الكلمات

الكلمة السابعة والعشرون: رسالة الاجتهاد

[هذه الكلمة تتحدث عن الاجتهاد في هذا العصر: شروطه وموانعه وضوابطه، كما تتحدث عن المذاهب الفقهية وشرف مرتبة الصحابة رضي الله عنهم]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

الميل إلى النماء والتوسع إن كان من الداخل فهو تَكامُل، وإن كان من الخارج فهو تَمزُّق.
الميل إلى النماء والتوسع إن كان من الداخل فهو تَكامُل، وإن كان من الخارج فهو تَمزُّق.
المحتويات عرض

الكلمة السابعة والعشرون‌

 

رسالة الاجتهاد‌

قبلَ حوالَيْ خَمسِ سَنَواتٍ أو أَكثَرَ كَتَبتُ بحثًا حَولَ “الِاجتِهادِ” في رِسالةٍ بالعَرَبيّة. واستِجابةً لرَغبةِ أَخَوَينِ عَزِيزَينِ كَتبتُ هذه “الكَلِمةَ” إرشادًا لِمَن لا يَعرِفُ حَدَّه في هذه المَسأَلةِ، لِيُدرِكَ ما يَجِبُ أن يَقِفَ عِندَه.‌

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم﴾

[باب الاجتهاد مفتوح لكن دونه ستة موانع]

إنَّ بابَ الِاجتِهادِ مَفتُوحٌ، إلّا أنَّ هناك سِتّةَ مَوانِعَ في هذا الزَّمانِ تَحُولُ دُونَ الدُّخُولِ فيه:

[زمن استيلاء البدع]

أوَّلُها: كما تُسَدُّ المَنافِذُ حتَّى الصَّغِيرةُ مِنها عِندَ اشتِدادِ العَواصِفِ في الشِّتاءِ، ولا يُستَصْوَبُ فَتحُ أَبوابٍ جَدِيدةٍ، وكما لا تُفتَحُ ثُغُورٌ لِتَرميمِ الجُدرانِ وتَعمِيرِ السُّدُودِ عندَ اكتِساحِ السُّيُولِ، لأنَّه يُفضِي إلى الغَرَقِ والهَلاكِ.. كذلك مِنَ الجِنايةِ في حَقِّ الإسلامِ فَتْحُ أَبوابٍ جَدِيدةٍ في قَصرِه المُنِيفِ، وشَقُّ ثَغَراتٍ في جُدرانِه، مِمّا يُمَهِّدُ السَّبِيلَ للمُتَسلِّلين والمُخَرِّبين باسمِ الِاجتِهادِ، ولا سِيَّما في زَمَنِ المُنكَراتِ، ووَقتَ هُجُومِ العاداتِ الأَجنَبِيّةِ واستِيلائِها، وأَثناءَ كَثرةِ البِدَعِ وتَزاحُمِ الضَّلالةِ ودَمارِها.

[لا اجتهاد في الضروريات القطعية]

ثانيها: إنَّ الضَّرُورِيّاتِ الدِّينيّةَ الَّتي لا مَجالَ فيها للِاجتِهادِ لِقَطعِيَّتِها وثُبُوتِها، والَّتي هي في حُكْمِ القُوتِ والغِذاءِ، قد أُهمِلَت في العَصرِ الحاضِرِ وأَخَذَت بالتَّصَدُّع؛ فالواجِبُ يُحَتِّمُ صَرفَ الجُهُودِ وبَذْلَ الهِمَمِ جَمِيعًا لإحياءِ هذه الضَّرُورِيّاتِ وإقامَتِها، حيثُ إنَّ الجَوانِبَ النَّظَرِيّةَ للإسلامِ قدِ استَثْرَتْ بأَفكارِ السَّلفِ الصّالِحِين وتَوَسَّعَت باجتِهاداتِهمُ الخالِصةِ، حتَّى لم تَعُد تَضِيقُ بالعُصُورِ جَمِيعًا؛ لِذا فإنَّ تَرْكَ تلك الِاجتِهاداتِ الزَّكِيّةِ والِانصِرافَ عنها إلى اجتِهاداتٍ جَدِيدةٍ اتِّباعًا للهَوَى إنَّما هو خِيانةٌ مُبتَدَعةٌ.

[قابليات أبناء هذا الزمان]

ثالثُها: مِثلَما يُرَوَّجُ لِمَتاعٍ في السُّوقِ حَسَبَ المَواسِمِ ويُرْغَبُ فيه، كذلك أَسواقُ الحَياةِ الِاجتِماعيّةِ ومَعارِضُ الحَضارةِ البَشَرِيّةِ في العالَمِ، فتَرَى مَتاعًا يُرْغَبُ فيه في عَصرٍ، فيكُونُ له رَواجٌ، فتُوَجَّهُ إلَيه الأَنظارُ، وتُجذَبُ نحوَه الأَفكارُ، فتَحُومُ حَوْلَه الرَّغَباتُ.

فمَثلًا: إنَّ المَتاعَ الَّذي تُلْفَتُ إلَيه الأَنظارُ في عَصرِنا الحاضِرِ ويُرْغَبُ فيه هو الِانشِغالُ بالأُمُورِ السِّياسِيّةِ وأَحداثِها، وتَأْمِينُ الرّاحةِ في الحَياةِ الدُّنيا وحَصْرُ الهَمِّ بها، ونَشْرُ الأَفكارِ المادِّيّةِ وتَروِيجُها؛ بَينَما نَرَى أنَّ السِّلعةَ الغاليةَ النَّفيسةَ، والبِضاعةَ الرّائِجةَ المَقبُولةَ في عَصرِ السَّلَفِ الصّالِحِ وأَكثَرَ ما يُرْغَبُ فيه في سُوقِ زَمانِهم هو إرضاءُ رَبِّ السَّماواتِ والأَرضِ والوُقُوفُ عندَ حُدُودِه، واستِنباطُ أَوامِرِه ونَواهِيه مِن كَلامِه الجَليلِ، والسَّعيُ لِنَيلِ وَسائِلِ الوُصُولِ إلى السَّعادةِ الخالِدةِ الَّتي فَتَح أَبوابَها إلى الأَبَدِ القُرآنُ الكَرِيمُ ونُورُ النُّبوّةِ السّاطِعُ.

فكانَتِ الأَذهانُ والقُلُوبُ والأَرواحُ كلُّها مُتَوجِّهةً في ذلك العَصرِ وبكُلِّ قُواها إلى مَعرِفةِ مَرضاةِ اللهِ سُبحانَه وإدراكِ مَرامي كَلامِه، حتَّى باتَت وِجهةُ حَياتِهم وأَحوالُهمُ المُختَلِفةُ ورَوابِطُهم فيما بَينَهم وحَوادِثُهم وأَحادِيثُهم مُقبِلةً كلُّها إلى مَرضاةِ رَبِّ السَّماواتِ والأَرَضِين؛ لِذا ففي مِثلِ هذه الحَياةِ الَّتي تَجرِي بشَتَّى جَوانِبِها وَفْقَ مَرضاةِ رَبِّ العالَمِين سُبحانَه تُصبِحُ الحَوادِثُ بالنِّسبةِ لِصاحِبِ الِاستِعدادِ والقابِلِيّاتِ الفِطْرِيّةِ دُرُوسًا وعِبَرًا له مِن حيثُ لا يَشعُرُ، وكأنَّ قَلْبَه وفِطْرتَه يَتَلقَّيانِ الدُّرُوسَ والإرشادَ مِن كلِّ ما حَوْلَه، ويَستَفِيدانِ مِن كلِّ حادِثةٍ وظَرْفٍ وطَوْرٍ، وكأنَّ كلَّ شَيءٍ يَقُومُ بدَورِ مُعَلِّمٍ مُرشِدٍ يُعلِّمُ فِطْرَتَه ويُلَقِّنُها ويُرشِدُها ويُهيِّـئُها للِاجتِهادِ، حتَّى يكادُ زَيتُ ذَكائِه يُضِيءُ ولو لم تَمْسَسْه نارُ الِاكتِسابِ. فإذا ما شَرَع مِثلُ هذا الشَّخصِ المُستَعِدِّ في مِثلِ هذا المُجتَمَعِ بالِاجتِهادِ في أَوانِه، فإنَّ استِعدادَه يَنالُ سِرًّا مِن أَسرارِ ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾، ويُصبِحُ في أَقرَبِ وَقتٍ وأَسرَعِه مُجتَهِدًا.

بَينَما في العَصرِ الحاضِرِ: فإنَّ تَحَكُّمَ الحَضارةِ الأَورُوبِّيّةِ، وتَسلُّطَ الفَلسَفةِ المادِّيّةِ وأَفكارِها، وتَعَقُّدَ مُتَطلَّباتِ الحَياةِ اليَومِيّةِ.. كُلُّها تُؤَدِّي إلى تَشَتُّتِ الأَفكارِ وحَيْرةِ القُلُوبِ وتَبَعثُرِ الهِمَمِ وتَفَتُّتِ الِاهتِماماتِ، حتَّى أَضْحَتِ الأُمُورُ المَعنَوِيّةُ غَرِيبةً عنِ الأَذهانِ.

لِذا، لو وُجِدَ الآنَ مَن هو بذَكاءِ “سُفيانَ بنِ عُيَينةَ” الَّذي حَفِظ القُرآنَ الكَرِيمَ وجالَسَ العُلَماءَ وهو لا يَزالُ في الرّابِعةِ مِن عُمُرِه، لَاحتاجَ إلى عَشَرةِ أَمثالِ ما احتاجَه ابنُ عُيَينةَ لِيَبْلُغَ دَرَجةَ الِاجتِهادِ، أي: إنَّه لو كان قد تَيَسَّرَ لِسُفيانَ بنِ عُيَينةَ الِاجتِهادُ في عَشْرِ سَنَواتٍ، فإنَّ الَّذي في زَمانِنا هذا قد يَحصُلُ علَيه في مِئةِ سنةٍ، ذلك لأنَّ مَبْدَأَ تَعَلُّمِ “سُفيانَ” الفِطرِيَّ للِاجتِهادِ يَبدَأُ مِن سِنِّ التَّميِيزِ، ويَتَهيَّأُ استِعدادُه تَدرِيجًا كاستِعدادِ الكِبريتِ للنّارِ.

أمّا نَظِيرُه في الوَقتِ الحاضِرِ فقد غَرِق فِكْرُه في مُستَنقَعِ الفَلسَفةِ المادِّيّةِ، وسَرَح عَقْلُه في أَحداثِ السِّياسةِ، وحارَ قَلبُه أمامَ مُتَطلَّباتِ الحَياةِ المَعاشِيّةِ، وابتَعَدَتِ استِعداداتُه وقابِلِيّاتُه عنِ الِاجتِهادِ، فلا جَرَمَ قدِ ابتَعَد استِعدادُه عنِ القُدرةِ على الِاجتِهاداتِ الشَّرعِيّةِ بمِقدارِ تَفَنُّنِه في العُلُومِ الأَرضِيّةِ الحاضِرةِ، وقَصُرَ عن نَيلِ دَرَجةِ الِاجتِهادِ بمِقدارِ تَبَحُّرِه في العُلُومِ الأَرضِيّةِ، لِذا لا يُمكِنُه أن يقُولَ: لِمَ لا أَستَطِيعُ أن أَبلُغَ دَرَجةَ سُفيانَ بنِ عُيَينةَ وأنا مِثلُه في الذَّكاءِ؟ نعم، لا يَحِقُّ له هذا القَولُ، كما أنَّه لن يَلْحَقَ به ولن يَبلُغَ شَأْوَه أَبَدًا.

[النمو من الداخل: تَكامُل، ومن الخارج: تَمَزُّق]

رابعها: إنَّ مَيْلَ الجِسمِ إلى التَّوَسُّعِ لِأَجلِ النُّمُوِّ إن كان داخِليًّا فهو دَليلُ التَّكامُلِ، بَينَما إن كان مِنَ الخارِجِ فهو سَبَبُ تَمَزُّقِ الغِلافِ والجِلدِ، أي: إنَّه سَبَبُ الهَدمِ والتَّخرِيبِ لا النُّمُوِّ والتَّوَسُّعِ.

وهكذا، فإنَّ وُجُودَ إرادةِ الِاجتِهادِ والرَّغبةِ في التَّوَسُّعِ في الدِّينِ عندَ الَّذين يَدُورُون في فَلَكِ الإسلامِ، ويَأْتُون إلَيه مِن بابِ التَّقوَى والوَرَعِ الكامِلَينِ، وعن طَرِيقِ الِامتِثالِ بالضَّرُوريّاتِ الدِّينيّةِ، فهو دَليلُ الكَمالِ والتَّكامُلِ، وخَيرُ شاهِدٍ علَيه السَّلَفُ الصّالِحُ؛ أمّا التَّطَلُّعُ إلى الِاجتِهادِ والرَّغبةِ في التَّوَسُّعِ في الدِّينِ إن كان ناشِئًا لَدَى الَّذين تَرَكُوا الضَّرُورِيّاتِ الدِّينيّةَ واستَحَبُّوا الحَياةَ الدُّنيا، وتَلَوَّثُوا بالفَلسَفةِ المادِّيّةِ، فهو وَسِيلةٌ إلى تَخرِيبِ الوُجُودِ الإسلاميِّ وحَلِّ رِبقةِ الإسلامِ مِنَ الأَعناقِ.

[ثلاثة أسباب تجعل اجتهادات هذا العصر أرضية]

خامسها: هناك ثَلاثُ نِقاطٍ تَدعُو إلى التَّأَمُّلِ والنَّظَرِ، تَجعَلُ اجتِهاداتِ هذا العَصرِ أَرضِيّةً وتَسلُبُ مِنها رُوحَها السَّماوِيَّ؛ بَينَما الشَّرِيعةُ سَماوِيّةٌ والِاجتِهاداتُ بدَورِها سَماوِيّةٌ، لإظهارِها خَفايا أَحكامِها. والنِّقاطُ هي الآتي:

[الحكم يدور على العلة لا على الحكمة]

أوَّلًا: إنَّ “عِلّةَ” كلِّ حُكمٍ تَختَلِفُ عن “حِكمَتِه”، فالحِكمةُ والمَصلَحةُ سَبَبُ التَّرجِيحِ ولَيسَت مَناطَ الوُجُودِ ولا مَدارَ الإيجادِ، بَينَما “العِلّةُ” هي مَدارُ وُجُودِ الحُكمِ.

ولْنُوَضِّحْ هذا بمِثالٍ: تُقصَرُ الصَّلاةُ في السَّفَرِ، فتُصَلَّى رَكعَتينِ. فعِلّةُ هذه الرُّخصةِ الشَّرعيّةِ السَّفَرُ، أمّا حِكمَتُها فهي المَشَقّةُ. فإذا وُجِدَ السَّفَرُ ولم تكُن هناك مَشَقّةٌ فالصَّلاةُ تُقصَرُ، لأنَّ العِلّةَ قائِمةٌ وهي السَّفَرُ؛ في حينِ إن لم يكُن هناك سَفَرٌ وكانت هناك أَضعافُ أَضعافِ المَشَقّةِ، فلن تكُونَ تلك المَشَقّاتُ عِلّةَ القَصرِ.

وخِلافًا لهذه الحَقيقةِ يَتَوجَّهُ نَظَرُ الِاجتِهادِ في هذا العَصرِ إلى إقامةِ المَصلَحةِ والحِكمةِ بَدَلَ العِلَّة، وفي ضَوئِها يَصدُرُ حُكمُه، فلا شَكَّ أنَّ اجتِهادًا كهذا أَرضِيٌّ وليس بسَماوِيٍّ.

[نظر هذا العصر متوجه إلى تأمين سعادة الدنيا بالأصالة]

ثانيًا: إنَّ نَظَرَ هذا العَصرِ مُتَوجِّهٌ أوَّلًا وبالذّاتِ إلى تَأْمينِ سَعادةِ الدُّنيا، ويُوَجِّهُ الأَحكامَ نَحوَها، والحالُ أنَّ قَصْدَ الشَّرِيعةِ مُتَوجِّهٌ أوَّلًا وبالذّاتِ إلى سَعادةِ الآخِرةِ، ويَنظُرُ إلى سَعادةِ الدُّنيا بالدَّرَجةِ الثّانيةِ، ويَتَّخِذُها وَسِيلةً للحَياةِ الأُخرَى، أي: إنَّ وِجهةَ هذا العَصرِ غَرِيبةٌ عن رُوحِ الشَّرِيعةِ ومَقاصِدِها، فلا تَستَطِيعُ أن تَجتَهِدَ باسمِ الشَّريعةِ.

[قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” ليست كلية]

ثالثًا: إنَّ القاعِدةَ الشَّرعيّةَ: “الضَّرُوراتُ تُبِيحُ المَحظُوراتِ” لَيسَت كُلِّيّةً، لِأنَّ الضَّرُورةَ إن لم تَكُنْ ناشِئةً عن طَرِيقِ الحَرامِ فإنَّها تَتَسبَّبُ في إِحلالِ الحَرامِ؛ وإلّا فالضَّرُورةُ الَّتي نَشَأَت عن سُوءِ اختِيارِ الفَردِ، أو عن وَسائِلَ غيرِ مَشرُوعةٍ لن تكُونَ حُجّةً ولا سَبَبًا لإباحةِ المَحظُوراتِ ولا مَدارًا لِأَحكامِ الرُّخَصِ.

فمَثلًا: لو أَسْكَر أَحَدٌ نَفسَه بسُوءِ اختِيارِه، فتَصَرُّفاتُه لَدَى عُلَماءِ الشَّرعِ حُجَّةٌ علَيه، أي: لا يُعذَرُ؛ وإن طَلَّق زَوجَتَه فطَلاقُه واقِعٌ، وإنِ ارتَكَبَ جَرِيمةً يُعاقَبْ علَيها؛ ولكن إن كانَت مِن دُونِ اختِيارٍ مِنه، فلا يَقَعُ طَلاقُه، ولا يُعاقَبُ على ما جَنَى، فليس لِمُدمِنِ خَمرٍ – مَثلًا – أن يقُولَ: إنَّها ضَرُورةٌ لي، فهي إذًا حَلالٌ لي، حتَّى لو كان مُبتَلًى بها إلى حَدِّ الضَّرُورةِ بالنِّسبةِ إليه.

فانطِلاقًا مِن هذا المَفهُومِ: فإنَّ هناك كَثِيرًا مِنَ الأُمُورِ في الوَقتِ الحاضِرِ ابتُلِي بها النّاسُ وباتَت ضَرُورِيّةً بالنِّسبةِ إليهم، حتَّى أَخَذَت شَكلَ “البَلوَى العامّة”، فهذه الَّتي تُسَمَّى ضَرُورةً، لن تكُونَ حُجّةً لِأَحكامِ الرُّخَصِ، ولا تُباحُ لِأَجلِها المَحظُوراتُ، لأنَّها نَجَمَت مِن سُوءِ اختِيارِ الفَردِ ومِن رَغَباتٍ غيرِ مَشرُوعةٍ ومِنَ مُعامَلاتٍ مُحَرَّمةٍ.

وحيثُ إنَّ أَهلَ اجتِهادِ هذا الزَّمانِ قد جَعَلُوا تلك الضَّرُوراتِ مَدارًا للأَحكامِ الشَّرعِيّةِ، لِذا أَصبَحَتِ اجتِهاداتُهم أَرضِيّةً وتابِعةً للهَوَى، ومَشُوبةً بالفَلسَفةِ المادِّيّةِ، فهي إذًا لَيسَت سَماوِيّةً، ولا يَصِحُّ تَسمِيَتُها اجتِهاداتٍ شَرعِيّةً قَطْعًا؛ ذلك لأنَّ أيَّ تَصَرُّفٍ في أَحكامِ خالِقِ السَّماواتِ والأَرضِ وأيَّ تَدَخُّلٍ في عِبادةِ عِبادِه دُونَما رُخصةٍ أو إِذنٍ مَعنَوِيٍّ فهو مَردُودٌ.

ولْنَضْرِبْ لِذَلك مِثالًا: يَستَحْسِنُ بعضُ الغافِلين إلقاءَ خُطبةِ الجُمُعةِ وأَمثالِها مِنَ الشَّعائِرِ الإسلاميّةِ باللُّغةِ المَحَلِّيّةِ لكُلِّ قَومٍ دُونَ العَرَبيّةِ، ويُبَرِّرُون استِحْسانَهم هذا بسبَبَينِ:

الأوَّلُ: ” لِيَتَمكَّنَ عَوامُّ المُسلِمين مِن فَهمِ الأَحداثِ السِّياسِيّةِ!” معَ أنَّها قد دَخَلَها مِنَ الأَكاذِيبِ والدَّسائِسِ والخِداعِ ما جَعَلَها في حُكْمِ وَسْوَسةِ الشَّياطِينِ! بَينَما المِنبَرُ مَقامُ تَبلِيغِ الوَحْيِ الإلٰهِيِّ، وهو أَرفَعُ وأَجَلُّ مِن أن تَرتَقِيَ إلَيه الوَسْوَسةُ الشَّيطانيّةُ.

الثّاني: ” الخُطبةُ هي لِفَهْمِ ما يُرشِدُ إلَيه بعضُ السُّورِ القُرآنيّةِ مِن نَصائِحَ.”

نعم، لو كان مُعظَمُ المُسلِمينَ يُطَبِّقون المُسَلَّماتِ الشَّرعِيّةَ والأَحكامَ المَعلُومةَ مِنَ الدِّينِ بالضَّرُورةِ، ويَمتَثِلُونها، فلَرُبَّما كان يُستَحْسَنُ عندَ ذاك إيرادُ الخُطبةِ باللُّغةِ المَعرُوفةِ لَدَيهم، ولكانَت تَرجَمةُ سُوَرٍ مِنَ القُرآنِ لها مَبَرِّرٌ -إن كانَتِ التَّرجَمةُ مُمكِنةً1لقد أَثبتَتِ الكَلمةُ الخَامسة والعِشرُون “المُعجِزات القُرآنيّة” أنه لا يُمكِنُ تَرجمةُ القُرآنِ ترجمةً حقيقيّةً.– وذلك لِيَفهَمُوا النَّظَرِيّاتِ الشَّرعِيّةَ والمَسائِلَ الدَّقيقةَ والنَّصائِحَ الخَفِيّةَ؛ أمَّا وقد أُهمِلَت في زَمانِنا هذا الأَحكامُ الواضِحةُ المَعلُومةُ؛ كوُجُوبِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ وحُرمةِ القَتْلِ والزِّنَى والخَمرِ، وأنَّ عَوامَّ المُسلِمينَ لَيسُوا بحاجةٍ إلى دُرُوسٍ في مَعرِفةِ هذا الوُجُوبِ وتلك الحُرمةِ بقَدْرِ ما هم بحاجةٍ إلى الِامتِثالِ بتلك الأَحكامِ واتِّباعِها في حَياتِهم. ولا يَتِمُّ ذلك إلّا بتَذكِيرِهم وحَثِّهم على العَمَلِ، وشَحْذِ الهِمَمِ وإثارةِ غَيرةِ الإسلامِ في عُرُوقِهم، وتَحرِيكِ شُعُورِ الإيمانِ لَدَيهِم كي يَنهَضُوا بامتِثالِ تلك الأَحكامِ المُطَهَّرةِ واتِّباعِها.

فالمُسلِمُ العامِّيُّ – مَهما بَلَغ جَهلُه – يُدرِكُ هذا المَعنَى الإجماليَّ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ، ومِنَ الخُطبةِ العَرَبيّةِ، ويَعلَمُ في قَرارةِ نَفسِه بأنَّ الخَطِيبَ أوِ القارِئَ للقُرآنِ الكَرِيمِ يُذَكِّرُه ويُذَكِّرُ الآخَرِين معَه بأَركانِ الإيمانِ وأُسُسِ الإسلامِ الَّتي هي مَعلُومةٌ مِنَ الدِّينِ بالضَّرُورةِ. وعِندَها يُفعَمُ قَلبُه بالأَشواقِ إلى تَطبِيقِ تلك الأَحكامِ.

ليتَ شِعرِي أيُّ تَعبِيرٍ في الكَونِ كُلِّه يُمكِنُه أن يَقِفَ على قَدَمَيه حِيالَ الإعجازِ الرّائِعِ في القُرآنِ الكَرِيمِ المَوصُولِ بالعَرشِ العَظِيمِ.. وأيُّ تَرغِيبٍ وتَرهِيبٍ وبَيانٍ وتَذكِيرٍ يُمكِنُ أن يكُونَ أَفضَلَ مِنه؟!

[قرب المجتهدين إلى عصر الصحابة مزية لا تتوفر فيمن بعدهم]

سادسها: إنَّ قُرْبَ عَهْدِ المُجتَهِدِين العِظامِ مِنَ السَّلَفِ الصّالِحِين لِعَصرِ الصَّحابةِ الكِرامِ الَّذي هو عَصرُ الحَقِيقةِ وعَصرُ النُّورِ يَسَّر لهم أن يَأْخُذُوا النُّورَ الصّافِيَ مِن أَقرَبِ مَصادِرِه، فتَمَكَّنُوا مِنَ القِيامِ باجتِهاداتِهِمُ الخالِصةِ؛ في حينِ أنَّ مُجتَهِدِي العَصرِ الحَدِيثِ يَنظُرُون إلى كِتابِ الحَقيقةِ مِن مَسافةٍ بَعِيدةٍ جِدًّا ومِن وَراءِ كَثيرٍ جِدًّا مِنَ الأَستارِ والحُجُبِ حتَّى لَيَصعُبُ علَيهِم رُؤيةُ أَوضَحِ حرفٍ فيه.

فإن قُلتَ: إنَّ مَدارَ الِاجتِهاداتِ ومَصْدرَ الأَحكامِ الشَّرعِيّةِ هو عَدالةُ الصَّحابةِ وصِدْقُهم، حتَّى اتَّفَقَتِ الأُمّةُ على أنَّهم عُدُولٌ صادِقُون، عِلْمًا أنَّهم بَشَرٌ مِثلُنا، لا يَخْلُو أَحَدٌ مِنهم مِن خَطَأٍ!

الجَوابُ: إنَّ الصَّحابةَ رِضوانُ اللهِ علَيهِم أَجمَعِين هم رُوّادُ الحَقِّ وعُشّاقُه، وهمُ التَّوَّاقُون إلى الصِّدقِ والعَدْلِ، فقد تَبَيَّن في عَصرِهم قُبْحُ الكَذِبِ ومَساوِئُه، وجَمالُ الصِّدقِ ومَحاسِنُه بوُضُوحٍ تامٍّ، بحَيثُ أَصبَحَ البَونُ شاسِعًا بينَ الصِّدقِ والكَذِبِ، كالبُعدِ بينَ الثُّرَيّا والثَّرَى وبينَ العَرْشِ والفَرْشِ!! إذ يُوضِحُ ذلك الفارِقَ الكَبِيرَ بينَ الرَّسُولِ الأَعظَمِ ﷺ الواقِفِ على قِمّةِ دَرَجاتِ الصِّدقِ وفي أَعلَى عِلِّيِّينَ، وبينَ مُسَيلِمةَ الكَذَّابِ الَّذي كان في أَسفَلِ سافِلين وفي أَوْطَأِ دَرَكاتِ الكَذِبِ؛ فالَّذي أَهوَى بمُسَيلِمةَ إلى تلك الدَّرَكاتِ الهابِطةِ الدَّنِيئةِ هو الكَذِبُ، والَّذي رَفَع مُحمَّدًا الأَمِينَ ﷺ إلى تلك الدَّرَجاتِ الرَّفيعةِ هو الصِّدقُ والِاستِقامةُ.

لِذا فالصَّحابةُ الكِرامُ رِضوانُ اللهِ علَيهِمُ الَّذين كانُوا يَملِكُون الهِمَمَ العاليةَ والخُلُقَ الرَّفيعَ، واستَنارُوا بنُورِ صُحْبةِ شَمسِ النُّـبُوّةِ، لا رَيبَ أنَّهم تَرَفَّعُوا عنِ الكَذِبِ المَمقُوتِ القَبِيحِ المَوجُودِ في بِضاعةِ مُسَيلِمةَ الكَذّابِ ونَجاساتِها المُوجِبةِ للذِّلّةِ والهَوانِ -كما هو ثابِتٌ- وتَجَنَّـبُوا الكَذِبَ كتَجَنُّبِهمُ الكُفرَ الَّذي هو صِنْوُه، وسَعَوْا سَعْيًا حَثِيثًا في طَلَبِ الصِّدقِ والِاستِقامةِ والحَقِّ – تِلكُمُ الخِصالِ المُتَّسِمةِ بالحُسنِ وبالجَمالِ، القَمِينةِ بالمُباهاةِ والفَخْرِ، والَّتي هي وَسِيلةٌ للعُرُوجِ صُعُدًا إلى الرُّقِيِّ والكَمالِ، والَّتي تَنَوَّرَت بنُورِ شُعاعِها الحَياةُ الِاجتِماعِيّةُ البَشَرِيّةُ، ونَحوُ ذلك ممّا هو أَكثَرُ أَنواعِ بَضائِعِ خَزِينةِ فَخرِ العالَمِينَ ﷺ رَواجًا – وتَحَرَّوْها بكُلِّ ما أُوتُوا مِن قُوّةٍ وعَزْمٍ، فشُغِفُوا بها ولا سِيَّما في رِوايةِ الأَحكامِ الشَّرعِيّةِ وتَبلِيغِها.

أمَّا الآنَ، فقد ضاقَتِ المَسافةُ بينَ الكَذِبِ والصِّدقِ، وقَصُرَت حتَّى صارا مُتَقارِبَينِ بل مُتَكاتِفَينِ، وبات الِانتِقالُ مِنَ الصِّدقِ إلى الكَذِبِ سَهْلًا وهَيِّنًا جِدًّا، بل غَدا الكَذِبُ يَفضُلُ على الصِّدقِ في الدِّعاياتِ السِّياسِيّةِ؛ فإن كان أَجمَلُ شَيءٍ يُباعُ معَ أَقبَحِه في حانُوتٍ واحِدٍ جَنْبًا إلى جَنْبٍ وبالثَّمَنِ نَفسِه، فلا يَنبَغِي على مُشتَرِي لُؤلُؤةِ الصِّدقِ الغالي أن يَعتَمِدَ على كَلامِ صاحِبِ الحانُوتِ ومَعرِفَتِه دُونَ فَحْصٍ وتَمحِيصٍ.

  ❀  ❀

الخاتمة‌

تَتَبدَّلُ الشَّرائعُ بتَبَدُّلِ العُصُورِ، وقد تَأْتِي شَرائِعُ مُختَلِفةٌ، ويُرسَلُ رُسُلٌ كِرامٌ في عَصرٍ واحِدٍ، حَسَبَ الأَقوامِ. وقد حَدَث هذا فِعْلًا.

أمَّا بعدَ خَتْمِ النُّـبُوّةِ، وبِعثةِ خاتَمِ الأَنبِياءِ والمُرسَلِين علَيه أَفضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، فلم تَعُدْ هناك حاجةٌ إلى شَرِيعةٍ أُخرَى، لأنَّ شَرِيعَتَه العُظمَى كافِيةٌ ووافِيةٌ لكُلِّ قَومٍ في كلِّ عَصْرٍ.

أمَّا جُزئيّاتُ الأَحكامِ غيرُ المَنصُوصِ علَيها، الَّتي تَقتَضِي التَّبدِيلَ تَبَعًا للظُّرُوفِ، فإنَّ اجتِهاداتِ فُقَهاءِ المَذاهِبِ كَفِيلةٌ بمُعالَجةِ التَّبدِيلِ؛ فكما تُبَدَّلُ المَلابِسُ باختِلافِ المَواسِمِ، وتُغيَّـرُ الأَدوِيةُ حَسَبَ حاجةِ المَرضَى، كذلك تُبَدَّلُ الشَّرائِعُ حَسَبَ العُصُورِ، وتَدُورُ الأَحكامُ وَفْقَ استِعداداتِ الأُمَمِ الفِطرِيّةِ، لأنَّ الأَحكامَ الشَّرعِيّةَ الفَرعِيّةَ تَتْبَعُ الأَحوالَ البَشَرِيّةَ، وتَأْتي مُنسَجِمةً معَها، وتُصِبحُ دَواءً لِدائِها.

ففي زَمَنِ الأَنبِياءِ السّابِقِين عَلَيهم السَّلَام كانَتِ الطَّبَقاتُ البَشَرِيّةُ مُتَباعِدةً بعضُها عن بعضٍ، معَ ما فيهم مِن جَفاءٍ وشِدّةٍ في السَّجايا، فكانُوا أَقرَبَ ما يكُونُون إلى البَداوةِ في الأَفكارِ، لِذا أَتَتِ الشَّرائِعُ في تلك الأَزمِنةِ مُتَبايِنةً مُختَلِفةً، معَ مُوافَقَتِها لِأَحوالِهم وانسِجامِها مَعَ أَوضاعِهم، حتَّى لقد أَتَى أَنبِياءُ مُتَعدِّدون بشَرائِعَ مُختَلِفةٍ في مَنطِقةٍ واحِدةٍ وفي عَصرٍ واحِدٍ.

ولكِن بمَجِيءِ خاتَمِ النَّبِيِّين وهو نَبِيُّ آخِرِ الزَّمانِ ﷺ تكامَلَتِ البَشَرِيّةُ وكأَنَّها تَرَقَّت مِن مَرحَلةِ الدِّراسةِ الِابتِدائيّةِ إلى مَرحَلةِ الدِّراسةِ الثّانَوِيّةِ، وأَصبَحَت أَهْلًا لِأَن تَتَلقَّى دَرْسًا واحِدًا، وتُنصِتَ إلى مُعَلِّمٍ واحِدٍ، وتَعمَلَ بشَرِيعةٍ واحِدةٍ.. وذلك بسَبَبِ كَثِيرٍ مِنَ الِانقِلاباتِ والِاختِلاطاتِ، فلم تَعُد ثَمّةَ حاجةٌ إلى شَرائِعَ عِدّةٍ ولا ضَرُورةٌ إلى مُعَلِّمِين عَدِيدِين. ولكِن لِعَجْزِ البَشَرِيّةِ مِن أن تَصِلَ جَمِيعًا إلى مُستَوًى واحِدٍ، وعَدَمِ تَمَكُّنِها مِنَ السَّيرِ على نَمَطٍ واحِدٍ في حَياتِها الِاجتِماعيّةِ، فقد تَعَدَّدَتِ المَذاهِبُ الفِقْهِيّةُ في الفُرُوعِ؛ فلو تَمَكَّنَتِ البَشَرِيّةُ بأَكثَرِيَّتِها المُطلَقةِ أن تَحْيا حَياةً اجتِماعِيّةً واحِدةً، وأَصبَحَت في مُستَوًى واحِدٍ مِثلَ طُلّابِ الدِّراساتِ العُلْيا، فحِينَئذٍ يُمكِنُ أن تَتَوحَّدَ المَذاهِبُ، ولكِن مِثلَما لا تَسمَحُ أَحوالُ العالَمِ، وطَبائِعُ النّاسِ لِبُلُوغِ تلك الحالةِ، فإنَّ المَذاهِبَ كذلك لا تكُونُ واحِدةً.

[كيف يكون الحق واحدًا بينما المذاهب متعددة؟]

فإن قلتَ: إنَّ الحَقَّ واحِدٌ، فكيف يُمكِنُ أن تكُونَ الأَحكامُ المُختَلِفةُ للمَذاهِبِ الأَربَعةِ والِاثنَيْ عشَرَ حَقًّا؟

الجَوابُ: يَأْخُذُ الماءُ أَحكامًا خَمسةً مُختَلِفةً حَسَبَ أَذواقِ المَرضَى المُختَلِفةِ وحالاتِهم: فهو دَواءٌ لِمَريضٍ على حَسَبِ مِزاجِه، أي: تَناوُلُه واجِبٌ علَيه طِبًّا؛ وقد يُسَبِّبُ ضَرَرًا لِمَريضٍ آخَرَ فهو كالسُّمِّ له، أي: يَحْرُمُ علَيه طِبًّا، وقد يُوَلِّدُ ضَرَرًا أَقلَّ لِمَريضٍ آخَرَ فهو إذًا مَكرُوهٌ له طِبًّا، وقد يكُونُ نافِعًا لآخَرَ مِن دُونِ أن يَضُرَّه، فيُسَنُّ له طِبًّا، وقد لا يَضُرُّ آخَرَ ولا يَنفَعُه، فهو له مُباحٌ طِبًّا فلْيَهْنَأْ بشُربِه.

فنَرَى مِنَ الأَمثِلةِ السّابِقةِ أنَّ الحَقَّ قد تَعَدَّد هنا، فالأَقسامُ الخَمسةُ كُلُّها حَقٌّ، فهل لك أن تقُولَ: إنَّ الماءَ عِلاجٌ لا غَيرُ، أو واجِبٌ فحَسْبُ، وليس له حُكمٌ آخَرُ؟

وهكذا – بمِثلِ ما سَبَق – تَتَغيَّرُ الأَحكامُ الإلٰهِيّةُ بسَوْقٍ مِنَ الحِكمةِ الإلٰهِيّةِ وحَسَبَ التّابِعِين لها، فهي تَتَبدَّلُ حَقًّا، وتَبقَى حَقًّا، ويكُون كلُّ حُكمٍ مِنها حَقًّا، ويُصبِحُ مَصلَحةً.

فمَثلًا: نَجِدُ أنَّ أَكثَرِيّةَ الَّذين يَتَّبِعُون الإمامَ الشّافِعيَّ رَضِيَ الله عَنهُ هم أَقرَبُ مِنَ الأَحنافِ إلى البَداوةِ وحَياةِ الرِّيفِ، تلك الحَياةِ القاصِرةِ عن حَياةٍ اجتِماعيّةٍ تُوَحِّدُ الجَماعةَ؛ فيَرغَبُ كلُّ فَردٍ في بَثِّ ما يَجِدُه في نَفسِه إلى قاضِي الحاجاتِ بكُلِّ اطمِئنانٍ وحُضُورِ قَلْبٍ، ويَطلُبُ حاجَتَه الخاصّةَ بنَفسِه، ويَلْتَجِئُ إلَيه، فيَقرَأُ “سُورةَ الفاتِحة” بنَفسِه رَغمَ أنَّه تابِعٌ للإمامِ. وهذا هو عَيْنُ الحَقِّ، وحِكمةٌ مَحْضةٌ في الوَقتِ نَفسِه. أمَّا الَّذين يتَّبِعُون الإمامَ الأَعظَمَ “أبا حَنِيفةَ النُّعمانَ رَضِيَ الله عَنهُ”، فهم بأَكثَرِيَّتِهمُ المُطلَقةِ أَقرَبُ إلى الحَضارةِ وحَياةِ المُدُنِ المُؤَهَّلةِ لِحَياةٍ اجتِماعيّةٍ، وذلك بحُكمِ الْتِزامِ أَغلَبِ الحُكُوماتِ الإسلامِيّةِ بهذا المَذهَبِ؛ فصارَتِ الجَماعةُ الواحِدةُ في الصَّلاةِ كأنَّها فَردٌ واحِدٌ، وأَصبَحَ الفَردُ الواحِدُ يَتَكلَّمُ باسمِ الجَمِيعِ، وحيثُ إنَّ الجَمِيعَ يُصَدِّقُونه ويَرتَبِطُون به قَلْبًا، فإنَّ قَولَه يكُون في حُكْمِ قَولِ الجَمِيعِ.. فعَدَمُ قرِاءةِ الفَردِ وَراءَ الإمامِ بـ”الفاتِحةِ” هو عَينُ الحَقِّ وذاتُ الحِكمةِ.

ومَثلًا: لَمّا كانَتِ الشَّرِيعةُ تَضَعُ حَواجِزَ لِتَحُولَ دُونَ تَجاوُزِ طَبائِعِ البَشَرِ حُدُودَها، فتُقَوِّمُها بها وتُؤَدِّبُها، وتُرَبِّي النَّفسَ الأَمّارةَ بالسُّوءِ، فلا بُدَّ أن يَنتَقِضَ الوُضُوءُ بمَسِّ المَرأةِ، ويَضُرَّ قَليلٌ مِنَ النَّجاسةِ، حَسَبَ المَذْهبِ الشّافِعِيِّ الَّذي أَكثَرُ أَتْباعِه مِن أَهلِ القُرَى وأَنصافِ البَدْوِ والمُنهَمِكين بالعَمَلِ؛ أمّا حَسَبَ المَذهَبِ الحَنَفيِّ الَّذي دَخَلَ أَتْباعُه بأَكثَرِيَّتِهمُ المُطلَقةِ الحَياةَ الِاجتِماعيّةَ، واتَّخَذُوا طَوْرَ أَنصافِ مُتَحضِّرِين فلا يَنتَقِضُ الوُضُوءُ بِمَسِّ المَرأةِ، ويُسمَحُ بقَدْرِ دِرْهَمٍ مِنَ النَّجاسةِ.

ولْنَنظُرِ الآنَ إلى عامِلٍ وإلى مُوَظَّفٍ، فالعامِلُ بحُكمِ مَعِيشَتِه في القَريةِ مُعَرَّضٌ للِاختِلاطِ والتَّماسِّ بالنِّساءِ الأَجنَبِيّاتِ والجُلُوسِ معًا حَولَ مَوقِدٍ واحِدٍ، والوُلُوجِ في أَماكِنَ مُلَوَّثةٍ، فهو مُبتَلًى بكُلِّ هذا بحُكمِ مَهنَتِه ومَعيشَتِه، وقد تَجِدُ نَفسُه الأَمّارةُ بالسُّوءِ مَجالًا أَمامَها لِتَتَجاوَزَ حُدُودَها؛ لِذا تُلقِي الشَّرِيعةُ في رُوعِ هذا صَدًى سَماوِيًّا فتَمنَعُ تلك التَّجاوُزاتِ بأَمرِها له: لا تَلمَسْ فيَنتَقِضَ الوُضُوءُ.. لا تَتَلَوَّثْ فتَبطُلَ صَلاتُك.

أمّا ذلك المُوَظَّفُ، فهو حَسَبَ عادَتِه الِاجتِماعيّةِ لا يَتَعرَّضُ للِاختِلاطِ بالنِّساءِ الأَجنَبِيّاتِ – بشَرطِ أن يكُونَ نَبِيلًا – ولا يُلَوِّثُ نَفسَه كَثِيرًا بالنَّجاساتِ، آخِذًا بأَسبابِ النَّظافةِ المَدَنيّةِ، لِذا لم تُشَدِّد علَيه الشَّرِيعةُ، بل أَظهَرَت له جانِبَ الرُّخصةِ – دونَ العَزِيمةِ – باسمِ المَذْهَبِ الحَنَفيِّ، وخَفَّفَت عنه قائِلةً: إن مَسَّت يَدُك امرأةً أَجنَبِيّةً فلا يَنتَقِضُ وُضُوءُك، ولا ضَرَرَ علَيك إن لم تَستَنْجِ بالماءِ حَياءً مِنَ الحاضِرِين، فهُناك سَماحٌ بقَدْرِ دِرهَمٍ مِنَ النَّجاسةِ، فتُخَلِّصُه بهذا مِنَ الوَسْوَسةِ، وتُنَجِّيه مِنَ التَّرَدُّدِ. فهاتانِ قَطْرَتانِ مِنَ البَحرِ نَسُوقُهما مِثالًا، قِسْ علَيهما، وإذا استَطَعتَ أن تَزِنَ مَوازِينَ الشَّرِيعةِ بمِيزانِ “الشَّعْرانِيِّ” على هذا المِنوالِ فافْعَلْ.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

﴿اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى مَن تَمَثَّلَ فِيهِ أَنوَارُ مَحَبَّتِكَ لِجَمَالِ صِفَاتِكَ وأَسمَائِكَ، بِكَونِهِ مِرآةً جَامِعَةً لِتَجَلِّيَاتِ أَسمَائِكَ الحُسنَى.. ومَن تَمَركَزَ فِيهِ شُعَاعَاتُ مَحَبَّتِكَ لِصَنْعَتِكَ فِي مَصْنُوعَاتِكَ بِكَونِهِ أَكمَلَ وَأَبدَعَ مَصنُوعَاتِكَ، وصَيرُورَتِهِ أُنمُوذَجَ كَمَالَاتِ صَنعَتِكَ، وفِهْرِسْتَ محَاسِنِ نُقُوشِكَ.. ومَن تَظَاهَرَ فيهِ لَطَائفُ مَحَبَّتِكَ ورَغبَتِكَ لِاستِحسَانِ صَنعَتِكَ بِكَونِهِ أَعلَى دَلّالِي مَحَاسِنِ صَنعَتِكَ، وأَرفَعَ المُستَحسِنِينَ صَوتًا فِي إعلَانِ حُسنِ نُقُوشِكَ، وأبدَعَهُم نَعتًا لِكَمَالَاتِ صَنعَتِكَ.. ومَن تَجَمَّعَ فِيهِ أَقسَامُ مَحَبَّتِك واستِحسَانِكَ لِمَحَاسِنِ أَخلَاقِ مَخلُوقَاتِكَ ولَطَائِفِ أَوصَافِ مَصنُوعَاتِكَ، بِكَونِهِ جَامِعًا لِمَحَاسِنِ الأخلَاقِ كَافَّةً بِإِحسَانِكَ ولِلَطَائِفِ الأَوصَافِ قَاطِبةً بِفَضلِكَ.. ومَن صَارَ مِصداقًا صادِقًا ومِقيَاسًا فَائِقًا لِجَمِيعِ مَن ذَكَرتَ فِي فُرقَانِكَ أنَّكَ تُحِبُّهُم مِنَ المُحسِنِينَ والصَّابِرِينَ والْمُؤمِنِينَ والمُتَّقينَ والتَّوَّابِينَ والأَوَّابِينَ وجَمِيع الأصنَافِ الَّذِينَ أَحبَبتَهُم وشَرَّفتَهُم بِمَحَبَّتِكَ، فِي فُرقَانِكَ حتَّى صَارَ إِمَامَ الحَبِيبِينَ لَكَ، وسَيِّدَ المَحبُوبِينَ لَكَ ورَئِيسَ أَوِدَّائِكَ.. وعَلَى آلِهِ وأَصحَابِهِ وإخوَانِهِ أَجمَعِينَ﴾

﴿آمِينَ.. بِرَحمَتِكَ يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ﴾

    

[ذيل رسالة الاجتهاد]

 

ذيلُ رسالة الاجتهاد‌

  يَخُصُّ الصحابةَ الكرام‌

  رضوان الله تعالى عليهم أجمعين‌

  أَقُولُ كما قال مَولانا جامي:‌

يا رَسُولَ اللّه چِه بَاشَدْ چُون سَگِ اَصْحَابِ كَهْف‌

دَاخِلِ جَنَّتْ شَوَمْ دَرْ زُمْرَه ى اَصْحَابِ تُو؟‌

اُو رَوَدْ دَرْ جَنَّتْ مَنْ دَرْ جَهَنَّمَ كَىْ رَوَاسْت؟!‌

اُو سَگِ اَصْحَابِ كَهْف مَنْ سَگِ اَصْحَابْ تُو؟‌

بِاسمِهِ سُبْحَانَهُ.. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾

[هل يمكن للمؤمنين الصادقين بلوغ مرتبة الصحابة]

تَسأَلُ يا أَخي أنَّ هناك رِواياتٍ تُفيدُ أنَّه عندَ انتِشارِ البِدَعِ يُمكِنُ أن يَبلُغَ مُؤمِنُون صادِقُون دَرَجةَ الصَّحابةِ الكِرامِ رِضوانُ اللهِ علَيهِم ورُبَّما يَسبِقُونَهم، فهل هذه الرِّواياتُ صَحِيحةٌ؟ وإن كانَت كذلك، فما حَقِيقَتُها؟

الجَوابُ: إنَّ إجماعَ أَهلِ السُّنّةِ والجَماعةِ على أنَّ الصَّحابةَ هُم أَفضَلُ نَوْعِ البَشَرِ بعدَ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلَام، لَهُو حُجّةٌ قاطِعةٌ على أنَّ الصَّحِيحَ مِن تلك الرِّواياتِ يَخُصُّ الفَضِيلةَ الجُزئيّةَ ولَيسَ الفَضائِلَ الكُلِّيّةَ، إذ قد يَتَرجَّحُ المَرجُوحُ على الرّاجِحِ في الفَضائِلِ الجُزئيّةِ وفي كَمالٍ خاصٍّ مُعَيَّنٍ، وإلّا فلا يَبلُغُ أَحَدٌ مِن حيثُ الفَضائِلُ الكُلِّيّةُ مَنزِلةَ الصَّحابةِ الكِرامِ الَّذين أَثنَى اللهُ تَعالَى علَيهِم في قُرآنِه المُبِينِ ووَصَفَهم في التَّوراةِ والإنجِيلِ، كما هو في خِتامِ سُورةِ الفَتحِ.

وسنُبيِّنُ ثَلاثًا مِنَ الحِكَمِ المُنطَوِيةِ على أَسبابٍ ثَلاثةٍ مِن بينِ الكَثِيرِ مِنَ الأَسبابِ والحِكَمِ.

[الحكمة الأولى: صحبة النبي ﷺ إكسيرٌ عظيم]

الحِكمة الأولى: إنَّ الصُحْبةَ النَّبَوِيّةَ إكسِيرٌ عَظِيمٌ، لَها مِنَ التَّأْثيرِ الخارِقِ ما يَجعَلُ الَّذين يتَشَرَّفُون بها لِدَقيقةٍ واحِدةٍ يَنالُون مِن أَنوارِ الحَقيقةِ ما لا يَنالُه مَن يَصرِفُ سِنينَ مِن عُمُرِه في السَّيرِ والسُّلُوكِ؛ ذلك لأنَّ في الصُّحبةِ انصِباغًا وانعِكاسًا؛ إذ يَستَطِيعُ المَرءُ بانعِكاسِ ذلك النُّورِ الأَعظَمِ أن يَرقَى إلى مَراتِبَ سامِيةٍ ودَرَجاتٍ رَفِيعةٍ، وأن يَحظَى بالتَّبَعيّةِ والِانتِسابِ بأَرفَعِ المَقاماتِ.. مَثَلُه في هذا مَثَلُ خادِمِ السُّلطانِ الَّذي يَستَطِيعُ أن يَصِلَ إلى مَواقِعَ رَفيعةٍ لا يَقدِرُ على بُلُوغِها قُوَّادُ السُّلطانِ وأُمَراؤُه.

ومِن هذا السِّرِّ نَرَى أنَّه لا يَستَطِيعُ أن يَرقَى أَعظَمُ وَلِيٍّ مِن أَولياءِ اللهِ الصّالِحِين إلى مَرتَبةِ صَحابيٍّ كَرِيمٍ للرَّسُولِ الأَعظَمِ ﷺ، بل حتَّى لو تَشَرَّف أَولِياءُ صالِحُون مِرارًا بصُحبةِ النَّبيِّ ﷺ في الصَّحوةِ، كجَلالِ الدِّينِ السُّيُوطيِّ مَثَلًا، وأُكرِمُوا بلِقائِه يَقَظةً في هذا العالَمِ، فلا يَبلُغُون أيضًا دَرَجةَ الصَّحابةِ، لأنَّ صُحبةَ الصَّحابةِ الكِرامِ للنَّبيِّ ﷺ كانَت بنُورِ النُّبوّةِ، إذ كانُوا يَصحَبُونه في حالةِ كَونِه نَبِيًّا رَسُولًا؛ أمّا الأَولياءُ الصّالِحُون فإنَّ رُؤيَتَهم له ﷺ إنَّما هي بعدَ وَفاتِه، أي: بعدَ انقِطاعِ الوَحْيِ، فهي صُحْبةٌ بنُورِ الوِلايةِ، أي: إنَّ تَمَثُّلَ الرَّسُولِ ﷺ وظُهُورَه لِنَظَرِهم إنَّما هو مِن حيثُ الوِلايةُ الأَحمَدِيّةُ، وليس باعتِبارِ النُّبوّةِ. فما دامَ الأَمرُ هكذا، فلا بُدَّ أن تَتَفاوَت الصُّحْبَتانِ بمِقدارِ سُمُوِّ دَرَجةِ النُّبوّةِ وعُلُوِّها على مَرتَبةِ الوِلايةِ. ولكي يَتَوضَّح ما للصُّحبةِ النَّبَوِيّةِ مِن تَأْثيرٍ خارِقٍ ونُورٍ عَظِيمٍ، يَكفِي مُلاحَظةُ ما يَأْتِي:

بَينَما أَعرابيٌّ غَلِيظُ القَلبِ يَئِدُ بِنْتَه بيَدِه، إذا به يَكسِبُ خِلالَ حُضُورِه مَجلِسَ الرَّسُولِ ﷺ ومِن صُحبَتِه ساعةً مِنَ الزَّمانِ، رِقّةَ قَلبٍ وسَعةَ صَدْرٍ وشَفّافيّةَ رُوحٍ، ما يَجعَلُه يَتَحاشَى قَتلَ نَملةٍ صَغِيرةٍ؛ أو آخَرُ يَجهَلُ شَرائِعَ الحَضارةِ وعُلُومَها، يَحضُرُ يَومًا مَجلِسَ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ فيُصبِحُ مُعَلِّمًا لِأَرقَى الأُمَمِ المُتَحضِّرةِ، كالهِندِ والصِّينِ، ويَحكُمُ بينَهم بالقِسطاسِ المُستَقيمِ، ويَغدُو لهم مَثَلًا أَعلَى وقُدوةً طَيِّبةً.

[الصحابة الكرام في قمة الكمال الإنساني]

السَّببُ الثاني: لقد أَثبَتْنا في رِسالةِ “الِاجتِهادِ” أنَّ الصَّحابةَ الكِرامَ هم في قِمَّةِ الكَمالِ الإنسانِيِّ، حيثُ إنَّ التَّحَوُّلَ العَظِيمَ الَّذي أَحدَثَه الإسلامُ في مَجرَى الحَياةِ في ذلك الوَقتِ، سَواءٌ في المُجتَمَعِ أو في الفَرْدِ، قد أَبرَزَ جَمالَ الخَيرِ والحَقِّ وأَظهَر نَصاعَتَهما الباهِرةَ، وكَشَف عن خُبْثِ الشَّرِّ والباطِلِ وبَيَّن سَماجَتَهما وقُبحَهما، حتَّى انجَلَى كلٌّ مِنَ الحَقِّ والباطِلِ والصِّدقِ والكَذِبِ بوُضُوحٍ تامٍّ، يَكادُ المَرءُ يَلمَسُه لَمْسَ اليَدِ، وانفَرَجَتِ المَسافةُ بينَ الخَيرِ والشَّرِّ وبينَ الصِّدقِ والكَذِبِ، ما بينَ الإيمانِ والكُفرِ، بل ما بينَ الجَنّةِ والنّارِ.

لِذا فالصَّحابةُ الكِرامُ رَضِيَ الله عَنهُم الَّذين وُهِبُوا فِطَرًا سَلِيمةً ومَشاعِرَ سامِيةً، وهُمُ التَّوّاقُون لِمَعالي الأُمُورِ ومَحاسِنِ الأَخلاقِ شَدُّوا أَنظارَهم إلى الَّذي تَسَنَّم قِمّةَ أَعلَى عِلِّيِّي الكَمالِ والدَّاعِي إلى الخَيرِ والصِّدقِ والحَقِّ، بل هو المِثالُ الأَكمَلُ والنَّمُوذَجُ الأَتَمُّ، ذَلِكُمُ الرَّسُولُ الكَرِيمُ حَبِيبُ رَبِّ العالَمِين مُحمَّدٌ ﷺ، فبَذَلُوا كلَّ ما وَهَبَهمُ اللهُ سُبحانَه مِن قُوّةٍ للِانضِواءِ تحتَ لِوائِه، بمُقتَضَى سَجِيَّتِهمُ الطَّاهِرةِ وجِبِلَّتِهمُ النَّقِيةِ، ولم يُرَ مِنهم أيُّ مَيلٍ كان إلى أَباطِيلِ مُسَيلِمةَ الكَذّابِ الَّذي هو مِثالُ الكَذِبِ والشَّرِّ والباطِلِ والخُرافاتِ.

ولِتَوضِيحِ الأَمرِ نَسُوقُ هذا المِثالَ: تُعرَضُ أَحيانًا في سُوقِ الحَضارةِ البَشَرِيّةِ ومَعرِضِ الحَياةِ الِاجتِماعيّةِ أَشياءُ لها مِنَ الآثارِ السَّيِّئةِ المُرعِبةِ والنَّتائِجِ الشِّرِّيرةِ الخَبِيثةِ ما للسُّمِّ الزُّعافِ للمُجتَمَعِ؛ فكُلُّ مَن كانَت له فِطرةٌ سَلِيمةٌ يَنفِرُ مِنها بشِدّةٍ ويَتَجنَّـبُها ولا يَقرَبُها.. وتُعرَضُ كذَلِك أَشياءُ أُخرَى وأَمتِعةٌ مَعنَوِيّةٌ في السُّوقِ نَفسِها، لها مِنَ النَّتائِجِ الطَّيِّبةِ والآثارِ الحَسَنةِ ما يَستَقطِبُ الأَنظارَ إلَيها، وكأنَّها الدَّواءُ النّاجِعُ لِأَمراضِ المُجتَمَعِ، لِذا يَسعَى نَحوَها المَفطُورُون على الخَيرِ والصَّلاحِ.

وهكذا، ففي عَصرِ النُّبوّةِ السَّعِيدِ وخَيرِ القُرُونِ على الإطلاقِ، عُرِضَت في سُوقِ الحَياةِ الِاجتِماعيّةِ أُمُورٌ، فبَدِيهيٌّ أن يَسعَى الصَّحابةُ الكِرامُ نحوَ الصِّدقِ والخَيرِ والحَقِّ لِما يَملِكُون مِن فِطَرٍ صافِيةٍ وسَجايا سامِيةٍ، وبَدِيهيٌّ كذلك أن يَنفِرُوا ويَتَجَنَّبوا كلَّ مالَه نَتائِجُ وَخِيمةٌ وشَقاءُ الدُّنيا والآخِرةِ كالكَذِبِ والشَّرِّ والكُفرِ، فالْتَفُّوا حَولَ رايةِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ وتَجَنَّـبُوا مَهازِلَ مُسَيلِمةَ الكَذَّابِ الَّذي يُمَثِّـلُ الكَذِبَ والشَّرَّ والباطِلَ.

بَيْدَ أنَّ الأُمُورَ تَغَيَّـرَت تَدرِيجِيًّا وبمُرُورِ الزَّمَنِ، فلم تَبقَ على حالِها كما هي في خَيرِ القُرُونِ، فتَقَلَّصَتِ المَسافةُ بينَ الكَذِبِ والصِّدقِ رُوَيدًا رُوَيدًا كُلَّما اقتَرَبْنا إلى عُصُورِنا الحاضِرةِ حتَّى أَصبَحا مُتَرادِفَينِ مُتَـكاتِفَينِ في العَصرِ الحاضِرِ، فصارَ الصِّدقُ والكَذِبُ يُعرَضانِ معًا في مَعرِضٍ واحِدٍ، ويَصدُرانِ معًا مِن مَصدَرٍ واحِدٍ، ففَسَدَتِ الأَخلاقُ الِاجتِماعيّةُ واخْتَلَّت مَوازِينُها.. وزَادَتِ الدِّعاياتُ السِّياسِيّةُ إخفاءَ قُبحِ الكَذِبِ المُرعِبِ وسَتْرَ جَمالِ الصِّدقِ الباهِرِ.

فهل يَقوَى أَحَدٌ على الجُرأةِ في عَصرٍ كهذا ويَدَّعي: أَستَطِيعُ أن أَدنُوَ مِن مَرتَبةِ أُولَئك الكِرامِ العِظامِ الَّذِين بَلَغُوا مِنَ اليَقينِ والتَّقوَى والعَدالةِ والصِّدْقِ وبَذْلِ النَّفسِ والنَّفيسِ في سَبِيلِ الحَقِّ ما لم يَبلُغْه أَحَدٌ، فَضْلًا عن أنْ يَسبِقَهم؟

سأُورِدُ حالةً مَرَّت علَيَّ تُوَضِّحُ جانِبًا مِن هذه المَسأَلةِ: لقد خَطَر على قَلبِي ذاتَ يَومٍ سُؤالٌ وهو: لِمَ لا يَبلُغُ أَشخاصٌ أَمثالَ مُحيِي الدِّينِ بنِ عَرَبيٍّ مَرتَبةَ الصَّحابةِ الكِرامِ؟ ثمَّ لاحَظْتُ في أَثناءِ قَولي في سُجُودٍ في صَلاةٍ: “سُبحانَ ربِّيَ الأَعلَى” أنَّ شَيْئًا مِنَ الحَقائقِ الجَلِيلةِ لِمَعاني هذه الكَلِمةِ الطَّيِّبةِ قدِ انكَشَف لي، لا أَقُولُ كُلُّها، بلِ انكَشَف شيءٌ مِنها.. فقُلتُ في قَلبِي: لَيتَنِي أَحظَى بصَلاةٍ كامِلةٍ تَنكَشِفُ لي مِن مَعانِيها ما انكَشَف مِن مَعاني هذه الكَلِمةِ المُبارَكةِ، فهي خَيرٌ مِن عِبادةِ سَنةٍ كامِلةٍ مِنَ النَّوافِلِ. ثمَّ أَدْرَكْتُ عَقِبَ الصَّلاةِ أنَّ تلك الخاطِرةَ وتلك الحالَ كانَت جَوابًا على سُؤالي، وإرشادًا إلى استِحالةِ إدراكِ أَحَدٍ مِنَ النّاسِ دَرَجةَ الصَّحابةِ الكِرامِ في العِبادةِ؛ ذلك أنَّ التَّغيِيرَ الِاجتِماعِيَّ العَظِيمَ الَّذي أَحدَثَه القُرآنُ الكَرِيمُ بأَنوارِه السّاطِعةِ قد مَيَّز الأَضدادَ بَعضَها عنِ البَعضِ الآخَرِ، فالشُّرُورُ بجَمِيعِ تَوابِعِها وظُلُماتِها أَصبَحَت في مُجابَهةِ الخَيرِ والكَمالاتِ معَ جَمِيعِ أَنوارِها ونَتائِجِها؛ ففي هذه الحالةِ المُحَفِّزةِ لِانطِلاقِ نَوازِعِ الخَيرِ والشَّرِّ مِن عِقالِها، تَنَـبَّهَت لَدَى أَهلِ الخَيرِ نَوازِعُه، فغَدا كلُّ ذِكْرٍ وتَسبِيحٍ وتَحْمِيدٍ يُفيدُ لَدَيهِم مَعانيَه كامِلةً ويُعبِّـرُ عنها تَعبِيرًا نَدِيًّا نَضِرًا، فارتَشَفَتْ مَشاعِرُهمُ المُرهَفةُ ولَطائِفُهمُ الطّاهِرةُ بل حتَّى خَيالُهم وسِرُّهم رَحِيقَ المَعاني السّامِيةِ العَدِيدةِ لِتِلك الأَذكارِ ارتِشافًا صافِيًا يَقِظًا حَسَبَ أَذواقِها الرَّقيقةِ. وبِناءً على هذه الحِكمةِ، فإنَّ الصَّحابةَ الكِرامَ الَّذين كانُوا يَملِكُون مَشاعِرَ حَسّاسةً مُرهَفةً وحَواسَّ مُنتَبِهةً ولَطائِفَ يَقِظةً، عِندَما يَذكُرُون تلك الكَلِماتِ المُبارَكةَ الجامِعةَ لِأَنوارِ الإيمانِ والتَّسبِيحِ والتَّحمِيدِ يَشعُرُون بجَمِيعِ مَعانِيها ويَأْخُذُون حَظَّهم مِنها بجَمِيعِ لَطائِفِهمُ الزَّكيّةِ.

بَيْدَ أنَّ الأُمُورَ لم تَبْقَ على ذلك الوَضْعِ النَّدِيِّ والطَّراوةِ والجِدّةِ، فتَبَدَّلَت تَدرِيجِيًّا بمُرُورِ الزَّمَنِ حتَّى غَطَّتِ اللَّطائِفُ في نَومٍ عَمِيقٍ، وغَفَلَتِ المَشاعِرُ والحَواسُّ وانصَرَفَتْ عنِ الحَقائِقِ، ففَقَدَتِ الأَجيالُ اللّاحِقةُ شَيئًا فشَيئًا قُدرَتَها على تَذَوُّقِ طَراوةِ تلك الكَلِماتِ الطَّيِّبةِ والتَّلَذُّذِ بطُعُومِها ونَداوَتِها، فغَدَت لَدَيهم كالثِّمارِ الفاقِدةِ لِطَراوَاتِها ونَضارَتِها، حتَّى لَكأَنَّها جَفَّت ويَبِسَت ولم تَعُدْ تَحمِلُ لهم إلا نَزْرًا يَسِيرًا مِنَ الطَّراوةِ، لا تَرجِعُ إلى سابِقِ عَهْدِها إلّا بعدَ إعمالِ الذِّهنِ والتَّفَكُّرِ العَمِيقِ، وبَذْلِ الجُهدِ وصَرْفِ الطّاقةِ.

لِذا فالصَّحابِيُّ الجَلِيلُ الَّذي يَنالُ مَقامًا وفَضِيلةً في أَربَعِين دَقيقةً لا يَنالُه غَيرُه إلّا في أَربَعِين يَوْمًا، بل في أَربَعِين سَنةً.

[الصحابة أقرب النجوم إلى شمس النبوة]

السَّببُ الثالث: لقد أَثْبَتْنا في كلٍّ مِنَ الكَلِماتِ “الثَّانيةَ عَشْرةَ والرّابِعةِ والعِشرِين والخامِسةِ والعِشرِين” أنَّ نِسبةَ النُّبوّةِ إلى الوِلايةِ كنِسبةِ الشَّمسِ المَشهُودةِ بذاتِها إلى صُورَتِها المِثاليّةِ الظّاهِرةِ في المَرايا، لِذا فإنَّ سُمُوَّ مَنزِلةِ العامِلِين في دائِرةِ النُّبوّةِ وهمُ الصَّحابةُ الكِرامُ الَّذين كانُوا أَقرَبَ النُّجُومِ إلى تلك الشَّمسِ السّاطِعةِ، وعُلُوَّ مَرتَبتِهم على الأَولياءِ الصّالِحِين، هو بنِسبةِ سُمُوِّ دائِرةِ النُّبوّةِ وعُلُوِّها على دائِرةِ الوِلايةِ، بل حتَّى لو كَسَبَ أَحَدُ الأَولياءِ مَرتَبةَ الوِلايةِ الكُبْرَى، وهي مَرتَبةُ وَرَثةِ الأَنبِياءِ والصِّدِّيقِين ووِلايةِ الصَّحابةِ، فإنَّه لا يَبلُغُ مَقامَ أُولَئك الصَّفوةِ المُتَقدِّمين في الصَّفِّ الأَوَّلِ، رِضوانُ اللهِ تَعالَى علَيهِم أَجمَعِين.

سنُبيِّنُ ثلاثةَ أَوجُهٍ فقط مِن بَينِ الوُجُوهِ العَدِيدةِ لِهذا السَّببِ الثّالثِ:

[لا يمكن اللحاق بالصحابة في الاجتهاد]

الوَجهُ الأوَّلُ: لا يُمكِنُ اللَّحاقُ بالصَّحابةِ الكِرامِ في الِاجتِهادِ، أي: في استِنباطِ الأَحكامِ، أي: إدراكُ مَرضاةِ اللهِ سُبحانَه مِن خِلالِ كَلامِه، لأنَّ مِحوَرَ ذلك الِانقِلابِ الإلٰهِيِّ العَظِيمِ الَّذي حَدَث في ذلك الوَقتِ كان يَدُورُ على مَرضاةِ الرَّبِّ مِن خِلال فَهْمِ أَحكامِه الإلٰهِيّة؛ فالأَذهانُ كلُّها كانَت مَفتُوحةً مُتَوجِّهةً إلى استِنباطِ الأَحكامِ، والقُلُوبُ كلُّها كانَت مُتَلهِّفةً إلى مَعرِفةِ: ماذا يُرِيدُ مِنّا رَبُّنا؟ فالمُحادَثاتُ والمُحاوَراتُ كانَت تَتَضمَّنُ هذه المَعانِيَ، والظُّرُوفُ والأَحداثُ تَجرِي في ضَوئِها.

وحيثُ إنَّ كلَّ شيءٍ في ذلك الوَقتِ وكلَّ حالٍ وكلَّ مُحاوَرةٍ ومُجالَسةٍ ومُحادَثةٍ وحِكايةٍ تَجرِي بما يُرشِدُ إلى تلك المَعاني ويَدُلُّ علَيها، لِذا كانَت تلك الظُّرُوفُ تُكَمِّلُ قابِلِيّاتِ الصَّحابةِ الكِرامِ وتُنَوِّرُ أَفكارَهم وتُهَيِّئُ استِعداداتِهم لِقَدْحِ زِنادِها للِاجتِهادِ واستِنباطِ الأَحكامِ، إذ كانُوا يَكسِبُون مِنَ المَلَكةِ على الِاستِنباطِ والِاجتِهادِ في يومٍ واحِدٍ أو في شَهرٍ واحِدٍ ما لا يُمكِنُ أن يَحصُلَ علَيه في هذا الوَقتِ مَن هو في مُستَوَى ذَكائِهم واستِعدادِهم في عَشرِ سَنَواتٍ، بل في مِئةِ سَنةٍ، لأنَّ الأَنظارَ في الوَقتِ الحاضِرِ مُتَوجِّهةٌ إلى نَيلِ حَياةٍ دُنيَوِيّةٍ رَغِيدةٍ دُونَ سَعادةِ الآخِرةِ الأَبَديّةِ وحَياةِ النَّعيمِ المُقِيمِ فيها، فالأَنظارُ مَصرُوفةٌ عنها.. فهُمُومُ العَيشِ الَّتي تَتَضاعَفُ بعَدَمِ التَّوَكُّلِ على اللهِ تُلقي ثِقَلَها على رُوحِ الإنسانِ وتَجعَلُها في اضطِرابٍ وقَلَقٍ، والفَلسَفةُ المادِّيّةُ والطَّبِيعيّةُ تُكِلُّ العَقلَ وتُعمِي البَصِيرةَ. فتَرَى المُحِيطَ الِاجتِماعيَّ الحاضِرَ مِثلَما لا يَمُدُّ ذِهْنَ ذلك الشَّخصِ “الذَّكِيِّ” لا يُؤازِرُ استِعدادَه الفِطرِيَّ نحوَ الِاجتِهادِ فَضْلًا عن أنَّه يُشَتِّتُه ويُرهِقُه أَكثَرَ. ولقد عَقَدْنا مُوازَنةً في رِسالةِ “الِاجتِهادِ” بينَ سُفيانَ بنِ عُيَينةَ ومَن هو في مُستَوَى ذَكائِه في هذا العَصرِ، وخَلُصْنا مِنَ المُوازَنةِ إلى: “أنَّ ما حَصَل علَيه سُفيانُ في عَصرِه مِنَ القُدرةِ على الِاستِنباطِ في عَشْرِ سَنَواتٍ لا يُمكِنُ أن يَحصُلَ علَيه مَن هو بمُستَوَى ذَكائِه في هذا العَصرِ في مِئةِ سَنةٍ”.

[لا يمكن اللحاق بالصحابة الكرام في الولاية]

الوَجهُ الثّاني: لا يُمكِنُ اللَّحاقُ بالصَّحابةِ الكِرامِ في قُربِهم مِنَ اللهِ بخُطَى الوِلايةِ، ذلك لأنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى هو أَقرَبُ إلَينا مِن حَبلِ الوَرِيدِ، أمّا نحنُ فبَعِيدُون عنه بُعْدًا مُطْلَقًا.. والإنسانُ يُمكِنُه أن يَنالَ القُرْبَ مِنه بالصُّورَتَينِ الآتِيَتَينِ:

الصُّورةُ الأولَى: مِن حيثُ انكِشافُ أَقرَبيَّتِه سُبحانَه وتَعالَى للعَبدِ، فقُرْبُ النُّبوّةِ إلَيه تَعالَى هو مِن هذا الِانكِشافِ، والصَّحابةُ الكِرامُ مِن حيثُ الصُّحبةُ النَّبوِيّةُ ووَرَثةُ النُّبوّةِ يَحْظَوْن بهذا الِانكِشافِ.

الصُّورةُ الثّانيةُ: مِن حيثُ بُعدُنا عنه سُبحانَه، فالتَّشَرُّفُ بشَيءٍ مِن قُربِه سُبحانَه يكُونُ بقَطْعِ المَراتِبِ إلَيه. وأَغلَبُ طُرُقِ الوِلايةِ وما فيها مِن سَيرٍ وسُلُوكٍ تَجرِي على هذه الصُّورةِ، سَواءٌ مِنها السَّيرُ الأَنفُسِيُّ أوِ الآفاقِيُّ.

فالصُّورةُ الأُولَى الَّتي هي انكِشافُ أَقرَبيَّتِه سُبحانَه – أي: قُربُه سُبحانَه مِنَ العَبدِ – هِبةٌ مَحْضةٌ مِنه تَعالَى وليس كَسْبًا قَطُّ، بل هو انجِذابٌ إلٰهِيٌّ وجَذْبٌ رَحمانِيٌّ، ومَحبُوبيّةٌ خالِصةٌ. فالطَّرِيقُ قَصِيرٌ، إلّا أنَّه ثابِتٌ رَصِينٌ، وهو عالٍ رَفيعٌ سامٍ جِدًّا، وخالِصٌ طاهِرٌ لا ظِلَّ فيه ولا كَدَرَ.

أمّا الصُّورةُ الأُخرَى مِنَ التَّقرُّبِ إلى اللهِ، فهي كَسْبِيّةٌ، طَوِيلةٌ، فيها شَوائِبُ وظِلالٌ، ورَغمَ أنَّ خَوارِقَها كَثيرةٌ فإنَّها لا تَبلُغُ الصُّورةَ الأُولَى مِن حيثُ الأَهمِّيّةُ والقُربُ مِنه تَعالَى.

ولْنُوَضِّحْ ذلك بمِثالٍ: لأَجْلِ إدراكِ أَمسِ مِن هذا اليومِ هناك طَرِيقانِ:

الأوَّلُ: الِانسِلاخُ مِن وَقائِعِ الزَّمَنِ وجَرَيانِه بقُوّةٍ قُدسِيّةٍ، والعُرُوجُ إلى ما فَوقَ الزَّمانِ، ورُؤيةُ أَمسِ حاضِرًا كاليومِ. أمّا الثّاني: فهو قَطْعُ مَسافةِ سَنةٍ كامِلةٍ لِمُلاقاةِ الأَمسِ مِن جَدِيدٍ، ومعَ ذلك لا يُمكِنُ أن تُمسِكَ به، لأنَّه يَدَعُك ويَمضِي.

وهكذا الأَمرُ في النُّفُوذِ مِنَ الظّاهِرِ إلى الحَقِيقةِ، فإنَّه بصُورَتَينِ:

الأولَى: الِانجِذابُ إلى الحَقيقةِ مُباشَرةً ووِجدانُ الحَقيقةِ في عَينِ الظّاهِرِ المُشاهَدِ، مِن دُونِ الدُّخُولِ إلى بَرْزَخِ الطَّرِيقةِ.

الثّانيةُ: قَطْعُ مَراتِبَ كَثيرةٍ بالسَّيرِ والسُّلُوكِ.

فأَهْلُ الوِلايةِ رَغمَ أنَّهم يُوَفَّقُون إلى فَناءِ النَّفسِ الأَمّارةِ بالسُّوءِ ويَقتُلُونَها، فإنَّهم لا يَبلُغُون مَرتَبةَ الصَّحابةِ الكِرامِ، لأنَّ نُفُوسَ الصَّحابةِ كانَت مُزَكّاةً ومُطَهَّرةً، فنالُوا كَثِيرًا مِن أَنواعِ العِبادةِ وضُرُوبًا مُختَلِفةً مِن أَلوانِ الشُّكرِ والحَمدِ بأَجهِزةِ النَّفسِ العَدِيدةِ، بَينَما عِبادةُ الأَولياءِ – بعدَ فَناءِ النَّفسِ – تُصبِحُ بَسِيطةً ومَأْلُوفةً.

[لا يمكن إدراك الصحابة الكرام في فضائل الأعمال]

الوَجهُ الثّالثُ: لا يُمكِنُ إدراكُ الصَّحابةِ الكِرامِ في فَضائِلِ الأَعمالِ وثَوابِ الأَفعالِ وجَزاءِ الآخِرةِ، لأنَّ الجُندِيَّ المُرابِطَ لِساعةٍ مِنَ الزَّمَنِ في ظُرُوفٍ صَعبةٍ تُحِيطُه، وفي مَوقِعٍ مُهِمٍّ مُخِيفٍ، يَكسِبُ فَضِيلةً وثَوابًا يُقابِلُ سَنةً مِنَ العِبادةِ، وإذا أُصِيبَ بطَلْقةٍ واحِدةٍ في دَقِيقةٍ واحِدةٍ، فإنَّه يَسمُو إلى مَرتَبةٍ لا يُمكِنُ بُلُوغُها في مَراتِبِ الوِلايةِ إلّا في أَربَعِين يَومًا على أَقَلِّ تَقدِيرٍ؛ كذلك الأَمرُ في جِهادِ الصَّحابةِ الكِرامِ عندَ إرساءِ دَعائِمِ الإسلامِ، ونَشْرِ أَحكامِ القُرآنِ، وإعلانِهِمُ الحَرْبَ على العالَمِ أَجمَعَ باسمِ الإسلامِ، فهو مَرتَبةٌ عَظِيمةٌ وخِدمةٌ جَلِيلةٌ لا تَرقَى سَنةٌ كامِلةٌ مِنَ العَمَلِ لَدَى غَيرِهم إلى دَقيقةٍ واحِدةٍ مِن عَمَلِهم، بل يَصِحُّ أن يُقالَ:

إنَّ دَقائِقَ عُمُرِ الصَّحابةِ الكِرامِ جَمِيعَها – في تلك الخِدمةِ المُقدَّسةِ – إنَّما هي بمِثلِ الدَّقيقةِ الَّتي استُشهِدَ فيها الجُندِيُّ، وإنَّ ساعاتِ عُمُرِهم كُلَّها هي بمِثلِ السّاعةِ لِذَلِك الجُندِيِّ الفِدائيِّ المُرابِطِ في مَوقِعٍ خَطِرٍ مُرعِبٍ. فالعَمَلُ قَليلٌ، إلّا أنَّ الأَجرَ عَظِيمٌ والثَّوابَ جَزِيلٌ، والأَهَمِّيّةَ جَليلةٌ. نعم، إنَّ الصَّحابةَ الكِرامَ إنَّما يُمَثِّلُون اللَّبِنةَ الأُولَى في تَأْسِيسِ صَرْحِ الإسلامِ، وهُمُ الصَّفُّ الأَوَّلُ في نَشرِ أَنوارِ القُرآنِ، فلَهم إذًا قِسطٌ وافِرٌ مِن جَمِيعِ حَسَناتِ الأُمّةِ، حَسَبَ قاعِدةِ “السَّبَبُ كالفاعِلِ”، فالأُمّةُ الإسلاميّةُ في أَثناءِ تَردِيدِها: “اللَّهُمَّ صَلِّ على سَيِّدِنا مُحمَّدٍ وعلى آلِه وأَصحابِه وسَلِّمْ” إنَّما تُبيِّنُ ما لِلآلِ والصَّحْبِ الكِرامِ مِن حَظٍّ وافِرٍ في حَسَناتِ الأُمّةِ جَمِيعِها.

ولكي نُوَضِّحَ ما يَتَرتَّبُ مِن نَتائِجَ عَظِيمةٍ على أَثَرٍ ضَئِيلٍ في البِدايةِ نَسُوقُ الأَمثِلةَ الآتِيةَ: خاصِّيّةٌ صَغِيرةٌ مُهِمّةٌ في جَذْرِ النَّباتِ تَأْخُذُ صُورةً عَظِيمة في أَغصانِها، فتلك الخاصِّيّةُ في الجَذْرِ إذًا هي أَعظَمُ مِن أَعظَمِ غُصْنٍ.. وارتِفاعٌ ضَئِيلٌ في البِدايةِ يكُونُ تَدرِيجِيًّا عَظِيمًا في النِّهايةِ.. وإنَّ الزِّيادةَ الطَّفِيفةَ في نُقطةِ المَركَزِ، ولو بمِقدارِ أَنمُلةٍ، تكُونُ أَحيانًا بمِقدارِ مِتْرٍ كامِلٍ في الدّائِرةِ المُحِيطةِ.

وهكذا، فلِأنَّ الصَّحابةَ الكِرامَ هم مُؤَسِّسُو الإسلامِ، وجُذُورُ شَجَرةِ الإسلامِ المُنِيرةِ، وبِدايةُ الخُطُوطِ الأَساسيّةِ لِبِناءِ الإسلامِ، ورَكِيزةُ المُجتَمَعِ الإسلاميِّ وأَئِمَّتُه، وأَقرَبُ النّاسِ إلى شَمسِ النُّبوّةِ المُنِيرةِ وسِراجُ الحَقيقةِ.. فعَمَلٌ قَليلٌ مِنهم هو عَظِيمٌ جَلِيلٌ، وخِدمةٌ ضَئِيلةٌ يُقَدِّمُونها هي جَسِيمةٌ كَثِيرةٌ، فلا يُمكِنُ اللَّحاقُ بهم وإدراكُهم إلّا أن يكُونَ المَرءُ صَحابِيًّا مِثلَهم.

﴿اللَّهُمَّ صَلِّ على سيِّدِنا مُحمَّدٍ الَّذي قال: «أَصحابي كالنُّجُومِ، بأَيِّهِمُ اقتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُم» و«خَيرُ القُرُونِ قَرْني..» وعلى آلِه وأَصحابِه وسَلِّمْ﴾

سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم

  ❀  ❀

[لا إيمان يعدل إيمان الصحابة رضي الله عنهم]

سؤالٌ: يُقالُ إنَّ الصَّحابةَ الكِرامَ قد رَأَوُا الرَّسُولَ ﷺ عِيانًا، ثمَّ آمَنُوا به وصَدَّقُوه، أمّا نحنُ فقد آمَنّا به مِن دُونِ أن نَراه، فإيمانُنا إذًا أَقوَى مِن إيمانِهم، فَضْلًا عن أنَّ هُناك رِواياتٍ تُؤَيِّدُ ما نَذهَبُ إلَيه!!

الجَوابُ: إنَّ الصَّحابةَ الكِرامَ رِضوانُ اللهِ تَعالَى علَيهِم أَجمَعِين، قد وَقَفُوا أَمامَ جَمِيعِ التَّيّاراتِ الفِكرِيّةِ في العالَمِ أَجمَعَ، والَّتي كانَت تُعادِي حَقائقَ الإسلامِ وتَصُدُّها، فآمَنُوا إيمانًا راسِخًا صادِقًا خالِصًا مع أنَّهم لم يَرَوْا مِنَ الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ بَعدُ إلّا ظاهِرَ صُورَتِه الإنسانيّةِ، بل آمَنُوا به أَحيانًا مِن دُونِ أن يَرَوْا مِنه مُعجِزةً، وأَصبَحَ إيمانُهم مِنَ الرُّسُوخِ والمَتانةِ ما لا تُزَعزِعُه جَمِيعُ تلك الأَفكارِ العامّةِ المُناهِضةِ للإسلامِ، بل لم تُؤَثِّر ولو بأَدنَى شُبهةٍ أو وَسوَسةٍ.

أمّا أَنتُم فمَع أنَّكم لم تَرَوْا صُورَتَه الظّاهِرةَ وشَخصِيَّتَه البَشَرِيّةَ الَّتي هي بمَثابةِ نَواةٍ لِشَجَرةِ طُوبَى النُّـبُوّةِ، فإنَّ أَفكارَ عالَم الإسلامِ تَشُدُّ مِن إيمانِكُم وتُمِدُّه وتُعزِّزُه، فَضْلًا عن أنَّكُم تَرَوْن بعَينِ العَقلِ شَخصِيّةَ الرَّسُولِ الكَرِيمِ المَعنَوِيّةَ ﷺ المُنَوَّرةَ بأَنوارِ الإسلامِ وحَقائقِ القُرآنِ، تلك الشَّخصِيّةَ المَهِيبةَ بأَلفٍ مِن مُعجِزاتِه الثّابِتةِ.. أفَيُوازَنُ إيمانُكم هذا معَ إيمانِهمُ العَظِيمِ؟! فأَين إيمانُكمُ الَّذي يَهوِي في شِراكِ الشُّبُهاتِ بمُجَرَّدِ كَلامٍ يُطلِقُه فَيلَسُوفٌ مادِّيٌّ أَورُوبِّيٌّ، مِن إيمانِهِمُ الَّذي كان كالطَّوْدِ الشّامِخِ لا يَتَزَعزَعُ أمامَ الأَعاصِيرِ الَّتي يُثِيرُها جَمِيعُ أَهلِ الكُفرِ والإلحادِ واليَهُودِ والنَّصارَى والحُكَماءِ؟!

فيا أَيُّها المُدَّعي.. أينَ إيمانُك الواهي الَّذي قد لا يَقوَى لِأَداءِ الفَرائِضِ على وَجهِها مِن صَلابةِ وقُوّةِ إيمانِهم وعَظِيمِ تَقواهُم وصَلاحِهِمُ الَّذي بَلَغ مَرتَبةَ الإحسانِ؟

أمّا ما وَرَد في الحَدِيثِ الشَّريفِ بما مَعناه: أنَّ الَّذين لم يَرَوْني وآمَنُوا بي هم أَفضَلُ مِنكم.. فهو يَخُصُّ الفَضائِلَ الخاصّةَ، وهو بحَقِّ بعضِ الأَشخاصِ، بَينَما بَحثُنا هذا هو في الفَضائِلِ الكُلِّيّةِ وما يَعُودُ إلى الأَكثَرِيّةِ المُطلَقةِ.

[كيف أَخذ الصحابة بالدنيا بينما زهد فيها كبار الأولياء؟]

السُّؤالُ الثّاني: يقُولُون: إنَّ الأَولياءَ الصّالِحِين وأَصحابَ الكَمالِ قد تَرَكُوا الدُّنيا وعافُوا ما فيها، بمَضْمُونِ ما وَرَد في حَدِيثٍ شَرِيفٍ: “حُبُّ الدُّنيا رَأْسُ كلِّ خَطِيئةٍ”، بَينَما الصَّحابةُ الكِرامُ قد أَخَذُوا بأُمُورِ الدُّنيا وأَقبَلُوا علَيها ولم يَدَعُوها، بل قد سَبَق قِسمٌ مِنهم أَهلَ الحَضارةِ في أَخذِهِم بمُتَطَلَّباتِ الدُّنيا، فكيفَ تَقُولُ: إنَّ أَصغَرَ صَحابيٍّ مِن أَمثالِ هؤلاء هو كأَعظَمِ وَليٍّ مِن أَولياءِ اللهِ الصّالِحِين؟

الجَوابُ: لقد أَثبَتْنا إثباتًا قاطِعًا في “المَوقِفِ الثّاني والثّالثِ مِنَ الكَلِمةِ الثّانيةِ والثَّلاثِين”: أنَّ للدُّنيا ثلاثةَ وُجُوهٍ: فإِبداءُ المَحَبّةِ إلى وَجهَيِ الدُّنيا المُتَطلِّعَينِ إلى الأَسماءِ الحُسنَى والآخِرةِ، ليس نَقْصًا في العُبُودِيّةِ، بل هو مَناطُ كَمالِ الإنسانِ وسُمُوِّ إيمانِه، إذ كُلَّما جَهِدَ الإنسانُ في مَحَبَّتِه لِذَينِك الوَجهَينِ كَسَبَ مَزِيدًا مِنَ العِبادةِ ومَزِيدًا مِن مَعرِفةِ اللهِ سُبحانَه. ومِن هنا كانَت دُنيا الصَّحابةِ الكِرامِ مُتَوجِّهةً إلى ذَينِك الوَجهَينِ، فعَدُّوها مَزرَعةَ الآخِرةِ، وزَرَعُوا الحَسَناتِ وجَنَوُا الثَّمَراتِ اليانِعةَ مِنَ الثَّوابِ الجَزِيلِ والأَجرِ العَظِيمِ، واعتَبَرُوا الدُّنيا وما فيها كأنَّها مَرايا تَعكِسُ أَنوارَ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى، فتَأَمَّلُوا فيها وفَكَّرُوا في جَنَباتِها بلَهفةٍ وشَوقٍ، فتَقَرَّبُوا إلى اللهِ أَكثَرَ؛ وفي الوَقتِ نَفسِه تَرَكُوا الوَجهَ الثّالِثَ مِنَ الدُّنيا وهو وَجهُها الفاني المُتَطلِّعُ إلى شَهَواتِ الإنسانِ وهَواه.

[طريقة الصحابة في السير إلى الله]

السُّؤالُ الثّالث: إنَّ الطُّرُقَ الصُّوفيّةَ هي سُبُلُ الوُصُولِ إلى الحَقائقِ، وأَشهَرُها وأَسماها هي الطَّرِيقةُ النَّقْشَبَندِيّةُ الَّتي تُعَدُّ الجادّةَ الكُبْرَى. وقد لَخَّصَ قَواعِدَها بعضُ أَقطابِها هكذا:

دَرْ طَرِيقِ نَقْشِبَندِى لَازِمْ أٰمَدْ چَارِ تَرْك:‌

تَرْكِ دُنيَا، تَرْكِ عُقْبىٰ، تَرْكِ هَسْتِى، تَرْكِ تَركْ‌

أي: يَلْزَمُ في الطَّرِيقةِ النَّقْشَبَندِيّةِ تَركُ أَربَعةِ أَشياءَ: تَرْكُ الدُّنيا بألّا تَجعَلَها مَقصُودًا بالذّاتِ، وتَرْكُ الآخِرةِ بحِسابِ النَّفسِ، وتَرْكُ النَّفسِ، أي: أن تَنساها، ثمَّ تَرْكُ التَّرْكِ. أي: ألّا تَتَفكَّرَ بهذا التَّرْكِ، لِئَلّا تَقَعَ في العُجْبِ والفَخْرِ. بمَعنَى أنَّ مَعرِفةَ اللهِ والكَمالاتِ الإنسانيّةِ الحَقيقِيَّتَينِ إنَّما تَحصُلُ في تَرْكِ ما سِواه تَعالَى.

الجَوابُ: لو كان الإنسانُ مُجَرَّدَ قَلبٍ فقط، لكان علَيه أن يَتْرُكَ كلَّ ما سِواه تَعالَى، بل يَتْرُكَ حتَّى الأَسماءَ والصِّفاتِ ويَرتَبِطَ قَلْبُه بذاتِه سُبحانَه. ولكن للإنسانِ لَطائِفُ كَثِيرةٌ جِدًّا كالقَلبِ، مِنها العَقلُ والرُّوحُ والسِّرُّ والنَّفسُ، كلُّ لَطِيفةٍ مِنها مُكَلَّفةٌ بوَظِيفةٍ ومَأْمُورةٌ للقِيامِ بعَمَلٍ خاصٍّ بها.

فالإنسانُ الكامِلُ هو كالصَّحابةِ الكِرامِ، يَسُوقُ جَمِيعَ تلك اللَّطائِفِ إلى مَقصُودِه الأَساسِ وهو عِبادةُ اللهِ. فيَسُوقُ القَلْبُ كالقائِدِ كُلَّ لَطِيفةٍ مِنها ويُوَجِّهُها نحوَ الحَقيقةِ بطَرِيقِ عُبُودِيّةٍ خاصٍّ بها. عندَ ذلك تَسِيرُ الكَثْرةُ الكاثِرةُ مِنَ اللَّطائفِ جُنُودًا في رَكْبٍ عَظِيمٍ وفي مَيدانٍ واسِعٍ فَسِيحٍ، كما هو لَدَى الصَّحابةِ الكِرامِ رِضوانُ اللهِ علَيهِم. وإلّا فإنَّ تَرْكَ القَلْبِ جُنُودَه دارِجًا وَحدَه لإنقاذِ نَفسِه، ليس مِنَ الفَخرِ والِاعتِزازِ، بل هو نَتِيجةُ اضطِرارٍ ليس إلّا.

[منشأ دعوى الأفضلية على الصحابة]

السُّؤالُ الرّابع: مِن أينَ يَنشَأُ ادِّعاءُ الأَفضَلِيّةِ تِجاهَ الصَّحابةِ الكِرامِ؟ ومَن همُ الَّذين يُثيرُون هذا الِادِّعاءَ؟ ولِماذا تُثارُ هذه المَسائِلُ في الوَقتِ الحاضِرِ؟ ومِن أينَ يَنبَعِثُ ادِّعاءُ بُلُوغِ المُجتَهِدِين العِظامِ؟

الجَوابُ: إنَّ الَّذين يقُولُون بهذه المَسائِلِ هم قِسمانِ:

قِسمٌ مِنهم: رَأَوا بعضَ الأَحادِيثِ الشَّرِيفةِ ونَشَرُوها كي يُحَفِّزُوا الشَّوقَ لَدَى المُتَّقِين وأَهلِ الصَّلاحِ في هذا الوَقتِ ويُرَغِّبُوهم في الدِّينِ.. فهؤلاء هم أَهلُ دِينٍ وعِلمٍ، وهم مُخلِصُون، وليس لنا ما نُعَلِّقُ به علَيهم، وهم قِلَّةٌ ويَنتَبِهُون بسُرعةٍ.

أمّا القِسمُ الآخَرُ: فهم أُناسٌ مَغرُورُون جِدًّا، ومُعجَبُون بأَنفُسِهم أَيَّما إعجابٍ، يُرِيدُون أن يَبُثُّوا انسِلاخَهُم مِنَ المَذاهِبِ الفِقهِيّةِ تحتَ ادِّعاءِ أنَّهم في مُستَوَى المُجتَهِدِين العِظامِ، بل يُحاوِلُون إمرارَ إِلحادِهم وانسِلاخِهم مِنَ الدِّينِ بادِّعاءِ أنَّهم في مُستَوَى الصَّحْبِ الكِرامِ، فهؤلاء الضّالُّون قد وَقَعُوا:

أوَّلًا: في هاوِيةِ السَّفاهةِ حتَّى غَدَوْا مُعتادِين علَيها، ولا يَستَطِيعُون أن يَتْرُكُوا ما اعتادُوه، ويَنهَضُوا بتَكاليفِ الشَّرعِ الَّتي تَردَعُهم عنِ السَّفاهةِ. فتَرَى أَحَدَهم يُبَرِّرُ نَفسَه قائلًا: “إنَّ هذه المَسائِلَ إنَّما هي مَسائِلُ اجتِهادِيّةٌ، والمَذاهِبُ الفِقهِيّةُ مُتَبايِنةٌ في أَمثالِ هذه المَسائِلِ، وهم رِجالٌ مِثلُنا قدِ اجتَهَدُوا ورُبَّما يُخطِئُون، ونحن أَيضًا رِجالٌ أَمثالُهم، يُمكِنُنا أن نَجتَهِدَ مِثلَهم، لِذا نُؤَدِّي العِباداتِ بالشَّكلِ الَّذي يَرُوقُ لنا نحن، أي: لَسنا مُضطَرِّين إلى اتِّباعِهم!!”. فهؤلاء التُّعَساءُ يَحُلُّون رِبقةَ المَذاهِبِ عن أَنفُسِهم بهذه الدَّسِيسةِ الشَّيطانيّةِ، فما أَوهاها مِن دَسِيسةٍ وما أَرخَصَها مِن تَبْرِيرٍ! وقد أَثبَتْنا ذلك في رِسالةِ “الِاجتِهادِ”.

ثانيًا: إنَّهم عِندَما رَأَوْا أنَّ دَسِيسَتَهم لا تَكمُلُ حَلَقاتُها عندَ حَدِّ التَّعَرُّضِ للمُجتَهِدِين العِظامِ، بَدَؤُوا يَتَعرَّضُون للصَّحابةِ الكِرامِ رِضوانُ اللهِ تَعالَى علَيهِم، حيثُ إنَّ المُجتَهِدِين يَحمِلُون النَّظَرِيّاتِ الدِّينيّةَ وَحدَها، وهؤلاء الضَّالُّون يَرُومُون هَدْمَ الضَّرُوريّاتِ الدِّينيّةِ وتَغيِيرَها، فلو قالُوا: “نحنُ أَفضَلُ مِنَ المُجتَهِدِين” لم تَنْتَهِ قَضِيَّتُهم، حيثُ إنَّ مَيدانَ المُجتَهِدِين النَّظَرُ في المَسائِلِ الفَرعِيّةِ، دُونَ النُّصُوصِ الشَّرعِيّةِ، لِذا تَراهُم وهم مُنسَلِخُون مِنَ المَذاهِبِ يَبدَؤُون بمَسِّ الصَّحابةِ الأَجِلّاءِ الَّذين هم حامِلُو الضَّرُورِيّاتِ الدِّينيّةِ. ولكِن هَيهَاتَ! فلَيس أَمثالُ هؤلاءِ الأَنعامِ الَّذين هم في صُورةِ إنسانٍ، بل حتَّى الإنسانُ الحَقيقيُّ، بل الكامِلُون مِنهم وهم أَعاظِمُ الأَولياءِ الصّالِحِين، لا يُمكِنُهم أن يَكسِبُوا دَعوَى المُماثَلةِ معَ أَصغَرِ صَحابِيٍّ جَليلٍ. كما أَثبَتْناه في رِسالةِ “الِاجتِهادِ”.

اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم على رَسُولِك الَّذي قال: «لا تَسُبُّوا أَصحابي، لا تَسُبُّوا أَصحابي، فوَالَّذي نَفسِي بِيَدِه لو أنَّ أَحَدَكم أَنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهم ولا نَصِيفَه». صدق رسول الله ﷺ.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

  ❀  ❀

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى