ بلِسانِه الخاصِّ.
وانظُرِ الآنَ إلى الطُّيُورِ، فمُناجاةُ بعضِها بعضًا، وما تَسكُبُه في لُحُونِها مِن أَشجانٍ -مِمّا يَأْخُذُ بالأَلبابِ- يدُلُّ على أنَّ هَدِيلَها وتَغرِيدَها وزَقْزَقَتَها لَيسَ إلَّا مِن إنطاقِ خالِقٍ حَكِيمٍ.
وانظُرِ الآنَ إلى السُّحُبِ الثِّقالِ، تَجِدْ أنَّ صَوْتَ أَهازِيجِ الأَمطارِ المُنسَكِبةِ مِنها، وجَلْجَلةَ رُعُودِ السَّماءِ ليس عَبَثًا قطُّ؛ إذ إنَّ إحداثَ تلك الأَصواتِ العَجِيبةِ في فَضاءٍ واسِعٍ، وإنزالَ قَطَراتٍ باعِثةٍ على الحَياةِ، وعَصْرَها مِنَ السُّحُبِ الثِّقالِ، وإرضاعَ الأَحياءِ بها، وإغاثةَ المُتَلهِّفين علَيها، تُبيِّنُ بوُضُوحٍ أنَّ تلك الأَهازِيجَ والجَلْجَلةَ تَحمِلُ مِنَ الحِكَمِ البَليغةِ والمَغزَى العَمِيقِ، حتَّى لَكأَنَّ تلك القَطَراتِ تَهتِفُ بأَمرِ الرَّبِّ الكَرِيمِ بأُولَئك العِطاشِ المُستَغِيثين قائِلةً: بُشْراكُم.. ها نحنُ مُقبِلُون إلَيكُم مِن رَبٍّ رَحِيمٍ.
وانظُرِ الآنَ إلى السَّماءِ، وتَمَعَّنْ في القَمَرِ وَحْدَه، مِن بينِ أَجرامِ السَّماءِ الَّتي لا حَصْرَ لها، تَجِدْ أنَّ حَرَكاتِها جَمِيعًا -ومِن ضِمْنِها القَمَرُ- مُنَسَّقةٌ أَجمَلَ تَنسِيقٍ وأَحكَمَه، ومُقَدَّرةٌ أَعظَمَ تَقدِيرٍ بِيَدِ قَدِيرٍ حَكِيمٍ، إذ تَتَعلَّقُ علَيها حِكَمٌ غَزِيرةٌ، وَثِيقةُ الصِّلةِ بالأَرضِ. وحيثُ إنَّنا قد فَصَّلْنا هذا في مَوضِعٍ آخَرَ، نَكتَفِي هنا بهذا القَدْرِ.
وهكذا يَفتَحُ كُلٌّ مِمّا ذَكَرناه مِنَ العَناصِرِ الكُلِّيّةِ، ابتِداءً مِنَ الضَّوءِ وانتِهاءً بالقَمَرِ، نافِذةً واسِعةً جِدًّا تُبيِّنُ وُجُودَ اللهِ سُبحانَه، وتُظهِرُ وَحدانيَّتَه، وتُعلِنُ عن كَمالِ قُدرَتِه وعَظَمةِ سَلطَنَتِه، بمِقياسٍ أَعظَمَ وأَكبَرَ وبأَلوانٍ شَتَّى، وأَنواعٍ مُختَلِفةٍ.
فيا أيُّها الغافِلُ.. إن كُنتَ تَقدِرُ على إسكاتِ هذه الأَصواتِ المُدَوِّيةِ كرُعُودِ السَّماءِ، وإن كُنتَ تَستَطِيعُ أن تُطفِئَ هذه الأَضواءَ السّاطِعةَ، فيُمكِنُك عِندَئذٍ أن تَنسَى الخالِقَ الكَرِيمَ.. وإلّا فعُدْ إلى رُشْدِك، وتَوَجَّهْ إلى شَطْرِ عَقْلِك وقُلْ: سُبحانَ مَن ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾.
[نافذة 21: آية الشمس]
النَّافِذة الحَادِية والعِشرُون
﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾
إنَّ الشَّمسَ الَّتي هي سِراجُ هذه الكائِناتُ، إنَّما هي نافِذةٌ مُضِيئةٌ ساطِعةٌ كنُورِها، تَتَطلَّعُ مِنها المَخلُوقاتُ إلى وُجُودِ خالِقِ الكَونِ ووَحدانيَّتِه.
فالسَّيّاراتُ الِاثنَتا عَشْرةَ معَ كُرَتِنا الأَرضِيّةِ، والَّتي يُطلَقُ علَيها اسمُ “المَنظُومةِ الشَّمسِيّةِ” تَجرِي بنِظامٍ مُتقَنٍ، وَفْقَ حِكْمةٍ تامَّةٍ، وحَسَبَ مِيزانٍ دَقِيقٍ، رَغْمَ الِاختِلافِ الشَّدِيدِ فيما بَينَها، مِن حَيثُ كُتَلُها وأَجرامُها ومِن حيثُ صِغَرُها وكِبَرُها، ورَغْمَ التَّفاوُتِ الواسِعِ فيما بَينَها مِن حَيثُ قُربُها وبُعدُها مِنَ الشَّمسِ، ورَغْمَ التَّنوُّعِ الهائِلِ في حَرَكاتِها وسُرعاتِها.
نعم، فرَغْمَ هذا كلِّه تَجرِي السَّيّاراتُ في أَفلاكِها سابِحةً مَشدُودةَ الوِثاقِ بالشَّمسِ، مُرتَبِطةً معَها بقانُونٍ إلٰهِيٍّ، هذا القانُونُ هو الَّذي يُطلِقُ علَيه عُلَماءُ الفَلَكِ اسمَ “الجاذِبِيّةِ”.. فهي تَجرِي بنِظامٍ دَقِيقٍ دُونَ خَطَأٍ، ولو بمِقدارِ ثانيةٍ واحِدةٍ، وتَنقادُ انقِيادًا تامًّا، وبطاعةٍ مُطلَقةٍ لِهذا القانُونِ، كانقِيادِ المُصَلِّين المَأْمُومين لإمامِهم.. وهذا دَليلٌ وأيُّ دَليلٍ، بأَوسَعِ مِقياسٍ وأَعظَمِه، على عَظَمةِ القُدرةِ الرَّبّانيّةِ ووَحدانيّةِ الرُّبُوبيّةِ.. فإنِ استَطَعتَ أن تُقدِّرَ عَظَمةَ هذا الأَمرِ بنَفسِك فافْعَلْ، لِتَرَى مَدَى العَظَمةِ والحِكْمةِ في جَعْلِ تلك الأَجرامِ الجامِدةِ وتلك الكُتَلِ الهائِلةِ -وهي بلا شُعُورٍ- تَجرِي في مُنتَهَى النِّظامِ وكَمالِ المِيزانِ، وفي غايةِ الحِكْمةِ، وعلى صُوَرٍ مُتَبايِنةٍ، وضِمنَ مَسافاتٍ مُختَلِفةٍ، وبحَرَكاتٍ مُتَنوِّعةٍ، ومِن بعدِ ذلك تَسخِيرِها جَمِيعًا وَفْقَ نِظامٍ بَدِيعٍ رائِعٍ!
فلو كان للمُصادَفةِ أيُّ تَدَخُّلٍ -مَهما كان ضَئِيلًا- في مِثلِ هذه الأُمُورِ الجِسامِ، لَتَوَقَّعْنا حُدُوثَ أَخطاءٍ تَنجُمُ عنها انفِلاقاتٌ كَوْنيّةٌ عَظِيمةٌ، واصْطِداماتٌ هائِلةٌ، تُدَمِّرُ الكَونَ وتَجعَلُه هَباءً مَنثُورًا، لأنَّه لو سُمِحَ للمُصادَفةِ أن تَلعَبَ لُعبَتَها، فلَرُبَّما تُوقِفُ أَحَدَ هذه الأَجرامِ الهائِلةِ، وتُخرِجُه عن مِحوَرِه، وبذلك تُمَهِّدُ السَّبِيلَ لِاصطِداماتٍ لا حَدَّ لها بينَ أَجرامٍ لا يَحصُرُها العَدُّ.. فقَدِّرْ إذًا مَدَى الهَوْلِ المُرِيعِ النّاجِمِ مِنِ اصطِدامِ أَجرامٍ أَضخَمَ مِن كُرَتِنا الأَرضِيّةِ بآلافِ الأَضعافِ.
سنُفَوِّضُ عَجائِبَ أُمُورِ المَنظُومةِ الشَّمسِيّةِ وغَرائِبَها إلى العِلْمِ الإلٰهِيِّ، المُحِيطِ بكُلِّ شَيءٍ، ونَحصُرُ ذِهنَنا في تَأَمُّلِ كُرَتِنا الأَرضِيّةِ، الَّتي هي مَأْمُورةٌ واحِدةٌ مِن تلك السَّيّاراتِ الِاثنَتَيْ عَشْرةَ، وثَمَرةٍ مِنَ الثِّمارِ اليانِعةِ لِشَجَرةِ الشَّمسِ، فنَرَى أنَّ سَيّارَتَنا هذه تُسَخَّرُ بأَمرٍ رَبَّانِيٍّ -كما بَيَّنّاه في “المَكتُوبِ الثّالِثِ”- لِأَجلِ أن تَنهَضَ بخِدْماتٍ جَلِيلةٍ، ومَهامَّ جَسِيمةٍ خِلالَ سَيْرٍ وتَجْوالٍ طَوِيلٍ، فتَدُورُ حَوْلَ الشَّمسِ لتُظهِرَ بجَرْيِها ودَوَرانِها هذا عَظَمةَ الرُّبُوبيّةِ وكِبْرِياءَ الأُلُوهيّةِ، وكَمالَ الرَّحمةِ والحِكْمِة.. فكأنَّ الأَرضَ سَفِينةٌ عَظِيمةٌ لِرَبِّ العالَمِين مَشحُونةٌ بعَجائِبِ مَخلُوقاتِه سُبحانَه، أو هي كمَسْكَنٍ مُتَجوِّلٍ لِذَوِي الحَياةِ والشُّعُورِ مِن عِبادِه، أَسكَنَهم فيها، ويُجرِيهم بها للنُّزهةِ والتَّفَرُّجِ في أَرجاءِ الفَضاءِ هذا.
والقَمَرُ أَيضًا كأنَّه عَقارِبُ ساعةٍ مَشدُودةٌ بالأَرضِ تَدُلُّنا على الزَّمَنِ والأَوقاتِ، وقد أُعطِيَتْ له مَهامُّ أُخرَى -عَدا مُهِمّةِ كَونِه ساعةً للأَرضِ- في مَنازِلَ أُخرَى مِن هذا الفَضاءِ.
وهكذا يَتَبيَّنُ أنَّ سَيّارَتَنا المُبارَكةَ هذه، قد أُعطِيَت مِنَ الحِكَم الدَّقِيقةِ، والوَظائِفِ الجَلِيلةِ في سِياحَتِها هذه، مِمّا يُثبِتُ ويَدُلُّ بأَوضاعِها، ويَشهَدُ شَهادةً قَوِيّةً كقُوّةِ الأَرضِ وعَظَمَتِها على القَدِيرِ المُطلَقِ القُدرةِ، وعلى وَحْدانيَّتِه سُبحانَه.. وقِسِ البَقِيّةَ على أَرضِنا.
ثمَّ إنَّ جَعْلَ السَّيّاراتِ تَدُورُ دَوَرانًا حَكِيمًا حَوْلَ مِحْوَرِ الشَّمسِ، وشَدَّها بعُرًى مَعنَوِيّةٍ -يُطلَقُ علَيها اسمُ الجاذِبيّةِ- بالشَّمسِ، ومِن بعدِ ذلك تَنظِيمَ إدارَتِها، وتَنسِيَق أَمرِها جَمِيعًا، لا يَتِمُّ إلَّا بتَقدِيرِ القَدِيرِ الحَكِيمِ، فَضلًا عن أنَّ سَوْقَ الشَّمسِ لِتَجرِيَ بسُرعةٍ مُذهِلةٍ فتَقطَعَ مَسافةَ خَمسِ ساعاتٍ في ثانيةٍ واحِدةٍ إلى بُرجِ “هِرَقلَ” أو نحوَ “شَمسِ الشُّمُوسِ”، حَسَبَ تَقدِيرِ العُلَماءِ، ليس إلَّا بأَمرِ سُلطانِ الأَزَلِ والأَبدِ، وبقُدرَتِه المُطلَقةِ، وكأنَّه سُبحانَه يَستَعرِضُ بجَيشِ المَنظُومةِ الشَّمسِيّةِ وجُنُودِها المُنقادِينَ لِأَمرِه مُناوَرةً عَسكَرِيّةً إظهارًا لِعَظَمةِ رُبُوبيَّتِه للعالَمِين أَجمَعَ.
فيا مَن يَرَى نَفسَه أنَّه قد تَعَلَّم شَيْئًا مِنَ الفَلَكِ.. قُل لي برَبِّك أَيُمكِنُ لِمُصادَفةٍ أن يكُونَ لها شَأْنٌ في أُمُورٍ عَظِيمةٍ كهذه؟ أم يُمكِنُ لِسَبَبٍ مِنَ الأَسبابِ الَّتي تَراها ذا تَأْثيرٍ في حَوادِثِ الأَكوانِ أن يَصِلَ بيَدِه إلَيها؟! أو لِقُوّةٍ أيًّا كانَت أن تَدنُوَ مِنها؟
هل تَعتَقِدُ أنَّ سُلطانًا ذا عِزّةٍ وجَلالٍ يَسمَحُ لِشَريكٍ -أيًّا كان- أن يَتَدخَّلَ في أَمرِ مُلْكِه العَظِيمِ، مُظهِرًا بذلك عَجْزَه وقُصُورَه؟! حاشَ للهِ وكَلّا؛ أو هل يُمكِنُ أن يُسلِّمَ سُبحانَه أُمُورَ ذَوِي الحَياةِ الَّذين هم ثَمَرةُ الكَونِ ونَتيجَتُه وغايَتُه وخُلاصَتُه إلى الأَغيارِ؟! أو يَسمَحَ -ولو بمِقدارٍ ضَئِيلٍ- بمُداخَلةِ هذه الأَغيارِ في شُؤُونِه الحَكِيمةِ؟ وهل يَتْرُكُ سُدًى خُلاصةَ تلك الثَّمَراتِ، وأَكملَ نَتائِجِها، وخَلِيفةَ الأَرضِ، والضَّيفَ المُكَرَّمَ للسُّلطانِ -أي: الإِنسانَ- وهل يُسَلِّمُ أَمرَه إلى الطَّبِيعةِ والمُصادَفةِ، فيَهوِيَ بذلك بعَظَمةِ سَلْطَنتِه وكَمالِ حِكْمتِه؟! حاشَ للهِ وكَلَّا.. وتَعالَى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كَبِيرًا.
[نافذة 22: آية الكرة الأرضية]
النَّافِذة الثَّانِية والعشرُون
﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * خَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾
﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
لو تَصَوَّرْنا أنَّ الكُرةَ الأَرضِيّةَ رَأسُ مَخلُوقٍ عَظِيمٍ، فإنَّنا نَجِدُ في هذا الرَّأسِ الهائِلِ في الكِبَرِ مِئةَ أَلفِ فَمٍ، وكلُّ فَمٍ له مِئةُ أَلفِ لِسانٍ، وكلُّ لِسانٍ يُبيِّنُ بمِئةِ أَلفِ بُرهانٍ الواجِبَ الوُجُودِ، الواحِدَ الأَحَدَ، القَدِيرَ على كلِّ شَيءٍ، والعَلِيمَ بكُلِّ شَيءٍ؛ وكلُّ لِسانٍ يَنطِقُ بمِئةِ أَلفِ شَهادةٍ صادِقةٍ على وَحْدانيَّتِه سُبحانَه، وأَوصافِه المُقدَّسةِ وأَسمائِه الحُسنَى.
فها نَنظُرُ إلى الأَرضِ في بِدايةِ خَلْقِها، فهِي في حالةٍ مِنَ السُّيُولةِ والمُيُوعةِ، فخُلِقَت مِنها الصُّخُورُ الصَّمّاءُ، وخُلِقَ مِنها التُّرابُ.. فلَو كانَتِ الأَرضُ باقِيةً على حالَتِها الأُولَى مِنَ المُيُوعةِ لَتَعذَّرَتِ الحَياةُ علَيها، ولَتَعذَّرَ اتِّخاذُها مَسْكَنًا صالِحًا لِأَيِّ نَوعٍ مِن أَنواعِ السُّكْنَى.. ولو كانَت تلك الصَّخرةُ المَهُولةُ الصَّلْدةُ -المُتَحوِّلةُ مِنَ المُيُوعةِ- باقِيةً على صَلابَتِها لَتَعسَّرَتِ الِاستِفادةُ مِنها.
إذًا فالَّذي مَنَح الأَرضَ وَضْعًا مُلائِمًا للعَيشِ لا بُدَّ أن يكُونَ ذلك الخالِقَ الحَكِيمَ الَّذي يَرَى بحِكْمَتِه المُطلَقةِ مَن في الأَرضِ جَمِيعًا، ويُهَيِّئُ لهم حاجاتِهم كافّةً.
ثمَّ نَتَأمَّلُ الجِبالَ الشَّامِخاتِ الَّتي تَسنُدُ الأَرضَ وتُمسِكُها وتَشُدُّ كِيانَها في أَثناءِ دَوَرانِها: فنَرَى أنَّ انقِلاباتٍ هائِلةً تَحدُثُ في جَوفِ الأَرضِ، وهذه الِانقِلاباتُ يَتَولَّدُ عنها الكَثِيرُ مِنَ الغازاتِ والأَبخِرةِ فتَنفُثُها وتَزفِرُها مِن خِلالِ الجِبالِ على صُورةِ زَلازِلَ وبَراكِينَ، كيلا يَصرِفَها عنِ القِيامِ بحَرَكَتِها المُنتَظِمةِ وأَداءِ مُهِمّاتِها الأَساسِيّةِ ما يَحدُثُ في جَوْفِها مِن أَحداثٍ؛ كما أنَّها تُشَكِّلُ بارتِفاعاتِ سُفُوحِها سُدُودًا أَمامَ طُغيانِ البِحارِ على تُرابِها، ولِتُصبِحَ خَزائِنَ احتِياطِيّةً لِحاجاتِ الأَحياءِ، ولِتَمشِيطِ الهَواءِ وتَصفِيَتِه مِنَ الغازاتِ المُضِرّةِ لِيُصبِحَ صالِحًا للتَّنفُّسِ، ولِتَجمَعَ شَتاتَ الماءِ مِن كلِّ مَكانٍ وتَدَّخِرَه للأَحياءِ، ولِتكُونَ كُنُوزًا لِمَعادِنَ مُتَنوِّعةٍ تَتَوقَّفُ علَيها إدامةُ حَياةِ الكائِناتِ.
فهذه الأَوضاعُ وكَثِيرٌ غَيرُها، تَشهَدُ شَهادةً ناطِقةً على القَدِيرِ المُطلَقِ والحَكِيمِ والرَّحِيمِ وعلى وَحْدانيَّتِه سُبحانَه.
فيا أيُّها المُتَباهي بعِلْمِ الجُغرافيا.. قُلْ لي كيفَ تُفَسِّرُ هذه الأُمُورَ؟ أيّةُ مُصادَفةٍ يُمكِنُها أن تُمسِكَ بزِمامِ الأَرضِ المَشحُونةِ بالمَصنُوعاتِ العَجِيبةِ، وتَجعَلَها تَسبَحُ في فَضاءٍ تَقطَعُ فيه مَسافةَ أَربَعٍ وعِشرِين سَنةً في سَنةٍ واحِدةٍ، دُونَ أن يَتَبَعثَرَ ما علَيها مِن مَعارِضِ العَجائِبِ؟!
ثمَّ أَمعِنِ النَّظَرَ فيما على الأَرضِ مِن بَدِيعِ الصَّنائِعِ، وكيفَ أنَّ العَناصِرَ كُلَّها قد سُخِّرَت لِمَهامَّ حَكِيمةٍ، حتَّى تَراها كأنَّها تَنظُرُ نَظْرةَ إجلالٍ واحتِرامٍ إلى ضُيُوفِ القَدِيرِ الحَكِيمِ، الجالِسِين حَوْلَ مائِدةِ الأَرضِ، فتُهرَعُ إلى خِدْمَتِهم جَمِيعًا.
ثمَّ أَمعِنِ النَّظَرَ في مَلامِحِ الأَرضِ وسِيمائِها، وفي مُطَرَّزاتِ تَعارِيجِها، ونُقُوشِ انحِناءاتِ سَطْحِها، والْتِواءاتِ جِسْمِها، ولاحِظْ شَكْلَها وأَلْوانَها الزَّاهِيةَ المُتَنوِّعةَ بتَنَوُّعِ تُربَتِها، والَّتي تَتَّسِمُ بالحِكْمةِ والإبداعِ، وتُثِيرُ الحَيرةَ والإعجابَ.. فدُونَك الأَنهارَ والسَّواقِيَ والبِحارَ والجَداوِلَ وسُفُوحَ الجِبالِ، فإنَّها كُلَّها قد هُيِّـئَت ومُهِّدَت لِتكُونَ سَكَنًا للمَخلُوقاتِ، ووَسائِطَ نِقْلِهم مِن مَكانٍ إلى آخَرَ.
ثمَّ ألا تَرَى أنَّ مَلْأَها -يَعنِي الأَرضَ- بكَمالِ الحِكْمةِ والنِّظامِ البَدِيعِ بمِئاتِ الأُلُوفِ مِن أَجناسِ النَّباتاتِ وأَنواعِ الحَيَواناتِ وبَعْثَ الحَياةِ البَهِيجةِ فيهِم، ثُمَّ إِعفاءَهم بالمَوتِ مِن وَظائِفِهم الَّتي كانوا يَقُومُون بها.. هذه الظَّاهِرةُ تَتَوالَى وتَتْرَى بانتِظامٍ دَقِيقٍ.. حتَّى إذا أُفرِغَتِ الأَرضُ مِنها بُوشِرَ مُجَدَّدًا بمَلْئِها.. ألا يَعنِي هذا أنَّ “البَعْثَ بعدَ المَوتِ” حَقٌّ لا رَيبَ فيه؟ أوَلَيسَت كلُّ هذه الظَّواهِرِ شَهاداتٌ صادِقةٌ ناطِقةٌ بمِئاتِ الآلافِ مِنَ الأَلسِنةِ على القَدِيرِ ذِي الجَلالِ، الحَكِيمِ ذِي الكَمالِ، وعلى وَحْدانيَّتِه سُبحانَه؟!
والخُلاصةُ أنَّ الأَرضَ الَّتي هي بمَثابةِ قَلْبِ الكَونِ، قد أَصبَحَت مَشْهَرًا لِعَجائِبِ مَصنُوعاتِ اللهِ البَدِيعةِ، ومَحْشَرًا لِغَرائِبِ مَخلُوقاتِه الجَمِيلةِ، ومَمَرًّا لِقافِلةِ مَوجُوداتِه الوَفيرةِ، ومَسجِدًا لِعِبادِه المُتَراصِّين صُفُوفًا علَيها، ومَقَرًّا لِأَداءِ عِباداتِهم.. هذه الأَرضُ تُظهِرُ مِن شُعاعِ التَّوحِيدِ ما يَمْلَأُ الكَونَ نُورًا وضِياءً.
فيا أيُّها المُعتَدُّ بعِلمِ الجُغرافيا.. إذا كان رَأسُ الأَرضِ هذه يُعرِّفُ رَبَّ العالَمِين بمِئةِ أَلفِ فَمٍ، وفي كلِّ فَمٍ مِئةُ أَلفِ لِسانٍ، وأنت تُعرِضُ عن هذا التَّعرِيفِ، وتَغمِسُ رَأسَك في مُستَنقَعِ الطَّبِيعةِ، ففَكِّرْ إذًا في مَصِيرِ جَرِيمَتِك، إلى أيِّ عِقابٍ يَسُوقُك هذا الإعراضُ والإنكارُ؟! احذَرْ وانتَبِهْ وارْفَعْ رَأسَك مِنَ المُستَنقَعِ الآسِنِ، وقُلْ: “آمَنتُ باللهِ الَّذي بيَدِه مَلَكُوتُ كلِّ شَيءٍ”.
[نافذة 23: معجزة الحياة]
النَّافِذة الثَّالِثة والعشرُون
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾
إنَّ الحَياةَ هي أَسطَعُ مُعجِزةٍ مِن مُعجِزاتِ القُدرةِ الرَّبّانيّةِ وأَجمَلُها، وأَقوَى بُرهانٍ مِن بَراهِينِ الوَحدانيّةِ وأَبهَرُها، وأَجمَعُ مِرآةٍ مِن مَرايا تَجَلِّياتِ الصَّمَدانيّةِ وأَلمَعُها.
نعم، إنَّ الحَياةَ وَحْدَها تُبيِّنُ الحَيَّ القَيُّومَ بأَسمائِه الحُسنَى وصِفاتِه الجَلِيلةِ وشُؤُونِه الحَكِيمةِ.
فالحَياةُ كالنُّورِ.. فكَما أنَّ نُورَ الشَّمسِ يَحصُلُ مِنِ امتِزاجِ الأَلوانِ السَّبعةِ لِطَيفِ الشَّمسِ، كذلك “الحَياةُ” تَحصُلُ مِنِ امتِزاجِ صِفاتٍ كَثِيرةٍ امتِزاجًا دَقِيقًا.. وهي -أي: الحَياةُ- كدَواءٍ ناتِجٍ مِنِ امتِزاجِ مَوادَّ كَثِيرةٍ مُتَنوِّعةٍ امتِزاجًا مُقَدَّرًا تَقدِيرًا مُحكَمًا.
فالحَياةُ إذًا حَقِيقةٌ مُرَكَّبةٌ مِن صِفاتٍ كَثِيرةٍ جِدًّا.. فقِسمٌ مِن صِفاتِ تلك الحَقِيقةِ تَنبَسِطُ وتَنكَشِفُ ويَظهَرُ تَمايُزُها واختِلافُها بعضًا عنِ البَعضِ الآخَرِ، مِن خِلالِ مَسِيلِها في قَنَواتِ الحَواسِّ، الَّتي تَأْخُذُ كلُّ حاسّةٍ مِنها لَوْنًا مِن أَلوانِ هذه الصِّفاتِ؛ أمّا القِسمُ الأَعظَمُ مِنها فإنَّه يُعلِنُ عن نَفسِه مِن خِلالِ الأَحاسِيسِ المُفعَمةِ “بالحَياةِ”.
ثمَّ إنَّ “الحَياةَ” تَتَضمَّنُ الرِّزقَ والرَّحمةَ والعِنايةَ والحِكْمةَ، الَّتي كلٌّ مِنها سارِيةٌ في الكائِناتِ ومُهيمِنةٌ على أَمرِها وخَلْقِها وتَدبِيرِها، فكأَنَّ الحَياةَ تَقُودُ أُولَئك جَمِيعًا معَها أَينَما حَلَّت، إذ حالَما تَحُلُّ “الحَياةُ” في أيِّ جِسمٍ، إذا باسمِ “الحَكِيمِ” يَتَجلَّى فيه أيضًا، حيثُ يَشرَعُ ببِناءِ عُشِّه بِناءً مُتقَنًا ويُنَظِّمُه تَنظِيمًا حَكِيمًا؛ وفي الوَقتِ نَفسِه يَتَجلَّى اسمُ “الكَرِيمِ” أيضًا حيثُ يُرتِّبُ مَسكَنَه ويُنَسِّقُه ويُزَيِّنُه وَفقَ حاجاتِه، ويَظهَرُ آنَئذٍ اسمَ “الرَّحِيمِ” مُتَجلِّيًا أيضًا، فيُسبِغُ أَفضالَه وأَلطافَ إنعامِه لإدامةِ الحَياةِ وبُلُوغِ كَمالِها، وفي الوَقتِ نَفسِه يَتَجلَّى اسمُ “الرَّزَّاقِ” بادِيًا للعِيانِ، حيثُ يُهيِّئُ المُقَوِّماتِ الغِذائيّةَ -المادِّيّةَ والمَعنَوِيّةَ- لِبَقاءِ تلك الحَياةِ وانبِساطِها، بل يَدَّخِرُ قِسمًا مِنها في الجِسمِ.
أي إنَّ الحَياةَ كالبُؤْرةِ الَّتي تَتَجمَّعُ فيها الأَشِعّةُ الضَّوئيّةُ المُختَلِفةُ، فتَتَداخَلُ الصِّفاتُ المُتَنوِّعةُ في الحَياةِ بعضُها في بعضٍ تَداخُلًا يَجعَلُ كلَّ صِفةٍ مِنها عَيْنَ الأُخرَى، فكأَنَّ الحَياةَ بكامِلِها “عِلْمٌ” كما أنَّها “قُدرةٌ” في الوَقتِ نَفسِه، وهي “حِكْمةٌ” و”رَحْمةٌ” سَواءً بسَواءٍ..
وهكَذا أَصبَحَتِ “الحَياةُ” بِناءً على ماهِيّاتِها الجامِعةِ هذه، مِرآةً تَعكِسُ “الصَّمَدانيّةَ” الَّتي تَتَمثَّـلُ فيها شُؤُونُ الذّاتِ الرَّبّانيّةِ؛ ومِن هذا السِّرِّ أَيضًا نَجِدُ أنَّ “الحَيَّ القَيُّومَ” جَلَّ وعَلا، قد خَلَق الحَياةَ بكَثرةٍ هائِلةٍ، ووَفْرةٍ شامِلةٍ، وبَثَّها في أَرجاءِ الوُجُودِ كافّةً، جاعِلًا كلَّ شَيءٍ يَحُومُ حَوْلَ الحَياةِ، ويُسَخَّرُ لِأَجلِها، فلا غَرْوَ أنَّ وَظِيفةَ الحَياةِ جَلِيلةٌ.
نعم، إنَّ القِيامَ بأَداءِ مُهِمّةِ “المِرآةِ العاكِسةِ” لِتَجَلِّياتِ “الصَّمَدانيّةِ” ليس أَمرًا سَهْلًا ولا وَظِيفةً هَيِّنةً، إذ نَرَى أَمامَنا ماثِلةً للعِيانِ أَنواعًا لا تُعَدُّ ولا تُحصَى مِنَ “الحَياةِ” تُخلَقُ كلَّ حِينٍ، وإنَّ أَرواحَها الَّتي هي أُصُولُها وذَواتُها، تُخلَقُ دُفعةً واحِدةً مِنَ العَدَمِ، وتُرسَلُ أَنواعًا غَفِيرةً مِنَ الأَحياءِ إلى مَيدانِ الحَياةِ مُباشَرةً.. ألا يَدُلُّ كلُّ هذا على وُجُوبِ وُجُودِ ذاتِ الجَلِيلِ الأَقدَسِ و”الحَيِّ القَيُّومِ” الَّذي له الصِّفاتُ القُدسِيّةُ والأَسماءُ الحُسنَى أَوضَحَ مِن دَلالةِ لَمَعانِ أَشياءِ الأَرضِ على الشَّمسِ؟
فكَما أنَّ الَّذي لا يَعتَقِدُ بوُجُودِ الشَّمسِ، ويَتَجاهَلُ صِفاتِها المُشاهَدةَ على الأَشياءِ، لا شَكَّ أنَّه مُضطَرٌّ إلى إنكارِ النَّهارِ المَلِيءِ بنُورِ الشَّمسِ، كذلك الَّذي لا يَعتَقِدُ بوُجُودِ شَمسِ الأَحَدِيّةِ، ذَلِكُمُ الحَيِّ القَيُّومِ، المُحيِي والمُمِيتِ، فهو مُضطَرٌّ أَيضًا إلى إنكارِ وُجُودِ الأَحياءِ الَّتي تَمْلَأُ الأَرضَ، بل تَمْلَأُ الماضِيَ والمُستَقبَلَ مَعًا.. وعِندَها لا يَرَى لِنَفسِه مَوْقِعًا إلَّا بينَ الأَنعامِ أو أَضَلَّ مِنها، فيكُونُ بمُستَوَى الجَماداتِ.
[نافذة 24: الموت برهان الربوبية]
النَّافِذة الرَّابعة والعشرُون
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
إنَّ المَوتَ كالحَياةِ بُرهانٌ ساطِعٌ للرُّبُوبيّةِ، وهو حُجّةٌ في غايةِ القُوّةِ على الوَحدانيّةِ، مِثلَ الحَياةِ، إذ بدَلالةِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ،﴾ إنَّ المَوتَ ليسَ عَدَمًا، ولا إعدامًا، ولا فَناءً، ولا لُعبةَ العَبَثِ، ولا انقِراضًا بالذّاتِ مِن غيرِ فاعِلٍ، بل هو تَسرِيحٌ مِنَ العَمَلِ، مِن لَدُنْ فاعِلٍ حَكِيمٍ، وهو استِبدالُ مَكانٍ بمَكانٍ، وتَبدِيلُ جِسْمٍ بجِسمٍ، وانتِهاءٌ مِن وَظِيفةٍ، وانطِلاقٌ مِن سِجْنِ الجِسْمِ، وخَلقٌ مُنتَظِمٌ جَدِيدٌ وَفقَ الحِكْمةِ الإلٰهِيّةِ. كما بَيَّنّا في “المَكتُوبِ الأَوَّلِ”.
نعم، كما أنَّ المَوجُوداتِ الحَيّةَ المَبثُوثةَ في الأَرضِ كافّةً، تُشِيرُ بحَياتِها إلى الخالِقِ الحَكِيمِ وإلى وَحْدانيَّتِه؛ فتلك الأَحياءُ تَشهَدُ بمَوْتِها أَيضًا على سَرْمَدِيّةِ ذلك الحَيِّ الباقِي، وتُشِيرُ إلى وَحْدانيَّتِه جَلَّ شَأْنُه.. وحيثُ إنَّنا بَحَثنا في “الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِين” أنَّ المَوتَ بُرهانٌ قاطِعٌ على الوَحْدانيّةِ، وحُجّةٌ دامِغةٌ على السَّرمَدِيّةِ، لِذا نُحِيلُ البَحثَ إلَيها.
إلَّا أنَّنا نُبيِّنُ هنا نُكتةً مُهِمّةً فقط، وهي أنَّ الأَحياءَ مِثلَما تَدُلُّ بوُجُودِها على الخالِقِ الحَيِّ فإنَّها تَشهَدُ بمَوتِها على سَرمَدِيّةِ الحَيِّ الباقِي وعلى وَحْدانيَّتِه؛ ولْنأخُذْ شاهِدًا على ذلك سَطْحَ الأَرضِ، فإنَّ النِّظامَ الرَّائِعَ الباسِطَ هَيْمَنَتَه على الأَرضِ بأَسْرِها والَّذي يَبدُو لنا مِن خِلالِ مَظاهِرِه عِيانًا يَشهَدُ شَهادةً صادِقةً على الصّانِعِ القَدِيرِ.
فعِندَما يُسدِلُ الشِّتاءُ كفَنَه الثَّلجِيَّ الأَبيَضَ على وَجْهِ الأَرضِ الرَّبيعيِّ، وتَمُوتُ الأَحياءُ الَّتي كانَت تَزخَرُ بالحَياةِ فَوقَها؛ فإنَّ مَنظَرَ هذا المَوتِ يَنقُلُ نَظَرَ الإنسانِ إلى أَبعَدَ مِنَ اللَّحظةِ الرّاهِنةِ، فيَركَبُ مَتنَ الخَيالِ لِيَذهَبَ بَعِيدًا إلى الماضِي الَّذي دَرَجَت إلَيه جَنائِزُ كلِّ رَبيعٍ راحِلٍ، فتَتَفتَّحُ عِندَئذٍ أَمامَ النَّظَرِ مَشاهِدُ مِنَ المَوتِ والحَياةِ أَوسَعُ مِن هذا المَنظَرِ المَحصُورِ في الحاضِرِ الرّاهِنِ، لأنَّ كلَّ رَبيعٍ راحِلٍ مِمّا لا يُحصَى مِنَ الأَربِعَةِ، كان مَشحُونًا مِلْءَ الأَرضِ بمُعجِزاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ، وهو يُشعِرُ الإنسانَ بمَجِيءِ مَوجُوداتٍ تَتَدفَّقُ بالحَياةِ وتَمْلَأُ الأَرضَ كلَّها في رَبيعٍ مُقبِلٍ.
فنَجِدُ بهذا أنَّ مَوتَ الرَّبيعِ يَشهَدُ شَهادةً بمِقياسٍ عَظِيمٍ جِدًّا، وبصُورةٍ رائِعةٍ جِدًّا وبدَرَجةٍ مِنَ القُوّةِ أَكثَرَ، على الخالِقِ ذِي الجَلالِ، والقَدِيرِ ذِي الكَمالِ، والحَيِّ القَيُّومِ، والنُّورِ السَّرمَدِيِّ؛ ويُشِيرُ إلى وَحْدانيَّتِه، وسَرمَدِيَّتِه تَبارَكَ وتَعالَى؛ فيُبيِّنُ هذا المَوتُ دَلائِلَ باهِرةً إلى حَدٍّ يُرغِمُك معَه على القَولِ بَداهةً: “آمَنتُ باللهِ الواحِدِ الأَحَدِ”.
الخُلاصةُ: إنَّه حَسَبَ الحِكْمةِ الَّتي تَتَضمَّنُها الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾، فإنَّ الأَرضَ الحَيّةَ هذه كما أنَّها تَشهَدُ على الخالِقِ الحَكِيمِ سُبحانَه بحَياتِها، فإنَّها بمَوتِها تَلفِتُ النَّظَرَ إلى التَّأَمُّلِ في مُعجِزاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ الَّتي تُطَرِّزُ جَناحَيِ الزَّمَنِ الماضِي والمُستَقبَلِ، فيَعرِضُ اللهُ سُبحانَه بهذا المَوتِ أَمامَ نَظَرِ الإنسانِ أُلُوفًا مِنَ الأَربِعَةِ بَدَلًا مِن رَبيعٍ واحِدٍ، فبَدَلًا مِن أن تَشهَدَ على قُدرَتِه سُبحانَه مُعجِزةٌ واحِدةٌ -وهي هنا “الرَّبيعُ الحاضِرُ”- تَشهَدُ علَيها بهذا المَوتِ الَّذي حَلَّ في الرَّبيعِ الحاضِرِ أُلُوفُ المُعجِزاتِ.
فكلُّ رَبيعٍ مِن تلك الألُوفِ مِنَ الأَربِعَةِ، يَشهَدُ شَهادةً أَقوَى على الوَحْدانيّةِ مِنَ الرَّبيعِ الحاضِرِ، لأنَّ الَّذي ارتَحَلَ إلى جِهةِ الماضِي قدِ ارتَحَل إلَيه بأَسبابِ قُدُومِه الظَّاهِرةِ الَّتي ليس لها صِفةُ البَقاءِ، فالأَسبابُ الَّتي تَذهَبُ وتَأْتِي ليس لها إذًا تَأْثيرٌ قَطُّ في إحلالِ رَبِيعٍ جَدِيدٍ عَقِبَ الرَّبيعِ الرّاحِلِ، بلِ القَدِيرُ ذُو الجَلالِ الَّذي لا يَحُولُ ولا يَزُولُ هو الَّذي خَلَقَه مِن جَدِيدٍ ورَبَطَه بحِكْمَتِه بالأَسبابِ الظّاهِرةِ، وأَرسَلَه على الصُّورةِ الرّائِعةِ إلى مَيدانِ الشُّهُودِ.
أمّا وُجُوهُ الأَرضِ الَّتي ستَأْتِي في المُستَقبَلِ، والمُزهِرةُ بالرَّبيعِ النّابِضِ بالحَياةِ، فهي تَشهَدُ شَهادةً أَقوَى مِن شَهادَةِ هذا الرَّبيعِ الحاضِرِ، لأنَّ كلَّ رَبيعٍ يَأْتِي في المُستَقبَلِ إنَّما يَأْتِي إلَيها مِنَ العَدَمِ، ومِن غيرِ شَيءٍ، ويُبعَثُ إلى المَكانِ المُعَيَّنِ، ومِن ثَمّةَ تُحمَّلُ علَيه وَظِيفةٌ خاصّةٌ.
فيا أيُّها الغافِلُ المَطمُوسُ في أَوحالِ الطَّبِيعةِ، والغارِقُ فيها.. إنَّ مَن لا تَظهَرُ يَدُ حِكْمَتِه وقُدرَتِه في المُستَقبَلِ الآتِي كُلِّه، ومَن لا يَتْرُكُ بَصَماتِ هذه اليَدِ على الماضِي الذّاهِبِ كُلِّه، كيف يَستَطِيعُ -وأنَّى له ذلك- أن يَتَدخَّلَ في حَياةِ هذه الأَرضِ؟ فهل يُمكِنُ للمُصادَفةِ والطَّبِيعةِ اللَّتَينِ هما مِن غيرِ شَيءٍ أن يَتَدخَّلا في أَمرِ الحَياةِ على الأَرضِ؟
إن كُنتَ صادِقًا وراغِبًا في نَجاةِ نَفسِك مِن هذه الوَرْطةِ، فادْنُ مِنَ الحَقِيقةِ وقُلْ: “إنَّ الطَّبِيعةَ إن كانَت شَيْئًا مَوجُودًا فهي كُرَّاسُ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ ليس إلّا.. أمّا المُصادَفةُ فهي لَيسَت إلَّا سِتارَ الحِكْمةِ الإلٰهِيّةِ الخَفِيّةِ الَّذي يَستُرُ جَهْلَنا”.
[نافذة 25: الأمور المتضايفة]
النَّافِذة الخَامِسة والعشرُون
إنَّ المَضرُوبَ يَدُلُّ بالضَّرُورةِ على فاعِلٍ، وهو الضَّارِبُ، والمَصنُوعُ المُتْقَنُ يَستَوجِبُ الصَّانِعَ المُتقِنَ، ووُجُودُ الوَلَدِ يَقتَضِي الوالِدَ، والتَّحتُ يَستَلزِمُ الفَوقَ.. وهكذا..
وقد أَطلَقَ العُلَماءُ على أَمثالِ هذه الصِّفاتِ مُصطَلَحَ “الأُمُورِ الإضافيّة” أي: النِّسبِيّةِ، أي: لا يَحصُلُ الواحِدُ دُونَ الآخَرِ.
فجَمِيعُ ما في هذه الأُمُورِ مِن “إمكانٍ” سَواءٌ في جُزئيّاتِ الكَونِ أو كُلِّيّاتِه، تَدُلُّ على “الوُجُوبِ“؛ وما يُشَاهَدُ في الجَمِيعِ مِنِ انفِعالاتٍ تَدُلُّ على فِعلٍ؛ وما يُشَاهَدُ في جَمِيعِها مِن مَخلُوقيّةٍ تَدُلُّ على الخالِقِيّةِ، وما يُشَاهَدُ فيها مِن كَثرةٍ وتَركِيبٍ يَستَلزِمُ الوَحْدةَ… فالوُجُوبُ، والفِعلُ، والخالِقِيّةُ، والوَحْدةُ، تَستَلزِمُ بالبَداهةِ والضَّرُورةِ مَن هو المَوصُوفُ بـ”الواجِبِ، الفاعِلِ، الخالِقِ، الواحِدِ” الَّذي هو ليس مُمكِنًا ولا مُنفَعِلًا ولا مَخلُوقًا ولا كَثِيرًا ولا مُرَكَّبًا.
وعلى هذا الأَساسِ فإنَّ ما في الكَونِ مِن إمكانٍ، وما فيه مِنِ انفِعالٍ، وما فيه مِن مَخلُوقيّةٍ، وما فيه مِن كَثْرةٍ، وما فيه مِن تَركِيبٍ، يَشهَدُ شَهادةً واضِحةً على ذاتِ واجِبِ الوُجُودِ، الواحِدِ الأَحَدِ، خالِقِ كلِّ شَيءٍ، الفَعّالِ لِما يُرِيدُ.
الخُلاصةُ: كما يُشاهَدُ “الوُجُوبُ” مِن خِلالِ “الإمكانِ“، ويُشَاهَدُ “الفِعلُ” مِن خِلالِ “الِانفعالِ“، وتُشاهَدُ “الوَحْدةُ” مِن خِلالِ “الكَثرةِ“، وكما يَدُلُّ وُجُودُ كلٍّ مِنها على وُجُودِ الآخَرِ دَلالةً قاطِعةً، كذلك الصِّفاتُ المُشاهَدةُ على المَوجُوداتِ كـ”المَخلُوقيّةِ، والمَرزُوقيّةِ” (أي: كونُ المَوجُودِ مَخلُوقًا ومَرزُوقًا) تَدُلُّ على شُؤُونِ “الخالِقِيّةِ والرَّزّاقيّةِ” دَلالةً قاطِعةً.. فوُجُودُ هذه الصِّفاتِ أيضًا يَدُلُّ بالضَّرُورةِ وبالبَداهةِ على “الخَلّاقِ الرَّزّاقِ، والصّانِعِ الرَّحِيمِ”.. أي إنَّ كلَّ مَوجُودٍ يَشهَدُ على “الذّاتِ الأَقدَسِ لِواجِبِ الوُجُودِ”، وعلى مِئاتٍ مِن أَسمائِه الحُسنَى بما يَحمِلُ مِن مِئاتٍ مِن أَمثالِ تلك الصِّفاتِ.
فإن لم تَقبَلْ أيُّها الإنسانُ بجَمِيعِ هذه الشَّهاداتِ، فيَنبَغي لك إذًا إنكارُ أَمثالِ تلك الصِّفاتِ كُلِّها.
[نافذة 26: الجمالات المتجددة المتعاقبة]
النَّافِذة السَّادِسة والعشرُون3مَفتُوحةٌ لِمن يُريدُ أن يُطِلَّ منها، وبالأَخَصِّ لأهلِ القَلبِ والمَحَبّة.
إنَّ أَنواعَ الجَمالِ الزّاهِرِ، وأَشكالَ الحُسْنِ الباهِرِ، الَّتي تَتَلَأْلَأُ على وُجُوهِ الكائِناتِ السَّرِيعةِ الأُفُولِ، ثمَّ تَتابُعَ هذا الجَمالِ وتَجَدُّدَه بتَجَدُّدِ هذه الكائِناتِ، واستِمرارَه باستِمرارِ تَعاقُبِها.. إنَّما يُظهِرُ أنَّه ظِلٌّ مِن ظِلالِ تَجَلِّياتِ جَمالٍ سَرمَدِيٍّ لا يَحُولُ ولا يَزُولُ.
نعم..كما أنَّ تَلَألُؤَ الحَبابِ على وَجْهِ الماءِ الرَّقراقِ، وتَتابُعَ هذا اللَّمَعانِ في تَتابُعِ الحَبابِ يَدُلُّ على أنَّ الحَبابَ والزَّبَدَ والتَّمَوُّجاتِ الَّتي تَطفُو على سَطْحِ الماءِ إنَّما تُمَثِّـلُ مَرايا عاكِسةً لِأَشِعّةِ شَمسٍ باقِيةٍ.. فتَلَمُّعُ أَنواعِ الجَمالِ أيضًا على المَوجُوداتِ السَّيّالةِ في نَهرِ الزَّمانِ الجارِي يُشِيرُ إلى جَمالٍ سَرمَدِيٍّ خالِدٍ، ويَدُلُّ على أنَّ تلك المَوجُوداتِ إنَّما تُمثِّـلُ إشاراتٍ وعَلاماتٍ على ذلك الجَمالِ.
ثمَّ إنَّ ما يَخفِقُ به قَلبُ الكَونِ مِن حُبٍّ جادٍّ وعِشْقٍ صادِقٍ يَدُلُّ على مَعشُوقٍ دائِمٍ باقٍ.. إذ كما لا يَظهَرُ شَيءٌ في الثَّمَرةِ ما لم يُوجَدْ في الشَّجَرةِ نَفسِها، فكذلك العِشْقُ الإلٰهِيُّ العَذْبُ الَّذي يَستَحوِذُ على قَلْبِ الإنسانِ، وهو ثَمَرةُ شَجَرةِ الكَونِ، يُبيِّنُ أنَّ عِشْقًا خالِصًا ومُحَبّةً صادِقةً بأَشكالٍ شَتَّى، مَغرُوزةٌ في كِيانِ الكَونِ كُلِّه، وتَتَظاهَرُ بأَشكالٍ شَتَّى، هذا الحُبُّ المالِكُ قَلْبَ الكَونِ يُفصِحُ عن مَحبُوبٍ خالِدٍ سَرمَدِيٍّ.
ثمَّ إنَّ ما تَمُورُ به قُلُوبُ اليَقِظِين الرّاشِدِين مِن أَصفِياءِ النّاسِ، وما يَشعُرُون به مِنِ انجِذابٍ، وما يُؤَرِّقُهم مِن وَجْدٍ، وما يُحِسُّون به مِن جَذَباتٍ، وما تَتَدفَّقُ به صُدُورُهم مِن تَوْقٍ وحَنِينٍ، إنَّما يَدُلُّ على أنَّ حَنايا ضُلُوعِ الكَونِ تُعانِي ما يُعانِي الإنسانُ، وتَكادُ تَتَمزَّقُ مِن شِدّةِ انجِذابِها وعَظِيمِ جَذَباتِها الَّتي تَتَظاهَرُ بصُوَرٍ مُتَنوِّعةٍ، وهذا الجَذْبُ لا يَنشَأُ إلَّا مِن جاذِبٍ حَقِيقيٍّ، وجاذِبِيّةٍ باقِيةٍ أَبدِيّةٍ.
ثمَّ إنَّ أَرَقَّ النّاسِ طَبْعًا وأَلطَفَهم شُعُورًا، وأَنوَرَهم قَلْبًا، وهُمُ الأَولياءُ الصَّالِحُون مِن أَهلِ الكَشْفِ والشُّهُودِ قد أَعلَنُوا مُتَّفِقين على أنَّهم قد تَبَدَّدَت ظُلُماتُ نُفُوسِهم بإشراقِ أَنوارِ تَجَلِّياتِ ذِي الجَلالِ، وذاقُوا حَلاوةَ تَعرِيفِ الجَمِيلِ ذِي الجَلالِ، وتَوَدُّدِه إلَيهم، فإعلانُهم هذا شَهادةٌ ناطِقةٌ على “الواجِبِ الوُجُودِ”، وتَعرِيفٌ لِنَفْسِه عن طَرِيقِهم للإنسانِ.
ثمَّ إنَّ قَلَمَ التَّجمِيلِ والتَّحسِينِ الَّذي يُبدِعُ نُقُوشَه في وَجْهِ الكائِناتِ، يَدُلُّ بوُضُوحٍ على جَمالِ أَسماءِ مالِكِ ذلك القَلَمِ المُبدِعِ.
وهكذا، فالجَمالُ الَّذي يُشِعُّ مِن وَجْهِ الكَونِ، والعِشقُ الَّذي يَخفِقُ به قَلبُه، والِانجِذابُ الَّذي يَمتَلِئُ به صَدْرُه، والكَشْفُ والشُّهُودُ الَّذي تُبصِرُه عَينُه، والرَّوعةُ والإبداعُ في مَجمُوعِ الكَونِ كلِّه.. يَفتَحُ نافِذةً لَطِيفةً جِدًّا ونُورانيّةً ساطِعةً أَمامَ العُقُولِ والقُلُوبِ اليَقِظةِ، يَتَجلَّى مِنها ذلك الجَمِيلُ ذُو الجَلالِ، الَّذي له الأَسماءِ الحُسنَى، وذلك المَحبُوبُ الباقِي والمَعبُودُ الأَزَلِيُّ.
فيا أيُّها المَغرُورُ التّائِهُ في ظُلُماتِ المادِّيّةِ.. ويا أيُّها الغافِلُ المُتَقلِّبُ في ظُلُماتِ الأَوهامِ والمُختَنِقُ بحِبالِ الشُّبُهاتِ.. عُدْ إلى رُشْدِك، واسْمُ سُمُوًّا لائِقًا بالإنسانِ، انظُرْ مِن خِلالِ هذه المَنافِذِ الأَربَعةِ، وشاهِدْ جَمالَ الوَحْدانيّةِ، واظْفَرْ بكَمالِ الإيمانِ، وكُن إنسانًا حَقِيقِيًّا.
[نافذة 27: عجز الأسباب]
النَّافِذة السَّابِعة والعشرُون
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾
سَنُطِلُّ مِن هذه النّافِذةِ على ما في مَوجُوداتِ الكَونِ مِن “أَسبابٍ ومُسَبَّباتٍ” فنَرَى أنَّ أَسمَى الأَسبابِ وأَشرَفَها قاصِرةٌ يَدُها على بُلُوغِ أَدنَى المُسَبَّباتِ وعاجِزةٌ عن إدراكِ ما يَنجُمُ عنها.. فالأَسبابُ إذًا لَيسَت إلَّا سَتائِرَ وحُجُبًا، فالَّذي يُوجِدُ “المُسَبَّباتِ” هو غيرُ الأَسبابِ.. ولْنُوضِّحِ الكَلامَ بمِثالٍ:
القُوّةُ الحافِظةُ في ذِهنِ الإنسانِ، وهي بحَجْمِ حَبّةٍ مِن خَرْدَلٍ مَوضُوعةٍ في زاوِيةٍ مِن زَوايا دِماغِه، نَراها وكأنَّها كِتابٌ جامِعٌ شامِلٌ، بل مَكتَبةٌ وثائِقِيّةٌ لِحَياةِ الإنسانِ، حَيثُ تَضُمُّ مُستَنَداتِ جَمِيعِ أَحداثِ حَياتِه مِن دُونِ اختِلاطٍ ولا سَهْوٍ.. تُرَى أيُّ سَبَبٍ مِنَ الأَسبابِ يُمكِنُ أن يُبْرَزَ لِتَوضِيحِ وتَفسِيرِ هذه المُعجِزةِ الظّاهِرةِ للقُدرةِ الإلٰهِيّةِ؟ أهوَ تَلافِيفُ الدِّماغِ؟!
أم إنَّ ذَرّاتِ خَلايا الدِّماغِ وهي بلا شُعُورٍ؟ أم رِياحُ المُصادَفاتِ العَشْوائيّةِ؟
فلا يُمكِنُ أن تكُونَ هذه المُعجِزةُ الباهِرةُ إلَّا مِن إبداعِ “صانِعٍ حَكِيمٍ” جَعَلَ تلك “القُوّةَ الحافِظةَ” مَكتَبةً أو سِجِلًّا يَضُمُّ صَحائِفَ أَعمالِ الإنسانِ، لِيُذَكِّرَه بأنَّ رَبَّه لا يُغادِرُ صَغِيرةً ولا كَبِيرةً إلَّا أَحصاها، ولِيَعرِضَه أَمامَ المَشهَدِ الأَعظَمِ يومَ الحِسابِ.
خُذِ “القُوّةَ الحافِظةَ” في ذِهنِ الإنسانِ، وقِسْ علَيها سائِرَ المُسَبَّباتِ مِن بُيُوضٍ ونُوًى وبُذُورٍ وأَمثالِها مِنَ المُعجِزاتِ البَدِيعةِ المُصَغَّرةِ، تَرَ أَينَما وَلَّيْتَ نَظَرَك وفي أيِّ مَصنُوعٍ كان، أنَّك أَمامَ خَوارِقِ إبداعٍ لا يَقوَى علَيها سَبَبٌ مِنَ الأَسبابِ، بل حتَّى لوِ اجتَمَعَتِ الأَسبابُ جَمِيعُها لإيجادِ تلك الصَّنْعةِ الخارِقةِ لَأَظهَرَت عَجْزَها عَجْزًا تامًّا ولو كان بعضُها لِبَعضٍ ظَهِيرًا.
ولْنَأخُذِ الشَّمسَ -مَثلًا- الَّتي يُظَنُّ أنَّها سَبَبٌ عَظِيمٌ، فلو قِيلَ لها مُفتَرِضِين فيها الشُّعُورَ والِاختِيارَ: “أيَّتُها الشَّمسُ العَظِيمةُ.. هل تَستَطِيعِين إيجادَ جِسمِ ذُبابةٍ واحِدةٍ؟” فلا شَكَّ أنَّها ستَرُدُّ قائِلةً: “إنَّ ما وَهَبَني رَبِّي مِن ضِياءٍ، وأَغدَقَ علَيَّ مِن حَرارةٍ وأَلوانٍ، لا يُؤَهِّلُني للخَلْقِ، ولا يَمنَحُني ما يَتَطلَّبُه إيجادُ ذُبابةٍ مِن عُيُونٍ وسَمْعٍ وحَياةٍ، لَستُ مالِكةً لِشَيءٍ مِنها قَطُّ، فهذا الأَمرُ هو فوقَ طاقَتي كُلِّـيًّا”.
نعم، كما أنَّ الإبداعَ الظّاهِرَ على “المُسَبَّباتِ” ورَوْعةَ جَمالِها قد عَزَلَتِ الأَسبابَ وسَلَبَتْها قُدرةَ الخَلْقِ، ودلَّتْنا بلِسانِ حالِها على مُسَبِّبِ الأَسبابِ، وسَلَّمَتِ الأُمُورَ كلَّها بِيَدِ اللهِ كما جاء في الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾، كذلك النَّتائِجُ الَّتي نِيطَت بالمُسَبَّباتِ، والغاياتُ النّاشِئةُ والفَوائِدُ الحاصِلةُ مِنها، تُظهِرُ جَمِيعًا بَداهةً أنَّ وَراءَ حِجابِ الأَسبابِ رَبًّا كَرِيمًا، حَكِيمًا، رَحِيمًا، وأنَّ ما نَراه مِن أَشياءَ لَيسَت إلَّا مِن صُنعِه وإبداعِه سُبحانَه.
ذلك لأنَّ “الأَسبابَ” الَّتي هي بلا شُعُورٍ عاجِزةٌ كُلِّـيًّا عن مُلاحَظةِ -مُجَرَّدِ مُلاحَظةِ- غايةٍ لِشَيءٍ مُسَبَّبٍ، بَينَما أيُّ مَخلُوقٍ يَرِدُ الوُجُودَ لا تُناطُ به حِكمةٌ واحِدةٌ بل حِكَمٌ عَدِيدةٌ جِدًّا وفَوائِدُ جَمَّةٌ وغاياتٌ شَتَّى. أي إنَّ الرَّبَّ الحَكِيمَ والكَرِيمَ هو الَّذي يُوجِدُ الأَشياءَ ثمَّ يُرسِلُها إلى هذا العالَمِ، ويَجعَلُ تلك الفَوائِدَ غايةَ وُجُودِها.
فمَثلًا إنَّ الأَسبابَ الظّاهِرةَ لِتَكوِينِ المَطَرِ عاجِزةٌ عَجْزًا مُطلَقًا، وبَعِيدةٌ كلَّ البُعدِ عن أن تُشفِقَ على الحَيَواناتِ، أو تُلاحِظَ أُمُورَها وتَرحَمَها وتَنزِلَ لِأَجلِها.. إذًا فالَّذي يُرسِلُ المَطَرَ ويُغِيثُها بحِكْمَتِه هو الخالِقُ الرَّحِيمُ الَّذي خَلَقَها وتَكَفَّلَ برِزقِها، وكأنَّه -أي: المَطَرَ- رَحمةٌ مُتَجسِّمةٌ لِكَثرةِ ما فيه مِن آثارِ الرَّحمةِ والفَوائِدِ الجَمّةِ. ومِن هنا أُطلِقَ على المَطَرِ اسمُ “الرَّحمةِ”.
ثمَّ إنَّ التَّزيِيناتِ البَدِيعةَ والجَمالَ المُبتَسِمَ على النَّباتاتِ والحَيَواناتِ الَّتي تَمْلَأُ وَجْهَ المَخلُوقاتِ قاطِبةً، وجَمِيعَ المَظاهِرِ الجَماليّةِ علَيها، تَدُلُّ على أنَّ وَراءَ سِتارِ الغَيبِ مُدَبِّرًا يُرِيدُ أن يُعرِّفَ نَفسَه ويُحَبِّبَها بهذه المَخلُوقاتِ الجَمِيلةِ البَدِيعةِ، وتَدُلُّ على وُجُوبِ وُجُودِه ووَحْدانيَّتِه.
إذًا، فالتَّزيِيناتُ الرّائِعةُ في الأَشياءِ، وما في مَظاهِرِها مِن جَمالٍ بَدِيعٍ، وكَيفيّاتُها المُتَّسِمةُ بالحُسْنِ، كلُّها تَدُلُّ قَطْعًا على صِفَتَيِ التَّعرِيفِ والتَّوَدُّدِ؛ وهاتانِ الصِّفَتانِ (التَّعرُّفُ والتَّوَدُّدُ) تَشهَدانِ بالبَداهةِ على صانِعٍ قَدِيرٍ مَعرُوفٍ وَدُودٍ، فَضْلًا عن شَهادَتِهما على وَحْدانيَّتِه سُبحانَه.
وزُبدةُ الكَلامِ: إنَّ السَّبَبَ الَّذي نَراه شَيئًا عادِيًّا جِدًّا، وعاجِزًا عَجْزًا تامًّا، قد استَنَد إلَيه مُسَبَّبٌ في مُنتَهَى الإتقانِ والنَّفاسةِ. فهذا “المُسَبَّبُ” المُتقَنُ لا بُدَّ أنَّه يَعزِلُ ذلك السَّبَبَ العاجِزَ عنِ القِيامِ بإيجادِه..
ثمَّ إنَّ غايةَ “المُسَبَّبِ” وفَوائِدَه تَرفَعُ الأَسبابَ الجاهِلةَ والجامِدةَ فيما بَينَها وتُسَلِّمُها إلى يَدِ الصّانِعِ الحَكِيمِ..
ثمَّ إنَّ التَّزيِيناتِ المَنقُوشةَ على مَلامِحِ “المُسَبَّبِ” وما يَتَجلَّى علَيها مِن عَجائِبِ الرَّحمةِ تُشِيرُ إلى صانِعٍ حَكِيمٍ يُرِيدُ أن يُعرِّفَ قُدرَتَه إلى ذَوِي الشُّعُورِ مِن مَخلُوقاتِه، ويُحَبِّبَ نَفسَه إلَيهِم.
فيا عابِدَ الأَسبابِ، أيُّها المِسكِينُ.. ما تَفسِيرُ هذه الحَقائِقِ المُهِمّةِ الثَّلاثِ الَّتي وَضَعناها بينَ يَدَيك؟ وكيف يُمكِنُك أن تُقنِعَ نَفسَك بأَوهامِك؟ إن كُنتَ راشِدًا فمَزِّقْ حِجابَ الأَسبابِ وقُلْ: “هُوَ اللهُ وَحْدَه لا شَرِيكَ له”، وتَحَرَّرْ مِنَ الأَوهامِ المُضِلّةِ.
[نافذة 28: من خلايا الجسم إلى مجموع الكائنات]
النَّافِذة الثَّامِنة والعشرُون
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾
إذا تَأَمَّلْنا في هذه الكائِناتِ فسنُشاهِدُ أنَّ في كلِّ شَيءٍ ابتِداءً مِن حُجَيراتِ الجِسمِ وانتِهاءً بمَجمُوعِ العالَمِ كلِّه، حِكْمةً شامِلةً، ونِظامًا مُتقَنًا.
فلَدَى فَحْصِنا لِحُجَيْراتِ الجِسْمِ نَجِدُ أنَّ تَدبِيرًا بالِغَ الأَهَمِّيّةِ يُنَظِّمُ شُؤُونَ تلك الحُجَيراتِ المُتَناهِيةِ في الصِّغَرِ؛ يُنَظِّمُها حَسَبَ أَوامِرِ مَن يَرَى مَصالِحَ الجِسمِ كُلِّه، ويُدِيرُ أُمُورَه؛ فكما أنَّ قِسْمًا مِنَ الأَغذِيةِ يُدَّخَرُ في الجِسمِ على صُورةِ شُحُومٍ داخِلِيّةٍ تُصرَفُ عندَ الحاجةِ، كذلك نَجِدُ في كلٍّ مِن تلك الحُجَيراتِ الصَّغِيرةِ قابِلِيّةَ ادِّخارٍ دَقِيقةً.. ثمَّ نَنظُرُ إلى النَّباتاتِ فنَجِدُ أنَّها مَشمُولةٌ بتَدبِيرٍ حَكِيمٍ.. ونَنظُرُ إلى الحَيَواناتِ فنَجِدُ أنَّها تَعِيشُ في بُحبُوحةٍ مِنَ الكَرَمِ العَمِيمِ.. ونَنظُرُ إلى أَركانِ الكَونِ العَظِيمةِ فنَجِدُ أنَّ تَدوِيرًا وتَنوِيرًا في مُنتَهَى العَظَمةِ يَكتَنِفانِه مِن كلِّ جَوانِبِه ويُفضِيانِ به إلى غاياتٍ عَظِيمةٍ وجَلِيلةٍ.. ونَنظُرُ إلى مَجمُوعِ الكَونِ كُلِّه، فإذا به يَتَجلَّى أَمامَنا وكأنَّه مَملَكةٌ مُنَسَّقةُ الأَرجاءِ، أو مَدِينةٌ رائِعةُ الجَمالِ، أو قَصرٌ مُنِيفٌ باذِخٌ، وإذا بنا أَمامَ أَنظِمةٍ دَقِيقةٍ تَرقَى به لِبُلُوغِ حِكَمٍ عالِيةٍ وغاياتٍ سامِيةٍ.
فكما أَثبَتْنا في “المَوقِفِ الأَوَّلِ” مِنَ “الكَلِمةِ الثّانيةِ والثَّلاثين” أنَّ المَوجُوداتِ مُرتَبِطةٌ ببَعضِها ارتِباطًا مَعنَوِيًّا وَثِيقًا إلى حَدٍّ لا يَدَعُ مَجالًا قَطُّ لِمُداخَلةِ أيِّ شَرِيكٍ، حتَّى بمِقدارِ ذَرّةٍ واحِدةٍ مِنَ المُداخَلةِ، ابتِداءً مِنَ الذَّرّاتِ وانتِهاءً بالمَجَرّاتِ؛ فمَن لم يكُن مُسَخِّرًا لحُكْمِه جَمِيعَ المَجَرّاتِ والنُّجُومِ والسَّيّاراتِ، ويَملِكُ زِمامَ أُمُورِها، ويَتَصرَّفُ بمَقاليدِ شُؤُونِها، لا يُمكِنُه أن يُوقِعَ حُكمَهُ، ويُمْضِيَ أَمرَهُ على ذَرّةٍ واحِدةٍ.. وبعِبارةٍ أُخرَى: مَن يكُونُ رَبًّا حَقِيقيًّا على ذَرّةٍ واحِدةٍ يَنبَغِي أيضًا أن يكُونَ مالِكًا لِمَقاليدِ الكَونِ كُلِّه.
وفي ضَوءِ ما أَوْضَحْنا وأَثبَتْنا في “المَوقِفِ الثّاني” مِنَ “الكَلِمةِ الثّانيةِ والثَّلاثين” أنَّه مَن يَعجِزُ عنِ الهَيمَنةِ على السَّماواتِ كُلِّها يَعجِزُ عن رَسْمِ خُطُوطِ سِيماءِ الإنسانِ، أي: مَن لم يكُن رَبًّا لِلسَّماواتِ جَمِيعًا، لا يَستَطِيعُ أن يَخُطَّ مَلامِحَ وَجْهِ إنسانٍ، ويَضَعَ علَيه عَلاماتِه الفارِقةَ.
وهكذا تَجِدُ أَمامَك نافِذةً واسِعةً سَعةَ الكَونِ كُلِّه، فإذا ما أَطْلَلْتَ مِنها تَجِدُ -حتَّى بعَينِ العَقْلِ- أنَّ الآياتِ الكَرِيمةَ الآتِيةَ، قد كُتِبَت بحُرُوفٍ كَبِيرةٍ واضِحةٍ على صَحائِفِ الكَوْنِ كُلِّه: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، لِذا فمَن لا يَستَطِيعُ رُؤْيةَ هذه الحُرُوفِ البارِزةِ العَظِيمةِ المُسَطَّرةِ على صَحِيفةِ الكائِناتِ، فما هو إلَّا واحِدٌ مِن ثَلاثةٍ: إمَّا فاقِدٌ عَقْلَه.. أو فاقِدٌ قَلبَه. أو آدَميُّ الصُّورةِ بَهِيمِيُّ التَّطَلُّعاتِ.
[نافذة 29: أختام الجمال على رسائل الرحمن]
النَّافِذة التَّاسِعة والعشرُون
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾
كُنتُ سارِحًا في رُفقةِ غُربَتِي، أَسُوحُ معَ الفِكْرِ، وأَجُولُ معَ الخَيالِ والتَّأَمُّلِ، فقادَتْني قَدَمايَ إلى سَفْحِ رابِيةٍ مُزدانةٍ بالخُضْرةِ، فرَنَتْ إلَيَّ -على استِحياءٍ- مِن وَسَطِ هذا البِساطِ الأَخضَرِ، زَهْرةٌ صَفْراءُ ساطِعةُ الصُّفْرةِ، وأَلْوَتْ بجِيدِها إلَيَّ تُناغِينِي بوُدٍّ ومَحَبَّةٍ، فأَثارَت مَشاعِرِي وأَشواقِي إلى زَهَراتٍ مِثلِها كُنتُ أَلتَقِيها في رُبُوعِ بَلْدَتِي “وَان”، وفي سائِرِ المُدُنِ الأُخرَى الَّتي كانَت تَحتَضِنُ غُربَتِي مَرّةً بعدَ أُخرَى، فانْثَالَ هذا المَعنَى فَجْأةً على قلَبِي، وها أَنَذا أَسرُدُه كما وَرَد:
هذه الزَّهرةُ الرَّقيقةُ لَيسَت إلَّا طُغْراءَ على صَفحةِ الجَمالِ، وخَتْمًا يَخْتِمُ به خالِقُ الجَمالِ رِسالَتَه الخَضْراءَ إلى العالَمِ؛ فمَن كانَت هذه الزَّهرةُ طُغْراءَه ونَقْشَه على البِساطِ الأَخضَرِ فإنَّ جَمِيعَ الأَنواعِ مِن هذه الزَّهرةِ إذًا هي أَختامُه على بُسُطِ الأَرضِ جَمِيعًا، وعَلاماتُ وَحْدةِ صُنْعِه.
وعَقِبَ هذه الصُّورةِ المُتَخيَّلةِ وَرَد إلى القَلْبِ هذا التَّصَوُّرُ: إنَّ الخَتْمَ المَختُومَ به أَيّةُ رِسالةٍ كانَت، إنَّما يَدُلُّ على صاحِبِ الرِّسالةِ؛ فهذه الزَّهرةُ إنَّما هي خَتْمٌ رَحْمانِيٌّ على رِسالةِ الرَّحمٰنِ، وهذه الرِّسالةُ هي سَفْحُ التَّلِّ الصَّغِيرُ، المَسطُورُ فيها الكَلِماتُ البَلِيغةُ للنَّباتاتِ والأَعشابِ، والمَحفُورُ فَوقَها أَنواعُ الزَّخارِفِ الحَكِيمةِ الإتقانِ.. فهذه الرِّسالةُ إذًا تَعُودُ لِصاحِبِ الخَتْمِ هذا.
ثمَّ أَوْغَلْتُ في التَّأَمُّلِ أَكثَرَ فأَكثَرَ، فإذا بهذا السَّفْحِ الجَمِيلِ يَتَحوَّلُ في نَظَرِي ويَأْخُذُ صُورةَ خَتْمٍ كَبِيرٍ وواضِحٍ على رِسالةِ هذه الفَلاةِ المُمتَدّةِ بَعِيدًا؛ وانتَصَب السَّهْلُ المُنبَسِطُ أَمامَ خَيالي رِسالةً رَحْمانيّةً رائِعةً، خَتْمُها هذا السَّفحُ الجَمِيلُ.. وقد أَفضَى بي هذا التَّصَوُّرُ إلى هذه الحَقِيقةِ:
كما أنَّ كلَّ خَتْمٍ على أيّةِ رِسالةٍ يُشِيرُ إلى صاحِبِها، فكُلُّ شَيءٍ كالخَتْمِ يُسنِدُ جَمِيعَ الأَشياءِ الَّتي تُحِيطُ به إلى خالِقِه الرَّحِيمِ، وكأنَّه خَتْمٌ رَحْمانِيٌّ؛ فكلُّ شَيءٍ مِن حَوْلِه يُمَثِّـلُ رِسالةً لِخالِقِه الرَّحِيمِ.
وهكذا، فما مِن شَيءٍ إلَّا ويَغدُو نافِذةَ تَوحِيدٍ عَظِيمةً إلى حَدٍّ يُسَلِّمُ جَمِيعَ الأَشياءِ إلى الواحِدِ الأَحَدِ.. كلُّ شَيءٍ -ولا سِيَّما الأَحياءُ- يَملِكُ مِنَ النُّقُوشِ الحَكِيمةِ والإتقانِ البَدِيعِ بحَيثُ إنَّ الَّذي خَلَقَه على هذه الصُّورةِ البَدِيعةِ قادِرٌ على خَلْقِ جَمِيعِ الأَشياءِ، أي إنَّ الَّذي لا يَستَطِيعُ أن يَخلُقَ جَمِيعَ الأَشياءِ لا يُمكِنُ أن يَخلُقَ شَيْئًا واحِدًا.
أيُّها الغافِلُ، تَأَمَّلْ في وَجْهِ الكائِناتِ تَجِدْ أنَّ صَحائِفَ المَوجُوداتِ ما هي إلَّا بمَثابةِ رَسائِلَ مُتَداخِلةٍ بعضُها في البعضِ الآخَرِ، مَبعُوثةٍ مِن قِبَلِ الأَحَدِ الصَّمَدِ؛ وأنَّ كلَّ رِسالةٍ مِنها قد خُتِمَتْ بما لا يُعَدُّ مِن أَختامِ التَّوحِيدِ.
تُرَى مَن يَجرُؤُ على تَكذِيبِ شَهاداتِ هذه الأَختامِ غيرِ المُتَناهِيةِ؟ أيّةُ قُوّةٍ يُمكِنُها أن تَكتُمَ أَصواتَ هذه الشَّهاداتِ الصّادِقةِ؟ وأنت إذا ما أَنصَتَّ بأُذُنِ القَلبِ لِأَيٍّ مِنها تَسمَعُها تُرَدِّدُ: “أَشْهَدُ أن لا إلٰهَ إلَّا اللهُ”.
[نافذة 30: حقيقة الإمكان والحدوث عند المتكلمين ومسلك النور]
النَّافِذة الثَّلاثُون
﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾
﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
هذه نافِذةٌ يُطِلُّ مِنها عُلَماءُ الكَلامِ الَّذين سَلَكُوا في سَبِيلِ إثباتِ وُجُودِ اللهِ سُبحانَه طَرِيقًا مُدَعَّمًا بأَدِلّةِ “الإمكانِ” و”الحُدُوثِ”؛ ونحنُ إذ نُحِيلُ تَفاصِيلَ تلك الأَدِلّةِ إلى مَظانِّها مِن أُمَّهاتِ كُتُبِ العُلَماءِ الأَعلامِ كـ”شَرحِ المَواقِفِ” و”شَرحِ المَقاصِدِ” نَذكُرُ هنا شُعاعاتٍ مِن فَيضِ نُورِ القُرآنِ غَمَرَتِ القَلْبَ، ونَفَذَتْ إلَيه مِن خِلالِ هذه النّافِذةِ.
إنَّ الآمِريَّةَ والحاكِمِيّةَ تَقتَضِي رَفْضَ المُنافَسةِ ورَدَّ المُشارَكةِ ودَفْعَ المُداخَلةِ أيًّا كانَت، ومِن هنا نَرَى أنَّه إذا وُجِدَ مُختارانِ في قَريةٍ اخْتَلَّ نِظامُ القَريةِ، واضطَرَب أَمْنُ النّاسِ وراحَتُهم، وإذا ما كان هناك مُدِيرانِ في ناحِيةٍ، أو مُحافِظانِ في مُحافَظةٍ واحِدةٍ، فإنَّ الحابِلَ يَختَلِطُ بالنَّابِلِ، وإذا ما وُجِدَ سُلْطانانِ في بِلادٍ فإنَّ الفَوْضَى تَضْرِبُ أَطنابَها في أَركانِ البِلادِ كُلِّها، ويُسَبِّبانِ مِنَ القَلاقِلِ والِاضطِراباتِ ما لا يُحْمَدُ عُقباه.
فلَئِن كان الإنسانُ الَّذي هو عاجِزٌ ومُحتاجٌ إلى مُعاوَنةِ الآخَرِين، والَّذي يَحمِلُ ظِلًّا جُزئِيًّا ضَعِيفًا مِنَ الآمِرِيّةِ والحاكِمِيّةِ، لا يَقبَلُ مُداخَلةَ أَحَدٍ مِن مَثِيلِه في شُؤُونِه، ويَرُدُّ المُنافِسَ رَدًّا شَدِيدًا.. نعم، لَئِن كان الإنسانُ العاجِزُ هذا شَأْنُه، فكيف بآمِرِيّةِ القَدِيرِ المُطلَقِ وحاكِمِيّةِ السُّلْطانِ الأَعظَمِ رَبِّ العالَمِين؟!
قِسْ بنَفسِك كيف سيَسُودُ قانُونُ رَدِّ المُداخَلةِ ويُهَيمِنُ على الكَونِ كُلِّه، أي إنَّ الوَحْدةَ أوِ الِانفِرادَ مِن لَوازِمِ الأُلُوهِيّةِ، ومُقتَضَى الرُّبُوبيّةِ، الَّتي لا تَنفَكُّ عنها؛ فإن رُمْتَ بُرهانًا قاطِعًا على هذا، وشاهِدًا صادِقًا علَيه، فدُونَك النِّظامَ الأَكمَلَ، والِانسِجامَ الأَجمَلَ المُشاهَدَينِ في الكَونِ.
فتَلْمَسُ النِّظامَ البَدِيعَ سائِدًا في كلِّ شَيءٍ، ابتِداءً مِن جَناحِ ذُبابةٍ وانتِهاءً بقَنادِيلِ السَّماءِ، حتَّى يَجعَلُ هذا النِّظامُ المُتقَنُ العَقلَ مَشدُوهًا أَمامَه ويُرَدِّدُ مِن إعجابِه: “سُبحانَ اللهِ.. ما شاءَ اللهُ كان.. تَبارَكَ اللهُ!!”، ويَهوِي ساجِدًا لِعَظَمةِ مُبدِعِه.. فلو كان هُناك مَوضِعٌ ولو بمِقدارِ ذَرّةٍ لِشَريكٍ مَهما كان، أو مُداخَلةٌ في شُؤُونِ الكَونِ مَهما كان نَوعُها، لَفَسَدَ نِظامُ السَّماواتِ والأَرضِ، ولَبَدَتْ آثارُ الفَسادِ عِيانًا، ولَمَا كانَت هذه الصُّورةُ البَدِيعةُ الماثِلةُ أَمامَنا.. وصَدَق اللهُ العَظِيمُ الَّذي يقُولُ: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾، عِلمًا أنَّ الآيةَ الكَرِيمةَ الآتِيةَ: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾، تُخْبِرُ أنَّه مَهما سَعَى الإنسانُ جادًّا في تَحَرِّيه القُصُورَ، فسيَرجِعُ خائِبًا، مِمّا يَدُلُّنا أنَّ النِّظامَ والِانتِظامَ هما في غايةِ الكَمالِ، أي إنَّ انتِظامَ الكائِناتِ شاهِدٌ قاطِعٌ على الوَحْدانيّةِ.
أمّا بصَدَدِ “الحُدُوثِ” فقد قالَ عُلَماءُ الكَلامِ: إنَّ العالَمَ مُتَغيِّـرٌ، وكلُّ مُتَغيِّرٍ حادِثٌ، وكلُّ مُحْدَثٍ لا بُدَّ له مِن مُحْدِثٍ، أي: مُوجِدٍ، لِذا فالكَونُ لا بُدَّ له مِن “مُوجِدٍ قَدِيمٍ”..
ونحنُ نقُولُ: نعم، إنَّ الكَونَ حادِثٌ، حيثُ نُشاهِدُ في كلِّ عَصْرٍ وفي كلِّ سَنةٍ بل في كلِّ مَوسِمٍ عالَمًا يَرحَلُ ويَحُطُّ آخَرُ مَكانَه، تَمضِي كائِناتٌ، وتَأْتِي أُخرَى. فالقَدِيرُ ذُو الجَلالِ هو الَّذي يُوجِدُ هذا العالَمَ مِنَ العَدَمِ في كلِّ سَنةٍ، بل في كلِّ مَوسِمٍ، بل في كلِّ يَومٍ، ويَعرِضُه أمامَ أَربابِ الشُّعُورِ ثمَّ يَأْخذُه إلى الغَيبِ، ويَأْتِي مَكانَه بآخَرَ، وهكذا يَنشُرُ الواحِدَ تِلْوَ الآخَرَ في تَعاقُبٍ مُستَمِرٍّ، مُعَلِّقًا تلك العَوالِمَ بشَكلٍ مُتَسَلسِلٍ على شَرِيطِ الزَّمانِ.
فتَرى الرَّبِيعَ مُعجِزةً باهِرةً مِن مُعجِزاتِ القَدِيرِ الجَلِيلِ، يُوجِدُ فيه الأَشياءَ مِنَ “العَدَمِ”، ويُجَدِّدُ تلك العَوالِمَ الشّاسِعةَ مِن غيرِ شَيءٍ مَذكُورٍ؛ فالَّذي يُبَدِّلُ تلك العَوالِمَ، ويُجَدِّدُها ضِمنَ العالَمِ الأَكبَرِ، هو دُونَ شَكٍّ مَن خَلَق هذا العالَمَ وجَعَلَه وسَطْحَ الأَرضِ مائِدةً عامِرةً لِضُيُوفِه الكِرامِ.
أمّا مَوضُوعُ “الإمكانِ” فقد قال المُتَـكلِّمُون: إنَّ “الإمكانَ” مُتَساوِي الطَّرَفَينِ، أي: إذا تَساوَى العَدَمُ والوُجُودُ بالنِّسبةِ إلى شَيءٍ مّا، فلا بُدَّ مِن مُخَصِّصٍ ومُرَجِّحٍ ومُوجِدٍ، لأنَّ المُمكِنَ لا يُمكِنُه بَداهةً أن يُوجِدَ مُمكِنًا آخَرَ مِثلَه، أو لا يُمكِنُ أن يُوجِد هذا لِذاك وذاك لِهذا أيضًا، لأنَّ وُجُودَه يكُونُ سِلسِلةً دائِرةً مَغلُوقةً مِنَ “المُمكِناتِ”، فلا بُدَّ إذًا مِن “واجِبِ الوُجُودِ” يُوجِدُ الأَشياءَ كُلَّها..
ولقد فَنَّد عُلَماءُ الكَلامِ فِكْرةَ “الدَّوْرِ والتَّسَلسُلِ”، وأَثبَتُوا بُطلانَها باثنَيْ عَشَرَ بُرهانًا سُمِّيَت بالبَراهِينِ “العَرْشِيّةِ والسُلَّمِيّةِ”، وقَطَعُوا سِلسِلةَ الأَسبابِ والمُسَبَّباتِ، وأَثبَتُوا بذَلك “الواجِبَ الوُجُودِ”.
ونحنُ نقُولُ: إنَّ إظهارَ الخَتْمِ الخاصِّ للخالِقِ الجَلِيلِ على كلِّ شَيءٍ، المَختُومِ به كلُّ شَيءٍ، لَهُو أَسهَلُ وأَقوَى وُضُوحًا مِن بُرهانِ “انقِطاعِ سِلسِلةِ الأَسبابِ”، ثمَّ بُلُوغِ إثباتِ الخالِقِ جَلَّ وعَلا.
ولقد دَرَجَتْ بِفَيضِ القُرآنِ جَمِيعُ “الكَلِماتِ” و”النَّوافِذِ” على هذا المَدْرَجِ السَّهلِ القاطِعِ، ومعَ ذلك فإنَّ بَحْثَ “الإمكانِ” واسِعٌ جِدًّا، إذ يُبيِّنُ الخالِقَ مِن جِهاتٍ لا حَصْرَ لها، وليس مُنحَصِرًا بما سَلَكَه المُتَـكلِّمُون مِن طَرِيقٍ لإثباتِ الصَّانِعِ بإثباتِ انقِطاعِ التَّسَلسُلِ، فالطَّرِيقُ واسِعةٌ بلا حُدُودٍ، إذ تُؤَدِّي إلى مَعرِفةٍ لا حُدُودَ لها لِمَعرِفةِ واجِبِ الوُجُودِ.
وتَوضِيحُ ذلك كالآتي: بَينَما نَرَى كُلَّ شَيءٍ في وُجُودِه وفي صِفاتِه وفي مُدّةِ بَقائِه وحَياتِه، مُتَردِّدًا ضِمنَ طُرُقِ إمكاناتٍ واحتِمالاتٍ لا حَدَّ لها، إذا بنا نُشاهِدُه قد سَلَك مِن بينِ تلك الجِهاتِ الَّتي لا حَدَّ لها طَرِيقًا مُنتَظِمًا خاصًّا به، وتُمنَحُ كلُّ صِفةٍ مِن صِفاتِه كذلك بهذا الطِّرازِ المُخَصَّصِ، بل تُوهَبُ له بتَخصِيصٍ مُعَيَّنٍ صِفاتٌ وأَحوالٌ يُبَدِّلُها باستِمرارٍ ضِمنَ حَياتِه وبَقائِه..
إذًا، فسَوْقُ كلِّ شَيءٍ إلى طَرِيقٍ مُعَيَّنةٍ، واختِيارُ الطَّرِيقِ المُؤَدِّيةِ إلى حِكَمٍ مُعَيَّنةٍ مِن بينِ طُرُقٍ غيرِ مُتَناهِيةٍ، إنَّما هو بإرادةِ مُخَصِّصٍ، وبتَرجِيحِ مُرَجِّحٍ، وبإيجادِ مُوجِدٍ حَكِيمٍ؛ إذ تَرَى الشَّيءَ يُلبَسُ لِباسَ صِفاتٍ مُنتَظِمةٍ، وأَحوالٍ مُنَسَّقةٍ مُعَيَّنةٍ مُخَصَّصةٍ له، ثمَّ تَراه يُساقُ -أي: هذا الشَّيءُ- لِيَكُونَ جُزءًا مِن جِسمٍ مُرَكَّبٍ، فيَخرُجُ بهذا مِنَ الِانفِرادِ، وعِندَئذٍ تَزدادُ طُرُقُ الإمكاناتِ أَكثَرَ، لِأَنَّ هذا الجُزءَ يُمكِنُ أن يَتَّخِذَ أُلُوفًا مِنَ الأَشكالِ والأَنماطِ في ذلك الجِسمِ المُرَكَّبِ، والحالُ أَنَّنا نَرَى أنَّه يُمنَحُ له وَضْعٌ مُعَيَّنٌ ذُو فَوائِدَ ومَصالِحَ، ويُختارُ له هذا الوَضعُ مِن بَينِ ما لا يُحَدُّ مِنَ الأَوضاعِ الَّتي لا جَدْوَى له فيها. أي: يُساقُ إلى أَداءِ وَظائِفَ مُهِمّةٍ وبُلُوغِ مَنافِعَ شَتَّى لِذلك الجِسْمِ المُرَكَّبِ.
ثمَّ نَراه قد جُعِلَ جُزءًا مِن جِسم مُرَكَّبٍ آخَرَ، فتَزدادُ طُرُقُ الإمكاناتِ أَكثَرَ، لأنَّ هذا الجِسمَ كذلك يُمكِنُ أن يَتَشكَّلَ بأُلُوفِ الأَنماطِ، بَينَما نَراه قد اخْتِيرَ له وَضعٌ مُعَيَّنٌ ضِمنَ الأُلُوفِ المُؤَلَّفةِ مِنَ الطُّرُزِ والأَنماطِ، فيُساقُ إلى أَداءِ وَظائِفَ أُخرَى.. وهكذا كُلَّما أَوْغَلْتَ في الإمكاناتِ تَبيَّنَ لك بجَلاءٍ أنَّ جَمِيعَ هذه الطُّرُقِ تُوصِلُك إلى مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ، وتَجعَلُك تَقتَنِعُ اقتِناعًا تامًّا بأنَّ كلَّ شَيءٍ يُساقُ إلى وَظِيفةٍ بأَمرِ آمِرٍ عَلِيمٍ؛ حيثُ إنَّ جَمِيعَ المُرَكَّباتِ مُرَكَّبةٌ مِن أَجزاءٍ، وهذه مُرَكَّبةٌ مِن أَجزاءٍ أُخرَى.. وهكذا، فكلُّ جُزءٍ مَوضُوعٌ في مَوضِعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ المُرَكَّبِ، وله وَظائِفُه المُخَصَّصةُ في ذلك المَكانِ.. يُشبِهُ ذلك عَلاقةَ الجُندِيِّ معَ فَصِيلِه وسَرِيَّتِه ولِوائِه وفِرْقَتِه والجَيشِ كُلِّه؛ فله عَلاقاتٌ مُعَيَّنةٌ ذاتُ حِكْمةٍ معَ جَمِيعِ تلك التَّشكِيلاتِ العَسْكَرِيّةِ المُتَداخِلةِ، وله مُهِمّاتٌ ذاتُ تَناسُقٍ مُعَيَّنٍ معَ كلٍّ مِنها.
وبمِثلِ الخَلِيّةِ الَّتي في بُؤبُؤِ عَينِك، لها عَلاقةٌ وَظِيفيّةٌ معَ عَينِك، ولها وَظِيفةٌ ذاتُ حِكْمةٍ، ومَصالِحُ معَ الرَّأْسِ ككُلٍّ، حتَّى لوِ اختَلَط شَيءٌ جُزئيٌّ بتلك الخَلِيّةِ لَاختَلَّتْ إدارةُ الجِسمِ وصِحَّتُه، ولها عَلاقةٌ خاصّةٌ معَ الشَّرايِينِ والأَوْرِدةِ والأَعصابِ، بل عَلاقةٌ وَظِيفيّةٌ معَ الجِسمِ كُلِّه، مِمّا يُثبِتُ لنا أنَّ تلك الخَلِيّةَ قد أُعطِيَ لها ذلك المَوضِعُ المُعَيَّنُ في بُؤبُؤِ العَينِ، واختِيرَ لها ذلك المَكانُ مِن بينِ أُلُوفِ الأَمكِنةِ، للقِيامِ بتلك المَهامِّ؛ وليس ذلك إلَّا بحِكْمةِ صانِعٍ حَكِيمٍ.
فكُلُّ مَوجُوداتِ الكَونِ على هذا الغِرارِ، فكُلٌّ مِنها يُعلِنُ بذاتِه، بصِفاتِه، عن صانِعِه بلِسانِه الخاصِّ، ويَشهَدُ على حِكْمَتِه بسُلُوكِه في طَرِيقٍ مُعَيَّنةٍ ضِمنَ طُرُقِ إمكاناتٍ لا حَدَّ لها؛ وكُلَّما دَخَلَ إلى جِسمٍ مُرَكَّبٍ أَعلَن بلِسانٍ آخَرَ عن صانِعِه ضِمنَ تلك الطُّرُقِ الَّتي لا تُحَدُّ مِنَ الإمكاناتِ.
وهكذا يَشهَدُ كلُّ شَيءٍ على صانِعِه الحَكِيمِ وإرادَتِه واختِيارِه، شَهادةً بعَدَدِ تلك الطُّرُقِ مِن طُرُقِ الإمكاناتِ الَّتي لا تُحَدُّ، وبعَدَدِ المُرَكَّباتِ وإمكاناتِها وعَلاقاتِها الَّتي فيها، إلى أن تَصِلَ إلى أَعظَمِ مُرَكَّبٍ؛ لأنَّ الَّذي يَضَعُ شَيْئًا مّا بحِكمةٍ تامّةٍ في جَمِيعِ المُرَكَّباتِ، ويُحافِظُ على تلك العَلاقاتِ فيما بَينَها لا يُمكِنُ أن يكُونَ إلَّا خالقَ جَمِيعَ المُرَكَّباتِ.
أي إنَّ شَيْئًا واحِدًا بمَثابةِ شاهِدٍ بأُلُوفِ الأَلسِنةِ علَيه سُبحانَه وتَعالَى، بل ليس ثَمَّةَ أُلُوفُ الشَّهاداتِ على وُجُودِه سُبحانَه وحِكْمَتِه واختِيارِه وَحْدَها، بلِ الشَّهاداتُ مَوجُودةٌ أَيضًا بعَدَدِ الكائِناتِ، بل بعَدَدِ صِفاتِ كلِّ مَوجُودٍ وبعَدَدِ مُرَكَّباتِه. وهكذا تَرِدُ مِن زاوِيةِ “الإمكانِ” شَهاداتٌ لا تُحَدُّ على “الواجِبِ الوُجُودِ”.
فيا أيُّها الغافِلُ، قُل لي برَبِّك: ألَيس صَمُّ الآذانِ عن جَمِيعِ هذه الشَّهاداتِ الَّتي يَمْلَأُ صَداها الكَوْنَ كلَّه لَهُو صَمَمٌ ما بعدَه صَمَمٌ، وجَهْلٌ ما بعدَه جَهْلٌ؟!
[نافذة 31: النافذة الأنفُسية في الإنسان]
النَّافِذة الحَادِية والثَّلاثُون
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾
﴿وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾
نحنُ هنا أَمامَ نافِذةِ الإنسانِ، نَتَطلَّعُ مِن خِلالِ نَفْسِ الإنسانِ إلى نُورِ التَّوحِيدِ، ونحنُ إذ نُحِيلُ تَفاصِيلَ ذلك إلى الكُتُبِ والأَسفارِ المُدَوَّنةِ مِن قِبَلِ أُلُوفِ الأَولياءِ الصّالِحِين الَّذين بَحَثُوا في نَفسِ الإنسانِ بإِسهابٍ، نَوَدُّ أن نُشِيرَ إلى بِضْعِ إشاراتٍ مُستَلهَمةٍ مِن فَيضِ نُورِ القُرآنِ الكَرِيمِ، وهي كما يَأْتِي:
إنَّ الإنسانَ هو نُسخةٌ جامِعةٌ لِما في الوُجُودِ مِن خَواصَّ، حتَّى يُشعِرُهُ الحَقُّ سُبحانَه وتَعالَى جَمِيعَ أَسمائِه الحُسنَى المُتَجلِّيةِ بما أُودِعَ في نَفسِ الإنسانِ مِن مَزايا جامِعةٍ.
نَكتَفِي في بَيانِ هذا بما ذَكَرْناه في “الكَلِمةِ الحادِيةَ عَشْرةَ” وفي رَسائِلَ أُخرَى، غيرَ أَنَّنا نُبيِّنُ هنا ثَلاثَ نِقاطٍ فَقَطْ:
[النقطة الأولى: الإنسان مرآة لتجليات الأسماء الإلهية]
النُّقطةُ الأُولَى: إنَّ “الإنسانَ” مِرآةٌ عاكِسةٌ لِتَجَلِّياتِ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى بثَلاثةِ أَوجُهٍ:
الوَجهُ الأَوَّلُ: كما أنَّ الظَّلامَ سَبَبٌ لِرُؤيةِ النُّورِ، أي إنَّ ظَلامَ اللَّيلِ وشِدَّتَه يُبيِّنُ النُّورَ ويُظهِرُه بشَكلٍ أَكثَرَ وُضُوحًا.. فالإنسانُ أَيضًا يُعرِّفُ بضَعْفِه وعَجْزِه وبفَقْرِه وحاجاتِه، وبنَقْصِه وقُصُورِه، قُدرةَ القَدِيرِ ذِي الجَلالِ، وقُوَّتَهُ العَظِيمةَ، وغِناه المُطلَقَ، ورَحْمَتَه الواسِعةَ.
فيكُونُ الإنسانُ بهذا كأنَّه مِرآةٌ عاكِسةٌ لِكَثيرٍ مِن تَجَلِّياتِ الصِّفاتِ الإلٰهِيّةِ الجَلِيلةِ، بل حتَّى إنَّ ما يَحمِلُه مِن ضَعْفٍ شَدِيدٍ، وما يَكتَنِفُه مِن أَعداءٍ لا حَدَّ لهم، يَجعَلُه يَتَحرَّى دائمًا عن مُرتَكَزٍ يَرتَكِزُ علَيه، ومُستَنَدٍ يَستَنِدُ إلَيه، فلا يَجِدُ وِجْدانُه المَلهُوفُ إلَّا اللهَ سُبحانَه.
وهو مُضطَرٌّ أيضًا إلى تَحَرِّي نُقطةِ استِمدادٍ يَستَمِدُّ مِنها حاجاتِه الَّتي لا تَتَناهَى، ويَسُدُّ بها فَقْرَه غيرَ المُتَناهِي، ويُشبِعُ آمالَه الَّتي لا نِهايةَ لها، فلا يَجِدُ في غَمْرةِ تَحَرِّيه إلَّا الِاستِمدادَ -مِن هذه الجِهةِ- إلى بابِ غَنِيٍّ رَحِيمٍ، فيَتَضرَّعُ إلَيه بالدُّعاءِ والتَّوَسُّلِ.
أي إنَّ في كلِّ وِجْدانٍ نافِذَتَينِ صَغِيرَتَينِ مِن جِهةِ نُقطةِ الِاستِنادِ والِاستِمدادِ، فيَتَطلَّعُ الإنسانُ مِنهُما دَوْمًا إلى دِيوانِ رَحْمةِ القَدِيرِ الرَّحِيمِ.
أمّا الوَجْهُ الثّاني: وهو أنَّ الإنسانَ بما وُهِبَ مِن نَماذِجَ جُزئيّةٍ مِنَ “العِلْمِ، والقُدْرةِ، والبَصَرِ، والسَّمْعِ، والتَّمَلُّكِ، والحاكِمِيّةِ” وأَمثالِها مِنَ الصِّفاتِ الجُزئيّةِ، يُؤَدِّي وَظِيفةَ مِرآةٍ عاكِسةٍ لعِلمِ مالِكِ الكَوْنِ وقُدرَتِه وسَمْعِه وبَصَرِه وحاكِمِيّةِ رُبُوبيَّتِه، ويَفهَمُ تلك الصِّفاتِ ويُبلِّغُها، فمَثلًا:
كما أنَّني قد قُمتُ ببِناءِ هذا البَيتِ، وأَعلَمُ تَفاصِيلَه، وأُشاهِدُ جَمِيعَ جَوانِبِه وأَجزائِه، وأُدِيرُه بنَفسِي، فأنا مالِكُه، كذلك لا بُدَّ لِهذا الكَونِ العَظِيمِ مِن مُبدِعٍ ومالِكٍ يَعرِفُ أَجزاءَه مَعرِفةً كامِلةً، ويُبصِرُ كلَّ صَغِيرةٍ وكَبِيرةٍ فيه، ويُدِيرُه.
الوَجهُ الثّالثُ: لِكَوْنِ الإنسانِ مِرآةً عاكِسةً للأَسماءِ الحُسنَى، فهو أيضًا مِرآةٌ عاكِسةٌ لها مِن حَيثُ نُقُوشُها الظّاهِرةُ علَيه؛ ولقد وُضِّحَ هذا بشَيءٍ مِنَ التَّفصِيلِ في مُستَهَلِّ “المَوقِفِ الثّالِثِ” مِنَ “الكَلِمةِ الثّانيةِ والثَّلاثِينَ” أنَّ “الماهِيّةَ” الجامِعةَ للإنسانِ، فيها أَكثَرُ مِن سَبعِين نَقْشًا ظاهِرًا مِن نُقُوشِ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى.
فمَثلًا: يُبيِّنُ الإنسانُ مِن كَوْنِه مَخلُوقًا اسْمَا “الصّانِعِ” و”الخالِقِ”، ويُظهِرُ مِن حُسْنِ تَقْوِيمِه اسْمَ “الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ”، ويَدُلُّ مِن كَيفِيّةِ تَربِيَتِه ورِعايَتِه على اسمِ “الكَرِيمِ” واسمِ “اللَّطِيفِ”.
وهكذا يُبْرِزُ الإنسانُ نُقُوشًا مُتَنوِّعةً ومُختَلِفةً للأَسماءِ الحُسنَى المُتَنوِّعةِ بجَمِيعِ أَعضائِه وأَجهِزَتِه، وجَوارِحِه وبجَمِيعِ لَطائِفِه ومَعنَوِيّاتِه، وبجَمِيعِ حَواسِّه ومَشاعِرِه. أي: كما أنَّ في الأَسماءِ الحُسنَى اسمًا أَعظَمَ للهِ تَعالَى، فهناك نَقْشٌ أَعظَمُ في نُقُوشِ تلك الأَسماءِ، وذلك هو الإنسانُ.
فيا مَن يَعُدُّ نَفسَه إنسانًا حَقًّا، اقْرَأْ نَفسَك بنَفسِك، وإن لم تَفْعَلْ فلَرُبَّما تَهبِطُ مِن مَرتَبةِ الإنسانيّةِ إلى مَرتَبةِ الأَنعامِ.
[النقطة الثانية: وحدة الروح إشارةٌ إلى سر الأحدية]
النُّقطةُ الثانيةُ:
تُشِيرُ هذه النُّقطةُ إلى سِرٍّ مُهِمٍّ مِن أَسرارِ الأَحَدِيّةِ، وتَوضِيحُه كما يَأْتِي:
كما أنَّ رُوحَ الإنسانِ، تَرتَبِطُ بعَلاقاتٍ وأَواصِرَ معَ جَمِيعِ أَنحاءِ جِسمِ الإنسانِ، حتَّى تَجعَلَ جَمِيعَ أَعضائِه وجَمِيعَ أَجزائِه، في تَعاوُنٍ تامٍّ فيما بينَها. أي إنَّ الرُّوحَ الَّتي هي لَطِيفةٌ رَبّانيّةٌ وقانُونٌ أَمرِيٌّ أُلبِسَ الوُجُودَ الخارِجِيَّ بالأَوامِرِ التَّكوِينيّةِ الَّتي هي تَجَلِّي الإرادةِ الإلٰهِيّةِ، لا يَحجُبُها شَيءٌ عن إدارةِ شُؤُونِ كلِّ جُزءٍ مِن أَجزاءِ الجِسمِ، ولا يَشغَلُها شَيءٌ عن تَفَقُّدِها وإيفاءِ حاجاتِ الجِسمِ بكُلِّ جُزءٍ مِن أَجزائِه؛ فالبَعِيدُ والقَرِيبُ إزاءَها سَواءٌ، ولا يَمنَعُ شَيءٌ شَيئًا قَطُّ، إذ تَقْدِرُ على مَدِّ عُضْوٍ واحِدٍ بإِمدادٍ مِن سائِرِ الأَعضاءِ، وتَستَطِيعُ أن تَسُوقَ إلى خِدْمَتِه الأَعضاءَ الأُخرَى، بل تَقدِرُ أن تَعرِفَ جَمِيعَ الحاجاتِ بكلِّ جُزءٍ مِن أَجزاءِ الجِسمِ، وتُحِسَّ مِن خِلالِ هذا الجُزءِ بجَمِيعِ الإحساساتِ، وتُدِيرَ مِن هذا الجُزءِ الواحِدِ الجِسمَ بأَكمَلِه؛ بل تَتَمكَّنُ الرُّوحُ أن تَرَى وتَسمَعَ بكُلِّ جُزءٍ مِن أَجزاءِ الجِسمِ إن كانَت قدِ اكتَسَبَت نُورانيّةً أَكثَرَ..
فما دامَتِ الرُّوحُ الَّتي هي قانُونٌ أَمرِيٌّ مِن قَوانِينِ اللهِ سُبحانَه، لها هذه القُدرةُ لإظهارِ أَمثالِ هذه الإجراءاتِ في العالَمِ الصَّغِيرِ وهو الإنسانُ، فكيفَ يَصعُبُ على الإرادةِ المُطلَقةِ -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- وعلى قُدرَتِه المُطلَقةِ القِيامُ بأَفعالٍ لا حَدَّ لها في العالَمِ الأَكبَرِ، وهو الكَونُ، وسَماعُ أَصواتٍ لا حَدَّ لها فيه، وإجابةُ دَعَواتٍ لا نِهايةَ لها تَنطَلِقُ مِن مَوجُوداتِه؟ فهو سُبحانَه يَفعَلُ ما يَشاءُ في آنٍ واحِدٍ، فلا يَؤُودُه شَيءٌ ولا يَحتَجِبُ عنه شَيءٌ، ولا يَمنَعُ مِنه شَيءٌ شَيئًا، ولا يَشغَلُه شَيءٌ عن شَيءٍ.. يَرَى الكُلَّ في آنٍ واحِدٍ، ويَسمَعُ الكُلَّ في آنٍ واحِدٍ، فالقَرِيبُ والبَعِيدُ لَدَيه سَواءٌ، يَسُوقُ -إن أَرادَ- كُلَّ شَيءٍ لِشَيءٍ واحِدٍ؛ يُبصِرُ كُلَّ شَيءٍ مِن أَيِّ شَيءٍ كان، يَسمَعُ أَصواتَ كلِّ شَيءٍ، ويَعرِفُ كلَّ شَيءٍ بكُلِّ شَيءٍ، فهو رَبُّ كلِّ شَيءٍ.
[النقطة الثالثة: مشاعر الحياة تشير إلى شؤون إلهية]
النُّقطةُ الثالثةُ: إنَّ للحَياةِ ماهِيّةً عَظِيمةً مُهِمّةً، ووَظِيفةً ذاتَ أَهَمِّيّةٍ بالِغةٍ، وحيثُ إنَّ هذا البَحْثَ قد فُصِّلَ في “نافِذةِ الحَياةِ” وهي “النّافِذةُ الثَّالِثةُ والعِشْرُون” وفي “المَكتُوبِ العِشرِين” الكَلِمةِ الثَّامِنةِ مِنه، نُحِيلُ البَحْثَ إلَيهِما، ونُنبِّهُ هنا إلى ما يَأْتِي:
إنَّ النُّقُوشَ المَمزُوجةَ في الحَياةِ والَّتي تَظهَرُ على صُورةِ حَواسَّ ومَشاعِرَ، هذه النُّقُوشُ تُشِيرُ إلى أَسماءٍ إلٰهِيّةٍ حُسنَى كَثِيرةٍ، وإلى شُؤُونٍ ذاتيّةٍ للهِ سُبحانَه وتَعالَى؛ فتكُونُ الحَياةُ مِن هذه الوِجْهةِ مِرآةً عاكِسةً ساطِعةً لِتَجَلِّياتِ الشُّؤُونِ الذَّاتيّةِ للحَيِّ القَيُّومِ.
ولَمَّا كان وَقْتُنا لا يَتَّسِعُ لإيضاحِ هذا السِّرِّ لأُولَئك الَّذين لم يَرتَضُوا باللهِ رَبًّا، والَّذين لم يَبلُغُوا بَعدُ مَرتَبةَ الإيمانِ اليَقِينِ، لِذا سنُغلِقُ هذا البابَ.
[نافذة 32: الجناب النبوي الشريف ﷺ]
النَّافِذة الثَّانِية والثَّلاثُون
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾
هذه النَّافِذةُ هي نافِذةٌ تَخُصُّ شَمسَ سَماءِ الرِّسالةِ، بل شَمسَ شُمُوسِ النُّبوّةِ، حَبِيبَ رَبِّ العالَمِين، مُحَمَّدًا علَيه أَفضَلُ الصَّلاةِ والتَّسلِيمِ.
إنَّ هذه النّافِذةَ ساطِعةٌ سُطُوعَ الشَّمسِ، وواسِعةٌ سَعةَ الكَونِ، ومُنَوَّرةٌ نُورانيّةَ النَّهارِ؛ وحيثُ إنَّنا قد أَثْبَتْنا “النُّبوّةَ” إثباتًا قاطِعًا في “الكَلِمةِ الحادِيةِ والثَّلاثِين: رِسالةِ المِعراجِ“، وفي “الكَلِمةِ التَّاسِعةَ عَشْرة: رِسالةِ النُّبوّةِ الأَحمَدِيّةِ” وفي “المَكتُوبِ التّاسِعَ عَشَر: رِسالةِ المُعجِزاتِ الأَحمَدِيّةِ”، لِذا فنحنُ نَستَعِيدُ هنا بذاكِرَتِنا بعضَ ما هو مَذكُورٌ في تلك الرَّسائِلِ، ونُحِيلُ إلَيها، إلَّا أنَّنا نقُولُ:
إنَّ الرَّسُولَ الأَكرَمُ علَيه أَفضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، الَّذي هو بُرهانُ التَّوحِيدِ النَّاطِقُ، قد أَعلَنَ التَّوحِيدَ وأَظهَرَه بجَلاءٍ، وبَيَّنه للبَشَرِيّةِ أَبلَغَ بَيانٍ، في جَمِيعِ سِيرَتِه العَطِرةِ، وبكُلِّ ما وَهَبَه اللهُ مِن قُوّةٍ، فهو الَّذي يَملِكُ بجَناحَيِ الرِّسالةِ والوِلايةِ قُوّةَ إجماعِ وتَواتُرِ جَمِيعِ الأَنبِياءِ الَّذين أَتَوْا قَبلَه، وقُوّةَ تَواتُرِ وإجماعِ جَمِيعِ الأَولِياءِ والأَصفِياءِ الَّذين أَتَوْا بَعدَه، وفَتَح بهذه القُوّةِ الهائِلةِ نافِذةً واسِعةً عَظِيمةً سَعةَ العالَمِ الإسلاميِّ إزاءَ مَعرِفةِ اللهِ سُبحانَه، فبَدَأَ يَتَطلَّعُ مِنها مَلايِينُ العُلَماءِ المُحَقِّقين والأَصفِياءِ والصِّدِّيقِين أَمثالَ: الإمامِ الغَزّالِيِّ والإمامِ الرَّبّانِيِّ ومُحيِي الدِّينِ بنِ عَرَبيٍّ والشَّيخِ الگيْلانِيِّ، فهَؤُلاء وغيرُهم يَتَطلَّعُون مِن هذه النّافِذةِ المَفتُوحةِ، ويُبيِّنُونَها للآخَرِين.
فهل هُناك مِن سِتارٍ -يا تُرَى- يُمكِنُ إسدالُه على هذه النّافِذةِ العَظِيمةِ؟! وهل يَملِكُ مَن لا يَنظُرُ مِن هذه النّافِذةِ شَيْئًا مِنَ العَقْلِ؟ ! فاحْكُمْ أَنتَ.
[نافذة 33: القرآن الحكيم بحر التوحيد]
النَّافِذة الثَّالِثة والثَّلاثُون
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾
﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾
تَأَمَّلْ واعْلَمْ أنَّ ما ذُكِرَ في جَمِيعِ “النَّوافِذِ” السّابِقةِ ما هو إلَّا بِضْعُ قَطَراتٍ مِن بَحْرِ “القُرآنِ الكَرِيمِ”، فإذا كان الأَمرُ هكذا فإنَّك تَستَطِيعُ الآنَ قِياسَ الأَمْداءِ العَظِيمةِ لِأَنوارِ التَّوحِيدِ الَّتي تَفِيضُ مِن بَحرِ الحَياةِ في القُرآنِ الكَرِيمِ، ولو أنَّنا نَظَرْنا مُجَرَّدَ نَظْرةٍ بَسِيطةٍ ومُجمَلةً إلى مَنبَعِ جَمِيعِ تلك النَّوافِذِ، وكَنزِها وأَصْلِها -وهو القُرآنُ العَظِيمُ- لَوَجَدْناه نافِذةً جامِعةً ساطِعةً تُشِعُّ نُورًا فَيّاضًا لا حَدَّ له، وحيثُ إنَّ “الكَلِمةَ الخامِسةَ والعِشرِين: رِسالةُ إعجازِ القُرآن“، والإشارةَ الثَّامِنةَ عَشْرةَ مِنَ “المَكتُوبُ التّاسِعَ عَشَرَ”، قد تَناوَلَتَا سَعةَ هذه النّافِذةِ وسُطُوعَها بما فيه الكِفايةُ، لِذا نُحِيلُ البَحثَ إلَيهِما.
وخِتامًا نَرْفَعُ أَكُفَّنا ضارِعِين أَمامَ عَرْشِ الرَّحمٰنِ جَلَّ جَلالُه الَّذي أَنزَلَ علَينا هذا القُرآنَ الكَرِيمَ رَحْمةً ونُورًا وهِدايةً وشِفاءً ونقُولُ:
﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾
﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
❀ ❀ ❀
تنبيه
هذا المَكتُوبُ “الثَّالِثُ والثَّلاثُونَ” الَّذي يَضُمُّ ثَلاثًا وثَلاثين نافِذةً، نَسأَلُ اللهَ تَعالَى أن يكُونَ زادًا لِمَن لا إيمانَ له، فيَدعُوَه إلى حَظِيرةِ الإيمانِ، ويَشُدَّ مِن إيمانِ الَّذي يَجِدُ في إيمانِه ضَعْفًا فيُقَوِّيَه، ويَجعَلَ الإيمانَ القَوِيَّ التَّقلِيدِيَّ إيمانًا تَحقِيقيًّا راسِخًا، ويُوَسِّعَ مِن آفاقِ الإيمانِ التَّحقِيقيِّ الرّاسِخِ، ويَهَبَ لِمَن كان إيمانُه واسِعًا مَدارِجَ الرُّقِيِّ في المَعرِفةِ الإلٰهِيّةِ الَّتي هي الأَساسُ في الكَمالِ الحَقِيقيِّ، ويَفتَحَ أَمامَه مَشاهِدَ أَكثَرَ نُورانيّةً وأَشَدَّ سُطُوعًا.
لِأَجْلِ هذا، فلَيس لك أن تقُولَ: أَكتَفِي بنافِذةٍ واحِدةٍ دُونَ الأُخرَى، ذلك لأنَّ القَلْبَ يَطلُبُ حَظَّه رَغْمَ أنَّ العَقلَ قدِ انتَفَعَ، والرُّوحُ هي الأُخرَى تُطالِبُ بحَظِّها، بل حتَّى الخَيالُ يُطالِبُ بقَبَسٍ مِن ذلك النُّورِ؛ أي إنَّ كُلَّ نافِذةٍ مِنَ النَّوافِذِ لها فَوائِدُ مُتَنوِّعةٌ، ومَنافِعُ شَتَّى.. ولقد كانَ المُخاطَبُ الأَساسُ في “رِسالةِ المِعراجِ” السّابقةِ، هو المُؤمِنَ، وكان المُلحِدُ في مَوضِعِ الِاستِماعِ، أمَّا هذه الرِّسالةُ فالمُخاطَبُ الأَساسُ فيها هو المُنكِرُ الجاحِدُ، والمُؤمِنُ هو في مَوضِعِ الِاستِماعِ.
ولَمَّا كُنتُ قد كَتَبتُ هذا المَكتُوبَ في غايةِ السُّرعةِ بِناءً على سَبَبٍ مُهِمٍّ، لِذا فقد بَقِيَ على حالِه، ولم أُراجِعْ مُسَوَّدَتَه، ولم أُدخِلْ علَيها أَيَّ تَعدِيلٍ، فلا جَرَمَ أن سيَكُونُ فيه شَيءٌ مِنَ القُصُورِ والتَّشَوُّشِ في بعضِ العِباراتِ، وفي طَرِيقةِ العَرضِ.. فأَرجُو مِن إخواني أن يَنظُرُوا إلَيه بعَينِ الصَّفْحِ والسَّماحِ، ويُصَحِّحُوا -إن استَطاعُوا- ما بَدَر مِنِّي مِن خَطَأٍ، ويَدْعُوا لي بالمَغفِرةِ. والسَّلامُ على مَنِ اتَّبَع الهُدَى.. والمَلامُ على مَنِ اتَّبَع الهَوَى.
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
﴿اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مَن أَرسَلتَهُ رَحمَةً لِلعَالَمِينَ، وعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَسَلِّم.. آمِينَ﴾
❀ ❀ ❀