الكلمة الحادية والثلاثون: رسالة المعراج.
[تتحدث هذه الكلمة عن الإسراء والمعراج النبوي، عن حقيقته وحكمته وأسراره وضرورته وثمراته]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
![فإن الله تعالى دعا عبدَه إلى حضرته ليكلفه بمهمة، فأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مجمعِ الأنبياء، وبعد لقائه بهم وإظهار أنه الوارث المطلق لأصول أديان جميع الأنبياء، سيَّره في جولةٍ في ملكه وسياحةٍ في ملكوته حتى أبلغه سدرةَ المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى.](https://said-nursi.com/wp-content/uploads/2024/12/7a8a5bf616494196fb69a424e2f4370a.jpg)
الكلمة الحادية والثلاثون
المعراج النبوي
[تنبيه: مسألة المعراج يخاطَب بها المؤمن لا الملحد]
تنبيه
إنَّ مَسأَلةَ المِعراجِ نَتِيجةٌ تَتَرتَّبُ على أُصُولِ الإيمانِ وأَركانِه، فهي نُورٌ يَستَمِدُّ ضَوْءَه مِن أَنوارِ الأَركانِ الإيمانيّةِ؛ فلا تُقامُ الحُجَجُ لإثباتِ المِعراجِ بالذّاتِ للمُلحِدِين المُنكِرِين لِأَركانِ الإيمانِ، بل لا يُذكَرُ أَصْلًا لِمَن لا يُؤمِنُ باللهِ جَلَّ وعَلا ولا يُصَدِّقُ بالرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ أو يُنكِرُ المَلائِكةَ والسَّماواتِ، إلّا بعدَ إثباتِ تلك الأَركانِ لهم مُقَدَّمًا؛ لِذا سنَجعَلُ المُؤمِنَ الَّذي ساوَرَتْه الشُّكُوكُ والأَوهامُ فاستَبْعَدَ المِعراجَ، مَوضِعَ خِطابِنا، فنُبيِّنُ له ما يُفِيدُه ويَشفِيه بإذنِ اللهِ؛ ولكن نَلْحَظُ بينَ آوِنةٍ وأُخرَى ذلك المُلْحِدَ الَّذي يَتَرقَّبُ في مَوضِعِ الِاستِماعِ ونَسرُدُ له مِنَ الكَلامِ أَيضًا ما يُفِيدُه.
ولقد ذُكِرَت لَمَعاتٌ مِن حَقِيقةِ المِعراجِ في رَسائِلَ أُخرَى، فاستَمْدَدْنا العِنايةَ مِنَ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى معَ إصرارِ إِخوَتي الأَحِبّةِ على جَمْعِ تلك اللَّمَعاتِ المُتَفرِّقةِ ورَبْطِها معَ أَصلِ الحَقِيقةِ نَفسِها لِجَعْلِها مِرآةً تَعكِسُ دُفْعةً واحِدةً جَمالَ كَمالاتِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ.
[بيان موجز لآيات الإسراء والمعراج]
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى *﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾
نَذكُرُ مِنَ الخَزِينةِ العُظمَى للآيةِ الكَرِيمةِ المُتَصدِّرةِ، رَمْزَينِ اثنَينِ فقط، وهما رَمزانِ يَستَنِدانِ إلى دُستُورٍ بَلاغِيٍّ في ضَمِيرِ ﴿إِنَّه﴾، وذلك لِعَلاقَتِهما بمَسأَلَتِنا هذه، بمِثلِ ما بَيَّنّاهما في رِسالةِ “المُعجِزاتُ القُرآنيّةُ”.
إنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ يَختِمُ الآيةَ المَذكُورةَ أَعلاه بـ ﴿إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، وذلك بعدَ ذِكْرِه إسراءَ الرَّسُولِ الحَبِيبِ ﷺ مِن مَبْدَأِ المِعراجِ، أي: مِنَ المَسجِدِ الحَرامِ إلى المَسجِدِ الأَقصَى، ومُنتَهاه الَّذي تُشِيرُ إلَيه سُورةُ النَّجْمِ.
فالضَّمِيرُ في ﴿إِنَّه﴾ إمّا أن يَرجِعَ إلى اللهِ تَعالَى، أو إلى الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ.
فإذا كانَ راجِعًا إلى الرَّسُولِ ﷺ، فإنَّ قَوانِينَ البَلاغةِ ومُناسَبةَ سِياقِ الكَلامِ تُفِيدانِ بأنَّ هذه السِّياحةَ الجُزئيّةَ، فيها مِنَ السَّيرِ العُمُوميِّ والعُرُوجِ الكُلِّيِّ بحَيثُ إنَّه ﷺ قد سَمِعَ وشاهَدَ كلَّ ما لاقَى بَصَرُه وسَمْعُه مِنَ الآياتِ الرَّبّانيّةِ، وبَدائِعِ الصَّنْعةِ الإلٰهِيّةِ في أَثناءِ ارتِقائِه في المَراتِبِ الكُلِّيّةِ للأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى البالِغةِ إلى سِدْرةِ المُنتَهَى، حتَّى كان قابَ قَوْسَينِ أو أَدنَى؛ مِمّا يَدُلُّ على أنَّ هذه السِّياحةَ الجُزئيّةَ هي في حُكْمِ مِفتاحٍ لِسِياحةٍ كُلِّيّةٍ جامِعةٍ لِعَجائِبِ الصَّنْعةِ الإلٰهِيّةِ.
وإذا كان الضَّمِيرُ راجِعًا إلى اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، فالمَعنَى يكُونُ عِندَئذٍ هكذا: إنَّه سُبحانَه وتَعالَى دَعا عَبْدَه إلى حُضُورِه والمُثُولِ بينَ يَدَيه لِيُنيطَ به مُهِمّةً ويُكَلِّفَه بوَظِيفةٍ، فأُسرِيَ به مِنَ المَسجِدِ الحَرامِ إلى المَسجِدِ الأَقصَى الَّذي هو مَجمَعُ الأَنبِياءِ، وبعدَ إجراءِ اللِّقاءِ معَهم وإظهارِه بأنَّه الوارِثُ المُطلَقُ لِأُصُولِ أَديانِ جَمِيعِ الأَنبِياءِ؛ سَيَّره في جَوْلةٍ ضِمنَ مُلْكِه وسِياحةٍ ضِمْنَ مَلَكُوتِه، حتَّى أَبلَغَه سِدْرةَ المُنتَهَى، فكان قابَ قَوسَينِ أو أَدنَى.
وهكذا، فإنَّ تلك السِّياحةَ أوِ السَّيرَ، وإن كانَت مِعْراجًا جُزْئيًّا وأنَّ الَّذي عُرِجَ به عَبدٌ، إلّا أنَّ هذا العَبدَ يَحمِلُ أَمانةً عَظِيمةً تَتَعلَّقُ بجَمِيعِ الكائِناتِ، ومعَه نُورٌ مُبِينٌ يُنِيرُ الكائِناتِ ويُبَدِّلُ -مَعنًى- مَلامِحَها ويَصبِغُها بصِبْغَتِه، فَضْلًا عن أنَّ لَدَيه مِفتاحًا يَستَطِيعُ أن يَفتَحَ به بابَ السَّعادةِ الأَبدِيّةِ والنَّعِيمِ المُقِيمِ.
فلِأَجلِ كلِّ هذا يَصِفُ اللهُ سُبحانَه وتَعالَى نَفسَه بـ ﴿إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ كي يُظهِر أنَّ في تلك الأَمانةِ وفي ذلك النُّورِ وفي ذلك المِفتاحِ، مِنَ الحِكَمِ السّامِيةِ ما يَشمَلُ عُمُومَ الكائِناتِ، ويَعُمُّ جَمِيعَ المَخلُوقاتِ، ويُحِيطُ بالكَونِ أَجمَعَ.
[أربعة أسس تتعلق بالإسراء والمعراج]
هذا، وإنَّ لِهذا السِّرِّ العَظِيمِ أَربَعةَ أُسُسٍ:
أوَّلُها: ما سِرُّ لُزُومِ المِعراجِ؟
ثانيها: ما حَقِيقةُ المِعراجِ؟
ثالثُها: ما حِكْمةُ المِعراجِ؟
رابعُها: ما ثَمَراتُ المِعراجِ وفَوائِدُه؟
[الأساس الأول: لماذا المعراج مع أن الله تعالى قريب؟]
الأساسُ الأوَّلُ: سِرُّ لُزومِ المعراجِ
يُقالُ مَثلًا: إنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى وهو المُنَـزَّهُ عنِ الجِسمِ والمَكانِ أَقرَبُ إلى كلِّ شَيءٍ مِن كلِّ شَيءٍ، كما تَنُصُّ علَيه الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ حتَّى يَستَطِيعُ كلُّ وَليٍّ مِن أَولياءِ اللهِ الصَّالِحِين أن يُقابِلَ رَبَّه ويُناجِيَه في قَلبِه.. فلِمَ يُوَفَّقُ كلُّ وَليٍّ إلى مُناجاتِه سُبحانَه في قَلبِه، بَينَما الوِلايةُ الأَحمَدِيّةُ تُوفَّقُ إلَيها بعدَ سَيرٍ مَدِيدٍ وسِياحةٍ طَوِيلةٍ بالمِعْراجِ؟
الجَوابُ: نُقرِّبُ هذا السِّرَّ الغامِضَ إلى الفَهْمِ بذِكرِ مِثالَينِ اثنَينِ، فاستَمِعْ إلَيهما، وهما مَذكُورانِ في “الكَلِمةِ الثّانِيةَ عَشْرةَ” لَدَى بَيانِ سِرِّ إعجازِ القُرآنِ وحِكمةِ المِعراجِ.
[مثال2: للسلطان أسلوبان في الحديث إلى الرعية]
المِثالُ الأوَّلُ:
إنَّ للسُّلطانِ نَوعَينِ مِنَ المُكالَمةِ والمُقابَلةِ، وطِرازَينِ مِنَ الخِطابِ والكَلامِ والتَّكرِيمِ والِالتِفاتِ.
الأوَّلُ: مُكالَمةٌ خاصّةٌ بوَساطةِ هاتِفٍ خاصٍّ، معَ أَحَدِ رَعاياه مِنَ العَوامِّ، في أَمرٍ جُزئيٍّ يعُودُ إلى حاجةٍ خاصّةٍ له.
والآخَرُ: مُكالَمةٌ باسمِ السَّلْطنةِ العُظمَى وبعُنوانِ الخِلافةِ الكُبْرَى، وبصِفةِ الحاكِمِيّةِ العامّةِ، بأَمرٍ رَفِيعٍ كَرِيمٍ يُظهِرُ عَظَمتَه ويُبيِّنُ هَيْبتَه، يَقصِدُ مِنها نَشْرَ أَوامِرِه السُّلطانيّةِ في الآفاقِ؛ فهي مُكالَمةٌ تَجرِي معَ أَحَدِ مَبعُوثِيه مِمَّن له عَلاقةٌ معَ تلك الأُمُورِ، أو معَ أَحَدِ كِبارِ مُوَظَّفِيه مِمَّن له علاقةٌ معَ تلك الأَوامِرِ.
وهكذا بمِثلِ هذا المِثالِ -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- فإنَّ خَلّاقَ الكَونِ ومالِكَ المُلكِ والمَلَكُوتِ، والحاكِمَ الأَزَليَّ المُطلَقَ، له طِرازانِ مِنَ المُكالَمةِ والِالتِفاتِ والتَّكرِيمِ:
الأوَّلُ: جُزئيٌّ وخاصٌّ، والآخَرُ: كُلِّيٌّ وعامٌّ.
فالمِعراجُ النَّبَوِيُّ مَظهَرٌ رَفِيعٌ سامٍ للوِلايةِ الأَحمَدِيّةِ ظَهَرَ بكُلِّيّةٍ تَفُوقُ جَمِيعَ الوِلاياتِ، وبرِفعةٍ وعُلُوٍّ يَسمُو علَيها جَمِيعًا؛ إذ إنَّه تَشَرَّفَ بمُكالَمةِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى ومُناجاتِه باسمِ رَبِّ العالَمِين وبعُنوانِ خالِقِ المَوجُوداتِ.
[مثال2: للشمس صورتان في تجلي شعاعها على الموجودات]
المِثالُ الثاني:
رَجُلٌ يُمسِكُ مِرآةً تِجاهَ الشَّمسِ، فالمِرآةُ تَلتَقِطُ -حَسَبَ سَعَتِها- نُورًا وضِياءً يَحمِلُ الأَلوانَ السَّبعةَ مِنَ الشَّمسِ؛ فيكُونُ الرَّجُلُ ذا عَلاقةٍ معَ الشَّمسِ بنِسبةِ تلك المِرآةِ، ويُمكِنُه أن يَستَفِيدَ مِنها فيما إذا وَجَّهَها إلى غُرفَتِه المُظلِمةِ أو إلى مَشتَلِه الخاصِّ الصَّغِيرِ المَسقُوفِ، بَيْدَ أنَّ استِفادَتَه مِنَ الضَّوءِ تَنحَصِرُ بمِقدارِ قابِلِيّةِ المِرآةِ على ما تَعكِسُه مِن نُورِ الشَّمسِ، ولَيسَت بمِقدارِ عِظَمِ الشَّمسِ.
بَينَما رَجُلٌ آخَرُ يَدَعُ المِرآةَ، ويُجابِهُ الشَّمسَ مُباشَرةً، ويُشاهِدُ هَيْبَتَها ويُدرِكُ عَظَمَتَها، ثمَّ يَصعَدُ على جَبَلٍ عالٍ جِدًّا ويَنظُرُ إلى شَعشَعةِ سُلْطانِها الواسِعِ المَهِيبِ، ويُقابِلُها بالذّاتِ دُونَ حِجابٍ؛ ثمَّ يَرجِعُ ويَفتَحُ مِن بَيتِه الصَّغِيرِ أو مِن مَشتَلِه المَسقُوفِ الخاصِّ نَوافِذَ واسِعةً نحوَ الشَّمسِ وهي في أَعالي السَّماءِ، فيُجرِي حِوارًا معَ الضِّياءِ الدّائِمِ للشَّمسِ الحَقِيقيّةِ، ويُناجِيها.
وهكذا يَستَطِيعُ هذا الرَّجُلُ أن يَقُومَ بهذه المُقابَلةِ والمُحاوَرةِ المُؤْنِسةِ المُكَلَّلةِ بالشُّكرِ والِامتِنانِ، ويُناجِيَ الشَّمسَ قائِلًا: “إيهِ يا شَمسُ! يا مَن تَرَبَّعْتِ على عَرْشِ جَمالِ العالَمِ! يا لَطِيفةَ السَّماءِ وزَهْراءَها! يا مَن أَضفَيْتِ على الأَرضِ بَهْجةً ونُورًا ومَنَحْتِ الأَزهارَ ابتِسامةً وسُرُورًا.. لقد مَنَحْتِ الدِّفْءَ والنُّورَ مَعًا لِبَيتي ومَشتَلِي الصَّغيرِ كما وَهَبْتِ النُّورَ للدُّنيا والدِّفْءَ للأَرضِ”، بَينَما صاحِبُ المِرآةِ السّابِقُ لا يَستَطِيعُ أن يُناجِيَ الشَّمسَ ويُحاوِرَها بمِثلِ هذه المُحاوَرةِ، إذ إنَّ آثارَ ضَوْءِ الشَّمسِ مُحَدَّدةٌ بحُدُودِ المِرآةِ وقُيُودِها، ومَحصُورةٌ بحَسَبِ قابِلِيّةِ المِرآةِ واستِيعابِها للضَّوْءِ.
[صورتان لتجلي شمس الأزل وسلطان الأبد على الماهية البشرية]
وهكذا يَظهَرُ تَجَلِّي ذاتِ اللهِ الأَحَدِ الصَّمَدِ جَلَّ جَلالُه، وهو نُورُ السَّماواتِ والأَرضِ، وسُلْطانُ الأَزَلِ والأَبدِ على الماهِيّةِ الإنسانيّةِ بصُورَتَينِ تَتَضمَّنانِ مَراتِبَ لا حَدَّ لها:
الصُّورةُ الأولى: ظُهُورٌ في مِرآةِ القَلبِ برِباطٍ رَبّانِيٍّ وانتِسابٍ إلَيه، بحَيثُ إنَّ لِكُلِّ إنسانٍ حُظْوةً مع ذلك النُّورِ الأَزَليِّ، وله مُحاوَرةٌ ومُناجاةٌ معَه، سَواءٌ كانَت جُزئيّةً أم كُلِّيّةً، حَسَبَ استِعدادِه ووَفْقَ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ والصِّفاتِ، وذلك في سَيرِه وسُلُوكِه لَدَى طَيِّه المَراتِبَ. فدَرَجاتُ الوِلاياتِ السّائِرةِ في ظِلِّ غالِبِ الأَسماءِ والصِّفاتِ تَنشَأُ عن هذا القِسمِ.
الصُّورةُ الثّانيةُ: تَجَلٍّ أَعظَمُ للهِ سُبحانَه لِأَسمَى فَرْدٍ في نَوْعِ البَشَرِ وأَفضلِهم طُرًّا، تَجَلِّيًا بذاتِه جَلَّ وعَلا وبأَعظَمِ مَرتَبةٍ مِن مَراتِبِ أَسمائِه الحُسنَى، لِكَونِ الإنسانِ قادِرًا على إظهارِ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى المُتَظاهِرةِ في الوُجُودِ كافّةً دُفعةً واحِدةً في مِرآةِ رُوحِه، إذ هو أَنوَرُ ثَمَراتِ شَجَرةِ الكائِناتِ وأَجمَعُها مِن حَيثُ الصِّفاتُ والِاستِعداداتُ. إنَّ هذا التَّجَلِّيَ هو سِرُّ المِعراجِ الأَحمَدِيِّ، بحَيثُ تكُونُ وِلايَتُه مَبْدَأً لرِسالتِه. الوِلايةُ الَّتي تَسِيرُ في الظِّلِّ وتَمضِي فيه، كالرَّجُلِ الأَوَّلِ في المِثالِ الثّاني، بَينَما لا ظِلَّ في الرِّسالةِ، بل تَتَوجَّهُ إلى أَحَدِيّةِ الذّاتِ الجَلِيلةِ مُباشَرةً، كالرَّجُلِ الثّاني في المِثالِ الثّاني؛ أمّا المِعراجُ فلِأَنَّه كَرامةٌ كُبْرَى للوِلايةِ الأَحمَدِيّةِ ومَرتَبَتُها العُلْيا، فقدِ ارْتَقَت وانقَلَبَت إلى مَرتَبةِ الرِّسالةِ.
فباطِنُ المِعراجِ وِلايةٌ، إذ قد عَرَجَ مِن الخَلقِ إلى الحَقِّ سُبحانَه وتَعالَى؛ وظاهِرُ المِعراجِ رِسالةٌ، إذ يَأْتِي مِنَ الحَقِّ سُبحانَه وتَعالَى إلى الخَلْقِ أَجمَعِين. فالوِلايةُ سُلُوكٌ في مَراتِبِ القُربِ إلى اللهِ، وهي بحاجةٍ إلى زَمانٍ وإلى طَيِّ مَراتِبَ كَثِيرةٍ؛ أمّا الرِّسالةُ الَّتي هي أَعظَمُ نُورٍ، فهي مُتَوجِّهةٌ إلى انكِشافِ سِرِّ الأَقرَبِيّةِ الإلٰهِيّةِ، الَّذي تَكفِيه لَحْظةٌ خاطِفةٌ وآنٍ سَيّالٌ. ولِهذا وَرَدَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ ما يُفِيدُ أنَّه رَجَعَ في الحالِ.
[خطاب إلى الملحد ومنكر المعراج]
والآن نُوَجِّهُ كلامَنا إلى ذلك المُلحِدِ الجالِسِ في مَقامِ الِاستِماعِ، فنقُولُ: ما دامَ هذا العالَمُ شَبِيهًا بمَمْلَكةٍ في غايةِ الِانتِظامِ، وبمَدِينةٍ في غايةِ التَّناسُقِ، وبقَصْرٍ في غايةِ الزِّينةِ والجَمالِ، فلا بُدَّ أنَّ له حاكِمًا، مالِكًا، صانِعًا. وحيثُ إنَّ ذلك المالِكَ الجَلِيلَ والحاكِمَ الكامِلَ والصّانِعَ الجَمِيلَ مَوجُودٌ، وهناك إنسانٌ ذُو نَظَرٍ كُلِّيٍّ وذُو علاقةٍ عامّةٍ بحَواسِّه ومَشاعِرِه معَ ذلك العالَمِ وتلك المَمْلَكةِ وذلك القَصْرِ.. فلا بُدَّ أنَّ ذلك الصّانِعَ الجَلِيلَ ستَـكُونُ له عَلاقةٌ سامِيةٌ قَوِيّةٌ معَ هذا الإنسانِ المالِكِ للنَّظَرِ الكُلِّيِّ والمَشاعِرِ العامّةِ، ولا شَكَّ أنَّه سيَكُونُ له معَه خِطابٌ قُدسِيٌّ وتَوَجُّهٌ عُلْوِيٌّ.
وحَيثُ إنَّ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ الأَمِينَ ﷺ قد أَظهَرَ تلك العَلاقةَ السّامِيةَ، مِن بينِ مَن تَشَرَّفُوا بها مُنذُ زَمَنِ سيِّدِنا آدَمَ عَليهِ السَّلَام، بأَعظَمِ صُورةٍ وأَجلاها، بشَهادةِ آثارِه، أي: بحاكِمِيَّتِه على نِصْفِ المَعمُورةِ وخُمُسِ البَشَرِ، وتَبدِيلِه المَلامِحَ المَعنَوِيّةَ للكائِناتِ وتَنوِيرِه لها.. لِذا فهو أَليَقُ وأَجْدَرُ مَن يَتَشرَّفُ بالمِعراجِ الَّذي يُمَثِّلُ أَعظَمَ مَرتَبةٍ مِن مَراتِبِ تلك العَلاقةِ.
[الأساس الثاني: ما هي حقيقة المعراج؟]
الأساس الثاني: ما حقيقة المِعراج؟
الجواب: إنَّها عِبارةٌ عن سَيرِ الَّذاتِ الأَحمَدِيِّ وسُلُوكِه ﷺ في مَراتِبِ الكَمالاتِ.
وهذا يَعنِي أنَّ آياتِ الرُّبُوبيّةِ وآثارَها الَّتي جَلّاها سُبحانَه وتَعالَى في تَنظِيمِ المَخلُوقاتِ، بأَسماءٍ وعَناوِينَ مُختَلِفةٍ، وأَظهَرَ عَظَمةَ رُبُوبيَّتِه بالإيجادِ والتَّدبِيرِ في سَماءِ كلِّ دائِرةٍ مِنَ الدَّوائِرِ الَّتي أَبدَعَها، كلُّ سَماءٍ مَدارٌ عَظِيمٌ لِعَرْشِ الرُّبُوبيّةِ ومَركَزٌ جَلِيلٌ لِتَصَرُّفِ الأُلُوهيّةِ.. هذه الآياتُ الكُبْرَى والآثارُ الجَلِيلةُ أَطْلَعَها سُبحانَه وتَعالَى واحِدةً واحِدةً لِذلك العَبدِ المُخَصَّصِ المُختارِ، فَعَلا به البُراقُ وقَطَعَ به المَراتِبَ كالبَرْقِ مِن دائِرةٍ إلى دائِرةٍ، ومِن مَنزلٍ إلى مَنزِلٍ، كمَنازِلِ القَمَرِ، لِيُرِيَه رُبُوبيّةَ أُلُوهِيَّتِه في السَّماواتِ، ويُقابِلَه بإخوانِه الأَنبِياءِ فَرْدًا فَرْدًا، كُلًّا في مَقامِه في تلك السَّماواتِ، حتَّى عَرَجَ به إلى مَقامِ “قابَ قَوْسَينِ”، فشَرَّفَه بالأَحَدِيّة، بكَلامِه وبرُؤيَتِه، لِيَجعَلَ ذلك العَبْدَ عَبْدًا جامِعًا لِجَمِيعِ الكَمالاتِ الإنسانيّةِ، نائِلًا جَمِيعَ التَّجَلِّياتِ الإلٰهِيّةِ، شاهِدًا على جَمِيعِ طَبَقاتِ الكائِناتِ، داعِيًا إلى سُلطانِ الرُّبُوبيّةِ، مُبَلِّغًا للمَرضِيّاتِ الإلٰهِيّةِ، كَشّافًا لِطِلَّسْمِ الكائِناتِ.
هذه الحَقِيقةُ الرَّفيعةُ يُمكِنُ رُؤيَتُها مِن خِلالِ مِثالَينِ اثنَينِ:
[مثال: مشاهدة جميع دوائر الربوبية]
المِثالُ الأوَّلُ:
وقد أَوْضَحْناه في “الكَلِمةِ الرّابِعةِ والعِشرِين”، وهو أنَّ للسُّلطانِ عَناوِينَ مُختَلِفةً في دَوائِرِ حُكُومَتِه، وأَوصافًا مُتَبايِنةً ضِمنَ طَبَقاتِ رَعاياه، وأَسماءً وعَلاماتٍ مُتَنوِّعةً في مَراتِبِ سَلْطَنَتِه، فمَثلًا: له اسمُ الحاكِمُ العادِلُ في دَوائِرِ العَدْلِ، وعُنوانُ السُّلطانِ في الدَّوائِرِ المَدَنيّةِ، بَينَما له اسمُ القائِدِ العامِّ في الدَّوائِرِ العَسكَرِيّةِ، وعُنوانُ الخَلِيفةِ فِي الدَّوائِرِ الشَّرعِيّةِ.. وهكذا له سائِرُ الأَسماءِ والعَناوِينِ.. فله في كُلِّ دائِرةٍ مِن دَوائِرِ دَوْلَتِه مَقامٌ وكُرسِيٌّ بمَثابةِ عَرْشٍ مَعنَوِيٍّ له؛ وعليه يُمكِن أن يكُونَ ذلك السُّلطانُ الفَردُ مالِكًا لِأَلفِ اسمٍ واسمٍ في دَوائِرِ تلك السَّلْطَنةِ وفي مَراتِبِ طَبَقاتِ الحُكُومةِ، أي: يُمكِنُ أن يكُونَ له أَلفُ عَرشٍ وعَرشٍ مِنَ العُرُوشِ المُتَداخِلِ بعضُها في بعضٍ، حتَّى كأنَّ ذلك الحاكِمَ مَوجُودٌ وحاضِرٌ في كلِّ دائِرةٍ مِن دَوائِرِ دَوْلَتِه.. ويَعلَمُ ما يَجرِي فيها بشَخصِيَّتِه المَعنَوِيّةِ، وهاتِفِه الخاصِّ؛ ويُشاهَدُ ويَشْهَدُ في كلِّ طَبَقةٍ مِنَ الطَّبَقاتِ بقانُونِه ونِظامِه وبمُمَثِّلِيه.. ويُراقِبُ ويُدِيرُ مِن وَراءِ الحِجابِ كلَّ مَرتَبةٍ مِنَ المَراتِبِ بحِكْمَتِه وبعِلْمِه وبقُوَّتِه.. فلِكُلِّ دائِرةٍ مَركَزٌ يَخُصُّها ومَوقِعٌ خاصٌّ بها، أَحكامُه مُختَلِفةٌ، طَبَقاتُه مُتَغايِرةٌ.
فمِثلُ هذا السُّلطانِ يُسَيِّـرُ مَن يُرِيدُه ويَختارُه في جَوْلةٍ واسِعةٍ يَجُوبُ فيها جَمِيعَ دَوائِرِ تلك السَّلْطَنةِ مُشْهِدًا إيّاه هَيْبةَ دَوْلَتِه وعَظَمةَ سُلطانِه في كلِّ دائِرةٍ مِنها، مُطْلِعًا إيّاه على أَوامِرِه الحَكِيمةِ الَّتي تَخُصُّ كلَّ دائِرةٍ، سائِرًا به مِن دائِرةٍ إلى دائِرةٍ، مِن طَبَقةٍ إلى طَبَقةٍ، حتَّى يُبلِغَه مَقامَ حُضُورِه، ومِن بعدِ ذلك يُرسِلُه مَبعُوثًا إلى النّاسِ، مُوْدِعًا إيّاه بعضَ أَوامِرِه الكُلِّيّةِ العامّةِ المُتَعلِّقةِ بجَمِيعِ تلك الدَّوائِرِ.
وهكذا نَنظُرُ بمِنظارِ هذا المِثالِ فنقُولُ: إنَّ رَبَّ العالَمِين وهو سُلْطانُ الأَزَلِ والأَبدِ، له ضِمنَ مَراتِبِ رُبُوبيَّتِه شُؤُونٌ وعَناوِينُ مُختَلِفةٌ، لكن يَتَناظَرُ بعضُها معَ بعضٍ.. وله ضِمنَ دَوائِرِ أُلُوهيَّتِه عَلاماتٌ وأَسماءٌ مُتَغايِرةٌ، لكن يُشاهَدُ بعضُها في بعضٍ.. وله ضِمنَ إجراءاتِه العَظِيمةِ تَجَلِّياتٌ وجَلَواتٌ مُتَبايِنة، لكن يُشابِهُ بعضُها بعضًا.. وله ضِمنَ تَصَرُّفاتِ قُدرَتِه عَناوِينُ مُتَنوِّعةٌ، لكن يُشعِرُ بعضُها ببعضٍ.. وله ضِمنَ تَجَلِّياتِ صِفاتِه مَظاهِرُ مُقدَّسةٌ مُتَفاوِتةٌ، لكن يُظهِرُ بعضُها بعضًا.. وله ضِمنَ تَجَلِّياتِ أَفعالِه تَصَرُّفاتٌ مُتَبايِنةٌ، لكن تُكَمِّلُ الواحِدةُ الأُخرَى.. وله ضِمنَ صَنْعَتِه ومَصنُوعاتِه المُتَلوِّنةِ رُبُوبيّةٌ مَهِيبةٌ مُتَغايِرةٌ، لكن تَلْحَظُ إحداها الأُخرَى.
فبِناءً على هذا السِّرِّ العَظِيمِ، فقد نَظَّمَ سُبحانَه الكَونَ وَفْقَ تَرتِيبٍ مُذْهِلٍ يَبعَثُ على الحَيْرةِ والإعجابِ، إذ مِنَ الذَّرّاتِ الَّتي تُعَدُّ أَصغَرَ طَبَقاتِ المَخلُوقاتِ إلى السَّماواتِ.. ومِن أُولَى طَبَقاتِها إلى العَرشِ الأَعظَمِ، سَماواتٌ مَبْنِيّةٌ بعضُها فَوقَ بعضٍ، كلُّ سَماءٍ هي في حُكْمِ سَقْفٍ لِعالَمٍ آخَرَ، وبمَثابةِ عَرْشٍ للرُّبُوبيّةِ ومَركَزٍ للتَّصَرُّفاتِ الإلٰهِيّةِ.
ومعَ أنَّه يُمكِنُ أن تَتَجلَّى جَمِيعُ الأَسماءِ بجَمِيعِ العَناوِينِ في تلك الدَّوائِرِ وفي الطَّبَقاتِ باعتبارِ الأَحَدِيّةِ، إلّا أنَّه مِثلَما يكُونُ عُنوانُ الحاكِمِ العادِلِ هو المُستَولِيَ والأَصلَ في دائِرةِ العَدْليّةِ، وسائِرُ العَناوِينِ تابِعةً له ناظِرةً إلى أَمرِه، كذلك -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- هناك اسمٌ إلٰهِيٌّ وعُنوانٌ إلٰهِيٌّ هو الحاكِمُ المُهَيمِنُ في كلِّ طَبَقةٍ مِن طَبَقاتِ المَخلُوقاتِ وفي كلِّ سَماءٍ مِنها، وتكُونُ سائِرُ العَناوِينِ ضِمْنَه.
فمَثلًا: في أيِّ سَماءٍ قابَلَ سَيِّدُنا عِيسَى عَليهِ السَّلام المُتَشرِّفُ باسمِ “القَدِيرِ”، سَيِّدَنا الرَّسُولَ ﷺ، فاللهُ سُبحانَه وتَعالَى مُتَجَلٍّ في دائِرةِ تلك السَّماءِ بالذّاتِ بعُنوانِ “القَدِيرِ”.
ومَثلًا: إنَّ عُنوانَ “المُتَـكلِّم” الَّذي تَشَرَّف به سَيِّدُنا مُوسَى عَليهِ السَّلام هو المُهَيمِنُ على دائِرةِ السَّماءِ الَّتي هي مَقامُ سَيِّدِنا مُوسَى عَليهِ السَّلام.
وهكذا، فالرَّسُولُ الأَعظَمُ ﷺ، لأنَّه قد حَظِيَ بالِاسمِ الأَعظَمِ، ولأنَّ نُبُوَّتَه عامّةٌ شامِلةٌ، وقد نالَ جَمِيعَ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى، فإنَّ له عَلاقةً إذًا معَ جَمِيعِ دَوائِرِ الرُّبُوبيّةِ.. فلا بُدَّ أنَّ حَقِيقةَ مِعراجِه تَقتَضي مُقابَلَتَه الأَنبِياءَ وهم ذَوُو مَقامٍ في تلك الدَّوائِرِ، ومُرُورَه مِن جَمِيعِ الطَّبَقاتِ.
[مثال2: مشاهدة جميع مراتب كل دائرة]
المِثالُ الثَّاني:
إنَّ عُنوانَ “القائِدُ الأَعظَمُ” الَّذي هو مِن عَناوِينِ السُّلطانِ، له ظُهُورٌ وجَلْوةٌ في كلِّ دائِرةٍ مِنَ الدَّوائِرِ العَسكَرِيّةِ ابتِداءً مِن دائِرةِ القائِدِ العامِّ ورِئاسةِ الأَركانِ -تلك الدّائِرةِ الواسِعةِ الكُلِّيّةِ- إلى دائِرةِ العَرِيفِ، وهي الدَّائِرةُ الجُزئيّةُ الخاصّةُ.
فمَثلًا: إنَّ الجُندِيَّ الفَرْدَ يَرَى نَمُوذَجَ القِيادةِ العُظمَى ومِثالَها في شَخصِ العَرِيفِ، فيَتَوجَّهُ إلَيه ويَتَلَقَّى الأَوامِرَ مِنه؛ وحالَما يكُونُ عَرِيفًا يَجِدُ عُنوانَ تلك القِيادةِ في دائِرةِ رَئِيسِه، رَئيسِ العُرَفاءِ فيَتَوجَّهُ إلَيها؛ ثمَّ إذا أَصبَح رَئيسًا للعُرَفاءِ يَرَى نَمُوذَجَ القِيادةِ العامّةِ وجَلْوَتَها في دائِرةِ المُلازِمِ. فلها كُرسِيٌّ خاصٌّ في ذلك المَقامِ.. وهكَذا يَرَى عُنوانَ تلك القِيادةِ العُظمَى في كلِّ دائِرةٍ مِن دَوائِرِ النَّقِيبِ والرّائِدِ والفَرِيقِ والمُشِيرِ حَسَبَ سَعةِ الدّائِرةِ وضِيقِها.
والآنَ إذا أَرادَ ذلك القائِدُ الأَعظَمُ إناطةَ وَظِيفةٍ تَتَعلَّقُ بجَمِيعِ الدَّوائِرِ العَسكَرِيّةِ بجُندِيٍّ فَرْدٍ، وأَرادَ تَرقِيَتَه إلى مَقامٍ رَفِيعٍ، يُشاهَدُ مِن قِبَلِ كلِّ تلك الدَّوائِرِ ويَشهَدُها جَمِيعًا، كأنَّه النّاظِرُ والمُشرِفُ علَيها، فإنَّه (أي: القائِدَ الأَعظَمَ) سيُسَلِّكُ بلا شَكٍّ ذلك الجُندِيَّ الفَردَ ويُسَيِّـرُه ضِمنَ تلك الدَّوائِرِ كلِّها ابتِداءً مِن دائِرةِ العَرِيفِ وانتِهاءً إلى دائِرَتِه العُظمَى، دائِرةً فدائِرةً، كي يَشْهَدَها ويُشاهَدَ مِنها؛ ثمَّ يَقبَلُه في مَقامِ حُضُورِه ويُشَرِّفُه بكَلامِه ويُكْرِمُه بأَوامِرِه وأَوْسِمَتِه، ثمَّ يُرسِلُه إلى حيثُ جاء مِنه في آنٍ واحِدٍ وفي اللَّحظةِ نَفسِها.
يَنبَغي أن نَلفِتَ النَّظَرَ إلى نُقطةٍ في هذا المِثالِ وهي: إن لم يكُنِ السُّلطانُ عاجِزًا، له مَقدِرةٌ رُوحِيّةٌ مَعنَوِيّةٌ كما له قُوّةٌ ظاهِرةٌ، فإنَّه لا يُوَكِّلُ أَشخاصًا أَمثالَ الفَرِيقِ والمُشِيرِ والمُلازِمِ، وإنَّما يَحضُرُ بذاتِه في كلِّ مَكانٍ، فيُصدِرُ الأَوامِرَ بنَفسِه مُباشَرةً مُتَسَتِّـرًا ببعضِ الأَستارِ، ومِن وَراءِ أَشخاصٍ ذَوِي مَقامٍ، كما يُروَى أنَّ سَلاطِينَ كانُوا أَولياءَ كامِلِين قد نَفَّذُوا أَوامِرَهم في دَوائِرَ كَثِيرةٍ في صُورةِ بعضِ الأَشخاصِ.
أمَّا الحَقِيقةُ الَّتي نَنظُرُ إلَيها بمِنظارِ هذا المِثالِ، فهي أنَّ الأَمرَ والحُكْمَ يَأْتِي مُباشَرةً مِنَ القائِدِ العامِّ إلى كلِّ دائِرةٍ مِنَ الدَّوائِرِ، ويُنَفَّذُ هناك بأَمرِه وإرادَتِه وقُوَّتِه، حيثُ لا عَجْزَ فيه.
وهكذا على غِرارِ هذا المِثالِ: ففي كلِّ طَبَقةٍ مِن طَبَقاتِ المَخلُوقاتِ وطَوائِفِ المَوجُوداتِ، مِنَ الذَّرّاتِ إلى السَّيّاراتِ ومِنَ الحَشَراتِ إلى السَّماواتِ، الَّتي تَجرِي فيها وتُنَفَّذُ بكَمالِ الطّاعةِ والِامتِثالِ أَوامِرُ سُلْطانِ الأَزَلِ والأَبَدِ وشُؤُونُ حاكِمِ الأَرضِ والسَّماواتِ، الآمِرِ المُطلَقِ المالِكِ لِأَمرِ ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ تُشاهَدُ في كلٍّ مِنها دائِرةُ رُبُوبيّةٍ جَلِيلة وطَبَقةُ حاكِمِيّةٍ مُهَيمِنة، بطَبَقاتٍ مُتَنوِّعةٍ وطَوائِفَ مُتَبايِنةٍ، صَغِيرةٍ وكَبِيرةٍ، جُزئِيّةٍ وكُلِّيّةٍ، مُتَوجِّهةٍ كلٌّ مِنها إلى الأُخرَى.
فلِأَجلِ فَهْمِ جَمِيعِ المَقاصِدِ الإلٰهِيّةِ العُلْيا والنَّتائِجِ العُظمَى المُندَرِجةِ في الكَونِ.. مِن خِلالِ مُشاهَدةِ وَظائِفِ عُبُودِيّةٍ مُتَنَوِّعةٍ لِجَميعِ الطَّبَقاتِ.. ولإدراكِ ما يُرضِي ذا العَظَمةِ والكِبْرِياءِ، برُؤْيةِ سُلْطانِ رُبُوبيَّتِه الجَلِيلةِ وهَيْبةِ حاكِمِيَّتِه العَزِيزةِ.. ولِأَجلِ أن يكُونَ داعِيًا إلى اللهِ سُبحانَه وتَعالَى.. لا بُدَّ أن يكُونَ هناك سَيرٌ في تلك الطَّبَقاتِ، وسُلُوكٌ في تلك الدَّوائِرِ، إلى أن يَدخُلَ في العَرشِ الأَعظَمِ الَّذي هو عُنوانُ دائِرَتِه العُظمَى سُبحانَه وتَعالَى، ويَدخُلَ في ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ﴾ أي: يَدخُلَ في مَقامٍ بينَ “الإمكانِ والوُجُوبِ” المُشارِ إلَيه بـ”قابَ قَوْسَينِ”، ويُقابِلَ الذّاتَ الجَلِيلةَ الجَمِيلةَ.
فهذا السَّيرُ والسُّلُوكُ والمُقابَلةُ هو حَقِيقةُ المِعراجِ. وكما يَحصُلُ لكُلِّ إنسانٍ سَرَيانٌ بعَقلِه في سُرعةِ الخَيالِ، ولكُلِّ وَلِيٍّ جَوَلانٌ بقَلْبِه في سُرعةِ البَرقِ، ولكُلِّ مَلَكٍ دَوَرانٌ بجِسمِه النُّورانِيِّ في سُرعةِ الرُّوحِ، مِنَ العَرشِ إلى الفَرشِ ومِنَ الفَرشِ إلى العَرشِ، ولِأَهلِ الجَنّةِ عُرُوجٌ في سُرعةِ البُراقِ، مِن مَيدانِ الحَشرِ إلى الجَنّةِ وإلى ما يَزِيدُ على بُعدِ خَمسِ مِئةِ سَنةٍ.. فإنَّ الجِسمَ المُحَمَّدِيَّ ﷺ الَّذي هو مَخزَنُ أَجهِزَتِه السّامِيةِ ومَدارُ وَظائِفَ لا تُحَدُّ لِرُوحِه العالِيةِ، سيُرافِقُ تلك الرُّوحَ المُحمَّديّةَ الَّتي هي نُورٌ، وفي قابِلِيّةِ النُّورِ، وأَلْطَفُ مِن قُلُوبِ الأَولِياءِ، وأَرَقُّ مِن أَرواحِ الأَمواتِ، وأَشَفُّ مِن أَجسامِ المَلائِكةِ، وأَكثَرُ ظَرافةً مِنَ الجَسَدِ النَّجْمِيِّ والبَدَنِ المِثالِيِّ.. سيُرافِقُها حَتْمًا وسيَعرُجُ معَها إلى العَرشِ الأَعظَمِ.
[حديث إلى الملحد ومنكر المعراج]
[بيان حقيقة المعراج]
والآنَ لِنَنظُرْ إلى المُلحِدِ الَّذي هو في مَقامِ الِاستِماعِ.
فيَرِدُ على البالِ أنَّ ذلك المُلحِدَ يقُولُ في قَلْبِه: أنا لا أُؤمِنُ باللهِ، ولا أَعرِفُ الرَّسُولَ، فكيف أُصَدِّقُ بالمِعراجِ؟
ونحنُ نقُولُ له: ما دامَت هذه الكائِناتُ مَوجُودةً فِعلًا، وتُشاهَدُ فيها أَفعالٌ وإيجادٌ.. وأنَّ الفِعلَ المُنتَظِمَ لا يكُونُ بلا فاعِلٍ، والكِتابَ البَلِيغَ لا يكُونُ بلا كاتِبٍ، والنَّقْشَ البَدِيعَ لا يكُونُ بلا نَقّاشٍ.. فلا بُدَّ مِن فاعِلٍ لِهذه الأَفعالِ الحَكِيمةِ المالِئةِ للكائِناتِ، ولا بُدَّ مِن نَقّاشٍ وكاتِبٍ لِهذه النُّقُوشِ البَدِيعةِ والرَّسائِلِ البَلِيغةِ الَّتي تَملَأُ وَجْهَ الأَرضِ وتَتَجدَّدُ كلَّ مَوْسِمٍ ومَوْسِمٍ.. وحيثُ إنَّ وُجُودَ حاكِمَينِ في أَمرٍ مّا يُفسِدُ نِظامَ ذلك الشَّيءِ.. وأنَّ هناك انتِظامًا كامِلًا وتَناسُقًا تامًّا، مِن جَناحِ الذُّبابِ إلى قَنادِيلِ السَّماواتِ.. إذًا فإنَّ ذلك الحاكِمَ واحِدٌ أَحَدٌ، لأنَّ الصَّنْعةَ والحِكْمةَ في كلِّ شَيءٍ هما مِنَ الإبداعِ والإتقانِ بحيثُ يَلْزَمُ أن يكُونَ صانِعُ ذلك الشَّيءِ قَدِيرًا مُطلَقًا، مُقتَدِرًا على كلِّ شيءٍ وعَلِيمًا بكلِّ شَيءٍ.. إذ لو لم يكُن واحِدًا لَلَزِمَ وُجُودُ آلِهةٍ بعَدَدِ المَوجُوداتِ، ولَغَدا كلُّ إلٰهٍ ضِدَّ الآخَرِ ومِثلَه! وعِندَئذٍ يكُونُ بَقاءُ هذا النِّظامِ دُونَ فَسادٍ مُحالًا في أَلفِ مُحالٍ!
ثمَّ إنَّ طَبَقاتِ هذه المَوجُوداتِ لَمّا كانَت أَكثَرَ انتِظامًا وطاعةً للأَوامِرِ بأَلفِ مَرّةٍ مِن جَيشٍ مُنَظَّمٍ، كما هو مُشاهَدٌ بالبَداهةِ، إذ إنَّ كلَّ انتِظامٍ مِنِ انتِظامِ حَرَكاتِ النُّجُومِ والشَّمسِ والقَمَرِ إلى انتِظامِ أَزهارِ اللَّوْزِ.. يُبدِي انتِظامًا بَدِيعًا وكامِلًا فيما مَنَحَه القَدِيرُ الأَزَليُّ مِن شاراتٍ وأَوْسِمةٍ وأَلبَسَها مِن لِباسٍ قَشِيبٍ، وعَيَّن لها مِن حَرَكاتٍ وأَعمالٍ، يَفُوقُ ما يُبدِيه الجَيشُ مِن نِظامٍ وطاعةٍ أَلفَ أَلفِ مَرّةٍ.. لِذا فلِهذه الكائِناتِ حاكِمٌ مُطلَقُ الحِكْمةِ مُحتَجِبٌ وَراءَ الغَيبِ، تَتَرقَّبُ مَوجُوداتُها أَوامِرَه لِتَمتَثِلَ بها.
وما دامَ ذلك الحاكِمُ المُطلَقُ سُلطانًا ذا جَلالٍ، بشَهادةِ جَمِيعِ إجراءاتِه الحَكِيمةِ، وبما يُظهِرُه مِن آثارٍ جَلِيلةٍ.. ورَبًّا رَحِيمًا واسِعَ الرَّحمةِ، بما يُبدِيه مِن آلاءٍ وإحساناتٍ.. وصانِعًا بَدِيعًا يُحِبُّ صَنْعَتَه كَثِيرًا، بما عَرَضَه مِن مَصنُوعاتٍ بَدِيعةٍ.. وخالِقًا حَكِيمًا يُرِيدُ إثارةَ إعجابِ ذَوِي الشُّعُورِ وجَلْبَ استِحسانِهم، بما نَشَرَه مِن تَزْيِيناتٍ جَمِيلةٍ وصَنائِعَ رائِعةٍ.. ويُفهَمُ مِمّا أَبدَعَه مِن جَمالٍ يَأخُذُ بالأَلبابِ في خَلْقِ العالَمِ أنَّه يُرِيدُ إعلامَ ذَوِي الشُّعُورِ مِن مَخلُوقاتِه: ما المَقصُودُ مِن هذه التَّزْيِيناتِ؟ ومِن أينَ تَأْتِي المَخلُوقاتُ وإلى أينَ المَصِيرُ؟.. فلا رَيْبَ أنَّ هذا الحاكِمَ الحَكِيمَ والصّانِعَ العَلِيمَ سيُظهِرُ رُبُوبيَّتَه الجَلِيلةَ.
وحيثُ إنَّه يُرِيدُ تَعرِيفَ نَفسِه ويُحَبِّبَها إلى ذَوِي الشُّعُورِ، بما أَظهَرَه مِن آثارِ اللُّطْفِ والرَّحْمةِ، وبما بَثَّ مِن بَدائِعِ الصَّنْعةِ.. فلا شَكَّ أنه سيُخبِرُ بوَساطةِ مُبَلِّغٍ أَمِينٍ، ما يُرِيدُه مِن ذَوِي الشُّعُورِ، وبِمَ يَرضَى عَنهم؛ وعلَيه فيُعلِنُ حَتْمًا رُبُوبِيَّتَه بوَساطةِ مَن يُخَصِّصُه مِن ذَوِي الشُّعُورِ.. ويُشَرِّفُ داعِيًا مِنهم بقُرْبِ حُضُورِه، جاعِلًا مِنه واسِطةَ إعلانٍ عن مَصنُوعاتِه المَحبُوبةِ لَدَيه.. وسيُعَيِّنُ مُعَلِّمًا يُظهِرُ كَمالاتِه بتَعلِيمِ مَقاصِدِه العُلْيا إلى سائِرِ ذَوِي الشُّعُورِ.. وسيُعَيِّنُ مُرشِدًا يَدُلُّ على مَغزَى المَوجُوداتِ كَيلا يَبقَى ما أُدرِجَ في هذا الكَونِ مِن طِلَّسْمٍ دُونَ كَشْفٍ، وما أَخفَى في هذه المَوجُوداتِ مِن شُؤُونِ الرُّبُوبيّةِ دُونَ مَعنًى.. وسيُعَيِّنُ رائِدًا يُعَلِّمُ مَقاصِدَهُ كيلا يَبقَى عَبَثًا دُونَ نَفْعٍ ما أَظهَرَه مِن مَحاسِنِ الصَّنْعةِ، أو نَشَرَه أَمامَ الأَنظارِ.. وسيَرفَعُ أَحَدَهم ويَعرُجُ به إلى مَقامٍ أَعلَى مِن جَمِيعِ ذَوِي الشُّعُورِ، ويُعَلِّمُه مَرْضِيّاتِهِ، ويُرْسِلُه إلَيهم.
فما دامَتِ الحَقِيقةُ والحِكمةُ تَقتَضِيانِ هذا، فإنَّ أَلْيَقَ وأَجدَرَ مَن يُوفي حَقَّ هذه الوَظائِفِ هو مُحمَّدٌ ﷺ فلقد أَدَّى تِلك الوَظائِفَ فِعلًا بأَكمَلِ صُورةٍ.. والشّاهِدُ العَدْلُ الصَّادِقُ على ذلك هو ما أَسَّسَ مِن عالَمِ الإسلامِ وما أَظهَرَه مِن نُورِ الإسلامِ المُبِينِ. لِذا فلِأَجلِ ما سَبَقَ يَلْزَمُ أن يَعرُجَ ويَعلُوَ بهذا النَّبيِّ الكَرِيمِ ﷺ عُلُوًّا مُباشَرًا إلى مَقامٍ رَفِيعٍ يَسمُو على جَمِيعِ الكائِناتِ ويَتَجاوَزُ جَمِيعَ المَوجُوداتِ، كي يَحظَى بالمُثُولِ بينَ يَدَيْ رَبِّ العالَمِين.
فالمِعراجُ يُفِيدُ هذه الحَقِيقةَ.
حاصِلُ الكَلامِ: إنَّ الحَكِيمَ المُطلَقَ قد زَيَّن هذه الكائِناتِ العَظِيمةَ ونَظَّمَها إظهارًا لِأَمثالِ هذه المَقاصِدِ العُظمَى والغاياتِ الجَلِيلةِ.. وإنَّ في هذه المَوجُوداتِ نَوعَ الإنسانِ الَّذي يَستَطِيعُ أن يُشاهِدَ هذه الرُّبُوبيّةَ العامّةَ بجَمِيعِ دَقائِقِها، وهذه الأُلُوهِيّةَ الجَلِيلةَ بجَمِيعِ حَقائِقِها.. فلا رَيبَ أنَّ ذلك الحَكِيمَ المُطلَقَ سيَتَـكلَّمُ معَ الإنسانِ وسيُعْلِمُه مَقاصِدَه.
وحيثُ إنَّ كلَّ إنسانٍ لا يَستَطِيعُ أن يَرقَى إلى أَعلَى مَقامٍ كُلِّيٍّ مُتَجَرِّدًا مِنَ الجُزئيّةِ والسُّفلِيّةِ، فلا جَرَمَ أنَّ بعضًا مِن أَفرادٍ خَواصَّ مِن بينِ أُولَئِك النّاسِ سيُكَلَّفُ بتلك الوَظِيفةِ، لِيَكُون ذا عَلاقةٍ معَ جِهَتَينِ معًا، أي: يكُونَ إنسانًا لِيُعَلِّمَ النّاسَ، وفي الوَقتِ نَفسِه يكُونُ ذا رُوحٍ في غايةِ السُّمُوِّ لِيَحظَى بشَرَفِ الخِطابِ الإلٰهِيِّ مُباشَرةً.
وبعدُ، فلِأَنَّ أَفضَلَ مَن بَلَّغ مَقاصِدَ رَبِّ العالَمِين مِن بينِ البَشَرِ، وكَشَفَ طِلَّسْمَها وحَلَّ لُغْزَ الخَلْقِ، وأَكمَلَ مَن دَعا إلى عَظَمةِ مَحاسِنِ الرُّبُوبيّةِ هو مُحمَّدٌ ﷺ، فلا رَيبَ أن سيَكُونُ له مِن بينِ البَشَرِ سَيرٌ وسُلُوكٌ مَعنَوِيٌّ سامٍ، بحيثُ يكُونُ له مِعراجًا في صُورةِ سَيرٍ وسِياحةٍ في العالَمِ الجِسمانِيِّ، وسيَقطَعُ المَراتِبَ إلى ما وَراءَ طَبَقاتِ المَوجُوداتِ وبَرزَخِ الأَسماءِ وتَجَلِّي الصِّفاتِ والأَفعالِ المُعَبَّرِ عنها بسَبعِين أَلفَ حِجابٍ.
فهذا هو المِعراجُ.
[بيان حقيقة القرب الإلهي]
ويَرِدُ على البالِ أيضًا أنَّك أيُّها المُستَمِعُ تقُولُ مِن أَعماقِ قَلبِك: إنَّ رَبًّا هو أَقرَبُ إلَينا مِن كلِّ شَيءٍ، ماذا يَعنِي المُثُولُ بينَ يدَيه بعدَ قَطْعِ مَسافةِ أُلُوفِ السِّنِينَ والمُرُورِ مِن سَبعِين أَلفَ حِجابٍ؟ كيف أُصَدِّقُ بهذا؟
ونحنُ نقُولُ: إنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى أَقرَبُ إلى كلِّ شَيءٍ مِن كلِّ شَيءٍ، إلّا أنَّ كلَّ شَيءٍ بَعِيدٌ عنه بُعدًا مُطلَقًا؛ فلو فَرَضْنا أنَّ للشَّمسِ شُعُورًا وكَلامًا، فإنَّها تَستَطِيعُ أن تَتَـكلَّمَ معَك بالمِرآةِ الَّتي في يَدِك، وتَتَصرَّفَ فيك بما تَشاءُ، فبَينَما هي أَقرَبُ إلَيك مِن بُؤبُؤِ عَينِك الشَّبِيهةِ بالمِرآةِ، فأَنت بَعِيدٌ عنها بأَربَعةِ آلافِ سَنةٍ تَقرِيبًا، ولا يُمكِنُك التَّقَرُّبُ إلَيها بحالٍ مِنَ الأَحوالِ؛ حتَّى لو تَرَقَّيتَ إلى مَقامِ القَمَرِ، وعَلَوْتَ إلى نُقطةٍ مُقابِلةٍ لها مُباشَرةً، فلا تكُونُ سِوَى ما يُشبِهُ مِرآةً عاكِسةً لها.
وهكذا، فإنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُه وهو شَمْسُ الأَزَلِ والأَبدِ -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- أَقرَبُ إلى كلِّ شَيءٍ مِن كلِّ شَيءٍ، معَ أنَّ كلَّ شَيءٍ بَعِيدٌ عنه بُعْدًا مُطلَقًا؛ إلّا مَن يَقطَعُ جَمِيعَ المَوجُوداتِ، ويَتَخلَّصُ مِنَ الجُزئِيّةِ ويَرتَقِي في مَراتِبِ الكُلِّيّة مُتَدَرِّجًا في مَرتَبةٍ مِن بَعدِ مَرتَبةٍ، ويَمضِي عَبْرَ آلافِ الحُجُبِ ويَتَقرَّبُ إلى اسمٍ مُحِيطٍ بالمَوجُوداتِ كلِّها، فيَقطَعُ مَراتِبَ كَثِيرةً أَمامَه، ثمَّ بعدَ ذلك يَتَشرَّفُ بنَوعٍ مِنَ القُربِ.
ومِثالٌ آخَرُ: إنَّ الجُندِيَّ الفَردَ بَعِيدٌ جِدًّا عنِ الشَّخصِيّةِ المَعنَوِيّةِ للقائِدِ الأَعظَمِ، فهو يَنظُرُ إلى قائِدِه مِن مَسافةٍ في غايةِ البُعدِ ومِن خِلالِ حُجُبٍ مَعنَوِيّةٍ كَثِيرةٍ، فيَراه في نَمُوذَجٍ مُصَغَّرٍ في مَرتَبةِ العَرِيفِ؛ أمّا الرَّغبةُ بالقُربِ الحَقِيقيِّ مِنَ الشَّخصِيّةِ المَعنَوِيّةِ للقائِدِ الأَعظَمِ، فيَلزَمُه لِأَجلِ ذلك المُضِيُّ في مَراتِبَ كُلِّيّةٍ كَثِيرةٍ كمَراتِبِ المُلازِمِ والنَّقِيبِ والرّائِدِ وهكذا. بَينَما القائِدُ الأَعظَمُ مَوجُودٌ عِندَه ويَراه بأَمرِه وقانُونِه ومُراقَبَتِه وحُكْمِه وعِلْمِه، وهو مَوجُودٌ بذاتِه إزاءَه إن كان قائِدًا في المَعنَى والرُّوح، كما هو في الصُّورةِ والظّاهِرِ.. ولَمّا كانَت هذه الحَقِيقةُ قد أُثبِتَت إثباتًا قاطِعًا في “الكَلِمةِ السّادِسةَ عَشْرةَ” نَكتَفِي هنا بهذا القَدْرِ المُختَصَرِ.
[بيان حقيقة السموات والملائكة]
ويَرِدُ على البالِ أيضًا أنَّك تقُولُ مِن قَلبِك: إنَّني أُنكِرُ وُجُودَ السَّماواتِ ولا أُؤمِنُ بالمَلائِكةِ، فكيفَ أُصَدِّقُ سَيْرَ إنسانٍ وتَجوالَه في السَّماواتِ ومُقابَلَتَه المَلائِكةَ؟
نعم، لا شَكَّ أنَّ إراءةَ شَيءٍ وإفهامَ أَمرٍ إلى مَن كان مِثلَك وقد أُسدِلَتِ الغِشاوةُ على بَصَرِه وانحَدَرَ عَقلُه إلى عَينِه فلم يَعُدْ يَرَى إلّا المادّةَ، شَيءٌ صَعْبٌ وعَسِيرٌ، ولكِن لِشِدّةِ نَصاعةِ الحَقِّ ووُضُوحِه يَراه حتَّى العُمْيانُ. لِذا نقُولُ: إنَّه مِنَ المُتَّفَقِ علَيه أنَّ الفَضاءَ العُلْوِيَّ مَملُوءٌ بـ”الأَثِيرِ”، فالضَّوءُ والكَهرَباءُ والحَرارةُ وأَمثالُها مِنَ السَّيّالاتِ اللَّطِيفةِ دَليلٌ على وُجُودِ مادّةٍ مالِئةٍ للفَضاءِ.
فكما تَدُلُّ الثَّمَراتُ على شَجَرَتِها، والأَزهارُ على رَوْضَتِها، والسَّنابِلُ على مَزْرَعَتِها، والأَسماكُ على بَحْرِها بالبَداهةِ، فهذه النُّجُومُ أيضًا تَقتَحِمُ عُيُونَ العُقُولِ دالّةً بالضَّرُورةِ على وُجُودِ رَوْضَتِها ومَنْشَئِها ومَزْرَعَتِها وبَحْرِها.
فما دامَ العالَمُ العُلْوِيُّ مَبنِيًّا بأَشكالٍ مُتَنوِّعةٍ، كلٌّ مِنها يُبيِّنُ أَحكامًا مُختَلِفةً في أَوضاعٍ مُختَلِفةٍ، فإنَّ مَنْشَأَ تلك الأَحكامِ -أي السَّماواتِ- مُختَلِفٌ أيضًا بعضُها عن بعضٍ؛ إذ كما أنَّ في الإنسانِ أَنماطًا مِن وُجُودٍ مَعنَوِيٍّ، عدا الجِسمِ المادِّيِّ، كالعَقلِ والقَلبِ والرُّوحِ والخَيالِ والحافِظةِ وغيرِها، ففي العالَمِ أيضًا الَّذي هو على صُورةِ إنسانٍ أَكبَرَ، وفي الكائِناتِ الَّتي هي شَجَرةُ ثَمَرةِ الإنسانِ، عَوالِمُ أُخرَى سِوَى العالَمِ الجِسْمانِيِّ، فَضْلًا عن أنَّ لِكُلِّ عالَمٍ مِنَ العَوالِمِ سَماءَه ابتِداءً مِن عالَمِ الأَرضِ حتَّى عالَمِ الجَنّةِ.
ونقُولُ بمُناسَبةِ المَلائِكةِ: إنَّ الأَرضَ وهي مِنَ السَّيّاراتِ المُتَوسِّطةِ الحَجْمِ وصِغِيرةٌ وكَثيفةٌ بالنِّسبةِ إلى النُّجُومِ، إن كانَت مَلِيئةً بما لا يُعَدُّ ولا يُحصَى مِن أَنماطِ الحَياةِ والشُّعُورِ، وهما أَثمَنُ شَيءٍ في المَوجُوداتِ وأَنوَرُها، فكيف بالسَّماواتِ الَّتي هي بِحارٌ واسِعةٌ تَسبَحُ فيها نُجُومٌ كأنَّها عِماراتٌ مُزْدانةٌ وقُصُورٌ شاهِقةٌ بالنِّسبةِ إلى الأَرضِ الَّتي هي بَيْتٌ مُظلِمٌ صَغِيرٌ؟
إذًا فالسَّماواتُ مَساكِنُ ذَوِي شُعُورٍ وذَوِي حَياةٍ، وبأَجناسٍ مُتَنوِّعةٍ وبأَعدادٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، وهُمُ المَلائِكةُ والرُّوحانيّاتُ؛ وحيثُ إنَّنا أَثبَتْنا إثباتًا قاطِعًا وُجُودَ السَّماواتِ وتَعَدُّدَها في تَفسِيرِنا المُسَمَّى بـ”إشاراتِ الإعجازِ في مَظانِّ الإيجازِ” وذلك في تَفسِيرِ قَولِه تَعالَى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ وكذا أَثْبَتْنا وُجُودَ المَلائِكةِ إثباتًا لا يَدنُو مِنه الشَّكُّ في “الكَلِمةِ التّاسِعةِ والعِشرِين”، نُوجِزُ هنا البَحثَ ونُحِيلُه إلى تِلكُما الرِّسالَتَينِ. الحاصِلُ: إنَّ وُجُودَ السَّماواتِ الَّتي قد سُوِّيَت مِنَ الأَثيرِ وأَصبَحَت مَسَارَ الضَّوءِ والحَرارةِ والجاذِبِيّةِ وأمثالِها مِنَ السَّيّالاتِ اللَّطِيفةِ، وظَلَّت مُلائِمةً لِحَرَكاتِ النُّجُومِ والكَواكِبِ السَّيّارةِ كما أَشارَ إلَيها الحَدِيثُ الشَّرِيفُ “السَّماءُ مَوجٌ مَكْفُوفٌ” قد أَخَذَت أَوْضاعًا مُختَلِفةً وأَشكالًا مُتَبايِنةً، مِن دَرْبِ التَّبّانةِ (المُسَمَّى بمَجَرّةِ السَّماءِ) إلى أَقرَبِ كَوْكَبٍ سَيّارٍ إلَينا، في سَبعِ طَبَقاتٍ، كلٌّ مِنها بحُكمِ سَقفٍ لِعالَمٍ آخَرَ، مِن عالَمِ الأَرضِ إلى عالَمِ البَرزَخِ إلى عالَمِ المِثالِ، وإلى عالَمِ الآخِرةِ.. هكذا تَقتَضِي الحِكْمةُ ومَنطِقُ العَقلِ.
[بيان حقيقة طي الزمان]
ويَرِدُ على البالِ أيضًا: أيُّها المُلحِدُ.. أنت تقُولُ: إنَّنا لا نَصعَدُ بالطّائِرةِ إلى الأَعالي إلّا بشِقِّ الأَنفُسِ ونَصِلُ بصُعُوبةٍ بالِغةٍ إلى مَسافةِ بِضْعِ كِيلُومِتراتٍ، فكيفَ يُمكِنُ لإنسانٍ أن يَقطَعَ بجِسمِه مَسافةَ أُلُوفِ السِّنِينَ ثمَّ يَعُودَ إلى حَيثُ أَتَى في بِضعِ دَقائِقَ؟!
ونحنُ نقُولُ: إنَّ جِسْمًا ثَقِيلًا كالأَرضِ يَقطَعُ في الدَّقِيقةِ الواحِدةِ مَسافةَ ثَمانٍ وثَمانِينَ ومِئةِ ساعةٍ تَقْرِيبًا بحَرَكَتِه السَّنَوِيّةِ، حَسَبَ ما تَوَصَّلْتُم إلَيه مِن عِلْمٍ. أي: تُقطَعُ الأَرضُ مَسافةَ خَمسٍ وعِشرِين أَلفَ سَنةٍ في السَّنةِ الواحِدةِ! أليس -يا تُرَى- ذلك القدِيرُ ذُو الجَلالِ الَّذي يُسَيِّـرُ هذه الأَرضَ بهذه الحَرَكاتِ المُنتَظِمةِ الدَّقِيقةِ، قادِرًا على أن يَأْتِيَ بإنسانٍ إلى العَرشِ؟ وألا تَستَطِيعُ تلك الحِكْمةُ الَّتي تُجرِي الأَرضَ الثَّقِيلةَ -كالمُرِيدِ المَوْلَوِيِّ- بقانُونٍ رَبّانِيٍّ يُطلَقُ علَيه اسمُ جاذِبِيّةِ الشَّمسِ، أن تَرْقَى بجِسمِ إنسانٍ إلى عَرشِ الرَّحمٰنِ كالبَرقِ، بجاذِبةِ رَحْمةِ الرَّحمٰنِ وبانجِذابِ مَحَبّةِ نُورِ السَّماواتِ والأَرضِ؟
[بيان ضرورة المعراج بالروح والجسد]
ويَرِدُ على البالِ أَيضًا أنَّك تقُولُ: هَبْ أنَّه يَستَطِيعُ أن يَرْقَى ويَعرُجَ إلى السَّماءِ، ولكن لِماذا عُرِجَ به؟ وأيُّ ضَرُورةٍ للعُرُوجِ؟ أما كان يَكفِيه أن يَعرُجَ بقَلْبِه ورُوحِه كما يَفعَلُه الأَولياءُ الصّالِحُون؟
ونحنُ نقُولُ: ما دامَ الصّانِعُ الجَلِيلُ قد أَرادَ إظهارَ آياتِه الكُبْرَى له ﷺ في مُلْكِه ومَلَكُوتِه، وأَرادَ إِطْلاعَه على مَنابِعِ ومَصانِعِ هذا العالَمِ، وأَرادَ إِراءَتَه النَّتائِجَ الأُخرَوِيّةَ لِأَعمالِ البَشَرِ.. فلا شَكَّ في أن يَصْحَبَ معَه إلى العَرشِ بَصَرَه الَّذي هو في حُكْمِ مِفتاحٍ لِعالَمِ المُبصَراتِ، وسَمْعَه الَّذي يَطَّلِعُ به على آياتِ عالَمِ المَسمُوعاتِ. كما أنَّ مِن مُقتَضَى العَقلِ والحِكْمةِ أن يَصْحَبَ معَه إلى العَرشِ جِسْمَه المُبارَكَ أيضًا الَّذي هو في حُكْمِ ماكِنةِ آلاتٍ وأَجهِزةٍ تَدُورُ علَيها وَظائِفُ رُوحِه الَّتي لا تُحَدُّ. إذ كما تَجعَلُ الحِكْمةُ الإلٰهِيّةُ الجِسْمَ رَفِيقًا للرُّوحِ في الجَنّةِ، حيثُ الجَسَدُ مَناطُ كَثِيرٍ مِن وَظائِفِ العُبُودِيّةِ وما لا يُحَدُّ مِنَ اللَّذائذِ والآلامِ، فلا بُدَّ أنَّ ذلك الجَسَدَ المُبارَكَ سيُرافِقُ الرُّوحَ. وحيثُ إنَّ الجِسمَ يَدخُلُ الجَنّةَ معَ الرُّوحِ، فإنَّه مِن مَحْضِ الحِكْمةِ أيضًا جَعْلُ جَسَدِه المُبارَكِ رَفِيقًا للذّاتِ المُحَمَّدِيّة ﷺ الَّتي عُرِجَ بها إلى سِدْرةِ المُنتَهَى الَّتي هي جَسَدُ جَنّةِ المَأْوَى.
[بيان طيِّ المكان]
ويَرِدُ على البالِ أَيضًا أنَّك تقُولُ: إنَّه مُحالٌ عَقْلًا قَطْعُ مَسافةِ أُلُوفِ السِّنِينَ، في بِضْعِ دَقائِقَ؟
ونحنُ نقُولُ: إنَّ الحَرَكاتِ فيما صَنَعَه الصّانِعُ الجَلِيلُ في غايةِ الِاختِلافِ والتَّبايُنِ؛ فمَثلًا: إنَّ مَدَى اختِلافِ سُرْعةِ الصَّوْتِ والضَّوْءِ والكَهْرَباءِ والرُّوحِ والخَيالِ مَعلُومٌ لَدَيْنا، فسُرعةُ الكَواكِبِ السَّيّارةِ أَيضًا -كما هو مَعلُومٌ عِلْمِيًّا- فيها مِنَ الِاختِلافِ ما يُحَيِّـرُ العُقُولَ؛ فكيف تَبدُو حَرَكةُ جِسْمِه اللَّطِيفِ ﷺ الَّذي اكتَسَبَ بالعُرُوجِ سُرْعةً، فتَبِعَ رُوحَه السّامِيةَ، تلك الحَرَكةُ السَّرِيعةُ سُرْعةَ الرُّوحِ مُخالِفةً للعَقلِ؟
فأَنتَ بنَفسِك إذا نِمْتَ عَشْرَ دَقائِقَ، تَتَعرَّضُ إلى حالاتٍ قد لا تَتَعرَّضُ لها في اليَقَظةِ في سَنةٍ، حتَّى إنَّ ما يَراه الإنسانُ في الرُّؤْيا في دَقِيقةٍ واحِدةٍ وما يَسمَعُ فيها مِن كَلامٍ وما يَنطِقُ به مِن أَقوالٍ إذا ما جُمِعَ وضُمَّ بَعضُه إلى بَعضٍ فإنَّه يَلْزَمُه مُدّةَ يومٍ أو أَكثَرَ في عالَمِ اليَقَظةِ. فالزَّمانُ الواحِدُ إذًا بالنِّسبةِ لِشَخْصَينِ، يُمكِنُ أن يكُونَ في حُكْمِ يَومٍ واحِدٍ لِأَحَدِهما وسَنةٍ واحِدةٍ للآخَرِ.
فانظُرْ إلى هذا المَعنَى بمِنظارِ هذا المِثالِ: لِنَفْتَرِضْ وُجُودَ ساعةٍ لِقِياسِ سُرعةِ حَرَكاتِ الإنسانِ والطَّلْقةِ والصَّوتِ والضَّوْءِ والكَهرَباءِ والرُّوحِ والخَيالِ؛ وفي هذه السّاعةِ عَقارِبُ: عَقْرَبٌ يَعُدُّ السّاعاتِ، وآخَرُ يَعُدُّ الدَّقائِقَ في دائِرةٍ أَوسَعَ مِنَ الأُولَى سِتِّين مَرّةً، وعَقرَبٌ آخَرُ يَعُدُّ الثَّوانِيَ في دائِرةٍ أَوسَعَ مِن هذه سِتِّين مَرّةً، وآخَرُ يَعُدُّ الثَّوالِثَ في دائِرةٍ أَوسَعَ مِن هذه سِتِّين مَرّةً.. وهكذا عَقارِبُ الرَّوابِعِ والخَوامِسِ والسَّوادِسِ والسَّوابِعِ والثَّوامِنِ والتَّواسِعِ والعَواشِرِ؛ أي: تكُونُ للسّاعةِ عَقارِبُ عَجِيبةٌ كلٌّ مِنها يَدُورُ في دائِرةٍ أَوسَعَ مِنَ الَّتي قَبْلَها بسِتِّين ضِعْفًا. فلو كانَت دائِرةُ العَقْرَبِ العادِّ للسّاعاتِ بقَدْرِ ساعَتِنا اليَدَوِيّةِ الصَّغِيرةِ، فيَلْزَمُ أن تكُونَ دائِرةُ العَقْرَبِ العادِّ للعَواشِرِ بمِقْدارِ المَدارِ السَّنَوِيِّ للأَرضِ أو أَكبَرَ مِنه.
والآنَ لِنَفْتَرِضْ أنَّ هناك شَخْصَينِ: أَحَدُهما: كأنَّه قد رَكِبَ عَقْرَبَ السّاعاتِ فيُراقِبُ ويَطَّلِعُ على ما حَوْلَه. والآخَرُ: كأنَّه قد رَكِبَ عَقْرَبَ العَواشِرِ ويُشاهِدُ ما حَوْلَه؛ فالفَرْقُ بينَ ما يُشاهِدُه الشَّخْصانِ مِن أَشياءَ في زَمانٍ واحِدٍ، هو نِسبةُ الفَرْقِ بينَ ساعَتِنا اليَدَوِيّةِ ومَدارِ الأَرضِ السَّنَوِيِّ، أي: إنَّ الفَرقَ هائِلٌ جِدًّا، وهكذا فلِأَنَّ الزَّمانَ عِبارةٌ عن لَوْنٍ مِن أَلوانِ الحَرَكةِ وصِبْغَتِها أو شَرِيطٍ لها، فالحُكْمُ الجارِي في الحَرَكاتِ جارٍ أيضًا في الزَّمانِ؛ إذ بَيْنا نُشاهِدُ في ساعةٍ واحِدةٍ بقَدْرِ ما يُشاهِدُه الرّاكِبُ ذُو الشُّعُورِ على عَقْرَبِ السّاعاتِ، وحَقِيقةُ عُمُرِه هي بالقَدْرِ نَفسِه، فإنَّ الرَّسُولَ الأَعظَمَ ﷺ في الزَّمانِ نَفسِه -كالرَّاكِبِ على عَقْرَبِ العَواشِرِ- في تلك السّاعةِ المُعَيَّنةِ يَركَبُ بُراقَ التَّوفِيقِ الإلٰهِيِّ ويَقطَعُ جَمِيعَ دَوائِرِ المُمكِناتِ كالبَرْقِ ويَرَى آياتِ المُلْكِ والمَلَكُوتِ ويَرتَقِي إلى نُقطةِ دائرةِ الوُجُوبِ، ويَتَشَرَّفُ باللِّقاءِ والكَلامِ، ويَحظَى برُؤيةِ الجَمالِ الإلٰهِيِّ، ويَتَلقَّى العَهْدَ والأَمرَ الإلٰهِيَّ لِأَداءِ وَظِيفةٍ ثمَّ يعُودُ. وقد عادَ فِعلًا.. وهو كذلك.
[بيان إمكان المعراج وتحقُّقه فعلًا]
ويَرِدُ على البالِ أيضًا: أنَّكم تقُولُون: نعم، يَجُوزُ، ولَرُبَّما يُمكِنُ أن يَحدُثَ! ولكن لا يَقَعُ فِعلًا كلُّ ما هو مُحتَمِلُ الوُقُوعِ ومُمكِنٌ، إذ كيف يَصِحُّ أن يُحْكَمَ على شَيءٍ ليس له مَثِيلٌ، بمُجَرَّدِ احتِمالِ وُقُوعِه؟
ونحنُ نقُولُ: إنَّ أَمثالَ المِعراجِ كَثِيرةٌ لا تُحصَى، فكلُّ ذِي نَظَرٍ مَثلًا يَرْقَى بنَظَرِه مِنَ الأَرضِ إلى كَوْكَبِ “نِبْتُون” في ثانيةٍ واحِدةٍ.. وكلُّ ذِي عِلمٍ يَذهَبُ بعَقْلِه راكِبًا قَوانِينَ الفُلْكِ إلى ما وَراءَ النُّجُومِ والكَواكِبِ في دَقِيقةٍ واحِدةٍ.. وكلُّ ذِي إيمانٍ يُركِّبُ فِكْرَه على أَفعالِ الصَّلاةِ وأَركانِها مُودِعًا الكائِناتِ وَراءَ ظَهْرِه فيَذهَبُ إلى الحُضُورِ الإلٰهِيِّ بما يُشْبِهُ المِعراجَ.. وكلُّ ذِي قَلْبٍ ووَلِيٍّ كامِلٍ يَستَطِيعُ أن يَمضِيَ بالسَّيرِ والسُّلُوكِ مِنَ العَرْشِ ومِن دائِرةِ الأَسماءِ والصِّفاتِ في أَربَعِين يومًا.. حتَّى إنَّ الشَّيخَ الگيْلانِيَّ والإمامَ الرَّبّانِيَّ وأَمثالَهما مِنَ الأَفذاذِ قد حَصَل لهم عُرُوجٌ رُوحِيٌّ إلى العَرشِ في دَقِيقةٍ واحِدةٍ، كما يُخبِرُون برِواياتٍ صادِقةٍ.. وإنَّ المَلائِكةَ الَّذين هم أَجسامٌ نُورانيّةٌ يَحصُلُ لهم ذَهابٌ وإيابٌ مِنَ العَرشِ إلى الفَرشِ ومِنَ الفَرشِ إلى العَرشِ في زَمَنٍ قَصِيرٍ جِدًّا.. وإنَّ أَهلَ الجَنّةِ يَعرُجُون مِنَ المَحشَرِ إلى رَوْضاتِ الجَنّاتِ في زَمانٍ قَصِيرٍ.
فهذا القَدْرُ مِنَ الأَمثِلةِ الكَثِيرةِ يُبيِّنُ قَطْعًا أنَّ سُلْطانَ جَمِيعِ الأَولياءِ والمُرسَلِين وإمامَ جَمِيعِ المُؤمِنين وسَيِّدَ جَمِيعِ أَهلِ الجَنّةِ ومَقبُولَ جَمِيعِ المَلائِكةِ، ذلِكُمُ الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ بلا شَكٍّ يَحصُلُ له مِعراجٌ يكُونُ مَدارُ سَيرِه وسُلُوكِه إلى اللهِ بما يَلِيقُ بمَقامِه الرَّفيعِ.
فهذه هي الحِكْمةُ بعَينِها، وفي غايةِ المَعقُوليّةِ، وهي واقِعةٌ فِعْلًا دُونَ أَدنَى رَيبٍ.
[الأساس الثالث: حكمة المعراج]
الأساسُ الثّالث: ما حِكْمةُ المِعراجِ؟
الجَوابُ: أنَّ حِكْمةَ المِعراجِ هي مِنَ الرِّفعةِ والسُّمُوِّ بحَيثُ يَعجِزُ الفِكْرُ البَشَرِيُّ عن إدراكِها، وهي مِنَ العُمقِ والغَوْرِ بما يَقصُرُ عن تَناوُلِها، وهي مِنَ الدِّقّةِ واللُّطْفِ بما يَدِقُّ عن أن يَراها العَقلُ بمُفرَدِه.
ولكِن على الرَّغمِ مِن عَدَمِ القُدرةِ على إدراكِ حَقائِقِ هذه الحِكْمةِ واستِيعابِها، فإنَّه يُمكِنُ أن يُعرَفَ وُجُودُها ببعضِ الإشاراتِ كما يَأْتِي:
لِأَجلِ إظهارِ نُورِ وَحْدَتِه سُبحانَه وتَعالَى وتَجَلِّي أَحَدِيَّتِه في طَبَقاتِ المَخلُوقاتِ، اصطَفَى خالِقُ الكائِناتِ ورَبُّ العالَمِين فَرْدًا مُتَمَيِّـزًا بمِعراجٍ، هو كخَيْطِ اتِّصالٍ نُورانِيٍّ بينَ مُنتَهَى طَبَقاتِ كَثْرةِ المَوجُوداتِ إلى مَبْدَأِ الوَحْدةِ، مُتَّخِذًا إيّاه مَوْضِعَ خِطابِه، باسمِ جَمِيعِ المَخلُوقاتِ.. مُعَلِّمًا إيّاه، وبه، مَقاصِدَه الإلٰهِيّةَ باسمِ ذَوِي الشُّعُورِ.. لِيَشْهدَ بنَظَرهِ جَمالَ صَنْعَتِه وكَمالَ رُبُوبيَّتِه في مِرآةِ مَخلُوقاتِه، ويُشهِدَ الآخَرِين آثارَ الجَمالِ والكَمالِ.
إذ ما دامَ رَبُّ العالَمِين له جَمالٌ مُطلَقٌ وكَمالٌ مُطلَقٌ -بشَهادةِ آثارِه ومَصنُوعاتِه- وأنَّ الجَمالَ والكَمالَ مَحبُوبانِ لِذاتَيهِما، فمالِكُ ذلك الجَمالِ والكَمالِ إذًا له مَحَبّةٌ بلا نِهايةٍ لِجَمالِه وكَمالِه، وتلك المَحَبّةُ تَظهَرُ بوُجُوهٍ عِدّةٍ وأَنماطٍ كَثِيرةٍ في المَصنُوعاتِ؛ فيُولِي سُبحانَه مَصنُوعاتِه حُبَّه، لِما يَرَى فيها مِن أَثَرِ جَمالِه وكَمالِه..
ولَمّا كان أَحَبُّ المَصنُوعاتِ وأَسماها لَدَيه ذَوِي الحَياةِ.. وأَحَبُّ ذَوِي الحَياةِ وأَسماهم ذَوِي الشُّعُورِ.. وأَحَبُّ ذَوِي الشُّعُورِ -باعتِبارِ جامِعِيّةِ الِاستِعدادتِ- هو ضِمنَ الإنسانِ.. فأَحَبُّ إنسانٍ إذًا هو ذلك الفَردُ الَّذي انكَشَفَتِ استِعداداتُه انكِشافًا تامًّا، فأَظهَرَ إظهارًا كامِلًا نَماذِجَ كَمالاتِه سُبحانَه المُنتَشِرةِ في المَصنُوعاتِ والمُتَجَلِّيةِ فيها.
وهكذا، فصانِعُ المَوجُوداتِ لِأَجلِ مُشاهَدةِ جَمِيعِ أَنواعِ تَجَلِّي المَحَبّةِ المَبثُوثةِ في جَمِيعِ المَوجُوداتِ، في نُقطةٍ، في مِرآةٍ.. ولِأَجلِ إظهارِ جَمِيعِ أَنواعِ جَمالِه -بسِرِّ الأَحَدِيّةِ- اصطَفَى مَن هو ثَمَرةٌ مُنَوَّرةٌ مِن شَجَرةِ الخَلْقِ، ومَن قَلْبُه في حُكْمِ نَواةٍ قادِرةٍ على استِيعابِ حَقائِقِ تلك الشَّجَرةِ الأَساسِيّةِ.. اصطَفاه بمِعراجٍ، هو كخَيطِ اتِّصالٍ نُورانِيٍّ بينَ النَّواةِ والثَّمَرةِ، أي: مِنَ المَبْدَأِ الأَوَّلِ إلى المُنتَهَى، مُظهِرًا مَحبُوبِيّةَ ذلك الفَردِ الفَذِّ أمامَ الكائِناتِ؛ فرَقّاه إلى حُضُورِه، وشَرَّفَه برُؤيةِ جَمالِه، وأَكرَمَه بأَمرِه، وأَناطَ به وَظِيفةً جَعَل ما عِندَه مِن حالةٍ قُدسِيّةٍ تَسرِي إلى الآخَرِين.
[مثالان يبينان حكمة المعراج]
سنَرصُدُ هذه الحِكْمةَ الإلٰهِيّةَ مِن خِلالِ مِثالَينِ اثنَينِ:
[مثال1: إبراز كنوز السلطنة]
الأوَّلُ: وهو ما بَيَّنّاه مُفَصَّلًا في “الكَلِمةِ الحادِيةَ عَشْرةَ” وكما يأتي:
إذا ما وُجِدَت لِسُلطانٍ عَظِيمٍ خَزائِنُ كَثِيرةٌ جِدًّا مَلْأَى بأَنواعٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى مِنَ الجَواهِرِ النَّفِيسةِ والأَلماساتِ الفَرِيدةِ، وكانَت له مَهارةٌ فائِقةٌ في بَدائِعِ الصَّنعةِ، وله مَعرِفةٌ واسِعةٌ بفُنُونٍ عَجِيبةٍ لا تُحصَرُ، وإحاطةٌ تامّةٌ بها، معَ اطِّلاعٍ شامِلٍ على عُلُومٍ بَدِيعةٍ لا حَدَّ لها، وعِلمٍ كامِلٍ بها.. فلا شَكَّ أنَّ ذلك السُّلطانَ ذا البَدائِعِ والفُنُونِ سيُرِيدُ فَتْحَ مَعرِضٍ عامٍّ، يَعرِضُ فيه مَعرُوضاتِه القَيِّمةَ -حيثُ إنَّ كلَّ ذِي جَمالٍ وكَمالٍ يُرِيدُ مُشاهَدةَ وإشهادَ جَمالِه وكَمالِه- وذلك لِيَصْرِفَ أَنظارَ الأَهلِين إلى رُؤيةِ عَظَمةِ سَلطَنَتِه ويُشهِدَهم شَعْشَعةَ ثَرْوَتِه وخَوارقَ صَنْعَتِه وعَجائِبَ مَعرِفَتِه، وذلك لِيُشاهِدَ جَمالَه وكَمالَه المَعنَوِيَّينِ على وَجهَينِ:
وَجْهٍ: بنَظَرِه الثّاقِبِ الدِّقِيقِ، وآخَرَ: بنَظَرِ الآخَرِين.
وبِناءً على هذه الحِكْمةِ؛ سيَشْرَعُ هذا السُّلطانُ العَظِيمُ حَتْمًا بتَشيِيدِ قَصْرٍ عَظِيمٍ واسِعٍ مَهِيبٍ، ويُقَسِّمُه تَقسِيمًا بارِعًا إلى دَوائِرَ وطَوابِقَ ومَنازِلَ فَخْمةٍ، مُوَشِّحًا كلَّ قِسمٍ بجَواهِرِ ومُرَصَّعاتِ خَزائِنِه المُتَنوِّعةِ، مُجَمِّلًا إيّاه بأَجمَلِ ما أَبدَعَتْه يَدُ صَنْعَتِه وأَلطَفِها، مُنَظِّمًا إيّاه بأَدَقِّ دَقائِقِ فُنُونِه وحِكْمَتِه؛ وبعدَ ذلك سيَبسُطُ مَوائِدَ واسِعةً عامِرةً، بما يَلِيقُ بكُلِّ طائِفةٍ، مُعِدًّا بها ضِيافةً عامّةً سَخِيّةً تَزخَرُ بأَنواعِ نِعَمِه وأَنماطِ أَطْعِمَتِه اللَّذِيذةِ.
ثمَّ يَدعُو رَعاياه إلى هذه الضِّيافةِ الكَرِيمةِ، ومُشاهَدةِ كَمالاتِه البَدِيعةِ، ويَجعَلُ أَحَدَهم رَسُولًا بَينَه وبَينَهم، فيَدعُوه إلَيه، مُرُورًا مِن أَدنَى الطَّبَقاتِ إلى أَعلاها، ويُسَيِّـرُه دائِرةً فدائِرةً، وطَبَقةً فوقَ طَبَقةٍ.. مُشهِدًا إيّاه مَعامِلَ تلك الصَّنعةِ البَدِيعةِ، ومَخازِنَ ما يَرِدُ مِنَ الطَّبَقاتِ الدُّنيا مِن مَحاصِيلَ، حتَّى يُبَلِّغَه دائِرَتَه الخاصّةَ، فيُشَرِّفَه بقَبُولِه إلى حَضْرَتِه، مُظهِرًا له ذَاتَه المُبارَكةَ، الَّتي هي أَصلُ جَمِيعِ كَمالاتِه.. فيُعَلِّمَه كَمالاتِه الذّاتيّةَ ويُرشِدَه إلى حَقائِقِ القَصرِ، ويُسَنِّمَه وَظِيفةَ مُرشِدٍ رائِدٍ للمُتَفَرِّجِين، ويُرسِلَه إلَيهم لِيُعَرِّفَ الأَهلِينَ بصانِعِ القَصرِ، بما في القَصرِ مِن أَركانِ نُقُوشِه وعَجائِبِ صَنعَتِه، ويُعلِّمَ ما في النُّقُوشِ مِن رُمُوزٍ، وما في الصَّنائِعِ مِن إشاراتٍ.. ويُعرِّفَ الدّاخِلِين إلى القَصرِ ما هذه المُرَصَّعاتُ المَنظُومةُ والنُّقُوشُ المَوزُونةُ؟ وكيف أنَّها تَدُلُّ على كَمالاتِ مالِكِ القَصرِ وإبداعِه؟ ويُرشِدَهم إلى آدابِ السَّيرِ والتَّفَرُّجِ ويُلَقِّنَهم مَراسِيمَ التَّشرِيفاتِ للمُثُولِ أمامَ السُّلطانِ العَظِيمِ الَّذي لا يُرَى.. كلُّ ذلك وَفْقَ ما يُرضِيه ويَطلُبُه.
وهكذا -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- فإنَّ الصّانِعَ الجَلِيلَ، سُلطانَ الأَزَلِ والأَبدِ، قد أَرادَ رُؤيةَ وإراءةَ جَمالِه المُطلَقِ، وكَمالِه المُطلَقِ، فبَنَى قَصْرَ العالَمِ هذا في أَبدَعِ ما يكُونُ، بحَيثُ إنَّ كلَّ مَوجُودٍ فيه يَذكُرُ كَمالاتِه بأَلسِنةٍ كَثِيرةٍ، ويَدُلُّ على جَمالِه بإشاراتٍ عَدِيدةٍ، حتَّى إنَّ الكائِناتِ تُظهِرُ بكلِّ مَوجُودٍ فيها: كم مِن كُنُوزٍ مَعنَوِيّةٍ مَخْفِيّةٍ ضِمنَ كلِّ اسمٍ مِن أَسماءِ اللهِ الحُسنَى، وكم مِن لَطائِفَ مُستَتِرةٍ ضِمنَ كلِّ عُنوانٍ مُقَدَّسٍ!. بل إنَّ دَلالَتَها هذه هي مِنَ الوُضُوحِ والجَلاءِ ما جَعَلَ جَمِيعَ الفُنُونِ والعُلُومِ بجَمِيعِ دَساتِيرِها تَقرَأُ ما في كِتابِ الكَونِ مِن بَدائِعِ الأَدِلّةِ منذُ زَمَنِ آدَمَ عَليهِ السَّلام، إلّا أنَّها لم تُفصِحْ بَعدُ عن عُشْرِ مِعْشارِ ما يُعبِّـرُ عنه ذلك الكِتابُ مِن مَعاني الأَسماءِ والكَمالاتِ الإلٰهِيّةِ.
وهكذا، فالصّانِعُ ذُو الجَلالِ والجَمالِ والكَمالِ الَّذي شَيَّدَ هذا القَصرَ البَدِيعَ مَعرِضًا لِرُؤيةِ جَمالِه وكَمالِه المَعنَوِيِّ وإراءَتِه، تَقتَضِي حِكْمَتُه أن يُعَلِّمَ أَحَدَ ذَوِي الشُّعُورِ في الأَرضِ مَعانِيَ آياتِ ذلك القَصرِ، لِئَلّا تَبقَى مَعانيه عَبَثًا لا نَفْعَ لهم مِنها؛ وأن يُرَقِّيَه إلى العَوالِمِ العُلْوِيّةِ الَّتي هي مَنابِعُ ما في ذلك القَصرِ مِن أَعاجِيبَ، ومَخازِنُ ما فيه مِن مَحاصِيلَ؛ وأن يَرفَعَه إلى دَرَجةٍ عالِيةٍ هي فَوقَ جَمِيعِ مَخلُوقاتِه ويُشَرِّفَه بقُربِ حُضُورِه، ويُسَيِّرَه في عَوالِمِ الآخِرةِ، مُكَلِّفًا إيّاه بوَظائِفَ ومُهِمّاتٍ، لِيَكُون مُعَلِّمًا لِعُمُومِ عِبادِه، داعِيًا إيّاهم إلى سُلطانِ رُبُوبيَّتِه، مُبَلِّغًا إيّاهم بمَرضِيّاتِ أُلُوهِيَّتِه، مُفَسِّرًا لهم آياتِه التَّكوِينيّةَ في القَصرِ.. وأَمثالَها مِنَ الوَظائِفِ الأُخرَى الَّتي يُبيِّنُ بها سُبحانَه للعالَمِين أَجمَعَ فَضْلَ هذا المُختارِ وعَظَمةَ مَنزِلَتِه بما قَلَّدَه مِن أَوْسِمةِ المُعجِزاتِ، ويُعَلِّمَهم -بالقُرآنِ الكَرِيمِ- أنَّه المُبَلِّغُ الصّادِقُ والتَّرجُمانُ الأَمِينُ.
وهكذا، فقد بَيَّنّا بِضْعَ حِكَمٍ للمِعراجِ مِن بينِ حِكَمِه الكَثِيرةِ، وذلك في ضَوءِ هذا المِثالِ، وعليك أن تَقِيسَ بَقِيّةَ الحِكَمِ على مِنوالِه.
[مثال2: إبراز نفائس المعرفة]
المِثالُ الثَّاني:
إذا ما أَلَّفَ شَخصٌ عَلِيمٌ كِتابًا مُعجِزًا بحَيثُ إنَّ كلَّ صَحِيفةٍ مِنه تَزخَرُ بحَقائِقِ ما في مِئةِ كِتابٍ، كلُّ سَطْرٍ مِنه يَحوِي مَعانِيَ لَطِيفةً لِما في مِئةِ صَحِيفةٍ، كلُّ كَلِمةٍ مِنه تَنطَوِي على حَقائِقِ ما في مِئةِ سَطرٍ، وكلُّ حَرفٍ مِنه يُعَبِّـرُ عن مَعاني ما في مِئةِ كَلِمةٍ.. وكانَت جَمِيعُ مَعاني ذلك الكِتابِ وجَمِيعُ حَقائِقِه تُشِيرُ إلى الكَمالاتِ المَعنَوِيّةِ لِذلك الكاتِبِ البَدِيعِ المُعجِزِ وتَتَوجَّهُ نَحوَها.. فإذا كان الأَمرُ هكذا، فلا رَيبَ أنَّ ذلك الكاتِبَ المُعجِزَ لا يَتْرُكُ كِتابَه المُعجِزَ هذا دُونَ فائِدةٍ، ولا يُغلِقُ أَبوابَ هذه الخَزِينةِ الَّتي لا تَنفَدُ، بل مُحالٌ أن يَدَعَها مُعَطَّلةً لا طائِلَ وَراءَها.. لِذا سيُعَلِّمُ أَفرادًا مُعَيَّنين مَعانِيَ ذلك الكِتابِ لِئَلّا يَبقَى ذلك الكِتابُ القَيِّمُ مُهمَلًا دُونَ مَعنًى.. ولِتَظهَرَ كَمالاتُه المَخفِيّةُ، وتَجِدَ طَرِيقَها إلى الكَمالِ، ويُشاهَدَ جَمالُه المَعنَوِيُّ لِيَرضَى هو، ولِيُحَبِّبَ نَفسَه للآخَرِينَ، أي: إنَّه سيُعَلِّمُ أَحَدًا مُفرَداتِ ذلك الكِتابِ، بجَمِيعِ مَعانِيه وحَقائِقِه، مُلَقِّنًا إيّاه دَرْسًا دَرْسًا مِن أَوَّلِ صَحِيفةٍ فيه إلى آخِرِ صَحِيفةٍ، حتَّى يَمنَحَه الشَّهادةَ علَيه.
وهكذا، فالمُصَوِّرُ الجَمِيلُ سُبحانَه وتَعالَى الَّذي كَتَب هذه الكائِناتِ إظهارًا لِكَمالاتِه، وإبرازًا لِجَمالِه وحَقائِقِ أَسمائِه المُقَدَّسةِ.. كَتَبَها كِتابةً بَدِيعةً، لا أَبدَعَ مِنها؛ إذ تَدُلُّ جَمِيعُ المَوجُوداتِ بما لا يُحَدُّ مِنَ الجِهاتِ، على أَسمائِه الحُسنَى وعلى صِفاتِه الجَلِيلةِ وعلى كَمالاتِه المُطلَقةِ وتُعَبِّـرُ عنها.
ومِنَ المَعلُومِ أنَّ كِتابًا -مَهما كان- إن لم يُعْرَف مَعناه، فسيَذهَبُ هَباءً مَنثُورًا، وستَسقُطُ قِيمَتُه إلى العَدَمِ، فكيف بكِتابٍ كهذا الَّذي يَتَضمَّنُ كلُّ حَرفٍ فيه أُلُوفَ المَعاني؟ فلا يُمكِنُ أن تَسقُطَ قِيمَتُه قَطْعًا ولا يُمكِنُ أن يَذهَبَ هَباءً قَطُّ! فكاتِبُ ذلك الكِتابِ المُعجِزِ سيُعَلِّمُه حَتْمًا، ويُفَهِّمُ أقسامَه، حَسَبَ استِعداداتِ كلِّ طائِفةٍ، ويُعَلِّمَ الكِتابَ كُلَّه، مَن هو أَعَمُّ نَظَرًا وأَشمَلُ شُعُورًا وأَكمَلُ استِعدادًا.
ولِأَجلِ تَدرِيسِ مِثلِ هذا الكِتابِ وتَعلِيمِه تَعلِيمًا كُلِّيًّا وشامِلًا جَمِيعَ حَقائِقِه، تَقتَضِي الحِكْمةُ سَيْرًا وسُلُوكًا في غايةِ السُّمُوِّ والرِّفعةِ، أي: يَحْتاجُ مُشاهَدةً وسَيْرًا ابتِداءً مِن نِهايةِ طَبَقاتِ المَوجُوداتِ الكَثِيرةِ، الَّتي هي أُولَى صَحائِفِ هذا الكِتابِ، وانتِهاءً إلى دائِرةِ الأَحَدِيّةِ الَّتي هي مُنتَهَى صَفَحاتِه.
وهكذا يُمكِنُك مُشاهَدةُ شَيءٍ مِنَ الحِكَمِ السّامِيةِ للمِعراجِ في ضَوءِ هذا المِثالِ.
[حديث مع الملحد لحل إشكالاته على المعراج]
والآنَ نَلتَفِتُ إلى المُلحِدِ القابعِ في مَقامِ الِاستِماعِ، ونُنصِتُ إلى ما يَجُولُ في قَلبِه لِنُشاهِدَ أيَّ طَورٍ مِنَ الأَطوارِ قد تَلَبَّسَ.. فالَّذي يَرِدُ إلى الخاطِرِ أنَّ قَلبَه يقُولُ: لقد بَدَأْتُ أَخطُو خُطُواتٍ في طَرِيقِ الإيمانِ، ولكِن هناك ثَلاثةُ إشكالاتٍ ومُعضِلاتٍ لا أَستَطِيعُ حَلَّها واستِيعابَها!
الأوَّلُ: لِمَ اختُصَّ بهذا المِعراجِ العَظِيمِ مُحمَّدٌ ﷺ؟
الثّاني: كيف يكُونُ ذلك النَّبيُّ الكَرِيمُ ﷺ نَواةَ هذه الكائِناتِ؟ حيثُ تقُولُون: إنَّ الكائِناتِ قد خُلِقَت مِن نُورِه؛ وفي الوَقتِ نَفسِه هو آخِرُ ثَمَرةٍ مِن ثَمَراتِ الكائِناتِ وأَنوَرُها؟!. ماذا يُفِيدُ هذا الكَلامُ؟
الثّالثُ: تقُولُون فيما بَيَّنتُمُوه سابِقًا: إنَّ العُرُوجَ إلى العالَمِ العُلْوِيِّ إنَّما كان لِأَجلِ مُشاهَدةِ المَعامِلِ والمَصانِعِ الأَساسِ لِما في العالَمِ مِن آثارٍ، ولِرُؤيةِ مَخازِنِ ومُستَودَعاتِ نَتائِجِ الآثارِ.. ماذا يَعنِي هذا الكَلامُ؟
[الإشكال الأول: لماذا اختُص محمدٌ ﷺ بالمعراج]
الإشكالُ الأوَّلُ:
الجَوابُ: إنَّ إشكالَكُمُ الأَوَّلَ هذا، قد حُلَّ مُفَصَّلًا في الكَلِماتِ الثَّلاثينَ ضِمنَ كِتابِ “الكَلِماتِ”، إلّا أنَّنا نُشِيرُ هنا مُجَرَّدَ إشارةٍ مُجمَلةٍ على صُورةِ فِهرِسٍ مُوجَزٍ إلى كَمالاتِ النَّبيِّ الكَرِيمِ ﷺ، ودَلائِلِ نُبُوَّتِه، وأنَّه هو الأَحرَى بهذا المِعراجِ العَظِيمِ.
أوَّلًا: إنَّ الكُتُبَ المُقدَّسةَ (التَّوراةَ والإنجِيلَ والزَّبُورَ) تَضُمُّ بِشاراتٍ بنُبُوّةِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ وإشاراتٍ إلَيه، رَغمَ تَعَرُّضِها إلى التَّحرِيفاتِ طَوالَ العُصُورِ. وقدِ استَنبَطَ في عَصرِنا هذا العالِمُ المُحَقِّقُ حُسَينٌ الجِسْرُ عَشْرًا ومِئةَ بِشارةٍ مِنها، وأَثبَتَها في كِتابِه المَوسُومِ “الرِّسالةُ الحَمِيدِيّةُ”.
ثانيًا: إنَّه ثابِتٌ تارِيخِيًّا، ورُوِيَت برِواياتٍ صَحِيحةٍ بِشاراتٌ كَثِيرةٌ بَشَّر بها الكُهّانُ مِن أَمثالِ الكاهِنَينِ المَشهُورَينِ: شِقٌّ وسَطِيحٌ، قُبَيلَ بِعثَتِه ﷺ، وأَخبَرا أنَّه نَبِيُّ آخِرِ الزَّمانِ.
ثالثًا: ما حَدَث لَيلةَ مَولِدِه ﷺ مِن سُقُوطِ الأَصنامِ في الكَعبةِ وانشِقاقِ إيوانِ كِسرَى.. وأَمثالَها مِن مِئاتِ الإرهاصاتِ والخَوارِقِ المَشهُورةِ في كُتُبِ التّارِيخِ.
رابعًا: نَبَعانُ الماءُ مِن بينِ أَصابِعِه الشَّرِيفةِ وسَقْيُه الجَيشَ به، وحَنِينُ الجِذْعِ اليابِسِ المَوجُودِ في المَسجِدِ النَّبوِيِّ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ لِفِراقِه عنه، وأَنِينُه أمامَ جَماعةٍ غَفِيرةٍ مِنَ الصَّحْبِ الكِرامِ، وانشِقاقُ القَمَرِ كما نَصَّت علَيه الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾، وأَمثالُها مِنَ المُعجِزاتِ الثّابِتةِ لَدَى العُلَماءِ المُحقِّقين والَّتي تَبلُغُ الأَلفَ قد أَثبَتَتْها كُتُبُ السِّيَرِ والتّارِيخِ.
خامسًا: لقدِ اتَّفَق الأَعداءُ والأَولياءُ بما لا رَيبَ فيه أنَّ ما يَتَحلَّى به ﷺ مِنَ الأَخلاقِ الفاضِلةِ هو في أَسمَى الدَّرَجاتِ، وأنَّ ما يَتَّصِفُ به مِن سَجايا حَمِيدةٍ في دَعوَتِه هو في أَعلَى المَراتِبِ، تَشهَدُ بذلك مُعامَلاتُه وسُلُوكُه معَ النّاسِ؛ وأنَّ شَرِيعَتَه الغَرّاءَ تَضُمُّ أَكمَلَ الخِصالِ الحَسَنةِ، تَشهَدُ بذلك مَحاسِنُ الأَخلاقِ في دِينِه القَوِيمِ.
سادسًا: لقد أَشَرْنا في الإشارةِ الثّانيةِ مِنَ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” إلى أنَّ الرَّسُولَ الكَرِيمَ ﷺ هو الَّذي أَظهَر أَعلَى مَراتِبِ العُبُودِيّةِ وأَسماها بالعُبُودِيّةِ العَظِيمةِ في دِينِه تَلْبِيةً لإرادةِ اللهِ في ظُهُورِ أُلُوهِيَّتِه بمُقتَضَى الحِكْمةِ.
وأنَّه هو كذلك -كما هو بَدِيهِيٌّ- أَكرَمُ دالٍّ على جَمالٍ في كَمالٍ مُطلَقٍ لِخالِقِ العالَمِ، وأَفضَلُ مُعَرِّفٍ لَبَّى إرادةَ اللهِ سُبحانَه في إظهارِ ذلك الجَمالِ، بواسِطةِ مَبعُوثٍ كما تَقتَضِيه الحِكْمةُ والحَقِيقةُ.
وأنَّه هو كذلك -كما هو مُشاهَدٌ- أَعظَمُ دالٍّ على كَمالِ صَنْعةٍ في جَمالٍ مُطلَقٍ لِصانِعِ العالَمِ، وبأَعظَمِ دَعوةٍ وأَندَى صَوتٍ، فلَبَّى إرادةَ اللهِ جَلَّ وعَلا في جَلْبِ الأَنظارِ إلى كَمالِ صَنْعَتِه والإعلانِ عنها.
وأنَّه هو كذلك -بالضَّرُورةِ- أَكمَلُ مَن أَعلَن عن جَمِيعِ مَراتِبِ التَّوحِيدِ بأَعظَمِ دَرَجَتِه، فلَبَّى إرادةَ رَبِّ العالَمِين في إعلانِ الوَحْدانيّةِ على طَبَقاتِ كَثْرةِ المَخلُوقاتِ.
وأنَّه هو كذلك -بالضَّرُورةِ- أَجلَى مِرآةٍ وأَصفاها لِعَكْسِ مَحاسِنِ جَمالِ مالِكِ العالَمِ ولَطائِفِ حُسْنِه المُنَـزَّهِ -كما تُشِيرُ إلَيه آثارُه البَدِيعةُ- وهو أَفضَلُ مَن أَحَبَّه وحَبَّبَه، فلَبَّى إرادَتَه سُبحانَه في رُؤيةِ ذلك الجَمالِ المُقدَّسِ وإراءَتِه في المَرايا بمُقتَضَى الحَقِيقةِ والحِكْمةِ. وأنَّه هو كذلك -بالبَداهةِ- أَعظَمُ مَن عرَّف ما في خَزائِنِ الغَيبِ لِصانِعِ هذا العالَمِ، تلك الخَزائِنِ المَلْأَى بأَبدَعِ المُعجِزاتِ وأَثمَنِ الجَواهِرِ، وهو أَفضَلُ مَن أَعلَن عنها ووَصَفَها، فلَبَّى إرادَتَه سُبحانَه في إظهارِ تلك الكُنُوزِ المَخْفِيّةِ وتَعرِيفِ كَمالاتِه بذلك.
وأنَّه هو كذلك -بالبَداهةِ- أَكمَلُ مُرشِدٍ بالقُرآنِ الكَرِيمِ للجِنِّ والإنسِ بل للرُّوحانيِّين والمَلائِكةِ، وأَعظَمُ مَن بَيَّن مَعانِيَ آثارِ صانِعِ هذه الكائِناتِ الَّتي زَيَّنَها بأَرْوَعِ زِينةٍ ومَكَّن فيها أَربابَ الشُّعُورِ مِن مَخلُوقاتِه لِيَنعُمُوا بالنَّظَرِ والتَّفكُّرِ والِاعتِبارِ، فلَبَّى إرادَتَه سُبحانَه في بَيانِ مَعاني تلك الآثارِ وتَقدِيرِ قِيمَتِها لِأَهلِ الفِكْرِ والمُشاهَدةِ.
وأنَّه هو كذلك -بالبَداهةِ- أَحسَنُ مَن كَشَف بحَقائِقِ القُرآنِ عن مَغزَى القَصدِ مِن تَحَوُّلاتِ الكائِناتِ والغايةِ مِنها، وأَكمَلُ مَن حَلَّ اللُّغْزَ المُحَيِّرَ في المَوجُوداتِ؛ وهو أَسئِلةٌ ثلاثةٌ مُعضِلةٌ: مَن أنت؟ ومِن أين؟ والى أين؟ فلَبَّى إرادَتَه سُبحانَه في كَشْفِ ذلك الطِّلَّسْمِ المُغلَقِ لِذَوِي الشُّعُورِ بوَساطةِ مَبعُوثٍ.
وأنَّه هو كذلك -بالبَداهةِ- أَكمَلُ مَن بَيَّن المَقاصِدَ الإلٰهِيّةَ بالقُرآنِ الكَرِيمِ، وأَحسَنُ مَن وَضَّح السَّبِيلَ إلى مَرضاةِ رَبِّ العالَمِين، فلَبَّى إرادَتَه سُبحانَه في تَعرِيفِ ما يُرِيدُه مِن ذَوِي الشُّعُورِ وما يَرضاه لهم بواسِطةِ مَبعُوثٍ، بَعدَما عَرَّف نَفسَه لهم بجَمِيعِ مَصنُوعاتِه البَدِيعةِ وحَبَّـبَها إلَيهم بما أَسبَغَ علَيهم مِن نِعَمِه الغاليةِ.
وأنَّه هو كذلك -بالبَداهةِ- أَعظَمُ مَنِ استَوْفَى مُهِمّةَ الرِّسالةِ بالقُرآنِ الكَرِيمِ وأَدَّاها أَفضَلَ أَداءٍ في أَسمَى مَرتَبةٍ وأَبلَغِ صُورةٍ وأَحسَنِ طِرازٍ، فلَبَّى إرادةَ رَبِّ العالَمِين في صَرْفِ وَجْهِ هذا الإنسانِ مِنَ الكَثْرةِ إلى الوَحْدةِ ومِنَ الفَانِي إلى البَاقي، ذلك الإنسانِ الَّذي خَلَقَه سُبحانَه ثَمَرةً للعالَمِ، ووَهَبَ له مِنَ الِاستِعداداتِ ما يَسَعُ العالَمَ كلَّه وهَيَّأَه للعُبُودِيّةِ الكُلِّيّةِ وابتَلاه بمَشاعِرَ مُتَوجِّهةٍ إلى الكَثْرةِ والدُّنيا.
وحَيثُ إنَّ أَشْرَفَ المَوجُوداتِ هم ذَوُو الحَياةِ، وأَنبَلَ الأَحياءِ هم ذَوُو الشُّعُورِ، وأَكرَمَ ذَوِي الشُّعُورِ هم بَنُو آدَمَ الحَقِيقيُّون الكامِلُون، لِذا فالَّذي أَدَّى مِن بينِ بَنِي الإنسانِ المُكَرَّمِ تلك الوَظائِفَ المَذكُورةَ آنِفًا وأَعطَى حَقَّها مِنَ الأَداءِ في أَفضَلِ صُورةٍ وأَعظَمِ مَرتَبةٍ مِن مَراتِبِ الأَداءِ، لا رَيبَ أنَّه سيَعرُجُ -بالمِعراجِ العَظِيمِ- فيَكُونُ قابَ قَوْسَينِ أو أَدنَى، وسيَطرُقُ بابَ السَّعادةِ الأَبدِيّةِ، وسيَفْتَحُ خَزائِنَ الرَّحمةِ الواسِعةِ، وسيَرَى حَقائِقَ الإيمانِ الغَيبِيّةَ رُؤْيةَ شُهُودٍ، ومَن ذا يكُونُ غيرَ ذلكُمُ النَّبيِّ الكَرِيمِ ﷺ؟
سابعًا: يَجِدُ المُتَأَمِّلُ في هذه المَصنُوعاتِ المَبثُوثةِ في الكَونِ أنَّ فيها فِعلَ التَّحسِينِ في مُنتَهَى الجَمالِ، وفِعلَ التَّزيِينِ في مُنتَهَى الرَّوعةِ، فبَدِيهِيٌّ أنَّ مِثلَ هذا التَّحسِينِ والتَّزيِينِ يَدُلّانِ على وُجُودِ إرادةِ التَّحسِينِ وقَصْدِ التَّزيِينِ لَدَى صانِعِ تلك المَصنُوعاتِ؛ فتلك الإرادةُ الشَّدِيدةُ تَدُلُّ بالضَّرُورةِ على وُجُودِ رَغبةٍ قَوِيّةٍ سامِيةٍ، ومَحَبّةٍ مُقَدَّسةٍ لَدَى ذلك الصّانِعِ نحوَ صَنْعَتِه..
لِذا فمِنَ البَدِيهيِّ أن يكُونَ أَحَبُّ مَخلُوقٍ لَدَى الخالِقِ الكَرِيمِ الَّذي يُحِبُّ مَصنُوعاتِه هو مَن يَتَّصِفُ بأَجمَعِ تلك الصِّفاتِ، ومَن يُظهِرُ في ذاتِه لَطائِفَ الصَّنعةِ إظهارًا كامِلًا، ومَن يَعْرِفُها ويُعَرِّفُها، ومَن يُحَبِّبُ نَفسَه ويَستَحِسنُ -بإعجابٍ وتَقدِيرٍ- جَمالَ المَصنُوعاتِ الأُخرَى.
فمَنِ الَّذي جَعَل السَّماواتِ والأَرضَ تَرِنُّ بصَدَى “سُبحانَ اللهِ.. ما شاءَ اللهُ.. اللهُ أَكبَرُ” مِن أَذكارِ الإعجابِ والتَّسبِيحِ والتَّـكبِيرِ تِجاهَ ما يُرَصِّعُ المَصنُوعاتِ مِن مَزايا تُزَيِّنُها ومَحاسِنَ تُجَمِّلُها ولَطائِفَ وكَمالاتٍ تُنَوِّرُها؟ ومَنِ الَّذي هَزَّ الكائِناتِ بنَغَماتِ القُرآنِ الكَرِيمِ، فانجَذَب البَرُّ والبَحرُ إلَيها في شَوْقٍ عارِمٍ مِنَ الِاستِحسانِ والتَّقدِيرِ في تَفَكُّرٍ وإعلانٍ وتَشهِيرٍ، في ذِكرٍ وتَهليلٍ؟ مَن ذا يكُونُ تلك الذّاتَ المُبارَكةَ غيرُ مُحمَّدٍ الأَمينِ ﷺ؟!
فمِثلُ هذا النَّبيِّ الكَرِيمِ ﷺ الَّذي يُضافُ إلى كِفّةِ حَسَناتِه في المِيزانِ مِثلُ ما قامَت به أُمَّتُه مِن حَسَناتٍ بسِرِّ: “السَّبَبُ كالفاعِلِ”.. والَّذي تُضافُ إلى كَمالاتِه المَعنَوِيّةِ الصَّلَواتُ الَّتي تُؤَدِّيها الأُمّةُ جَمِيعًا.. والَّذي يُفاضُ علَيه مِنَ الرَّحمةِ والمَحَبّةِ الإلٰهِيّةِ ومَحَبَّتِها ما لا يَحُدُّهما حُدُودٌ، فَضْلًا عَمّا يَنالُه مِن ثَمَراتِ ما أَدّاه مِن مُهِمّةِ رِسالَتِه مِن ثَوابٍ مَعنَوِيٍّ عَظِيمٍ.. نعم، فمِثلُ هذا النَّبيِّ العَظِيمِ ﷺ لا رَيبَ أنَّ ذَهابَه إلى الجَنّةِ، وإلى سِدْرةِ المُنتَهَى، وإلى العَرْشِ الأَعظَمِ، فيكُونُ قابَ قَوْسَينِ أو أَدنَى، إنَّما هو عَينُ الحَقِّ، وذاتُ الحَقيقةِ ومَحْضُ الحِكْمةِ.
[الإشكال الثاني: كيف يكون النبي ﷺ نواة الكائنات؟]
الإشكالُ الثاني:
أيُّها القاعِدُ في مَقامِ الِاستِماعِ.. إنَّ هذه الحَقِيقةَ الَّتي استَشْكَلْتَها هي عَمِيقةُ الغَوْرِ في ذاتِها، وهي عاليةٌ سامِيةٌ إلى حَدٍّ لا يَبلُغُه العَقلُ، بل لا يَقتَرِبُ مِنها، ومعَ هذا فإنَّها تُرَى بنُورِ الإيمانِ.
ونحنُ هنا سنُحاوِلُ أن نُقَرِّبَ إلى الأَفهامِ شَيئًا مِن تلك الحَقِيقةِ العاليةِ ببَعضِ الأَمثِلةِ الَّتي تُساعِدُ على ذلك، وهي على النَّحوِ الآتي: إذا ما نُظِرَ إلى هذه الكائِناتِ نَظَرَ الحِكْمةِ، بَدَتْ كأنَّها شَجَرةٌ عَظِيمةٌ في مَعناها، فكما أنَّ الشَّجَرةَ لها أَغصانٌ وأَوراقٌ وأَزاهِيرُ وثَمَراتٌ، ففي العالَمِ السُّفلِيِّ الَّذي هو شِقٌّ مِن شَجَرةِ الخِلْقةِ، يُشاهَدُ أَيضًا أنَّ العَناصِرَ بمَثابةِ أَغصانِه، والنَّباتاتِ والأَشجارَ في حُكْمِ أَوْراقِه، والحَيَواناتِ كأنَّها أَزاهِيرُه، والأَناسِيَّ كأنَّهم ثَمَراتُه؛ فالقانونُ الإلٰهِيُّ الجارِي على الأَشجارِ يَلْزَمُ أن يكُونَ جارِيًا أَيضًا على هذه الشَّجَرةِ العُظمَى، وذلك بمُقتَضَى اسمِ اللهِ “الحَكِيمِ”.
لِذا فمِن مُقتَضَى الحِكْمةِ أن تكُونَ شَجَرةُ الخِلْقةِ هذه ناشِئةً أيضًا مِن نَواةٍ، وأن تكُونَ النَّواةُ جامِعةً نَماذِجَ وأُسُسَ سائِرِ العَوالِمِ فَضْلًا عنِ احتِوائِها على العالَمِ الجِسمانِيِّ، لأنَّ النَّواةَ الأَصلِيّةَ للكائِناتِ المُتَضَمِّنةِ لِأُلُوفِ العَوالِمِ ومَنشَأَها لا يُمكِنُ أن تكُونَ مادّةً جامِدةً قَطُّ. وحيثُ إنَّه لَيسَت هناك شَجَرةٌ أُخرَى مِن نَوعِ شَجَرةِ الكائِناتِ قد سَبَقَتْها، فإنَّ المَعنَى والنُّورَ الَّذي هو بحُكْمِ المَنْشَأِ والنَّواةِ لها لا بُدَّ أن يَتَجَسَّدَ في شَجَرةِ الكائِناتِ وأن يُلبَسَ لِباسَ الثَّمَرةِ، وهذا مُقتَضَى اسمِ اللهِ الحَكِيمِ، وذلك لأنَّ النَّواةَ لا تكُونُ مُجَرَّدةً عارِيةً دائِمًا، إذ ما دامَت لم تَلْبَسْ لِباسَ الثَّمَرةِ في أَوَّلِ الفِطْرةِ، فسَتَلْبَسُها في الأَخِيرِ.
وما دامَ الإنسانُ هو تلك الثَّمَرةَ، وأنَّ أَفضَلَ ثَمَراتِ نَوعِ البَشَرِ وأَنوَرَها وأَحسَنَها وأَعظَمَها وأَشرَفَها وأَلطَفَها وأَجمَلَها وأَنفَعَها هو مُحمَّدٌ ﷺ، كما أُثبِتَ سابِقًا، الَّذي جَلَبَ نَظَرَ عُمُومِ المَخلُوقاتِ بفَضائِلِه، وحَصَرَ نَظَرَ نِصْفِ الأَرضِ وخُمُسِ البَشَرِيّةِ في ذاتِه المُبارَكةِ، واستَقْطَبَ أَنظارَ العالَمِين إلى مَحاسِنِه المَعنَوِيّةِ بالمَحَبّةِ والتَّبجِيلِ والإعجابِ.. فلا بُدَّ أنَّ النُّورَ الَّذي هو نَواةُ تَشَكُّلِ الكائِناتِ سيَتَجَسَّدُ في ذاتِه ﷺ، وسيَظْهَرُ بصُورةِ ثَمَرةِ الخِتامِ. أيُّها المُستَمِعُ، لا تَستَبْعِدْ خَلْقَ هذه الكائِناتِ البَدِيعةِ العَظِيمةِ مِن ماهِيّةٍ جُزئيّةٍ لإنسانٍ، فإنَّ القَدِيرَ ذا الجَلالِ الَّذي يَخلُقُ شَجَرةَ صَنَوبَرٍ ضَخْمةً، وكأنَّها عالَمٌ بذاتِه، مِن نَواةٍ صَغِيرةٍ لها، كيفَ لا يَخلُقُ، أو كيفَ يَعجِزُ عن خَلْقِ الكائِناتِ مِن نُورِ مُحمَّدٍ ﷺ؟
نعم، إنَّ شَجَرةَ الكائِناتِ شَبِيهةٌ بشَجَرةِ طُوبَى الجَنّةِ: جِذْعُها وجُذُورُها مُتَوغِّلةٌ في العالَمِ العُلْوِيِّ، وأَغصانُها وثَمَراتُها مُتَدلِّيةٌ إلى العالَمِ السُّفلِيِّ؛ لِذا فإنَّ هناك خَيْطًا ذا عَلاقةٍ نُورانيّةٍ ابتِداءً مِن مَقامِ الثَّمَرةِ في الأَسفَلِ إلى مَقامِ النَّواةِ الأَصلِيّةِ.
فالمِعراجُ النَّـبَوِيُّ صُورةٌ وغِلافٌ لِخَيطِ العَلاقةِ النُّورانيّةِ ذاك، حيثُ فَتَح الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ ذلك الطَّرِيقَ ودَرَجَ فيه بوِلايَتِه، وعاد برِسالَتِه، وتَرَك البابَ مَفتُوحًا، لِيَسلُكَه أَولِياءُ أُمَّتِه الَّذين يَتَّبِعُونه سُلُوكًا بالرُّوحِ والقَلبِ، فيَدرُجُوا في تلك الجادّةِ النُّورانيّةِ تَحتَ ظِلالِ المِعراجِ النَّبوِيِّ، ويَعرُجُوا فيها إلى مَقاماتٍ عاليةٍ كلٌّ حَسَبَ استِعداداتِه وقابِلِيّاتِه.
ولقد أَثبَتْنا سابِقًا أنَّ الصَّانِعَ الجَلِيلَ قد أَنشَأَ هذه الكائِناتِ وزَيَّنَها وكأنَّها قَصرٌ بَدِيعٌ لِأَجلِ مَقاصِدَ وغاياتٍ جَلِيلةٍ.. فالرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ الَّذي هو مِحْوَرُ تلك المَقاصِدِ ومَدارُها، لا بُدَّ أن يكُونَ مَوْضِعَ عِنايَتِه سُبحانَه قبلَ خَلْقِ الكائِناتِ، وأن يكُونَ أَوَّلَ مَن حَظِيَ بتَجَلِّيه جَلَّ جَلالُه؛ ذلك لأنَّ أَوَّلَ ما يُلاحَظُ في شَيءٍ هو نَتِيجَتُه وثَمَرتُه. إذًا فهو الأَوَّلُ مَعنًى، والآخِرُ وُجُودًا.
وحيثُ إنَّ الرَّسُولَ الكَرِيمَ ﷺ أَكمَلُ ثَمَراتِ الخَلْقِ، ومَدارُ قِيمةِ جَمِيعِ الثَّمَراتِ، ومِحْوَرُ ظُهُورِ جَمِيعِ المَقاصِدِ، يَلْزَمُ أن يكُونَ نُورُه أَوَّلَ مَن نالَ تَجَلِّيَ الإيجادِ.
[الإشكال الثالث: الغاية من المعراج]
الإشكال الثالث:
هذه الحَقيقةُ لها مِنَ السَّعةِ ما لا تَستَطِيعُ أَذهانُنا البَشَرِيّةُ الضَّيِّقةُ الإحاطةَ به واستِيعابَه، ولكِن نَستَطِيعُ النَّظَرَ إلَيها مِن بَعِيدٍ.
نعم، إن المَعامِلَ المَعنَوِيّةَ للعالَمِ السُّفلِيِّ، وقَوانِينَه الكُلِّيّةَ، إنَّما هي في العَوالِمِ العُلْوِيّةِ؛ وإنَّ نَتائِجَ أَعمالِ ما لا يُحَدُّ مِنَ المَخلُوقاتِ الَّتي تَعْمُرُ الأَرضَ، وهي بذاتِها مَحشَرُ المَصنُوعاتِ، وكذا ثَمَراتُ الأَفعالِ الَّتي يقُومُ بها الجِنُّ والإنسُ.. كلُّها تَتَمثَّـلُ في العَوالِمِ العُلْوِيّةِ أَيضًا.. حتَّى إنَّ إشاراتِ القُرآنِ الكَرِيمِ، ومُقتَضَى اسمِ اللهِ “الحَكِيم”، والحِكْمةَ المُندَرِجةَ في الكائِناتِ معَ شَهاداتِ الرِّواياتِ الكَثِيرةِ وأَماراتٍ لا حَدَّ لها.. تَدُلُّ على أنَّ الحَسَناتِ تَتَمثَّـلُ بصُورةِ ثَمَراتِ الجَنّةِ، والسَّيِّئاتِ تَتَشكَّلُ بصُورةِ زَقُّومِ جَهَنَّمَ.
نعم، إنَّ المَوجُوداتِ الكَثِيرةَ قدِ انتَشَرَت على وَجهِ الأَرضِ انتِشارًا عَظِيمًا، وأَنماطَ الخِلْقةِ قد تَشَعَّبَت علَيه إلى دَرَجةٍ كَبِيرةٍ.. بحيثُ إنَّ أَجناسَ المَخلُوقاتِ وأَصنافَ المَصنُوعاتِ الَّتي تَتَبدَّلُ وتُمْلَأُ وتُخْلَى مِنها الأَرضُ تَفُوقُ كَثِيرًا المَصنُوعاتِ المُنتَشِرةَ في الكَونِ كُلِّه.
وهكذا، فمَنابِعُ هذه الكَثرةِ والجُزئيّاتِ ومَعادِنُها الأَساسُ لا بُدَّ أنَّها قَوانِينُ كُلِّيّةٌ، وتَجَلِّياتٌ كُلِّيّةٌ للأَسماءِ الحُسنَى، بحيثُ إنَّ مَظاهِرَ تلك القَوانِينِ الكُلِّيّةِ وتلك التَّجَلِّياتِ الكُلِّيّةِ وتلك الأَسماءِ المُحِيطةِ، هي السَّماواتُ الَّتي هي بَسِيطةٌ (غيرُ مُرَكَّبةٍ) وصافيةٌ إلى حَدٍّ ما، والَّتي كلُّ واحِدةٍ مِنها في حُكْمِ عَرْشٍ لِعالَمٍ، وسَقْفٍ له، ومَركَزِ تَصَرُّفٍ، حتَّى إنَّ إحدَى تلك العَوالِمِ هي جَنّةُ المَأْوَى الَّتي هي عِندَ سِدْرةِ المُنتَهَى.
ولقد أَخبَرَ المُخبِرُ الصّادِقُ ﷺ بما مَعناه: إنَّ التَّسبِيحاتِ والتَّحمِيداتِ الَّتي تُذكَرُ في الأَرضِ تَتَجسَّدُ بصُورةِ ثَمَراتِ الجَنّةِ.
فهذه النِّقاطُ الثَّلاثُ تُبيِّنُ لنا أنَّ مَخازِنَ ما في الأَرضِ مِنَ النَّتائِجِ والثَّمَراتِ الحاصِلةِ إنَّما هي هناك، وأنَّ مَحاصِيلَها مُتَوجِّهةٌ ومُساقةٌ إلى هناك. فلا تَقُلْ -أيُّها المُستَمِعُ- كيف تُصبِحُ: “الحَمدُ للهِ” الَّتي أَتَلَفَّظُها في الهَواءِ ثَمَرةً مُجَسَّمةً في الجَنّةِ؟ لأنَّك عِندَما تَلفِظُ كَلِمةً طَيِّبةً وأنت يَقِظٌ في النَّهارِ قد تَتَراءَى لك في الرُّؤْيا بصُورةِ تُفّاحٍ لَذِيذٍ فتَأكُلُه؛ وكذلك كَلامُك القَبِيحُ نَهارًا قد تَبلَعُه في الرُّؤيا شَيئًا مُرًّا عَلْقَمًا، فإنِ اغْتَبْتَ أَحَدًا فإذا بك تُجبَرُ على أَكْلِ مَيْتٍ!.
إذًا فكَلِماتُك الطَّيِّبةُ أوِ الخَبِيثةُ الَّتي تَتَلفَّظُها في عالَمِ الدُّنيا الَّذي هو عالَمُ مَنامٍ، تَأْكُلُها ثَمَراتٍ في عالَمِ الآخِرةِ الَّذي هو عالَمُ اليَقَظةِ، وهكذا لا يَنبَغِي أن تَستَبعِدَ أَكلَك هذا!
[الأساس الرابع: ثمرات المعراج وفوائده]
الأساس الرابع: ما ثمراتُ المِعراج وفوائدُه؟
الجَوابُ: إنَّ لِهذا المِعراجِ العَظِيمِ الَّذي هو شَجَرةُ طُوبَى مَعنَوِيّةٌ ما يَزِيدُ على خَمْسِ مِئةِ ثَمَرةٍ وفائِدةٍ، إلّا أنَّنا سنَذكُرُ هنا خَمْسًا مِنها فَقَط على سَبِيلِ المِثالِ:
[الثمرة الأولى: رؤية الحقائق الإيمانية عيانًا]
الثمرة الأولى: هي رُؤيةُ حَقائِقِ الأَركانِ الإيمانِيّةِ رُؤيةَ عَينٍ وبَصَرٍ، أي: رُؤيةُ المَلائِكةِ والجَنّةِ والآخِرةِ، بل حتَّى رُؤيةُ الذّاتِ الجَلِيلةِ، فهذه الرُّؤيةُ والمُشاهَدةُ الحَقّةُ وَهَبَت للكائِناتِ أَجمَعَ وللبَشَرِيّةِ خاصَّةً خَزِينةً عَظِيمةً لا تَنفَدُ، ونُورًا أَزَليًّا لا يَخبُو، وهَدِيّةً أَبدِيّةً ثَمِينةً لا تُقَدَّرُ بثَمَنٍ؛ إذ أَخرَج ذلك النُّورُ الكائِناتِ قاطِبةً مِمّا يُتوَهَّمُ أنَّها تَتَردَّى في أَوضاعٍ فانِيةٍ زائِلةٍ مُضطَرِبةٍ أَلِيمةٍ.. وأَظهَرَها على حَقِيقَتِها أنَّها كِتاباتٌ صَمَدانيّةٌ، ورَسائِلُ رَبَّانيّةٌ قُدسِيّةٌ، ومَرايا جَمِيلةٌ تَعكِسُ جَمالَ الأَحَدِيّةِ. مِمّا أَدخَلَ السُّرُورَ والفَرَحَ في قُلُوبِ جَمِيعِ ذَوِي الشُّعُورِ، بل أَبهَجَ الكائِناتِ كلَّها..
ومِثلَما أَخرَج ذلك النُّورُ الكائِناتِ مِن أَوضاعٍ أَلِيمةٍ مَوهُومةٍ، أَخرَجَ الإنسانَ العاجِزَ أَمامَ أَعداءٍ لا حَدَّ لهم، الفَقِيرَ إلى حاجاتٍ لا نِهايةَ لها مِن أَوضاعٍ فانِيةٍ ضالّةٍ يَتَخبَّطُ فيها، فكَشَف عن صُورَتِه الحَقِيقيّةِ بأنَّه مُعجِزةٌ مِن مُعجِزاتِ قُدرةِ اللهِ سُبحانَه، ومَخلُوقُه الَّذي هو في أَحسَنِ تَقْوِيمٍ، ونُسخةٌ جامِعةٌ مِن رَسائِلِه الصَّمَدانيّةِ، ومُخاطَبٌ مُدرِكٌ لِسُلطانِ الأَزَلِ والأَبدِ وعَبْدُه الخاصُّ، ومُستَحْسِنُ كَمالاتِه وخَلِيلُه المَحبُوبُ، والمُعجَبُ بجَمالِه المُقدَّسِ وحَبِيبُه، والضَّيفُ المُكَرَّمُ لَدَيه، والمُرَشَّحُ لِجَنَّتِه الباقيةِ.
فيا لَه مِن سُرُورٍ بالِغٍ لا مُنتَهَى له، وشَوْقٍ عارِمٍ لا غايةَ له، يَمنَحُه هذا النُّورُ لِكُلِّ مَن يَعتَبِرُ نَفسَه إنسانًا!
[الثمرة الثانية: الصلاة]
الثمرة الثانية: وهي أنَّه أَتَى بأُسُسِ الإسلامِ، وفي مُقَدِّمَتِها “الصَّلاةُ”، تلك الأُسُسُ الَّتي تُمَثِّـلُ مَرْضِيّاتِ رَبِّ العالَمِين، حاكِمِ الأَزَلِ والأَبدِ.. وقد أَتَى بها هَدِيّةً قيِّمةً وتُحفةً طَيِّبةً إلى الجِنِّ والإنسِ كافّةً.
إنَّ مَعرِفةَ تلك المَرضِيّاتِ الرَّبّانيّةِ وَحْدَها لَتُثِيرُ لَدَى الإنسانِ مِنَ الرَّغبةِ والشَّوقِ والتَّطَلُّعِ إلى فَهْمِها ما لا يُمكِنُ وَصْفُه، فَضْلًا عَمّا تُورِثُ مِن سَعادةٍ وانشِراحٍ وسُرُورٍ؛ إذ لا جَرَمَ أنَّ كلَّ إنسانٍ يَرغَبُ رَغْبةً جادّةً أن يَعرِفَ -ولو مِن بَعِيدٍ- ما يَطلُبُ مِنه سُلْطانُه الَّذي أَنعَمَ علَيه، ويَشتاقُ بلَهْفةٍ أن يَعرِفَ ماذا يُرِيدُ مِنه مَن أَوْلاه نِعَمَه وأَحسَنَ إلَيه؟ وحتَّى إذا ما عَرَف مَرْضِيّاتِه يَغمُرُه سُرُورٌ بالِغٌ ويُشِيعُ فيه الرِّضَى والِاطمِئنانَ، بل حتَّى إنَّه يَتَمنَّى مِن قَلبِه كلِّه قائِلًا: “يا لَيتَ هناك واسِطةً بيني وبينَ مَوْلاي لِأَعرِفَ ما يُرِيدُ مِنِّي، وماذا يَرغَبُ أن أَكُونَ علَيه؟”.
نعم، إنَّ الإنسانَ الَّذي هو في أَشَدِّ الفاقةِ إلى مَوْلاه سُبحانَه وتَعالَى في كلِّ آنٍ، وفي كلِّ أَحوالِه وشُؤُونِه، وقد نالَ مِن أَفضالِه الكَرِيمةِ، ونِعَمِه السّابِغةِ ما لا يُعَدُّ ولا يُحصَى، وهو على يَقِينٍ مِن أنَّ المَوجُوداتِ كُلَّها في قَبْضةِ تَصَرُّفِه سُبحانَه، وما يَتَأَلَّقُ مِن سَنا الجَمالِ والكَمالاتِ على المَوجُوداتِ، ما هو إلّا ظِلٌّ ضَعِيفٌ بالنِّسبةِ لِجَمالِه وكَمالِه سُبحانَه.. أَقُولُ: تُرَى كم يكُونُ هذا الإنسانُ مُشتاقًا ومُتَلهِّفًا لِمَعرِفةِ ما يُرضِي هذا الرَّبَّ الجَلِيلَ، وإدراكِ ما يَطلُبُه مِنه!. لَعلَّك تُقَدِّرُ هذا!
فها هو ذا الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ قد أَتَى بمَرْضِيّاتِ رَبِّ العالَمِين وقد سَمِعَها سَماعًا مُباشَرًا بحَقِّ اليَقِينِ مِن وَراءِ سَبعِين أَلفَ حِجابٍ، أَتَى بها ثَمَرةً مِن ثَمَراتِ المِعراجِ، وقَدَّمَها هَدِيّةً طَيِّبةً إلى البَشَرِيّةِ جَمْعاءَ.
نعم، إنَّ الإنسانَ الَّذي يَتَطلَّعُ إلى مَعرِفةِ ماذا يَحدُثُ في القَمَرِ؟ وإذا ما ذَهَب أَحَدُهم إلى هناك وعادَ فأَخبَرَ بما فيه رُبَّما يُضَحِّي بالكَثِيرِ لِأَجلِ ذلك الخَبَرِ، وتَأْخُذُه الحَيْرةُ والإعجابُ كُلَّما عَرَف أَخبارَ ما هُنالِك..!! أَقُولُ: إنْ كان وَضْعُ الإنسانِ هكذا معَ أَخبارِ مَن ذَهَب إلى القَمَرِ، فكَيفَ تكُونُ لَهْفَتُه وشَوْقُه لِتَلقِّي أَخبارِ مَن يَأْتِي عن مالِكِ المُلكِ ذِي الجَلالِ الَّذي ليس القَمَرُ في مُلْكِه إلّا كذُبابٍ يَطِيرُ حَوْلَ فَراشٍ، يَطِيرُ ذلك الفَراشُ حَوْلَ سِراجٍ مِن أُلُوفِ السُّرُجِ الَّتي تُضِيءُ مَضِيفَه.
نعم، لقد رَأَى الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ شُؤُونَ هذا المَلِكِ العَظِيمِ ذِي الجَلالِ، وشاهَدَ بَدائِعَ صَنْعَتِه وخَزائِنَ رَحمَتِه في عالَمِ البَقاءِ، وعادَ بعدَ رُؤيَتِه لها وحَدَّث البَشَرَ بما رَآه وشاهَدَه.
فإنْ لم يُنْصِتِ البَشَرُ إلى هذا الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ إِنصاتَ شَوْقٍ ورَغبةٍ وبكُلِّ تَبجِيلٍ وإعجابٍ، فافْهَمْ مَدَى مُجافاتِهِمُ العَقلَ ومُجانَبَتِهِمُ الحِكْمةَ.
[الثمرة الثالثة: مشاهدة كنوز السعادة الأبدية واستلام مفاتيحها]
الثَّمرةُ الثَّالثة: إنَّه شاهَدَ كُنُوزَ السَّعادةِ الأَبدِيّةِ ودَفائِنَ النَّعِيمِ المُقِيمِ، وتَسَلَّمَ مِفتاحَها، وأَتَى به هَدِيّةً للإنسِ والجِنِّ.
نعم، إنَّه شاهَدَ ببَصَرِه بالمِعراجِ الجَنّةَ الخالِدةَ، ورَأَى التَّجَلِّياتِ الأَبدِيّةَ لِرَحمةِ الرَّحمٰنِ ذِي الجَلالِ، وأَدرَكَ إدراكًا بحَقِّ اليَقِينِ السَّعادةَ الأَبدِيّةَ، فزَفَّ بُشرَى وُجُودِ السَّعادةِ الأَبدِيّةِ إلى الجِنِّ والإنسِ.. تلك البُشرَى العَظِيمةَ الَّتي يَعجِزُ الإنسانُ عن وَصْفِها؛ إذ بَينَما الأَوضاعُ المَوهُومةُ تُحِيطُ بالجِنِّ والإنسِ حيثُ تُصفَعُ المَوجُوداتُ كلُّها بصَفَعاتِ الزَّوالِ والفِراقِ في دُنيا لا قَرارَ لها، وسَيْلُ الزَّمانِ وحَرَكاتُ الذَّرّاتِ تَجرُفُها إلى بَحرِ العَدَمِ والفِراقِ الأَبَدِيِّ.. نعم، فبَينا هذه الأَوضاعُ المُؤلِمةُ الَّتي تُزهِقُ رُوحَ الجِنِّ والإنسِ تُحِيطُ بهما مِن كُلِّ جانِبٍ، إذا بتلك البُشرَى السَّارّةَ تُزَفُّ إلَيهِما..
فقِسْ في ضَوءِ هذا مَدَى ما تُورِثُه تلك البُشرَى مِن سَعادةٍ وانشِراحٍ وسُرُورٍ لَدَى الجِنِّ والإنسِ اللَّذَينِ يَظُنَّانِ أنَّهما مَحكُومٌ علَيهِما بالإعدامِ الأَبدِيِّ، وأنَّهما فانِيانِ فَناءً مُطلَقًا! ثمَّ افْهَمْ بعدَ ذلك قِيمةَ تلك البُشرَى! فلو قِيلَ لِمَحكُومٍ علَيه بالإعدامِ وهو يَخطُو خُطُواتِه نحوَ المِشْنَقةِ: “إنَّ السُّلْطانَ قد تَكَرَّم بالعَفْوِ عنك فَضْلًا عن أنَّه مَنَحَك قَصْرًا عِندَه”. فلَك أن تَتَصوَّرَ مَدَى ما يَفتَحُ هذا الكَلامُ مِن آفاقِ السُّرُورِ والفَرَح لَدَى ذلك المَحكُومِ علَيه بالإعدامِ.. ولكي تَستَطِيعَ أن تَتَصَوَّرَ قِيمةَ هذه الثَّمَرةِ وهذه البُشرَى العَظِيمةِ، قُمْ بجَمْعِ جَمِيعِ ذلك السُّرُورِ والفَرَحِ بعَدَدِ الجِنِّ والإنسِ لِتُقَدِّرَ مَدَى قِيمةِ تلك البُشرَى!
[الثمرة الرابعة: رؤية جمال الله تعالى]
الثمرة الرابعة:
هي رُؤيةُ جَمالِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى.. فكما حَظِيَ بها ﷺ فقد أَتَى بأنَّه يُمكِنُ لِكُلِّ مُؤمِنٍ أن يَحْظَى بتلك الثَّمَرةِ الباقيةِ أيضًا؛ فأَهدَى بهذا هَدِيّةً عَظِيمةً للجِنِّ والإنسِ. ولَعلَّك تَتَمكَّنُ مِن أن تُقَدِّرَ مَدَى اللَّذّةِ الكامِنةِ في تلك الثَّمَرةِ المُهداةِ ومَدَى حَلاوَتِها وجَمالِها ونَفاسَتِها مِن خِلالِ هذا المِثالِ:
إنَّ كلَّ مَن يَحمِلُ قَلبًا حَيًّا، لا شَكَّ أنَّه يُحِبُّ مَن كان ذا جَمالٍ وكَمالٍ وإحسانٍ، وهذه المَحَبّةُ تَتَزايَدُ وَفْقَ دَرَجاتِ ذلك الجَمالِ والكَمالِ والإحسانِ، حتَّى تَبلُغَ دَرَجةَ العِشقِ والتَّعَبُّدِ؛ فيُضَحِّي صاحِبُها بما يَملِكُ في سَبِيلِ رُؤيةِ ذلك الجَمِيلِ، بل قد يُضَحِّي بدُنياه كلِّها لِأَجلِ رُؤيَتِه مَرّةً واحِدةً. وإذا عَلِمْنا أنَّ نِسبةَ ما في المَوجُوداتِ مِن جَمالٍ وكَمالٍ وإحسانٍ إلى جَمالِه وكَمالِه وإحسانِه سُبحانَه وتَعالَى لا يَبلُغُ أن يكُونَ لُمَيْعاتٍ ضَئِيلةً بالنِّسبةِ إلى الشَّمسِ السّاطِعةِ، فإذًا تَستَطِيعُ أن تُدرِكَ -إن كُنتَ إنسانًا حَقًّا- مَدَى ما يُورِثُه مِن سَعادةٍ دائِمةٍ ومَدَى ما يَبعَثُ مِن سُرُورٍ ولَذّةٍ ونِعمةٍ، التَّوفيقُ إلى رُؤيةِ مَن هو الأَهلُ لِمَحَبّةٍ بلا نِهايةٍ وشَوْقٍ بلا نِهايةٍ ورُؤيةٍ بلا نِهايةٍ في سَعادةٍ بلا نِهايةٍ.
[الثمرة الخامسة: ترقية رتبة الإنسان]
الثمرة الخامسة: وهي أنَّ الإنسانَ -كما فُهِمَ مِنَ المِعراجِ- ثَمَرةٌ قَيِّمةٌ مِن ثَمَراتِ الكائِناتِ، جَلِيلُ القَدْرِ، ومَخلُوقٌ مُكَرَّمٌ مَحبُوبٌ لَدَى الصّانِعِ الجَلِيلِ. هذه الثَّمَرةُ الطَّيِّبةُ أَتَى بها الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ بالمِعراجِ، هَدِيّةً إلى الجِنِّ والإنسِ، فرَفَعَتْ تلك الثَّمَرةُ الإنسانَ مِن كَونِه مَخلُوقًا صَغِيرًا وحَيَوانًا ضَعِيفًا وذا شُعُورٍ عاجِزٍ إلى مَقامٍ رَفِيعٍ ومَرتَبةٍ عاليةٍ، بل إلى أَرقَى مَقامٍ عَزِيزٍ مُكَرَّمٍ على جَمِيعِ المَخلُوقاتِ.. فمَنَحَتْ هذه الثَّمَرةُ الإنسانَ مِنَ الفَرَحِ والسُّرُورِ والسَّعادةِ الخالِصةِ ما يُعْجَزُ عن وَصْفِه. لأنَّه إذا قِيلَ لِجُندِيٍّ بَسِيطٍ: لقد أَصبَحْتَ مُشِيرًا في الجَيشِ، كم يكُونُ امتِنانُه وحَمْدُه وسُرُورُه وفَرَحُه ورِضاه؟ لا يُقدَّرُ حَتْمًا؛ بَينَما الإنسانُ المَخلُوقُ الضَّعِيفُ والحَيَوانُ النّاطِقُ، والعاجِزُ الفاني، الذَّليلُ أَمامَ ضَرَباتِ الزَّوالِ والفِراقِ، لو قيلَ له: إنَّك ستَدخُلُ جَنّةً خالِدةً وتَتَنعَّمُ برَحمةِ الرَّحمٰنِ الواسِعةِ الباقيةِ، وتَتَنزَّهُ في مُلْكِه ومَلَكُوتِه الَّذي يَسَعُ السَّماواتِ والأَرضَ، وتَتَمتَّعُ بها بجَمِيعِ رَغَباتِ القَلبِ في سُرعةِ الخَيالِ وفي سَعةِ الرُّوحِ وجَوَلانِ العَقلِ وسَرَيانِه.. وفوقَ كلِّ هذا ستَحْظَى برُؤيةِ جَمالِه سُبحانَه في السَّعادةِ الأَبدِيّةِ. فكلُّ إنسانٍ لم تَنحَطَّ إنسانيَّـتُه يَستَطِيعُ أن يُدرِكَ مَدَى الفَرَحِ والسُّرُورِ اللَّذَين يَغمُرانِ ذلك الَّذي يُقالُ له مِثلُ هذا الكَلامِ.
والآنَ نَتَوجَّهُ إلى ذلك القاعِدِ في مَقامِ الِاستِماعِ، فنقُولُ له: مَزِّقْ عنك قَمِيصَ الإلحادِ، وارْمِه بَعِيدًا، واستَمِعْ بأُذُنِ المُؤمِنِ، وتَقَلَّدْ نَظَرَ المُسلِمِ، فسأُبيِّنُ لك قِيمةَ بِضْعِ ثَمَراتٍ ضِمنَ مِثالَينِ صَغِيرَينِ:
المِثالُ الأوَّل: هَبْ أنَّنا معَك في مَملَكةٍ واسِعةٍ، أَينَما تَتَوجَّهُ فيها بالنَّظَرِ فلا تَرَى إلّا العَداءَ، فكُلُّ شَيءٍ عَدُوٌّ لنا، وكلُّ شَيءٍ يُضمِرُ عَداوةً للآخَرِ، وكلُّ ما فيها غَرِيبٌ عَنّا لا نَعرِفُه، وكلُّ زاوِيةٍ مِنها مَلْأَى بجَنائِزَ تُثِيرُ الرُّعْبَ والدَّهشةَ؛ وتَتَعالَى أَصواتٌ مِن هنا وهناك وهي أَصواتُ نِياحِ واستِغاثاتِ اليَتامَى والمَظلُومين.. فبَينَما نحنُ في مِثلِ هذه المَآسِي والآلامِ، إذا بأَحَدٍ يَذهَبُ إلى سُلْطانِ المَمْلَكةِ ويَأْتِي مِنه ببُشرَى سارّةٍ للجَمِيعِ.
فإذا ما بَدَّلَتْ تلك البُشرَى ما كان غَرِيبًا عَنّا أَحبابًا أَوِدّاءَ.. وإذا ما غَيَّرَتْ شَكْلَ مَن كُنّا نَراه عَدُوًّا إلى صُورةِ إخوانٍ أَحِبّاءَ.. وإذا ما أَظْهَرَتْ لَنا الجَنائِزَ المَيْتةَ المُخِيفةَ على صُورةِ عِبادٍ خاشِعِين قانِتِين ذاكِرِين اللهَ مُسَبِّحِين بحَمْدِه.. وإذا ما حَوَّلَت تلك الصِّياحاتِ والنُّواحاتِ إلى ما يُشبِهُ الحَمْدَ والثَّناءَ والشُّكْرَ.. وإذا ما بَدَّلَت تلك الأَمواتَ والغَصْبَ والنَّهْبَ إلى تَرخِيصٍ وتَسرِيحٍ مِن أَعباءِ الوَظِيفةِ.. وإذا كُنّا نحن نُشارِكُ الآخَرِين في سُرُورِهم فَضْلًا عن سُرُورِنا.. عِندَ ذلك يُمكِنُك أن تُقَدِّرَ مَدَى السُّرُورِ الَّذي يَعُمُّنا بتلك البُشرَى العَظِيمةِ. وهكذا، فإِحْدَى ثَمَراتِ المِعراجِ هي نُورُ الإيمانِ، فلو خَلَتِ الدُّنيا مِن هذه الثَّمَرةِ، أي: إذا ما نُظِرَ إلى الكائِناتِ بنَظَرِ الضَّلالةِ، فلا تَرَى المَوجُوداتِ إلّا غَرِيبةً، مُتَوحِّشةً، مُزعِجةً، مُضِرّةً، والأَجسامَ الضَّخْمةَ -كالجِبالِ- جَنائِزَ تُثِيرُ الدَّهْشةَ والخَوْفَ، والأَجَلَ جَلَّادًا يَضرِبُ أَعناقَ المَوجُوداتِ ويَرمِيها إلى بِئرِ العَدَمِ، وجَمِيعَ الأَصواتِ والأَصداءِ ما هي إلّا صُراخٌ ونَعْيٌ ناشِئانِ مِنَ الفِراقِ والزَّوالِ..
فبَينَما تُصَوِّرُ لك الضَّلالةُ المَوجُوداتِ هكذا، إذا بثَمَرةِ المِعراجِ الَّتي هي حَقائِقُ الإيمانِ تُنَـوِّرُ المَوجُوداتِ كلَّها وتُظْهِرُها أَحِبّاءَ مُتَآخِيةً، في تَسبِيحٍ وذِكْرٍ لِرَبِّها الجَلِيلِ، والمَوتَ والزَّوالَ تَسرِيحًا مِنَ الوَظِيفةِ وراحةً مِنها، وتلك الأَصواتَ تَسبِيحاتٍ وتَحمِيداتٍ.. وهكذا، فإن شِئْتَ أن تَرَى هذه الحَقِيقةَ بأَوضَحِ صُورَتِها فراجِعِ “الكَلِمةَ الثَّانيةَ” و”الكَلِمةَ الثَّامِنةَ”.
المِثالُ الثَّاني: هَبْ أنَّنا معَك في صَحراءَ كُبْرَى، تُحِيطُ بنا عَواصِفُ رَملِيّةٌ مِن كلِّ جانِبٍ، وظُلْمةُ اللَّيلِ تَحجُبُ عَنّا كلَّ شَيءٍ حتَّى لا نَـكادُ نَرَى أَيدِيَنا، والجُوعُ يَفتِكُ بنا والعَطَشُ يُلهِبُ أَفئِدَتَنا، ولا مُعِينَ لنا ولا مَلْجَأَ.. تَصَوَّرْ هذه الحالةَ الَّتي نَضطَرِبُ فيها، وإذا بشَخْصٍ كَرِيمٍ يُمَزِّقُ حِجابَ الظَّلامِ ثمَّ يَأْتِي إلَينا، وفي مَعِيَّتِه مَركَبةٌ فارِهةٌ هَدِيّةً لنا، فيُقِلُّنا بها إلى مَكانٍ أَشْبَهَ ما يكُونُ بالجَنّةِ، كلُّ شَيءٍ فيه على ما يُرامُ، كلُّ شَيءٍ مُهَيَّأٌ ومَضمُونٌ لنا.. يَتَولّانا مَن هو في مُنتَهَى الرَّحمةِ والشَّفَقةِ والرَّأفةِ، وقد أَعَدَّ لنا كلَّ ما نَحتاجُه مِن وَسائِلِ الأَكلِ والشُّرْبِ… أَظُنُّك تُقَدِّرُ الآنَ كم نكُونُ شاكِرِين لِفَضلِ ذلك الشَّخصِ الكَرِيمِ الَّذي أَخَذَنا مِن مَوْضِعِ اليَأْسِ والقُنُوطِ إلى مَكانٍ كُلُّه أَمَلٌ وسُرُورٌ.
فتلك الصَّحراءُ الكُبْرَى هي هذه الدُّنيا، وتلك العَواصِفُ الرَّمْلِيّةُ هي حَرَكاتُ الذَّرّاتِ وسُيُولُ الزَّمانِ الَّتي تَضطَرِبُ بها المَوجُوداتُ وهذا الإنسانُ المِسكِينُ.. كلُّ إنسانٍ قَلِقٌ ومُضطَرِبٌ يَتَوجَّسُ خِيفةً مِمَّا يُخفِيه له مُقبِلُ أيّامِه المُظلِمةِ المُخِيفةِ.. هكذا تُرِيه الضَّلالةُ، فلا يَعرِفُ بمَن يَستَغِيثُ، وهو يَتَضَوَّرُ جُوعًا وعَطَشًا..
وهكذا، فمَعرِفةُ مَرضِيّاتِ اللهِ سُبحانَه، وهي ثَمَرةٌ مِن ثَمَراتِ المِعراجِ، تَجعَلُ هذه الدُّنيا مَضِيفًا لمُضِيفٍ جَوادٍ كَرِيمٍ، وتَجعَلُ الأَناسِيَّ ضُيُوفَه المُكَرَّمين، ومَأْمُورِيه في الوَقتِ نَفسِه، وضَمِن له مُستَقبَلًا زاهِيًا كالجَنّةِ ومُمْتِعًا ولَذِيذًا كالرَّحمةِ، وساطِعًا باهِرًا كالسَّعادةِ الأَبَدِيّةِ.
فإذا تَصَوَّرْتَ هذا وذاك فعِندَئِذٍ يُمكِنُك أن تَقِيسَ مَدَى لَذّةِ تلك الثَّمَرةِ وجَمالِها وحَلاوَتِها!
إنَّ مَن كان في مَقامِ الِاستِماعِ يقُولُ: حَمْدًا للهِ وشُكْرًا أَلفَ شُكْرٍ، فقد نَجَوتُ بفَضلِه مِنَ الإلحادِ، فسَلَكْتُ طَرِيقَ الإيمانِ والتَّوحِيدِ، وغَنِمتُ الإيمانَ.. والحَمْدُ للهِ.
ونحنُ نقُولُ له: أيُّها الأَخُ، نُهَنِّـئُك بالإيمانِ، ونَسأَلُه تَعالَى أن يَجعَلَنا مِمَّن يَنالُون شَفاعةَ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ.
﴿اللَّهُمَّ صَلِّ على مَنِ انشَقَّ بإِشارَتِه القَمَرُ، ونَبَعَ مِن أَصابِعِه الماءُ كالكَوْثَرِ، صاحِبِ المِعراجِ ومَا زاغَ البَصَرُ، سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِه وأَصحابِه أَجمَعِين.. مِن أَوَّلِ الدُّنيا إلى آخِرِ المَحْشَرِ﴾.
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾
﴿رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
﴿وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
❀ ❀ ❀
[معجزة انشقاق القمر]
ذيلُ
الكلمة التاسعة عشرة والحادية والثلاثين
مُعجِزةُ انشِقاقِ القمرِ
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ﴾
إنَّ فَلاسِفةً مادِّيِّين، ومَن يُقَلِّدُونَهم تَقْلِيدًا أَعمَى، يُرِيدُون أن يَطمِسُوا ويَخسِفُوا مُعجِزةَ انشِقاقِ القَمَرِ السَّاطِعِ كالبَدْرِ، فيُثِيرُوا حَوْلَها أَوْهامًا فاسِدةً، إذ يقُولُون: “لو كانَ الِانشِقاقُ قد حَدَث فِعْلًا لَعَرَفَه العالَمُ، ولَذَكَرَتْه كُتُبُ التّارِيخِ كُلُّها!”.
الجَوابُ: إنَّ انشِقاقَ القَمَرِ مُعجِزةٌ لإثباتِ النُّبوّةِ، وَقَعَت أَمامَ الَّذين سَمِعُوا بدَعوَى النُّبوّةِ وأَنكَرُوها، وحَدَثَتْ لَيلًا، في وَقْتٍ تَسُودُ فيه الغَفْلةُ، وأُظهِرَت آنِيًّا؛ فَضْلًا عن أنَّ اختِلافَ المَطالِعِ ووُجُودَ السَّحابِ والغَمامِ وأَمثالَها مِنَ المَوانِعِ تَحُولُ دُونَ رُؤيةِ القَمَرِ؛ عِلْمًا أنَّ أَعمالَ الرَّصدِ ووَسائِلَ الحَضارةِ لم تكُن في ذلك الوَقتِ مُنتَشِرةً، لِذا لا يَلْزَمُ أن يَرَى الِانشِقاقَ كلُّ النّاسِ، في كلِّ مَكانٍ، ولا يَلْزَمُ أيضًا أن يَدخُلَ كُتُبَ التّارِيخِ.
فاستَمِعِ الآنَ إلى نِقاطٍ خَمْسٍ فقَطْ مِن بينِ الكَثِيرِ مِنها، تُبَدِّدُ بإذنِ اللهِ سُحُبَ الأَوهامِ الَّتي تَلَبَّدَت على وَجْهِ هذه المُعجِزةِ الباهِرةِ:
النُّقطة الأُولى:
إنَّ تَعَنُّتَ الكُفَّارِ في ذلك الزَّمانِ مَعلُومٌ ومَشهُورٌ تارِيخًا، فعِندَما أَعلَن القُرآنُ الكَرِيمُ: ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾، وبَلَغ صَداه الآفاقَ، لم يَجْرُؤْ أَحَدٌ مِنَ الكُفّارِ -وهم يَجحَدُون بالقُرآنِ- أن يُكَذِّبَ بهذه الآيةِ الكَرِيمةِ، أي: يُنكِرَ وُقُوعَ الحادِثةِ، إذ لو لم تكُنِ الحادِثةُ قد وَقَعَت فِعلًا في ذلك الوَقتِ، ولم تكُن ثابِتةً لَدَى أُولَئِك الكُفّارِ، لَاندَفَعُوا بشِدّةٍ لِيُبطِلُوا دَعوَى النُّبوّةِ، ويُكَذِّبُوا الرَّسُولَ ﷺ؛ بَينَما لم تَنقُلْ كُتُبُ التَّارِيخِ والسِّيَرِ شَيْئًا مِن أَقوالِ الكُفّارِ حَولَ إنكارِهم حُدُوثَ الِانشِقاقِ، إلّا ما بَيَّنَتْه الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ﴾، وهو أنَّ الَّذين شاهَدُوا المُعجِزةَ مِنَ الكُفّارِ قالُوا: هذا سِحْرٌ، فابعَثُوا إلى أَهلِ الآفاقِ حتَّى تَنظُرُوا أَرَأَوْا ذلك أم لا؟ ولَمّا حانَ الصَّباحُ أَتَتِ القَوافِلُ مِنَ اليَمَنِ وغيرِها فسَأَلُوهم، فأَخبَرُوهم أنَّهم رَأَوْا مِثلَ ذلك. فقالُوا: “إنَّ سِحْرَ يَتِيمِ أبي طالِبٍ قد بَلَغَ السَّماءَ!”.
النُّقطة الثانية:
لقد قالَ مُعظَمُ أَئِمّةِ عِلمِ الكَلامِ، مِن أَمثالِ سَعْدٍ التَّفتازانِيِّ: “إنَّ انشِقاقَ القَمَرِ مُتَواتِرٌ، مِثلَ فَوَرانِ الماءِ مِن بينِ أَصابِعِه الشَّرِيفةِ ﷺ وارتِواءِ الجَيشِ مِنه، ومِثلَ حَنِينِ الجِذْعِ الَّذي كان يَستَنِدُ إلَيه أَثناءَ الخُطبةِ مِن فِراقِه ﷺ، وسَماعِ جَماعةِ المَسجِدِ لِأَنينِه. أي: إنَّ الحادِثةَ نَقَلَتْها جَماعةٌ غَفِيرةٌ عن جَماعةٍ غَفِيرةٍ يَستَحِيلُ تَواطُؤُهم على الكَذِبِ، فالحادِثةُ مُتَواتِرةٌ تَواتُرًا قَطْعِيًّا كظُهُورِ المُذَنَّبِ قَبلَ أَلفِ سَنةٍ، وكوُجُودِ جَزِيرةِ سَرَنْدِيبَ الَّتي لم نَرَها”.
وهكذا تَرَى أنَّ إثارةَ الشُّكُوكِ حَوْلَ هذه المَسأَلةِ القاطِعةِ وأَمثالِها مِنَ المَسائِلِ المُشاهَدةِ شُهُودًا عِيانًا إنَّما هي بَلاهةٌ وحَماقةٌ، إذ يَكفِي فيها أنَّها مِنَ المُمكِناتِ ولَيسَت مُستَحِيلًا؛ عِلْمًا أنَّ انشِقاقَ القَمَرِ مُمكِنٌ كانفِلاقِ الجَبَلِ ببُركانٍ.
النُّقطة الثالثة:
إنَّ المُعجِزةَ تَأْتِي لإثباتِ دَعوَى النُّبوّةِ عن طَرِيقِ إقناعِ المُنكِرِين، وليس إِرغامَهم على الإيمانِ؛ لِذا يَلْزَمُ إظهارُها للَّذِين سَمِعُوا دَعوَى النُّبوّةِ، بما يُوصِلُهم إلى القَناعةِ والِاطمِئْنانِ إلى صِدْقِ النُّبوّةِ؛ أمّا إظهارُها في جَمِيعِ الأَماكِنِ، أو إظهارُها إظهارًا بَدِيهِيًّا بحَيثُ يُضطَرُّ النّاسُ إلى القَبُولِ والرُّضُوخِ فهو مُنافٍ لِحِكْمةِ اللهِ الحَكِيمِ ذِي الجَلالِ، ومُخالِفٌ أَيضًا لِسِرِّ التَّكلِيفِ الإلٰهِيِّ، ذلك لأنَّ سِرَّ التَّكلِيفِ الإلٰهِيِّ يَقتَضِي فَتْحَ المَجالِ أَمامَ العَقلِ دُونَ سَلْبِ الِاختِيارِ مِنه. فلو كان الخالِقُ الكَرِيمُ قد تَرَك مُعجِزةَ الِانشِقاقِ باقِيةً لِساعَتَينِ مِنَ الزَّمانِ، وأَظهَرَها لِلعالَمِ أَجمَعَ ودَخَلَت بُطُونَ التّارِيخِ كما يُرِيدُها الفَلاسِفةُ لَكان الكُفّارُ يقُولُون: إنَّها ظاهِرةٌ فَلَكِيّةٌ مُعتادةٌ. وما كانَت حُجّةً على صِدْقِ النُّبوّةِ، ولا مُعجِزةً تَخُصُّ الرَّسُولَ الأَعظَمَ ﷺ؛ أو لَكانَت تُصبِحُ مُعجِزةً بَدِيهِيّةً تُرغِمُ العَقلَ على الإيمانِ وتَسلُبُ مِنه الِاختِيارَ، وعِندَئذٍ تَتَساوَى أَرواحٌ سافِلةٌ كالفَحْمِ الخَسِيسِ مِن أَمثالِ أبي جَهْلٍ، معَ الأَرواحِ العاليةِ الصّافيةِ كالأَلْماسِ مِن أَمثالِ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عَنهُ، أي: لَضاعَ سِرُّ التَّكلِيفِ الإلٰهِيِّ.
ولِأَجلِ هذا فقد وَقَعَتِ المُعجِزةُ آنِيًّا، وفي اللَّيلِ، وحينَ تَسُودُ الغَفْلةُ، وغَدا اختِلافُ المَطالِعِ والغَمامِ وأَمثالُها حُجُبًا أَمامَ رُؤيةِ النّاسِ لها.. فلم تَدخُلْ بُطُونَ كُتُبِ التّارِيخِ.
النُّقطة الرابعة:
إنَّ هذه المُعجِزةَ الَّتي وَقَعَت لَيْلًا، وآنِيًّا، وعلى حِينِ غَفلةٍ، لا يَراها كلُّ النّاسِ دُونَ شَكٍّ في كلِّ مَكانٍ؛ بل حتَّى لو ظَهَرَتْ لِبَعضِهم، فلا يُصَدِّقُ عَينَه، ولو صَدَّقها فإنَّ حادِثةً كهذه مَروِيّةً مِن شَخصٍ واحِدٍ لا تكُونُ ذاتَ قِيمةٍ للتّارِيخِ.
ولقد رَدَّ العُلَماءُ المُحَقِّقُون ما زِيدَ في رِوايةِ المُعجِزةِ مِن أنَّ القَمَرَ بعدَ انشِقاقِه قد هَبَط إلى الأَرضِ! قالُوا: رُبَّما أَدخَل هذه الزِّيادةَ بعضُ المُنافقِين ليُسقِطُوا مِن قِيمةِ الرِّوايةِ ويُهَوِّنُوا مِن شَأْنِها.
ثمَّ إنَّ سُحُبَ الجَهلِ كانَت -في ذلك الوَقتِ- تُغَطِّي سَماءَ إنكِلْتِرا، والوَقتُ على وَشْكِ الغُرُوبِ في إسبانيا، وأَمرِيكا في وَضَحِ النَّهارِ، والصَّباحُ قد تَنَفَّسَ في الصِّينِ واليابانِ.. وفي غيرِها مِنَ البُلْدانِ هناك مَوانِعُ أُخرَى للرُّؤيةِ، فلا تُشاهَدُ هذه المُعجِزةُ العَظِيمةُ فيها.
فإذا عَلِمتَ هذا فتَأَمَّلْ في كَلامِ الَّذي يقُولُ: “إنَّ تارِيخَ إنكِلْتِرا والصِّينِ واليابانِ وأَمرِيكا وأَمثالِها مِنَ البُلْدانِ لا تَذكُرُ هذه الحادِثةَ، إذًا لم تَقَعْ!”. أيُّ هَذَرٍ هذا.. ألَا تَبًّا للَّذين يَقتاتُون على فُتاتِ أَورُوبّا.
النُّقطة الخامسة:
إنَّ انشِقاقَ القَمَرِ ليس حادِثةً حَدَثَت مِن تِلقاءِ نَفسِها، بِناءً على أَسبابٍ طَبِيعيّةٍ وعن طَرِيقِ المُصادَفةِ! بل أَوْقَعَها الخالِقُ الحَكِيمُ، رَبُّ الشَّمسِ والقَمَرِ، حَدَثًا خارِقًا للسُّنَنِ الكَونيّةِ، تَصدِيقًا لِرِسالةِ رَسُولِه الحَبِيبِ ﷺ، وإعلانًا عن صِدْقِ دَعوَتِه، فأَبرَزَه سُبحانَه وتَعالَى وَفْقَ حِكْمَتِه وبمُقتَضَى سِرِّ الإرشادِ والتَّكلِيفِ وحِكْمةِ تَبلِيغِ الرِّسالةِ، ولِيُقيمَ الحُجّةَ على مَن شاءَ مِنَ المُشاهِدِين له، بَينَما أَخفاه -اقتِضاءً لِحِكْمَتِه سُبحانَه ومَشِيئَتِه- عَمَّن لم تَبلُغْهم دَعوةُ نَبيِّه ﷺ مِنَ السّاكِنِين في أَقطارِ العالَمِ، وحَجَبَه عنهم بالغُيُومِ والسَّحابِ وباختِلافِ المَطالِعِ وعَدَمِ طُلُوعِ القَمَرِ، أو شُرُوقِ الشَّمسِ في بعضِ البُلدانِ وانجِلاءِ النَّهارِ في أُخرَى، وغُرُوبِ الشَّمسِ في غيرِها.. وأَمثالِها مِنَ الأَسبابِ الدّاعِيةِ إلى حَجْبِ رُؤيةِ الِانشِقاقِ.
فلو أُظهِرَتِ المُعجِزةُ إلى جَمِيعِ النّاسِ في العالَمِ كُلِّه، فإمّا أنَّها كانَت تَبْرُزُ لهم نَتِيجةَ إشارةِ الرَّسُولِ الأَعظَمِ ﷺ وإظهارًا لِمُعجِزةٍ نَبَوِيّةٍ، وعِندَها تَصِلُ إلى البَداهةِ، أي: يُضطَـرُّ النّاسُ كُلُّهم إلى التَّصدِيقِ، أي: يُسلَبُ مِنهُمُ الِاختِيارُ، فيَضِيعُ سِرُّ التَّكلِيفِ؛ بَينَما الإيمانُ يُحافِظُ على حُرِّيّةِ العَقلِ في الِاختِيارِ ولا يَسلُبُها مِنه.. أو أنَّها تَبْرُزُ لهم كحادِثةٍ سَماوِيّةٍ مَحْضةٍ، وعِندَها تَنقَطِعُ صِلَتُها بالرِّسالةِ الأَحمَدِيّةِ ولا تَبقَى لها مَزِيّةٌ خاصّةٌ.
الخُلاصةُ: إنَّ انشِقاقَ القَمَرِ لا رَيبَ فيه، فلقد أُثبِتَ إثباتًا قاطِعًا. وسنُشِيرُ هنا إلى وُقُوعِه بسِتّةِ بَراهِينَ قاطِعةٍ1أي إنَّ هُناك سِتَّ حُجَجٍ قاطِعةٍ على وُقُوعِ انشِقاقِ القمرِ في سِتّة أنواعٍ مِنَ الإجماع. ولَكِن للأسَفِ لم نُوفِ هذا المَقامَ حَقَّه مِنَ البحثِ فظَلَّ مُقتَضَبًا. مِن بينِ الكَثِيرِ مِنها، وهي: إِجماعُ الصَّحابةِ الكِرامِ رِضوانُ اللهِ علَيهم أَجمَعِين وهُمُ العُدُولُ، واتِّفاقُ العُلَماءِ المُحَقِّقين مِنَ المُفَسِّرِين لَدَى تَفسِيرِهم: ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾، ونَقْلُ جَمِيعِ المُحَدِّثين الصَّادِقين في رِواياتِهم وُقُوعَه بأَسانِيدَ كَثِيرةٍ وبطُرُقٍ عَدِيدةٍ، وشَهادةُ جَمِيعِ أَهلِ الكَشْفِ والإلهامِ مِنَ الأَولِياءِ والصِّدِّيقِين الصّالِحِين، وتَصدِيقُ أَئِمّةِ عِلمِ الكَلامِ المُتَبَحِّرِين رَغمَ تَبايُنِ مَسالِكِهم ومَشارِبِهم، وقَبُولُ الأُمّةِ الَّتي لا تَجتَمِعُ على ضَلالةٍ كما نَصَّ عليه الحَدِيثُ الشَّرِيفُ. كلُّ ذلك يُبيِّنُ انشِقاقَ القَمَرِ ويُثبِتُه إثباتًا قاطِعًا يُضاهِي الشَّمسَ في وُضُوحِها.
حاصِلُ الكَلامِ: كان البَحثُ إلى هنا باسمِ التّحقِيقِ العِلْميِّ، إلزامًا للخَصْمِ. أمّا بعدَ هذا فسيكُونُ الكَلامُ باسمِ الحَقِيقةِ ولِأَجلِ الإيمانِ؛ فقد نَطَق التَّحقِيقُ العِلمِيُّ هكذا.. أمّا الحَقِيقةُ فتقُولُ:
إنَّ خاتَمَ دِيوانِ النُّبوّةِ ﷺ وهو القَمَرُ المُنِيرُ لِسَماءِ الرِّسالةِ، وقد سَمَتْ وِلايةُ عُبُودِيَّتِه إلى مَرتَبةِ المَحبُوبيّةِ، فأَظهَرَتِ الكَرامةَ العُظمَى والمُعجِزةَ الكُبْرَى بالمِعراجِ. أي: بجَوَلانِ جِسْمٍ أَرضِيٍّ في آفاقِ السَّماواتِ العُلا، وتَعرِيفِ أَهلِ السَّماواتِ به، فأَثبَتَت بتلك المُعجِزةِ وِلايَتَه العُظمَى للهِ ومَحبُوبيَّـتَه الخالِصةَ له وسُمُوَّه على أَهلِ السَّماواتِ والمَلَأِ الأَعلَى.. كذلك فقد شَقَّ سُبحانَه القَمَرَ المُعَلَّقَ في السَّماء والمُرتَبِطَ معَ الأَرضِ بإشارةٍ مِن عَبدِه في الأَرضِ، فأَظهَرَ مُعجِزَتَه هذه، إثباتًا لرِسالةِ ذلك العَبدِ الحَبِيبِ، حتَّى أَصبَحَ ﷺ كالفَلَقَينِ المُنيرَينِ للقَمَرِ، فعَرَجَ إلى أَوْجِ الكَمالاتِ بجَناحَيِ الوِلايةِ والرِّسالةِ النَّورانيَّينِ، حتَّى بَلَغ قابَ قَوسَينِ أو أَدنَى، وأَصبَحَ فَخْرًا لِأَهلِ السَّماواتِ كما هو فَخرٌ لأَهلِ الأَرضِ.
﴿علَيه وعلى آلِه وصَحبِه الصَّلاةُ والتَّسلِيماتُ مِلْءَ الأَرضِ والسَّماواتِ﴾.
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
﴿اللَّهُمَّ بِحَقِّ مَنِ انشَقَّ القَمَرُ بِإِشَارَتِهِ اجْعَلْ قَلبِي وقُلُوبَ طَلَبَةِ رَسَائلِ النُّورِ الصَّادِقِينَ كَالقَمَرِ فِي مُقَابَلَةِ شَمسِ القُرآنِ.. آمِينَ. آمِينَ﴾.
❀ ❀ ❀