الكلمة التاسعة والعشرون: الملائكة والروح والقيامة.
[هذه الكلمة تتحدث عن الملائكة والروحانيات ووظائفهم، وعن الروح وبقائها، وعن الآخرة وضرورتها والقابلية للحشر]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
الكلمة التاسعة والعشرون
تخُصُّ بقاءَ الرُّوح والملائكة والحشر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾
﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾
هذا المقام عبارة عن مقصَدَينِ أساسَينِ مع مقدِّمة.
[مقدمة: الحكمة والحقيقة تقتضيان وجودَ الملائكة والروحانيات]
المقدِّمة
يَصِحُّ القولُ بأنَّ وُجُودَ المَلائِكةِ والعالَمِ الرُّوحانِيِّ ثابِتٌ كثُبُوتِ وُجُودِ الإنسانِ والحَيَوانِ، فكما بَيَّنّا في المَرتَبةِ الأُولَى مِنَ “الكَلِمةِ الخامِسةَ عَشْرةَ”: أنَّ الحَقِيقةَ تَقتَضِي قَطْعًا، والحِكْمةَ تَستَدعِي يَقِينًا، أن تكُونَ للسَّماواتِ -كما هي لِلأَرضِ- مِن ساكِنِين؛ ولا بُدَّ أنَّهم ذَوُو شُعُورٍ، وهم مُتَلائِمُون معَها كلَّ التَّلاؤُمِ؛ وفي مُصطَلَحِ الدِّينِ يُسَمَّى أُولَئك السّاكِنُون مِن ذَوِي الأَجناسِ المُختَلِفةِ بـ”المَلائِكةِ” و”الرُّوحانيّاتِ“.
نعم، إنَّ الحَقِيقةَ تَقتَضِي هذا.. فرَغمَ ضَآلةِ كُرَتِنا الأَرضِيّةِ وصِغَرِها قِياسًا إلى السَّماءِ، فإنَّ مَلْأَها بمَخلُوقاتٍ ذَواتِ مَشاعِرَ، بينَ حِينٍ وآخَرَ، وإخلاءَها مِنهم، وتَزيِينَها بآخَرِين جُدُدٍ، يُشِير بل يُصَرِّحُ أنَّ السَّماواتِ ذاتَ البُرُوجِ المُشَيَّدةِ وكأنَّها قُصُورٌ مُزَيَّنةٌ، لا بُدَّ أنَّها مَلْأَى أَيضًا بذَوِي حَياةٍ مُدرِكِين واعِين، الَّذِين هم نُورُ الوُجُودِ؛ ومِن ذَوِي الشُّعُورِ الَّذين هم ضِياءُ الأَحياءِ؛ وأنَّ تلك المَخلُوقاتِ -كالإنسِ والجِنِّ- هم كذلك مُشاهِدُو قَصْرِ هذا العالَمِ الفَخْمِ، ومُطالِعُو كِتابِ الكَونِ هذا، والدّاعُون الأَدِلّاءُ إلى سُلطانِ الرُّبُوبيّةِ؛ ويُمَثِّـلُون بعُبُودِيَّتِهمُ الكُلِّيّةِ الشّامِلةِ تَسابِيحَ الكائِناتِ، وأَورادَ المَوجُوداتِ الضَّخْمةِ.
أَجَل، إنَّ كَيفِيّةَ هذه الكائِناتِ تَدُلُّ على وُجُودِ المَلائِكةِ؛ لأنَّ تَزيِينَ الكائِناتِ بدَقائِقِ الصَّنعةِ المُبدِعةِ الَّتي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، وبمَحاسِنَ ذاتِ مَعانٍ ونُقُوشٍ حَكِيمةٍ، يَتَطلَّبُ بالبَداهةِ أَنظارَ مُتَفكِّرِين ومُستَحسِنِين، ومُعجَبِين مُقَدِّرِين.. أي: يَستَدعِي وُجُودَهم.
نعم، كما أنَّ الجَمالَ يَطلُبُ العاشِقَ، والطَّعامَ يُعطَى للجائِعِ، فلا بُدَّ أنَّ غِذاءَ الأَرواحِ وقُوتَ القُلُوبِ في هذه الصَّنعةِ الإلٰهِيّةِ الجَمِيلةِ الرّائِعةِ يَدُلُّ على وُجُودِ المَلائِكةِ والعالَمِ الرُّوحانِيِّ ويَتَوجَّهُ إلَيهِم؛ ولَمّا كانَت هذه التَّزيِيناتُ غيرُ النِّهائيّةِ في الكَونِ تَتَطلَّبُ تَأَمُّلًا وعُبُودِيّةً غيرَ مَحدُودةٍ، وأنَّ الإنسَ والجِنَّ لا يُمكِنُهُما القِيامُ إلّا بقِسْطٍ ضَئِيلٍ جِدًّا -واحِدٍ مِن مِليُونٍ -مِن هذه الوَظِيفةِ غيرِ النِّهائيّةِ، ومِن هذه الرُّؤيةِ الحَكِيمةِ، ومِن هذه العُبُودِيّةِ الواسِعةِ.. فلا بُدَّ أن تكُونَ لِهذه الوَظائِفِ غيرِ النِّهائيّةِ والعِباداتِ المُتَنوِّعةِ، أَنواعٌ غيرُ نِهائيّةٍ أَيضًا مِنَ “المَلائكةِ” وأَجناسٌ غيرُ مَحدُودةٍ مِنَ “الرُّوحانيّاتِ“، كي يَعْمُرُوا بصُفُوفِهِمُ المُتَراصّةِ ويَملَؤُوا هذا المَسجِدَ الكَبِيرَ.. هذا العالَمَ.. هذا الكَون.
أَجَل، ففي كلِّ جِهةٍ مِن هذا الكَونِ، وفي كلِّ دائِرةٍ مِن دَوائِرِه، هناك “مُوظَّفُون” مِن طَبَقةِ “المَلائِكةِ والرُّوحانيّاتِ” قد أُسنِدَ إلَيهم واجِبُ القِيامِ بعُبُودِيّةٍ مَخصُوصة.
فاستِنادًا إلى إشاراتِ بعضِ الأَحادِيثِ النَّبوِيّةِ الشَّرِيفةِ مِن جِهةٍ، واستِلهامًا مِن حِكمةِ انتِظامِ هذا العالَمِ مِن جِهةٍ أُخرَى، يَصِحُّ القَولُ: إنَّ بَعضًا مِنَ الأَجسامِ الجامِدةِ السَّيّارةِ، ابتِداءً مِنَ النُّجُومِ وانتِهاءً بقَطَراتِ المَطَرِ، إنَّما هي سُفُنٌ ومَراكِبُ لقِسمٍ مِنَ المَلائِكةِ، فهم يَركَبُونَها بإذنٍ إلٰهِيٍّ، ويُشاهِدُون عالَمَ الشَّهادةِ سائِحِين فيه، ويُمَثِّـلُون “تَسبِيحاتِ” تلك المَراكِبِ.
وحيثُ إنَّ الشُّهَداءَ “أَرواحُهُم في جَوفِ طَيرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ مِنَ الجَنّةِ”، كما جاءَ في حَدِيثٍ نَبَوِيٍّ شَرِيفٍ، لِذا يَصِحُّ القَولُ: إنَّه ابتِداءً مِمّا أَشارَ الحَدِيثُ الشَّرِيفُ مِن “طَيرٍ خُضْرٍ” إلى النَّحلِ مِنَ الأَجسامِ الحَيّةِ، هي طائِراتٌ لِأَجناسٍ مِنَ الأَرواحِ، فهي تَحُلُّ في أَجسادِ تلك الأَحياءِ، بأَمرِ اللهِ الحَقِّ، وتُشاهِدُ العالَمَ المادِّيَّ مِن خِلالِ حَواسِّها كالأَعيُنِ والآذانِ، وتَتَفرَّجُ على رَوائِعِ المُعجِزاتِ الفِطرِيّةِ فيه، وبذلك تُؤَدِّي تَسبِيحاتِها المَخصُوصةَ.
وهكذا، فكما اقتَضَتِ الحَقِيقةُ وُجُودَ المَلائِكةِ والرُّوحانيّاتِ، كذلِك تَقتَضِيه الحِكمةُ:
لِأنَّ الفاطِرَ الحَكِيمَ الَّذي يَخلُقُ باستِمرارٍ وبفَعّاليّةٍ جادّةٍ حَياةً لَطِيفةً ذاتَ إدراكٍ مُتَنوِّرٍ، مِن هذا التُّرابِ الكَثِيفِ على ضَآلةِ عَلاقَتِه بالرُّوحِ، ومِنَ الماءِ العَكِرِ على جُزئيّةِ تَعَلُّقِه بنُورِ الحَياةِ؛ لا بُدَّ أن يكُونَ له أيضًا مَخلُوقاتٌ كَثِيرةٌ جِدًّا ذواتُ شُعُورٍ، قد خُلِقَت مِن بَحرِ النُّورِ، وحتَّى مِن مُحِيطِ الظُّلمةِ، ومِنَ الهَواءِ، ومِنَ الكَهرَباءِ، ومِن سائِرِ المَوادِّ اللَّطِيفةِ الَّتي هي أَلْيَقُ بالرُّوحِ وأَنسَبُ للحَياةِ وأَقرَبُ إلَيها.
[المقصد الأول: في أن التصديق بالملائكة من أركان الإيمان]
المَقصَدُ الأوَّلُ: “التَّصدِيقُ بالمَلائكةِ رُكنٌ مِن أَركانِ الإيمانِ”.
في هذا المَقصَدِ أَربَعُ نِكاتٍ أَساسِيّة:
[الأساس الأول: الحياة نور الوجود، وهي تقتضي وجود الملائكة والروحانيات]
الأساسُ الأوَّل
إنَّ كَمالَ الوُجُودِ معَ الحَياةِ، بل إنَّ الوُجُودَ الحَقيقيَّ للوُجُودِ كائِنٌ معَ الحَياةِ؛ فالحَياةُ نُورُ الوُجُودِ، والشُّعُورُ ضِياءُ الحَياةِ؛ والحَياةُ رَأْسُ كلِّ شَيءٍ وأَساسُه، وهي الَّتي تَجعَلُ كلَّ شَيءٍ مِلْكًا لكُلِّ كائِنٍ حَيٍّ، فتَجعَلُ الشَّيءَ الحَيَّ الواحِدَ بحُكْمِ المالِكِ لِجَمِيعِ الأَشياءِ، فبِالحَياةِ يَتَمكَّنُ الشَّيءُ الحَيُّ أن يقُولَ: “إنَّ هذه الأَشياءَ مِلكِي، والدُّنيا مَسكَنِي، والكائِناتُ كُلُّها مِلكٌ أَعطانِيه مالِكِي”.
وكما أنَّ الضَّوءَ سَبَبٌ لِرُؤيةِ الأَجسامِ وسَبَبٌ لِظُهُورِ الأَلوانِ -على قَولٍ- كذلك الحَياةُ هي كَشّافةٌ للمَوجُوداتِ، وسَبَبٌ لِظُهُورِها، وسَبَبٌ لِتَحَقُّقِ النَّوعِيّاتِ.. وهي الَّتي تَجعَلُ جُزءَ الجُزئيِّ بحُكمِ الكُلِّ والكُلِّيِّ، و[هي] سَبَبٌ لِحَصرِ الأَشياءِ الكُلِّيّةِ في الجُزءِ، وسَبَبٌ لِجَميعِ كَمالاتِ الوُجُودِ؛ كإشراكِها وتَوحِيدِها الأَشياءَ الوَفيرةَ، وجَعْلِها مَدارًا لِوَحدةٍ واحِدةٍ ومَظهَرًا لِرُوحٍ واحِدةٍ.. حتَّى إنَّ الحَياةَ نَوعٌ مِن تَجَلِّي الوَحدةِ في طَبَقاتِ الكَثْرةِ مِنَ المَخلُوقاتِ، فهي مِرآةٌ للأَحَدِيّةِ في الكَثْرةِ.
والآن لِنُوضِّحْ:
انظُرْ إلى الجِسمِ الجامِدِ، وإن كان جَبَلًا شاهِقًا، فهُو غَرِيبٌ.. يَتِيمٌ.. وَحِيدٌ.. إذ تَنحَصِرُ عَلاقَتُه وصِلَتُه بمَكانِه، وما يَتَّصِلُ به مِن أَشياءَ فَقَط، وما يُوجَدُ في الكائِناتِ الأُخرَى مَعدُومٌ بالنِّسبةِ إلَيه، وذلك لأَنَّه ليس له “حَياةٌ” حتَّى يَتَّصِلَ بها، ولا “شُعُورٌ” حتَّى يَتَعلَّقَ به.
ثمَّ انظُرْ إلى جِسمٍ صَغِيرٍ حَيٍّ كالنَّحلِ مَثَلًا، ففي الوَقتِ الَّذي تَدخُلُ فيه “الحَياةُ” فإنَّه يُقِيمُ عَقْدًا تِجارِيًّا وصِلةً معَ جَمِيعِ الكائِناتِ والمَوجُوداتِ، وخاصّةً معَ نَباتاتِ الأَرضِ وأَزهارِها بحَيثُ يُمكِنُه القَولُ: “إنَّ جَمِيعَ الأَرضِ هي حَدِيقَتِي ومَتْجَرِي”.. فهُناك إذًا -عدا الحَواسِّ المَعرُوفةِ الظّاهِرةِ والباطِنةِ في الأَحياءِ- دَوافِعُ فِطرِيّةٌ أُخرَى غيرُ مَعرُوفةٍ كأَحاسِيسَ سائِقةٍ ومُشَوِّقةٍ تُعطِي للنَّحلِ فُرصةَ التَّصَرُّفِ وإمكانيّةَ الإِحساسِ والأُنسِ والتَّبادُلِ معَ أَكثَرِ أَنواعِ المَوجُوداتِ في الدُّنيا.
ولَئِن كانَتِ الحَياةُ تُظهِرُ تَأْثِيرَها هكذا في كائِنٍ حَيٍّ صَغِيرٍ، فلا بُدَّ أنَّها كُلَّما عَلَتْ وارتَقَتْ إلى مَرتَبةٍ عُلْيا وهي المَرتَبةُ الإنسانيّةُ، فإنَّ تَأْثِيرَها يَتَّسِعُ ويَكبُرُ ويَتَنوَّرُ، بحَيثُ يَجُولُ هذا الإنسانُ بعَقلِه وشُعُورِه -الَّذي هو ضِياءُ الحَياةِ- في العَوالِمِ العُلْوِيّةِ والرُّوحِيّةِ والمادِّيّةِ كما يَجُولُ في غُرَفِ دارِه.. وهذا يَعنِي أنَّه مِثلَما يُسافِرُ ذلك الكائِنُ الحَيُّ ذُو الشُّعُورِ إلى تلك العَوالِمِ مَعنَوِيًّا، فإنَّ تلك العَوالِمَ تَأْتِي وتكُونُ ضُيُوفًا على مِرآةِ رُوحِه بارتِسامِها وتَمَثُّلِها فيها.
والحَياةُ بحَدِّ ذاتِها أَسطَعُ بُرهانٍ لِوَحدانيّةِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، وأَوسَعُ مَجالٍ لِنِعمَتِه العَظِيمةِ، وأَلطَفُ تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ رَحمَتِه، وأَدَقُّ نَقْشٍ مِن نُقُوشِ صَنْعَتِه الخَفِيّةِ النَّزِيهةِ.
نعم، إنَّها خَفِيّةٌ ودَقيقةٌ، لأنَّ تَنَبُّهَ “العُقدةِ الحَياتيّةِ” أي: تَفَتُّحَها ونُمُوَّها في البِذرةِ -الَّتي هي أُولَى مَراتِبِ الحَياةِ في النَّباتِ الَّذي يُمَثِّـلُ أَدنَى أَنواعِ الحَياةِ- بَقِيَ مَستُورًا عن أَنظارِ عِلمِ البَشَرِ مُنذُ زَمَنِ آدَمَ عَليهِ السَّلام، رَغمَ شِدّةِ ظُهُورِه وكَثرَتِه والإلفةِ به، ولم تَنكَشِفْ حَقِيقَتُه الصّائِبةُ لِعَقلِ البَشَرِ لِحَدِّ الآنَ بجَلاءٍ.
والحَياةُ نَزِيهةٌ نَقِيّةٌ بحَيثُ إن وَجْهَيْها -المُلْكِ والمَلَكُوتِ- صافِيانِ وشَفّافانِ، إذ إنَّ يَدَ القُدرةِ تُباشِرُ أَعمالَها فيها دُونَ وَضْعٍ لِسِتارِ الأَسبابِ، في حِينِ أنَّها جَعَلَتِ الأَسبابَ الظّاهِرِيّةَ حِجابًا لِتَصَرُّفهِا في سائِرِ الأُمُورِ الأُخرَى، كي تكُونَ مَنْشَأً للأُمُورِ الخَسِيسةِ وللكَيفِيّاتِ غيرِ النَّزِيهةِ الَّتي تُنافِي عِزّةَ القُدرةِ في ظاهِرِ الأَمرِ.
والخُلاصةُ: يَصِحُّ القَولُ: إن لم تكُن هُناك حَياةٌ فالوُجُودُ ليس بوُجُودٍ، ولا يَختَلِفُ عنِ العَدَمِ، فالحَياةُ ضِياءُ الرُّوحِ والشُّعُورُ نُورُ الحَياةِ.
ولَمّا كانَتِ الحَياةُ والشُّعُورُ لَهُما هذه الأَهَمِّيّةُ، وما دُمْنا نُشاهِدُ كلَّ هذا النِّظامِ المُتقَنِ في هذا العالَمِ، ونَرَى هذه الدِّقّةَ والإتقانَ والإحكامَ التّامَّ والِانسِجامَ الكامِلَ في الكَونِ، وما دامَت كُرَتُنا الأَرضِيّةُ -وهي كذَرّةٍ بالنِّسبةِ إلى الكَونِ- تَزخَرُ بما لا يُعَدُّ ولا يُحصَى مِن ذَوِي الأَرواحِ وذَوِي المَشاعِرِ والإدراكِ، فلا بُدَّ أن يُحكَمَ بحَدْسٍ صادِقٍ ويُقَرَّرَ بيَقِينٍ قاطِعٍ أنَّ جَوانِبَ هذه القُصُورِ السَّماوِيّةِ والبُرُوجِ الشّاهِقةِ تَدِبُّ فيها سَكَنةٌ مِنَ الأَحياءِ وذَوِي المَشاعِرِ بما يُلائِمُها ويَتَجاوَبُ معَها، إذ كما أنَّ السَّمَكَ يَعِيشُ في الماءِ، كذلك مِنَ المُمكِنِ أن يُوجَدَ سَكَنةٌ نُورانِيُّون في لَهِيبِ الشَّمسِ مِمَّن يَتَلاءَمُون معَها، لأنَّ النّارَ لا تُحرِقُ النُّورَ بل تُمِدُّه وتُدِيمُه.
وما دامَتِ القُدرةُ الإلٰهِيّةُ تَخلُقُ أَحياءً وذَوِي أَرواحٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى مِن مَوادَّ عادِيّةٍ جِدًّا، بل مِن أَكثَفِ العَناصِرِ، وتُبَدِّلُ المادّةَ الكَثِيفةَ الغَلِيظةَ بالحَياةِ إلى مادّةٍ لَطِيفةٍ بكُلِّ عِنايةٍ وإتقانٍ، وتَنْشُرُ نُورَ الحَياةِ في كلِّ شَيءٍ بغَزارةٍ، وتُرَصِّعُ أَغلَبَ الأَشياءِ بضِياءِ الشُّعُورِ، فلا بُدَّ أنَّ ذلك القَدِيرَ الحَكِيمَ لن يُهمِلَ بقُدرَتِه الكامِلةِ وبحِكمَتِه التّامّةِ، النُّورَ والأَثِيرَ وأَمثالَهما مِنَ السَّيّالاتِ اللَّطِيفةِ والقَرِيبةِ، بلِ المُلائِمةِ للرُّوحِ، دُونَ حَياةٍ، ولن يَتْرُكَه جامِدًا ولن يَدَعَه دُونَ شُعُورٍ، وإنَّما الأَولَى أن يَخلُقَ جَلَّت قُدرَتُه وحِكمَتُه أَحياءً وذَوِي شُعُورٍ مِن تلك المَوادِّ السَّيّالةِ اللَّطِيفةِ، مِن مادّةِ النُّورِ وحتَّى مِنَ الظَّلامِ وحتَّى مِن مادّةِ الأَثيرِ وحتَّى مِنَ المَعاني وحتَّى مِنَ الهَواءِ وحتَّى مِنَ الكَلِماتِ، فيَخلُقُ كَثْرةً كاثِرةً مِنَ المَخلُوقاتِ ذَواتِ الأَرواحِ المُختَلِفةِ -كالأَجناسِ الكَثِيرةِ المُختَلِفةِ للحَيَواناتِ- فيَصِيرُ قِسمٌ مِنها المَلائِكةَ، وقِسمٌ آخَرُ أَجناسَ الجِنِّ والرُّوحانِيّاتِ.
[حكاية تمثيلية]
وفي المِثالِ الآتي يَتَبيَّنُ لك كم تكُونُ فِكرةُ وُجُودِ المَلائِكةِ والرُّوحانيّاتِ بكَثْرةٍ، كما بَيَّنَه القُرآنُ الكَرِيمُ، حَقيقةً وبَداهةً وأَمْرًا مَعقُولًا، وكم يكُونُ الرَّفْضُ وعَدَمُ القَبُولِ خِلافًا للحَقِيقةِ والحِكمةِ، بل خُرافةً وضَلالةً وهَذَيانًا وبَلاهةً:
يَتَصادَقُ اثنانِ أَحَدُهما بَدَوِيٌّ وآخَرُ حَضَرِيٌّ، كانا يَسِيرانِ معًا إلى مَدِينةٍ عَظِيمةٍ -كإسطَنْبُولَ- وقَبلَ دُخُولِهما المَدِينةَ وفي زاوِيةٍ مِن زَواياها يُصادِفانِ مَبنًى صَغِيرًا ووَرْشةً قَذِرةً، فيُبصِرانِ المَبنَى مَمْلُوءًا برِجالٍ مَساكِينَ يَعمَلُون مَنهُوكِين في هذا المَعمَلِ الغَرِيبِ، ويُلاحِظانِ حَولَ المَعمَلِ حَيَواناتٍ وأَحياءً أُخرَى أَيضًا تَقْتاتُ كُلٌّ بطَرِيقَتِها الخاصّةِ حَسَبَ شَرائِطِ حَياتِها؛ فمِنها ما يَأْكُلُ النَّباتَ وأُخرَى تَأْكُلُ الأَسماكَ فقط، وهكذا.. وفيما هما يُراقِبانِ أَحوالَ هَؤُلاءِ إذا بهما يَرَيانِ على بُعْدٍ مِنهُما آلافًا مِنَ العِماراتِ المُزَيَّنةِ والقُصُورِ العالِيةِ تَفصِلُ بَينَها مَيادِينُ وفُسَحٌ واسِعةٌ، إلّا أنَّ سُكّانَ تلك العِماراتِ الرّائِعةِ لا يَظهَرُون لهما، إمّا لِبُعدِهِما عنهم، أو لِضَعفِ نَظَرِهما، أو لِاختِفاءِ سَكَنةِ تلك القُصُورِ أَنفُسِهِم، ولا تُوجَدُ شَرائِطُ الحَياةِ الَّتي في هذه الوَرْشةِ القَذِرةِ في تلك القُصُورِ العالِيةِ.
فالبَدَوِيُّ الَّذي لم يَرَ المَدِينةَ في حَياتِه قال: “إنَّ تلك العِماراتِ خالِيةٌ مِن أَهلِها ولا أَحَدَ فيها مِنَ الأَحياءِ، إذ إنَّني لا أَراهُم، وليس هناك ما يُشِيرُ إلى الحَياةِ كحَياتِنا أصلًا”، فأَظهَرَ بهَذَيانِه هذا حَماقَتَه الشَّدِيدةَ.
أَجابَه صَدِيقُه العاقِلُ الرَّزِينُ: يا هذا! أما تَرَى أنَّ هذا المَسْكَنَ البَسِيطَ الحَقِيرَ مَلِيءٌ بالأَحياءِ وليس هُناك شِبْرٌ مِن فَراغٍ حَوْلَنا لم يُملَأْ بالأَحياءِ والعامِلِين؟! فهُناك مَن يُبَدِّلُهم ويُجَدِّدُهم دائِمًا ويَستَخدِمُهم أَبَدًا.. فانظُرِ الآنَ هل مِنَ المُمكِنِ أن تكُونَ تلك العِماراتُ الرّائِعةُ المُنتَظِمةُ والتَّزيِيناتُ الحَكِيمةُ، والقُصُورُ الباذِخةُ على بُعدِها عَنَّا خالِيةً مِن أَهلِها المُتَلائِمِين معَها؟. إنَّها لا بُدَّ قد مُلِئَت جَمِيعًا بذَوِي أَرواحٍ، لهم شَرائِطُ حَياةٍ أُخرَى خاصّةٌ بهم، فلَرُبَّما يَأْكُلُون بَدَلًا مِنَ الأَعشابِ والأَسماكِ شَيْئًا آخَرَ، فإنَّ عَدَمَ رُؤيَتِهم -لبُعدِهم أو لِقِصَرِ النَّظَرِ أو اختِفائِهم- لا يُقِيمُ دَليلًا أَبَدًا على عَدَمِ وُجُودِهم، إذ إنَّ عَدَم الرُّؤيةِ لا يَدُلُّ مُطلَقًا على عَدَمِ الوُجُودِ. وليس عَدَمُ الظُّهُورِ بحُجّةٍ قَطْعًا على عَدَمِ الوُجُودِ.
[تطبيق المثال]
وقِياسًا على هذا المِثالِ البَسِيطِ الواضِحِ: إنَّ الكُرةَ الأَرضِيّةَ وهي واحِدةٌ مِنَ الأَجرامِ السَّماوِيّةِ، على كَثافَتِها وضَآلةِ حَجْمِها، قد أَصبَحَت مَوْطِنًا لِما لا يُحَدُّ مِنَ الأَحياءِ وذَوِي المَشاعِرِ، حتَّى لقد أَصبَحَتْ أَقْذَرُ وأَخَسُّ الأَماكِنِ فيها مَنابِعَ ومَواطِنَ لِكَثيرٍ مِنَ الأَحياءِ، ومَحْشَرًا ومَعْرِضًا للكائِناتِ الدَّقيقةِ؛ فالضَّرُورةُ والبَداهةُ والحَدْسُ الصّادِقُ واليَقِينُ القاطِعُ جَمِيعًا تَدُلُّ وتَشْهَدُ بل تُعلِنُ أنَّ هذا الفَضاءَ الواسِعَ والسَّماواتِ ذاتَ البُرُوجِ والأَنجُمَ والكَواكِبَ كُلَّها مَلِيئةٌ بالأَحياءِ وبذَوِي الإدراكِ والشُّعُورِ؛ ويُطلِقُ القُرآنُ الكَرِيمُ والشَّرِيعةُ الغَرّاءُ على أُولَئِك الأَحياءِ الشّاعِرِين والَّذين خُلِقُوا مِنَ النُّورِ والنّارِ ومِنَ الضَّوءِ والظَّلامِ والهَواءِ ومِنَ الصَّوتِ والرّائِحةِ ومِنَ الكَلِماتِ والأَثِيرِ وحتَّى مِنَ الكَهرَباءِ وسائِرِ السَّيّالاتِ اللَّطِيفةِ الأُخرَى بأَنَّهم: مَلائِكةٌ.. وجانٌّ.. ورُوحانيّاتٌ. ولكن كما أنَّ الأَجسامَ أَجناسٌ مُختَلِفة، كذلك المَلائِكةُ، إذ ليس المَلَكُ المُوَكَّلُ على قَطْرةِ المَطَرِ مِن جِنسِ المَلَكِ المُوَكَّلِ على الشَّمسِ. وكذلك الجِنُّ والرُّوحانيّاتُ لهم أَجناسٌ مُختَلِفةٌ كَثِيرةٌ.
[خاتمة: الأصل والمركزية ليس للمادة بل للروح]
خاتِمةُ هذه النُّكتة الأساسِ
لقد ثَبَت بالتَّجرِبةِ أنَّ المادّةَ لَيسَت أَساسًا وأَصْلًا لِيَبقَى الوُجُودُ مُسَخَّرًا مِن أَجلِها وتابِعًا لها، بل هي قائِمةٌ بـ”مَعنًى”، وهذا المَعنَى هو الحَياةُ.. هو الرُّوحُ.
وتُرِينا المُشاهَدةُ والمُلاحَظةُ كذلك أنَّ المادّةَ لا تكُونُ مُطاعةً حتَّى يُرْجَعَ إلَيها كلُّ شَيءٍ، وإنَّما هي وَسِيلةٌ مُطِيعةٌ خادِمةٌ لإكمالِ حَقِيقةٍ مُعيَّنةٍ.. هذه الحَقيقةُ هي الحَياةُ.. وأَساسُها هو الرُّوحُ.
ومِنَ البَدِيهيِّ أنَّ المادّةَ لَيسَت هي الحاكِمةَ حتَّى يُستَجْدَى على بابِها وتُطلَبَ أو تُنتَظرَ مِنها الكَمالاتُ والمُثُلُ، بل هي مَحكُومةٌ تَسِيرُ وَفقَ أَساسٍ مُعَيَّنٍ وتَتَحرَّكُ بإشارَتِه.. هذا الأَساسُ هو الحَياةُ، هو الرُّوحُ، هو الشُّعُورُ.
وتَقتَضي الضَّرُورةُ كذلك ألّا تَرتَبِطَ بالمادّةِ الأَعمالُ والمُثُلُ ولا تُبنَى على ضَوْئِها، إذ إنَّها لَيسَت لُبًّا ولا أَصْلًا ولا أَساسًا ولا ثابِتًا مُستَقِرًّا؛ وإنَّما هي قِشرةٌ وغِلافٌ وزَبَدٌ وصُورةٌ مُهَيَّأةٌ للتَّشَقُّقِ والذَّوَبانِ والتَّمَزُّقِ.
ألا يُشاهَدُ كيف أنَّ الحَيَواناتِ الدَّقيقةَ الَّتي لا يُمكِنُ رُؤيَتُها بالعَينِ المُجَرَّدةِ تَملِكُ إحساساتٍ حادّةً وقَوِيّةً، حتَّى إنَّها تَسمَعُ هَمَساتِ بَنِي جِنسِها وتَرَى مَوادَّ رِزقِها؟! إنَّ هذا يُبيِّنُ لنا بوُضُوحٍ أنَّ المادّةَ كُلَّما صَغُرَت ودَقَّتِ ازدادَ انطِباعُ مَلامِحِ الحَياةِ وآثارِها علَيها، واشتَدَّ نُورُ الرُّوحِ فيها، أي إنَّ المادّةَ كُلَّما دَقَّت وابتَعَدَت عن مادِّيَّتِها كأنَّها تَقتَرِبُ أَكثَرَ مِن عالَمِ الرُّوحِ، وعالَمِ الحَياةِ، وعالَمِ الشُّعُورِ، فيَتَجلَّى نُورُ الحَياةِ وحَرارةُ الرُّوحِ بشِدّةٍ أَكثَرَ.
فهل مِنَ المُمكِنِ أن يَتَرشَّحَ كلُّ ما نَرَى مِن تَرَشُّحاتِ الحَياةِ والمَشاعِرِ والرُّوحِ وتَنسابَ رَقْراقةً مِن أَغطِيةِ المادّةِ، ولا يكُونَ العالَمُ الباطِنُ الكائِنُ تحتَ سِتارِ المادّةِ مَملُوءًا بذَوِي المَشاعِرِ وبذَوِي الأَرواحِ؟
وهل مِنَ المُمكِنِ أن يَرجِعَ إلى المادّةِ ويُسنَدَ إلَيْها وإلى حَرَكَتِها كلُّ ما في عالَمِ الشَّهادةِ مِن تَرَشُّحاتٍ غيرِ مَحدُودةٍ للمَعاني والرُّوحِ والحَقِيقةِ ومَنابعِ لَمَعاتِها وثَمَراتِها، وتَتَوضَّحَ بها وَحدَها؟!
كلَّا ثمَّ كلَّا.. بل إنَّ هذه المَظاهِرَ غيرَ المَحدُودةِ المُتَرشِّحةَ، ولَمَعاتِها تُظهِرُ لنا أنَّ عالَمَ الشَّهادةِ المادِّيَّ هذا إنَّما هو سِتارٌ مُنَقَّشٌ مُزَركَشٌ مُلْقًى على عالَمِ المَلَكُوتِ والأَرواحِ.
[الأساس الثاني: أجمع أهل العقل والنقل على وجود الملائكة]
الأساسُ الثاني
يَصِحُّ القَولُ بأنَّ هناك إجماعًا ضِمنِيًّا -مع تَبايُنِ التَّعبِيرِ- على وُجُودِ حَقِيقةِ المَلائِكةِ وثُبُوتِ العالَمِ الرُّوحانِيِّ، بينَ أَهلِ العَقلِ والنَّقلِ كافّةً سَواءٌ عَلِمُوا أم لم يَعلَمُوا.. فلم يُنكِرْ “مَعنَى” المَلائِكةِ حتَّى المَشّاؤُون مِنَ الفَلاسِفةِ الإشراقيِّين الَّذين أَوغَلُوا في المادِّيّاتِ؛ إذ عَبَّـرُوا عن “مَعنَى” المَلائِكةِ بقَولِهم: “إنَّ هناك ماهِيّةً مُجَرَّدةً رُوحِيّةً لِكُلِّ نَوعٍ”. والآخَرُون مِنَ الإشراقيِّين عِندَما اضطُرُّوا لِقَبُولِ مَعنَى المَلائِكةِ أَطلَقُوا علَيهِم خَطَأً: “العُقُولُ العَشَرةُ وأَربابُ الأَنواعِ”.
ومِنَ المَعلُومِ أنَّ جَمِيعَ أَهلِ الأَديانِ مُؤمِنُون -بإلْهامِ الوَحيِ الإلٰهِيِّ وإِرشادِه- أنَّ لِكُلِّ نَوعٍ مِن أَنواعِ المَوجُوداتِ مَلَكًا مُوَكَّلًا به، فيُعَبِّـرُون عنهم بأَسماءِ: مَلَكِ الجِبالِ، ومَلَكِ البِحارِ، ومَلَكِ الأَمطارِ.
وحتَّى المادِّيُّون والطَّبِيعيُّون، الَّذين تَحَدَّرَت عُقُولُهم إلى عُيُونِهم، والمُتَجَرِّدُون مَعنَوِيًّا مِنَ الإنسانيّةِ، السّاقِطُون إلى دَرَجةِ الجَماداتِ، لم يَسَعْهُم إنكارُ “مَعنَى” المَلائِكةِ، فأَطلَقُوا علَيها “القُوَى السّارِية”، فكان هذا تَصدِيقًا اضطِرارِيًّا مِنهم -ولو بصُورةٍ مُشَوَّهةٍ- لِمَعنَى المَلائِكةِ.
فيا أيُّها الإنسانُ المِسكِينُ المُتَردِّدُ في قَبُولِ وُجُودِ المَلائِكةِ والعالَمِ الرُّوحانِيِّ.. علَامَ تَستَنِدُ؟ وبأَيِّ حَقِيقةٍ تَفتَخِرُ؟ حتَّى تُواجِهَ ما اتَّفَقَ علَيه جَمِيعُ أَهلِ العَقلِ، سَواءٌ عَلِمُوا أم لم يَعلَمُوا، مِن ثُبُوتِ مَعنَى وحَقِيقةِ وُجُودِ المَلائِكةِ وتَحَقُّقِ العالَمِ الرُّوحانِيِّ؟
فما دامَتِ الحَياةُ -كما أَثبَتْنا في الأَساسِ الأَوَّلِ- كَشّافةً للمَوجُودات، بل نَتِيجَتَها وزُبدَتَها؛ وأنَّ جَمِيعَ أَهلِ العَقلِ قدِ اتَّفَقُوا ضِمْنِيًّا -وإنِ اختَلَفُوا في التَّعبِيرِ- على مَعنَى المَلائِكةِ؛ وأنَّ أَرضَنا هذه مَعمُورةٌ بكُلِّ هذه الأَحياءِ وذَوِي الأَرواحِ، فكيف يُمكِنُ إذًا أن يَخلُوَ هذا الفَضاءُ الواسِعُ مِن ساكِنِيه، وتلك السَّماواتُ البَدِيعةُ اللَّطِيفةُ مِن عامِرِيها؟!
[الملائكة ممثلو النواميس الكونية]
ولا يَخطُرَنَّ ببالِك أنَّ النَّوامِيسَ والقَوانِينَ الجارِيةَ في العالَمِ كافِيةٌ أن تَجعَلَ الكائِناتِ ذاتَ حَياةٍ، لأنَّ تلك النَّوامِيسَ الجارِيةَ والقَوانِينَ الحاكِمةَ أَوامِرُ اعتِبارِيّةٌ، ودَساتِيرُ وَهْمِيّةٌ، لا يُعتَدُّ بها، ولا تُعَدُّ شَيْئًا أَصلًا.
فإنْ لم يكُن هُناك عِبادُ اللهِ المُسَمَّون بـ”المَلائِكةِ” يَأْخُذُون بزِمامِ هذه القَوانِينِ ويُظهِرُونَها ويُمَثِّـلُونها، فلا يَتَعيَّنُ لتلك القَوانِينِ والنَّوامِيسِ أيُّ وُجُودٍ كان، ولا تُعرَف لها هُوِيّةٌ، فهي لَيسَت حَقيقةً خارِجِيّةً قَطُّ؛ والحالُ أنَّ الحَياةَ حَقِيقةٌ خارِجِيّةٌ، والأَمرُ الوَهْمِيُّ لا يُمكِنُ أن تُحمَلَ علَيه حَقِيقةٌ خارِجِيّةٌ.
[الموجودات لا تنحصر في عالم الشهادة]
نَخلُصُ مِن هذا أنَّه ما دامَ أَهلُ الحِكمةِ وأَهلُ الدِّينِ وأَصحابُ العَقلِ والنَّقلِ مُتَّفِقين ضِمْنيًّا على أنَّ المَوجُوداتِ لا تَنحَصِرُ في عالَمِ الشَّهادةِ هذا، وأنَّ عالَمَ الشَّهادةِ الظّاهِرَ الجامِدَ الَّذي لا يَكادُ يَتَّفِقُ معَ إقامةِ الأَرواحِ وتَشَكُّلِها قد تَزَيَّنَ بهذا العَدَدِ الهائِلِ مِن ذَوِي الأَرواحِ والأَنسامِ؛ لِذا فالوُجُودُ لا يُمكِنُ أن يكُونَ مُنحَصِرًا فيه، بل هناك طَبَقاتٌ أُخرَى كَثِيرةٌ مِنَ الوُجُودِ، بحَيثُ يُصبِحُ عالَمُ الشَّهادةِ بالنِّسبةِ لها سِتارًا مُزَرْكَشًا؛ وما دامَ عالَمُ الغَيبِ وعالَمُ المَعنَى مُلائِمَينِ للأَرواحِ -كمُلاءَمةِ البِحارِ للأَسماكِ- فلا بُدَّ أنَّهما يَزخَرانِ بأَرواحٍ مُلائِمةٍ لهما.
[أفضل بيان لحقيقة الملائكة]
ولَمّا كانَت جَمِيعُ الأُمُورِ قد شَهِدَت على وُجُودِ مَعنَى المَلائِكةِ، لِذلك فلا رَيبَ أنَّ أَحسَنَ صُورةٍ لِوُجُودِ المَلائِكةِ وحَقِيقةِ الرُّوحانِيّاتِ، وأَفضَلَ حالٍ وكَيفيّةٍ لها، بحَيثُ تَستَسِيغُها العُقُولُ السَّلِيمةُ وتَستَحسِنُها، هو بلا شَكٍّ ما شَرَحَه القُرآنُ الكَرِيمُ وبَيَّنَه بوُضُوحٍ.
فالقُرآنُ الكَرِيمُ يَذكُرُ المَلائِكةَ بأنَّهم: ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾، ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾، فهم أَجسامٌ نُورانيّةٌ لَطِيفةٌ تَنقَسِمُ إلى أَنواعٍ مُختَلِفةٍ.
نعم، فكما أنَّ البَشَرَ هم أُمّةٌ يَحمِلُون ويُمَثِّلُون ويُنَفِّذُون الشَّرِيعةَ الإلٰهِيّةَ الآتيةَ مِن صِفةِ “الكَلامِ”، كذلك المَلائِكةُ أُمّةٌ عَظِيمةٌ جدًّا بحَيثُ إنَّ قِسمَ العامِلِين مِنهم يَحمِلُون ويُمَثِّلُون ويُنَفِّذُون الشَّريعةَ التَّـكوِينيّةَ الآتِيةَ مِن صِفةِ “الإرادةِ”، وهم نَوعٌ مِن عِبادِ اللهِ الطّائِعِين لِأَوامِرِ المُؤَثِّرِ الحَقيقيِّ الَّذي هو القُدرةُ الفاطِرةُ والإرادةُ الإلٰهِيّةُ طاعةً كامِلةً، حتَّى جَعَلُوا كلَّ جِرمٍ مِنَ الأَجرامِ السَّماوِيّةِ العُلْوِيّةِ بمَثابةِ مَسجِدٍ ومَعبَدٍ لهم.
[الأساس الثالث: قاعدة ثبوت الكل بثبوت الجزء]
الأساسُ الثّالث
إنَّ مَسأَلةَ ثُبُوتِ المَلائِكةِ والعالَمِ الرُّوحانِيِّ مِنَ المَسائِلِ الَّتي تَنطَبِقُ علَيها القاعِدةُ المَنطِقِيّةُ: “يُدرَكُ تَحَقُّقُ الكُلِّ بثُبُوتِ جُزءٍ واحِدٍ“، أي: إنَّه برُؤيةِ شَخصٍ واحِدٍ للمَلائِكةِ يُعرَفُ وُجُودِ النَّوعِ عامّةً، لأنَّ الَّذي يُنكِرُ المَلائِكةَ يُنكِرُها كُلِّـيًّا، فإذا ما قَبِلَ فَرْدًا واحِدًا مِن ذلك النَّوعِ، فعلَيه أن يَقبَلَ النَّوعَ جَمِيعًا.
إذًا تأَمَّلْ.. ألَا تَرَى وتَسمَعُ أَنَّ جَمِيعَ أَهلِ الأَديانِ، في جَمِيعِ العُصُورِ، مُنذُ زَمَنِ سَيِّدِنا آدَمَ عَليهِ السَّلام إلى يَومِنا هذا، قدِ اتَّفَقُوا على وُجُودِ المَلائِكةِ وثُبُوتِ العالَمِ الرُّوحانِيِّ، وأنَّ طَوائِفَ مِنَ البَشَرِ قد أَجمَعُوا على ثُبُوتِ مُحادَثةِ المَلائِكةِ ومُشاهَدَتِهم والرِّوايةِ عنهم مِثلَما يَتَحاوَرُون ويُشاهِدُون ويَروُون الرِّواياتِ فيما بَينَهم؟!
[الإجماع على وجود الملائكة لا بد أن يستند إلى شهود]
فيا تُرَى هل يُمكِنُ أن يَحصُلَ مِثلُ هذا الإجماعِ، ويَدُومَ هذا الِاتِّفاقُ، بهذا الشَّكلِ المُتَواتِرِ المُستَمِرِّ في أَمرٍ وُجُودِيٍّ، إيجابيٍّ، مُستَنِدٍ إلى الشُّهُودِ، إن لم يكُن قد شُوهِدَ أَحَدٌ مِنَ المَلائِكةِ عِيانًا وبَداهةً؟! أو لم يُعرَف وُجُودُ شَخصٍ أو أَشخاصٍ مِنهم بصُورةٍ قاطِعةٍ بالمُشاهَدةِ؟ أو لم يُشعَرْ بوُجُودِهم بالبَداهةِ والمُشاهَدةِ؟!
[الاعتقاد العام لا بد أن يقوم على مبادئ ضرورية]
وهل مِنَ المُمكِنِ ألّا يكُونَ مَنشَأُ هذا الِاعتِقادِ العامِّ مَبادِئَ ضَرُورِيّةً وأُمُورًا بَدِيهيّةً؟ وهل مِنَ المُمكِنِ أن يَستَمِرَّ ويَبقَى وَهْمٌ لا حَقِيقةَ له في جَمِيعِ العَقائِدِ الإنسانيّةِ وفي خِضَمِّ التَّقَلُّباتِ البَشَرِيّةِ؟ وهل مِنَ المُمكِنِ أنَّ الإجماعَ العَظِيمَ لِأَهلِ الأَديانِ هذا، لا يَستَنِدُ إلى حَدْسٍ قَطْعِيٍّ وعلى يَقِينٍ شُهُودِيٍّ؟ وهل مِنَ المُمكِنِ أنَّ هذا الحَدْسَ القَطعِيَّ واليَقِينَ الشُّهُودِيَّ لا يَستَنِدانِ إلى ما لا يُعَدُّ ولا يُحصَى مِنَ الأَماراتِ والعَلاماتِ؟ وأنَّ هذه الأَماراتِ لا تَستَنِدُ إلى مُشاهَداتٍ واقِعِيّةٍ؟ وأنَّ هذه المُشاهَداتِ الواقِعِيّةَ لا تَستَنِدُ إلى مَبادِئَ ضَرُورِيّةٍ لا شَكَّ فيها ولا شُبْهةَ؟!
ولَمَّا كان الأَمرُ كذلك، فإنَّ أُسُسَ ومُستَنَداتِ الِاعتِقاداتِ العامّةِ في أَهلِ الأَديانِ هي مَبادِئُ ضَرُورِيّةٌ، نَتَجَت بالتَّواتُرِ المَعنَوِيِّ النّابِعِ مِن رُؤيةِ الرُّوحانيّاتِ ومُشاهَدةِ المَلائِكةِ مِرارًا وتَكْرارًا، فهي أُسُسٌ قَطعِيّةُ الثُّبُوتِ.
[شهادة أهل الاختصاص عمدة في الإثبات]
وهل مِنَ المُمكِنِ أوِ المَعقُولِ أن تَدخُلَ الشُّبْهةُ في وُجُودِ المَلائِكةِ وعالَمِ الرُّوحِ ومُشاهَدَتِهمُ الَّذي أَخبَر عنه وشَهِدَ به الأَنبِياءُ والأَولِياءُ، شُهُودًا مُتَواتِرًا وبقُوّةِ الإجماعِ المَعنَوِيِّ، وهم شُمُوسُ الحَياةِ الِاجتِماعيّةِ البَشَرِيّةِ ونُجُومُها وأَقمارُها، وبخاصّةٍ أنَّهم “أَهلُ الِاختِصاصِ” في هذه المَسأَلةِ؛ إذ مِنَ المَعلُومِ أنَّ اثنَينِ مِن أَهلِ الِاختِصاصِ يُرَجَّحانِ على آلافٍ مِن غَيرِهم، وهم كذلك “أَهلُ الإثباتِ” في هذه المَسأَلةِ، ومِنَ المَعلُومِ أنَّ اثنَينِ مِن أَهلِ الإثباتِ يُرَجَّحانِ كذلك على آلافٍ مِن “أَهلِ النَّفيِ”.
[شهادة القرآن الكريم والنبي ﷺ لا تخالجها شبهة]
وهل مِنَ المُمكِنِ أن تَدخُلَ أيّةُ شُبهةٍ وبخاصّةٍ فيما ذَكَرَه القُرآنُ الحَكِيمُ المُعجِزُ الَّذي يَتَلَألَأُ في سَماءِ الكائِناتِ دائمًا دُونَ أُفُولٍ، فهو شَمسُ شُمُوسِ عالَمِ الحَقِيقةِ، وبما شَهِدَه وشاهَدَه النَّبِيُّ الكَرِيمُ علَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو شَمسُ الرِّسالةِ؟!
ولَمّا كان تَحَقُّقُ وُجُودِ كائِنٍ رُوحانِيٍّ واحِدٍ -في وَقتٍ مّا- يُظهِرُ حَقِيقةَ وُجُودِ جَمِيعِ نَوعِه، وقد تَحَقَّق هذا فِعلًا، فلا بُدَّ أنَّ أَفضَلَ صُورةٍ مَعقُولةٍ ومَقبُولةٍ لِحَقيقةِ وُجُودِهم هي مِثلَما شَرَحَتْها الشَّرِيعةُ الغَرّاءُ، وأَظهَرَها القُرآنُ الكَرِيمُ، وشاهَدَها صاحِبُ المِعراجِ علَيه أَفضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ.
[الأساس الرابع: الملائكة يمثلون موجودات عالم الملك في عالم الملكوت]
الأساسُ الرابع
[العلاقة بين موجودات عالم الملك وملائكة عالم الملكوت]
إذا أَمعَنّا النَّظَرَ في مَوجُوداتِ الكَونِ نُلاحِظُ أنَّ “للكُلِّيّاتِ -كما هي للجُزئيّاتِ- شَخصِيّةً مَعنَوِيّةً، بحَيثُ تُظهِر لها وَظِيفةً كُلِّيّةً”.
فكما أنَّ الزَّهرةَ -مَثلًا- بإظهارِها دِقّةَ الصَّنعةِ فيها تُسَبِّحُ بلِسانِ حالِها بأَسماءِ فاطِرِها، فرِياضُ الأَرضِ كلُّها أيضًا هي بحُكمِ تلك الزَّهرةِ، لها وَظِيفةٌ تَسبِيحيّةٌ كُلِّيّةٌ في غايةِ الِانتِظامِ.
وكما أنَّ الثَّمَرةَ تُعبِّـرُ وتُعلِنُ بنِظامِها البَدِيعِ المُنَسَّقِ عن تَسبِيحاتِها، كذلك الشَّجَرةُ الباسِقةُ بكُلِّيَّتِها، لها عِبادةٌ ووَظِيفةٌ فِطرِيّةٌ في أَتَمِّ نِظامٍ.
وكما أنَّ للشَّجَرةِ الباسِقةِ تَسابِيحَ بحَمْدِ رَبِّها بكَلِماتِ أَوراقِها وأَزهارِها وأَثمارِها، فإنَّ لِآفاقِ السَّماواتِ الشّاسِعةِ تَسابِيحَها للفاطِرِ الحَكِيمِ بكَلِماتِ شُمُوسِها ونُجُومِها وأَقمارِها، وهي تَحمَدُ وتُمَجِّدُ صانِعَها جَلَّ جَلالُه.
وهكذا المَوجُوداتُ الخارِجِيّةُ كُلُّها -رَغمَ أنَّها جامِدةٌ ودُونَ شُعُورٍ ظاهِرًا- فلَها واجِباتٌ وتَسابِيحُ بحَمْدِ رَبِّها في مُنتَهَى الإحساسِ والحَيَوِيّةِ.
فالمَلائِكةُ إذ يُمَثِّـلُون المَوجُوداتِ ويُعَبِّرُون عن تَسبِيحاتِها في عالَمِ المَلَكُوتِ، فالمَوجُوداتُ بدَورِها هي بحُكْمِ المَساكِنِ والمَساجِدِ للمَلائِكةِ في عالَمِ المُلكِ والشَّهادةِ.
[مراتب العاملين في قصر العالم]
ولقد بَيَّنّا في “الكَلِمةِ الرّابِعةِ والعِشرِين” في الغُصنِ الرّابِعِ مِنها أنَّ مالِكَ قَصرِ هذا العالَمِ الفَخمِ وصانِعَه جَلَّ جَلالُه يَستَخدِمُ في إعمارِ مَمْلَكَتِه أَربَعةَ أَقسامٍ مِنَ العامِلِين، وفي مُقدِّمَتِهمُ المَلائِكةُ والرُّوحانيّاتُ.
“فالنَّباتاتُ والجَماداتُ” تَقُومُ بعَمَلِها دُونَ دِرايةٍ لِقَصْدِ الصّانِعِ الحَكِيمِ، ودُونَ أن تَأْخُذَ أُجرةً لِقاءَ خِدْماتِها العَظِيمةِ، ولكن تقُومُ بها بإمرةِ عَلِيمٍ؛ و”الحَيَواناتُ” تقُومُ بخِدماتٍ عَظِيمةٍ كُلِّيّةٍ دُونَ دِرايةٍ أيضًا، ولكن بأُجرةٍ جُزئيّةٍ؛ و”الإنسانُ” يُستَخدَمُ في أَعمالٍ مُوافِقةٍ لِما يَعلَمُ مِن مَقاصِدِ الصّانِعِ ذِي الجَلالِ مُقابِلَ أُجرَتَينِ: آجِلةٍ وعاجِلةٍ، معَ أَخْذٍ لِنَصِيبِ نَفسِه أَيضًا مِن كُلِّ شَيءٍ، ورِعايَتِه العُمّالَ الآخَرِين: النَّباتاتِ والحَيَواناتِ.
نعم، فما دامَ استِخدامُ هذه الأَنواعِ مُشاهَدًا عِيانًا، فلا بُدَّ أنَّ ثمّةَ قِسمًا رابِعًا، بل هم مُقدِّمةُ صُفُوفِ الخَدَمةِ والعُمّالِ، فهم يَتَشابَهُون معَ الإنسانِ مِن ناحِيةٍ، حَيثُ يَعلَمُون المَقاصِدَ العامّةَ للصّانِعِ ذِي الجَلالِ، فيَعبُدُونَه بحَرَكاتِهمُ المُنسَجِمةِ معَ أَوامِرِه، ولكِنَّهم يَختَلِفُون عنِ الإنسانِ مِن ناحِيةٍ أُخرَى، وهي أنَّهم مُجَرَّدُون مِن حُظُوظِ النَّفسِ وأَخذِ الأُجرةِ الجُزئيّةِ، إذ يَكتَفُون بما يُحَصِّلُونه مِنَ اللَّذّةِ والذَّوقِ والكَمالِ والسَّعادةِ بمُجَرَّدِ نَظَرِه سُبحانَه إلَيهِم، ومِن أَوامِرِه لهم، وتَوَجُّهِه إلَيهِم، وقُربِهم مِنه، وانتِسابِهم إلَيه، فيَسْعَوْن لِأَجلِه، وباسمِه، فيما يَخُصُّهم مِن أَعمالٍ بكلِّ إخلاصٍ.. وأُولَئك همُ المَلائِكةُ، فتَتَنوَّعُ وَظائِفُ عُبُودِيَّتِهم حَسَبَ أَجناسِهم، وحَسَبَ أَنواعِ المَوجُوداتِ في الكَونِ؛ إذ كما أنَّ للحُكُومةِ مُوَظَّفِين مُختَلِفِين حَسَبَ اختِلافِ وتَنَوُّعِ دَوائِرِها، كذلك تَتَنوَّعُ تَسبِيحاتُ ووَظائِفُ العُبُودِيّةِ باختِلافِ الدَّوائِرِ في سَلْطَنةِ الرُّبُوبيّةِ.
[بعض الملائكة بمثابة المشرف العام]
فمَثلًا: سَيِّدُنا مِيكائِيلُ عَليهِ السَّلام بأَمرٍ مِنَ اللهِ ولِأَجلِه، وبِحَوْلِه وقُوَّتِه، هو كالمُشرِفِ العامِّ -إذا جازَ التَّعبِيرُ- على جَمِيعِ المَخلُوقاتِ الإلٰهِيّةِ المَزرُوعةِ في حَقْلِ الأَرضِ، أي: هو رَئِيسُ جَمِيع مَن هم بحُكمِ المُزارِعِ مِنَ المَلائِكةِ.
وللفاطِرِ الحَكِيمِ جَلَّ جَلالُه كذلك مَلَكٌ مُوَكَّلٌ عَظِيمٌ يَتَولَّى بإذنِه وأَمرِه وبقُوَّتِه وحِكمَتِه رِئاسةَ جَمِيعِ الرُّعاةِ المَعنَوِيِّين للحَيَواناتِ جَمِيعًا.
[تفسير ما روي في هيئات بعض الملائكة]
فما دامَ على كُلِّ مَوجُودٍ مِنَ المَوجُوداتِ الظّاهِرةِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، يُمَثِّـلُ ما تُظهِرُ تلك المَوجُوداتُ مِن وَظائِفِ العُبُودِيّةِ والتَّسبِيحِ في عالَمِ المَلَكُوتِ، ويُقَدِّمُه بعِلمٍ إلى الحَضْرةِ الإلٰهِيّةِ المُقَدَّسةِ الجَلِيلةِ؛ فلا بُدَّ أن نَفْهَمَ أنَّ ما رُوِيَ عنِ المُخبِرِ الصّادِقِ ﷺ حَولَ المَلائِكةِ مِن صُوَرٍ هي أَحسَنُ تَصوِيرٍ وأَقرَبُ إلى العَقلِ وبشَكلٍ جِدِّ مُناسِبٍ ولائِقٍ.
فمَثلًا: رُوِيَ أنَّ الرَّسُولَ ﷺ قال: “إنَّ للهِ مَلائِكةً لها أَربَعُون -أو أَربَعُون أَلفَ- رَأسٍ، في كلِّ رَأسٍ أَربَعُون أَلفَ فَمٍ، وفي كلِّ فَمٍ أَربَعُون أَلفَ لِسانٍ، يُسَبِّحُ أَربَعِين أَلفَ تَسبِيحةٍ” أو كما قال.
فحَقيقةُ هذا الحَدِيثِ لها مَعنًى، ولها صُورةٌ.
أمّا مَعناها فهو: أنَّ عِبادةَ المَلائِكةِ في غايةِ الِانتِظامِ والكَمالِ، وهي في مُنتَهَى السَّعةِ والكُلِّيّةِ أَيضًا.
وأمّا صُورَتُها فهي: أنَّ هناك بعضَ المَوجُوداتِ الجِسمانيّةِ الضَّخمةِ تُنجِزُ وَظائِفَ عُبُودِيَّتِها بأَربَعِين أَلفَ رَأْسٍ وبأَربَعِين أَلفَ نَمَطٍ وشَكلٍ؛ فالسَّماءُ مَثلًا تُسَبِّحُ بالشُّمُوسِ والنُّجُومِ، والأَرضُ أَيضًا معَ أنَّها واحِدةٌ مِنَ المَخلُوقاتِ، فإنَّها تَقُومُ بوَظائِفِ عُبُودِيَّتِها وتَسبِيحاتِها لِرَبِّها بمِئةِ أَلفِ رِأْسٍ، وفي كلِّ رَأْسٍ مِئاتُ الأُلُوفِ مِنَ الأَفواهِ، وفي كلِّ فَمٍ مِئاتُ الأُلُوفِ مِنَ الأَلسِنةِ، فلِأَجلِ أن يُظهِرَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بِكُرةِ الأَرضِ هذا المَعنَى في عالَمِ المَلَكُوتِ، لا بُدَّ أن يَظهَر هو الآخَرُ بتلك الهَيئةِ والصُّورةِ.
حتَّى إنَّني رَأَيتُ ما يُقارِبُ الأَربَعين غُصْنًا -بما يُشبِهُ الرَّأسَ- لِشَجَرةٍ مُتَوسِّطةٍ مِن أَشجارِ اللَّوزِ، ومِن ثَمَّ نَظَرتُ إلى أَحَدِ أَغصانِها فكان له ما يُقارِبُ الأَربَعِين مِنَ الأَغصانِ الصَّغِيرةِ بمَثابةِ الأَلسِنةِ، ورَأَيتُ هناك أَربَعِين زَهرةً قد تَفَتَّحَتْ مِن أَحَدِ تلك الأَلسِنةِ؛ فنَظَرتُ بدِقّةٍ وأَمعَنتُ بحِكمةٍ إلى تلك الأَزهارِ، فإذا في كلِّ زَهرةٍ ما يُقارِبُ الأَربَعِين مِنَ الخُيُوطِ الدَّقيقةِ المُنتَظِمةِ ذاتِ الأَلوانِ البَدِيعةِ والدِّقّةِ الرّائِعةِ، بحيثُ إنَّ كلَّ خَيطٍ مِن تلك الخُيُوطِ يُظهِرُ تَجَلِّيًا مِن تَجَلِّياتِ أَسماءِ الصّانِعِ ذِي الجَلالِ ويَستَنطِقُ اسمًا مِن أَسمائِه الحُسنَى.
فهل مِنَ المُمكِنِ أنَّ صانِعَ شَجَرةِ اللَّوزِ ذا الجَلالِ، وهو الحَكِيمُ ذُو الجَمالِ، الَّذي حَمَّل تلك الشَّجَرةَ الجامِدةَ جَمِيعَ تلك الوَظائِفِ، ثمَّ لا يُرَكِّبُ علَيها مَلَكًا مُوكَّلًا يُناسِبُها، وبمَثابةِ الرُّوحِ لها، ويَفهَمُ مَعنَى وُجُودِها، ويُعَبِّـرُ عن ذلك المَعنَى ويُعلِنُه للكائِناتِ ويَرفَعُه إلى الحَضرةِ المُقدَّسةِ؟!
أيُّها الصَّدِيقُ، إنَّ ما بَيَّنّاه حتَّى الآنَ، إنَّما كان تَمهِيدًا كي يُحضِرَ القَلبَ للقَبُولِ، ويُلزِمَ النَّفسَ بالتَّسلِيمِ، ويُهَيِّئَ العَقلَ إلى الإذعانِ؛ فإن كُنتَ قد فَهِمْتَه، وكُنتَ تَرغَبُ في مُقابَلةِ المَلائكةِ حَقًّا، فتَهَيَّأْ وتَطَهَّرْ مِنَ الأَوهامِ الرَّدِيئةِ؛ فدُونَك عالَمَ القُرآنِ الكَريمِ مُفَتَّحةً أَبوابُه، فإنَّ جَنّةَ القُرآنِ مُفَتَّحةُ الأَبوابِ دائِمًا.. فادْخُلْ، وانظُرْ إلى أَجمَلِ صُورةٍ للمَلائِكةِ في فِردَوسِ القُرآنِ، فكُلُّ آيةٍ مِن آياتِ التَّنزِيلِ شُرْفةٌ.. ومِن هذه الشُّرُفاتِ.. قِفْ.. وانظُرْ.. وتَمَتَّعْ:
﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا﴾.
﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾.
﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾.
﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.
ثمَّ أَنصِتْ إلى الثَّناءِ علَيهِم: ﴿سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾.
وإن كُنتَ تَرغَبُ في مُقابَلةِ الجِنِّ فادخُلْ حِصنَ سُورةِ: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا..﴾
ثمَّ أَنصِتْ إلَيهِم ماذا يَقُولُون؟ واعتَبِر.. إنَّهم يَقُولُون: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾.
❀ ❀ ❀
[المقصد الثاني: حول القيامة وموت الدنيا وحياة الآخرة]
المَقصَدُ الثّاني
القِيامة ودَمارُ الدنيا والحياةِ الآخرة
فيه أَربَعةُ أُسُسٍ مع مُقدِّمةٍ.
[مقدمة: ستة أسئلة أساسية حول إفناء الدنيا وإنشاء الآخرة]
المُقدِّمة
إذا ادَّعى أَحَدٌ أنَّ هذه المَدِينةَ أوِ القَصرَ سيُدَمَّرُ، ويُبنَى ويُعْمَرُ مِن جَدِيدٍ عِمْرانًا مُحكَمًا رَصِينًا، فلا شَكَّ أنَّه يَتَرتَّبُ على دَعواه هذه سِتّةُ أَسئِلةٍ:
الأوَّلُ: لِماذا يُدَمَّر؟ وهل هناك مِن مُبَرِّرٍ؟ فإذا أَثبَتَ أنْ نعم، فهُنا يَرِدُ:
السُّؤالُ الثاني: هلِ الَّذي يَهدِمُ ثمَّ يَبنِي ويَعْمُرُ قادِرٌ على عَمَلِه؟ وإذا أَثبَتَ هذا أيضًا، فسَيَلِي:
السُّؤالُ الثالثُ هكذا: وهل يُمكِنُ هَدْمُه؟
وسُؤالٌ آخَرُ: وهل يُهدَمُ فِعلًا؟ فإذا أَثبَتَ أنَّه يُمكِنُ هَدْمُه وأنَّه سوف يَهدِمُه فِعلًا فسيَرِدُ هنا سُؤالانِ:
هل يُمكِنُ إعمارُ هذه المَدِينةِ الرّائِعةِ أوِ القَصرِ مِن جَديدٍ؟ فإن كان الجَوابُ: نعم، إنَّه مُمكِنٌ.
فسَيَرِدُ السُّؤالُ: وهل يَعْمُرُه فِعلًا ؟
فإذا كان الجَوابُ: نعم. وأَثبَتَ كلَّ ذلك، عِندَئذٍ لا تَبقَى أيّةُ ثَغْرةٍ في جَمِيعِ جَوانِبِ هذه المَسأَلةِ لِدُخُولِ أيّةِ شُبهةٍ أو شَكٍّ أو وَهْمٍ فيها.
وهكذا على غِرارِ هذا المِثالِ، فهُناك مُبَرِّرٌ لِهَدْمِ قَصرِ الدُّنيا ومَدِينةِ هذه الكائِناتِ وتَخرِيبِها وتَدمِيرِها، ومِن ثَمَّ تَعمِيرِها وبِنائِها، وأنَّ هناك مَن هو قادِرٌ ومُهَيمِنٌ على ذلك، وبالتّالي فهو يُمكِنُه هَدْمُها، وسيَهدِمُها فِعلًا، ومِن ثَمَّ فهو يُمكِنُه تَعمِيرُها، وسيَعْمُرُها فِعلًا مِن جَدِيدٍ. وستَثْبُتُ لَدَينا هذه المَسائِلُ بعدَ الأَساسِ الأَوَّلِ.
[الأساس الأول: الروح باقية لم تُخلق للفناء]
الأساسُ الأوَّل: إنَّ الرُّوحَ باقِيةٌ قَطْعًا، إذ إنَّ الدَّلائِلَ الَّتي دَلَّت على وُجُودِ المَلائِكةِ والرُّوحانيّاتِ في “المَقصَدِ الأَوَّلِ” هي نَفسُها دَلائِلُ مَسأَلَتِنا (بَقاءِ الرُّوحِ) هذه؛ وعِندِي أنَّ هذه المَسأَلةَ ثابِتةٌ إلى دَرَجةٍ بحَيثُ يكُونُ مِنَ العَبَثِ أن نَخُوضَ في تَوضِيحِها.
نعم، إنَّها قَصِيرةٌ ودَقِيقةٌ تلك المَسافةُ الَّتي بَينَنا وبينَ القَوافِلِ الَّتي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى مِنَ الأَرواحِ الباقِيةِ في عالَمِ البَرزَخِ وعالَمِ الأَرواحِ والمُنتَظِرةِ للرَّحِيلِ إلى الآخِرةِ، بحَيثُ لا نَحتاجُ إلى بُرهانٍ لإيضاحِها؛ فاللِّقاءاتُ الَّتي بَينَها وبينَ ما لا يُعَدُّون مِن أَهلِ الكَشْفِ والشُّهُودِ، ورُؤيةُ أَهلِ كَشْفِ القُبُورِ لهم، وعَلاقاتُ عامّةِ النّاسِ وارتِباطُهُم معَهم في الرُّؤَى الصّادِقةِ، ومُحاوَراتُ قِسمٍ مِنَ العَوامِّ معَهم.. كلُّ ذلك جَعَل الرُّوحَ وبَقاءَها -لِكَثْرةِ التَّواتُرِ- مِنَ المَفاهِيمِ المَعرُوفةِ للبَشَرِيّةِ.
بَيْدَ أنَّ الفِكْرَ المادِّيَّ في عَصْرِنا هذا قد أَسْكَرَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ، فأَوْغَلَ الوَهْمَ والشُّبْهةَ في أَبسَطِ الأُمُورِ البَدِيهِيّةِ؛ فلِأَجلِ إزالةِ هذه الأَوهامِ والوَساوِسِ، سنُشِيرُ إلى “أَربَعةِ مَنابِعَ” فقط، مِن بَينِ تلك المَنابعِ الغَزِيرةِ للحَدْسِ القَلْبِيِّ والإذعانِ العَقْلِيِّ مُمَهِّدِين لها “بمُقَدِّمةٍ”.
[مقدمة في إثبات بقاء الروح]
المُقدِّمة:
[صفات الباقي سبحانه تستلزم بقاء مُتلقيها]
كما أُثبِتَ في الحَقيقةِ الرّابِعةِ مِنَ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” أنَّ الجَمالَ البَدِيعَ الخالِدَ الأَبَدِيَّ الَّذي ليس له مَثِيلٌ يَطلُبُ خُلُودَ مُشتاقِيه وبَقاءَهم، وهُم كالمِرآةِ العاكِسةِ لذلك الجَمالِ؛ وأنَّ الصَّنعةَ الكامِلةَ الخالِدةَ غيرَ النّاقِصةِ تَستَدعِي دَوامَ مُنادِيها المُتَفكِّرِين؛ وأنَّ الرَّحمةَ والإحسانَ غيرَ النِّهائيِّ يَقتَضِيانِ دَوامَ تَنَعُّمِ شاكِرِيهما المُحتاجِين.. فذلك المُشتاقُ الَّذي هو كالمِرآةِ المَصقُولةِ، وذلك المُنادِي المُتَفكِّرُ، وذلك الشَّاكِرُ المُحتاجُ، إنْ هو إلّا رُوحُ الإنسانِ أَوَّلًا؛ لذا فالرُّوحُ باقِيةٌ بصُحبةِ ذلك الجَمالِ وذلك الكَمالِ وتلك الرَّحمةِ.. في طَرِيقِ الخُلُودِ والأَبَدِيّةِ.
[حتى أبسط المخلوقات لم تُخلق للفناء]
وأَثبَتْنا كذلك في الحَقيقةِ السّادِسةِ مِنَ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” أنَّه لَيسَتِ الرُّوحُ البَشَرِيّةُ وَحْدَها لم تُخلَقْ للفَناءِ، بل حتَّى أَبسَطُ المَخلُوقاتُ كذلك لم تُخلَقْ للفَناءِ، بل لها نَوعٌ مِنَ البَقاءِ؛ فالزَّهرةُ البَسِيطةُ -مَثلًا- الَّتي لا تَملِكُ رُوحًا مِثلَنا، هي أَيضًا عِندَما تَرحَلُ مِنَ الوُجُودِ الظّاهِرِيِّ تَبقَى صُورَتُها مُحفُوظةً في كَثِيرٍ مِنَ الأَذهانِ، كما يَدُومُ قانُونُ تَراكِيبِها في مِئاتٍ مِن بُذَيراتِها المُتَناهِيةِ في الصِّغَرِ، فتُمَثِّـلُ بذلك نَمُوذَجًا لِنَوعٍ مِنَ البَقاءِ بآلافٍ مِنَ الأَوجُهِ.
وما دامَ نَمُوذَجُ صُورةِ الزَّهرةِ وقانُونُ تَركِيبِها، الشَّبِيهُ جُزْئيًّا بالرُّوحِ، باقيًا ومَحفُوظًا مِن قِبَلِ الحَفِيظِ الحَكِيمِ في بُذَيراتِها الدَّقيقةِ بكلِّ انتِظامٍ في خِضَمِّ التَّقلُّباتِ الكَثِيرةِ، فلا شَكَّ أنَّ رُوحَ البَشَرِ -الَّتي هي قانُونٌ أَمرِيٌّ نُورانِيٌّ تَملِكُ ماهِيّةً سامِيةً، وهي ذاتُ حَياةٍ وشُعُورٍ، وخَصائِصَ جامِعةً شامِلةً جِدًّا وعالِيةً جِدًّا، وقد أُلبِسَت وُجُودًا خارِجِيًّا- لا بُدَّ أنَّها باقِيةٌ للأَبَدِ، ومَشدُودةٌ بالسَّرمَدِيّةِ، وذاتُ ارتِباطٍ معَ الخُلُودِ دُونَ أَدنَى شَكٍّ. وكيف تَدَّعي إن لم تَفهَمْ هذا: إنَّني إنسانٌ واعٍ..؟
فهل يُمكِنُ أن يُسأَلَ الحَكِيمُ ذُو الجَلالِ والحَفِيظُ الباقي الَّذي أَدرَجَ تَصمِيمَ الشَّجَرةِ الباسِقةِ وحَفِظَ قانُونَ تَركِيبِها الشَّبِيهَ بالرُّوحِ في بِذرةٍ مُتَناهِيةٍ في الصِّغَرِ: كيف يُحافِظُ على أَرواحِ البَشَرِ بعدَ مَوتِهم؟
[المنبع الأول: الدليل الأنفُسي على بقاء الروح]
المَنبَعُ الأوَّل: أَنفُسِيٌّ.
أي إنَّ كلَّ مَن يُدَقِّقُ النَّظَرَ في حَياتِه ويُفكِّرُ مَلِيًّا في نَفسِه، يُدرِكُ أنَّ هنالك رُوحًا باقِيةً.
نعم، إنَّه بَدِيهيٌّ أنَّ كلَّ رُوحٍ رَغمَ التَّبَدُّلِ والتَّغَيُّرِ الجارِي على الجِسمِ عَبْرَ سِنِيْ العُمُرِ تَظَلُّ باقِيةً بعَينِها دُونَ أن تَتَأثَّرَ، لِذا فما دامَ الجَسَدُ يَزُولُ ويُستَحْدَثُ، معَ ثَباتِ الرُّوح، فلا بُدَّ أنَّ الرُّوحَ حتَّى عِندَ انسِلاخِها بالمَوتِ انسِلاخًا تامًّا، وزَوالَ الجَسَدِ كُلِّه، لا يَتَأثَّرُ بَقاؤُها ولا تَتَغيَّرُ ماهِيَّتُها.. أي إنَّها باقِيةٌ ثابِتةٌ رَغمَ هذه التَّغَيُّراتِ الجَسَدِيّةِ؛ وكلُّ ما هنالك أنَّ الجَسَدَ يُبدِّلُ أَزياءَه تَدرِيجِيًّا طَوالَ حَياتِه معَ بَقاءِ الرُّوحِ، أمّا عندَ المَوتِ فيُجَرَّدُ نِهائِيًّا وتَثبُتُ الرُّوحُ.
فبِالحَدْسِ القَطعِيِّ، بل بالمُشاهَدةِ نَرَى أنَّ الجَسَدَ قائِمٌ بالرُّوحِ، أي: لَيسَتِ الرُّوحُ قائِمةً بالجَسَدِ، وإنَّما الرُّوحُ قائِمةٌ ومُسَيطِرةٌ بنَفسِها؛ ومِن ثَمَّ فتَفَرُّقُ الجَسَدِ وتَبَعثرُه بأيِّ شَكلٍ مِنَ الأَشكالِ وتَجَمُّعُه لا يَضُرُّ باستِقلاليّةِ الرُّوحِ ولا يُخِلُّ بها أَصلًا، فالجَسَدُ عُشُّ الرُّوحِ ومَسكَنُها، وليس برِدائِها، وإنَّما رِداءُ الرُّوحِ غِلافٌ لَطِيفٌ وبَدَنٌ مِثاليٌّ ثابِتٌ إلى حَدٍّ مّا ومُتَناسِبٌ بِلَطافَتِه معَها، لِذا لا تَتَعرَّى الرُّوحُ تَمامًا حتَّى في حالةِ المَوتِ، بل تَخرُجُ مِن عُشِّها لابِسةً بَدَنَها المِثاليَّ وأَردِيَتَها الخاصّةَ بها.
[المنبع الثاني: الدليل الآفاقي على بقاء الروح]
المَنبَعُ الثاني: آفاقيٌّ..
وهو حُكْمٌ نابِعٌ مِنَ المُشاهَداتِ المُتَكرِّرةِ والوَقائِعِ المُتَعدِّدةِ ومِنَ التَّجارِبِ الكَثِيرةِ.
نعم، إذا ما فُهِمُ بَقاءُ رُوحٍ واحِدةٍ بعدَ المَماتِ، يَستَلزِمُ ذلك بَقاءَ “نَوعِ” تلك الرُّوحِ عامّةً، إذِ المَعلُومُ في عِلمِ المَنطِقِ أنَّه إذا ظَهَرَت خاصّةٌ “ذاتيّةٌ” في فَردٍ واحِدٍ، يُحكَمُ على وُجُودِ تلك الخاصّةِ في جَمِيعِ الأَفرادِ، لأَنَّها خاصَّةٌ ذاتيّةٌ، فلا بُدَّ مِن وُجُودِها في كلِّ فَردٍ؛ والحالُ أنَّ بَقاءَ الرُّوحِ لم يَظهَرْ في فَردٍ واحِدٍ فحَسْبُ، بل إنَّ الآثارَ الَّتي تَستَنِدُ إلى المُشاهَداتِ الَّتي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى والأَماراتِ الَّتي تَدُلُّ على بَقائِها ثابِتةٌ بصُورةٍ قَطعِيّةٍ إلى دَرَجةِ أنَّه كما لا يُساوِرُنا الشَّكُّ ولا يَأْخُذُنا الرَّيبُ أَبدًا في وُجُودِ القارّةِ الأَمرِيكيّةِ المُكتَشَفةِ حَدِيثًا واستِيطانِها بالسُّكّانِ، كذلك لا يُمكِنُ الشَّكُّ أنَّ في عالَمِ المَلَكُوتِ والأَرواحِ الآنَ أَرواحًا غَفِيرةً للأَمواتِ، لها عَلاقاتٌ معَنا، إذْ إنَّ هَدايانا المَعنَوِيّةَ تَمضِي إلَيها، وتَأْتينا مِنها فُيُوضاتُها النُّورانيّةُ.
وكذا يُمكِنُ الإحساسُ -وِجْدانًا بالحَدْسِ القَطعِيِّ- بأنَّ رُكْنًا أَساسًا في كِيانِ الإنسانِ يَظَلُّ باقِيًا بعدَ مَوْتِه، وهذا الرُّكنُ الأَساسُ هو الرُّوحُ، حيثُ إنَّ الرُّوحَ لَيسَت مُعَرَّضةً للِانحِلالِ والخَرابِ، لأنَّها بَسِيطةٌ ولها صِفةُ الوَحْدةِ؛ إذِ الِانحِلالُ والفَسادُ هما مِن شَأْنِ الكَثْرةِ والأَشياءِ المُرَكَّبةِ.
وكما بَيَّنّا سابِقًا فإنَّ الحَياةَ تُؤَمِّنُ طَرْزًا مِنَ الوَحْدةِ في الكَثْرةِ، فتكُونُ سَبَبًا لِنَوعٍ مِنَ البَقاءِ. أي إنَّ الوَحدةَ والبَقاءَ هما أَساسا الرُّوحِ حيثُ يَسرِيانِ مِنهُما إلى الكَثْرةِ.
لذلك فإنَّ فَناءَ الرُّوحِ إمّا أن يكُونَ بالهَدْمِ والتَّحَلُّلِ أو بالإعدامِ؛ فأمّا الهَدْمُ والتَّحَلُّلُ فلا تَسمَحُ لهما الوَحْدةُ والتَّفَرُّدُ بالوُلُوجِ، ولا تَتْرُكُهما البَساطةُ للإفسادِ، وأمّا الإعدامُ فلا تَسمَحُ به الرَّحمةُ الواسِعةُ للجَوادِ المُطلَقِ، ويَأْبَى جُودُه غيرُ المَحدُودِ أن يَستَرِدَّ ما أَعطَى مِن نِعمةِ الوُجُودِ لِرُوحِ الإنسانِ اللَّائِقةِ والمُشتاقةِ إلى ذلك الوُجُودِ.
[المنبع الثالث الروح قانون أمري]
المَنبَعُ الثَّالث: الرُّوحُ قانُونٌ أَمرِيٌّ، حَيٌّ، ذُو شُعُورٍ، نُورانِيٌّ، وذاتُ حَقِيقةٍ جامِعةٍ، مُعَدَّةٍ لِاكتِسابِ الكُلِّيّةِ والماهِيّةِ الشّامِلةِ، وقد أُلبِسَت وُجُودًا خارِجِيًّا.
إذ مِنَ المَعلُومِ أنَّ أَضعَفَ الأَوامِرِ القانُونيّةِ يَظهَرُ علَيها الثَّباتُ والبَقاءُ، لأنَّه إذا أَمْعَنّا النَّظَرَ نَرَى بأنَّ هُناك “حَقِيقةً ثابِتةً” في جَمِيعِ الأَنواعِ المُعَرَّضةِ للتَّغَيُّرِ، حيثُ تَتَدحرَجُ ضِمنَ التَّغَيُّراتِ والتَّحَوُّلاتِ وأَطوارِ الحَياةِ مُبَدِّلةً صُوَرًا وأَشكالًا مُختَلِفةً، ولَكِنَّها تَظَلُّ هي باقِيةً حَيّةً ولا تَمُوتُ أَبَدًا؛ فالقانُونُ الَّذي يَسرِي على “نَوْعٍ” مِنَ الأَحياءِ الأُخرَى يكُونُ جارِيًا أيضًا على الشَّخصِ “الفَرْدِ” للإنسانِ، إذِ الإنسانُ “الفَرْدُ” حَسَبَ شُمُولِ ماهِيَّتِه، وكُلِّيّةِ مَشاعِرِه وأَحاسِيسِه، وعُمُومِ تَصَوُّراتِه، قد أَصَبَح في حُكْمِ “النَّوعِ” وإن كانَ بَعدُ فَرْدًا واحِدًا، لأنَّ الفاطِرَ الجَلِيلَ قد خَلَق هذا الإنسانَ مِرآةً جامِعةً، وشامِلةً، معَ عُبُودِيّةٍ تامّةٍ، وماهِيّةٍ راقِيةٍ. فحَقِيقَتُه الرُّوحِيّةُ في كلِّ فَردٍ لا تَمُوتُ أَبدًا -بإذنِ اللهِ- وإن بَدَّلَت مِئاتِ الآلافِ مِنَ الصُّوَرِ، فتَستَمِرُّ رُوحُه حَيّةً كما بَدَأَت حَيّةً؛ لذا فإنَّ الرُّوحَ الَّتي هي حَقِيقةُ شُعُورِ ذلك الشَّخصِ وعُنصُرُ حَياتِه باقِيةٌ دائِمًا وأَبدًا بإبقاءِ اللهِ لها وبأَمرِه وإِذنِه تَبارَك وتَعالَى.
[المنبع الرابع القوانين السارية في الأنواع تشبه الروح]
المَنبَعُ الرّابع:
إنَّ القَوانِينَ المُتَحَكِّمةَ والسّارِيةَ في الأَنواعِ تَتَشابَهُ معَ الرُّوحِ إلى حَدٍّ مّا، إذْ إنَّ كِلَيهِما آتِيانِ مِن عالَمِ “الأَمرِ والإرادةِ”، فهي تَتَوافَقُ معَ الرُّوحِ بدَرَجةٍ جُزئيّةٍ مُعَيَّنةٍ لِصُدُورِهما مِنَ المَصدَرِ نَفسِه؛ فلو دَقَّقْنا النَّظَرَ في تلك النَّوامِيسِ والقَوانِينِ النّافِذةِ في الأَنواعِ الَّتي ليس لها إحساسٌ ظاهِرٌ، يَظهَرُ لنا أنَّه لو أُلبِسَتْ هذه القَوانِينُ الأَمرِيّةُ وُجُودًا خارِجِيًّا لَكانَتْ إذًا بمَثابةِ الرُّوحِ لِهذه الأَنواعِ، إذ إنَّ هذه القَوانِينَ ثابِتةٌ ومُستَمِرّةٌ وباقِيةٌ دائِمًا، فلا تُؤَثِّرُ في وَحْدَتِها التَّغَيُّراتُ ولا تُفسِدُها الِانقِلاباتُ.
فمَثلًا: إذا ماتَتْ شَجَرةُ تِينٍ وتَبَعْثَرَت، فإنَّ قانُونَ تَركِيبِها ونَشْأَتِها الَّذي هو بمَثابةِ رُوحِها يَبقَى حَيًّا في بِذْرَتِها المُتَناهِيةِ في الصِّغَرِ. أي إنَّ وَحْدةَ تلك القَوانِينِ لا تَفسُدُ ولا تَتَأَثَّرُ ضِمنَ جَمِيعِ التَّغَيُّراتِ والتَّقَلُّباتِ.
وطالَما أنَّ أَبْسَطَ الأَوامِرِ القانُونيّةِ السّارِيةِ وأَضعَفَها مُرتَبِطةٌ بالدَّوامِ والبَقاءِ، فيَلْزَمُ أنَّ الرُّوحَ الإنسانِيّةَ لا تَرتَبِطُ معَ البَقاءِ فحَسْبُ بل معَ أَبَدِ الآبادِ، لأنَّ الرُّوحَ بِنَصِّ القُرآنِ الكَرِيمِ: ﴿مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ آتٍ مِن عالَمِ الأَمرِ، فهو قانُونٌ ذُو شُعُورٍ ونامُوسٌ ذُو حَياةٍ، قد أَلْبَسَتْه القُدرةُ الإلٰهِيّةُ وُجُودًا خارِجِيًّا.
إذًا فكما أنَّ القَوانِينَ غيرَ ذاتِ الشُّعُورِ الآتِيةَ مِن عالَمِ “الأَمرِ” وصِفةِ “الإرادةِ” تَظَلُّ باقِيةً دائِمًا أو غالِبًا، فكذلك الرُّوحُ الَّتي هي صِنْوُها، آتِيةٌ مِن عالَمِ “الأَمرِ”، وهي تَجَلٍّ لِصِفةِ “الإرادةِ”، فهي أَلْيَقُ بالبَقاءِ وأَصلَحُ له. أي إنَّ بَقاءَها أَوْلَى بالثُّبُوتِ والقَطْعِيّةِ، لأنَّ لها وُجُودًا وامتِلاكًا للحَقِيقةِ الخارِجِيّةِ، وهي أَقوَى مِن جَمِيعِ القَوانِينِ وأَعلَى مَرتَبةً مِنها، ذلك لأنَّ لَها شُعُورًا، وهي أَدْوَمُ وأَثمَنُ قِيمةً مِنها لأنَّها تَمتَلِكُ الحَياةَ.
[الأساس الثاني: دواعي السعادة الأبدية قائمة]
الأساسُ الثاني
إنَّ هناك ضَرُورةً ومُقتَضًى للسَّعادةِ الأَبَدِيّةِ، وإنَّ الَّذي يَهَبُ تلك الحَياةَ والسَّعادةَ الأَبدِيّةَ قادِرٌ مُقتَدِرٌ، وإنَّ دَمارَ العالَمِ ومَوْتَ الدُّنيا مُمكِنٌ، وإنَّه سيَقَعُ فِعلًا؛ وإنَّ الحَشْرَ وبَعْثَ العالَمِ مِن جَدِيدٍ مُمكِنٌ أيضًا، وإنَّه ستَقَعُ هذه الواقِعةُ فِعلًا.
فهذه سِتُّ مَسائِلَ، سنُبَيِّنُها بالتَّعاقُبِ باختِصارٍ يُقنِعُ العَقلَ، عِلْمًا أنَّنا قد سُقْنا في “الكَلِمةِ العاشِرةِ” بَراهِينَ جَعَلَتِ القُلُوبَ تَرقَى إلى مَرتَبةِ الإيمانِ الكامِلِ؛ ولكنَّنا هنا نَتَناوَلُها فحَسْبُ بما يُقنِعُ العَقلَ ويُبهِتُه، كما فَعَل “سَعِيدٌ القَدِيمُ” في رِسالةِ “نُقطةٌ مِن نُورِ مَعرِفةِ اللهِ جَلَّ جَلالُه”.
نعم، إنَّ هناك ما يَقتَضِي الحَياةَ الأُخرَى، وإنَّ هناك مُبَرِّرًا للسَّعادةِ الأَبَدِيّةِ، وإنَّ البُرهانَ القاطِعَ الدّالَّ على هذه الضَّرُورةِ حَدْسٌ يَتَرشَّحُ مِن عَشَرةِ يَنابِيعَ ومَداراتٍ:
[المدار الأول: النظام]
المَدارُ الأوَّلُ: إذا تَأَمَّلْنا في أَرجاءِ الكَونِ نَرَى أنَّ هُناك نِظامًا كامِلًا وتَناسُقًا بَدِيعًا مَقصُودًا في جَمِيعِ أَجزِائِه، فنُشاهِدُ رَشَحاتِ الإرادةِ والِاختِيارِ، ولَمَعاتِ القَصْدِ في كلِّ جِهةٍ.. حتَّى نُبصِرُ نُورَ “القَصْدِ” في كلِّ شَيءٍ، وضِياءَ “الإرادةِ” في كلِّ شَأْنٍ، ولَمَعانَ “الِاختِيارِ” في كلِّ حَرَكةٍ، وشُعلةَ “الحِكمةِ” في كلِّ تَركِيبٍ، فشَهادةُ ثَمَراتِ كلِّ ما سَبَق تَلفِتُ الأَنظارَ.
وهكذا إن لم يكُن هناك حَياةٌ أُخرَى وسَعادةٌ خالِدةٌ، فماذا يَعني هذا النِّظامُ الرَّصِينُ؟ إنَّه سيَبقَى مُجَرَّدَ صُورةٍ ضَعِيفةٍ باهِتةٍ واهِيةٍ، وسيكُونُ نِظامًا كاذِبًا دُونَ أَساسٍ، وستَذهَبُ المَعنَوِيّاتُ والرَّوابِطُ والنِّسَبُ -الَّتي هي رُوحُ ذلك النِّظامِ والتَّناسُقِ البَدِيعِ- هَباءً مَنثُورًا..
أي إنَّ الحَياةَ الأُخرَى والسَّعادةَ الأَبدِيّةَ، هي الَّتي جَعَلَت هذا “النِّظامَ” نِظامًا فِعْلًا وأَعطَت له مَعنًى، لِذا فنِظامُ العالَمِ هذا يُشِيرُ إلى تلك السَّعادةِ الأَبدِيّةِ وحَياةِ الخُلُودِ.
[المدار الثاني: الحكمة]
المَدارُ الثاني: في خَلْقِ الكائِناتِ تَتَّضِحُ حِكمةٌ جَلِيّةٌ.
نعم، إنَّ الحِكمةَ الإلٰهِيّةَ الَّتي تَرمُزُ إلى عِنايَتِه الأَزَليّةِ واضِحةٌ وُضُوحًا تامًّا؛ فرِعايةُ مَصالِحِ كلِّ كائِنٍ، والْتِزامُ الفَوائِدِ والحِكَمِ فيها ظاهِرةٌ جَلِيّةٌ في الجَمِيعِ، وهي تُعلِنُ بلِسانِ حالِها أنَّ السَّعادةَ الأَبدِيّةَ مَوجُودةٌ، ذلك إن لم تكُن هُناك حَياةٌ أُخرَى أَبدِيّةٌ فيَجِبُ أن نُنكِرَ -مُكابِرِين ومُعانِدِين- كلَّ ما في هذه الكائِناتِ مِنَ الحِكَمِ والفَوائِدِ الثّابِتةِ البَدِيهِيّةِ.
نَقتَصِرُ على هذا مُكتَفِين بالحَقِيقةِ العاشِرةِ “للكَلِمةِ العاشِرةِ”، فقد أَظهَرَت هذه الحَقِيقةَ كالشَّمسِ.
[المدار الثالث: لا عبثية في الخلق، لا إسراف في الفطرة]
المَدارُ الثالث: لقد ثَبَت عَقْلًا وحِكْمةً واستِقراءً وتَجرِبةً: أنَّه لا عَبَثِيّةَ ولا إسرافَ في خَلْقِ المَوجُوداتِ، وأنَّ عَدَمَهما يُشِيرُ إلى السَّعادةِ الأَبَدِيّةِ والدَّارِ الآخِرةِ.
والدَّليلُ على أنَّه ليس في الفِطْرةِ إسرافٌ ولا في الخَلْقِ عَبَثٌ، هو أنَّ الخالِقَ سُبحانَه وتَعالَى قدِ اختارَ لِخَلْقِ كلِّ شَيءٍ أَقْرَبَ طَرِيقٍ، وأَدْنَى جِهةٍ، وأَرَقَّ صُورةٍ، وأَجمَلَ كَيفِيّةٍ، فقد يُسنِدُ إلى شَيءٍ واحِدٍ مِئةَ وَظِيفةٍ، وقد يُعَلِّقُ على شَيءٍ دَقِيقٍ واحِدٍ أَلْفًا مِنَ الغاياتِ والنَّتائِجِ.
فما دامَ ليس هُناك إسرافٌ، ولا يُمكِنُ أن يكُون هُناك عَبَثٌ، فلا بُدَّ أن تَتَحقَّقَ تلك الحَياةُ الأُخرَى الأَبدِيّةُ، وذلك [أنه] إن لم يكُن هُناك رُجُوعٌ إلى الحَياةِ مِن جَدِيدٍ، فإنَّ العَدَمَ يُحَوِّلُ كُلَّ شَيءٍ إلى عَبَثٍ، بمَعنَى أنَّ كُلَّ شَيءٍ كان إسرافًا وهَدَرًا.
إلّا أنَّ عَدَمَ الإسرافِ الثّابِتَ حَسَبَ عِلمِ وَظائِفِ الأَعضاءِ في الفِطْرةِ جَمِيعِها -ومِنها الإنسانُ- لَيُبيِّنُ لنا أنَّه لا يُمكِنُ أن تَذْهَبَ هَباءً، فيكُونُ إسرافًا جَمِيعُ الِاستِعداداتِ المَعنَوِيّةِ، والآمالِ غيرِ النِّهائيّةِ، والأَفكارِ والمُيُولِ.. حيثُ إنَّ المَيْلَ الأَصِيلَ إلى التَّكامُلِ المَغرُوسِ في أَعماقِ الإنسانِ يُفصِحُ عن وُجُودِ كَمالٍ مَعَيَّنٍ، وأنَّ مَيْلَه وتَطَلُّعَه إلى السَّعادةِ يُعلِنُ إعلانًا قاطِعًا عن وُجُودِ سَعادةٍ خالِدةٍ، وأنَّه المُرَشَّحُ لِهذه السَّعادةِ.
فإن لم يكُنِ الأَمرُ هكذا، فالمَعنَوِيّاتُ الرَّصِينةُ والآمالُ الرّاقِيةُ السّامِيةُ الَّتي تُؤَسِّسُ ماهِيّةَ الإنسانِ الحَقِيقيّةَ تكُونُ كُلُّها -حاشَ للهِ- إسرافًا وعَبَثًا، وتَذْهَبُ هَباءً، خِلافًا للحِكمةِ المَوجُودةِ في جَمِيعِ الخَلْقِ.
نَكتَفِي هنا بهذا القَدْرِ لأَنَّنا قد أَثبَتْناها سابِقًا في الحَقِيقةِ الحادِيةَ عَشْرةَ مِنَ “الكَلِمةِ العاشِرةِ”.
[المدار الرابع: نظائر القيامة]
المَدارُ الرابع: إنَّ التَّبَدُّلاتِ والتَّحَوُّلاتِ الَّتي تَحدُثُ في كَثِيرٍ مِنَ الأَنواعِ، حتَّى في اللَّيلِ والنَّهارِ، وفي الشِّتاءِ والرَّبِيعِ، وفي الهَواءِ، وحتَّى في جَسَدِ الإنسانِ خِلالَ حَياتِه، والنَّومِ الَّذي هو أَخُو المَوتِ.. تُشابِهُ الحَشْرَ والنَّشْرَ، وهي نَوعٌ مِنَ القِيامةِ لِكُلٍّ مِنها، وتُشْعِرُ بحُدُوثِ القِيامةِ الكُبْرَى وتُخبِرُ عنها رَمْزًا.
فمِثلَما ساعاتُنا تَعُدُّ اليَومَ، والسّاعةَ، والدَّقِيقةَ، والثّانيةَ بحَرَكةِ تُرُوسِها، فتُخبِرُ عقارِبُها بحَرَكَتِها عن كُلِّ واحِدةٍ مِنها، وبالَّتي تَلِيها -أي: إنَّ كلَّ واحِدةٍ مِنها مُقدِّمةٌ للَّتي تَلِيها- كذلك هذه الدُّنيا فهي كساعةٍ إلٰهِيّةٍ عَظِيمةٍ، تَعمَلُ بدَوَرانِها وتَعاقُبِها على عَدِّ الأَيّامِ والسِّنِينَ وعُمُرِ البَشَرِ وعُمُرِ العالَمِ، فتُخبِرُ كلٌّ مِنها عنِ الَّتي تَلِيها وهي مُقدِّمةٌ لها.. فكما أنَّها تُحدِثُ الصُّبحَ بعدَ اللَّيلِ، والرَّبِيعَ بعدَ الشِّتاءِ، كذلك تُخبِرُنا رَمْزًا عن حُدُوثِ صُبْحِ القِيامةِ بعدَ المَوتِ وصُدُورِها مِن تلك السّاعةِ العُظمَى.
وهناك أَشكالٌ مُختَلِفةٌ كَثِيرةٌ مِن أَنواعِ القِيامةِ يَمُرُّ بها الإنسانُ في مُدّةِ حَياتِه، ففي كلِّ لَيلةٍ هناك نَوعٌ مِنَ المَوت، وفي الصَّباحِ يَرَى نَوْعًا مِنَ البَعْثِ، أي إنَّه يَرَى أَماراتِ الحَشرِ، بل إنَّه يَرَى كيفَ تَتَبدَّلُ جَمِيعُ ذَرَّاتِ جِسمِه في بِضعِ سِنِين، حتَّى إنَّه يَرَى نَمُوذَجَ قِيامةٍ وحَشْرٍ تَدرِيجِيَّينِ مَرَّتَينِ في السَّنةِ الواحِدةِ مِن تلك التَّبَدُّلاتِ الَّتي تَحصُلُ في أَجزاءِ جِسمِه جَمِيعِها؛ ويُشاهِدُ كذلك الحَشْرَ والنُّشُورَ والقِيامةَ النَّوعِيّةَ في كلِّ رَبيعٍ في أَكثَرَ مِن ثَلاثِ مِئةِ أَلفٍ مِن أَنواعِ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ.
فهذا الحَشْدُ مِنَ الأَماراتِ والإشاراتِ الَّتي لا تُحَدُّ على الحَشْرِ، وهذا الحَدُّ مِنَ العَلاماتِ والرُّمُوزِ الَّتي لا تُحصَى على النُّشُورِ، ما هو إلّا بمَثابةِ تَرَشُّحاتٍ للقِيامةِ الكُبْرَى تُشِيرُ إلى الحَشرِ الأَكبَرِ. فحُدُوثُ مِثلِ هذه القِيامةِ النَّوعِيّةِ وما يُشبِهُ الحَشْرَ والنُّشُورَ في الأَنواعِ، مِن قِبَلِ الخالِقِ الحَكِيمِ، بإحيائِه جَمِيعَ الجُذُورِ وقِسمًا مِنَ الحَيَواناتِ بعَينِها، وإعادَتِه سُبحانَه سائِرَ الأَشياءِ والأَوراقِ والأَزهارِ والأَثمارِ بمِثلِها، يُمكِنُ أن يكُونَ دَلِيلًا على القِيامةِ الشَّخصِيّةِ لِكُلِّ فَردٍ إنسانِيٍّ ضِمنَ القِيامةِ العامّةِ؛ حيثُ إنَّ “الفَرْدَ” الإنسانِيَّ يُقابِلُ “النَّوعَ” مِنَ الكائِناتِ الأُخرَى، لأنَّ نُورَ الفِكْرِ أَعطَى مِنَ السَّعةِ العَظِيمةِ لآمالِه وأَفكارِه بحَيثُ يَتَمكَّنُ أن يُحِيطَ بالماضِي والمُستَقبَلِ، بل إذا ابتَلَع الدُّنيا لا يَشبَعُ.. أمّا في الأَنواعِ الأُخرَى فماهِيّةُ الفَردِ جُزئيّةٌ، وقِيمَتُه شَخصِيّةٌ، ونَظَرُه مَحدُودٌ، وكَمالُه مَحصُورٌ، وأَلَمُه آنِيٌّ، ولَذَّتُه وَقْتِيّةٌ، بَينَما البَشَرُ ماهِيَّتُه سامِيةٌ، ومِيزاتُه راقيةٌ وقِيمَتُه غاليةٌ، ونَظَرُه شامِلٌ عامٌّ، وكَمالُه لا يَحُدُّه شَيءٌ، وقِسمٌ مِن آلامِه ولَذّاتِه المَعنَوِيّةِ دائِمةٌ؛ ولِهذا فإنَّ ما يُشاهَدُ مِن تَكرارِ أَشكالِ القِيامةِ والحَشرِ في سائِرِ الأَنواعِ يُخبِرُ ويَرمُزُ إلى أنَّ كُلَّ فَرْدٍ إنسانِيٍّ يُعادُ بعَينِه ويُحشَرُ في القِيامةِ الكُبْرَى العامّةِ.
ولَمّا كُنّا قد أَثبَتْنا هذا في الحَقيقةِ التّاسِعةِ مِنَ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” بشَكلٍ قَطْعِيٍّ كمَن يُثبِتُ حاصِلَ ضَربِ الِاثنَينِ في اثنَينِ يُساوِي أَرْبعًا، فقد أَوْجَزْناه هنا.
[المدار الخامس: الميل الفطري إلى البقاء]
المَدارُ الخامِسُ: يَرَى العُلَماءُ المُحَقِّقُون أنَّ أَفكارَ البَشَرِ وتَصَوُّراتِه الإنسانيّةَ الَّتي لا تَتَناهَى المُتَولِّدةَ مِن آمالِه غيرِ المُتَناهِيةِ، الحاصِلةَ مِن مُيُولِه الَّتي لا تُحَدُّ، النّاشِئةَ مِن قابِلِيّاتِه غيرِ المَحصُورةِ، المُندَمِجةَ في استِعداداتِه الفِطْرِيّةِ غيرِ المَحدُودةِ، المُندَرِجةَ في جَوْهَرِ رُوحِه، كلٌّ مِنها تَمُدُّ أَصابِعَها فتُشِيرُ وتُحَدِّقُ ببَصرِها فتَتَوجَّهُ إلى عالَمِ السَّعادةِ الأَبدِيّةِ وَراءَ عالَمِ الشَّهادةِ هذا.
فالفِطرةُ الَّتي لا تَكذِبُ أَبدًا والَّتي فيها ما فيها مِن مَيْلٍ شَدِيدٍ قَطْعِيٍّ لا يَتَزحْزَحُ إلى السَّعادةِ الأُخرَوِيّةِ الخالِدةِ تُعطِي للوِجدانِ حَدْسًا قَطْعِيًّا على تَحَقُّقِ الحَياةِ الأُخرَى والسَّعادةِ الأَبَدِيّةِ.
نَـكتَفي هنا بهذا القَدْرِ حيثُ أَظهَرَتِ الحَقِيقةُ الحادِيةَ عَشْرةَ مِنَ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” هذه الحَقِيقةَ واضِحةً كالنَّهارِ.
[المدار السادس: رحمة أرحم الراحمين]
المَدارُ السّادس: إنَّ رَحْمةَ خالِقِ الكَونِ وهو الرَّحمٰنُ الرَّحِيمُ تَدُلُّ على السَّعادةِ الأَبدِيّة.
نعم، إنَّ الَّتي جَعَلَتِ النِّعمةَ نِعمةً فِعلًا وأَنقَذَتْها مِنَ النِّقْمةِ، ونَجَّتِ المَوجُوداتِ مِن نَحِيبِ الفِراقِ الأَبدِيِّ، هي السَّعادةُ الخالِدةُ ودارُ الخُلُودِ؛ فمِن شَأْنِ الرَّحمةِ ألّا تَحرِمَ البَشَرَ مِنها، إذ لو لم تُوهَبْ تلك السَّعادةُ ودارُ الخُلُودِ الَّتي هي رَأْسُ كلِّ نِعمةٍ وغايَتُها ونَتِيجَتُها الأَساسُ، أي إن لم تُبعَثِ الدُّنيا بعدَ مَوْتِها بصُورةِ “آخِرةٍ”، لَتَحوَّلَت جَمِيعُ النِّعَمِ إلى نِقَمٍ.. وهذا يَستَلزِمُ إنكارَ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ المَشهُودةِ الظّاهِرةِ بَداهةً وبالضَّرُورةِ في الكَونِ، والثّابِتةِ بشَهادةِ جَمِيعِ الكائِناتِ والَّتي هي الحَقِيقةُ الثّابِتةُ الواضِحةُ وُضُوحًا أَسطَعَ مِنَ الشَّمسِ.
فإذا ما افْتَرَضْتَ أنَّ نِهايةَ الحَياةِ الإنسانيّةِ تَصِيرُ إلى الفِراقِ الأَبدِيِّ وإلى العَدَمِ، ثمَّ دَقَّقْتَ النَّظَرِ في بعضِ الآثارِ اللَّطِيفةِ لِتِلك “الرَّحمةِ” وأَنوارِها في نِعمةِ الحُبِّ والحَنانِ والعَقلِ.. فإنَّك تَرَى أنَّ تلك المَحَبّةَ تُصبِحُ مُصِيبةً كُبْرَى.. وذلك الحَنانَ اللَّذيذَ يكُونُ داءً وَبِيلًا.. وذلك العَقلَ النُّورانِيَّ يكُونُ بَلاءً عَظِيمًا.
فالرَّحمةُ إذًا -لأنَّها رَحمةٌ- لا يُمكِنُ أن تُقابِلَ المَحَبّةَ الحَقِيقيّةَ بذلك الفِراقِ الأَبدِيِّ والعَدَمِ، أي: لا بُدَّ مِن حَياةٍ أُخرَى.
لَخَّصْنا هذه الحَقِيقةَ هنا حيثُ إنَّ الحَقِيقةَ الثّانيةَ مِنَ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” قد أَوْضَحَتْها بكلِّ جَمالٍ ووُضُوحٍ.
[المدار السابع: حقائق الأشياء ثابتة]
المَدارُ السّابع: إنَّ جَمِيعَ المَحاسِنِ وجَمِيعَ الكَمالاتِ وجَمِيعَ الأَشواقِ واللَّطائفِ وجَمِيعَ الِانجِذاباتِ والتَّرَحُّماتِ الَّتي نَعلَمُها ونَراها في هذه الكائِناتِ ما هي إلّا مَعانٍ، ومَضامِينُ، وكَلِماتٌ مَعنَويةٌ، تُبيِّنُ للقَلبِ بكُلِّ وُضُوحٍ وتُظهِرُ للعَقلِ بكُلِّ جَلاءٍ، أنَّها تَجَلِّياتُ كَرَمِ الخالِقِ الجَلِيلِ وإحسانِه، وأنَّها تَجَلِّياتُ رَحمَتِه الخالِدةِ ولُطفِه الدّائِمِ سُبحانَه.
ولَمّا كانَت هُناك “حَقِيقةٌ” ثابِتةٌ في عالَمِنا، ورَحمةٌ حَقِيقيّةٌ واضِحةٌ بالبَداهةِ، فلا بُدَّ أنْ ستكُونُ السَّعادةَ الأَبدِيّةَ. وقد أَوْضَحَتِ الحَقِيقةُ الرّابِعةُ معَ الثّانيةِ مِنَ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” هذه الحَقِيقةَ كالشَّمسِ.
[المدار الثامن: وجدان الإنسان]
المَدارُ الثّامن: إنَّ الوِجدانَ الشّاعِرَ للإنسانِ الَّذي هو فِطْرَتُه، يَدُلُّ على الحَياةِ الأُخرَى، ويَرنُو إلى السَّعادةِ الأَبدِيّةِ.
نعم، إنَّ الَّذي يُصغِي إلى وِجدانِه اليَقِظِ فإنَّه يَسمَعُ حَتْمًا صَوْتَ “الأَبدِ.. الأَبدِ”، حتَّى إذا ما أُعطِيَ كلُّ ما في الكائِناتِ لذلك الوِجدانِ فإنَّه لا يَسُدُّ حاجَتَه إلى الأَبدِ، بمَعنَى أنَّ ذلك الوِجدانَ مَخلُوقٌ لذلك الأَبدِ، وأنَّ هذا الجَذْبَ والِانجِذابَ الوِجدانِيَّ لا يكُونُ إلّا بجَذْبٍ مِن غايةٍ حَقِيقيّةٍ وبجاذِبٍ حَقِيقيٍّ.
وقد أَظهَرَت خاتِمةُ الحَقِيقةِ الحادِيةَ عَشْرةَ مِنَ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” هذه الحَقِيقةَ.
[المدار التاسع: إخبار الصادق المصدوق ﷺ]
المَدارُ التاسعُ: إنَّ كلامَ النَّبيِّ الصّادِقِ المُصَدَّقِ المَصدُوقِ مُحمَّدٍ العَرَبيِّ الهاشِمِيِّ علَيه أَفضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ قد فَتَح أَبوابَ السَّعادةِ الأَبدِيّةِ، وإنَّ أَحادِيثَه الشَّرِيفةَ نَوافِذُ مُفَتَّحةٌ على تلك السَّعادةِ الخالِدةِ تُطِلُّ علَيها، وهو إذ يَملِكُ قُوّةَ إجماعِ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلَام جَمِيعِهِم وتَواتُرَ الأَولياءِ الصّادِقين كلِّهِم، فقد رَكَّزَ بيَقينٍ راسِخٍ كلَّ دَعواه، بكُلِّ ما أُوتِيَ مِن قُوّةٍ، بَعدَ تَوحِيدِ الله، على هذه النُّقطةِ الأَساسِ، وهي الحَشْرُ والحَياةُ الآخِرةُ، فهل هُناك شَيءٌ يُمكِنُ أن يُزَحزِحَ هذه القُوّةَ الصّامِدةَ؟
وقد أَوضَحَتِ الحَقِيقةُ الثّانيةَ عَشْرةَ مِنَ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” هذه الحَقِيقةَ بوُضُوحٍ تامٍّ.
[المدار العاشر: بلاغات القرآن الكريم]
المَدارُ العاشِرُ: وهو البَلاغُ المُبِينُ للقُرآنِ الكَرِيمِ الَّذي حافَظَ على إعجازِه -بسَبعةِ أَوجُهٍ- طَوالَ ثَلاثةَ عَشَرَ قَرْنًا وما زالَ، كما أَثبَتْنا أَربَعِين نَوْعًا مِن إعجازِه في “الكَلِمةِ الخامِسةِ والعِشرِين”.
نعم، إنَّ إخبارَ القُرآنِ نَفسِه عنِ الحَشرِ الجِسْمانِيِّ هو تَنوِيرٌ كافٍ وكَشْفٌ بَيِّنٌ له، فهو المِفتاحُ للحِكمةِ المُودَعةِ في الكائِناتِ وللسِّرِّ المُغلَقِ للعالَمِ؛ ولقد دَعا هذا القُرآنُ العَظِيمُ مِرارًا إلى التَّفَكُّرِ ولَفَتَ الأَنظارَ إلى آلافٍ مِنَ البَراهِينِ العَقلِيّةِ القَطْعِيّة.
[دليل القياس التمثيلي لإثبات الحياة الأبدية]
فالآياتُ الكَرِيمةُ مَثلًا: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾، ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، إنَّما هي نَماذِجُ للقِياسِ التَّمثيليِّ، وإنَّ ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ نَمُوذَجٌ آخَرُ يُشِيرُ إلى دَليلِ العَدالةِ في الكَونِ، وآياتٌ كَثِيرةٌ أُخرَى قد وُضِعَت فيها نَظّاراتٌ “مَراصِدُ” ذاتُ عَدَساتٍ مُكَبِّرةٍ كَثِيرةٍ كي تَنظُرَ بإمعانٍ مِن خِلالِها إلى السَّعادةِ الأَبَدِيّةِ في الحَشْرِ الجِسمانِيِّ.
وقد أَوْضَحْنا في رِسالةِ “النُّقْطة” القِياسَ التَّمثِيليَّ المَوجُودَ في الآيتَينِ الأُولَيَيْنِ معَ سائِرِ الآياتِ الأُخرَى، وخُلاصَتُه: أنَّ الإنسانَ كُلَّما انتَقَلَ مِن طَوْرٍ إلى طَوْرٍ مَرَّ بانقِلاباتٍ مُنتَظِمةٍ عَجِيبةٍ، فمِنَ النُّطْفةِ إلى العَلَقةِ ومِنَ العَلَقةِ إلى المُضْغةِ ومِنَ المُضْغةِ إلى العَظْمِ ثمَّ اللَّحْمِ، ومِن ثُمَّ إلى خَلْقٍ جَدِيدٍ، أي: إنَّ انقِلابَه إلى صُورةِ إنسانٍ يَتْبَعُ دَساتِيرَ دَقيقةً؛ فكُلُّ طَوْرٍ مِنها له مِنَ القَوانِينِ الخاصّةِ والأَنظِمةِ المُعَيَّنةِ والحَرَكاتِ المُطَّرِدةِ، بحَيثُ يَشِفُّ عمّا تَحتَه مِن أَنوارِ القَصْدِ والإرادةِ والِاختِيارِ والحِكْمةِ.
وعلى الطَّرِيقةِ نَفسِها فإنَّ الخالِقَ الحَكِيمَ يُبَدِّلُ هذا الجَسَدِ سَنَوِيًّا كتَبدِيلِ الثِّيابِ، فيَكُونُ هذا الجَسَدُ بحاجةٍ إلى تَركِيبٍ جَدِيدٍ كي يَتَبدَّلَ ويَبقَى حَيًّا، وبحاجةٍ إلى إحلالِ ذَرّاتٍ فَعّالةٍ جَدِيدةٍ مَحَلَّ ما انحَلَّ مِنَ الأَجزاءِ؛ لِذا فكما أنَّ الجَسَدَ تَنهَدِمُ حُجَيْراتُه بقانُونٍ إلٰهِيٍّ مُنتَظِمٍ، كذلك يَحتاجُ إلى مادّةٍ لَطِيفةٍ باسمِ “الرِّزقِ” كي يَعمُرَ مِن جَدِيدٍ بقانُونٍ إلٰهِيٍّ ربّانِيٍّ دَقِيقٍ.. فالرَّزّاقُ الحَقِيقيُّ يُوَزِّعُ ويُقَسِّمُ، بقانُونٍ خاصٍّ، لِكُلِّ عُضْوٍ مِن أَعضاءِ الجَسَدِ المُختَلِفةِ، وبنِسبةٍ مُعَيَّنةٍ، ما يَحتاجُه مِنَ المَوادِّ المُتَبايِنةِ.
والآنَ انظُرْ إلى أَطوارِ تلك المادّةِ اللَّطِيفةِ المُرسَلةِ مِن قِبَلِ الرَّزّاقِ الحَكِيمِ، تَرَ أنَّ ذَرّاتِ تلك المادّةِ هي كقافِلةٍ مُنتَشِرةٍ في الغِلافِ الجَوِّيِّ.. في الأَرضِ.. في الماءِ.. فبَينَما هي مُبَعثَرةٌ هنا وهناك، إذا بها تُستَنفَرُ فتَتَجَمَّعُ بكَيفِيّةٍ خاصّةٍ، وكأنَّ كلَّ ذَرّةٍ مِنها هي مَسؤُولةٌ عن وَظِيفةٍ أُرسِلَت إلى مَكانٍ مُعَيَّنٍ بواجِبٍ رَسْمِيٍّ، فتَجتَمِعُ معَ بَعضِها في غايةِ الِانتِظامِ، مِمّا يُوحِي بأنَّها حَرَكةٌ مَقصُودةٌ، فسُلُوكُها هذا يُبَيِّنُ:
أنَّ فاعِلًا ذا إرادةٍ يَسُوقُ تلك الذَّرّاتِ، بقانُونِه الخاصِّ، مِن عالَمِ الجَماداتِ إلى عالَمِ الأَحياءِ، وهنا بعدَ أن دَخَلَتْ جِسْمًا مُعَيَّنًا، رِزقًا له، تَسِيرُ وَفْقَ نُظُمٍ مُعَيَّنةٍ وحَرَكاتٍ مُطَّرِدةٍ وحَسَبَ دَساتِيرَ خاصّةٍ، إذ بعدَ أن تُنضَجَ في أَربَعةِ مَطابِخَ وتُمَرَّرَ بأَربَعةِ انقِلاباتٍ عَجِيبةٍ وتُصَفَّى بأَربَعةِ مَصافٍ، تُهَيَّأُ للتَّوزِيعِ إلى أَقطارِ الجِسمِ وأَعضائِه المُختَلِفةِ حَسَبَ الحاجاتِ المُتَبايِنةِ لِكُلِّ عُضوٍ، وتحتَ رِعايةِ الرَّزّاقِ الحَقِيقيِّ وعِنايَتِه وبقَوانِينِه المُنتَظِمةِ. فإذا تَأَمَّلْتَ بعَينِ الحِكمةِ أَيّةَ ذَرّةٍ مِن تلك الذَّرّاتِ فإنَّك ستَرَى أنَّ الَّذي يَسُوقُ تلك الذَّرّةَ ويُسَيِّرُها إنَّما يَسُوقُها بكُلِّ بَصِيرةٍ، وبكُلِّ نِظامٍ، وبمِلْءِ السَّمْعِ والعِلمِ المُحِيطِ.. فلا يُمكِنُ بحالٍ مِنَ الأَحوالِ أن يَتَدخَّلَ فيه “الِاتِّفاقُ الأَعمَى” و”الصُّدْفةُ العَشْواءُ” و”الطَّبِيعةُ الصَّمّاءُ” و”الأَسبابُ غيرُ الواعِيةِ”؛ لأنَّ كلَّ ذَرّةٍ مِنَ الذَّرّاتِ عِندَما دَخَلَت إلى أَيِّ طَوْرٍ مِنَ الأَطوارِ، ابتِداءً مِن كَوْنِها عُنصُرًا في المُحِيطِ الخارِجِيِّ وانتِهاءً إلى داخِلِ الخَلِيّةِ الصَّغِيرةِ مِنَ الجِسمِ، كأنَّما تَعمَلُ بإرادةٍ وباختِيارٍ حَسَبَ القَوانِينِ المُعَيَّنةِ في كلِّ طَوْرٍ مِن تلك الأَطوارِ، إذ هي حِينَما تَدخُلُ فإنَّها تَدخُلُ بنِظامٍ، وعِندَما تَسِيرُ في أَيّةِ مَرتَبةٍ مِنَ المَراتِبِ فإنَّها تَسِيرُ بخُطُواتٍ مُنتَظِمةٍ إلى دَرَجةٍ تُظهِرُ جَلِيًّا كأنَّ أَمرَ سائِقٍ حَكِيمٍ يَسُوقُها.
وهكذا، وبكلِّ انتِظامٍ، كُلَّما سارَتِ الذَّرّةُ مِن طَوْرٍ إلى طَوْرٍ ومِن مَرتَبةٍ إلى أُخرَى لا تَحِيدُ عنِ الهَدَفِ المَقصُودِ، حتَّى تَصِلَ إلى المَقامِ المُخَصَّصِ لها بأَمرٍ رَبّانِيٍّ في قَزَحِيّةِ عَينِ “تَوفِيق” مَثلًا.. وهُناك تَقِفُ لِتُنجِزَ وَظائِفَها الخاصّةَ وتُؤَدِّيَ ما أُنِيطَ بها مِن أَعمالٍ؛ وهكذا، فإنَّ تَجَلِّيَ الرُّبُوبيّةِ في الأَرزاقِ، يُبيِّنُ أنَّ تلك الذَّرّاتِ، مُنذُ البِدايةِ، كانَت مُعَيَّنةً ومَأْمُورةً، وكانَت مَسؤُولةً عن وَظِيفةٍ، وكانَت مُهَيَّأةً مُستَعِدّةً للوُصُولِ إلى تلك المَراتِبِ المُخَصَّصةِ لها، وكأنَّ كُلَّ ذَرّةٍ مَكتُوبٌ على جَبِينِها ما ستَؤُولُ إلَيها، أي: أنَّها ستكُونُ رِزقًا للخَلِيّةِ الفُلَانيّةِ.. مِمّا يُشِيرُ لنا هذا النِّظامُ الرّائِعُ إلى أنَّ اسمَ كلِّ إنسانٍ مَكتُوبٌ على رِزقِه، كما أنَّ رِزْقَه مَكتُوبٌ على جَبِينِه بقَلَمِ القَدَرِ.
فهل مِنَ المُمكِنِ أنَّ الرَّبَّ الرَّحِيمَ ذا القُدْرةِ المُطلَقةِ والحِكمةِ المُحِيطةِ ألّا يُنشِئَ “النَّشْأةَ الأُخرَى”؟ أو يَعجِزَ عنها؟ وهو الَّذي له مُلْكُ السَّماواتِ والأَرضِ وهُنَّ مَطْوِيّاتٌ بيَمِينِه مِنَ الذَّرّاتِ إلى المَجَرّاتِ ويُدِيرُها جَمِيعًا ضِمنَ نِظامٍ مُحكَمٍ ومِيزانٍ دَقيقٍ.. فسُبحانَ اللهِ عمّا يَصِفُونَ!
لذلك فإنَّ كَثِيرًا مِن آياتِ القُرآنِ الكَرِيمِ تَلفِتُ نَظَرَ الإنسانِ إلى “النَّشْأةِ الأُولَى” الحَكِيمةِ كمَثَلٍ قِياسِيٍّ لـ”النَّشْأةِ الأُخرَى” في الحَشْرِ والقِيامةِ، وذلك كي تَستَبعِدَ إنكارَها مِن ذِهنِ الإنسانِ فتَقُولُ: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ…﴾ أي: إنَّ الَّذي أَنشَأَكُم -ولم تكُونُوا شَيْئًا يُذكَرُ- على هذه الصُّورةِ الحَكِيمةِ هو الَّذي يُحيِيكُم في الآخِرةِ.
وتقُولُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ أي إنَّ إعادَتَكُم وإحياءَكُم في الآخِرةِ هي أَسهَلُ مِن خَلْقِكُم في الدُّنيا، إذ كما أنَّ الجُنُودَ إذا ما انتَشَرُوا وتَفَرَّقُوا للِاستِراحةِ، يُمكِنُ إرجاعُهم إلى أَماكِنِهم تحتَ رايةِ الفِرقةِ بنَفْخةٍ مِنَ البُوقِ العَسكَرِيِّ، فجَمْعُهم هكذا مِنَ الِاستِراحةِ في مَكانٍ مُعَيَّنٍ أَسهَلُ بكَثِيرٍ مِن تَكوِينِ فِرقةٍ جَدِيدةٍ مِنَ الجُنُودِ. كذلك فإنَّ الذَّرّاتِ الأَساسَ الَّتي استَأْنَسَتْ وارْتَبَطَ بَعضُها بالبَعضِ الآخَرِ بامتِزاجِها في جِسمٍ مُعَيَّنٍ عِندَما يَنفُخُ إسرافيلُ عَليهِ السَّلام في صُورِهِ نَفْخةً واحِدةً تَهُبُّ قائِلةً: لَبَّيْك لِأَمرِ الخالِقِ العَظِيمِ، وتَجتَمِعُ، فاجتِماعُها بَعضِها مع البَعضِ الآخَرِ مَرّةً أُخرَى لا رَيبَ أَسهَلُ وأَهوَنُ عَقْلًا، مِن إيجادِ تلك الذَّرّاتِ أَوَّلَ مَرّةٍ.
هذا وقد لا يكُونُ ضَرُورِيًّا اجتِماعُ جَمِيعِ الذَّرّاتِ، وإنَّما تَكفِي الذَّرّاتُ الأَساسُ الَّتي هي بمَثابةِ البُذُورِ والنُّوَى للأَجسامِ؛ كما عَبَّر عنها الحَدِيثُ الشَّرِيفُ “عَجْبُ الذَّنَبِ” الَّذي هو الجُزءُ الأَساسُ والذَّرّةُ الأَصِيلةُ الكافِيةُ وَحْدَها أن تكُونَ أَساسًا لإنشاءِ النَّشْأةِ الآخِرةِ علَيها، فالخالِقُ الحَكِيمُ يَبنِي مِن جَدِيدٍ جَسَدَ الإنسانِ على ذلك الأَساسِ.
[دليل القياس العدلي لإثبات الحياة الأبدية]
وأمّا القِياسُ العَدْليُّ الَّذي تُشِيرُ إلَيه الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ فخُلاصَتُه: أنَّنا نَرَى كَثِيرًا في عالَمِنا أنَّ الظّالِمِينَ والفُجَّارَ يَقضُون حَياتَهم في رَفاهٍ وراحةٍ تامّةٍ، أمّا المَظلُومُون والمُتَديِّنُون فيَقضُونَها في شَظَفٍ مِنَ العَيشِ بكلِّ مَشَقّةٍ وإرهاقٍ.. ومِن ثَمَّ يَأْتي المَوتُ فيَحصُدُ الِاثنَينِ معًا دُونَ تَميِيزٍ، فلو لم تكُن هناك نِهايةٌ مَقصُودةٌ ومُعيَّنةٌ لَظَهَر الظُّلمُ إذًا في المَسأَلةِ؛ لِذا فلا بُدَّ مِنَ الِاجتِماعِ الأُخرَوِيِّ بَينَهما حتَّى يَنالَ الأَوَّلُ عِقابَه ويَنالَ الثّاني ثَوابَه، إذِ المُنَزَّهُ عنِ الظُّلمِ سُبحانَه وتَعالَى وهو العادِلُ الحَكِيمُ، بشَهادةِ الكائِناتِ قاطِبةً، لا يُمكِنُ بحالٍ مِنَ الأَحوالِ أن تَقبَلَ عَدالَتُه وحِكمَتُه هذا الظُّلمَ ولا يُمكِنُ أن تَرْضَيا به.
فالنِّهايةُ المَقصُودةُ إذًا حَتْمِيّةٌ، لأنَّ رُؤيةَ هذا الإنسانِ الكادِحِ المَنهُوكِ جَزاءَه وثَوابَه -حَسَبَ استِعدادِه- يَجعَلُه رَمْزًا للعَدالةِ المَحْضةِ ومَدارًا لها، ومَظْهَرًا للحِكمةِ الرَّبّانيّةِ، ومُنسَجِمًا معَ المَوجُوداتِ الحَكِيمةِ في الكَونِ وأَخًا كَبِيرًا لها.
نعم، إنَّ دارَ الدُّنيا القَصِيرةِ هذه لا تَكفِي لإظهارِ ما لا يُحَدُّ مِنَ الِاستِعداداتِ المُندَمِجةِ في رُوحِ الإنسانِ وإثمارِها، فلا بُدَّ أن يُرسَلَ هذا الإنسانُ إلى عالَمٍ آخَرَ.
نعم، إنَّ جَوْهَرَ الإنسانِ عَظِيمٌ، لِذا فهو رَمزٌ للأَبَدِيّةِ ومُرَشَّحٌ لها، وإنَّ ماهِيَّتَه عالِيةٌ وراقِيةٌ، لِذا أَصبَحَت جِنايَتُه عَظِيمةٌ؛ فلا يُشبِهُ الكائِناتِ الأُخرَى، وإنَّ نِظامَه دَقِيقٌ ورائِعٌ، فلن تكُونَ نِهايتُه دُونَ نِظامٍ، ولن يُهمَلَ ويَذهَبَ عَبَثًا، ولن يُحكَمَ علَيه بالفَناءِ المُطلَقِ ويَهرُبَ إلى العَدَمِ.
وإنَّما تَفتَحُ جَهَنَّمُ أَفواهَها فاغِرةً.. تَنتَظِرُه..
والجَنّةُ تَبسُطُ ذِراعَيها لِاحتِضانِه..
أَوْجَزْنا هنا حيثُ إنَّ الحَقِيقةَ الثّالثةَ مِنَ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” قد أَوضَحَت هذه الحَقيقةَ بجَلاءٍ.
وهكذا، أَوْرَدْنا هاتَينِ الآيتَينِ مِثالًا، وعلَيك أن تَقِيسَ وتَتَتَبَّعَ مِثلَها في سائِرِ الآياتِ الكَرِيمةِ الَّتي تَتَضمَّنُ بَراهِينَ عَقلِيّةً لِطِيفةً كَثِيرةً.
فتلك عَشَرةٌ كامِلةٌ مِنَ المَنابِعِ والمَداراتِ الَّتي تُنتِجُ حَدْسًا صادِقًا وبُرهانًا قاطِعًا على الحَشْرِ.
وكما أنَّ هذا الحَدْسَ الثّابِتَ والبُرهانَ القَوِيَّ دَليلٌ قَطْعِيٌّ على حُدُوثِ القِيامةِ والحَشْرِ الجِسمانِيِّ ويَقتَضِيه، كذلك الأَسماءُ الإلٰهِيّةُ الحُسنَى: الحَكِيمُ، الرَّحِيمُ، الحَفِيظُ، العادِلُ، وأَغلَبُ الأَسماءِ الحُسنَى تَقتَضِي يومَ القِيامةِ والسَّعادةَ الخالِدةَ، وتَدُلّ على تَحَقُّقِها ووُقُوعِها قَطْعًا، كما أَثبَتْناها في “الكَلِمةِ العاشِرةِ”.
لِذا فمُقتَضَياتُ الحَشْرِ والقِيامةِ أَصبَحَت لَدَينا قَوِيّةً ومَتِينةً إلى دَرَجةٍ لا يُمكِنُ أن تَنفُذَ إلَيها شُبْهةٌ ولا شَكٌّ مُطلَقًا.
[الأساس الثالث: الفاعل مقتدر]
الأساسُ الثالث
نعم، كما أنَّه لا شَكَّ مُطلَقًا في مُقتَضَياتِ الحَشرِ، كذلك لا رَيبَ أَبدًا في القُدرةِ المُطلَقةِ للَّذي يُحدِثُ الحَشْرَ، فلا نَقْصَ في قُدرَتِه، إذ يَستَوِي عِندَه كلُّ عَظِيمٍ وصَغِيرٍ، وسَواءٌ عِندَه خَلْقُ رَبيعٍ كامِلٍ وخَلْقُ زَهرةٍ واحِدةٍ.
نعم، إنَّ قديرًا يَشهَدُ بعَظَمَتِه وقُدرَتِه هذا الكَونُ بأَلْسِنةِ شُمُوسِه ونُجُومِه وعَوالِمِه حتَّى بأَلْسِنةِ ذَرّاتِه وما فيها، هل يَحِقُّ لأَيِّ وَهْمٍ أو وَسْوَسةٍ أن يَستَبعِدَ عن تلك القُدرةِ المُطلَقةِ الحَشْرَ الجِسمانِيَّ؟!
إنَّ قَدِيرًا ذا جَلالٍ يَخلُقُ أَكوانًا جَدِيدةً مُنتَظِمةً في كلِّ عَصرٍ ضِمنَ هذا الكَونِ الهائِلِ، بل يَخلُقُ في كُلِّ سَنةٍ دُنًى سَيّارةً جَدِيدةً مُنتَظِمةً، بل يَخلُقُ في كلِّ يومٍ عَوالِمَ جَدِيدةً مُنتَظِمةً، فيَخلُقُ باستِمرارٍ عوالِمَ ودُنًى وأَكوانًا زائِلةً مُتَعاقِبةً، ويُبَدِّلُها بكُلِّ حِكمةٍ على وَجهِ الأَرضِ والسَّماواتِ، ناشِرًا ومُعَلِّقًا على مَسارِ الزَّمَنِ عَوالِمَ مُنتَظِمةً بعَدَدِ العُصُورِ والسَّنِينَ بل بعَدَدِ الأَيّامِ؛ فيُرِي بها عَظَمةَ قُدرَتِه جَلَّ وعَلا، وهو الَّذي زَيَّن زَهْرةَ الرَّبيعِ بمِئاتِ الآلافِ مِن نُقُوشِ الحَشرِ يُتَوِّجُ بها هامةَ الكُرةِ الأَرضِيّةِ كأنَّها زَهرةٌ واحِدةٌ، فيُظهِرُ لنا جَمالَ صَنْعَتِه وكَمالَ حِكمَتِه، فهل يُمكِنُ أن يَجْرُؤَ أَحَدٌ لِيَقُولَ لهذا القَدِيرِ ذِي الجَلالِ: كيفَ يُحدِثُ القِيامةَ؟ أو كيفَ يُبَدِّلُ هذه الدُّنيا بآخِرةٍ؟
فالآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ تُعلِنُ أنَّ هذا القَدِيرَ جَلَّ وعَلا لا يَصعُبُ علَيه شَيءٌ، فكُلُّ شَيءٍ أَعظَمُهُ وأَصغَرُه يَسِيرٌ عِندَه، والجُمُوعُ الهائِلةُ بأَعدادِها غيرِ المُتَناهِيةِ كفَرْدٍ واحِدٍ عِندَه.
وقد أَوْضَحْنا حَقِيقةَ هذه الآيةِ في خاتِمةِ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” مُجمَلةً، وفي رِسالةِ “نُقطةٌ مِن نُورِ مَعرِفةِ اللهِ جَلَّ جَلالُه” و”المَكتُوبِ العِشرِين” مُفَصَّلةً، أمّا هُنا فسنُوضِحُها بإيجازٍ في ثَلاثِ مَسائِلَ:
إنَّ القُدرةَ الإلٰهِيّةَ ذاتيّةٌ؛ فلا يُمكِنُ أن يَتَخلَّلَها العَجْزُ..
وإنَّها تَتَعلَّقُ بمَلَكُوتيّةِ الأَشياءِ، فلا تَتَداخَلُ المَوانِعُ فيها مُطلَقًا..
وإنَّ نِسْبَتَها قانُونيّةٌ؛ فالجُزءُ يَتَساوَى معَ الكُلِّ، والجُزئيُّ يُصبِحُ بحُكمِ الكُلِّيِّ..
وسنُثبِتُ ونُوضِحُ هذه المَسائِلَ الثَّلاثَ:
[المسألة الأولى: القدرة الأزلية ذاتية]
المَسأَلةُ الأُولَى: إنَّ القُدرةَ الإلٰهِيّةَ الأَزَليّةَ ضَرُورِيّةٌ لِلذّاتِ الجَلِيلةِ المُقَدَّسةِ:
أي: إنَّها بالضَّرُورةِ لازِمةٌ للذّاتِ المُقَدَّسةِ، فلا يُمكِنُ أن يكُونَ للقُدرةِ مِنها فَكاكٌ مُطلَقًا، لِذا فمِنَ البَدِيهيِّ أنَّ العَجْزَ الَّذي هو ضِدُّ القُدرةِ لا يُمكِنُ أن يَعرِضَ للذّاتِ الجَلِيلةِ الَّتي استَلْزَمَتِ القُدرةَ، لأنَّه عِندَئذٍ سيَجتَمِعُ الضِّدّانِ، وهذا مُحالٌ.
فما دامَ العَجْزُ لا يُمكِنُ أن يكُونَ عارِضًا للذّاتِ، فمِنَ البَدِيهيِّ أنَّه لا يُمكِنُ أن يَتَخلَّلَ القُدرةَ اللّازِمةَ للذّاتِ أيضًا، وما دامَ العَجْزُ لا يُمكِنُه أن يَدخُلَ في القُدرةِ قَطعًا، فبَدِيهيٌّ إذًا أنَّ القُدرةَ الذّاتيّةَ لَيسَ فيها مَراتِبُ، لأنَّ وُجُودَ المَراتِبِ في كلِّ شَيءٍ يكُونُ بتَداخُلِ أَضدادِه معَه، كما هو في مَراتِبِ الحَرارةِ الَّتي تكُونُ بتَخَلُّلِ البُرُودةِ، ودَرَجاتِ الحُسنِ الَّتي تكُونُ بتَداخُلِ القُبْحِ.. وهكذا فقِسْ.
أمّا في المُمكِناتِ فلِأَنَّه ليس هناك لُزُومٌ ذاتِيٌّ حَقِيقيٌّ وطَبِيعِيٌّ، أَصبَحَتِ الأَضدادُ مُتَداخِلةً بعضُها معَ البَعضِ الآخَرِ، فتَوَلَّدَتِ المَراتِبُ ونَتَجَت عنها الِاختِلافاتُ، فنَشَأَت مِنها تَغيُّراتُ العالَمِ.
وحيثُ إنَّه لَيسَت هناك مَراتِبُ قَطُّ في القُدرةِ الإلٰهِيّةِ الأَزَليّةِ، لِذا فالمَقْدُوراتُ هي حَتْمًا واحِدةٌ بالنِّسبةِ إلى تلك القُدرةِ، فيَتَساوَى العَظِيمُ جِدًّا معَ المُتَناهِي في الصِّغَرِ، وتَتَماثَلُ النُّجُومُ معَ الذَّرّاتِ، وحَشْرُ جَمِيعِ البَشَرِ كبَعْثِ نَفسٍ واحِدةٍ.. وكذا خَلْقُ الرَّبيعِ كخَلْقِ زَهرةٍ واحِدةٍ سَهْلٌ هَيِّنٌ أمامَ تلك القُدرةِ.. ولو أُسنِدُ الخَلْقُ إلى الأَسبابِ المادِّيّةِ دُونَ القُدرةِ المُطلَقةِ عِندَ ذاك يكُونُ إحياءُ زَهرةٍ واحِدةٍ عَسِيرًا وصَعْبًا مِثلَ إحياءِ الرَّبيعِ.
وقد أَثبَتْنا بالبَراهِينِ الدّامِغةِ في حاشِيةِ الفِقْرةِ الأَخِيرةِ مِنَ المَرتَبةِ الرّابِعةِ لِمَراتِبِ “اللهُ أَكبَرُ” مِنَ المَقامِ الثّاني لِهَذه الكَلِمةِ، وفي “الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِين” و”المَكتُوبِ العِشرِين وذَيلِه”، أنَّه عِندَ إسنادِ خَلْقِ الأَشياءِ إلى الواحِدِ الأَحَدِ يَسهُلُ خَلْقُ الجَمِيعِ كخَلْقِ شَيءٍ واحِدٍ، وإذا أُسنِدَ خَلْقُ شَيءٍ واحِدٍ إلى الأَسبابِ المادِّيّةِ فيكُونُ صَعْبًا جِدًّا ومُعضِلًا كخَلْقِ الجَمِيعِ.
[المسألة الثانية: القدرة تتعلق بملكوتية الأشياء]
المَسأَلةُ الثّانيةُ: إنَّ القُدرةَ الإلٰهِيّةَ تَتَعلَّقُ بمَلَكُوتيّةِ الأَشياء:
نعم، إنَّ لِكُلِّ شَيءٍ في الكَونِ وَجْهَينِ كالمِرآةِ: أَحَدُهما: جِهةُ المُلكِ وهي كالوَجهِ المَطْلِيِّ المُلَوَّنِ مِنَ المِرآةِ. والآخَرُ هي جِهةُ المَلَكُوتِ وهي كالوَجهِ الصَّقِيلِ للمِرآةِ.
فجِهةُ المُلكِ، هي مَجالُ ومَيدانُ تَجَوُّلِ الأَضدادِ ومَحَلُّ وُرُودِ أُمُورِ الحُسْنِ والقُبْحِ والخَيرِ والشَّرِّ والصَّغيرِ والكَبِيرِ والصَّعْبِ والسَّهْلِ وأَمثالِها.. لِذا وَضَعَ الخالِقُ الحَكِيمُ الأَسبابَ الظّاهِرةَ سِتارًا لِتَصَرُّفاتِ قُدرَتِه، لِئَلّا تَظهَرُ مُباشَرةُ يَدِ القُدرةِ الحَكِيمةِ بالذّاتِ على الأُمُورِ الجُزئيّةِ الَّتي تَظهَرُ للعُقُولِ القاصِرةِ الَّتي تَرَى الظّاهِرَ، كأنَّها خَسِيسةٌ غيرُ لائِقةٍ، إذِ العَظَمةُ والعِزّةُ تَتَطلَّبُ هكذا.. إلّا أنَّه سُبحانَه لم يُعْطِ التَّأثيرَ الحَقِيقيَّ لتلك الأَسبابِ والوَسائِطِ؛ إذ وَحْدةُ الأَحَدِيّةِ تَقتَضِي هكذا أَيضًا.
أمّا جِهةُ المَلَكُوتِ، فهي شَفّافةٌ، صافِيةٌ، نَزِيهةٌ، في كُلِّ شَيءٍ، فلا تَختَلِطُ معَها أَلوانُ ومُزَخْرَفاتُ التَّشَخُّصاتِ.. هذه الجِهةُ مُتَوجِّهةٌ إلى بارِئِها دُونَ واسِطةٍ، فلَيس فيها تَرَتُّبُ الأَسبابِ والمُسَبَّباتِ ولا تَسَلسُلُ العِلَلِ، ولا تَدْخُلُ فيها العِلِّيّةُ والمَعلُوليّةُ، ولا تَتَداخَلُ المَوانِعُ. فالذَّرّةُ فيها تكُونُ شَقِيقةَ الشَّمسِ.
نَخلُصُ مِمّا سَبَق: أنَّ تلك القُدرةَ هي مُجَرَّدةٌ، أي: لَيسَت مُؤَلَّفةً ومُرَكَّبةً، وهي مُطلَقةٌ غيرُ مَحدُودةٍ، وهي ذاتيّةٌ أَيضًا.
أمّا مَحَلُّ تَعَلُّقِها بالأَشياءِ فهي دُونَ وَساطةٍ، صِافيةٌ دُونَ تَعَكُّرٍ، ودُونَ سِتارٍ ودُونَ تَأْخِيرٍ، لِذا لا يَستَكبِرُ أَمامَها الكَبِيرُ على الصَّغِيرِ، ولا تُرَجَّحُ الجَماعةُ على الفَرْدِ، ولا يَتَبَجَّحُ الكُلُّ أَمامَ الجُزءِ ضِمنَ تلك القُدرةِ.
[المسألة الثالثة: نسبة القدرة قانونية]
المَسأَلةُ الثالثةُ: نِسبةُ القُدرةِ قانُونيّة.
أي إنَّها تَنظُرُ إلى القَلِيلِ والكَثِيرِ والصَّغِيرِ والكَبِيرِ نَظرةً واحِدةً مُتَساوِيةً.
فهذه المَسأَلةُ الغامِضةُ سنُقرِّبُها إلى الذِّهنِ ببَعضِ الأَمثِلةِ. فالشَّفّافيّةُ، والمُقابَلةُ، والمُوازَنةُ، والِانتِظامُ، والتَّجَرُّدُ، والطّاعةُ.. كُلٌّ مِنها أَمرٌ في هذا الكَونِ يَجعَلُ الكَثِيرَ مُساوِيًا للقَلِيلِ، والكَبِيرَ مُساوِيًا للصَّغِيرِ.
[مثال1: الشفافية]
المِثالُ الأوَّلُ: الشَّفّافيّةُ.
إنَّ تَجَلِّيَ ضَوءِ الشَّمسِ يُظهِرُ الهُوِيّةَ نَفسَها على سَطْحِ البَحرِ أو على كلِّ قَطْرةٍ مِنَ البَحرِ؛ فلو كانَتِ الكُرةُ الأَرضِيّةُ مُرَكَّبةً مِن قِطَعٍ زُجاجِيّةٍ صَغِيرةٍ شَفّافةٍ مُختَلِفةٍ تُقابِلُ الشَّمسَ دُونَ حاجِزٍ يَحجُزُها، فضَوءُ الشَّمسِ المُتَجَلِّي على كلِّ قِطعةٍ وعلى سَطْحِ الأَرضِ كُلِّها يَتَشابَهُ ويكُونُ مُساوِيًا دُونَ مُزاحَمةٍ ودُونَ تَجَزُّؤٍ ودُونَ تَناقُصٍ.. فإذا افتَرَضْنا أنَّ الشَّمسَ فاعِلٌ ذُو إرادةٍ وأَعطَتْ فَيضَ نُورِها وإشعاعَ صُورَتِها بإرادَتِها على الأَرضِ، فلا يكُونُ عِندَئذٍ نَشْرُ فَيضِ نُورِها على جَمِيعِ الأَرضِ أَكثَرَ صُعُوبةً مِن إعطائِها على ذَرّةٍ واحِدةٍ.
[مثال2: المقابلة]
المِثالُ الثّاني: المُقابَلةُ.
هَبْ أنَّه كانَت هناك حَلْقةٌ واسِعةٌ مِنَ البَشَرِ يَحمِلُ كُلُّ واحِدٍ مِنهم مِرآةً بِيَدِه، وفي مَركَزِ الدّائِرةِ رَجُلٌ يَحمِلُ شَمْعةً مُشتَعِلةً، فإنَّ الضَّوءَ الَّذي يُرسِلُه المَركَزُ إلى المَرايا في المُحِيطِ واحِدٌ، ويكُونُ بنِسبةٍ واحِدةٍ، دُونَ تَناقُصٍ ودُونَ مُزاحَمةٍ ودُونَ تَشَتُّتٍ.
[مثال3: الموازنة]
المِثالُ الثّالثُ: المُوازَنةُ.
إن كان لَدَيْنا مِيزانٌ حَقِيقيٌّ عَظِيمٌ وحَسّاسٌ جِدًّا وفي كِفَّتَيه شَمْسانِ أو نَجْمانِ، أو جَبَلانِ، أو بَيضَتانِ، أو ذَرَّتانِ.. فالجُهْدُ المَبذُولُ هو نَفسُه الَّذي يُمكِنُ أن يَرفَعَ إِحدَى كِفَّتَيهِ إلى السَّماءِ ويَخفِضُ الأُخرَى إلى الأَرضِ.
[مثال4: الانتظام]
المِثالُ الرّابعُ: الِانتِظامُ.
يُمكِنُ إدارةُ أَعظَمِ سَفِينةٍ لأنَّها مُنتَظِمةٌ جِدًّا، كأَصغَرِ دُميةٍ للأَطفالِ.
[مثال5: التجرد]
المِثالُ الخامسُ: التَّجَرُّدُ.
إنَّ المَيْكرُوبَ مَثلًا كالكَرْكَدَنِّ يَحمِلُ الماهِيّةَ الحَيَوانيّةَ ومِيزاتِها، والسَّمَكُ الصَّغِيرُ جِدًّا يَملِكُ تلك المِيزةَ والماهِيّةَ المُجَرَّدةَ كالحُوتِ الضَّخمِ، لأنَّ الماهِيّةَ المُجَرَّدةَ مِنَ الشَّكلِ والتَّجَسُّمِ تَدْخُلُ في جَمِيعِ جُزئيّاتِ الجِسمِ مِن أَصغَرِ الصَّغِيرِ إلى أَكبَرِ الكَبِيرِ، وتَتَوجَّهُ إلَيها دُونَ تَناقُصٍ ودُونَ تَجَزُّؤٍ؛ فخَواصُّ التَّشَخُّصاتِ والصِّفاتِ الظّاهِرِيّةِ للجِسمِ لا تُشَوِّشُ ولا تَتَداخَلُ معَ الماهِيّةِ والخاصّةِ المُجَرَّدةِ، ولا تُغَيِّـرُ نَظْرةَ تلك الخاصّةِ المُجَرَّدةَ.
[مثال6: الطاعة]
المِثالُ السّادِسُ: الطّاعةُ.
إنَّ قائِدَ الجَيشِ بأَمرِه “تَقَدَّمْ ” مِثلَما يُحَرِّكُ الجُندِيَّ الواحِدَ فإنَّه يُحَرِّكُ الجَيشَ بأَكمَلِه كذلك بالأَمرِ نَفسِه؛ فحَقِيقةُ سِرِّ الطّاعةِ هي أنَّ لِكُلِّ شَيءٍ في الكَونِ -كما يُشاهَدُ بالتَّجرِبةِ- نُقطةَ كَمالٍ، وله مَيلٌ إلَيها، فتَضاعُفُ المَيلِ يُوَلِّدُ الحاجةَ، وتَضاعُفُ الحاجةِ يَتَحوَّلُ إلى شَوْقٍ، وتَضاعُفُ الشَّوقِ يُكوِّنُ الِانجِذابَ، فالِانجِذابُ والشَّوقُ والحاجةُ والمَيلُ.. كُلُّها نُوًى وبُذُورٌ لِامتِثالِ الأَوامِرِ التَّكوِينيّةِ الرَّبّانيّةِ مِن قِبَلِ ماهِيّةِ الأَشياءِ.
فالكَمالُ المُطلَقُ لِماهِيّاتِ المُمكِناتِ هو الوُجُودُ المُطلَقُ، ولكنَّ الكَمالَ الخاصَّ بها هو وُجُودٌ خاصٌّ لها، يُخرِجُ كَوامِنَ استِعداداتِها الفِطْرِيّةِ مِن طَوْرِ القُوّةِ إلى طَوْرِ الفِعلِ.
فإطاعةُ الكائِناتِ لِأَمرِ “كُنْ” كإطاعةِ ذَرّةٍ واحِدةٍ الَّتي هي بحُكْمِ جُندِيٍّ مُطِيعٍ. وعِندَ امتِثالِ المُمكِناتِ وطاعَتِها للأَمرِ الأَزَليِّ “كُنْ” الصّادِرِ عن الإرادةِ الإلٰهِيّةِ تَندَمِجُ كُلِّيًّا المُيُولُ والأَشواقُ والِانجِذاباتُ والحاجاتُ جَمِيعُها، وكُلٌّ مِنها هو تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ تلك الإرادةِ أيضًا، حتَّى إنَّ الماءَ الرَّقْراقَ عِندَما يَأْخُذُ -بمَيلٍ لَطِيفٍ مِنه- أَمْرًا بالِانجِمادِ، يُظهِرُ سِرَّ قُوّةِ الطّاعةِ بتَحطِيمِها الحَدِيدَ.
فإن كانَت هذه الأَمثِلةُ السِّتّةُ تَظهَرُ لنا في قُوّةِ المُمكِناتِ المَخلُوقاتِ وفي فِعلِها، وهي ناقِصةٌ ومُتَناهِيةٌ وضَعِيفةٌ ولَيسَت ذاتَ تأثيرٍ حَقِيقيٍّ، فيَنبَغي إذًا أن تَتَساوَى جَمِيعُ الأَشياءِ أَمامَ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ المُتَجَلِّيةِ بآثارِ عَظَمَتِها.. وهي غيرُ مُتَناهِيةٍ وأَزَليّةٌ، وهي الَّتي أَوجَدَتْ جَمِيعَ الكائِناتِ مِنَ العَدَمِ البَحْتِ وحَيَّرَتِ العُقُولَ جَمِيعَها، فلا يَصعُبُ علَيها شَيءٌ إذًا.
ولا نَنسَى أنَّ القُدرةَ الإلٰهِيّةَ العُظمَى لا تُوزَنُ بمَوازِينِنا الضَّعِيفةِ الهَزِيلةِ هذه، ولا تَتَناسَبُ معَها، ولكِنَّها تُذكَرُ تَقرِيبًا للأَذهانِ وإزالةً للِاستِبعادِ ليس إلَّا.
[خلاصة الأساس الثالث]
نَتِيجةُ الأَساسِ الثّالثِ وخُلاصَتُه: ما دامَتِ القُدرةُ الإلٰهِيّةُ مُطلَقةً غيرَ مُتَناهِيةٍ، وهي لازِمةٌ ضَرُورِيّةٌ لِلذّاتِ الجَلِيلةِ المُقَدَّسةِ، وأنَّ جِهةَ المَلَكُوتِ لكُلِّ شَيءٍ تُقابِلُها ومُتَوَجِّهةٌ إلَيها دُونَ سِتارٍ ودُونَ شائِبةٍ، وأنَّها مُتَوازِنةٌ مِن حَيثُ الإمكانُ الَّذي هو تَساوِي الطَّرَفَينِ، وأنَّ كلَّ شَيءٍ مُطِيعٌ لِنِظامَ الفِطْرةِ ونَوامِيسِ عادةِ اللهِ الَّتي هي الشَّرِيعةُ الفِطْرِيّةُ الكُبْرَى، وأنَّ جِهةَ المَلَكُوتِ مُجَرَّدةٌ وصافيةٌ مِنَ المَوانِعِ والخَواصِّ المُختَلِفةِ؛ لذا فإنَّ أَكبَرَ شَيءٍ كأَصغَرِه أمامَ تلك القُدرةِ، فلا يُمكِنُ أن يَعظُمَ شَيءٌ أيًّا كان أو يَتَمَرَّدَ علَيْها؛ فإحياءُ جَمِيعِ الأَحياءِ يَومَ الحَشْرِ هَيِّنٌ علَيه كإحياءِ ذُبابةٍ في الرَّبيعِ. ولِهذا فالآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أَمرٌ حَقٌّ وصِدقٌ جَلِيٌّ لا مُبالَغةَ فيه أبدًا.
وهكذا تَحقَّقَت قَضِيَّتُنا الَّتي نَحنُ بصَدَدِها: أنَّ [الفاعل] مُقتَدِرٌ ولا يَمنَعُه شَيءٌ.
[الأساس الرابع: إمكانية موت الدنيا وإنشاء الآخرة]
الأساسُ الرابع
كما أنَّ هناك مُقتَضًى ومُبَرِّرًا للقِيامةِ والحَشرِ، وأنَّ الفاعِلَ الَّذي يُحْدِثُ الحَشرَ قادِرٌ مُقتَدِرٌ، كذلك فإنَّ هذه الدُّنيا لها القابِليّةُ على القِيامةِ والحَشرِ أَيضًا، فدَعْوانا “قابِليّةَ الدُّنيا” هذه فيها أَربَعُ مَسائِلَ:
الأولى: أنَّ مَوْتَ هذا العالَمِ مُمكِنٌ وليس ذلك مُحالًا.
الثانية: وُقُوعُ ذلك المَوتِ فِعلًا.
الثالثة: مِنَ المُمكِنِ بَعْثُ الدُّنيا المُندَثِرةِ وعِمارَتُها بصُورةِ “آخِرةٍ”.
الرّابعة: وُقُوعُ هذا البَعثِ وهذه العِمارةِ فِعلًا.
[المسألة الأولى: موت هذا العالَم ممكن]
المسألةُ الأولى: مِنَ المُمكِنِ أن يَمُوتَ هذا العالَمُ وتَندَثِرَ هذه الكائِناتُ، وذلك أنَّ الشَّيءِ إن كان داخِلًا في قانُونِ التَّكامُلِ، ففي كلِّ حالةٍ إذًا له نُشُوءٌ ونَماءٌ، وإنَّ النُّشُوءَ والنَّماءَ هذا يعني أنَّ له عُمُرًا فِطْرِيًّا في كلِّ حالةٍ، وأنَّ العُمُرَ الفِطْرِيَّ يعني أنَّ له على كلِّ حالةٍ أَجَلًا فِطْرِيًّا، وهذا يعني أنَّ هذه الأَشياءَ لا يُمكِنُ أن تَنجُوَ مِنَ المَوتِ، وهذا ثابِتٌ بالِاستِقراءِ العامِّ والتَّتبُّعِ الواسِعِ.
نعم، فكما أنَّ الإنسانَ هو عالَمٌ مُصَغَّرٌ لا خَلاصَ له مِنَ الِانهِيارِ، كذلك العالَمُ فإنَّه إنسانٌ كَبِيرٌ لا فَكاكَ له مِن قَبْضةِ المَوتِ، فلا بُدَّ أنَّه سيَمُوتُ، ثمَّ يُبعَثُ، أو يَنامُ ويَفتَحُ عَينَيه فَجْرَ الحَشْرِ.
وكما أنَّ الشَّجَرةَ وهي نُسخةٌ مُصَغَّرةٌ للكائِناتِ لا يُمكِنُها النَّجاةُ مِنَ التَّلاشِي والتَّهَدُّمِ، كذلك سِلسِلةُ الكائِناتِ المُتَشعِّبةُ مِن شَجَرةِ الخَلِيقةِ لا يُمكِنُها أن تَنجُوَ مِنَ التَّمَزُّقِ والِاندِثارِ لِأَجلِ التَّعمِيرِ والتَّجدِيدِ.
ولَئِن لم تَحدُثْ للدُّنيا -قَبلَ أَجَلِها الفِطْرِيِّ، وبإذنٍ إلٰهِيٍّ- حادِثةٌ مُدَمِّرةٌ أو مَرَضٌ خارِجِيٌّ، أو لم يُخِلَّ بنِظامِها خالِقُها الحَكِيمُ، فلا شَكَّ -بحِسابٍ عِلمِيٍّ- أنَّه سيَأْتي يَومٌ يَتَردَّدُ فيه صَدَى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾، ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ﴾، عِندَئذٍ تَظهَرُ مَعاني هذه الآياتِ وأَسرارُها بإذنِ القَدِيرِ الأَزَليِّ، وإنَّ هذه الدُّنيا الَّتي هي كإنسانٍ ضَخْمٍ، ستَبْدَأُ بالسَّكَراتِ وتَتَمَلمَلُ وتَشْخُرُ بصَوتٍ غَرِيبٍ وتُحَشْرِجُ ثمَّ تَصِيحُ بصَوتٍ مُدَوٍّ هائلٍ يَملَأُ الفَضاءَ.. ثمَّ تَمُوتُ ثمَّ تُبعَثُ بأَمرٍ إلٰهِيٍّ.
[قانون التكامل بين الحقيقة والصورة]
مسألةٌ رَمزِيّةٌ دقيقةٌ
كما أنَّ اللَّفظَ يَغْلُظُ مُضِرًّا بالمَعنَى، واللُّبَّ على حِسابِ القِشْرِ يَقْوَى، والرُّوحَ تَضْعُفُ لِأَجلِ الجَسَدِ، والجَسَدَ يَضعُفُ ويَهْزُلُ لِأَجلِ قُوّةِ الرُّوحِ.. كذلك عالَمُنا الكَثِيفُ هذا كُلَّما عَمِلَتْ فيه دَوالِيبُ الحَياةِ شَفَّ ورَقَّ في سَبِيلِ العالَمِ اللَّطيفِ.. وهو الآخِرةُ.
فالقُدرةُ الفاطِرةُ بفَعّاليَّتِها المُحَيِّرةِ تَنشُرُ نُورَ الحَياةِ على الأَجزاءِ المَيتةِ الجامِدةِ الكَثِيفةِ المُنطَفِئةِ، فتُذَوِّبُ وتُلَيِّنُ وتُضِيءُ وتُنيرُ تلك الأَجزاءَ بنُورِ تلك الحَياةِ لِتَتَقوَّى حَقِيقتُها وتكُونَ جاهِزةً للعالَمِ اللَّطِيفِ الرّائِعِ.. أَعني الآخِرةَ.
نعم، فالحَقِيقةُ مَهما كانَت ضَعِيفةً فإنَّها لا تَمُوتُ أَبدًا ولا يُمكِنُ أن تُمحَى كالصُّورةِ، بل تَسِيرُ وتَجُولُ في الصُّوَرِ والتَّشَخُّصاتِ والأَشكالِ المُختَلِفةِ، إذ تَكْبُرُ وتَظْهَرُ كُلَّما تَقَدَّمَت، بعكسِ القِشْرِ والصُّورةِ، فإنَّها تَتَهرَّأُ وتَهزُلُ وتَتَمزَّقُ وتَتَجدَّدُ لِتَظهَرَ بحُلّةٍ جَمِيلةٍ جَدِيدةٍ تُلائِمُ قِوامَ الحَقيقةِ الثّابِتةِ النّامِيةِ الكَبِيرةِ.
فالحَقِيقةُ والصُّورةُ تَتَناسَبانِ إذًا عَكْسِيًّا زِيادةً ونُقصانًا، أي: كُلَّما اخشَوْشَنَتِ الصُّورةُ رَقَّتِ الحَقِيقةُ، وكُلَّما ضَعُفَتِ الصُّورةِ تَقَوَّتِ الحَقِيقةُ بالنِّسبةِ نَفسِها؛ وهذا قانُونٌ شامِلٌ لِجَميعِ الأَشياءِ الدّاخِلةِ في قانُونِ التَّـكامُلِ.
فلَيَأْتِينَّ ذلك الزَّمَنُ الَّذي يَتَمزَّقُ فيه -بإذنِ الفاطِرِ الجَليلِ- عالَمُ الشَّهادةِ الَّذي هو صُورةٌ لِحَقيقةِ الكائِناتِ العُظمَى وقِشرٌ لها، ومِن ثَمَّ يَتَجدَّدُ بصُورةٍ أَجمَلَ، وعِندَئذٍ تَتَحَقَّقُ حِكمةُ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ..﴾.
نَخلُصُ مِمّا سَبَق أنَّ مَوتَ الدُّنيا وخَرابَها مُمكِنٌ، ولا شَكَّ فيه مُطلَقًا.
[المسألة الثانية: وقوع موت الدنيا]
المسألةُ الثانية: وُقُوعُ مَوتِ الدُّنيا فِعلًا.
والدَّليلُ على هذه المَسأَلةِ: إجماعُ جَمِيعِ الأَديانِ السَّماوِيّةِ، وشَهادةُ كُلِّ فِطْرةٍ سَلِيمةٍ، وما تُشِيرُ إلَيه تَبَدُّلاتُ هذه الكائِناتِ وتَحَوُّلاتُها وتَغَيُّراتُها، ومَوتُ دُنًى حَيّةٍ وعَوالِمَ سَيّارةٍ، وهي بعَدَدِ العُصُورِ والسِّنِينَ، في دارِ ضِيافةِ الدُّنيا هذه.. كلُّ ذلك إشاراتٌ ودَلالاتٌ على مَوتِ دُنيانا نَفسِها.
وإن شِئتَ أن تَتَصوَّرَ سَكَراتِ الدُّنيا، كما تُشِيرُ إلَيها الآياتُ الكَرِيمةُ، فتَأَمَّلْ في أَجزاءِ هذا الكَونِ الَّتي هي مُرتَبِطٌ بَعضُها بالبعضِ الآخَرِ بنِظامٍ عُلْوِيٍّ دَقيقٍ، ومُتَماسِكةٍ برابِطةٍ لَطِيفةٍ خَفِيّةٍ رَقيقةٍ، فهي مُحكَمةُ النِّظامِ بحَيثُ إنَّ جِرْمًا واحِدًا إن تَسَلَّمَ أَمْرَ “كُنْ” أوِ “اخْرُجْ مِن مِحْوَرِك” فالعالَمُ كُلُّه يُعاني السَّكَراتِ، فتَتَصادَمُ النُّجُومُ وتَتَلاطَمُ الأَجرامُ وتُدَوِّي وتُرعَدُ بأَصداءِ مَلايِينِ المَدافِعِ، وتَرمِي بِشَرَرٍ كأَرضِنا هذه -بل أَكبَرَ مِنها- في الفَضاءِ الواسِعِ وتَتَطايَرُ الجِبالُ وتُسَجَّرُ البِحارُ؛ فتَستَوِي الأَرضُ.
وهكذا يَرُجُّ القادِرُ الأَزَليُّ ويُحَرِّكُ الكَوْنَ بهذا المَواتِ، ويَمزُجُه بهذه السَّكَراتِ فتَتَمَخَّضُ الخِلْقةُ كلُّها وتَتَميَّـزُ الكائِناتُ بَعضُها عن بعضٍ.. فتَمتازُ جَهَنَّمُ وتُسَعَّرُ بعَشِيرَتِها ومادَّتِها، وتَتَجلَّى الجَنّةُ وتُزلَفُ جامِعةً لَطائِفَها مُستَمِدّةً مِن عَناصِرِها المُلائِمةِ لها.. ويَبرُزُ عالَمُ الآخِرةِ للوُجُودِ الأَبدِيِّ.
[المسألة الثالثة: إحياء العالم بعد موته ممكن]
المسألةُ الثالثة: إمكانُ بَعْثِ العالَمِ الَّذي سيَمُوتُ. فكما أَثْبَتْنا آنِفًا في الأَساسِ الثَّاني أنَّه لا نَقْصَ مُطلَقًا في القُدرةِ الإلٰهِيّةِ، وأنَّ المُبَـرِّرَ قَوِيٌّ جِدًّا للآخِرةِ، وأنَّ المَسأَلةَ بِحَدِّ ذاتِها مِنَ المُمكِناتِ؛ فإذا كان للمَسأَلةِ المُمكِنةِ مُبَـرِّرٌ قَوِيٌّ، وأنَّ الفاعِلَ قادِرٌ مُقتَدِرٌ مُطلَقُ القُدرةِ، فلا يُنظَرُ إلَيها بأنَّها في حُدُودِ الإمكانِ، وإنَّما هي أَمرٌ واقِعٌ.
[عنصران في الكون ممتدان إلى الأبد]
نُكتةٌ رَمزِيّةٌ
إذا نَظَرْنا بتَدَبُّرٍ وإمعانٍ إلى هذا الكَونِ، نُلاحِظُ أنَّ فيه عُنصُرَينِ مُمتَدَّينِ إلى جَمِيعِ الجِهاتِ، بجُذُورٍ مُتَشَعِّبةٍ، كالخَيرِ والشَّرِّ، والحُسْنِ والقُبْحِ، والنَّفْعِ والضَّرِّ، والكَمالِ والنَّقْصِ، والضِّياءِ والظُّلمةِ، والهِدايةِ والضَّلالِ، والنُّورِ والنّارِ، والإيمانِ والكُفرِ، والطّاعةِ والعِصيانِ، والخَوْفِ والمَحَبّة.. فتَصطَدِمُ هذه الأَضدادُ بعضُها بالبعضِ الآخَرِ، بنَتائِجِها وآثارِها مُظهِرةً التَّغَيُّراتِ والتَّـبَدُّلاتِ باستِمرارٍ وكأنَّما تَستَعِدُّ وتَتَهيَّأُ لِعالَمٍ آخَرَ؛ فلا بُدَّ أنَّ نَتائِجَ ونِهاياتِ هذَينِ العُنصُرَينِ المُتَضادَّينِ سوف تَصِلُ إلى الأَبدِ وتَتَميَّـزُ فيَفتَرِقُ بعضُها عن بعضٍ هناك؛ وعِندَئذٍ تَظهَرُ على شَكلِ جَنّةٍ ونارٍ.
ولَمَّا كان عالَمُ البَقاءِ سيُبنَى مِن عالَمِ الفَناءِ هذا، فالعَناصِرُ الأَساسِيّةُ لِعالَمِنا إذًا ستُساقُ وتُرسَلُ حَتْمًا إلى البَقاءِ والأَبدِ.
نعم، إنَّ النَّارَ والجَنّةَ هما ثَمَرتا الغُصنِ المُتَدلِّي المُمتَدِّ إلى الأَبدِ مِن شَجَرةِ الخَلِيقةِ، وهما نَتِيجَتا سِلسِلةِ الكائِناتِ هذه، وهما مَخْزَنا سَيْلِ الشُّؤُونِ الإلٰهِيّةِ، وهما حَوْضا أَمواجِ المَوجُوداتِ المُتَلاطِمةِ الجارِيةِ إلى الأَبدِ، وهما تَجَلِّيانِ مِن تَجَلِّياتِ اللُّطْفِ والقَهْرِ.
فعِندَما تَرُجُّ يَدُ القُدرةِ وتَمْخَضُ بحَرَكةٍ عَنِيفةٍ هذا الكَوْنَ، يَمتَلِئُ الحَوضانِ بما يُناسِبُ كلًّا مِنهما مِن مَوادَّ وعَناصِرَ.
[الابتلاء سبب النماء]
إيضاحُ هذه النُّكتةِ الرَّمزِيّة:
إنَّ الحَكِيمَ الأَزَليَّ بمُقتَضَى حِكمَتِه الأَزَليّةِ وعِنايَتِه السَّرمَدِيّةِ، خَلَقَ هذا العالَمَ لِيَكُونَ مَحَلًّا للِاختِبارِ ومَيدانًا للِامتِحانِ، ومِرآةً لِأَسمائِه الحُسنَى وصَحِيفةً لِقَلَمِ قُدرَتِه وقَدَرِه.
فالِابتِلاءُ والِامتِحانُ سَبَبُ النُّشُوءِ والنَّماءِ، والنُّشُوءُ والنَّماءُ سَبَبٌ لِانكِشافِ الِاستِعداداتِ الفِطْرِيّةِ، وتَكَشُّفُ الِاستِعداداتِ سَبَبٌ لِظُهُورِ القابِلِيّاتِ، وظُهُورُ القابِليّاتِ سَبَبٌ لِظُهُورِ الحَقائِقِ النِّسبِيّةِ، وهذه الحَقائِقُ النِّسبِيّةُ سَبَبٌ لإظهارِ تَجَلِّياتِ نُقُوشِ الأَسماءِ الحُسنَى للخالِقِ الجَلِيلِ وتَحوِيلِ الكائِناتِ إلى صُورةِ كِتاباتٍ صَمَدانيّةٍ رَبّانيّةٍ.
وهكذا، فإنَّ سِرَّ التَّـكلِيفِ هذا وحِكْمةَ الِامتِحانِ يُؤَدِّي إلى تَصْفِيةِ جَواهِرِ الأَرواحِ العاليةِ الَّتي هي كالماسِ، مِن مَوادِّ الأَرواحِ السَّافِلةِ الَّتي هي كالفَحْمِ، وتَميِيزِها بعضِها عن بعضٍ.
فبِمِثلِ هذه الأَسرارِ السَّابِقةِ، ومِمّا لا نَعلَمُ مِنَ الحِكَمِ الدَّقيقةِ الرّائِعةِ، أَوْجَدَ الحَكِيمُ القَدِيرُ العالَمَ بصُورَتِه هذه، وأَرادَ تَغَيُّـرَه وتَحَوُّلَه، لِتلك الحِكَمِ والأَسبابِ؛ ولِأَجلِ التَّحَوُّلِ والتَّغَيُّرِ مَزَجَ بحِكمةٍ الأَضدادَ بعضَها معَ البعضِ الآخَرِ، وجَعَلَها تَتَقابَلُ ببَعضِها، فالمَضارُّ مَمزُوجةٌ بالمَنافِعِ والشُّرُورُ مُتَداخِلةٌ بالخَيراتِ، والقَبائِحُ مُجتَمِعةٌ معَ المَحاسِنِ.. وهكذا عَجَنَتْ يَدُ القُدرةِ الأَضدادَ، وصَيَّـرَتِ الكائِناتِ تابِعةً لِقانُونِ التَّـبَدُّلِ والتَّغيُّرِ ودُستُورِ التَّحَوُّلِ والتَّـكامُلِ.
ثمَّ لَمّا انقَضَى مَجلِسُ الِامتِحانِ، وانتَهَى وَقْتُ الِاختِبارِ، وأَظهَرَتِ الأَسماءُ الحُسنَى حُكْمَها، وأَتَمَّ قَلَمُ القَدَرِ كِتابَتَه، وأَكمَلَتِ القُدرةُ نُقُوشَ إبداعِها، ووَفَّتِ المَوجُوداتُ وَظائِفَها، وأَنْهَتِ المَخلُوقاتُ مَهامَّها، وعَبَّـرَ كلُّ شيءٍ عن مَعناه ومَغزاه، وأَنبَتَتِ الدُّنيا غِراسَ الآخِرةِ، وكَشَفَتِ الأَرضُ جَمِيعَ مُعجِزاتِ القُدرةِ وخَوارِقِ الصَّنْعةِ للخالقِ القَدِيرِ، وثَبَّتَ هذا العالَمُ الفاني لَوْحاتِ المَناظِرِ الخالِدةِ على شَرِيطِ الزَّمانِ.. عِندَئذٍ تَقتَضِي الحِكْمةُ السَّرمَدِيّةُ والعِنايةُ الأَزَليّةُ لِذِي الجَلالِ والإكرامِ أن تُظْهِرُ حَقائِقَ نَتائِجِ ذلك الِامتِحانِ ونَتائِجَ ذلك الِاختِبارِ، وحَقائقَ تَجَلِّياتِ تلك الأَسماءِ الحُسنَى، وحَقائقَ كِتاباتِ قَلَمِ القَدَرِ تلك، وأُصُولَ تلك النَّماذِجِ لإبداعاتِ صَنْعَتِه سُبحانَه، وفَوائِدَ وغاياتِ تلك الوَظائِفِ للمَوجُوداتِ، وجَزاءَ تلك الخِدْماتِ والمَهامِّ للمَخلُوقاتِ، وحَقائقَ مَعاني تلك الكَلِماتِ الَّتي أَفادَها كِتابُ الكَوْنِ، وظُهُورُ سَنابِلِ بُذُورِ الِاستِعداداتِ الفِطْرِيّةِ، وفَتْحُ أَبوابِ مَحكَمةٍ كُبْرَى، وإظهارُ المَناظِرِ المِثاليّةِ الَّتي الْتُقِطَت في الدُّنيا، وتَمزِيقُ سِتارِ الأَسبابِ الظّاهِرةِ، واستِسلامُ كلِّ شَيءٍ إلى أَمرِ خالِقِه ذِي الجَلالِ مُباشَرةً.
ويومَ تَتَوجَّهُ إرادتُه لإظهارِ تلك الحَقائِقِ المَذكُورةِ لِتُنَجِّيَ الكائِناتِ مِن تَقَلُّباتِ التَّغَيُّرِ والتَّحَوُّلِ والفَناءِ، وتَهَبَ لها الخُلُودَ، ولِتُمَيِّـزَ بين تلك الأَضدادِ وتُفرِّقَ بينَ أَسبابِ التَّغَيُّرِ ومَوادِّ الِاختِلافِ، سيُقِيمُ سُبحانَه القِيامةَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، وسيُصَفِّي الأُمُورَ لإظهارِ تلك النَّتائِجِ، وستَأْخُذُ جَهَنَّمُ في خِتامِها صُورةً أَبدِيّةً بَشِعةً مُرِيعةً، وسيُهَدَّدُ رُوّادُها بـ: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾.
وتَتَجلَّى الجَنّةُ برَوعَتِها وأُبَّهَتِها الجَماليّةِ الخالِدةِ، ويَقُولُ خَزَنَتُها لأَهلِها وأَصحابِها: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾، وسيَمْنَحُ القَدِيرُ الحَكِيمُ بقُدرَتِه الكامِلةِ أَهلَ هذَينِ الدّارَينِ الخالِدَينِ وُجُودًا ثابِتًا أَبدِيًّا خالِدًا لا يَعتَرِيه تَغَيُّـرٌ ولا انحِلالٌ ولا شَيْبٌ ولا انقِراضٌ؛ فليس هُناك أَسبابٌ ومُبَـرِّراتٌ للتَّغَيُّرِ المُؤَدِّي إلى الِانقِراضِ، كما بُرهِنَ ذلك في “الكَلِمةِ الثّامِنةِ والعِشرِين، المَقامِ الأَوَّلِ، السُّؤالِ الثّاني”.
[المسألة الرابعة: الإحياء بعد الموت سيقع]
المسألةُ الرابعة: إنَّ البَعْثَ سيَقَعُ حَتْمًا.
نعم، إنَّ الدُّنيا بعدَ دَمارِها ومَوتِها ستُبعَثُ “آخِرةً”، وإنَّ الخالِقَ القَدِيرَ الَّذي بَناها لِأَوَّلِ مَرّةٍ سيَعْمُرُها تَعمِيرًا أَجمَلَ مِن عِمارَتِها الأُولَى بعدَ هَدْمِها، وسيَجْعَلُها مَنزِلًا مِن مَنازِلِ الآخِرة.
وأَدَلُّ دَليلٍ على هذا هو القُرآنُ الكَرِيمُ أَوَّلًا، بجَمِيعِ آياتِه الَّتي تَضُمُّ آلافًا مِنَ البَراهِينِ العَقلِيّةِ، وجَمِيعُ الكُتُبِ السَّماوِيّةِ المُتَّفِقةِ معَ القُرآنِ الكَرِيمِ في هذه المَسأَلةِ، وكذا أَوصافُ الجَلالِ والجَمالِ الإلٰهِيّةِ وجَمِيعُ الأَسماءِ الحُسنَى للذَّاتِ الجَلِيلةِ، تَدُلُّ كلُّها دَلالةً قاطِعةً على وُقُوعِ البَعْثِ هذا، وكذا جَمِيعُ أَوامِرِه سُبحانَه المُوحَى بها إلى جَمِيعِ الأَنبِياءِ والمُرسَلِين عَلَيهم السَّلَام والَّتي وَعَدَ بها وُقُوعَ البَعْثِ والقِيامةِ؛ فلِأنَّه وَعَدَ فسيَفِي بالوَعدِ حَتْمًا. (راجِعِ الحَقِيقةَ الثّامِنةَ مِنَ الكَلِمةِ العاشِرةِ)، وكذا جَمِيعُ ما أَخبَرَ به النَّبِيُّ الأُمِّيُّ مُحمَّدٌ ﷺ ومعَه آلافُ المُعجِزاتِ، عن حُدُوثِ البَعْثِ ويَتَّفِقُ معَه جَمِيعُ الأَنبِياءِ والمُرسَلِين والأَصفِياءِ والأَولياءِ والصِّدِّيقين في وُقُوعِ هذا البَعْثِ؛ هذا فَضْلًا عَمّا تُخبِرُنا به جَمِيعُ الآياتِ التَّكوِينيّةِ في هذا الكَوْنِ العَظِيمِ عن وُقُوعِ البَعْثِ هذا.
الحاصِلُ: إنَّ جَمِيعَ حَقائِقِ “الكَلِمةِ العاشِرةِ”، وجَمِيعَ بَراهِينِ “لا سِيَّما” في “المَقامِ الثّاني مِنَ الكَلِمةِ الثّامِنةِ والعِشرِين” الَّذي كُتِبَ باللُّغةِ العَرَبيّةِ في “المَثنَوِيِّ العَرَبيِّ النُّورِيِّ” أَظهَرَتا بكُلِّ ثُبُوتٍ وقَطْعِيّةٍ، كبُزُوغِ الشَّمسِ بعدَ غُرُوبِها، أن ستُشرِقُ شَمسُ الحَقِيقةِ بصُورةِ حَياةٍ أُخرَوِيّةٍ بعدَ غُرُوبِ الحَياةِ الدُّنيَوِيّةِ.
وهكذا، فإنَّ كلَّ ما بَيَّنّاه مُنذُ البِدايةِ في الأُسُسِ الأَربَعةِ، إنَّما كان استِمدادًا مِنِ اسمِ “الحَكِيمِ” واستِفادةً مِن فَيضِ القُرآنِ الكَرِيمِ، كي تُعِدَّ القَلْبَ للقَبُولِ وتُهَيِّئَ النَّفْسَ للتَّسلِيمِ وتُحضِرَ العَقلَ للإقناعِ.
ومَن نكُونُ نحنُ حتَّى نَتَـكلَّمَ في أَمرٍ كَهذا، فالقَولُ الفَصْلُ هو ما يَقُولُه مالِكُ هذه الدُّنيا، وخالِقُ هذا الكَونِ، ورَبُّ هذه المَوجُوداتِ؟! أمّا نحنُ فلا يَسَعُنا إلّا الخُضُوعُ والإنصاتُ والإذعانُ.. فحِينَما يَتَـكلَّمُ رَبُّ السَّماواتِ والأَرضِ، فمَن ذا أَحَقُّ مِنه بالكَلامِ سُبحانَه وتَعالَى؟! فهذا الخالِقُ الكَرِيمُ يُوَجِّهُ خِطابًا أَزَلِيًّا إلى جَمِيعِ صُفُوفِ طَوائِفِ الكائِناتِ في مَسجِدِ الدُّنيا ومَدرَسةِ الأَرضِ القابِعِين وَراءَ العُصُورِ خِطابًا يُزَلزِلُ الكَونَ بأَجمَعِه:
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾
وخِطابًا أَبهَجَ جَمِيعَ المَخلُوقاتِ وأَثارَ فيهِمُ الشَّوقَ:
﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
فعلَينا السَّمعُ والإنصاتُ إلى ذلك الخِطابِ الصَّادِرِ مِن مالِكِ المُلكِ ورَبِّ الدُّنيا والآخِرةِ ونقُولَ: آمَنّا وصَدَّقْنا.
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾
﴿اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى سَيِّدِنَا إبرَاهِيمَ وعَلَى آلِ سَيِّدِنَا إبرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾
❀ ❀ ❀