الكلمات

الكلمة السادسة والشرون: رسالة القدَر.

[هذه الكلمة تتحدث عن ركن الإيمان بالقضاء والقدَر فتبيِّن أهم مفاهيمه وتجيب عن أهم أسئلته، وتختم بحديث عن تزكية النفس وأقصر الطرق إلى الله تعالى]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

مَن آمَنَ بالقَدَر أَمِنَ من الكَدَر.
مَن آمَنَ بالقَدَر أَمِنَ من الكَدَر.

 

المحتويات عرض

الكلمة السادسة والعشرون‌

 

رسالة القَدَر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾

﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾

القَدَرُ الإلٰهِيُّ والجُزءُ الِاختِيارِيُّ مَسأَلتانِ مُهِمَّتانِ، نُحاوِلُ حَلَّ بعضِ أَسرارِهما في أَربَعةِ مَباحِثَ تَخُصُّ القَدَرَ.

[المبحث الأول: القدَر مبحث حالي وجداني لا علمي نظري]

المَبحَثُ الأوَّلُ‌

[موضع استعمال القدَر والاختيار]

إنَّ القَدَرَ والجُزءَ الِاختِيارِيَّ جُزءانِ مِن إيمانٍ حالِيٍّ ووِجدانِيٍّ، يُبيِّنُ نِهايةَ حُدُودِ الإيمان والإسلام، وليسا مباحثَ عِلْميّةً ونَظَرِيّةً. أي: إنَّ المُؤمِنَ يُعطِي للهِ كلَّ شيءٍ، ويُحِيلُ إلَيه كلَّ أَمرٍ، وما يَزالُ هكذا حتى يُحِيلَ فِعلَه ونَفسَه إلَيه؛ ولكَيْلا يَنجُوَ في النِّهايةِ مِنَ التَّـكليفِ والمَسؤُوليّةِ يَبْرُزُ أَمامَه الجُزءُ الِاختِيارِيُّ قائلًا له: “أنت مَسؤُولٌ، أنتَ مُكَلَّفٌ”! ثمَّ إنَّه لكَيْلا يَغتَرَّ بما صَدَرَ عنه مِن حَسَناتٍ وفَضائِلَ، يُواجِهُه القَدَرُ، قائلًا له: “اعرِفْ حَدَّك، فلَستَ أنت الفاعِلَ.”

[القدَر والجزء الاختياري ينقذان النفس الإنسانية من الغرور ومن التسيب]

أَجَل، إنَّ القَدَرَ والجُزءَ الِاختيارِيَّ هما في أَعلَى مَراتِبِ الإيمانِ والإسلامِ، قد دَخَلا ضِمنَ المَسائِلِ الإيمانيّةِ، لأنَّهما يُنقِذانِ النَّفسَ الإنسانيّةَ.. فالقَدَرُ يُنقِذُها مِنَ الغُرُورِ، والجُزءُ الِاختِيارِيُّ يُنجِيها مِنَ الشُّعُورِ بعَدَمِ المَسؤُوليّةِ؛ ولَيسا مِنَ المَسائلِ العِلْميّةِ والنَّظَرِيّةِ الَّتي تُفضِي إلى ما يُناقِضُ سِرَّ القَدَرِ وحِكمةَ الجُزءِ الِاختِيارِيِّ كُلِّيًّا، بالتَّشَبُّثِ بالقَدَرِ للتَّبْرِئةِ مِن مَسؤُوليّةِ السَّيِّئاتِ الَّتي اقتَرَفَتْها النُّفُوسُ الأَمَّارةُ بالسُّوءِ، والِافتِخارِ بالفَضائِلِ الَّتي أُنعِمَتْ علَيها والِاغتِرارِ بها وإسنادِها إلى الجُزءِ الِاختِيارِيِّ.

أَجَل، إنَّ العَوامَّ الَّذين لم يَبلُغُوا مَرتَبةَ إدراكِ سِرِّ القَدَرِ لهم مَواضِعُ لِاستِعمالِه، ولكن هذه المَواضِعُ تَنحَصِرُ في الماضِياتِ مِنَ الأُمُورِ وبخُصُوصِ المَصائبِ والبَلايا والَّذي هو عِلاجُ اليَأْسِ والحُزنِ، وليس في أُمُورِ المَعاصِي أو في المُقْبِلاتِ مِنَ الأَيّامِ حتَّى يكُونَ مُساعِدًا على اقتِرافِ الذُّنوبِ والتَّهاوُنِ في التَّكاليفِ.

بمَعنَى أنَّ مَسأَلةَ القَدَرِ لَيسَت للفِرارِ مِنَ التَّـكليفِ والمَسؤُوليّةِ، بل لإنقاذِ الإنسانِ مِنَ الفَخرِ والغُرُورِ، ولِهذا دَخَلَتْ ضِمنَ مَسائِلِ الإيمانِ.

أمَّا الجُزءُ الِاختِيارِيُّ فقد دَخَل ضِمنَ مَباحِثِ العَقِيدةِ لِيَكُونَ مَرجِعًا للسَّيِّئاتِ، لا لِيَكُونَ مَصدَرًا للمَحاسِنِ والفَضائِلِ الَّتي تَسُوقُ إلى الطُّغيانِ والتَّفَرعُنِ.

نعم، إنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ يُبيِّنُ أنَّ الإنسانَ مَسؤُولٌ عن سَيِّئاتِه مَسؤُوليّةً كامِلةً، لأنَّ الإنسانَ هو الَّذي أَرادَ السَّيِّئاتِ؛ ولَمَّا كانَتِ السَّيِّئاتُ مِن قَبِيلِ التَّخرِيباتِ لِذا يَستَطِيعُ الإنسانُ أن يُوقِعَ دَمارًا هائِلًا بسَيِّئةٍ واحِدةٍ، كإحراقِ بَيتٍ كامِلٍ بعُودِ ثِقابٍ، وبذلك يَستَحِقُّ إنزالَ عِقابٍ عَظيمٍ به.

أمَّا في الحَسَناتِ، فلَيس له الحَقُّ في الفَخرِ والمُباهاةِ، لأنَّ حِصَّتَه فيها ضَئِيلةٌ جِدًّا، لأنَّ الرَّحمةَ الإلٰهِيّةَ هي الَّتي أرادَتِ الحَسَناتِ، واقتَضَتْها، والقُدرةُ الرَّبّانيّةُ هي الَّتي أَوجَدَتْها، فالسُّؤالُ والجَوابُ والسَّببُ والدَّاعي كِلاهما مِنَ الحَقِّ سُبحانَه وتَعالَى، ولا يكُونُ الإنسانُ مالِكًا لِهذه الحَسَناتِ وصاحِبًا لها إلَّا بالدُّعاءِ والتَّضَرُّع، وبالإيمانِ، وبالشُّعُورِ بالرِّضَى عنها؛ بَينَما الَّذي أَرادَ السَّيِّئاتِ هو النَّفْسُ الإنسانيّةُ، إمَّا بالِاستِعدادِ أو بالِاختِيارِ، مِثلَما تَكتَسِبُ بعضُ المَوادِّ التَّعَفُّنَ والِاسوِدادَ مِن ضِياءِ الشَّمسِ الجَميلِ اللَّامِعِ، فَذلك الِاسوِدادُ إنَّما يَعُودُ إلى استِعدادِ تلك المادّةِ، ولكِنَّ الَّذي يُوجِدُ تلك السَّيِّئاتِ بقانُونٍ إلٰهِيٍّ مُتَضمِّنٍ لِمَصالِحَ كَثِيرةٍ إنَّمَا هو اللهُ سُبحانَه أيضًا. أي: إنَّ التَّسَبُّبَ والسُّؤالَ هما مِنَ النَّفْسِ الإنسانيّةِ بحَيثُ تَتَحمَّلُ المَسؤُوليّةَ عنها. أمّا الخَلْقُ والإيجادُ الخاصُّ به سُبحانَه وتَعالَى فهو جَمِيلٌ، لأنَّ له ثَمَراتٍ أُخرَى جَميلةً، ونَتائِجَ شَتَّى جَميلةً، فهو خَيرٌ.

[خلق الشر ليس شرًّا.. كسب الشر شر]

ومِن هذا السِّرِّ يكُونُ خَلْقُ الشَّرِّ ليس شَرًّا، وإنَّما كَسْبُ الشَّرِّ شَرٌّ، إذ لا يَحِقُّ لِكَسلانَ قد تأَذَّى مِنَ المَطَرِ المُتَضمِّنِ لِمَصالِحَ غَزِيرةٍ أن يقُولَ: المَطَرُ ليس رَحمةً.

نعم، إنَّ في الخَلقِ والإيجادِ خَيرًا كَثِيرًا معَ تَضَمُّنِه لِشَرٍّ جُزئيٍّ، وإنَّ تَرْكَ خَيرٍ كَثيرٍ لِأَجلِ شَرٍّ جُزئيٍّ يُحدِثُ شَرًّا كَثيرًا، لِذا فإنَّ ذلك الشَّرَّ الجُزئيَّ يُعَدُّ خَيرًا وفي حُكمِه؛ فليس في الخَلقِ الإلٰهِيِّ شَرٌّ ولا قُبحٌ، بل يَعُودُ الشَّرُّ إلى كَسْبِ العَبدِ وإلى استِعدادِه.

وكما أنَّ القَدَرَ الإلٰهِيَّ مُنَزَّهٌ عنِ القُبحِ والظُّلمِ، مِن حيثُ النَّتيجةُ والثَّمَراتُ، كذلك فهو مُقَدَّسٌ عنِ القُبحِ والظُّلمِ مِن حيثُ العِلّةُ والسَّبَبُ، لأنَّ القَدَرَ الإلٰهِيَّ يَنظُرُ إلى العِللِ الحَقيقيّةِ، فيَعدِلُ، بَينَما النّاسُ يَبنُون أَحكامَهم على ما يُشاهِدُونه مِن عِللٍ ظاهِرةٍ، فيَرتَكِبُون ظُلمًا ضِمنَ عَدالةِ القَدَرِ نَفسِه.

فمَثلًا: هَبْ أنَّ حاكِمًا قد حَكَم علَيك بالسِّجنِ بتُهمةِ السَّرِقةِ، وأنت بَرِيءٌ مِنها، ولكن لك قَضِيّةُ قَتلٍ مَستُورةٌ لا يَعرِفُها إلَّا اللهُ؛ فالقَدَرُ الإلٰهِيُّ قد حَكَم علَيك بذلك السِّجنِ، وقد عَدَلَ مِن أَجلِ ذلك القَتلِ المَستُورِ عنِ النّاسِ. أمّا الحاكِمُ فقد ظَلَمَك، حيثُ حَكَمَ علَيك بالسِّجنِ بتُهمةِ السَّرِقةِ وأنتَ بَرِيءٌ مِنها.

وهكذا، ففي الشَّيءِ الواحِدِ تَظهَرُ جِهَتانِ: جِهةُ عَدالةِ القَدَرِ والإيجادِ الإلٰهِيِّ، وجِهةُ ظُلمِ البَشَرِ وكَسْبِه. قِسْ بَقِيّةَ الأُمُورِ على هذا.. أي: إنَّ القَدَرَ والإيجادَ الإلٰهِيَّ مُنَزَّهانِ عنِ الشَّرِّ والقُبحِ والظُّلمِ، باعتِبارِ المَبدَأِ والمُنتَهَى والأُصُولِ والفُرُوعِ والعِلَلِ والنَّتائِجِ.

وإذا قيلَ: ما دامَ الجُزءُ الِاختِيارِيُّ لا قابِلِيّةَ له في الإيجادِ، ولا يُوجَدُ في يَدِ الإنسانِ غيرُ الكَسْبِ الَّذي هو في حُكمِ أَمرٍ اعتِبارِيٍّ، فكيف تكُونُ إذًا شَكوَى القُرآنِ المُعجِزِ البَيانِ مِن هذا الإنسانِ شَكاوَى عَظِيمةً تِجاهَ عِصْيانِه خالِقَ السَّماواتِ والأَرضِ؛ حتَّى كأنَّه أُعطِيَ وَضْعَ العَدُوِّ العاصِي، بل يُرسِلُ سُبحانَه جُنُودَه المَلائِكةَ لإِمدادِ العَبدِ المُؤمِنِ تِجاهَ ذلك العاصِي، بل يُمِدُّه خالِقُ السَّماواتِ والأَرضِ بنَفسِه.. فِلمَ هذه الأَهَمِّيّةُ البالِغةُ؟ الجَوابُ: لأنَّ الكُفرَ والعِصيانَ والسَّيِّئةَ كلَّها تَخرِيبٌ وعَدَمٌ، ويُمكِنُ أن تَتَرتَّبَ تَخرِيباتٌ هائِلةٌ وعَدَميّاتٌ غيرُ مَحدُودةٍ على أَمرٍ اعتِبارِيٍّ وعَدَميٍّ واحِدٍ؛ إذ كما أنَّ عَدَمَ إيفاءِ مَلَّاحِ سَفِينةٍ ضَخْمةٍ بوَظيفَتِه يُغرِقُ السَّفِينةَ، ويُفسِدُ نَتائِجَ أَعمالِ جَمِيعِ العامِلين فيها، لِتَرتُّبِ جَمِيعِ تلك التَّخرِيباتِ الجَسِيمةِ على عَدَمٍ واحِدٍ، كذَلِك الكُفرُ والمَعصِيةُ، لِكَونِهما نَوعًا مِنَ العَدَمِ والتَّخرِيبِ، فيُمكِنُ أن يُحَرِّكَهما الجُزءُ الِاختِيارِيُّ بأَمرٍ اعتِبارِيٍّ، فيُسَبِّبانِ نَتائِجَ مُرِيعةً.

لأنَّ الكُفرَ وإن كان سَيِّئةً واحِدةً إلّا أنَّه تَحقِيرٌ لِجَميعِ الكائناتِ بوَصْمِها بالتَّفاهةِ والعَبَثِيّةِ، وتَكذِيبٌ لِجَمِيعِ المَوجُوداتِ الدّالّةِ على الوَحدانيّةِ، وتَزيِيفٌ لِجَمِيعِ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى؛ فإنَّ تَهدِيدَه سُبحانَه وتَعالَى، وشَكواه باسمِ الكائناتِ قاطِبةً، والمَوجُوداتِ كافّةً، والأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى كُلِّها، مِنَ الكافِرِ شَكاوَى عَنيفة وتَهدِيدات مُرِيعة، هو عَينُ الحِكمةِ، وإنَّ تَعذِيبَه بعَذابٍ خالِدٍ هو عَينُ العَدالةِ.

وحيثُ إنَّ الإنسانَ لَدَى انحِيازِه إلى جانِبِ التَّخرِيبِ بالكُفرِ والعِصيانِ، يُسَبِّبُ دَمارًا رَهِيبًا بعَمَلٍ جُزئيٍّ، فإنَّ أَهلَ الإيمانِ مُحتاجُون إذًا -تِجاهَ هَؤُلاءِ المُخَرِّبين- إلى عِنايةٍ إلٰهِيّةٍ عَظِيمةٍ، لأنَّه إذا تَعَهَّد عَشَرةٌ مِنَ الرِّجالِ الأَقوِياءِ بالحِفاظِ على بَيتٍ وتَعمِيرِه، فإنَّ طِفْلًا شِرِّيرًا في مُحاوَلَتِه إحراقَ البَيتِ، يُلجِئُ أُولَئِك الرِّجالَ إلى الذَّهابِ إلى وَلِيِّه بلِ التَّوَسُّلِ إلى السُّلطانِ. لِذا فالمُؤمِنُون مُحتاجُون أَشَدَّ الحاجةِ إلى عِنايَتِه سُبحانَه وتَعالَى للصُّمُودِ تِجاهَ هؤلاء العُصاةِ الفاجِرِين.

نَحصُلُ مِمّا سَبَق: أنَّ الَّذي يَتَحدَّثُ عنِ القَدَرِ والجُزءِ الِاختِيارِيِّ: إن كان ذا إيمانٍ كامِلٍ، مُطمَئِنَّ القَلبِ، فإنَّه يُفَوِّضُ أَمرَ الكائناتِ كلِّها -ونَفسَه كذلك- إلى اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، ويَعتَقِدُ أنَّ الأُمُورَ تَجرِي تحتَ تَصَرُّفِه سُبحانَه وتَدبِيرِه؛ فهذا الشَّخصُ يَحِقُّ له الكَلامُ في القَدَرِ والجُزءِ الِاختِيارِيِّ، لأنَّه يَعرِفُ أنَّ نَفسَه وكلَّ شَيءٍ، مِنه سُبحانَه وتَعالَى، فيَتَحمَّلُ المَسؤُوليّةَ، مُستَنِدًا إلى الجُزءِ الِاختِيارِيِّ الَّذي يَعتَبِرُه مَرجِعًا للسَّيِّئاتِ، فيُقَدِّسُ رَبَّه ويُنَـزِّهُه، ويَظَلُّ في دائِرةِ العُبُودِيّةِ ويَرضَخُ للتَّـكلِيفِ الإلٰهِيِّ ويَأْخُذُه على عاتِقِه، ويَنظُرُ إلى القَدَرِ في الحَسَناتِ والفَضائِلِ الصّادِرةِ عنه، لِئَلَّا يَأْخُذَه الغُرُورُ، فيَشكُرُ رَبَّه بَدَلَ الفَخرِ، ويَرَى القَدَرَ في المَصائِبِ الَّتي تَنزِلُ به فيَصبِرُ.

ولكن إن كان الَّذي يَتَحدَّثُ في القَدَرِ الإلٰهِيِّ والجُزءِ الِاختِيارِيِّ مِن أَهلِ الغَفلةِ، فلا يَحِقُّ له الخَوضُ فيهما، لأنَّ نَفسَه الأَمّارةَ بالسُّوءِ -بدافِعٍ مِنَ الغَفلةِ أوِ الضَّلالةِ- تُحِيلُ الكائناتِ إلى الأَسبابِ، فتَجعَلُ ما للهِ إلَيها، وتَرَى نَفسَها مالِكةً لِنَفسِها، وتُرجِعُ أَفعالَها إلى نَفسِها وتُسنِدُها إلى الأَسبابِ، بَينَما تُحَمِّلُ القَدَرَ المَسؤُوليّةَ والتَّقصِيراتِ؛ وحِينَئذٍ يكُونُ الخَوضُ في القَدَرِ والجُزءِ الِاختِيارِيِّ باطِلًا لا أَساسَ له بهذا المَفهُومِ، ولا يَعني سِوَى دَسِيسةٍ نَفسِيّةٍ تُحاوِلُ التَّمَلُّصَ مِنَ المَسؤُوليّةِ، مِمّا يُنافي حِكمةَ القَدَرِ وسِرَّ الجُزءِ الِاختِيارِيِّ.

[المبحث الثاني: كيف يمكن التوفيق بين القَدَر والجزء الاختياري؟]

المبحث الثاني‌

هذا المَبحَثُ بَحثٌ عِلْميٌّ دَقيقٌ خاصٌّ للعُلَماءِ1هذا المَبحَثُ الثاني هو أَعمَقُ وأَعضَلُ مَسأَلةٍ في القَدَرِ، وهو مَسأَلةٌ عَقَديّةٌ كَلاميّةٌ ذاتُ أَهَمِّيّةٍ جَليلةٍ لَدَى العُلَماءِ المُحَقِّقين، وقد حَلَّتْها رَسائلُ النُّورِ حَلًّا تامًّا..

إذا قُلتَ: كيفَ يُمكِنُ التَّوفيقُ بينَ القَدَرِ والجُزءِ الِاختِياريِّ؟

الجَوابُ: بسَبعةِ وُجُوهٍ:

[عدم العلم بالشي لا يعني عدم وجوده]

الأوَّلُ: إنَّ العادِلَ الحَكِيمَ الَّذي تَشهَدُ لِحِكمَتِه وعَدالَتِه الكائناتُ كلُّها بلِسانِ الِانتِظامِ والمِيزانِ، قد أَعطَى للإنسانِ جُزءًا اختِيارِيًّا مَجهُولَ الماهِيّةِ، لِيَكُونَ مَدارَ ثَوابٍ وعِقابٍ؛ فكما أنَّ للحَكِيمِ العادِلِ حِكَمًا كَثيرةً خَفِيّةً عنّا، كذلك كَيفيّةُ التَّوفيقِ بينَ القَدَرِ والجُزءِ الِاختِياريِّ خافِيةٌ علَينا، ولكِنْ عَدَمُ عِلْمِنا بكَيفيّةِ التَّوفيقِ لا يَدُلُّ على عَدَمِ وُجُودِه.

[الجزء الاختياري معلومٌ وجودُه مجهولٌ ماهيتُه]

الثاني: إنَّ كلَّ إنسانٍ يَشعُرُ بالضَّرُورةِ أنَّ له إرادةً واختِيارًا في نَفسِه، فيَعرِفُ وُجُودَ ذلك الِاختيارِ وِجدانًا؛ وإنَّ العِلمَ بماهِيّةِ المَوجُوداتِ شَيءٌ والعِلمَ بوُجُودِها شَيءٌ آخَرُ، فكَثيرٌ مِنَ الأَشياءِ وُجُودُها بَدِيهيٌّ لَدَينا، إلَّا أنَّ ماهِيَّتَها مَجهُولةٌ بالنِّسبةِ إلينا؛ فهذا الجُزءُ الِاختِياريُّ يُمكِنُ أن يَدخُلَ ضِمنَ تلك السِّلسِلةِ، فلا يَنحَصِرُ كلُّ شَيءٍ في نِطاقِ مَعلُوماتِنا، وإنَّ عَدَمَ عِلْمِنا لا يَدُلُّ على عَدَمِه.

[الجزء الاختياري لا ينافي القدَر بل القدَر يؤيده]

الثالثُ: إنَّ الجُزءَ الِاختِياريَّ لا يُنافي القَدَرَ، بلِ القَدَرُ يُؤيِّدُ الجُزءَ الِاختِياريَّ، لأنَّ القَدَرَ نَوعٌ مِنَ العِلمِ الإلٰهِيِّ، وقد تَعَلَّق العِلْمُ الإلٰهِيُّ باختِيارِنا، ولِهذا يُؤَيِّدُ الِاختِيارَ ولا يُبطِلُه.

[فرقٌ بين تعلق العلم وتعلق الإرادة]

الرّابعُ: القَدَرُ نَوعٌ مِنَ العِلمِ، والعِلمُ تابِعٌ للمَعلُومِ، أي: على أَيّةِ كَيفيّةٍ يكُونُ المَعلُومُ يُحِيطُ به العِلمُ ويَتَعلَّقُ به، فلا يكُونُ المَعلُومُ تابِعًا للعِلمِ، أي: إنَّ دَساتِيرَ العِلمِ لَيسَت أَساسًا لإدارةِ المَعلُومِ مِن حيثُ الوُجُودُ الخارِجِيُّ، لأنَّ ذاتَ المَعلُومِ ووُجُودَه الخارِجِيَّ يَنظُرُ إلى الإرادةِ ويَستَنِدُ إلى القُدرةِ.

ثمَّ إنَّ الأَزَل ليس طَرَفًا لِسِلسِلةِ الماضِي كي يُتَّخذَ أَساسًا في وُجُودِ الأَشياءِ ويُتَصَوَّر اضطِرارًا بحَسَبِه، بلِ الأَزَلُ يُحِيطُ بالماضِي والحاضِرِ والمُستَقبَلِ كإحاطةِ السَّماءِ بالأَرضِ، كالمِرآةِ النّاظِرةِ مِنَ الأَعلَى؛ لِذا ليس مِنَ الحَقيقةِ في شَيءٍ تَخَيُّلُ طَرَفٍ ومَبدَأٍ في جِهةِ الماضِي للزَّمانِ المُمتَدِّ في دائِرةِ المُمكِناتِ وإطلاقُ اسمِ الأَزَلِ علَيه، ودُخُولُ الأَشياءِ بالتَّرتيبِ في ذلك العِلمِ الأَزَليِّ، وتَوَهُّمُ المَرءِ نَفسَه في خارِجِه، ومِن ثَمَّ القيامُ بمُحاكَمةٍ عَقلِيّةٍ في ضَوءِ ذلك.

فانظُر إلى هذا المِثالِ لِكَشْفِ هذا السِّرِّ: إذا وُجِدَتْ في يَدِك مِرآةٌ، وفَرَضْتَ المَسافةَ الَّتي في يَمِينِها الماضِيَ، والمَسافةَ الَّتي في يَسارِها المُستَقبَلَ؛ فتلك المِرآةُ لا تَعكِسُ إلَّا ما يُقابِلُها، وتَضُمُّ الطَّرَفَينِ بتَرتيبٍ مُعَيَّنٍ، حيثُ لا تَستَوعِبُ أَغلَبَهما، لأنَّ المِرآةَ كُلَّما كانَت واطِئةً عَكَسَتِ القَليلَ، بَينَما إذا رُفِعَتْ إلى الأَعلَى فإنَّ الدّائرةَ الَّتي تُقابِلُها تَتَوسَّعُ، وهكذا بالصُّعُودِ تَدرِيجِيًّا تَستَوعِبُ المِرآةُ المَسافةَ في الطَّرَفَينِ معًا في نَفسِها في آنٍ واحِدٍ. وهكذا يَرتَسِمُ في المِرآة في وَضعِها هذا كلُّ ما يَجرِي مِن حالاتٍ في كِلْتا المَسافَتَينِ، فلا يُقالُ: إنَّ الحالاتِ الجارِيةَ في إحداها مُقدَّمةٌ على الأُخرَى، أو مُؤَخَّرةٌ عنها، أو تُوافِقُها، أو تُخالِفُها.

وهكذا، فالقَدَرُ الإلٰهِيُّ لِكَونِه مِنَ العِلمِ الأَزَليِّ، والعِلمُ الأَزَليُّ “في مَقامٍ رَفيعٍ يَضُمُّ كلَّ ما كان وما يكُونُ، ويُحِيطُ به” كما يُعَبَّـرُ عنه في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، لِذا لا نكُونُ نحن ولا مُحاكَماتُنا العَقلِيّةُ خارِجَينِ عن هذا العِلْمِ قَطْعًا، حتَّى نَتَصوَّرَه مِرآةً تَقَعُ في مَسافةِ الماضِي.

[القدَر يتعلق بالسبب والمسبَّب]

الخامس: أنَّ القَدَرَ يَتَعلَّقُ بالسَّببِ وبالمُسَبَّب معًا، أي: أنَّ هذا المُسَبَّبَ سيَقَعُ مِن خِلالِ هذا السَّبَبِ، لِذا لا يَنبَغِي أن يُقالَ: ما دامَ مَوتُ الشَّخصِ الفُلانِيِّ مُقَدَّرًا في الوَقتِ الفُلانِيِّ، فما ذَنبُ مَن يَرمِيه بطَلْقةٍ عبْرَ استِخدامِه الجُزءَ الِاختِيارِيَّ، إذ لو لم يَرمِه لَمات أيضًا؟

سؤالٌ: لِمَ يَجِبُ ألَّا يُقالَ؟

الجَوابُ: لأنَّ القَدَرَ قد عَيَّنَ مَوتَه ببُندُقيّةِ ذاك، فإذا فَرَضْتَ عَدَمَ رَميِه، عِندَئذٍ تَفرِضُ عَدَمَ تَعَلُّقِ القَدَرِ، فبِمَ تَحكُمُ إذًا على مَوتِه؟ إلّا إذا تَرَكْتَ مَسلَكَ أَهلِ السُّنّةِ والجَماعةِ ودَخَلْتَ ضِمنَ الفِرَقِ الضّالّةِ الَّتي تَتَصوَّرُ قَدَرًا للسَّبَبِ وقَدَرًا للمُسَبَّبِ، كما هو عندَ الجَبْرِيّةِ، أو تُنكِرُ القَدَرَ كالمُعتَزِلةِ؛ أمّا نحنُ أَهلَ الحَقِّ فنقُولُ: لو لم يَرمِه فإنَّ مَوتَه مَجهُولٌ عندَنا. أمّا الجَبْرِيّةُ فيقُولُون: لو لم يَرْمِه لَمات أيضًا. بَينَما المُعتَزِلةُ يقُولُون: لو لم يَرْمِه لم يَمُتْ.

[بين الميل والكسب]

السّادس2حَقيقةٌ خَاصَّةٌ للعُلَماء المُدَقِّقين غَايةَ التَّدقيقِ.: إنَّ المَيَلانَ الَّذي هو أُسُّ أَساسِ الجُزءِ الِاختِيارِيِّ، أَمرٌ اعتِبارِيٌّ عندَ الماتُرِيديّةِ، فيُمكِنُ أن يكُونَ بيَدِ العَبدِ، ولكنَّ المَيَلانَ أَمرٌ مَوجُودٌ لَدَى الأَشعَرِيِّين، فليس هو بيَدِ العَبدِ، إلّا أنَّ التَّصَرُّفَ عِندَهم أَمرٌ اعتِبارِيٌّ بيَدِ العَبدِ؛ ولِهذا فذلك المَيَلانُ وذلك التَّصَرُّف فيه أَمرانِ نِسبِيّانِ، ليس لهما وُجُودٌ خارِجِيٌّ مُحَقَّق.

أمّا الأَمرُ الِاعتِبارِيُّ فلا يَحتاجُ ثُبُوتُه إلى عِلّةٍ تامّةٍ، والَّتي تَستَلزِمُ الضَّرُورةَ المُوجِبةَ لِرَفعِ الِاختِيارِ، بل إذا اتَّخَذَت عِلّةُ ذلك الأَمرِ الِاعتِبارِيِّ وَضْعًا بدَرَجةٍ مِنَ الرُّجحانِ، فإنَّه يُمكِنُ أن يَثبُتَ، ويُمكِنُ أن يَترُكَه في تلك اللَّحظةِ، فيقُولُ له القُرآن آنَئذٍ: هذا شَرٌّ! لا تَفعَلْ.

نعم، لو كان العَبدُ خالِقًا لِأَفعالِه وقادِرًا على الإيجادِ، لَرُفِعَ الِاختِيارُ، لأنَّ القاعِدةَ المُقَرَّرة في عِلمِ الأُصُولِ والحِكمةِ أنَّه: “ما لم يَجِبْ لم يُوجَد” أي: لا يَأْتِي إلى الوُجُودِ شَيءٌ ما لم يكُن وُجُودُه واجِبًا، أي: لا بُدَّ مِن وُجُودِ عِلّةٍ تامّةٍ ثمَّ يُوجَدُ؛ أمّا العِلّةُ التّامّةُ فتَقتَضِي المَعلُولَ بالضَّرُورةِ وبالوُجُوبِ، وعِندَها لا اختِيارَ.

إذا قُلتَ: التَّرجِيحُ بلا مُرَجِّحٍ مُحالٌ، بَينَما كَسْبُ الإنسانِ الَّذي تُسَمُّونه أَمرًا اعتِبارِيًّا، بالعَمَلِ أَحيانًا وبعَدَمِه أُخرَى، يَلْزَمُ التَّرجِيحَ بلا مَرَجِّحٍ، إن لم يُوجَد مُرَجِّحٌ مُوجِبٌ، وهذا يَهدِمُ أَعظَمَ أَصلٍ مِن أُصُولِ الكَلامِ!

الجَوابُ: إنَّ التَّرجُّحَ بلا مُرَجِّحٍ مُحالٌ -أي: الرُّجحانُ بلا سَبَبٍ ولا مُرَجِّحٍ- دُونَ التَّرجِيحِ بلا مُرَجِّحٍ الَّذي يجُوزُ وهو واقِعٌ، فالإرادةُ الإلٰهِيّةُ صِفةٌ مِن صِفاتِه تَعالَى، وشَأْنُها القِيامُ بمِثلِ هذا العَمَلِ (أي: اختِيارُه تَعالَى هو المُرَجِّحُ).

إذا قُلتَ: ما دامَ الَّذي خَلَق القَتْلَ هو اللهَ سُبحانَه وتَعالَى، فلِماذا يُقالُ لي: القاتِلُ؟

الجَوابُ: إنَّ اسمَ الفاعِلِ مُشتَقٌّ مِنَ المَصدَرِ الَّذي هو أَمرٌ نِسبِيٌّ حَسَبَ قَواعِدِ عِلمِ الصَّرفِ، ولا يُشتَقُّ مِنَ الحاصِلِ بالمَصدَرِ الَّذي هو أَمرٌ ثابِتٌ؛ فالمَصدَرُ هو كَسْبُنا، ونَتَحمَّلُ عُنوانَ القاتِلِ نحنُ، والحاصِلُ بالمَصدَرِ مَخلُوقُ اللهِ سُبحانَه، وما يُشَمُّ مِنه المَسؤُوليّةُ لا يُشتَقُّ مِنَ الحاصِلِ بالمَصدَرِ.

[إرادة الإنسان الجزئية شرط عادي لإرادة الله الكلية]

السّابع: إنَّ إرادةَ الإنسانِ الجُزئيّةَ وجُزأَه الِاختِيارِيَّ ضَعيفٌ وأَمرٌ اعتِبارِيٌّ، إلّا أنَّ اللهَ سُبحانَه -وهو الحَكِيمُ المُطلَقُ- قد جَعَل تلك الإرادةَ الجُزئيّةَ الضَّعِيفةَ شَرْطًا عادِيًّا لإرادَتِه الكُلِّيّةِ. أي: كأنَّه يقُولُ مَعنًى: يا عَبدِي، أيُّ طَرِيقٍ تَختارُه للسُّلوكِ، فأنا أَسُوقُك إلَيه. ولهذا فالمَسؤُوليّةُ تَقَعُ علَيك.

فمَثلًا -ولا مُشاحَّةَ في الأَمثالِ -: إذا أَخَذْتَ طِفلًا عاجِزًا ضَعِيفًا على عاتِقِك وخَيَّرتَه قائلًا: سآخُذُك حَيثُما تُرِيدُ فاختَرْ مكانًا. وطَلَبَ الطِّفلُ الصُّعُودَ على جَبَلٍ عالٍ، وأنت أَخَذْتَه إلى هناك، ولكنَّ الطِّفلَ أصابَه البَرْدُ أو سَقَط، فلا شَكَّ ستقُولُ له: أنت الَّذي طَلَبْتَ! وتُعاتِبُه، وتَزِيدُه لَطْمةَ تَأْدِيبٍ.

وهكذا -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- فهو سُبحانَه أَحكَمُ الحاكِمِين جَعَلَ إرادةَ عَبدِه الَّذي هو في مُنتَهَى الضَّعْفِ شَرْطًا عادِيًّا لإرادَتِه الكُلِّيّةِ.

حاصِلُ الكَلامِ: أيُّها الإنسانُ.. إنَّ لك إرادةً في مُنتَهَى الضَّعفِ، إلّا أنَّ يَدَها طَوِيلةٌ في السَّيِّئاتِ والتَّخرِيباتِ وقاصِرةٌ في الحَسَناتِ. هذه الإرادةُ هي الَّتي تُسَمَّى بالجُزءِ الِاختِيارِيِّ، فسَلِّمْ لِإحدَى يَدَيْ تلك الإرادةِ الدُّعاءَ، كي تَمتَدَّ وتَبلُغَ الجَنّةَ الَّتي هي ثَمَرةٌ مِن ثِمارِ سِلسِلةِ الحَسَناتِ وتَبلُغَ السَّعادةَ الأَبَدِيّةَ الَّتي هي زَهرةٌ مِن أَزاهِيرِها.. وسَلِّم لليَدِ الأُخرَى الِاستِغفارَ كي تَقصُرَ يَدُها عنِ السَّيِّئاتِ، ولا تَبلُغ ثَمَرةَ الشَّجَرةِ المَلعُونةِ زَقُّومِ جَهَنَّمَ. أي: إنَّ الدُّعاءَ والتَّوَكُّلَ يَمُدّانِ مَيَلانَ الخَيرِ بقُوّةٍ عَظِيمةٍ، كما أنَّ الِاستِغفارَ والتَّوبةَ يَكسِرانِ مَيَلانَ الشَّرِّ ويَحُدّانِ مِن تَجاوُزِه.

[المبحث الثالث: القدَر من أركان الإيمان]

المبحث الثَّالث‌

إنَّ الإيمانَ بالقَدَرِ مِن أَركانِ الإيمانِ، أي: إنَّ كلَّ شَيءٍ بتَقدِيرِ اللهِ، والدَّلائِلُ القاطِعةُ على القَدَرِ كَثيرةٌ جِدًّا لا تُعَدُّ ولا تُحصَى. ونحن سنُبيِّنُ هنا مَدَى قُوّةِ هذا الرُّكنِ الإيمانِيِّ وسَعَتِه بأُسلُوبٍ بَسِيطٍ وظاهِرٍ في مُقدِّمةٍ.

[مقدمة]

المُقدِّمة:

إنَّ كلَّ شَيءٍ قبلَ كَونِه وبعدَ كَونِه مَكتُوبٌ في كِتابٍ، يُصَرِّحُ بهذا القُرآنُ الكَرِيمُ في كَثيرٍ مِن آياتِه الكَرِيمةِ أَمثالَ: ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، وتُصَدِّقُ هذا الحُكْمَ القُرآنِيَّ الكائِناتُ قاطِبةً، الَّتي هي قُرآنُ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ الكَبِيرُ، بآياتِ النِّظامِ والمِيزانِ والِانتِظامِ والِامتِيازِ والتَّصوِيرِ والتَّزيِينِ وأَمثالِها مِنَ الآياتِ التَّكوِينيّةِ.

نعم، إنَّ كِتاباتِ كِتابِ الكائناتِ المَنظُومةِ ومَوزُوناتِ آياتِها تَشهَدُ على أنَّ كُلَّ شَيءٍ مَكتُوبٌ. أمّا الدَّليلُ على أنَّ كلَّ شَيءٍ مَكتُوبٌ ومُقَدَّرٌ قبلَ وُجُودِه وكَونِه، فهو جَمِيعُ المَبادِئِ والبُذُورِ وجَمِيعُ المَقادِيرِ والصُّوَرِ، شَواهدُ صِدْقٍ، إذ ما البُذُورُ إلّا صُنَيدِيقاتٌ لَطِيفةٌ أَبدَعَها مَعمَلُ “ك.ن”، أَوْدَع فيها القَدَرُ فُهَيرِسَ رَسمِه، وتَبْني القُدرةُ -حَسَبَ هَندَسةِ القَدَرِ- مُعجِزاتِها العَظِيمةَ على تلك البُذَيراتِ، مُستَخدِمةً الذَّرّاتِ. بمَعنَى أنَّ كلَّ ما سيَجرِي على الشَّجَرةِ مِن أُمُورٍ معَ جَمِيعِ وَقائِعِها، في حُكمِ المَكتُوبِ في بِذرَتِها، لأنَّ البُذُورَ بَسِيطةٌ ومُتَشابِهةٌ مادّةً، فلا اختِلافَ بَينَها.

ثمَّ إنَّ المِقدارَ المُنَظَّمَ لكُلِّ شَيءٍ يُبيِّنُ القَدَرَ بوُضُوحٍ: فلو دُقِّقَ النَّظَرُ إلى كائِنٍ حَيٍّ لَتَبيَّن أنَّ له شَكلًا ومِقدارًا، كأنَّه قد خَرَج مِن قالَبٍ في غايةِ الحِكمةِ والإتقانِ، بحيثُ إنَّ اتِّخاذَ ذلك المِقدارِ والشَّكلِ والصُّورةِ: إمّا أنَّه يَتَأَتَّى مِن وُجُودِ قالَبٍ مادِّيٍّ خارِقٍ في مُنتَهَى الِانثِناءاتِ والِانحِناءاتِ، أو أنَّ القُدرةَ الإلٰهِيّةَ تُفَصِّلُ تلك الصُّورةَ وذلك الشَّكلَ وتُلبِسُها إِيّاه بقالَبٍ مَعنَوِيٍّ عِلميٍّ مَوزُونٍ أَتَى مِنَ القَدَرِ. تَأَمَّلِ الآنَ في هذه الشَّجَرةِ، وهذا الحَيَوانِ: فالذَّرّاتُ الصُّمُّ العُمْيُ الجامِدةُ الَّتي لا شُعُورَ لها والمُتَشابِهُ بَعضُها ببَعضٍ، تَتَحرَّكُ في نُمُوِّ الأَشياءِ، ثمَّ تَتَوقَّفُ عندَ حُدُودٍ مُعيَّنةٍ تَوَقُّفَ عارِفٍ عالِمٍ بمَظانِّ الفَوائِدِ والثَّمَراتِ، ثمَّ تُبَدِّلُ مَواضِعَها وكأَنَّها تَستَهدِفُ غايةً كُبْرَى، أي: إنَّ الذَّرَّاتِ تَتَحرَّكُ على وَفقِ المِقدارِ المَعنَوِيِّ الآتي مِنَ القَدَرِ، وحَسَبَ الأَمرِ المَعنَوِيِّ لذَلِك المِقدارِ.

فما دامَت تَجَلِّياتُ القَدَرِ مَوجُودةً في الأَشياءِ المادِّيّةِ المَشهُودةِ إلى هذه الدَّرَجةِ، فلا بُدَّ أنَّ أَوضاعَ الأَشياءِ الحاصِلةَ والصُّوَرَ الَّتي تَلبَسُها والحَرَكاتِ الَّتي تُؤَدِّيها بمُرُورِ الزَّمانِ تابِعةٌ أيضًا لِانتِظامِ القَدَرِ.

[تجليان للقدَر: بديهي ونظري]

نعم، إنَّ في البِذرةِ تَجَلِّيَينِ للقَدَرِ:

الأوَّلُ: ” بَدِيهيٌّ” يُخبِرُ ويُشِيرُ إلى الكِتابِ المُبِينِ الَّذي هو عُنوانُ الإرادةِ والأَوامِرِ التَّكوِينيّةِ.

والآخَرُ: تَجَلٍّ نَظَرِيٌّ “مَعقُولٌ” يُخبِرُ ويَرمُزُ إلى الإمامِ المُبِينِ الَّذي هو عُنوانُ الأَمرِ والعِلمِ الإلٰهِيِّ.

فـ “القَدَرُ البَدِيهِيُّ” هو ما تَتَضمَّنُ تلك البِذرةُ مِن أَوضاعٍ وكَيفِيّاتٍ وهَيئاتٍ مادِّيّةٍ للشَّجَرةِ، والَّتي ستُشاهَدُ فيما بَعدُ.

و “القَدَرُ النَّظَرِيُّ” هو ما سيُخلَقُ مِن تلك البِذرةِ مِن أَوضاعٍ وأَشكالٍ وحَرَكاتٍ وتَسبِيحاتٍ طَوالَ حَياةِ الشَّجَرةِ، وهي الَّتي يُعَبَّـرُ عنها بسِيرةِ حَياةِ الشَّجَرةِ.. فتلك الأَوضاعُ والأَشكالُ والأَفعالُ تَتَبدَّلُ حِينًا بعدَ حِينٍ إلّا أنَّ لها مِقْدارًا قَدَرِيًّا مُنتَظِمًا، كما هو الظّاهِرِ في أَغصانِ الشَّجَرةِ وأَوراقِها؛ فلَئِن كان للقَدَرِ تَجَلٍّ كهذا في الأَشياءِ الِاعتِيادِيّةِ والبَسِيطةِ، فلا بُدَّ أنَّ هذا يُفِيدُ أنَّ الأَشياءَ كلَّها قبلَ كَونِها ووُجُودِها مَكتُوبةٌ في كِتابٍ، ويُمكِنُ أن يُفهَم ذلك بشَيءٍ مِنَ التَّدَبُّرِ.

أمّا الدَّليلُ على أنَّ سِيرةَ حَياةِ كُلِّ شَيءٍ، بعدَ وُجُودِه وكَونِه مَكتُوبٌ، فهو جَمِيعُ الثَّمَراتِ الَّتي تُخبِرُ عنِ الكِتابِ المُبِينِ والإمامِ المُبِينِ، والقُوّةُ الحافِظةُ للإنسانِ الَّتي تُشِيرُ إلى اللَّوح المَحفُوظِ وتُخبِرُ عنه؛ كلٌّ مِنها شاهِدٌ صادِقٌ، وأَمارةٌ وعَلامةٌ على ذلك. نعم، إنَّ كلَّ ثَمَرةٍ تُكتَبُ في نَواتِها -الَّتي هي في حُكْمِ قَلبِها- مُقَدَّراتُ حَياةِ الشَّجَرةِ ومُستَقبَلُها أيضًا.

والقُوّةُ الحافِظةُ للإنسانِ -الَّتي هي كحَبّةِ خَردَلٍ في الصِّغَرِ- تَكتُبُ فيها يَدُ القُدرةِ بقَلَمِ القَدَرِ سِيرةَ حَياةِ الإنسانِ وقِسمًا مِن حَوادِثِ العالَمِ الماضِيةِ كِتابةً دَقيقةً، كأنَّها عَهدٌ صَغِيرٌ ووَثيقةٌ مِن صَحِيفةِ الأَعمالِ، أَعطَتْه تلك القُدرةُ للإنسانِ ووَضَعَتْها في زاوِيةٍ مِن دِماغِه، لِيَتذَكَّرَ بها وَقْتَ المُحاسَبةِ، ولِيَطمَئِنَّ أنَّ في ثَنايا هذا الهَرْجِ والمَرْجِ والفَناءِ والزَّوالِ، مَرايا للبَقاءِ رَسَمَ فيها القَدِيرُ هُوِيّاتِ الزّائلاتِ، وأَلواحًا يَكتُبُ فيها الحَفِيظُ العَليمُ مَعانِيَ الفانياتِ.

نَحصُلُ مِمّا سَبَق: أنَّ حَياةَ النَّباتاتِ إن كانَت مُنقادةً إلى هذا الحَدِّ لِنِظامِ القَدَرِ مع أنَّها أَدنَى حَياةٍ وأَبسَطُها، فإنَّ حَياةَ الإنسانِ الَّتي هي في أَعلَى مَرتَبةٍ مِن مَراتِبِ الحَياةِ، لا بُدَّ أنَّها رُسِمَت بجَمِيعِ تَفَرُّعاتِها بمِقياسِ القَدَرِ وكُتِبَت بقَلَمِه.

نعم، كما أنَّ القَطَراتِ تُخبِرُ عنِ السَّحابِ، والرَّشَحاتِ تَدُلُّ على نَبْعِ الماءِ، والمُستَنَداتِ والوَثائِقَ تُشِيرُ إلى وُجُودِ السِّجِلِّ الكَبِيرِ؛ كذلك الثَّمَراتُ والنُّطَفُ والبُذُورُ والنُّوَى والصُّوَرُ والأَشكالُ الماثِلةُ أَمامَنا، وهي في حُكْمِ رَشَحاتِ القَدَرِ البَدِيهيِّ، أي: الِانتِظامِ المادِّيِّ في الأَحياءِ، وقَطَراتِ القَدَرِ النَّظَرِيِّ -أي: الِانتِظامِ المَعنَوِيِّ والحَياتِيِّ- وبمَثابةِ مُستَنَداتِهما ووَثائِقهما.. تَدُلُّ بالبَداهةِ على الكِتابِ المُبِينِ، وهو سِجِلُّ الإرادةِ والأَوامِرِ التَّكوِينيّةِ، وعلى اللَّوحِ المَحفُوظِ، الَّذي هو دِيوانُ العِلْمِ الإلٰهِيِّ، الإمامُ المُبِينُ.

[نتيجة: كل شيء مرسومٌ بقلم القدَر]

النَّتيجةُ: ما دُمنا نَرَى أنَّ ذَرّاتِ كلِّ كائِنٍ حَيٍّ، في أَثناءِ نُمُوِّه ونُشُوئِه تَرحَلُ إلى حُدُودٍ ونِهاياتٍ مُلْتَوِيةٍ مُنْثَنِيةٍ وتَقِفُ عِندَها، وتُغيِّـرُ طَرِيقَها لِتُثمِرَ في تلك النِّهاياتِ حِكْمةً وفائِدةً ومَصلَحةً، فبِالبَداهةِ أنَّ المِقدارَ الظَّاهِرِيَّ لِذَلك الشَّيءِ قد رُسِمَ بقَلَمِ القَدَرِ.

وهكذا، فإنَّ القَدَرَ البَدِيهيَّ المَشهُودَ يَدُلُّ على ما في الحالاتِ المَعنَوِيّةِ أَيضًا لِذلِك الكائِنِ الحَيِّ مِن حُدُودٍ مُنتَظِمةٍ ومُثمِرةٍ ونِهاياتٍ مُفِيدةٍ قد رُسِمَت بقَلَمِ القَدَرِ أيضًا؛ فالقُدرةُ مَصدَرٌ، والقَدَرُ مِسْطَرٌ، تُسَطِّرُ القُدرةُ على مِسْطَرِ القَدَرِ ذلك الكِتابَ للمَعاني. فما دُمنا نُدرِكُ إدراكًا جازِمًا أنَّ ما رُسِمَ مِن حُدُودٍ وثَمَراتٍ ونِهاياتٍ حَكِيمةٍ، إنَّما هو بقَلَمِ القَدَرِ المادِّيِّ والمَعنَوِيِّ، فلا بُدَّ أنَّ ما يُجرِيه الكائِنُ الحَيُّ طَوالَ حَياتِه مِن أَحوالٍ وأَطوارٍ قد رُسِمَ أَيضًا بقَلَمِ ذلك القَدَرِ؛ إذ إنَّ سِيرةَ حَياتِه تَجرِي على وَفْقِ نِظامٍ وانتِظامٍ، معَ تَغيِيرِها الصُّوَرَ واتِّخاذِها الأَشكالَ؛ فما دامَ قَلَمُ القَدَرِ مُهَيمِنًا على جَمِيعِ ذَوِي الحَياةِ، فلا شَكَّ أنَّ سِيرةَ حَياةِ الإنسانِ -الَّذي هو أَكمَلُ ثَمَرةٍ مِن ثَمَراتِ العالَمِ وخَلِيفةُ الأَرضِ الحامِلُ للأَمانةِ الكُبْرَى- أَكثَرُ انقِيادًا لِقانُونِ القَدَرِ مِن أَيِّ شَيءٍ آخَرَ.

[القَدَر هل يقيِّدنا ويسلب حريتَنا؟]

فإن قال: إنَّ القَدَر قد كَبَّلَنا وسَلَبَ حُرِّيَّتَنا! ألَا تَرَى أنَّ الإيمانَ بالقَدَرِ يُورِثُ ثِقَلًا على القَلبِ ويُولِّدُ ضِيقًا في الرُّوحِ، وهما المُشتاقانِ إلى الِانبِساطِ والجَوَلانِ؟

والجَوابُ: كلَّا، حاشَ لله! فكما أنَّ القَدَرَ لا يُورِثُ ضِيقًا، فإنَّه يَمنَحُ خِفّةً بلا نِهايةٍ وراحةً بلا غايةٍ وسُرُورًا ونُورًا يُحَقِّقُ الأَمنَ والأَمانَ والرَّوْحَ والرَّيحانَ؛ لأنَّ الإنسانَ إن لم يُؤمِنْ بالقَدَرِ يُضطَرُّ لِأَن يَحمِلَ ثِقَلًا بقَدْرِ الدُّنيا على كاهِلِ رُوحِه الضَّعيفِ، ضِمنَ دائرةٍ ضَيِّقةٍ وحُرِّيّةٍ جُزئيّةٍ وتَحَرُّرٍ مُؤَقَّتٍ، لأنَّ الإنسانَ له عَلاقاتٌ معَ الكائناتِ قاطِبةً، وله مَقاصِدُ ومَطالِبُ لا تَنتَهِيانِ، إلّا أنَّ قُدرَتَه وإرادتَه وحُرِّيَّتَه لا تَكفِي لإيفاءِ واحِدٍ مِن مِلْيُونٍ مِن تلك المَطالِبِ والمَقاصِدِ. ومن هنا يُفهَمُ مَدَى ما يُقاسِيه الإنسانُ مِن ثِقَلٍ مَعنَوِيٍّ في عَدَمِ الإيمانِ بالقَدَرِ، وكم هو مُخِيفٌ ومُوحِشٌ.

بَينَما الإيمانُ بالقَدَرِ يَحمِلُ الإنسانَ على أن يَضَعَ جَمِيعَ تلك الأَثقالِ في سَفِينةِ القَدَرِ، مِمّا يَمنَحُه راحةً تامّةً، إذ يَنفَتِحُ أَمامَ الرُّوحِ والقَلبِ مَيدانُ تَجوالٍ واسِعٌ، فيَسِيرانِ في طَرِيقِ كَمالاتِهما بحُرِّيّةٍ تامّةٍ؛ بَيْدَ أنَّ هذا الإيمانَ يَسلُبُ مِنَ النَّفسِ الأَمّارةِ بالسُّوءِ حُرِّيَّتَها الجُزئيّةَ ويَكسِرُ فِرعَونيَّـتَها ويُحَطِّمُ رُبُوبيَّـتَها ويَحُدُّ مِن حَرَكاتِها السّائبةِ.

[الإيمان بالقدر راحة وسعادة]

ألَا إنَّ للإيمانِ بالقَدَرِ لَذّةً ما بَعدَها لَذّةٌ، وسَعادةٌ ما بَعدَها سَعادةٌ. وحيثُ لا نَستَطِيعُ تَعرِيفَ تلك اللَّذّةِ والسَّعادةِ، نُشِيرُ إلَيهِما بالمِثالِ الآتي:

رَجُلانِ يُسافِرانِ معًا إلى عاصِمةِ سُلطانٍ عَظيمٍ، ويَدخُلانِ إلى قَصرِ السُّلطانِ العامِرِ بالعَجائِبِ والغَرائِبِ. أَحَدُهما لا يَعرِفُ السُّلطانَ ويُرِيدُ أن يَسكُنَ في القَصرِ خِلسةً ويُمضِيَ حَياتَه بغَصْبِ الأَموالِ، فيَعمَلُ في حَدِيقةِ القَصرِ؛ ولكنَّ إدارةَ تلك الحَدِيقةِ وتَدبِيرَها وتَنظِيمَ وارِداتِها وتَشغِيلَ مَكائِنِها وإعطاءَ أَرزاقِ حَيَواناتِها الغَرِيبةِ وأَمثالَها مِن أُمُورِها المُرهِقةِ دَفَعَتْه إلى الِاضطِرابِ الدّائِمِ والقَلَقِ المُستَمِرِّ، حتَّى أَصبَحَت تلك الحَدِيقةُ الزّاهِيةُ الشَّبِيهةُ بالجَنّةِ جَحِيمًا لا يُطاقُ، إذ يَتَألَّمُ لكُلِّ شَيءٍ يَعجِزُ عن إدارتِه، فيَقضِي وَقتَه بالآهاتِ والحَسَراتِ. وأَخِيرًا يُلقَى به في السِّجنِ عِقابًا وتَأْدِيبًا له على سُوءِ تَصَرُّفِه وأَدَبِه.

أمّا الشَّخصُ الثّاني فإنَّه يَعرِفُ السُّلطانَ، ويَعُدُّ نَفسَه ضَيفًا عليه، ويَعتَقِدُ أنَّ جَمِيعَ الأَعمالِ في القَصرِ والحَدِيقةِ تُدارُ بسُهُولةٍ تامّةٍ، بنِظامٍ وقانُونٍ وعلى وَفْقِ بَرنامَجٍ ومُخَطَّطٍ؛ فيُلقِي الصُّعُوباتِ والتَّكاليفَ إلى قانُونِ السُّلطانِ، مُستَفِيدًا بانشِراحٍ تامٍّ وصَفاءٍ كامِلٍ مِن مُتَعِ تلك الحَدِيقةِ الزّاهِرةِ كالجَنّةِ؛ ويَرَى كلَّ شَيءٍ جَمِيلًا حَقًّا، استِنادًا إلى عَطْفِ السُّلطانِ ورَحمَتِه، واعتِمادًا على جَمالِ قَوانينِه الإدارِيّةِ.. فيَقضِي حَياتَه في لَذّةٍ كامِلةٍ وسَعادةٍ تامّةٍ.

فافْهَمْ مِن هذا سِرَّ: “مَن آمَنَ بالقَدَرِ، أَمِنَ مِنَ الكَدَرِ”.‌

[المبحث الرابع]

المبحث الرابع‌

[هل صحيحٌ أن كل ما جاء به القدَر جميل؟]

إذا قُلتَ: لقد أَثبَتَّ في المَبحَثِ الأَوَّلِ أنَّ كلَّ ما للقَدَرِ جَمِيلٌ وخَيرٌ، بل حتَّى الشَّرُّ الآتي مِنه خَيرٌ، والقُبْحُ الوارِدُ مِنه جَمِيلٌ؛ بَينَما المَصائِبُ والبَلايا الَّتي تَنزِلُ في دارِ الدُّنيا هذه تَجرَحُ هذا الحُكْمَ وتَقْدَحُ بهذا الإِثباتِ.

الجَوابُ: يا نَفسِي، ويا صاحِبِي.. يا مَن تَتَألَّمانِ كَثِيرًا لِشِدّةِ ما تَحمِلانِ مِن شَفَقةٍ ورَأفةٍ، اعلَما أنَّ الوُجُودَ خَيرٌ مَحضٌ والعَدَمَ شَرٌّ مَحضٌ؛ والدَّليلُ هو رُجُوعُ جَمِيعِ المَحاسِنِ والكَمالاتِ والفَضائِلِ إلى الوُجُودِ، وكَونُ العَدَمِ أَساسَ جَمِيعِ المَعاصِي والمَصائِبِ والنَّقائِصِ.

ولَمّا كان العَدَمُ شَرًّا مَحضًا، فالحالاتُ الَّتي تَنجَرُّ إلى العَدَمِ أو يُشَمُّ مِنها العَدَمُ تَتَضمَّنُ الشَّرَّ أَيضًا، لِذا فالحَياةُ الَّتي هي أَسطَعُ نُورٍ للوُجُودِ، تَتَقوَّى بَتَقَلُّبِها ضِمنَ أَحوالٍ مُختَلِفةٍ، وتَتَصفَّى بدُخُولِها أَوضاعًا مُتَبايِنةً، وتُثمِرُ ثَمَراتٍ مَطلُوبةً باتِّخاذِها كَيفِيّاتٍ مُتَعدِّدةٍ، وتُبيِّنُ نُقُوشَ أَسماءِ واهِبِ الحَياةِ بَيانًا لَطِيفًا وجَمِيلًا بتَحَوُّلِها في أَطوارٍ مُتَنوِّعةٍ.

وبِناءً على هذه الحَقيقةِ تُعرَضُ حالاتٌ على الأَحياءِ في صُوَرِ الآلامِ والمَصائِبِ والمَشَقّاتِ والبَلِيّاتِ، فتَتَجدَّدُ بتلك الحالاتِ أَنوارُ الوُجُودِ في حَياتِهم، وتَتَباعَدُ عنها ظُلُماتُ العَدَمِ، وإذا بحَياتِهم تَتَطهَّرُ وتَتَصفَّى، ذلك لأنَّ التَّوَقُّفَ والسُّكُونَ والسُّكُوتَ والعَطالةَ والدَّعةَ والرَّتابةَ، كلٌّ مِنها عَدَمٌ في الكَيفِيّاتِ والأَحوالِ، حتَّى إنَّ أَعظَمَ لَذّةٍ مِنَ اللَّذائِذِ تَتَناقَصُ بل تَزُولُ في الحالاتِ الرَّتيبةِ.

حاصِلُ الكَلامِ: لَمّا كانَتِ الحَياةُ تُبيِّنُ نُقُوشَ الأَسماءِ الحُسنَى، فكُلُّ ما يَنزِلُ بالحَياةِ إذًا جَمِيلٌ وحَسَنٌ.

فمَثلًا: إنَّ صانِعًا ثَرِيًّا ماهِرًا يُكَلِّفُ رَجُلًا فَقِيرًا لِقاءَ أُجرةٍ مُعيَّنةٍ لِيَقُومَ له في ظَرفِ ساعةٍ بدَورِ النَّمُوذَجِ (مُودِيل)، لِأَجلِ إظهارِ آثارِ صَنْعَتِه الجَمِيلةِ وإبرازِ مَدَى ثَرَواتِه القَيِّمةِ، فيُلبِسُه ما نَسَجَه مِن حُلّةٍ قَشِيبةٍ في غايةِ الجَمالِ والإبداعِ، ويُجرِي علَيه أَعمالًا ويُظهِرُ أَوضاعًا وأَشكالًا شَتَّى لإظهارِ خَوارِقِ صَنائِعِه وبَدائِعِ مَهاراتِه، فيَقُصُّ ويُبَدِّلُ ويُطَوِّلُ ويُقَصِّرُ، وهكذا.

تُرَى أَيَحِقُّ لِذَلِك الفَقيرِ الأَجيرِ أن يقُولَ لذلك الصّانِعِ الماهِرِ: “إنَّك تُتعِبُني وتُرهِقُني بطَلَبِك مِنِّي الِانحِناءَ مَرّةً والِاعتِدالَ أُخرَى.. وإنَّك تُشَوِّهُ بقَصِّك وتَقصِيرِك هذا القَمِيصَ الَّذي يُجَمِّلُني ويُزَيِّنُني؟” تُرَى أَيَقدِرُ أن يقُولَ له: “لقد ظَلَمْتَ وما أَنصَفْتَ؟!”.

وكذلك الأَمرُ في الصّانِعِ الجَليلِ الفاطِرِ الجَمِيلِ -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- إذ يُبَدِّلُ قَمِيصَ الوُجُودِ الَّذي أَلبَسَه ذَوِي الحَياةِ، ويُقَلِّبُه في حالاتٍ كَثيرةٍ، ذلك القَمِيصَ المُرَصَّعَ باللَّطائِفِ والحَواسِّ كالعَينِ والأُذُنِ والعَقلِ والقَلبِ وأَمثالِها، يُبَدِّلُه ويُقَلِّبُه إظهارًا لِنُقُوشِ أَسمائِه الحُسنَى.

ففي الأَوضاعِ الَّتي تَتَّسِمُ بالآلامِ والمَصائِبِ أَنوارُ جَمالٍ لَطِيفٍ تَشِفُّ عن أَشِعّةِ رَحمةٍ ضِمنَ لَمَعاتِ الحِكمةِ الإلٰهِيّةِ، إظهارًا لِأَحكامِ بَعضِ الأَسماءِ الحُسنَى.

[خاتمة في خمس كلمات مع النفس الأمّارة]

الخاتمة‌

هذه فِقْراتٌ خَمسٌ أَسكَتَتِ النَّفسَ الأمّارةَ بالسُّوءِ لِسَعيدٍ القَدِيمِ، تلك النَّفسَ الجاهِلةَ المُتَفاخِرةَ المَغرُورةَ المُرائيةَ المُعجَبةَ بنَفسِها.‌

[الفقرة الأولى: أسنِد كل شيء إلى الواحد الأحد]

الفِقرةُ الأولى: ما دامَتِ الأَشياءُ مَوجُودةً ومُتقَنةَ الصُّنعِ، فلا بُدَّ أنَّ صانِعًا ماهِرًا قد صَنَعَها، فلَقد أَثبَتْنا في “الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِين” إثباتًا قاطِعًا أنَّه إن لم تُسنَد كلُّ الأَشياءِ إلى الواحِدِ الأَحَدِ، يَتَعسَّرُ كلُّ شَيءٍ كتَعَسُّرِ الأَشياءِ كُلِّها، وإن أُسنِدَ كلُّ شَيءٍ إلى الواحِدِ الأَحَدِ، تَسهُلُ الأَشياءُ كُلُّها كسُهُولةِ شَيءٍ واحِدٍ.

ولَمّا كان الَّذي خَلَق الأَرضَ والسَّماواتِ هو الواحِدَ الأَحَدَ، فلا بُدَّ أنَّ ذلك البَدِيعَ الحَكِيمَ لا يُعطِي ثَمَراتِ الأَرضِ والسَّماواتِ ونَتائِجَهما وغاياتِهما -وهم ذَوُو الحَياةِ- إلى غَيرِه فيُفسِدَ الأُمُورَ، ولا يُمكِنُ أن يُسَلِّمَها إلى أَيدِي الآخَرِين فيَعبَثَ بجَمِيعِ أَعمالِه الحَكِيمةِ، ولا يُمكِنُ أن يُبِيدَها.. ولا يُسَلِّمُ أَيضًا شُكْرَها وعِباداتِها إلى غيرِه.

[الفقرة الثانية: أنت مثل ساق العنب]

الفِقرةُ الثّانية: يا نَفسِي المَغرُورةَ.. إنَّكِ تُشبِهِين ساقَ العِنَبِ، لا تَغتَرِّي ولا تَفتَخِرِي، فتلك السّاقُ لم تُعَلِّقِ العَناقِيدَ على نَفسِها، بل عَلَّقَها علَيها غيرُها.

[الفقرة الثالثة: لا تغترّ]

الفِقرةُ الثّالثة: يا نَفسِي المُرائيةَ.. لا تَغتَـرِّي قائِلةً: “إنَّني خَدَمتُ الدِّينَ”، فإنَّ الحَدِيثَ الشَّرِيفَ صَرِيحٌ بـ “إنَّ اللهَ لَيُؤيِّدُ هذا الدِّينَ بالرَّجُلِ الفاجِرِ”، فعَلَيكِ أن تَعُدِّي نَفسَكِ ذلك الرَّجُلَ الفاجِرَ، لأنَّكِ غيرُ مُزَكّاةٍ؛ واعلَمِي أنَّ خِدمَتَكِ للدِّينِ وعِباداتِكِ ما هي إلّا شُكرُ ما أَنعَمَ اللهُ علَيكِ، وهي أَداءٌ لِوَظِيفةِ الفِطرةِ وفَرِيضةِ الخَلْقِ ونَتيجةِ الصَّنعةِ الإلٰهِيّةِ.. اعلَمِي هذا وأَنقِذِي نَفسَكِ مِنَ العُجْبِ والرِّياءِ.

[الفقرة الرابعة: معرفة الله أعظم غنيمة]

الفِقرةُ الرَّابعة: إن كُنتِ تَرُومِين الحُصُولَ على عِلمِ الحَقيقةِ، والحِكمةِ الحَقّةِ، فاظْفَرِي بمَعرِفةِ اللهِ؛ إذ حَقائقُ المَوجُوداتِ كلُّها إنَّما هي أَشِعّةُ اسمِ اللهِ الحَقِّ، ومَظاهِرُ أَسمائِه الحُسنَى، وتَجَلِّياتُ صِفاتِه الجَليلةِ؛ واعلَمِي أنَّ حَقِيقةَ كلِّ شَيءٍ مادِّيًّا كان أو مَعنَوِيًّا وجَوهَرِيًّا أو عَرَضِيًّا، وحَقِيقةَ الإنسانِ نَفسِه إنَّما تَستَنِدُ إلى نُورٍ مِن أَنوارِ أَسمائِه تَعالَى وتَرتَكِزُ على حَقِيقَتِه. وإلّا فهي صُورةٌ تافِهةٌ لا حَقِيقةَ لها. ولقد ذَكَرْنا في خِتامِ “الكَلِمةِ العِشرِين” شَيئًا مِن هذا البَحْثِ.‌

يا نَفسِي.. إن كُنتِ مُشتاقةً إلى هذه الدُّنيا، وتَفِرِّين مِنَ المَوتِ، فاعلَمِي يَقِينًا أنَّ ما تَظُنِّينَه حَياةً ما هو إلّا الدَّقيقةُ الَّتي أنتِ فيها، فما قَبلَ تلك الدَّقيقةِ مِن زَمانٍ وما فيه مِن أَشياءَ دُنيَوِيّةٍ كُلُّه مَيِّتٌ، وما بعدَ تلك الدَّقيقةِ مِن زَمانٍ وما فيه كُلِّه عَدَمٌ، لا شَيءٌ؛ بمَعنَى أنَّ ما تَفتَخِرِين به وتَغتَـرِّين به مِن حَياةٍ فانِيةٍ ليس إلَّا دَقيقةً واحِدةً، حتَّى إنَّ قِسْمًا مِن أَهلِ التَّدقيقِ قالُوا: إنَّ الحَياةَ عاشِرةُ عَشرٍ مِنَ الدَّقيقةِ، بل آنٌ سَيَّالٌ.. مِن هنا حَكَم قِسمٌ مِن أَهلِ الوِلايةِ والصَّلاحِ بِعَدَمِيَّةِ الدُّنيا مِن حَيثُ إنَّها دُنيا.

فما دامَ الأَمرُ هكذا، فدَعِي الحَياةَ المادِّيّةَ النَّفسِيّةَ، واصعَدِي إلى دَرَجاتِ حَياةِ القَلبِ والرُّوحِ والسِّرِّ، وانظُرِي، ما أَوسَعَ دائِرةَ حَياتِها! فالماضِي والمُستَقبَلُ المَيِّتانِ بالنِّسبةِ إليكِ حَيّانِ بالنِّسبةِ لها ومَوجُودانِ.

فيا نَفسِي.. ما دامَ الأَمرُ هكذا، ابكِي كما يَبكِي قَلبِي، واستَغِيثي وقُولي:

أنا فانٍ.. مَن كان فانيًا لا أُريد

أنا عاجِز.. مَن كان عاجزًا لا أُريد..

سلَّمتُ رُوحي للرَّحمٰن، سِواه لا أُريد..

بل أُريد، ولكِن حَبِيبًا باقيًا أُريد..

أنا ذَرّة، ولكِنْ شَمسًا سَرْمدًا أُريد.

أنا لا شيء، ومِن غيرِ شيء، ولكِنِ المَوجُوداتِ كلَّها أُريد.‌

[الفقرة الخامسة: مرتبة من مراتب التكبير]

الفِقرةُ الخامسة: هذه الفِقرةُ خَطَرَت باللُّغةِ العَرَبيّةِ وكُتِبَت كما وَرَدَتْ. وهي إشارةٌ إلى مَرتَبةٍ مِنَ المَراتِبِ الثَّلاثِ والثَّلاثين في ذِكرِ “اللهُ أَكبَرُ:”

اللهَ أَكبَرُ: إذ هو القَدِيرُ العَلِيمُ الحَكِيمُ الكَرِيمُ الرَّحِيمُ الجَمِيلُ النَّقّاشُ الأَزَليُّ الَّذي ما حَقِيقةُ هذه الكائناتِ كُلًّا وجُزْءًا وصَحائِفَ وطَبَقاتٍ، وما حَقائِقُ هذه المَوجُوداتِ كُلِّيًّا وجُزئيًّا ووُجُودًا وبَقاءً إلَّا خُطُوطُ قَلَمِ قَضائِه وقَدَرِه وتَنظِيمِه وتَقدِيرِه بعِلمٍ وحِكمةٍ، ونُقُوشُ بِرْكارِ عِلْمِه وحِكمَتِه وتَصوِيرِه وتَدبِيرِه بصُنعٍ وعِنايةٍ، وتَزيِيناتُ يَدِ بَيضاءِ صُنعِه وعِنايَتِه وتَزيِينِه وتَنوِيرِه بلُطفٍ وكَرَمٍ، وأَزاهِيرُ لَطائِفِ لُطفِه وكَرَمِه وتَوَدُّدِه وتَعَرُّفِه برَحمةٍ ونِعمةٍ، وثَمَراتُ فَيّاضِ رَحمَتِه ونِعمَتِه وتَرَحُّمِه وتَحَنُّنِه بجَمالٍ وكَمالٍ، ولَمَعاتُ وتَجَلِّياتُ جَمالِه وكَمالِه بشَهاداتِ تَفانِيةِ المَرايا وسَيّاليّةِ المَظاهِرِ معَ بَقاءِ الجَمالِ المُجَرَّدِ السَّرمَدِيِّ، الدّائمِ التَّجَلِّي والظُّهُورِ، على مَرِّ الفُصُولِ والعُصُورِ والدُّهُورِ، ودائمِ الإنعامِ على مَرِّ الأَنامِ والأَيَّامِ والأَعوامِ.

نعم، فالأَثَرُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ ذا عَقلٍ على الفِعلِ المُكَمَّلِ، ثمَّ الفِعلُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ ذا فَهمٍ على الِاسمِ المُكَمَّلِ، ثمَّ الِاسمُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ بالبَداهةِ على الوَصْفِ المُكَمَّلِ، ثمَّ الوَصْفُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ بالضَّرُورةِ على الشَّأنِ المُكَمَّلِ، ثمَّ الشَّأنُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ باليَقِينِ على كَمالِ الذّاتِ بما يَلِيقُ بالذّاتِ وهو الحَقُّ اليَقِينُ.

نعم، تَفاني المِرآةِ، زَوالُ المَوجُوداتِ، معَ التَّجَلِّي الدّائِمِ، معَ الفَيضِ المُلازِمِ.. مِن أَظْهَرِ الظَّواهِرِ أنَّ الجَمالَ الظّاهِرَ، ليس مُلكَ المَظاهِرِ.. مِن أَفصَحِ تِبْيانٍ.. مِن أَوضَحِ بُرهانٍ للجَمالِ المُجَرَّدِ للإحسانِ المُجَدَّدِ للواجِبِ الوُجُودِ.. للباقي الوَدُودِ..

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى سَيّدِنا مُحَمَّدٍ مِنَ الأزَلِ إلَى الأبَدِ عَدَدَ مَا فِي عِلمِ اللهِ، وعَلَى آلهِ وصَحبِهِ وَسَلِّم.

    

[ذيل: أقصر الطرق للوصول إلى الله تعالى]

ذيل‌

هذا الذَّيلُ القصير جدًّا له أهمِّيّةٌ عظيمة ومنافعُ للجميع‌

لِلوُصُولِ إلى اللهِ سُبحانَه وتَعالَى طَرائقُ كَثيرةٌ، وسُبُلٌ عَدِيدةٌ؛ ومَورِدُ جَمِيعِ الطُّرُقِ الحَقّةِ ومَنهَلُ السُّبُلِ الصّائبةِ هو القُرآنُ الكَرِيمُ. إلّا أنَّ بعضَ هذه الطُّرُقِ أَقرَبُ مِن بعضٍ وأَسلَمُ وأَعَمُّ.

[أركان الطريق الأربعة]

وقدِ استَفَدتُ مِن فَيضِ القُرآنِ الكَرِيمِ -بالرَّغم مِن فَهمِي القاصِرِ- طَرِيقًا قَصِيرًا وسَبِيلًا سَوِيًّا هو: طَرِيقُ العَجْزِ، الفَقْرِ، الشَّفَقةِ، التَّفَكُّرِ.

نعم، إنَّ العَجزَ كالعِشقِ طَرِيقٌ مُوصِلٌ إلى اللهِ، بل أَقرَبُ وأَسلَمُ، إذ هو يُوصِلُ إلى المَحبُوبيّةِ بطَرِيقِ العُبُودِيّةِ.

والفَقرُ مِثلُه يُوصِلُ إلى اسمِ اللهِ “الرَّحمٰنِ”.

وكذلك الشَّفَقةُ كالعِشقِ مُوصِلٌ إلى اللهِ إلّا أنَّه أَنفَذُ مِنه في السَّيرِ وأَوسَعُ مِنه مَدًى، إذ هو يُوصِلُ إلى اسمِ اللهِ “الرَّحِيمِ”.

والتَّفكُّرُ أيضًا كالعِشقِ إلّا أنَّه أَغنَى مِنه وأَسطَعُ نُورًا وأَرحَبُ سَبِيلًا، إذ هو يُوصِلُ السّالِكَ إلى اسمِ اللهِ “الحَكِيمِ”.

وهذا الطَّرِيقُ يَختَلِفُ عمّا سَلَكَه أَهلُ السُّلُوكِ في طُرُقِ الخَفاءِ ذاتِ الخُطُواتِ العَشرِ -كاللَّطائفِ العَشْرِ- وفي طُرُقِ الجَهرِ ذاتِ الخُطُواتِ السَّبعِ -حَسَبَ النُّفُوسِ السَّبعةِ- فهذا الطَّرِيقُ عِبارةٌ عن أَربَعِ خُطُواتٍ فحَسْبُ، وهو حَقِيقةٌ شَرعِيّةٌ أَكثَرُ مِمّا هو طَرِيقةٌ صُوفيّةٌ.

ولا يَذهَبَنَّ بكُم سُوءُ الفَهْمِ إلى الخَطَأِ، فالمَقصُودُ بالعَجْزِ والفَقْرِ والتَّقصِير إنَّما هو إظهارُ ذلك كُلِّه أَمامَ اللهِ سُبحانَه، وليس إِظهارَه أَمامَ النَّاسِ.

أمّا أَورادُ هذا الطَّرِيقِ القَصِيرِ وأَذكارُه فتَنحَصِرُ في اتِّباعِ السُّنّةِ النَّبَوِيّةِ، والعَمَلِ بالفَرائضِ، ولا سِيَّما إقامةِ الصَّلاةِ باعتِدالِ الأَركانِ، والعَمَلِ بالأَذكارِ عَقِبَها، وتَركِ الكَبائرِ.

[منابع الطريق إلى الله تعالى]

أمّا مَنابعُ هذه الخُطُواتِ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ فهي:

﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ تُشِيرُ إلى الخُطوةِ الأُولَى…

﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ تُشِيرُ إلى الخُطوةِ الثّانية…

﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ تُشِيرُ إلى الخُطوةِ الثّالثة…

﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ تُشِيرُ إلى الخُطوةِ الرّابِعة.

وإيضاح هذه الخُطُواتِ الأربَعِ بإيجازٍ شَديدٍ كالآتي:‌

[فلا تزكوا أنفسكم]

الخُطوةُ الأولَى: كما تُشِيرُ إلَيها الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ وهي عَدَمُ تَزكِيةِ النَّفسِ، ذلك لأنَّ الإنسانَ حَسَبَ جِبِلَّتِه، وبمُقتَضَى فِطرَتِه، مُحِبٌّ لِنَفسِه بالذّاتِ، بل لا يُحِبُّ إلّا ذاتَه في المُقدِّمة؛ ويُضَحِّي بكُلِّ شَيءٍ مِن أَجْلِ نَفسِه، ويَمدَحُ نَفسَه مَدْحًا لا يَلِيقُ إلّا بالمَعبُودِ وَحدَه، ويُنزِّهُ شَخْصَه ويُبَرِّئُ ساحةَ نَفسِه، بل لا يَقبَلُ التَّقصِيرَ لِنَفسِه أَصلًا، ويُدافِعُ عنها دِفاعًا قَوِيًّا بما يُشبِهُ العِبادةَ، حتَّى كأَنَّه يَصرِفُ ما أَودَعَه اللهُ فيه مِن أَجهِزةٍ لِحَمْدِه سُبحانَه وتَقدِيسِه إلى نَفسِه، فيُصِيبُه وَصْفُ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾، فيُعجَبُ بنَفسِه ويَعتَدُّ بها.. فلا بُدَّ إذًا مِن تَزكِيَتِها، فتَزكِيَتُها في هذه الخَطوةِ وتَطهِيرُها يَكُونُ بعَدَمِ تَزكِيَتِها.

[ولا تكونوا كالذين نسوا الله..]

الخُطوةُ الثّانية: كما تُلَقِّنُه الآيةُ الكَرِيمةُ مِن دَرسِ ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾، وذلك أنَّ الإنسانَ يَنسَى نَفسَه ويَغفُلُ عنها، فإذا ما فَكَّر في المَوتِ صَرَفَه إلى غَيرِه، وإذا ما رَأَى الفَناءَ والزَّوالَ دَفَعَه إلى الآخَرِين، وكأنَّه لا يَعنِيه بشَيءٍ، إذ مُقتَضَى النَّفسِ الأَمّارةِ أنَّها تَذكُرُ ذاتَها في مَقامِ أَخْذِ الأُجرةِ والحُظُوظِ وتَلتَزِمُ بها بشِدّةٍ، بَينَما تَتَناسَى ذاتَها في مَقامِ الخِدْمةِ والعَمَلِ والتَّـكليفِ؛ فتَزكِيَتُها وتَطهِيرُها وتَربِيَتُها في هذه الخُطوةِ هي العَمَلُ بعَكسِ هذه الحالةِ، أي: عَدَمُ النِّسيانِ في عَينِ النِّسيانِ، أي: نِسيانُ النَّفسِ في الحُظُوظِ والأُجرةِ، والتَّفكُّرُ فيها عندَ الخِدْماتِ والمَوتِ.

[ما أصابك من نعمة فمن الله..]

والخُطوةُ الثالثة: هي ما تُرشِدُ إليه الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ وذلك أنَّ ما تَقتَضِيه النَّفسُ دائمًا أنَّها تَنسُبُ الخَيرَ إلى ذاتِها، مِمّا يَسُوقُها هذا إلى الفَخْرِ والعُجْبِ؛ فعلى المَرءِ في هذه الخُطوةِ ألّا يَرَى مِن نَفسِه إلّا القُصُورَ والنَّقصَ والعَجْزَ والفَقرَ، وأن يَرَى كلَّ مَحاسِنِه وكَمالاتِه إحسانًا مِن فاطِرِه الجَليلِ، ويَتَقبَّلَها نِعَمًا مِنه سُبحانَه، فيَشكُرَ عِندَئذٍ بَدَلَ الفَخْرِ، ويَحمَدَ بَدَلَ المَدحِ والمُباهاةِ.. فتَزكِيةُ النَّفسِ في هذه المَرتَبةِ هي في سِرِّ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾، وهي أنْ تَعلَمَ بأنَّ كَمالَها في عَدَمِ كَمالِها، وقُدرَتَها في عَجْزِها، وغِناها في فَقْرِها، (أي: كَمالُ النَّفسِ في مَعرِفةِ عَدَمِ كَمالِها، وقُدرَتُها في عَجْزِها أَمامَ اللهِ، وغِناها في فَقْرِها إلَيه).

[كل شيء هالك إلا وجهه]

الخُطوةُ الرّابعة: هي ما تُعَلِّمُه الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ﴾، ذلك لأَنَّ النَّفسَ تَتَوهَّمُ نَفسَها حُرّةً مُستَقِلّةً بذاتِها، لِذا تَدَّعِي نَوعًا مِنَ الرُّبُوبيّةِ، وتُضمِرُ عِصيانًا حِيالَ مَعبُودِها الحَقِّ؛ فبإدراكِ الحَقيقةِ الآتيةِ يَنجُو الإنسانُ مِن ذلك وهي أنَّ كلَّ شَيءٍ بحَدِّ ذاتِه، وبمَعناه الِاسمِيِّ: زائِلٌ، مَفقُودٌ، حادِثٌ، مَعدُومٌ، إلّا أنَّه في مَعناه الحَرفِيِّ، وبجِهةِ قِيامِه بدَورِ المِرآةِ العاكِسةِ لِأَسماءِ الصّانِعِ الجَليلِ، وباعتِبارِ مَهامِّه ووَظائِفِه: شاهِدٌ، مَشهُودٌ، واجِدٌ، مَوجُودٌ.

فتَزكِيَتُها في هذه الخُطوةِ هي مَعرِفةُ أنَّ عَدَمَها في وُجُودِها ووُجُودَها في عَدَمِها، أي: إذا رَأَت ذاتَها وأَعطَت لِوُجُودِها وُجُودًا، فإنَّها تَغرَقُ في ظُلُماتِ عَدَمٍ يَسَعُ الكائِناتِ كُلَّها؛ يعني إذا غَفَلَتْ عن مُوجِدِها الحَقيقيِّ وهو اللهُ، مُغتَرّةً بوُجُودِها الشَّخصِيِّ، فإنَّها تَجِدُ نَفسَها وَحِيدةً غَرِيقةً في ظُلُماتِ الفِراقِ والعَدَمِ غيرِ المُتَناهِيةِ، كأنَّها اليَراعةُ في ضِيائِها الفَردِيِّ الباهِتِ في ظُلُماتِ اللَّيلِ البَهِيمِ؛ ولكِن عِندَما تَتْرُكُ الأَنانيّةَ والغُرُورَ وتَرَى نَفسَها حَقًّا لا شَيءٌ بالذّاتِ، وإنَّما هي مِرآةٌ تَعكِسُ تَجَلِّياتِ مُوجِدِها الحَقِيقيِّ، فتَظفَرُ بوُجُودٍ غيرِ مُتَناهٍ وتَربَحُ وُجُودَ جَمِيعِ المَخلُوقاتِ.

نعم، مَن يَجِدُ اللهَ فقد وَجَدَ كُلَّ شَيءٍ، فما المَوجُوداتُ جَمِيعُها إلَّا تَجَلِّياتُ أَسمائِه الحُسنَى جَلَّ جَلالُه.

    

[خاتمة في مزايا هذا الطريق]

‌خاتمة‌

إنَّ هذا الطَّرِيقَ الَّذي يَتَـكوَّنُ مِن أَربَعِ خُطُواتٍ -وهي العَجزُ والفَقرُ والشَّفقةُ والتَّفكُّرُ- سبَقَ إيضاحُه في “الكَلِماتِ السِّتِّ والعِشرِين” السّابِقةِ مِن كِتابِ “الكَلِماتِ” الَّذي يَبحَثُ عن عِلمِ الحَقيقةِ، حَقيقةِ الشَّرِيعةِ، حِكمةِ القُرآنِ الكَرِيمِ.

إلّا أنَّنا نُشِيرُ هنا إشارةً قَصِيرةً إلى بِضْعِ نِقاطٍ وهي: أنَّ هذا الطَّرِيقَ هو أَقصَرُ وأَقرَبُ مِن غَيرِه، لأنَّه عِبارةٌ عن أَربَعِ خُطُواتٍ؛ فالعَجزُ إذا ما نَفَض يَدَه مِنَ النَّفسِ يُسَلِّمُها مُباشَرةً إلى “القَدِيرِ” ذِي الجَلالِ، بَينَما إذا نَفَض العِشقُ يَدَه مِنَ النَّفسِ -في طَرِيقِ العِشقِ الَّذي هو أَنفَذُ الطُّرُقِ المُوصِلةِ إلى اللهِ- فإنَّه يَتَشبَّثُ بالمَعشُوقِ المَجازِيِّ، وعِندَما يَرَى زَوالَه يَصِلُ إلى المَحبُوبِ الحَقِيقيِّ.

ثمَّ إنَّ هذا الطَّرِيقَ أَسلَمُ مِن غَيرِه، فليس للنَّفسِ فيه شَطَحاتٌ أوِ ادِّعاءاتٌ فوقَ طاقَتِها، إذِ المَرءُ لا يَجِدُ في نَفسِه غيرَ العَجزِ والفَقرِ والتَّقصِيرِ فيَتَجاوَزَ حَدَّه.

ثمَّ إنَّ هذا الطَّرِيقَ طَرِيقٌ عامٌّ وجادّةٌ كُبْرَى، لأنَّه لا يُضطَرُّ إلى إعدامِ الكائِناتِ ولا إلى سَجْنِها، حيثُ إنَّ أَهلَ “وَحْدةِ الوُجُودِ” تَوَهَّمُوا الكائناتِ عَدَمًا، فقالُوا: “لا مَوجُودَ إلّا هو” لِأَجلِ الوُصُولِ إلى الِاطمِئنانِ والحُضُورِ القَلبيِّ؛ وكذا أَهلُ “وَحْدةِ الشُّهُودِ”، حيثُ سَجَنُوا الكائناتِ في سِجنِ النِّسيانِ، فقالوا: “لا مَشهُودَ إلّا هو” للوُصُولِ إلى الِاطمِئنانِ القَلبِيِّ.. بَينَما القُرآنُ الكَرِيمُ يُعفِي الكائِناتِ مِنَ العَدَمِ بكُلِّ وُضُوحٍ، ويُطلِقُ سَراحَها مِنَ السِّجنِ.

فهذا الطَّرِيقُ على نَهجِ القُرآنِ يَنظُرُ إلى الكائناتِ على أنَّها مُسَخَّرةٌ لِفاطِرِها الجَليلِ وخادِمةٌ في سَبِيلِه، وأنَّها مَظاهِرُ لِتَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى كأنَّها مَرايا تَعكِسُ تلك التَّجَلِّياتِ. أي: إنَّه يَستَخدِمُها بالمَعنَى الحَرفِيِّ ويَعزِلُها عنِ المَعنَى الِاسمِيِّ مِن أن تكُونَ خادِمةً ومُسَخَّرةً بنَفسِها. وعِندَها يَنجُو المَرءُ مِنَ الغَفلةِ، ويَبلُغُ الحُضُورَ الدّائِمَ على نَهْجِ القُرآنِ الكَرِيمِ، فيَجِدُ إلى الحَقِّ سُبحانَه طَرِيقًا مِن كلِّ شَيءٍ.

وزُبدةُ الكَلامِ: إنَّ هذا الطَّرِيقَ لا يَنظُرُ إلى المَوجُوداتِ بالمَعنَى الِاسمِيِّ، أي: لا يَنظُرُ إلَيها أنَّها مُسَخَّرةٌ لِنَفسِها ولِذاتِها، بل يَعزِلُها مِن هذا ويُقلِّدُها وَظِيفةَ أنَّها مُسَخَّرةٌ للهِ سُبحانَه.

    

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى