الكلمة الخامسة والعشرون: المعجزات القرآنية.
[هذه الكلمة مبحث جليل مفصَّل يبيِّن وجوهَ إعجاز القرآن الكريم، كما تُعرِّف بالقرآن تعريفًا غير مسبوق، وتبيِّن شرفَ حكمته إزاء علوم الفلسفة]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
الكلمة الخامسة والعشرون
المعجزات القرآنية
أَرَى مِنَ الفُضُولِ التَّحَرِّيَ عن بُرهانٍ وفي اليَدِ مُعجِزةٌ خالِدةٌ: القُرآنُ.
أتُراني أَتَضايقُ مِن إلزامِ الجاحِدِين، وفي اليَدِ بُرهانُ الحَقيقةِ: القرآنُ!
[تنبيه بين يدَي هذه الرسالة]
تنبيه: لقد عَزَمْنا في بِدايةِ هذه الكَلِمةِ على أن نَكتُبَ خَمسَ شُعَلٍ، ولكن في أَواخِرِ الشُّعلةِ الأُولَى -قبلَ وَضْعِ الحُرُوفِ الجَدِيدةِ بشَهرَينِ- اضطُرِرنا إلى الإسراعِ في الكِتابةِ لِطَبعِها بالحُرُوفِ القَدِيمةِ، حتَّى كُنّا نَكتُبُ -في بعضِ الأَيّامِ- عِشرِين أو ثَلاثين صَحِيفةً في غُضُونِ ساعَتَينِ أو ثَلاثِ ساعاتٍ، لِذا اكتَفَيْنا بثَلاثِ شُعَلٍ فكَتَبناها مُجمَلةً مُختَصَرةً، وتَرَكنا الآنَ شُعْلَتَينِ.
فآمُلُ مِن إخواني الكِرامِ أن يَنظُرُوا بعَينِ الإنصافِ والمُسامَحةِ إلى ما كان مِنِّي مِن تَقصِيراتٍ ونَقائصَ وإشكالاتٍ وأَخطاءٍ.
❀ ❀ ❀
إنَّ كلَّ آيةٍ مِن أَكثَرِ الآياتِ الوارِدةِ في هذه الرِّسالةِ “المُعجِزاتُ القُرآنيّةُ” إمَّا أنَّها أَصبَحَت مَوضِعَ انتِقادِ المُلحِدِين، أو أَصابَها اعتِراضُ أَهلِ العُلُومِ الحَدِيثةِ، أو مَسَّتْها شُبُهاتُ شَياطِينِ الجِنِّ والإنسِ وأَوهامُهم.
ولقد تَناوَلَتْ هذه “الكَلِمةُ الخامِسةُ والعِشرُون” تلك الآياتِ وبَيَّنَتْ حَقائقَها ونِكاتِها الدَّقيقةَ على أَفضَلِ وَجهٍ، بحيثُ إنَّ ما ظَنَّه أَهلُ الإلحادِ والعُلُومِ مِن نِقاطِ ضَعْفٍ ومَدارِ نَقْصٍ، أَثْبَتَتِ الرِّسالةُ بقَواعِدِها العِلمِيّةِ أنَّه لَمَعاتُ إعجازٍ ومَنابِعُ كَمالِ بَلاغةِ القُرآنِ.
أمَّا الشُّبُهاتُ فقد أُجِيبَ عنها بأَجوِبةٍ قاطِعةٍ مِن دُونِ ذِكرِ الشُّبهةِ نَفسِها، وذلك لِئلّا تَتَكدَّرَ الأَذهانُ، كما في الآيةِ الكَريمةِ: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي﴾، ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾، إلّا ما ذَكَرناه مِن شُبُهاتِهم في المَقامِ الأَوَّلِ مِنَ “الكَلِمةِ العِشرِين” حَولَ عَدَدٍ مِنَ الآياتِ.
ثمَّ إنَّ هذه الرِّسالةَ “المُعجِزاتُ القُرآنيّةُ” وإن كُتِبَتْ باختِصارٍ شَديدٍ وفي غايةِ السُّرعةِ، إلّا أنَّها قد بَيَّنَت جانِبَ البَلاغةِ وعُلُومَ العَرَبيّةِ بَيانًا شافِيًا بأُسلُوبٍ عِلمِيٍّ رَصِينٍ وعَمِيقٍ يُثيرُ إعجابَ العُلَماءِ.
وعلى الرَّغْمِ مِن أنَّ كلَّ بَحثٍ مِن بُحُوثِها لا يَستَوعِبُه كلُّ مُهتَمٍّ ولا يَستَفيدُ مِنه حَقَّ الفائِدةِ، فإنَّ لكُلٍّ حَظَّه المُهِمَّ في تلك الرِّياضِ الوارِفةِ.
والرِّسالةُ وإن أُلِّفَت في أَوضاعٍ مُضطَرِبةٍ وكُتِبَتْ على عَجَلٍ، ومع ما فيها مِن قُصُورٍ في الإفادةِ والتَّعبِيرِ، إلّا أنَّها قد بَيَّنَت حَقائِقَ كَثيرٍ مِنَ المَسائلِ المُهِمّةِ مِن وِجهةِ نَظَرِ العِلْمِ.
سعيدٌ النُّورْسِيّ
❀ ❀ ❀
رسالةُ المُعجِزاتِ القُرآنيّة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾
لقد أَشَرنا إلى نحوِ أَربَعين وَجهًا مِن وُجُوه إعجازٍ لا تُحَدُّ للقُرآنِ الحَكِيمِ الَّذي هو مَنبَعُ المُعجِزاتِ والمُعجِزةُ الكُبْرَى للرَّسُولِ الكَريمِ ﷺ، وذلك في رَسائِلي العَرَبيّةِ، وفي رَسائلِ النُّورِ العَرَبيّةِ، وفي تَفسِيري المَوسُومِ بـ”إشاراتُ الإعجازِ في مَظانِّ الإيجازِ”، وفي الكَلِماتِ الأَربَعِ والعِشرِينَ السّابِقةِ.
وفي هذه الرِّسالةِ نُشِيرُ إلى خَمسةٍ مِن تلك الوُجُوهِ ونُبيِّنُها بشَيءٍ مِنَ التَّفصيلِ، ونُدرِجُ فيها سائرَ الوُجُوهِ مُجمَلةً.
وفي المُقدِّمةِ نُشِيرُ إلى تَعرِيفِ القُرآنِ الكَرِيمِ وماهيَّتِه.
[المقدمة: تعريف بالقرآن الكريم]
المُقدِّمة: عبارةٌ عن ثلاثة أجزاءٍ.
[الجزء الأول: تعريف القرآن]
الجزء الأوَّل
القرآنُ ما هو؟ وما تَعريفُه؟
لقد وُضِّحَ في “الكَلِمةِ التّاسِعةَ عَشْرةَ”، وأُثبِتَ في رسائلَ أخرى أنَّ القُرآن:
هو التَّرجَمةُ الأَزَليّةُ لِكِتابِ الكائناتِ الكَبِيرِ..
والتَّرجُمانُ الأَبَدِيُّ لِأَلسِنَتِها المُتَنوِّعةِ التّاليةِ للآياتِ التَّكوِينيّةِ..
ومُفَسِّرُ كِتابِ عالَمِ الغَيبِ والشَّهادةِ..
وكذا هو كَشّافٌ لِمَخْفيَّاتِ الكُنُوزِ المَعنَوِيّةِ للأَسماءِ الإلٰهِيّةِ المُستَتِرةِ في صَحائفِ السَّماواتِ والأَرضِ..
وكذا هو مِفتاحٌ لِحَقائقِ الشُّؤُونِ المُضْمَرةِ في سُطُورِ الحادِثاتِ..
وكذا هو لِسانُ عالَمِ الغَيبِ في عالَمِ الشَّهادةِ..
وكذا هو خَزِينةٌ للمُخاطَباتِ الأَزَليّةِ السُّبحانيّةِ والِالتِفاتاتِ الأَبَديّةِ الرَّحمانيّةِ الوارِدةِ مِن عالَمِ الغَيبِ المَستُورِ وَراءَ حِجابِ عالَمِ الشَّهادةِ هذا..
وكذا هو شَمسُ عالَمِ الإسلامِ المَعنَوِيِّ وأَساسُه وهَندَسَتُه..
وكذا هو خَرِيطةٌ مُقدَّسةٌ للعَوالِمِ الأُخرَوِيّةِ..
وكذا هو القَولُ الشّارِحُ والتَّفسِيرُ الواضِحُ والبُرهانُ القاطِعُ والتَّرجُمانُ السّاطِعُ لِذاتِ اللهِ وصِفاتِه وأَسمائِه وشُؤُونِه..
وكذا هو المُرَبِّي لهذا العالَمِ الإنسانِيِّ..
وكالماءِ والضِّياءِ للإنسانيّةِ الكُبْرَى الَّتي هي الإسلامُ.. وكذا هو الحِكمةُ الحَقيقيّةُ لِنَوعِ البَشَرِ..
وهو المُرشِدُ المُهدِي الَّذي يَسُوقُ الإنسانيّةَ إلى السَّعادةِ..
وكذا هو للإنسانِ: كما أنه كِتابُ شَرِيعةٍ، كذلك هو كِتابُ حِكمةٍ، وكما أنَّه كِتابُ دُعاءٍ وعُبُودِيّةٍ، كذلك هو كِتابُ أَمرٍ ودَعوةٍ، وكما أنَّه كِتابُ ذِكرٍ كذلك هو كِتابُ فِكرٍ..
وهو الكِتابُ الوَحِيدُ المُقدَّسُ الجامِعُ لكُلِّ الكُتُبِ الَّتي تُحقِّقُ جَميعَ حاجاتِ الإنسانِ المَعنَوِيّةِ، حتَّى إنَّه قد أَبرَزَ لِمَشرَبِ كلِّ واحدٍ مِن أَهلِ المَشارِبِ المُختَلِفةِ، ولِمَسلَكِ كلِّ واحِدٍ مِن أَهلِ المَسالِكِ المُتَبايِنةِ مِنَ الأَولياءِ والصِّدِّيقين ومِنَ العُرَفاءِ والمُحَقِّقين رِسالةً لائقةً لِمَذاقِ ذلك المَشرَبِ وتَنوِيرِه، ولِمَساقِ ذلك المَسلَكِ وتَصوِيرِه.. فهذا الكِتابُ السَّماوِيُّ أَشبَهُ ما يكُونُ بمَكتَبةٍ مُقدَّسةٍ مَشحُونةٍ بالكُتُبِ.
[الجزء الثاني: علو القرآن]
الجُزءُ الثاني وتتمّةُ التعريف
لقد وُضِّحَ في “الكَلِمةِ الثّانيةَ عَشْرةَ” وأُثبِتَ فيها أنَّ القرآنَ قد نَزَل مِنَ العَرشِ الأَعظَمِ، مِنَ الِاسمِ الأَعظَمِ، مِن أَعظَمِ مَرتَبةٍ مِن مَراتِبِ كلِّ اسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى..
فهو كَلامُ اللهِ بوَصْفِه رَبَّ العالَمِين، وهو أَمرُ الله بوَصفِه إلٰهَ المَوجُوداتِ، وهو خِطابُه بوَصفِه خالِقَ السَّماواتِ والأَرضِ، وهو مُكالَمةٌ سامِيةٌ بصِفةِ الرُّبُوبيّةِ المُطلَقةِ، وهو خِطابٌ أَزَليٌّ باسمِ السَّلطَنةِ الإلٰهِيّةِ الشّامِلةِ العُظمَى، وهو سِجِلُّ الِالتِفاتِ والتَّكريمِ الرَّحمانِيِّ النّابِعِ مِن رَحمَتِه الواسِعةِ المُحِيطةِ بكلِّ شيءٍ، وهو مَجمُوعةُ رَسائلَ رَبّانيّةٍ تُبيِّنُ عَظَمةَ الأُلُوهيّةِ، إذ في بِداياتِ بَعضِها رُمُوزٌ وشِفْراتٌ، وهو الكِتابُ المُقدَّسُ الَّذي يَنثُرُ الحِكمةَ، نازِلٌ مِن مُحِيطِ الِاسمِ الأَعظَمِ يَنظُرُ إلى ما أَحاطَ به العَرشُ الأَعظَمُ.
ومِن هذا السِّرِّ أُطلِقَ على القُرآنِ الكَريمِ ويُطلَقُ علَيه دَوْمًا ما يَستَحِقُّه مِنِ اسمٍ وهو: “كَلامُ اللهِ”. وتَأتي بعدَ القُرآنِ الكَريمِ الكُتُبُ المُقدَّسةُ لِسائرِ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلَام وصُحُفُهم.
أمّا سائرُ الكَلِماتِ الإلٰهِيّةِ الَّتي لا تَنفَدُ، فمِنها ما هو مُكالَمةٌ في صُورةِ إلهامٍ نابِعٍ باعتِبارٍ خاصٍّ، وبعُنوانٍ جُزئيٍّ، وبتَجَلٍّ خاصٍّ لِاسمٍ خُصُوصيٍّ، وبرُبُوبيّةٍ خاصّةٍ، وسُلطانٍ خاصٍّ، ورَحمةٍ خُصُوصيّةٍ.. فإلهاماتُ المَلَك والبَشَرِ والحَيَواناتِ مُختَلِفةٌ جِدًّا مِن حيثُ الكُلِّيّةُ والخُصُوصيّةُ.
[الجزء الثالث: جامعية القرآن]
الجزءُ الثالث
إنَّ القُرآنَ الكَريمَ كِتابٌ سَماوِيٌّ يَتَضمَّنُ إجمالًا كُتُبَ جَميعِ الأَنبِياءِ المُختَلِفةِ عُصُورُهم، ورَسائلَ جَميعِ الأَولياءِ المُختَلِفةِ مَشارِبُهم، وآثارَ جَميعِ الأَصفِياءِ المُختَلِفةِ مَسالكُهُم..
جِهاتُه السِّتُّ مُشرِقةٌ ساطِعةٌ نَقِيّةٌ مِن ظُلُماتِ الأَوهامِ، طاهِرةٌ مِن شائبةِ الشُّبُهاتِ..
إذ نُقطةُ استِنادِه: الوَحْيُ السَّماوِيُّ والكَلامُ الأَزَليُّ باليَقينِ..
هَدَفُه وغايَتُه: السَّعادةُ الأَبَديّةُ بالمُشاهَدةِ..
مُحتَواه: هِدايةٌ خالِصةٌ بالبَداهةِ..
أَعلاه: أَنوارُ الإيمان بالضَّرورةِ..
أَسفَلُه: الدَّليلُ والبُرهانُ بعِلمِ اليَقينِ..
يَمِينُه: تَسلِيمُ القَلبِ والوِجدانِ بالتَّجرِبةِ..
يَسارُه: تَسخِيرُ العَقلِ والإذعانُ بعَينِ اليَقينِ..
ثَمَرتُه: رَحمةُ الرَّحمٰنِ ودارُ الجِنانِ بحَقِّ اليَقينِ..
مَقامُه: قَبُولُ المَلَكِ والإنسِ والجانِّ بالحَدْسِ الصّادِقِ.
إنَّ كلَّ صِفةٍ مِنَ الصِّفاتِ المَذكُورةِ في تَعرِيفِ القُرآنِ الكَريمِ بأَجزائِه الثّلاثةِ، قد أُثبِتَت إثباتًا قاطِعًا في مَواضِعَ أُخرَى أو ستُثبَتُ، فدَعوانا لَيسَتْ مُجَرَّدَ ادِّعاءٍ مِن دُونِ دَليلٍ، بل كلٌّ مِنها مُبَرهَنٌ بالبُرهانِ القاطِعِ.
❀ ❀ ❀
[الشعلة الأولى: ثلاثة وجوه كبرى في إعجاز القرآن]
الشُّعلة الأولى: هذه الشُّعلةُ لها ثلاثُ أَشِعّاتٍ
[الشعاع الأول: البلاغة المعجزة]
الشُّعاع الأوَّل: بلاغةُ القرآن مُعجِزةٌ
هذه البَلاغةُ المُعجِزةُ نَبَعَت مِن جَزالةِ نَظْمِ القُرآنِ وحُسنِ مَتانَتِه، ومِن بَداعةِ أَساليبِه وغَرابَتِها وجَوْدَتِها، ومِن بَراعةِ بَيانِه وتَفُوُّقِه وصَفْوَتِه، ومِن قُوّةِ مَعانيه وصِدقِها، ومِن فَصاحةِ أَلفاظِه وسَلاسَتِها.
بهذه البَلاغةِ الخارِقةِ تَحَدَّى القُرآنُ الكَريمُ -مُنذُ أَلفٍ وثَلاثِ مِئةٍ مِنَ السِّنينَ- أَذكَى بُلَغاءِ بَني آدَمَ وأَبرَعَ خُطَبائِهم وأَعظَمَ عُلَمائِهم، فما عارَضُوه، وما حارُوا ببِنتِ شَفةٍ، مع شِدّةِ تَحَدِّيه إيّاهم، بل خَضَعَتْ رِقابُهم بِذُلٍّ، ونَكَّسُوا رُؤُوسَهم بِهَوانٍ، مع أنَّ مِن بُلَغائهم مَن يُناطِحُ السَّحابَ بغُرُورِه.
نُشِيرُ إلى وَجهِ الإعجازِ في بَلاغَتِه بصُورَتَينِ:
[الصورة الأولى: القرآن تحدى العرب فيما برعوا فيه]
الصُّورة الأولى:
إنَّ أَكثرَ سُكّانِ جَزِيرةِ العَرَبِ كانُوا في ذلك الوَقتِ أُمِّيِّين، لِذا كانُوا يَحفَظُون مَفاخِرَهم ووَقائِعَهمُ التّارِيخيّةَ وأَمثالَهم وحِكمَهم ومَحاسِنَ أَخلاقِهم في شِعرِهم وبَلِيغَ كَلامِهمُ المُتَناقَلِ شِفاهًا، بَدَلًا مِنَ الكِتابةِ؛ فكان الكَلامُ الحَكِيمُ ذُو المَغزَى يَستَقِرُّ في الأَذهانِ ويَتَناقَلُه الخَلَفُ عنِ السَّلَفِ. فهذه الحاجةُ الفِطرِيّةُ فيهم دَفَعَتْهم إلى أن يكُونَ أَرغَبُ مَتاعٍ في أَسواقِهم وأَكثَرُه رَواجًا هو الفَصاحةَ والبَلاغةَ، حتَّى كان بَليغُ القَبِيلةِ رَمْزًا لِمَجْدِها وبَطَلًا مِن أَبطالِ فَخرِها، فهؤلاء القَومُ الَّذين ساسُوا العالَمَ بفِطنَتِهم بعدَ إسلامِهم كانُوا في الصَّدارةِ والقِمّةِ في مَيدانِ البَلاغةِ بينَ أُمَمِ العالَمِ، فكانَتِ البَلاغةُ رائجةً وحاجَتُهم إلَيها شَدِيدةً حتَّى يَعُدُّوها مَدارَ اعتِزازِهم، بل حتَّى كانَت رَحَى الحَربِ تَدُورُ بينَ قَبيلَتَينِ أو يَحُلُّ الوِئامُ بَينَهما بمُجَرَّدِ كلامٍ يَصدُرُ عن بَليغِهم، بل كَتَبُوا سَبعَ قَصائدَ بماءِ الذَّهبِ لِأَبلَغِ شُعَرائهم وعَلَّقُوها على جِدارِ الكَعبةِ، فكانَتِ “المُعَلَّقاتِ السَّبعَ” الَّتي هي رَمزُ فَخرِهم.
ففي مِثلِ هذا الوَقتِ الَّذي بَلَغَتْ فيه البَلاغةُ قِمّةَ مَجدِها، ومَرغُوبٌ فيها إلى هذا الحَدِّ، نَزَل القُرآنُ الكَريمُ -بمِثلِ ما كانَت مُعجِزةُ سَيِّدِنا مُوسَى وعِيسَى عَلَيهمَا السَّلَام مِن جِنسِ ما كان رائجًا في زَمانِهما، وهو السِّحرُ والطِّبُّ- نَزَل في هذا الوَقتِ مُتَحدِّيًا ببَلاغَتِه بلاغةَ عَصرِه وكلِّ العُصُورِ التّاليةِ، ودَعا بُلَغاءَ العَرَبِ إلى مُعارَضَتِه، والإتيانِ ولو بأَقصَرِ سُورةٍ مِن مِثلِه، فتَحَدَّاهم بقَولِه تَعالَى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾، واشتَدَّ علَيهِم بالتَّحَدِّي: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ أي: ستُساقُون إلى جَهَنَّمَ وبِئسَ المَصِيرُ؛ فكان هذا يَكسِرُ غُرُورَهم، ويَستَخِفُّ بعُقُولِهم ويُسَفِّهُ أَحلامَهم، ويَقضِي علَيهم في الدُّنيا بالإعدامِ كما هو في الآخِرةِ، أي: إمّا أن تَأتُوا بمِثلِه أو أنَّ أَرواحَكم وأَموالَكم في خَطَرٍ، ما دُمتُم مُصِرِّين على الكُفرِ!
وهكذا، فلَو كانَتِ المُعارَضةُ مُمكِنةً فهل يُمكِنُ اختِيارُ طَريقِ الحَربِ والدَّمارِ، وهي أَشَدُّ خَطَرًا وأَكثَرُ مَشَقّةً، وبينَ أَيدِيهم طَرِيقٌ سَهلةٌ هَيِّنةٌ، تلك هي مُعارَضَتُه ببِضعةِ أَسطُرٍ تُماثِلُه، لإبطالِ دَعواه وتَحَدِّيه؟!
أَجَل، هل يُمكِنُ لأُولَئك القَومِ الأَذكِياءِ الَّذين أَدارُوا العالَمَ بسِياسَتِهم وفِطنَتِهم أن يَتْرُكوا أَسهَلَ طَرِيقٍ وأَسلَمَها، ويَختارُوا الطَّرِيقَ الصَّعبةَ الَّتي تُلقِي أَرواحَهم وأَموالَهم إلى الهَلاكِ؟ إذ لو كان باستِطاعةِ بُلَغائِهم أن يُعارِضُوا القُرآنَ ببِضعةِ حُرُوفٍ، لَتَخَلَّى القُرآنُ عن دَعواه، ولَنَجَوا مِنَ الدَّمارِ المادِّيِّ والمَعنَوِيِّ؛ والحالُ أنَّهمُ اختارُوا طَرِيقَ الحَربِ المُرِيعةِ الطَّوِيلةِ، بمَعنَى أنَّ المُعارَضةَ بالحُرُوفِ مُحالةٌ، ولا يُمكِنُهم ذلك بحالٍ مِنَ الأَحوالِ، لِذا عَمَدُوا إلى المُقارَعةِ بالسُّيُوفِ. ثمَّ إنَّ هناك دافِعَينِ في غايةِ القُوّةِ لِمُعارَضةِ القُرآنِ والإتيانِ بمَثيلِه وهما:
الأوَّلُ: حِرصُ الأَعداءِ على مُعارَضَتِه.
الثّاني: شَغَفُ الأَصدِقاءِ على تَقلِيدِه.
ولقد أُلِّفَتْ تحتَ تَأثيرِ هذَينِ الدّافِعَينِ الشَّدِيدَينِ مَلايينُ الكُتُبِ بالعَرَبيّةِ، مِن دُونِ أن يكُونَ كِتابٌ واحِدٌ مِنها شَبِيهًا بالقُرآنِ قَطُّ، إذ كلُّ مَن يَراها -سَواءٌ أكانَ عالِمًا أو جاهِلًا- لا بُدَّ أن يقُولَ: القُرآنُ لا يُشبِهُ هذه الكُتُبَ، ولا يُمكِنُ أن يُعارِضَ واحِدٌ مِنها القُرآنَ قَطعًا، ولهذا فإمّا أنَّ القُرآنَ أَدنَى بَلاغةً مِنَ الكُلِّ، وهذا باطِلٌ مُحالٌ باتِّفاقِ الأَعداءِ والأَصدِقاءِ، وإمّا أنَّ القُرآنَ فَوقَها جَمِيعًا، وأَسمَى وأَعلَى.
فإن قُلْتَ: كيف نَعلَمُ أنَّ أَحَدًا لم يُحاوِلِ المُعارَضةَ؟ أَلَم يَعتَمِدْ أَحَدٌ على نَفسِه ومَوهِبَتِه لِيَبْرُزَ في مَيدانِ التَّحَدِّي؟! أوَلَم يَنفَعْ تَعاوُنُهم ومُؤازَرةُ بَعضِهم بَعضًا؟!
الجَوابُ: لو كانَتِ المُعارَضةُ مُمكِنةً، لَكانَتِ المُحاوَلةُ قائِمةً لا مَحالةَ، لأنَّ هناك قَضِيّةَ الشَّرَفِ والعِزّةِ وهَلاكِ الأَرواحِ والأَموالِ؛ فلَو كانَتِ المُعارَضةُ قد وَقَعَت فِعلًا، لَكان الكَثِيرُون يَنحازُون إلَيها، لأنَّ المُعارِضِين للحَقِّ والعَنِيدِين كَثيرُون دائمًا، فلَو وُجِدَ مَن يُؤيِّدُ المُعارَضةَ لَاشتَهَرَت، إذ كانُوا يُنَظِّمُون القَصائدَ لِخِصامٍ طَفيفٍ، ويَجعَلُونَها في المَآثِرِ، فكيف بصِراعٍ عَجِيبٍ كهذا يَبقَى مَستُورًا في التّارِيخِ؟!
ولقد نُقِلَت واشتَهَرَت أَشنَعُ الإشاعاتِ وأَقبَحُها طَعْنًا بالإسلامِ، ولم تُنقَلْ سِوَى بِضعِ كَلِماتٍ تَقَوَّلَها مُسَيلِمةُ الكَذّابُ لِمُعارَضةِ القُرآنِ، ومُسَيلِمةُ هذا وإن كانَ صاحِبَ بَلاغةٍ لا يُستَهانُ بها، إلَّا أنَّ بَلاغَتَه عِندَما قُورِنَت مع بَلاغةِ القُرآنِ الَّتي تَفُوقُ كلَّ حُسْنٍ وجَمالٍ عُدَّت هَذَيانًا.. ونُقِلَ كَلامُه هكذا في صَفَحاتِ التّارِيخِ.
وهكذا، فالإعجازُ في بَلاغةِ القُرآنِ يَقينٌ كيَقينِ حاصِلِ ضَربِ الِاثنَينِ في اثنَينِ يُساوِي أَربعًا، ولِهذا يكُونُ الأَمرُ هكذا.
[الصورة الثانية: حكمة الإعجاز في بلاغة القرآن]
الصورة الثانية: سنُبيِّنُ حِكمةَ الإعجازِ في بَلاغةِ القُرآنِ بخَمسِ نِقاطٍ:
[النقطة الأولى: جزالة النظم]
النُّقطة الأولى: إنَّ في نَظمِ القُرآنِ جَزالةً خارِقةً، وقد بَيَّن كِتابُ “إشاراتُ الإعجازِ في مَظانِّ الإيجازِ” مِن أَوَّلِه إلى آخِرِه هذه الجَزالةَ والمَتانةَ في النَّظمِ، إذ كما أنَّ عَقارِبَ السّاعةِ العادَّةَ للثَّواني والدَّقائقِ والسّاعاتِ يُكَمِّلُ كلٌّ مِنها نِظامَ الآخَرِ، كذلك النَّظمُ في هَيئاتِ كلِّ جُملةٍ مِن جُمَلِ القُرآنِ، والنِّظامُ الَّذي في كَلِماتِه، والِانتِظامُ الَّذي في مُناسَبةِ الجُمَلِ كلٌّ تِجاهَ الآخَرِ، وقد بُيِّن كُلُّ ذلك بوُضُوحٍ تامٍّ في التَّفسِيرِ المَذكُورِ، فمَن شاءَ فلْيُراجِعْه لِيَتَمكَّنَ مِن أن يُشاهِدَ هذه الجَزالةَ الخارِقةَ في أَجمَلِ صُوَرِها، إلّا أنَّنا نُورِدُ هنا مِثالَينِ فقط لِبَيانِ نَظْمِ الكَلِماتِ المُتَعانِقةِ لكُلِّ جُملةٍ (والَّتي لا يَصلُحُ مَكانَها غَيرُها بتَناسُقٍ وتَكامُلٍ).
[مثال: ولئن مستهم نفحة]
المِثالُ الأوَّلُ: قَولُه تَعالَى: ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾.
هذه الجُملةُ مَسُوقةٌ لِإظهارِ هَوْلِ العَذابِ، ولكِن بإظهارِ التَّأثيرِ الشَّديدِ لِأَقلِّه، ولِهذا فإنَّ جَميعَ هَيئاتِ الجُملةِ الَّتي تُفيدُ التَّقليلَ تَنظُرُ إلى هذا التَّقليلِ وتَمُدُّه بالقُوّةِ كي يُظهِرَ الهَوْلَ:
فلَفظُ: ﴿لَئِنْ﴾ هو لِلتَّشكِيكِ، والشَّكُّ يُوحِي القِلّةَ. ولَفظُ ﴿مَسَّ﴾ هو إصابةٌ قَليلةٌ، يُفيدُ القِلّةَ أَيضًا. ولَفظُ ﴿نَفْحَةٌ﴾ مادَّتُه رائحةٌ قَليلةٌ، فيُفيدُ القِلّةَ، كما أنَّ صِيغَتَه تَدُلُّ على واحِدةٍ، أي: واحِدةٍ صَغيرةٍ -كما في التَّعبيرِ الصَّرفِيِّ: مَصدَرُ المَرّةِ- فيُفيدُ القِلّةَ.. وتَنوِينُ التَّنكِيرِ في ﴿نَفْحَةٌ﴾ هي لِتَقليلِها، بمَعنَى أنَّها شيءٌ صَغِيرٌ إلى حَدٍّ لا يُعلَمُ، فيُنكَر. ولَفظُ ﴿مِنْ﴾ هو للتَّبعِيضِ، بمَعنَى جُزءٍ، فيُفيدُ القِلّةَ. ولَفظُ ﴿عَذَابِ﴾ هو نَوعٌ خَفِيفٌ مِنَ الجَزاءِ بالنِّسبةِ إلى النَّـكالِ والعِقابِ، فيُشِيرُ إلى القِلّةِ. ولَفظُ ﴿رَبِّكَ﴾ بَدَلًا مِنَ: القَهَّار، الجَبَّار، المُنتَقِم، فيُفيدُ القِلّةَ أَيضًا وذلك بإحساسِه الشَّفَقةَ والرَّحمةَ. وهكذا تُفيدُ الجُملةُ أنَّه إذا كان العَذابُ شَدِيدًا ومُؤثِّرًا مع هذه القِلّةِ، فكيف يكُونُ هَوْلُ العِقابِ الإلٰهِيِّ؟
فتَأَمَّلْ في الجُملةِ لِتَرَى كيفَ تَتَجاوَبُ الهَيئاتُ الصَّغيرةُ، فيُعِينُ كلٌّ الآخَرَ، فكلٌّ يَمُدُّ المَقصَدَ بجِهَتِه الخاصّةِ.
هذا المِثالُ الَّذي سُقناه يَلحَظُ اللَّفظَ والمَقصَدَ.
[مثال: ومما رزقناهم ينفقون]
المِثالُ الثّاني: قولُه تَعالَى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.
فهَيئاتُ هذه الجُملةِ تُشِيرُ إلى خَمسةِ شُرُوطٍ لِقَبُولِ الصَّدَقةِ:
الشَّرطُ الأوَّلُ: المُستَفادُ مِن “مِن” التَّبعيضِيّةِ في لَفظِ: ﴿مِمَّا﴾ أي: ألّا يَبسُطَ المُتَصدِّقُ يَدَه كلَّ البَسْطِ فيَحتاجَ إلى الصَّدَقةِ.
الشَّرطُ الثَّاني: المُستَفادُ مِن لَفظِ: ﴿رَزَقْنَاهُمْ﴾ أي: ألّا يَأخُذَ مِن زَيدٍ ويَتَصدَّقَ على عَمرٍو، بل يَجِبُ أن يكُونَ مِن مالِه، بمَعنَى: تَصَدَّقُوا مِمّا هو رِزقٌ لكم.
الشَّرطُ الثّالثُ: المُستَفادُ مِن لَفظِ: “نا” في ﴿رَزَقْنَا﴾ أي: ألّا يَمُنَّ فيَستَـكثِرَ، أي: لا مِنّةَ لكم في التَّصَدُّقِ، فأنا أَرزُقُكم، وتُنفِقُون مِن مالي على عَبْدِي.
الشَّرطُ الرّابعُ: المُستَفادُ مِن: ﴿يُنْفِقُونَ﴾ أي أن يُنفِقَ على مَن يَضَعُه في حاجاتِه الضَّرُورِيّةِ ونَفَقَتِه، وإلّا فلا تكُونُ الصَّدَقةُ مَقبُولةً على مَن يَصرِفُها في السَّفاهةِ.
الشَّرطُ الخامسُ: المُستَفادُ مِن: ﴿رَزَقْنَاهُمْ﴾ أيضًا، أي: يكُونُ التَّصَدُّقُ باسمِ اللهِ، أي: المالُ مالي، فعلَيكُم أن تُنفِقُوه بِاسمِي.
ومعَ هذه الشُّرُوطِ هناك تَعمِيمٌ في التَّصَدُّقِ، إذ كما أنَّ الصَّدَقةَ تكُونُ بالمالِ، تكُونُ بالعِلْمِ أَيضًا، وبالقَولِ والفِعلِ والنَّصِيحةِ كذلك، وتُشِيرُ إلى هذه الأَقسامِ كَلِمةُ ﴿مَّا﴾ الَّتي في ﴿مِمَّا﴾ بعُمُوميَّتِها. وتُشِيرُ إلَيها في هذه الجُملةِ بالذّاتِ، لأَنَّها مُطلَقةٌ تُفيدُ العُمُومَ.
وهكذا تَجُودُ هذه الجُملةُ الوَجِيزةُ -الَّتي تُفيدُ الصَّدَقةَ- إلى عَقلِ الإنسانِ خَمسةَ شُرُوطٍ للصَّدَقةِ مع بَيانِ مَيدانِها الواسِعِ، وتُشعِرُها بهَيئاتِها. وهكذا، فلِهَيئاتِ الجُمَلِ القُرآنيّةِ نُظُمٌ كَثيرةٌ أَمثالُ هذه.
[نظم التناظر]
وكذا للكَلِماتِ القُرآنيّةِ أيضًا مَيدانُ نَظْمٍ واسِعٌ مثلُ ذلك، كلٌّ تِجاهَ الآخَرِ. وكذا للكَلامِ القُرآنِيِّ ولِجُمَلِه دَوائرُ نَظْمٍ كتِلك.
فمَثلًا قَولُه تَعالَى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾: هذه الآياتُ الجَليلةُ فيها سِتُّ جُمَلٍ: ثَلاثٌ مِنها مُثبَتةٌ، وثَلاثٌ مِنها مَنفِيّةٌ، تُثبِتُ سِتَّ مَراتِبَ مِنَ التَّوحيدِ كما تَرُدُّ سِتّةَ أَنواعٍ مِنَ الشِّركِ؛ فكلُّ جُملةٍ مِنها تكُونُ دَليلًا للجُمَلِ الأُخرَى كما تكُونُ نَتِيجةً لها، لأن لِكُلِّ جُملةٍ مَعنَيَينِ، تكُونُ باعتِبارِ أَحَدِهما نَتيجةً، وباعتِبارِ الآخَرِ دَليلًا.
أي إنَّ سُورةَ الإخلاصِ تَشتَمِلُ على ثَلاثينَ سُورةً مِن سُوَرِ الإخلاصِ.. سُوَرٌ مُنتَظِمةٌ مُرَكَّبةٌ مِن دَلائلَ يُثبِتُ بَعضُها بَعضًا، على النَّحوِ الآتي:
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ﴾: لأنَّه أَحَدٌ، لأنَّه صَمَدٌ، لأنَّه لم يَلِدْ، لأنَّه لم يُولَدْ، لأنَّه لم يكُن له كُفُوًا أَحَدٌ.
وكذا: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾: لأنَّه لم يُولَدْ، لأنَّه لم يَلِدْ، لأنَّه صَمَدٌ، لأنَّه أَحَدٌ، لأنَّه هو اللهُ.
وكذا: ﴿هُوَ اللَّهُ﴾ فهو أَحَدٌ، فهو صَمَدٌ، فإذًا لم يَلِدْ، فإذًا لم يُولَدْ، فإذًا لم يكُن له كُفُوًا أَحَدٌ. وهكذا فقِسْ على هذا المِنوالِ.
ومَثلًا: قَولُه تَعالَى: ﴿الٓمٓ * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾:
فلِكُلٍّ مِن هذه الجُمَلِ الأَربَعِ مَعنَيانِ: فبِاعتِبارِ أَحَدِهما يكُونُ دَليلًا للجُمَلِ الأُخرَى، وباعتِبارِ الآخَرِ نَتِيجةً لها.. فيَحصُلُ مِن هذا نَقْشٌ نَظمِيٌّ إعجازِيٌّ مِن سِتّةَ عَشَرَ خَطًّا مِن خُطُوطِ المُناسَبةِ والعَلاقةِ.
وقد بَيَّنَ ذلك كِتابُ “إشارات الإعجاز” حتَّى كأنَّ لِكُلِّ آيةٍ مِن أَكثَرِ الآياتِ القُرآنيّةِ عَيْنًا ناظِرةً إلى أَكثَرِ الآياتِ، ووَجْهًا مُتَوجِّهًا إلَيها، فتَمُدُّ إلى كلٍّ مِنها خُطُوطًا مَعنَوِيّةً مِنَ المُناسَباتِ والِارتِباطاتِ، ناسِجةً نَقْشًا إعجازِيًّا، كما بُيِّنَ ذلك في “الكَلِمةِ الثّالثةَ عَشْرةَ”، وخَيرُ شاهِدٍ على هذا “إشاراتُ الإعجاز” إذ مِن أَوَّلِ الكِتابِ إلى آخِرِه شَرحٌ لِجَزالةِ النَّظْمِ هذه.
[النقطة الثانية: بلاغة المعنى]
النُّقطة الثانية: البَلاغةُ الخارِقةُ في مَعناه، إذا شِئتَ أن تَتَذوَّقَ بَلاغةَ المَعنَى في الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فانظُرْ إلى هذا المِثالِ المُوَضَّحِ في “الكَلِمةِ الثّالثةَ عَشْرةَ”.
[مثال: سبح لله ما في السموات والأرض]
فتَصَوَّرْ نَفْسَك قَبلَ مَجِيءِ نُورِ القُرآنِ، في ذلك العَصرِ الجاهِليِّ، وفي صَحراءِ البَداوةِ والجَهلِ، فبَينَما تَجِدُ كلَّ شيءٍ قد أُسدِلَ علَيه سِتارُ الغَفلةِ وغَشِيَه ظَلامُ الجَهلِ، ولُفَّ بغِلافِ الجُمُودِ والطَّبِيعةِ، إذا بك تُشاهِدُ بصَدَى قَولِه تَعالَى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، أو ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ قد دَبَّتِ الحَياةُ في تلك المَوجُوداتِ الهامِدةِ أوِ المَيتةِ بصَدَى ﴿سَبَّحَ﴾ و﴿تُسَبِّحُ﴾ في أَذهانِ السّامِعِين، فتَنهَضُ مُسَبِّحةً ذاكِرةً الله.
وإنَّ وَجهَ السَّماءِ المُظلِمةِ الَّتي تَستَعِرُ فيها نُجُومٌ جامِدةٌ والأَرضُ الَّتي تَدِبُّ فيها مَخلُوقاتٌ عاجِزةٌ، تَتَحوَّلُ في نَظَرِ السّامِعين بصَدَى ﴿تُسَبِّحُ﴾ وبنُورِه إلى فَمٍ ذاكِرٍ للهِ، كلُّ نَجْمٍ يُشِعُّ نُورَ الحَقيقةِ، ويَبُثُّ حِكمةً حَكِيمةً بالِغةً؛ ويَتَحوَّلُ وَجهُ الأَرضِ بذلك الصَّدَى السَّماوِيِّ ونُورِه إلى رَأسٍ عَظِيمٍ، والبَرُّ والبَحرُ لِسانَينِ يَلهَجانِ بالتَّسبِيحِ والتَّقدِيسِ، وجَميعُ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ إلى كَلِماتٍ ذاكِرةٍ مُسَبِّحةٍ، حتَّى لَكَأنَّ الأَرضَ كُلَّها تَنبِضُ بالحَياةِ.
[مثال: إن استطعتم أن تنفذوا]
ومَثلًا: انظُرْ إلى هذا المِثالِ الَّذي أُثبِتَ في “الكَلِمةِ الخامِسةَ عَشْرةَ” وهو قَولُه تَعالَى:
﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾، ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾، استَمِعْ لهذه الآياتِ وتَدبَّر ما تقُولُ.. إنَّها تقُولُ:
“أيُّها الإنسُ والجانُّ، أيُّها المَغرُورُونَ المُتَمرِّدُونَ، المُتَوحِّلُون بعَجْزِهم وضَعْفِهم، أيُّها المُعانِدُون الجامِحُون المُتَمرِّغُون في فَقْرِهم وضَعْفِهم.. إنَّكم إن لم تُطِيعُوا أَوامِري، فهيَّا اخرُجُوا مِن حُدُودِ مُلكِي وسُلطاني إنِ استَطَعتُم! فكيف تَتَجرَّؤُون إذًا على عِصيانِ أَوامِرِ سُلطانٍ عَظيمٍ: النُّجُومُ والأَقمارُ والشُّمُوسُ في قَبضَتِه، تَأتَمِرُ بأَوامِرِه، كأنَّها جُنُودٌ مُتَأهِّبُون.. فأَنتُم بطُغيانِكم هذا إنَّما تُبارِزُون حاكِمًا عَظِيمًا جَلِيلًا له جُنُودٌ مُطِيعُون مَهِيبُون يَستَطيعُون أن يَرجُمُوا بقَذائفَ كالجِبالِ، حتَّى شَياطِينَكم لو تَحَمَّلَت.. وأَنتُم بكُفرانِكُم هذا إنما تَتَمرَّدُون في مَملَكةِ مالِكٍ عَظِيمٍ جَليلٍ، له جُنُودٌ عِظامٌ يَستَطِيعُون أن يَقصِفُوا أَعداءً كَفَرةً -ولو كانُوا في ضَخامةِ الأَرضِ والجِبالِ- بقَذائفَ مُلتَهِبةٍ وشَظايا مِن لَهِيبٍ كأَمثالِ الأَرضِ والجِبالِ، فيُمَزِّقُونَهُم ويُشَتِّـتُونَهُم؛ فكيف بمَخلُوقاتٍ ضَعِيفةٍ أَمثالِكُم؟! وأنتُم تُخالِفُون قانُونًا صارِمًا يَرتَبِطُ به مَن له القُدرةُ -بإذنِ اللهِ- أن يُمطِرَ علَيكُم قَذائفَ وراجِماتٍ أَمثالَ النُّجُومِ”.
قِسْ في ضَوءِ هذا المِثالِ قُوّةَ مَعاني سائرِ الآياتِ ورَصانةَ بَلاغَتِها وسُمُوَّ إفاداتِها.
[النقطة الثالثة: بداعة الأسلوب]
النُّقطة الثالثة: البَداعةُ الخارِقةُ في أُسلُوبِه.
نعم، إنَّ أَساليبَ القُرآنِ الكَريمِ غَرِيبةٌ وبَدِيعةٌ كما أنَّها عَجِيبةٌ ومُقنِعةٌ، لم يُقَلِّد أَحَدًا قَطُّ ولا يَستَطيعُ أَحَدٌ أن يُقلِّدَه؛ فلَقد حافَظَ وما يَزالُ يُحافِظُ على طَراوةِ أَساليبِه وشَبابِيَّتِه وغَرابَتِه مِثلَما نَزَل أوَّلَ مَرّةٍ.
[الحروف المقطعة]
فمَثلًا: إنَّ الحُرُوفَ المُقَطَّعةَ المَذكُورةَ في بِداياتِ عِدّةٍ مِنَ السُّوَرِ تُشبِهُ الشِّفراتِ، أَمثالَ: ﴿الٓمٓ﴾ ﴿الٓر﴾ ﴿طه﴾ ﴿يسٓ﴾ ﴿حمٓ﴾ ﴿عٓسٓقٓ﴾. وقد كَتَبنا نحوَ سِتٍّ مِن لَمَعاتِ إعجازِها في “إشاراتِ الإعجازِ” نَذكُرُ مِنها:
إنَّ الحُرُوفَ المَذكُورةَ في بِداياتِ السُّوَرِ تُنصِّفُ كلَّ أَزواجِ طَبائعِ الحُرُوفِ الهِجائيّةِ مِن المَهمُوسةِ والمَجهُورةِ والشَّدِيدةِ والرِّخوةِ.. وغيرِها مِن أَقسامِها الكَثيرةِ، أمّا الأَوتارُ -الَّتي لا تَقبَلُ التَّنصِيفَ- فمِنَ الثَّقيلِ النِّصفُ القَليلُ كالقَلقَلةِ، ومِنَ الخَفيفِ النِّصفُ الكَثيرُ كالذَّلاقةِ. فسُلُوكُه في التَّنصِيفِ والأَخذُ بهذا الطَّرِيقِ الخَفِيِّ الَّذي لا يُدرِكُه العَقلُ مِن بينِ هذه الطُّرُقِ المُتَداخِلةِ المُتَردِّدةِ بين مِئتَيِ احتِمالٍ، ثمَّ سَوقُ الكَلامِ في ذلك السِّياقِ وفي ذلك المَيدانِ الواسِعِ المُشتَبِهةِ الأَعلامِ ليس بالأَمرِ الَّذي يأتي مُصادَفةً قَطُّ، ولا هو مِن شَأْنِ البَشَرِ.
فهذه الحُرُوفُ المُقَطَّعةُ الَّتي في أَوائل السُّوَرِ والَّتي هي شِفراتٌ ورُمُوزٌ إلٰهِيّةٌ تُبيِّنُ خَمسًا أو سِتًّا مِن أَسرارِ لَمَعاتِ إعجازٍ أُخرَى، بل إنَّ عُلَماءَ عِلمِ أَسرارِ الحُرُوفِ والمُحَقِّقين مِنَ الأَولياءِ قدِ استَخرَجُوا مِن هذه المُقَطَّعاتِ أَسرارًا كَثيرةً جِدًّا، ووَجَدُوا مِنَ الحَقائقِ الجَليلةِ ما يُثبِتُ لَدَيهم أنَّ المُقَطَّعات مُعجِزةٌ باهِرةٌ بحَدِّ ذاتِها. أمّا نحنُ فلن نَفتَحَ ذلك البابَ لأنَّنا لَسنا أَهلًا لِأَسرارِهم، زِدْ على ذلك لا نَستَطِيعُ أن نُثبِتَها إثباتًا يكُونُ مَشهُودًا لَدَى الجَميعِ، وإنَّما نَكتَفي بالإحالةِ إلى ما في “إشاراتِ الإعجازِ” مِن خَمسِ أو سِتِّ لَمَعاتِ إعجازٍ تَخُصُّ المُقَطَّعاتِ.
والآنَ نُشِيرُ عِدّةَ إشاراتٍ إلى أَساليبِ القُرآنِ، باعتِبارِ السُّورةِ، والمَقصَدِ، والآياتِ، والكَلامِ، والكَلِمةِ:
[مثال: سورة النبأ]
فمَثلًا: سُورةُ “النَّبأِ” ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾.. إلى آخِرِها، إذا أُنعِمَ النَّظرُ فيها فإنَّها تَصِفُ وتُثبِتُ أَحوالَ الآخِرةِ والحَشرِ والجَنّةِ وجَهَنَّمَ بأُسلُوبٍ بَدِيعٍ يُطَمْئِنُ القَلبَ ويُقنِعُه، حيثُ تُبيِّنُ أنَّ ما في هذه الدُّنيا مِن أَفعالٍ إلٰهِيّةٍ وآثارٍ رَبّانيّةٍ مُتَوجِّهةٌ إلى كلٍّ مِن تلك الأَحوالِ الأُخرَوِيّةِ؛ ولَمّا كان إيضاحُ أُسلُوبِ السُّورةِ كُلِّها يَطُولُ علَينا، فسنُشِيرُ إلى نُقطةٍ أو نُقطَتَينِ مِنه:
تقُولُ السُّورةُ في مُستَهَلِّها إثباتًا ليَومِ القِيامةِ: لقد جَعَلْنا الأَرضَ لكم مَهْدًا قد بُسِطَ بَسْطًا جَمِيلًا زاهِيًا، والجِبالَ أَعمِدةً وأَوتادًا مَلِيئةً بالخَزائنِ لِمَساكِنِكم وحَياتِكم، وخَلَقناكُم أَزواجًا تَتَحابُّون فيما بَينَكم ويَأنَسُ بَعضُكم ببَعضٍ، وجَعَلْنا اللَّيلَ ساتِرًا لكم لِتَخلُدُوا إلى الرّاحةِ، والنَّهارَ مَيدانًا لِمَعِيشَتِكُم، والشَّمسَ مِصباحًا مَضِيئًا ومُدْفِئًا لكم، وأَنزَلْنا مِنَ السُّحُبِ لكم ماءً باعِثًا على الحَياةِ يَجرِي مَجرَى العُيُونِ، ونُنشِئُ بسُهُولةٍ مِن ماءٍ بَسِيطٍ أَشياءَ شَتَّى مِن مُزهِرٍ ومُثمِرٍ يَحمِلُ أَرزاقَكم.. فإذًا يومُ الفَصلِ -وهو يومُ القِيامةِ- يَنتَظِرُكم؛ والإتيانُ به ليس بعَسيرٍ علَينا.
وبعدَ ذلك يُشِيرُ إشارةً خَفِيّةً إلى إثباتِ ما يَحدُثُ في يومِ القِيامةِ مِن سَيرِ الجِبالِ وتَناثُرِها، وتَشَقُّقِ السَّماواتِ وتَهَيُّؤِ جَهَنَّمَ، ومَنحِ أَهلِ الجَنّةِ الرِّياضَ الجَمِيلةَ؛ وكأنَّه يقُولُ: إنَّ الَّذي يَفعَلُ هذه الأَفعالَ في الجِبالِ والأَرضِ بمَرْأًى مِنكُم سيَفعَلُ مِثلَها في الآخِرةِ، أي إنَّ ما في بِدايةِ السُّورةِ مِن جِبالٍ تُشِيرُ إلى أَحوالِ الجِبالِ يومَ القِيامةِ، وإنَّ الحَدائقَ الَّتي في صَدْرِ السُّورةِ تُشِيرُ إلى رِياضِ الجَنّةِ في الآخِرةِ.. فقِسْ سائرَ النِّقاطِ على هذا لِتُشاهِدَ عُلُوَّ الأُسلُوبِ ومَدَى لَطافَتِه.
[مثال: قل اللهم مالك الملك]
ومَثلًا:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
هذه الآيةُ تُبيِّنُ بأُسلُوبٍ عالٍ رَفيعٍ ما في بَني الإنسانِ مِن شُؤُونٍ إلٰهِيّةٍ، وما في تَعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ مِن تَجَلِّياتٍ إلٰهِيّةٍ، وما في فُصُولِ السَّنةِ مِن تَصَرُّفاتٍ رَبّانيّةٍ، وما في الحَياةِ والمَماتِ والحَشْرِ والنَّشرِ الدُّنيَوِيِّ على وَجهِ الأَرضِ مِن إجراءاتٍ رَبّانيّةٍ.. هذا الأُسلُوبُ عالٍ وبَدِيعٌ إلى حَدٍّ يُسَخِّرُ عُقُولَ أَهلِ النَّظَرِ؛ وحيثُ إنَّ هذا الأُسلُوبَ العاليَ ساطِعٌ يُمكِنُ رُؤيَتُه بأَدنَى نَظَرٍ فلا نَفتَحُ الآنَ هذا الكَنزَ.
[مثال: إذا السماء انشقت]
ومَثلًا:
﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾.
تُبيِّنُ هذه الآياتُ مَدَى انقِيادِ السَّماواتِ والأَرضِ وامتِثالِهما أَوامِرَ اللهِ سُبحانَه، تُبيِّنُها بأُسلُوبٍ عالٍ رَفيعٍ؛ إذ كما أنَّ قائِدًا عَظِيمًا يُؤسِّسُ دائرتَينِ عَسكَريَّتَينِ لإنجازِ مُتَطلَّباتِ الجِهادِ، كشُعَبِ المُناوَرةِ والجِهادِ، وشُعَبِ التَّجنِيدِ والسَّوقِ إلى الجِهادِ، وإنَّه حالَما يَنتَهي وَقتُ الجِهادِ والمُناوَرةِ يَتَوجَّهُ إلى تَينِكَ الدّائِرَتَينِ لِيَستَعمِلَهما في شُؤُونٍ أُخرَى، فقدِ انتَهَت مُهِمَّتُهما.. فكأنَّ كُلًّا مِنَ الدّائرَتَينِ تقُولُ بلِسانِ مُوَظَّفِيها وخُدّامِها أو بلِسانِها لو أُنطِقَتْ:
“يا قائدِي أَمهِلْنا قَليلًا كي نُهيِّئَ أَوضاعَنا ونُطهِّرَ المَكانَ مِن بَقايا أَعمالِنا القَدِيمةِ ونَطرَحَها خارِجًا، ثمَّ شَرِّفْ وتَفَضَّلْ علَينا”، وبعدَ ذلك تقُولُ: “فها قد أَلقَيناها خارِجًا، فنحنُ طَوْعُ أَمرِك، فافعَلْ ما تَشاءُ، فنحنُ مُنقادُون لِأَمرِك، فما تَفعَلُه حَقٌّ وجَميلٌ وخَيرٌ”.
فكَذلِك السَّماواتُ والأَرضُ دائرَتانِ فُتِحَتا للتَّكلِيفِ والِامتِحانِ، فعِندَما تَنقَضِي المُدّةُ، تُخَلِّي السَّماواتُ والأَرضُ بإذنِ اللهِ ما يَعُودُ إلى دائرةِ التَّكليفِ، ويقُولانِ: “يا رَبَّنا استَخدِمْنا فيما تُرِيدُ، فالِامتِثالُ حَقٌّ واجِبٌ علَينا، وكلُّ ما تَفعَلُه هو حَقٌّ”. فانظُرْ إلى سُمُوِّ هذا الأُسلُوبِ الخارِقِ في هذه الجُمَلِ وأَنعِمِ النَّظَرَ فيه.
[مثال: وقيل يا أرض]
ومَثلًا: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
للإشارةِ إلى قَطْرةٍ مِن بَحرِ بَلاغةِ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ نُبيِّنُ أُسلُوبًا مِنها في مَرآةِ التَّمثيلِ، وذلك أنَّ قائدًا عَظِيمًا في حَرْبٍ عالَمِيّةٍ شامِلةٍ يَأمُرُ جَيشَه بعدَ إحرازِ النَّصرِ: “أَوقِفُوا إطلاقَ النّارِ”، ويَأمُرُ جَيشَه الآخَرَ: “كُفُّوا عنِ الهُجُومِ”، ففي اللَّحظةِ نَفسِها يَنقَطِعُ إطلاقُ النّارِ ويَقِفُ الهُجُومُ، ويَتَوجَّهُ إلَيهم قائلًا: “لقدِ انتَهَى كلُّ شيءٍ، واستَوْلَينا على الأَعداءِ، وقد نُصِبَتْ راياتُنا على قِمّةِ قِلاعِهم، ونالَ أُولَئك الظّالِمُون الفاسِدُون جَزاءَهم ووَلَّوْا إلى أَسفَلِ سافِلينَ”.
كذلك، فإنَّ السُّلطانَ الَّذي لا نِدَّ له ولا مَثِيلَ، قد أَمَر السَّماواتِ والأَرضَ بإهلاكِ قَومِ نُوحٍ، وبعدَ أنِ امتَثَلا الأَمرَ تَوَجَّه إلَيهِما: “أيَّتُها الأَرضُ ابلَعِي ماءَكِ، وأَنتِ أيَّتُها السَّماءُ اسكُنِي واهْدَئي فقدِ انتَهَت مُهِمَّتُكما؛ فانسَحَبَ الماءُ فَورًا مِن دُونِ تَرَيُّثٍ، واستَوَت سَفِينةُ المَأمُورِ الإلٰهِيِّ كخَيمةٍ ضُرِبَت على قِمّةِ جَبَلٍ، ولَقِيَ الظّالِمُون جَزاءَهم”.
فانظُرْ إلى عُلُوِّ هذا الأُسلُوبِ، إذِ الأَرضُ والسَّماءُ كجُندِيَّينِ مُطِيعَينِ مُستَعِدَّينِ للطّاعةِ وتَلَقِّي الأَوامِرِ، فتُشِيرُ الآيةُ بهذا الأُسلُوبِ إلى أنَّ الكائناتِ تَغضَبُ مِن عِصيانِ الإنسانِ وتَغتاظُ مِنه السَّماواتُ والأَرضُ؛ وبهذه الإشارةِ تقُولُ: “إنَّ الَّذي تَمتَثِلُ السَّماواتُ والأَرضُ بأَمرِه لا يُعصَى ولا يَنبَغي أن يُعصَى”، مِمّا يُفيدُ زَجْرًا شَدِيدًا رادِعًا للإنسانِ؛ فأنت تَرَى أنَّ الآيةَ قد جَمَعَت ببَيانٍ مُوجَزٍ مُعجِزٍ جَمِيلٍ مُجمَلٍ في بِضعِ جُمَلٍ حادِثةَ الطُّوفانِ الَّتي هي عامّةٌ وشامِلةٌ معَ جَميعِ نَتائجِها وحَقائقِها.. فقِسْ قَطَراتِ هذا البَحرِ الأُخرَى على هذه القَطْرةِ.
[مثال: والقمر قدرناه منازل]
والآنَ انظُرْ إلى الأُسلُوبِ الَّذي يُرِيه القُرآنُ مِن نَوافِذِ الكَلِماتِ: فمَثلًا إلى كَلِمةِ: ﴿كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ في الآيةِ الكَريمةِ: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ كيف تَعرِضُ أُسلُوبًا في غايةِ اللُّطفِ.
وذلك أنَّ للقَمَرِ مَنزِلًا هو دائرةُ الثُّرَيّا، حِينَما يكُونُ القَمَرُ هِلالًا فيه يُشبِهُ عُرجُونًا قَدِيمًا أَبيَضَ اللَّونِ. فتَضَعُ الآيةُ بهذا التَّشبِيهِ أَمامَ عَينِ خَيالِ السّامِعِ، كأنَّ وَراءَ سِتارِ الخَضراءِ شَجَرةً شَقَّ أَحَدُ أَغصانِها النُّورانيّةِ المُدَبَّبةِ البَيضاءِ ذلك السِّتارَ ومَدَّ رَأسَه إلى الخارِجِ، والثُّرَيّا كأَنَّها عُنقُودٌ مُعلَّقٌ فيه، وسائرُ النُّجُومِ كالثَّمَراتِ النُّورانيّةِ لِشَجَرةِ الخِلقةِ المَستُورةِ.. ولا جَرَمَ فإنَّ عَرضَ الهِلالِ بهذا التَّشبِيهِ لأُولَئك الَّذين مَصدَرُ عَيشِهم ومُعظَمُ قُوْتِهِم مِنَ النَّخيلِ هو أُسلُوبٌ في غايةِ الحُسنِ واللَّطافةِ، وفي مُنتَهَى التَّناسُقِ والعُلُوّ. فإن كُنتَ صاحِبَ ذَوقٍ تُدرِكْ ذلك.
[مثال: والشمس تجري]
ومَثلًا: كَلِمةُ ﴿تَجْرِي﴾ في الآيةِ الكَريمةِ: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾ تَفتَحُ نافِذةً لِأُسلُوبٍ عالٍ -كما أُثبِتَ في خِتامِ الكَلِمةِ التّاسِعةَ عَشْرةَ- وذلك:
إنَّ لَفظَ ﴿تَجْرِي﴾ الَّذي يَعنِي دَوَرانَ الشَّمسِ، يُفهِّمُ عَظَمةَ الصّانِعِ الجَليلِ بتَذكِيرِه تَصَرُّفاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ المُنتَظِمةِ في دَوَرانِ الصَّيفِ والشِّتاءِ وتَعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ، ويَلفِتُ الأَنظارَ إلى المَكتُوباتِ الصَّمَدانيّةِ الَّتي كَتَبَها قَلَمُ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ في صَحائفِ الفُصُولِ، فيُعَلِّمُ حِكمةَ الخالِقِ ذِي الجَلالِ.
[مثال: وجعل الشمس سراجًا]
وإنَّ قَولَه تَعالَى: ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ أي: مِصباحًا، يَفتَحُ بتَعبِيرِ ﴿سِرَاجًا﴾ نافِذةً لِمِثلِ هذا الأُسلُوبِ.
وهو أنَّه يُفَهِّمُ عَظَمةَ الصّانِعِ وإحسانَ الخالِقِ بتَذكِيرِه أنَّ هذا العالَمَ كأنَّه قَصرٌ، وأنَّ ما فيه مِن لَوازِمَ وأَطعِمةٍ وزِينةٍ قد أُعِدَّت للإنسانِ وذَوِي الحَياةِ، وأنَّ الشَّمسَ أيضًا ما هي إلّا مِصباحٌ مُسَخَّرٌ؛ فيُبيِّنُ بهذا دَليلًا للتَّوحِيدِ، إذِ الشَّمسُ الَّتي يَتَوهَّمُها المُشرِكُونَ أَعظَمَ مَعبُودٍ لَدَيهِم وأَلمَعَها ما هي إلّا مِصباحٌ مُسَخَّرٌ ومَخلُوقٌ جامِدٌ.
فإذًا بتَعبِيرِ ﴿سِرَاجًا﴾ يُذَكِّرُ رَحمةَ الخالِقِ في عَظَمةِ رُبُوبيَّتِه، ويُفَهِّمُ إحسانَه في سَعةِ رَحمَتِه، ويُشعِرُ بذلك الإفهامِ بكَرَمِه في عَظَمةِ سُلطانِه، ويُفَهِّمُ الوَحدانيّةَ بهذا الإشعارِ؛ وكأنَّه يقُولُ: إنَّ مِصباحًا مُسَخَّرًا وسِراجًا جامِدًا لا يَستَحِقُّ العِبادةَ بأيِّ حالٍ مِنَ الأَحوالِ.
ثمَّ إنَّ جَرَيانَ الشَّمسِ بتَعبِيرِ ﴿تَجْرِي﴾ يُذَكِّرُ بتَصَرُّفاتٍ مُنتَظِمةٍ مُثِيرةٍ للإعجابِ في دَوَرانِ الصَّيفِ والشَّتاءِ واللَّيلِ والنَّهارِ، ويُفَهِّمُ بذلك التَّذكِيرِ عَظَمةَ قُدرةِ الصّانِعِ المُتَفرِّدِ في رُبُوبيَّتِه؛ بمَعنَى أنَّه يَصرِفُ ذِهنَ الإنسانِ مِنَ الشَّمسِ والقَمَرِ إلى صَحائفِ اللَّيلِ والنَّهارِ والصَّيفِ والشِّتاءِ، ويَجلِبُ نَظَرَه إلى ما في تلك الصَّحائفِ مِن سُطُورِ الحادِثاتِ المَكتُوبةِ.
أَجَل، إنَّ القُرآنَ لا يَبحَثُ في الشَّمسِ لِذاتِ الشَّمسِ بل لِمَن نَوَّرَها وجَعَلَها سِراجًا، ولا يَبحَثُ في ماهِيَّتِها الَّتي لا يَحتاجُها الإنسانُ، بل في وَظِيفَتِها، إذ هي تُؤَدِّي وَظيفةَ نابِضٍ “زُنْبُرُك” لِانتِظامِ الصَّنعةِ الرَّبّانيّةِ، ومَركَزٍ لِنِظامِ الخِلقةِ الرَّبّانيّةِ، ومَكُّوكٍ لِانسِجامِ الصَّنعةِ الرَّبّانيّةِ، في الأَشياءِ الَّتي يَنسُجُها المُصَوِّرُ الأَزَليُّ بخُيُوطِ اللَّيلِ والنَّهارِ.
ويُمكِنُك أن تَقِيسَ على هذا سائرَ الكَلِماتِ القُرآنيّةِ، فهي وإن كانَت تَبدُو كأنَّها كَلِماتٌ مَألُوفةٌ بَسِيطةٌ، إلّا أنَّها تُؤَدِّي مُهِمّةَ مَفاتيحَ لِكُنُوزِ المَعاني اللَّطيفةِ.
وهَكذا، فلِعُلُوِّ أُسلُوبِ القُرآنِ -كما في الوُجُوهِ السّابِقةِ في الأَغلَبِ- كان الأَعرابيُّ يَعشَقُ كَلامًا واحِدًا مِنه أَحيانًا، فيَسجُدُ قَبلَ أن يُؤمِنَ، كما سَمِعَ أَحَدُهمُ الآيةَ الكَرِيمةَ: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ فخَرَّ ساجِدًا، فلَمّا سُئلَ: “أَأَسلَمتَ؟” قال: “لا، بل أَسجُدُ لِبَلاغةِ هذا الكَلامِ!”.
[النقطة الرابعة: فصاحة اللفظ]
النُّقطة الرابعة: الفَصاحةُ الخارِقةُ في لَفظِه.
نعم، إنَّ القُرآنَ كما هو بَليغٌ خارِقٌ مِن حَيثُ أُسلُوبُه وبَيانُ مَعناه، فهو فَصِيحٌ في غايةِ السَّلاسةِ في لَفظِه؛ والدَّليلُ القاطِعُ على فَصاحَتِه هو عَدَمُ إيراثِه السَّأَمَ والمَلَلَ؛ كما أنَّ شَهادةَ عُلَماءِ عِلمِ البَيانِ والمَعاني بُرهانٌ باهِرٌ على حِكمةِ فَصاحَتِه.
نعم، لو كُرِّرَ أُلُوفَ المَرّاتِ فلا يُورِثُ سَأَمًا ولا مَلَلًا، بل يَزِيدُ لَذّةً وحَلاوةً؛ ثمَّ إنَّه لا يَثقُلُ على ذِهنِ صَبِيٍّ بَسِيطٍ فيَستَطيعُ حِفظَه؛ ولا تَسأَمُ مِنه أُذُنُ المُصابِ بداءٍ عُضالٍ الَّذي يَتَأذَّى مِن أَدنَى كَلامٍ، بل يَتَلذَّذُ به؛ وكأنَّه الشَّرابُ العَذبُ في فَمِ المُحتَضَرِ الَّذي يَتَقلَّبُ في السَّكَراتِ، وهو لَذيذٌ في أُذُنِه ودَماغِه لَذّةَ ماءِ زَمزَمَ في فَمِه.
والحِكمةُ في عَدَم المَلَلِ والسَّأَمِ مِنَ القُرآنِ هو أنَّ القُرآنَ قُوتٌ وغِذاءٌ للقُلُوبِ، وقُوّةٌ وغَناءٌ للعُقُولِ، وماءٌ وضِياءٌ للأَرواحِ، ودَواءٌ وشِفاءٌ للنُّفُوسِ، لِذا لا يُمَلُّ؛ مِثالُه الخُبزُ الَّذي نَأكُلُه يَومِيًّا دُونَ أن نَمَلَّ، بَينَما لو تَناوَلْنا أَطيَبَ فاكِهةٍ يَوميًّا لَشَعَرنا بالمَلَلِ.
فإذًا لأنَّ القُرآنَ حَقٌّ وحَقيقةٌ وصِدقٌ وهُدًى وذُو فَصاحةٍ خارِقةٍ، فلا يُورِثُ المَلَلَ والسَّآمةَ، وإنَّما يُحافِظُ على شَبابِيَّتِه دائمًا كما يُحافِظُ على طَراوَتِه وحَلاوَتِه، حتَّى إنَّ أَحَدَ رُؤَساءِ قُرَيشٍ وبُلَغائِها عِندَما ذَهَب إلى الرَّسُولِ الكَريمِ لِيَسمَعَ القُرآنَ، قالَ بعدَ سَماعِه له: “واللهِ إنَّ له لَحَلاوةً، وإنَّ علَيه لَطَلاوةً.. وما يقُولُه بَشَرٌ. ثمَّ قالَ لِقَومِه: واللهِ ما فيكُم رَجُلٌ أَعلَمُ بالشِّعرِ مِنِّي، ولا بأَشعارِ الجِنِّ، واللهِ ما يُشبِهُ الَّذي يقُولُ شَيئًا مِن هذا”.
فلم يَبقَ أَمامَهم إلّا أن يقُولُوا: إنَّه ساحِرٌ، لِيُغَرِّرُوا به أَتباعَهم ويَصُدُّوهم عنه. وهكذا يَبقَى حتَّى أَعتَى أَعداءِ القُرآنِ مَبُهوتًا أَمامَ فَصاحَتِه.
[مثال: ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة]
إنَّ إيضاحَ أَسبابِ الفَصاحةِ في آياتِ القُرآنِ الكَرِيمِ وفي كَلامِه وفي جُمَلِه يَطُولُ كَثيرًا، فتَفادِيًا مِنَ الإطالةِ نَقصُرُ الكَلامَ على إظهارِ لَمعةِ إعجازٍ تَتَلمَّعُ مِن أَوضاعِ الحُرُوفِ الهِجائيّةِ وكَيفيّاتِها في آيةٍ واحِدةٍ فقط على سَبِيلِ المِثالِ، وهي قَولُه تَعالَى:
﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.
لقد جَمَعَتْ هذه الآيةُ جَمِيعَ حُرُوفِ الهِجاءِ وأَجناسَ الحُرُوفِ الثَّقيلةِ، ومعَ ذلك لم يُفقِدْها هذا الجَمعُ سَلاسَتَها، بل زادَها بَهاءً إلى جَمالِها، ومَزَج نَغْمةً مِنَ الفَصاحةِ نَبَعَت مِن أَوتارٍ مُتَناسِبةٍ مُتَنوِّعةٍ.
فأَنعِمِ النَّظَرَ في هذه اللَّمعةِ ذاتِ الإعجازِ، وهي أنَّ الأَلِفَ والياءَ لأَنَّهما أَخَفُّ حُرُوفِ الهِجاءِ، وتَنقَلِبُ إحداهُما بالأُخرَى كأنَّهما أُختانِ، تَكَرَّر كلٌّ مِنهما إحدَى وعِشرِين مَرّةً.
وأنَّ المِيمَ والنُّونَ1والتَّنوينُ أيضًا نون. لأنَّهما أُختانِ، ويُمكِنُ أن تَحُلَّ إحداهما مَحَلَّ الأُخرَى فقد ذُكِرَ كلٌّ مِنهما ثلاثًا وثلاثين مَرّةً.
وأنَّ الصّادَ والسِّينَ والشِّينَ مُتَآخِيةٌ حَسَبَ المَخرَجِ والصِّفةِ والصَّوتِ، فذُكِرَ كلُّ واحِدٍ مِنها ثلاثَ مَرّاتٍ.
وأنَّ العَينَ والغَينَ مُتَآخِيَتانِ، فذُكِرَتِ العَينُ سِتَّ مَرّاتٍ لِخِفَّتِها، بَينَما الغَينُ لِثِقَلِها ذُكِرَت ثلاثَ مرّاتٍ، أي: نِصفَه.
وأنَّ الطّاءَ والظّاءَ والذّالَ والزّايَ، مُتَآخِيةٌ حَسَبَ المَخرَجِ والصِّفةِ والصَّوتِ، فذُكِرَ كلُّ واحِدٍ مِنها مَرَّتَينِ.
وأنَّ اللّامَ والأَلِفَ مُتَّحِدَتانِ في صُورةِ “لا”، وأنَّ حِصّةَ الأَلِفِ نِصفٌ في صُورةِ “لا”، فذُكِرَتِ اللّامُ اثنَتَينِ وأَربَعين مَرّةً، وذُكِرَتِ الأَلِفُ -نِصفُها- إحدَى وعِشرِين مرّةً.
وأنَّ الهَمزةَ والهاءَ مُتَآخِيَتانِ حَسَبَ المَخرَجِ، فذُكِرَتِ الهَمزةُ ثلاثَ عَشْرةَ مرّةً2الهَمزةُ المَلفُوظةُ وغيرُ المَلفُوظةُ هي خَمسٌ وعِشرُون. وهي فوقَ أُختِها وهي الألف السَّاكنةُ بِثلاثِ دَرَجاتٍ، لأنَّ الحَرَكةَ ثلاثة. والهاءُ أَربَعَ عَشْرةَ مَرّةً لِكَونِها أَخَفَّ مِنها بدَرَجةٍ.
وأنَّ القافَ والفاءَ والكافَ مُتَآخِيةٌ، فذُكِرَتِ القافُ عَشْرَ مَرّاتٍ لِزِيادةِ نُقطةٍ فيها، وذُكِرَتِ الفاءُ تِسعَ مَرّاتٍ والكافُ تِسعًا.
وأنَّ الباءَ ذُكِرَت تِسعَ مَرّاتٍ، والتّاءَ ذُكِرَت اثنَتَي عَشْرةَ مَرّةً، لأنَّ دَرَجَتَها ثلاثةٌ.
وأنَّ الرّاءَ أُختُ اللّامِ، ولكنَّ الرّاءَ مِئَتانِ واللّامَ ثلاثُون حَسَبَ حِسابِ “أَبجَدِيّةِ الجُمَّلِ”، أي إنَّ الرّاءَ فوقَ اللّامِ بسِتِّ دَرَجاتٍ، فانخَفَضَت عنها بسِتِّ دَرَجاتٍ؛ وأيضًا الرَّاءُ تَتَـكرَّرُ كَثيرًا في التَّلَفُّظِ، فيَثقُلُ، فذُكِرَت سِتَّ مَرّاتٍ فقط.
ولأنَّ الخاءَ والحاءَ والثّاءَ والضّادَ ثَقيلةٌ وبَينَها مُناسَباتٌ، ذُكِرَ كلٌّ مِنها مَرَّةً واحِدةً.
ولأنَّ الواوَ أَخَفُّ مِنَ “الهاءِ والهَمْزةِ” وأَثقَلُ مِنَ “الياءِ والأَلِفِ” ذُكِرَت سَبعَ عَشْرةَ مَرّةً فوقَ الهَمزةِ الثَّقيلةِ بأَربَعِ دَرَجاتٍ وتحتَ الأَلِفِ الخَفيفةِ بأَربَعِ دَرَجاتٍ أيضًا.
وهكذا، فإنَّ هذه الحُرُوفَ بهذا الوَضعِ المُنتَظِمِ الخارِقِ، مع تلك المُناسَباتِ الخَفِيّةِ، والِانتِظامِ الجَمِيلِ، والنِّظامِ الدَّقيقِ، والِانسِجامِ اللَّطيفِ تُثبِتُ بيَقينٍ جازِمٍ كحاصِلِ ضَرْبِ اثنَينِ في اثنَينِ يُساوِي أَربعًا أنَّه ليس مِن شَأْنِ البَشَرِ ولا يُمكِنُهم أن يَفعَلُوه.. أمّا المُصادَفةُ فمُحالٌ أن تَلعَبَ به.
وهكذا، فإنَّ ما في أَوضاعِ هذه الحُرُوفِ مِنَ الِانتِظامِ العَجِيبِ والنِّظامِ الغَرِيبِ مِثلَما هو مَدارٌ للفَصاحةِ والسَّلاسةِ اللَّفظيّةِ، يُمكِنُ أن تكُونَ له حِكَمٌ كَثيرةٌ أُخرَى؛ فما دامَ في الحُرُوفِ هذا الِانتِظامُ، فلا شَكَّ أنَّه قد رُوعِيَ في كَلِماتِها وجُمَلِها ومَعانيها انتِظامٌ ذُو أَسرارٍ، وانسِجامٌ ذُو أَنوارٍ، لو رَأَتْه العَينُ لَقالَت مِن إعجابِها: “ما شاءَ الله!”، وإذا أَدرَكَه العَقلُ لَقالَ مِن حَيرَتِه: “بارَكَ اللهُ”.
[النقطة الخامسة: براعة البيان]
النُّقطة الخامسة: بَراعةُ البَيانِ. أي: التَّفَوُّقُ والمَتانةُ والهَيبةَ، إذ كما أنَّ في نَظْمِ القُرآنِ جَزالةً، وفي لَفظِه فَصاحةً، وفي مَعناه بَلاغةً، وفي أُسلُوبِه إبداعًا، ففي بَيانِه أيضًا بَراعةٌ فائقةٌ.
نعم، إنَّ بَيانَ القُرآنِ لَهُو في أَعلَى مَراتِبِ أَقسامِ الكَلامِ وطَبَقاتِ الخِطابِ، كالتَّرغِيبِ والتَّرهِيبِ، والمَدْحِ والذَّمِّ، والإثباتِ والإرشادِ، والإفهامِ والإفحامِ.
[مقام الترغيب]
فمِن بينِ آلافِ أَمثِلةِ مَقامِ “التَّرغِيبِ والتَّشوِيقِ” سُورةُ “الإنسانِ”، إذ بَيانُ القُرآنِ في هذه السُّورةِ سَلِسٌ يَنسابُ كالسَّلسَبِيلِ، ولَذِيذٌ كثِمارِ الجَنّةِ، وجَميلٌ كحُلَلِ الحُورِ العِينِ3هَذا الأُسلوبُ قد لَبِس حُلَلَ مَعاني السُّورة نفسِها..
[مقام الترهيب]
ومِن بينِ الأَمثِلةِ الَّتي لا تُحَدُّ لِمَقامِ “التَّرهِيبِ والتَّهدِيدِ” مُقدِّمةُ سُورةِ “الغاشِيةِ”، إذ بَيانُ القُرآنِ في هذه السُّورةِ يُؤَثِّر تَأثِيرَ غَلَيانِ الرَّصاصِ في صِماخِ الضَّالِّين، ولَهِيبَ النَّارِ في عُقُولِهم، وكالزَّقُّومِ في حُلُوقِهم، وكلَفْحِ جَهَنَّمَ في وُجُوهِهم، وكالضَّرِيعِ الشّائكِ في بُطُونِهم. نعم، إن كانَت مَأمُورةُ العَذابِ جَهَنَّمُ ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾، فكيف يكُونُ تَهديدُ وتَرهيبُ آمِرِها بالعَذابِ؟!
[مقام المدح]
ومِن بينِ آلافِ أَمثِلةِ مَقامِ “المَدحِ“، السُّوَرُ الخَمسُ المُستَهَلّةُ بـ”الحَمدُ للهِ”، إذ بَيانُ القُرآنِ في هذه السُّوَرِ ساطِعٌ كالشَّمسِ4في هَذه العِباراتِ إشَارةٌ لِمَوضُوعاتِ تِلك السُّور.، مُزيَّنٌ كالنُّجومِ، مَهِيبٌ كالسَّماواتِ والأَرضِ، مَحبُوبٌ مَأنُوسٌ كالمَلائكةِ، لَطِيفٌ رَؤُوفٌ كالرَّحمةِ على الصِّغارِ في الدُّنيا، وجَميلٌ بَهيجٌ كالجَنّةِ اللَّطيفةِ في الآخِرةِ.
[مقام الذم]
ومِن بينِ آلافِ أَمثِلةِ مَقامِ “الذَّمِّ والزَّجرِ” الآيةُ الكَريمةُ: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾.
تَنهَى هذه الآيةُ الكَرِيمةُ عنِ الغِيبةِ بسِتِّ مَراتِبَ وتَزجُرُ عنها بشِدّةٍ وعُنفٍ، وحيثُ إنَّ خِطابَ الآيةِ مُوَجَّهٌ إلى المُغتابِين، فيكُونُ المَعنَى كالآتي: إنَّ الهَمزةَ المَوجُودةَ في البِدايةِ للِاستِفهامِ الإنكارِيِّ، حيثُ يَسرِي حُكمُه ويَسِيلُ كالماءِ إلى جَميعِ كَلِماتِ الآيةِ، فكُلُّ كَلِمةٍ مِنها تَتَضمَّنُ حُكْمًا:
ففي الكَلِمةِ الأُولَى تُخاطِبُ الآيةُ الكَرِيمةُ بالهَمزةِ: ألَيسَ لكُم عَقلٌ -وهو مَحَلُّ السُّؤالِ والجَوابِ- لِيَعيَ هذا الأَمرَ القَبِيحَ؟
وفي الكَلِمةِ الثّانية: ﴿أَيُحِبُّ﴾ تُخاطِبُ الآيةُ بالهَمزةِ: هل فَسَد قَلبُكم -وهو مَحَلُّ الحُبِّ والبُغضِ- حتَّى أَصبَحَ يُحِبُّ أَكرَهَ الأَشياءِ وأَشَدَّها تَنفِيرًا؟
وفي الكَلِمةِ الثّالثةِ: ﴿أَحَدُكُمْ﴾ تُخاطِبُ بالهَمزةِ: ماذا جَرَى لِحَياتِكُمُ الِاجتِماعيّةِ الَّتي تَستَمِدُّ حَيَويَّتَها مِن حَيَويّةِ الجَماعةِ، وما بالُ مَدَنيَّتِكم وحَضارَتِكم حتَّى أَصبَحَت تَرضَى بما يُسَمِّمُ حَياتَكم ويُعكِّرُ صَفْوَكم.
وفي الكَلِمةِ الرّابعةِ: ﴿أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ﴾ تُخاطِبُ بالهَمزةِ: ماذا أَصابَ إنسانيَّـتَـكم حتَّى أَصبَحتُم تَفتَرِسُون صَدِيقَكمُ الحَميمَ. وفي الكَلِمةِ الخامِسةِ: ﴿أَخِيهِ﴾ تُخاطِبُ بالهَمزةِ: ألَيس بكُم رَأفةٌ ببَني جِنسِكم؟ ألَيس لكُم صِلةُ رَحِمٍ تَربِطُكم معَهم، حتَّى أَصبَحتُم تَفتِكُون بمَن هو أَخُوكم مِن عِدّةِ جِهاتٍ، وتَنهَشُون شَخْصَه المَعنَوِيَّ المَظلُومَ نَهشًا قاسِيًا؟ أَيَملِكُ عَقلًا مَن يَعَضُّ عُضْوًا مِن جِسمِه؟ أوَليس هو بمَجنُونٍ؟!
وفي الكَلِمةِ السّادِسةِ: ﴿مَيْتًا﴾ تُخاطِبُ بالهَمزةِ: أين وِجدانُـكم؟ أفَسَدَت فِطرَتُكم حتَّى أَصبَحتُم تَجتَرِحُون أَبغَضَ الأَشياءِ وأَفسَدَها، وهو أَكلُ لَحمِ أَخيكم، في الوَقتِ الَّذي هو جَدِيرٌ بكُلِّ احتِرامٍ وتَوقيرٍ؟!
يُفهَمُ مِن هذه الآيةِ الكَرِيمةِ -وبما ذَكَرناه مِن دَلائلَ مُختَلِفةٍ في كَلِماتِها- أنَّ الغِيبةَ مَذمُومةٌ عَقلًا وقَلْبًا وإنسانيّةً ووِجدانًا وفِطرةً ومِلّةً.
فتَدَبَّرْ هذه الآيةَ الكَرِيمةَ، وانظُر كيف أنَّها تَزْجُرُ عن جَرِيمةِ الغِيبةِ بإعجازٍ بالِغٍ وبإيجازٍ شَدِيدٍ في سِتِّ مَراتِبَ.
[مقام الإثبات]
ومِن بينِ آلافِ أَمثِلةِ مَقامِ “الإثباتِ” الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، فإنَّها تُثبِتُ الحَشْرَ وتُزِيلُ استِبعادَه ببَيانٍ شافٍ ووافٍ لا بَيانَ فَوقَه، وذلك كما أَثبَتْنا في “الحَقيقةِ التّاسِعةِ مِنَ الكَلِمةِ العاشِرةِ” وفي “اللَّمعةِ السّادِسةِ مِنَ الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِين” بأنَّه كُلَّما حَلَّ مَوسِمُ الرَّبيعِ، فكأنَّ الأَرضَ تُبعَثُ مِن جَديدٍ بانبِعاثِ ثلاثِ مِئةِ أَلفِ نَوعٍ مِن أَنواعِ الحَشْرِ والنُّشُورِ، في انتِظامٍ مُتقَنٍ وتَميِيزٍ تامٍّ، عِلمًا أنَّها في مُنتَهَى الِاختِلاطِ والتَّشابُكِ، حتَّى يكُونُ ذلك الإحياءُ والبَعْثُ ظاهِرًا لكُلِّ مُشاهِدٍ، وكأنَّه يقُولُ له: إنَّ الَّذي أَحيا الأَرضَ هكذا لن يَصعُبَ علَيه إقامةُ الحَشْرِ والنُّشُورِ.
ثمَّ إنَّ كِتابةَ هذه الأُلُوفِ المُؤَلَّفةِ مِن أَنواعِ الأَحياءِ على صَحِيفةِ الأَرضِ بقَلَمِ القُدرةِ دُونَ خَطَأٍ ولا نَقْصٍ لَهِي خَتْمٌ واضِحٌ للواحِدِ الأَحَدِ، فكما أَثبَتَت هذه الآيةُ الكَرِيمةُ التَّوحِيدَ، تُثبِتُ القِيامةَ والحَشْرَ أيضًا مُبيِّنةً أنَّ الحَشْرَ والنُّشُورَ سَهلٌ على تلك القُدرةِ، وقَطعِيٌّ ثابِتٌ كقَطعِيّةِ ثُبُوتِ غُرُوبِ الشَّمسِ وشُرُوقِها.
ثمَّ إنَّ الآيةَ الكَرِيمةَ إذ تُبيِّنُ هذه الحَقيقةَ بلَفظِ ﴿كَيْفَ﴾ أي: مِن زاوِيةِ الكَيفيّةِ، فإنَّ سُوَرًا أُخرَى كَثيرةً قد فَصَّلَت تلك الكَيفيّةَ؛ مِنها: سُورةُ “قٓ” مَثلًا، فإنَّها تُثبِتُ الحَشرَ والقِيامةَ ببَيانٍ رَفيعٍ جَميلٍ باهِرٍ يُفيدُ أنَّه لا رَيبَ في مَجيءِ الحَشرِ كما لا رَيبَ في مَجيءِ الرَّبيعِ؛ فتَأَمَّلْ في جَوابِ القُرآنِ لِلكُفّارِ المُنكِرِين وتَعَجُّبِهم مِن إحياءِ العِظامِ وتَحَوُّلِها إلى خَلقٍ جَديدٍ، إذ يقُولُ لهم:
﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾.
فهذا البَيانُ يَسِيلُ كالماءِ الرَّقْراقِ، ويَسطَعُ كالنُّجُومِ الزّاهِرةِ، وهو يُطعِمُ القَلبَ ويُغَذِّيه بغِذاءٍ حُلوٍ طَيِّبٍ كالرُطَبِ، فيكُونُ غِذاءً ويكُونُ لَذّةً في الوَقتِ نَفسِه.
[مقام ثانٍ للإثبات]
ومِن أَلطَفِ أَمثِلةِ مَقامِ “الإثباتِ” هذا المثالُ: ﴿يس * وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾. هذا القَسَمُ يُشِيرُ إلى أنَّ حُجّةَ الرِّسالةِ وبُرهانَها يَقينٌ جازِمٌ وحَقٌّ واضِحٌ حتَّى بَلَغَتْ في الحَقَّانيّةِ والصِّدقِ مَرتَبةَ التَّعظِيمِ والإجلالِ، فيُقْسَمُ به.
يقُولُ القُرآنُ الكَريمُ بهذه الإشارةِ: إنَّك رَسُولٌ لِأنَّ في يَدِك قُرآنًا حَكِيمًا، والقُرآنُ نَفسُه حقٌّ وكَلامُ الحَقِّ، لأنَّ فيه الحِكمةَ الحَقّةَ، وعلَيه خَتْمَ الإعجازِ.
[مقام ثالث للإثبات]
ونَذكُرُ مِن أَمثِلةِ مَقامِ “الإثباتِ” ذاتِ الإعجازِ والإيجازِ هذه الآيةَ الكَرِيمةَ: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾.
ففي المِثالِ الثّالثِ مِنَ الحَقيقةِ التّاسِعةِ للكَلِمةِ العاشِرةِ تَصويرٌ لَطِيفٌ لهذه المَسأَلةِ، على النَّحوِ الآتي: لو أنَّ قائِدًا عَظِيمًا شَكَّلَ أمامَ أَنظارِنا جَيشًا ضَخْمًا في يومٍ واحِدٍ؛ فلو قالَ أَحَدُهم: إنَّ هذا الشَّخصَ يُمكِنُه أن يَجمَعَ جُنُودَ طابُورِه المُتَفرِّقين للِاستِراحةِ ببُوقٍ عَسكَرِيٍّ فيَنتَظِمُ له الطّابُورُ حالًا. وأنت أيُّها الإنسانُ إن قُلتَ: لا أُصَدِّقُ!! تُدرِكُ عِندَئذٍ مَدَى بُعدِ إنكارِك عنِ العَقلِ. والأَمرُ كذلك -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى – أنَّ الَّذي يَبعَثُ أَجسادَ الأَحياءِ قاطِبةً مِن غيرِ شيءٍ، كأنَّها أَفرادُ جَيشٍ ضَخمٍ بكَمالِ الِانتِظامِ وبمِيزانِ الحِكمةِ، ويَجمَعُ ذَرّاتِ تلك الأَجسادِ ولَطائِفَها ويَحفَظُها بأَمرِ ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ في كلِّ قَرْنٍ، بل في كلِّ رَبيعٍ، على وَجهِ الأَرضِ كافّةً، ويُوجِدُ مِئاتِ الأُلُوفِ مِن أَمثالِها مِن أَنواعِ ذَوِي الحَياةِ. إنَّ القَدِيرَ العَليمَ الَّذي يَفعَلُ هذا هل يُمكِنُ أن يُستَبعَدَ مِنه جَمعُ الذَّرّاتِ الأَساسيّةِ والأَجزاءِ الأَصليّةِ المُتَعارِفةِ تحتَ نِظامِ الجَسَدِ كأنَّها أَفرادُ جَيشٍ مُنَظَّمٍ، بصَيحةٍ مِن صُورِ إسرافيلَ؟ إنَّ استِبعادَ هذا مِن ذلِكُمُ القَديرِ العَليمِ لا مَحالةَ جُنُونٌ!
[مقام الإرشاد]
وفي مَقامِ “الإرشاد” فإنَّ البَياناتِ القُرآنيّةَ مُؤثِّرةٌ ورَفيعةٌ ومُؤنِسةٌ ورَقيقةٌ، حتَّى إنَّها تَملَأُ الرُّوحَ شَوْقًا والعَقلَ لَهْفةً والعَينَ دَمْعًا؛ فلْنأخُذ هذا المِثالَ مِن بينِ آلافِ أَمثِلَتِه:
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
فكما أَوضَحْنا وأَثبَتْنا في مَبحَثِ الآيةِ الثَّالثةِ مِنَ “المَقامِ الأَوَّلِ للكَلِمةِ العِشرِين” فإنَّ الآيةَ هذه تُخاطِبُ بني إسرائيلَ قائلةً: ماذا أَصابَكُم يا بَني إسرائيلَ حتَّى لا تُبالُوا بجَميعِ مُعجِزاتِ مُوسَى عَليهِ السَّلام؟! فعُيُونُـكم شاخِصةٌ جافّةٌ لا تَدمَعُ، وقُلُوبُكم قاسِيةٌ غَلِيظةٌ لا حَرارةَ فيها ولا شَوْقَ، بَينَما الحِجارةُ الصَّلْدةُ القاسِيةُ قد ذَرَفَتِ الدُّمُوعَ مِنِ اثنَتَيْ عَشْرةَ عَينًا بضَربةٍ مِن عَصا مُوسَى عَليهِ السَّلام، وهي مُعجِزةٌ واحِدةٌ مِن مُعجِزاتِه!
نكتَفي بهذا القَدْرِ هنا، ونُحِيلُ إلى تلك الكَلِمةِ حيثُ وُضِّحَ هذا المَعنَى الإرشادِيُّ إيضاحًا كافِيًا.
[مقام الإفحام والإلزام]
وفي مَقامِ “الإفحامِ والإلزامِ” تَأَمَّلْ في هذَينِ المِثالَينِ فحَسْبُ مِن بينِ آلافِ أَمثِلَتِه:
المِثالُ الأوَّل:
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
سنُشِيرُ هنا إشارةً مُجمَلةً فحَسْبُ، إذ قد أَوضَحْناه وأَثبَتْناه وأَشَرْنا إلَيه في “إشاراتِ الإعجازِ”، وهو أنَّ القُرآنَ المُعجِزَ البَيانِ يقُولُ: يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ.. إن كانَت لَدَيكم شُبهةٌ في أنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ، وتَتَوهَّمُون أنَّه مِن كَلامِ بَشَر، فهَيّا، فها هو مَيدانُ التَّحَدِّي، فائْتُوا بقُرآنٍ مِثلِ هذا يَصدُرُ عن شَخصٍ أُمِّيٍّ لا يَعرِفُ القِراءةَ ولا الكِتابةَ، مِثلَ مُحمَّدٍ الَّذي تَصِفُونه أنتُم بـ”الأَمينِ”.
فإن لم تَفعَلُوا هذا فائْتُوا به مِن غيرِ أُمِّيٍّ، ولْيَكُن عالِمًا بَلِيغًا؛ فإن لم تَفعَلُوا هذا فائْتُوا به مِن جَماعةٍ مِنَ البُلَغاءِ وليس مِن شَخصٍ واحِدٍ، بلِ اجْمَعُوا جَميعَ بُلَغائِكم وخُطَبائِكم والآثارَ الجَيِّدةَ للسّابِقين مِنهم ومَدَدَ اللّاحِقين وهِمَمَ شُهَدائِكم وشُرَكائِكم مِن دُونِ اللهِ، وابذُلُوا كلَّ ما لَدَيْكم حتَّى تَأْتُوا بمِثلِ هذا القُرآنِ؛ فإن لم تَفعَلُوا هذا فائْتُوا بكِتابٍ في مِثلِ بَلاغةِ القُرآنِ ونَظْمِه، بصَرفِ النَّظَرِ عن حَقائقِه العَظيمةِ ومُعجِزاتِه المَعنَويّةِ.
بلِ القُرآنُ قد تَحَدّاهم بأَقلَّ مِن هذا إذ يقُولُ: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ أي: ليس ضَرُورِيًّا صِدْقُ المَعنَى فلْتَكُن أَكاذِيبَ مُفتَرَياتٍ؛ وإن لم تَفعَلُوا فلْيَكُن عَشْرَ سُوَرٍ مِنه وليس ضَرُورِيًّا كلُّ القُرآنِ؛ وإن لم تَفعَلُوا هذا فائْتُوا بسُورةٍ واحِدةٍ مِن مِثلِه فحَسْبُ، وإن كُنتُم تَرَوْن هذا أيضًا صَعْبًا علَيكُم، فلْتَكُن سُورةً قَصِيرةً.. وأَخِيرًا ما دُمتُم عاجِزِين لا تَستَطيعُون أن تَفعَلُوا ولن تَفعَلُوا معَ أنَّكم في أَمَسِّ الحاجةِ إلى الإتيانِ بمَثيلِه، لأنَّ شَرَفَكم وعِزَّتَكم ودِينَكم وعَصَبِيَّتَكم وأَموالَكم وأَرواحَكم ودُنياكم وأُخراكم إنَّما تُصانُ بإتيانِ مِثلِه، وإلّا ففي الدُّنيا يَتَعرَّضُ شَرَفُكم ودِينُكم إلى الخَطَرِ، وتُسامُون الذُّلَّ والهَوانَ وتُهدَرُ أَموالُكم، وفي الآخِرةِ تَصِيرُون حَطَبًا للنَّارِ مع أَصنامِكم ومَحكُومين بالسِّجنِ الأَبَدِيِّ، ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.
فما دُمتُم قد عَرَفتُم عَجْزَكم بثَماني مَراتِبَ، فلا بُدَّ أن تَعرِفُوا أنَّ القُرآنَ مُعجِزٌ بثَماني مَراتِبَ، فإمّا أن تُؤمِنُوا به أو تَسكُتُوا نِهائيًّا وتكُونَ جَهَنَّمُ مَثْواكم وبِئسَ المَصِيرُ.
وبعدَما عَرَفتَ بَيانَ القُرآنِ هذا وإلزامَه في مَقامِ “الإفحام” قل: حَقًّا إنَّه “ليس بعدَ بَيانِ القُرآنِ بَيانٌ”.
[مقام ثانٍ للإلزام والإفحام]
المِثالُ الثّاني:
﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
مِن بينِ آلافِ الحَقائقِ الَّتي تَتَضمَّنُها هذه الآياتُ الجَليلةُ سنُبيِّنُ حَقيقةً واحِدةً فقط مِثالًا للإلزامِ وإفحامِ الخَصْمِ كالآتي:
إنَّ هذه الآياتِ الكَرِيمةَ تُلزِمُ جَميعَ أَقسامِ أَهلِ الضَّلالةِ وتُسكِتُهم، وتَسُدُّ جَميعَ مَنابِتِ الشُّبُهاتِ وتُزِيلُها، وذلك بلَفظِ: أَمْ.. أَمْ.. بخَمسَ عَشْرةَ طَبَقةً مِنَ الِاستِفهامِ الإنكارِيِّ التَّعَجُّبيِّ، فلا تَدَعُ ثَغرةً شَيطانيّةً يَنزَوِي فيها أَهلُ الضَّلالةِ إلَّا وتَسُدُّها، ولا تَدَعُ سِتارًا يَتَستَّرون تحتَه إلَّا وتُمَزِّقُه، ولا تَدَعُ كَذِبًا مِن أَكاذيبِهم إلّا وتُفَنِّدُه؛ فكلُّ فِقرةٍ مِن فِقْراتِها تُبطِلُ خُلاصةَ مَفهُومِ كُفرٍ تَحمِلُه طائفةٌ مِنَ الطَّوائفِ الكافِرةِ، إمّا بتَعبيرٍ قَصيرٍ وَجيزٍ، أو بالسُّكُوتِ عنه وإحالَتِه إلى بَداهةِ العَقلِ لِظُهُورِ بُطلانِه، أو بإشارةٍ مُجمَلةٍ إذ قد رُدَّ ذلك المَفهُومُ الكُفرِيُّ وأُفحِمَ في مَوضِعٍ آخَرَ بالتَّفصيلِ، فمَثلًا:
الفِقْرةُ الأُولَى تُشِيرُ إلى الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾، أمّا الفِقْرةُ الخامِسةَ عَشْرةَ فهي تَرمُزُ إلى الآيةِ الكَريمةِ: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾. قِسْ بنَفسِك سائرَ الفِقْراتِ في ضَوءِ هذه الفِقْرةِ، وذلك:
ففي المُقدِّمة تقُولُ: بَلِّغِ الأَحكامَ الإلٰهِيّةَ، فإنَّك لَستَ بكاهِنٍ، لأنَّ كَلامَ الكاهِنِ مُلَفَّقٌ مُختَلِطٌ لا يَعدُو الظَّنَّ والوَهْمَ، بَينَما كَلامُك هو الحَقُّ بعَينِه وهو اليَقينُ.. وذَكِّر بتلك الأَحكامِ فلَستَ مَجنُونًا قَطُّ، فقد شَهِدَ أَعداؤُك كذلك على كَمالِ عَقلِك.
﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾: فيا عَجَبًا! أيقُولُون لك: شاعرٌ، كالكُفّارِ العَوامِّ الَّذين لا يَحتَـكِمُون إلى العَقلِ! أَوَهُم يَنتَظِرُون هَلاكَك ومَوتَك! قل لهم: انتَظِرُوا وأنا معَكُم مِنَ المُنتَظِرين. فإنَّ حَقائقَك العَظيمةَ الباهِرةَ مُنزَّهةٌ عن خَيالاتِ الشِّعرِ ومُستَغنِيةٌ عن تَزيِيناتِه.
﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا﴾: أم إنَّهم يَستَنكِفُون عنِ اتِّباعِك كالفَلاسِفةِ المُعتَدِّين بعُقُولِهمُ الفارِغةِ؟! الَّذين يقُولُون: كَفانا عَقلُنا. مع أنَّ العَقلَ نَفسَه يَأمُرُ باتِّباعِك، فما مِن قَولٍ تَقُولُه إلّا وهو مَعقُولٌ، ولكن لا يَبلُغُه العَقلُ بمُفرَدِه.
﴿أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾: أم إنَّ سَبَب إنكارِهم هو عَدَمُ رُضُوخِهم للحَقِّ كالطُّغاةِ الظَّلَمةِ؟ مع أنَّ عُقبَى الجَبّارِين العُتاةِ مِن فَراعِنةٍ ونَمارِيدَ مَعلُومةٌ لا تَخفَى على أَحَدٍ.
﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾: أم إنَّهم يَتَّهِمُونك بأنَّ القُرآنَ كَلامٌ مِن عِندِك، كما يقُولُ المُنافِقُون الكاذِبُون الَّذين لا ضَمِيرَ لهم ولا وِجدانَ؟ مع أنَّهم همُ الَّذين يَدْعُونك إلى الآنَ بـ”مُحمَّدٍ الأَمينِ” لِصِدْقِ كَلامِك؛ فإذًا لا يَنوُون الإيمانَ، وإلَّا فلْيَجِدُوا في آثارِ البَشَرِ مَثيلًا للقُرآنِ.
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾: أم إنَّهم يَعُدُّون أَنفُسَهم سائبِينَ، خُلِقُوا سُدًى بلا غايةٍ ولا وَظيفةٍ ولا خالِقَ لهم ولا مَولَى؟! ويَعتَقِدُون الكَونَ كلَّه عَبَثًا كما يَعتَقِدُ به الفَلاسِفةُ العَبَثيُّون! أفَعَمِيَتْ أَبصارُهم؟ أفلا يَرَونَ الكَونَ كلَّه مِن أَقصاه إلى أَقصاه مُزَيَّنًا بالحِكَمِ ومُثمِرًا بالغاياتِ، والمَوجُوداتُ كلُّها مِنَ الذَّرّاتِ إلى المَجَرّاتِ مُناطةٌ بوَظائفَ جَليلةٍ ومُسَخَّرةٌ لِأَوامِرَ إلٰهِيّةٍ.
﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾: أم إنَّهم يَظُنُّون أنَّ الأَشياءَ تَتَشكَّلُ بنَفسِها وتُربَّى بنَفسِها وتَخلُقُ لَوازِمَها بنَفسِها، كما يقُولُ المادِّيُّون المُتَفرعِنُون! حتَّى غَدَوا يَستَنكِفُون مِنَ الإيمانِ والعُبُودِيّةِ للهِ. فإذًا هم يَظُنُّون أَنفُسَهم خالِقِين، والحالُ أنَّ خالِقَ شيءٍ واحِدٍ يَلزَمُ أن يكُونَ خالِقًا لكلِّ شيءٍ؛ فلَقد دَفَعَهم إذًا غُرُورُهم وعُتُوُّهم إلى مُنتَهَى الحَماقةِ والجَهلِ حتَّى ظَنُّوا أنَّ مَن هو عاجِزٌ أمامَ أَضعَفِ مَخلُوقٍ – كالذُّبابِ والمَيكرُوبِ- قادِرٌ مُطلَقٌ! فما دامُوا قد تَخَلَّوا إلى هذا الحَدِّ عنِ العَقلِ وتَجَرَّدُوا مِنَ الإنسانيّةِ، فهم إذًا أَضَلُّ مِنَ الأَنعامِ بل أَدنَى مِنَ الجَماداتِ.. فلا تَهتَمَّ لإنكارِهم، بل ضَعْهم في عِدادِ الحَيَواناتِ المُضِرّةِ والمَوادِّ الفاسِدةِ، ولا تُلْقِ لهم بالًا ولا تَلتَفِتْ إلَيهم أَصلًا.
﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ﴾: أم يَجحَدُون وُجُودَ اللهِ تَعالَى كالمُعَطِّلةِ الحَمْقَى المُنكِرِين للخالقِ؟ فلا يَستَمِعُون للقُرآنِ! فعلَيهم إذًا أن يُنكِرُوا خَلْقَ السَّماواتِ والأَرضِ، أو يقُولُوا: نحنُ الخالقُون؛ ولْيَنسَلِخُوا مِنَ العَقلِ كُلِّـيًّا، ولْيَدخُلُوا في هَذَيانِ الجُنُونِ، لأنَّ بَراهِينَ التَّوحيدِ واضِحةٌ تُقرَأُ في أَرجاءِ الكَونِ بعَدَدِ نُجُومِ السَّماءِ وبعَدَدِ أَزاهِيرِ الأَرضِ، كلُّها تَدُلُّ على وُجُودِه تَعالَى وتُفصِحُ عنه؛ فإذًا لا يَرغَبُون في الرُّضُوخِ للحَقِّ واليَقينِ، وإلّا فكيف ظَنُّوا أنَّ كِتابَ الكَونِ العَظيمِ هذا الَّذي تَندَرِجُ في كلِّ حَرفٍ مِنه أُلُوفُ الكُتُبِ، أنَّه دُونَ كاتِبٍ! مع أنَّهم يَعلَمُون جَيِّدًا أنَّ حَرْفًا واحِدًا لا يكُونُ دُونَ كاتِبٍ؟!
﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ﴾: أم إنَّهم يَنفُون الإرادةَ الإلٰهِيّةَ كبَعضِ الفَلاسِفةِ الضَّالِّين، أو يُنكِرُون أَصلَ النُّبوَّةِ كالبَراهِمةِ، فلا يُؤمِنُون بك! فعلَيهِم إذًا أن يُنكِرُوا جَميعَ آثارِ الحِكَمِ والغاياتِ الجَليلةِ والِانتِظاماتِ البَدِيعةِ والفَوائدِ المُثمِرةِ وآثارِ الرَّحمةِ الواسِعةِ والعِنايةِ الفائقةِ الظّاهرةِ على المَوجُوداتِ كافّةً، والدَّالةِ على الإرادةِ والاختِيارِ الإلٰهِيِّ، وعلَيهِم أن يُنكِرُوا جَميعَ مُعجِزاتِ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلَام، أو علَيهِم أن يقُولُوا: إنَّ الخَزِينةَ الَّتي تَفيضُ بالإحسانِ على الخَلْقِ أَجمَعين هي عِندَنا وبأَيدِينا؛ وليُسْفِرُوا عن حَقيقَتِهم بأنَّهم لا يَستَحِقُّون الخِطابَ، ولا هم أَهلٌ له.. إذًا فلا تَحزَنْ على إنكارِهم، فلِلَّه حَيَواناتٌ ضالّةٌ كَثيرةٌ.
﴿أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾: أم إنَّهم تَوَهَّمُوا أَنفُسَهم رُقَباءَ على أَعمالِ اللهِ تَعالَى؟ أفَيُريدُون أن يَجعَلُوه سُبحانَه مَسؤُولًا، كالمُعتَزِلةِ الَّذين نَصَّبُوا العَقلَ حاكِمًا! فلا تُبالِ ولا تَكتَرِثْ بهم إذ لا طائلَ وَراءَ إنكارِ هؤلاء المَغرُورِين وأَمثالِهم.
﴿أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾: أم إنَّهم يَظُنُّون أَنفُسَهم قد وَجَدُوا طَرِيقًا آخَرَ إلى عالَمِ الغَيبِ كما يَدَّعيه الكُهّانُ الَّذين اتَّبَعُوا الشَّياطِينَ والجانَّ، وكمُشَعوِذِي تَحضِيرِ الأَرواحِ؟ أم يَظُنُّون أنَّ لَدَيهِم سُلَّمًا إلى السَّماواتِ الَّتي صُكَّت أَبوابُها بوُجُوهِ الشَّياطِين، حتَّى لا يُصَدِّقُوا بما تَتَلقّاه مِن خَبَرِ السَّماءِ! فإنكارُ هؤلاء الفَجَرةِ الكَذّابين وأَمثالِهم، هو في حُكمِ العَدَمِ.
﴿أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ﴾: أم إنَّهم يُسنِدُون الشِّركَ إلى الأَحَدِ الصَّمَدِ باسمِ العُقُولِ العَشَرةِ وأَربابِ الأَنواعِ كما يَعتَقِدُ به فَلاسِفةٌ مُشرِكُون، أو بنَوعٍ مِنَ الأُلُوهيّةِ المَنسُوبةِ إلى النُّجُومِ والمَلائكةِ كالصَّابِئةِ، أو بإسنادِ الوَلَدِ إلَيه تَعالَى كالمُلحِدِين والضَّالِّين، فيَنسُبُون إلَيه الوَلَدَ المُنافِيَ لِوُجُوبِ وُجُودِ الأَحَدِ الصَّمَدِ ولِوَحدانيَّتِه وصَمَدانيَّتِه، فهو المُستَغني المُتَعالِ؟ أم يُسنِدُون الأُنُوثةَ إلى المَلائكةِ المُنافيةَ لِعُبُودِيَّتِهم وعِصمَتِهم وجِنسِهم “طَبِيعَتِهم”؟ أفَهُم يَظُنُّون أنَّهم بهذا يُوجَدُون شُفَعاءَ لأَنفُسِهم، فلا يَتَّبِعُونك!؟
إنَّ الإنسانَ الفانِيَ الَّذي يَطلُبُ الوَرِيثَ المُعِينَ، والمَطبُوعَ على حُبِّ الدُّنيا إلى حَدِّ الهُيامِ بها، وهو العاجِزُ الفَقيرُ إلى بَقاءِ نَوعِه، والمُؤَهَّلُ للتَّناسُلِ والتَّكاثُرِ والتَّجَزُّؤِ الجِسمانِيِّ، ذلك التَّناسُلِ الَّذي هو رابِطةُ البَقاءِ وآصِرةُ الحَياةِ للمَخلُوقاتِ كافّةً.. فإسنادُ التَّناسُلِ هذا إلى مَن وُجُودُه واجِبٌ وهو الدّائمُ الباقي، الأَزَليُّ الأَبَديُّ، الذّاتِيُّ، المُنزَّهُ عنِ الجِسمانيّةِ، المُقدَّسُ عن تَجزِئةِ الماهِيّةِ، المُتَعالي عن أن يَمَسَّ قُدرَتَه العَجزُ، وهو الواحِدُ الأَحَدُ الجَليلُ ذُو الجَلالِ.. وإسنادُ الأَولادِ إلَيه ولا سِيَّما الضُّعَفاءِ العاجِزِين أي: البَناتِ اللَّاتي لم يَرتَضِها غُرُورُ هؤلاء، إنَّما هو نِهايةُ السَّفسَطةِ ومُنتَهَى الجُنُونِ وغايةُ الهَذَيانِ، حتَّى إنَّه لا حاجةَ إلى تَفنِيدِ افتِراءاتِهم وإظهارِ بُطلانِها، فلا تُنصِتْ إلَيهم ولا تُلقِ لهم بالًا، إذ لا تُسمَعُ سَفسَطةُ كلِّ ثَمِلٍ ولا هَذَيانُ كلِّ مَجنُونٍ.
﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾: أم إنَّهم يَرَون تَكاليفَ العُبُودِيّةِ الَّتي تَطلُبُها مِنهم ثَقيلةً علَيهم؟ كما يَراها الطُّغاةُ الباغُونَ الحَرِيصُونَ على الدُّنيا المُعتادُون على الخِسّةِ فيَهرُبُون مِن تلك التَّكاليفِ! ألا يَعلَمُون أنَّك لا تُرِيدُ مِنهم أَجرًا ولا مِن أَحَدٍ إلّا مِنه سُبحانَه؟
أَيعُزُّ علَيهِمُ التَّصَدُّقُ مِن مالِ اللهِ الَّذي أَعطاه إيّاهم لِيَزدادَ المالُ بَرَكةً ولِيُحَصَّنَ مِن حَسَدِ الفُقَراءِ، ومِنَ الدُّعاءِ بالسُّوءِ على مالِكِه؟ فالزَّكاةُ بمِقدارِ العُشْرِ أو واحِدٍ مِن أَربَعين، والتَّصَدُّقُ بها على فُقَرائِهم أتُعَدُّ أَمرًا ثَقِيلًا حتَّى يَهرُبُوا مِنَ الإسلامِ؟
إنَّهم لا يَستَحِقُّون حتَّى الجَوابَ على تَكذيبِهم، فهو واضِحٌ جِدًّا وتافِهٌ جِدًّا، بل يَستَحِقُّون التَّأدِيبَ لا الإجابةَ.
﴿أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾: أم إنَّهم لا يَرُوقُ لهم ما تَتَلقَّاه مِن أَخبارِ الغَيبِ، فيَدَّعُون مَعرِفةَ الغَيبِ كالبُوذِيِّين وكالعَقلانيِّين الَّذين يَحسَبُون ظُنُونَهم يَقينًا! أعِندَهم كِتابٌ مِنَ الغَيبِ وهو مَفتُوحٌ لهم يَكتُبُون مِنه حتَّى يَرُدُّوا كِتابَك الغَيبيَّ!؟ إنَّ ذلك العالَمَ لا يَنزاحُ حِجابُه إلّا للرُّسُلِ المُوحَى إلَيهم، ولا طاقةَ لِأَحَدٍ بالوُلُوجِ فيه بنَفسِه قَطُّ.
ولا يَستَخِفَّنَّك عن دَعوَتِك تَكذِيبُ هؤلاء المَغرُورِين المُتَكبِّرِين الَّذين تَجاوَزُوا طَوْرَهم وتَعَدَّوْا حُدُودَهم، فعن قَرِيبٍ ستُحَطِّمُ حَقائقُك أَحلامَهم وتَجعَلُها أَثرًا بعدَ عَينٍ.
﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾: أم إنَّهم يُرِيدُون أن يكُونُوا كالمُنافِقين الَّذين فَسَدَتْ فِطْرَتُهم وتَفَسَّخ وِجدانُهم، وكالزَّنادِقةِ المَكّارِين الَّذين يَصُدُّون النّاسَ عنِ الهُدَى الَّذي حُرِمُوا مِنه بالمَكِيدةِ والخَدِيعةِ فيَصرِفُوهم عن سَواءِ السَّبِيلِ، حتَّى أَطلَقُوا عليك اسمَ الكاهِنِ أوِ المَجنُونِ أوِ السّاحِرِ، مع أنَّهم هم أَنفُسَهم لا يُصَدِّقُون دَعواهم فكيف بالآخَرِين؟ فلا تَهتَمَّ بهؤلاء الكَذّابين الخَدّاعين ولا تَعتَبِرْهم في زُمرةِ الأَناسِيِّ، بلِ امْضِ في الدَّعوةِ إلى اللهِ، لا يُفَتِّرْك شيءٌ عنها، فأُولَئك لا يَكِيدُونك بل يَكِيدُون أَنفُسَهم، ويَضُرُّونَ بأَنفُسِهم؛ وما نَجاحُهم في الفَسادِ والكَيدِ إلّا أَمرٌ مُؤَقَّتٌ زائلٌ، بل هو استِدراجٌ ومَكْرٌ إلٰهِيٌّ.
﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾: أم إنَّهم يُعارِضُونَك ويَستَغنُون عَنك لأنَّهم يَتَوهَّمُون إلٰهًا غَيرَ اللهِ يَستَنِدُون إلَيه، كالمَجُوسِ الَّذين تَوَهَّمُوا إلٰهَينِ اثنَينِ باسمِ خالقِ الخَيرِ وخالقِ الشَّرِّ! أو كعُبّادِ الأَسبابِ والأَصنامِ الَّذين يَمنَحُون نَوْعًا مِنَ الأُلُوهيّةِ للأَسبابِ ويَتَصوَّرُونَها مَوئلَ استِنادٍ؟ إذًا فقد عَمِيَت أَبصارُهُم، أفلا يَرَون هذا الِانتِظامَ الأَكمَلَ الظّاهِرَ كالنَّهارِ في هذا الكَونِ العَظِيمِ ولا هذا الِانسِجامَ الأَجمَلَ فيه!
فبِمُقتَضَى قَولِه تَعالَى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ إذا ما حَلَّ مُختارانِ في قَريةٍ، ووالِيانِ في وِلايةٍ وسُلطانانِ في بَلَدٍ، فالِانتِظامُ يَختَلُّ حَتْمًا والِانسِجامُ يَفسُدُ نِهائيًّا؛ والحالُ أنَّ الِانتِظامَ الدَّقيقَ واضِحٌ بَدءًا مِن جَناحِ البَعُوضةِ إلى قَنادِيلِ السَّماءِ؛ فليس للشِّركِ مَوضِعٌ ولو بمِقدارِ جَناحِ بَعُوضٍ، فما دامَ هؤلاء يَمرُقُون مِن نِطاقِ العَقلِ، ويُجافُون الحِكمةَ والمَنطِقَ، ويقُومُون بأَعمالٍ مُنافيةٍ كُلِّـيًّا للشُّعُورِ والبَداهةِ، فلا يَصرِفْك تَكذِيبُهم لك عنِ التَّذكيرِ والإرشادِ.
وهكذا، فهذه الآياتُ الَّتي هي سِلسِلةُ الحَقائقِ، قد بيَّنّا بَيانًا مُجمَلًا جَوهَرةً واحِدةً مِنها فقط مِن مِئاتِ جَواهِرِها، تلك الجَوهَرةَ الَّتي تَخُصُّ “الإلزامَ والإفحامَ“؛ فلو كانَت لي قُدرةٌ لِأُبيِّنَ عِدّةَ جَواهِرَ أُخرَى مِنها لكُنتَ تقُولُ أيضًا: إنَّ هذه الآياتِ مُعجِزةٌ بحَدِّ ذاتِها!
[مقام الإفهام والتعليم]
أمّا بَيانُ القُرآنِ في “الإفهامِ والتَّعليمِ” فهو خارِقٌ وذُو لَطافةٍ وسَلاسةٍ، حتَّى إنَّ أَبسَطَ شَخصٍ عامِّيٍّ يَفهَمُ بتلك البَياناتِ أَعظَمَ حَقيقةٍ وأَعمَقَها بيُسرٍ وسُهُولةٍ.
نعم، إنَّ القُرآنَ المُبِينَ يُرشِدُ إلى كثيرٍ مِنَ الحَقائقِ الغامِضةِ، ويُعَلِّمُ النّاسَ إيّاها بأُسلُوبٍ سَهْلٍ وواضِحٍ وببَيانٍ شافٍ يُراعِي نَظَرَ العَوامِّ، مِن دُونِ إيذاءٍ لِشُعُورِ العامّةِ ولا إرهاقٍ لفِكرِ العَوامِّ ولا إزعاجٍ له، فكما إذا ما حاوَرَ إنسانٌ صَبِيًّا فإنَّه يَستَعمِلُ تَعابِيرَ خاصّةً به، كذلك الأَساليبُ القُرآنيّةُ والَّتي تُسَمَّى بـ “التَّنزُّلاتِ الإلٰهِيّةِ إلى عُقُولِ البَشَرِ” خِطابٌ يَنزِلُ إلى مُستَوَى مَدارِكِ المُخاطَبِين، حتَّى يُفَهِّمَ أَشَدَّ العَوامِّ أُمِّيّةً مِنَ الحَقائقِ الغامِضةِ والأَسرارِ الرَّبّانيّةِ ما يَعجِزُ حُكَماءُ مُتَبحِّرُون عن بُلُوغِها بفِكرِهم، وذلك بالتَّشبِيهاتِ والتَّمثيلاتِ بصُوَرٍ مُتَشابِهاتٍ.
فمَثلًا: الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ تُبيِّنُ الرُّبُوبيّةَ الإلٰهِيّةَ وكيفيّةَ تَدبِيرِها لِشُؤُونِ العالَمِ في صُورةِ تَمثيلٍ وتَشبِيهٍ لِمَرتَبةِ الرُّبُوبيّةِ بالسُّلطانِ الَّذي يَعتَلِي عَرْشَه ويُدِيرُ أَمرَ السَّلْطَنةِ.
نعم، لَمّا كان القُرآنُ كَلامًا لرَبِّ العالَمين نَزَل مِنَ المَرتَبةِ العُظمَى لِرُبُوبيَّتِه الجَليلةِ، مُهَيمِنًا على جَميعِ المَراتِبِ الأُخرَى، مُرشِدًا البالِغِين إلى تلك المَراتِبِ، مُختَرِقًا سَبعِين أَلفَ حِجابٍ، مُلتَفِتًا إلَيها ومُنَوِّرًا لها، وقد نَشَر نُورَه على آلافِ الطَّبَقاتِ مِنَ المُخاطَبين المُتَباينِين في الفَهْمِ والإدراكِ، ونَثَر فَيضَه طَوالَ عُصُورٍ وقُرُونٍ مُتَفاوِتةٍ في الِاستِعداداتِ.. وعلى الرَّغمِ مِن نَشرِه لِمَعانيه بسُهُولةٍ تامّةٍ في جَميعِ الأَنحاءِ والأَزمانِ، احتَفَظ بحَيَويَّتِه ونَداوَتِه ونَضارَتِه ولم يَفقِدْ شَيئًا مِنها، بل ظَلَّ في مُنتَهَى الطَّراوةِ والجِدّةِ واللَّطافةِ سَهْلًا مُمتَنِعًا، إذ مِثلَما يُلقِي دُرُوسَه على أيِّ عامِّيٍّ كان في غايةِ السُّهُولةِ يُلقِيه على المُختَلِفين في الفَهمِ والمُتَباينِين في الذَّكاءِ لِكَثيرٍ جِدًّا مِنَ الطَّبَقاتِ المُتَفاوِتةِ ويُرشِدُهم إلى الصَّوابِ، ويُورِثُهُمُ القَناعةَ والِاطمِئنانَ.. ففي هذا الكِتابِ المُبِينِ أينَما وَجَّهتَ نَظَرَك يُمكِنُك أن تُشاهِدَ لَمعةَ إعجازٍ.
حاصِلُ الكَلامِ: كما أنَّ لَفظةً قُرآنيّةً مِثلَ: “الحَمدُ للهِ” عِندَما تُتلَى تَملَأُ الكَهفَ الَّذي هو بمَثابةِ أُذُنِ الجَبَلِ، فإنَّها تَملَأُ في الوَقتِ نَفسِه الأُذَينَ الصَّغيرةَ جِدًّا لِبَعُوضٍ، فتَستَقِرُّ اللَّفظةُ نَفسُها فيهما معًا؛ كذلك الأَمرُ في مَعاني القُرآنِ الكَريمِ، إذ مِثلَما تُشبِعُ عُقُولًا جَبّارةً، تُعَلِّمُ عُقُولًا صَغيرةً وبَسِيطةً جِدًّا، وتُطَمْئِنُها بالكَلِماتِ نَفسِها. ذلك لأنَّ القُرآنَ يَدعُو جَميعَ طَبَقاتِ الجِنِّ والإنسِ إلى الإيمانِ، ويُعلِّمُ جَميعَهم عُلُومَ الإيمانِ ويُثبِتُها لهم جَميعًا؛ لِذا يَستَمِعُ إلى دَرسِ القُرآنِ وإرشادِه أَغبَى الأَغبِياءِ مِن عامّةِ النّاسِ معَ أَخَصِّ الخَواصِّ جَنْبًا إلى جَنْبٍ مُتَكاتِفين معًا.
أي إنَّ القُرآنَ الكَريمَ مائِدةٌ سَماوِيّةٌ تَجِدُ فيها آلافٌ مِن مُختَلِفِ طَبَقاتِ الأَفكارِ والعُقُولِ والقُلُوبِ والأَرواحِ غِذاءَهم، كلٌّ حَسَبَ ما يَشتَهِيه ويُلَبِّي رَغَباتِه؛ حتَّى إنَّ كَثِيرًا مِن أَبوابِ القُرآنِ ظَلَّت مُغلَقةً لِتُفتَح في المُستَقبَلِ مِنَ الزَّمانِ.
فإن شِئتَ مِثالًا على هذا المَقامِ، فالقُرآنُ كُلُّه مِن بِدايَتِه إلى نِهايَتِه أَمثِلةٌ لِهذا المَقامِ.
نعم، إنَّ تَلامِذةَ القُرآنِ والمُستَمِعين لِإرشادِه مِنَ المُجتَهِدين والصِّدِّيقين وحُكَماءِ الإسلامِ، والعُلَماءِ المُحَقِّقين وعُلَماءِ أُصُولِ الفِقهِ والمُتَكلِّمين، والأَولياءِ العارِفين والأَقطابِ العاشِقِين، والعُلَماءِ المُدَقِّقين، وعامّةِ المُسلِمين.. كلَّهم يقُولُون بالِاتِّفاقِ: “نحنُ نَتَلقَّى الإرشادَ على أَفضَلِ وَجهٍ مِنَ القُرآنِ”.
والخُلاصةُ: إنَّ لَمعةَ إعجازِ القُرآنِ تَتَلمَّعُ في هذا المَقامِ أَيضًا (مَقامِ الإفهامِ والتَّعليمِ) كما هي الحالُ في سائرِ المَقاماتِ.
[الشعاع الثاني: الجامعية الخارقة]
الشُّعاعُ الثاني: جامِعِيّةُ القُرآنِ الخارِقة.
لهذا الشُّعاعِ خَمسُ لَمَعات:
[اللمعة الأولى: جامعية لفظه]
اللَّمعةُ الأُولَى: الجامِعِيّةُ الخارِقةُ في لَفظِه.
هذه الجامِعِيّةُ واضِحةٌ جَلِيّةٌ في الآياتِ المَذكُورةِ في “الكَلِماتِ” السّابقةِ وفي هذه “الكَلِمة”.
نعم، إنَّ الأَلفاظَ القُرآنيَّةَ قد وُضِعَت وَضْعًا بحيثُ إنَّ لِكُلِّ كَلامٍ بل لِكُلِّ كَلِمةٍ بل لِكُلٍّ حَرفٍ بل حتَّى لِسُكُوتٍ أَحيانًا وُجُوهًا كَثيرةً جِدًّا، تَمنَحُ كلَّ مُخاطَبٍ حَظَّه ونَصِيبَه مِن أَبوابٍ مُختَلِفةٍ، كما يُشِيرُ إلى ذلك الحَديثُ الشَّريفُ، فلِكُلِّ آيةٍ ظَهْرٌ وبَطنٌ وحَدٌّ ومَطْلَعٌ، ولكُلٍّ شُجُونٌ وغُصُونٌ وفُنُونٌ.
[مثال: والجبال أوتادًا]
فمَثلًا: ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾..
فحِصّةُ عامِّيٍّ مِن هذا الكَلامِ أنَّه يَرَى الجِبالَ كالأَوتادِ المَغرُوزةِ في الأَرضِ كما هو ظاهِرٌ أمامَ عَينِه، فيَتَأمَّلُ ما فيها مِن نِعَمٍ وفَوائِدَ، ويَشكُرُ خالِقَه.
وحِصّةُ شاعِرٍ مِن هذا الكَلامِ أنَّه يَتَخيَّلُ أنَّ الأَرضَ سَهلٌ مُنبَسِطٌ، وقُبّةَ السَّماءِ عِبارةٌ عن خَيمةٍ عَظِيمةٍ خَضْراءَ ضُرِبَت علَيه، وزُيِّنَتِ الخَيمةُ بمَصابيحَ، وأنَّ الجِبالَ تَتَراءَى وهي تَملَأُ دائِرةَ الأُفُقِ، تَمَسُّ قِمَمُها أَذيالَ السَّماءِ، وكأنَّها أَوتادُ تلك الخَيمةِ العَظيمةِ؛ فتَغمُرُه الحَيرةُ والإعجابُ، ويُقدِّسُ الصّانِعَ الجَليلَ.
أمّا البَدَوِيُّ البَليغُ فحِصَّتُه مِن هذا الكَلامِ أنَّه يَتَصوَّرُ سَطْحَ الأَرضِ كصَحراءَ واسِعةٍ، وكأنَّ سَلاسِلَ الجِبالِ سِلسِلةٌ مُمتَدّةٌ لِخِيَمٍ كَثيرةٍ بأَنواعٍ شَتَّى لِمَخلُوقاتٍ مُتَنوِّعةٍ، حتَّى إنَّ طَبَقةَ التُّرابِ عِبارةٌ عن غِطاءٍ أُلقِيَ على تلك الأَوتادِ المُرتَفِعةِ فرَفَعَتْها برُؤُوسِها الحادّةِ، جاعِلةً مِنها مَساكِنَ مُختَلِفةً لِأَنواعٍ شَتَّى مِنَ المَخلُوقاتِ.. هكذا يَفهَمُ فيَسجُدُ للفاطِرِ الجَليلِ سَجدةَ حَيرةٍ وإعجابٍ بجَعْلِه تلك المَخلُوقاتِ العَظِيمةَ كأنَّها خِيامٌ ضُرِبَت على الأَرضِ.
أمّا الجُغرافِيُّ الأَدِيبُ فحِصَّتُه مِن هذا الكَلامِ أنَّ كُرةَ الأَرضِ عِبارةٌ عن سَفِينةٍ تَمْخُرُ عُبابَ بَحرِ المُحِيطِ الهَوائيِّ أوِ الأَثيرِيِّ، وأنَّ الجِبالَ أَوتادٌ دُقَّت على تلك السَّفينةِ للتَّثبِيتِ والمُوازَنةِ.. هكذا يُفَكِّرُ الجُغرافِيُّ ويقُولُ أَمامَ عَظَمةِ القَديرِ ذِي الكَمالِ الَّذي جَعَل الكُرةَ الأَرضِيّةَ الضَّخمةَ سَفينةً مُنتَظِمةً وأَرْكَبَنا فيها، لِتَجرِيَ بنا في آفاقِ العالَمِ: “سُبحانَك ما أَعظَمَ شَأنَك!”.
أمّا المُتَخصِّصُ في أُمُورِ المُجتَمَعِ والمُلِمُّ بمُتَطلَّباتِ الحَضارةِ الحَدِيثةِ فحِصَّتُه مِن هذا الكَلامِ أنَّه يَفهَمُ الأَرضَ عِبارةً عن مَسكَنٍ، وأنَّ عِمادَ هذا المَسكَنِ هو الحَياةُ الحَيَوانيّةُ، وعِمادَ هذه الحَياةِ الحَيَوانيّةِ هو الماءُ والهَواءُ والتُّرابُ، الَّتي هي شَرائطُ الحَياةِ؛ وأنَّ عِمادَ هذه الثَّلاثةِ هو الجِبالُ، لأنَّ الجِبالَ مَخازِنُ الماءِ، مَشّاطةُ الهَواءِ ومِصْفاتُه إذ تُرَسِّبُ الغازاتِ المُضِرّةَ، وحامِيةُ التُّرابِ إذ تَحمِيه مِنِ استِيلاءِ البَحرِ والتَّوَحُّلِ، وخَزِينةٌ لِسائرِ ما تَقتَضيه حَياةُ الإنسانِ.. هكذا يَفهَمُ فيَحمَدُ ويُقدِّسُ ذلِكُمُ الصَّانِعَ ذا الجَلالِ والإكرامِ الَّذي جَعلَ هذه الجِبالَ العِملاقةَ أَوتادًا ومَخازِنَ مَعايِشِنا على الأَرضِ الَّتي هي مَسكَنُ حَياتِنا.
وحِصّةُ فَيلَسُوفٍ طَبِيعيٍّ مِن هذا الكَلامِ أنَّه يُدرِكُ أنَّ الِامتِزاجاتِ والِانقِلاباتِ والزَّلازِلَ الَّتي تَحصُلُ في باطِنِ الأَرضِ تَجِدُ استِقرارَها وسُكُونَها بظُهُورِ الجِبالِ، فتكُونُ الجِبالُ سَببًا لِهُدُوءِ الأَرضِ واستِقرارِها حَولَ مِحوَرِها ومَدارِها وعَدَمِ عُدُولِها عن مَدارِها السَّنَوِيِّ، وكأنَّ الأَرضَ تَتَنفَّسُ بمَنافِذِ الجِبالِ فيَخِفُّ غَضَبُها وتَسكُنُ حِدَّتُها.. هكذا يَفهَمُ ويَطْمَئِنُّ ويَلِجُ في الإيمانِ قائلًا: “الحِكمةُ للهِ”.
[مثال: كانتا رتقًا ففتقناهما]
ومَثلًا: ﴿أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾:
إنَّ كَلِمةَ ﴿رَتْقًا﴾ في هذه الآيةِ تُفيدُ لِمَن لم يَتَلوَّثْ بالفَلسَفةِ: السَّماءُ كانَت صافِيةً لا سَحابَ فيها، والأَرضُ جَدْباءَ لا حَياةَ فيها، فالَّذي فَتَح أَبوابَ السَّماءِ بالمَطَرِ وفَرَشَ الأَرضَ بالخُضْرةِ هو الَّذي خَلَق جَميعَ ذَوِي الحَياةِ مِن ذلك الماءِ، وكأنَّه حَصَلَ نَوعٌ مِنَ المُزاوَجةِ والتَّلقيحِ بَينَهما، وما هذا إلَّا مِن شَأْنِ القَدِيرِ ذِي الجَلالِ الَّذي يكُونُ وَجهُ الأَرضِ لَدَيه كبُستانٍ صَغيرٍ، والسُّحُبُ الَّتي تَحجُبُ وَجهَ السَّماءِ مُعصِراتٍ لِذلك البُستانِ.. يَفهَمُ هكذا فيَسجُدُ أَمامَ عَظَمةِ قُدرَتِه تَعالَى.
وتُفيدُ تلك الكَلِمةُ ﴿رَتْقًا﴾ للعالِمِ الكَونِيِّ أنَّه في بَدْءِ الخَلِيقةِ، كانَتِ الأَرضُ والسَّماءُ كُتلَتَينِ لا شَكلَ لهما وعَجِينَتَينِ طَرِيَّتَينِ لا نَفْعَ لَهما، فبَينَما هما مادّةٌ لا مَخلُوقاتِ لَهُما ولا مَن يَدِبُّ علَيهِما، بَسَطَهما الفاطِرُ الحَكِيمُ بَسْطًا جَمِيلًا، ومَنَحَهما صُوَرًا نافِعةً وزِينةً فاخِرةً وكَثْرةً كاثِرةً مِنَ المَخلُوقاتِ.. هكذا يَفهَمُ ويَأخُذُه العَجَبُ أَمامَ سَعةِ حِكمَتِه تَعالَى.
وتُفيدُ هذه الكَلِمةُ للفَلاسِفةِ المُعاصِرِين أنَّ كُرَتَنا الأَرضِيّةَ وسائرَ السَّيّاراتِ الَّتي تُشَكِّلُ المَنظُومةَ الشَّمسِيّةَ كانَت في البِدايةِ مُمتَزِجةً معَ الشَّمسِ بشَكلِ عَجِينةٍ لم تُفرَشْ بَعدُ، ففَتَقَ القادِرُ القَيُّومُ تلك العَجِينةَ ومَكَّن فيها السَّياراتِ كلًّا في مَوضِعِه، فالشَّمسُ هُناك والأَرضُ هنا.. وهكذا. وفَرَشَ الأَرضَ بالتُّرابِ وأَنزَلَ علَيها المَطَرَ مِنَ السَّماءِ، ونَثَر علَيها الضِّياءَ مِنَ الشَّمسِ وأَسكَنَها الإنسانَ.. هكذا يَفهَمُ ويَرفَعُ رَأسَه مِن حَمْأةِ الطَّبِيعةِ قائلًا: “آمَنتُ باللهِ الواحِدِ الأَحَدِ”.
[مثال: والناس تجري لمستقر لها]
ومَثلًا: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾.
فاللّامُ في ﴿لِمُسْتَقَرٍّ﴾ تُفيدُ مَعنَى اللّامِ نَفسِها ومَعنَى “في” ومَعنَى “إلى”.
فهذه “اللّامُ” يَفهَمُها العَوامُّ بمَعنَى “إلى” ويَفهَمُون الآيةَ في ضَوئِها؛ أي إنَّ الشَّمسَ الَّتي تَمنَحُكُمُ الضَّوءَ والحَرارةَ، تَجرِي إلى مُستَقَرٍّ لها وستَبلُغُه يَومًا، وعِندَها لن تُفيدَكم شَيئًا؛ فيَتَذكَّرُ بهذا ما رَبَط اللهُ سُبحانَه وتَعالَى مِن نِعَمٍ عَظِيمةٍ بالشَّمسِ، فيَحمَدُ رَبَّه ويُقَدِّسُه قائلًا: “سُبحانَ اللهِ والحَمدُ للهِ”.
والآيةُ نَفسُها تُظهِرُ “اللَّامَ” بمَعنَى “إلى” للعالِم أَيضًا، ولكن ليس بمَعنَى أنَّ الشَّمسَ مَصدَرُ الضَّوءِ وَحدَه، وإنَّما كمَكُّوكٍ تَحِيكُ المَنسُوجاتِ الرَّبّانيّةَ الَّتي تُنسَجُ في مَعمَلِ الرَّبيعِ والصَّيفِ؛ وإنَّها مِدادٌ ودَواةٌ مِن نُورٍ لِمَكتُوباتِ الصَّمَدِ الَّتي تُكتَبُ على صَحِيفةِ اللَّيلِ والنَّهارِ. فيَتَصوَّرُها هكذا، ويَتَأمَّلُ في نِظامِ العالَمِ البَديعِ الَّذي يُشِيرُ إلَيه جَرَيانُ الشَّمسِ الظّاهِرِيُّ، فيَهوِي ساجِدًا أَمامَ حِكمةِ الصّانِعِ الحَكِيمِ قائلًا: “ما شاءَ اللهُ كان، تَبارَك اللهُ!”.
أمَّا بالنِّسبةِ للفَلَكيِّ، فإنَّ “اللّامَ” يَفهَمُها بمَعنَى “في”. أي: إنَّ الشَّمسَ تُنَظِّمُ حَرَكةَ مَنظُومَتِها “كزُنْبُرُكِ السّاعةِ” بحَرَكةٍ مِحوَرِيّةٍ حَولَ نَفسِها. فأَمامَ هذا الصّانِعِ الجَليل الَّذي خَلَق مِثلَ هذه السّاعةِ العُظمَى يَأخُذُه العَجَبُ والِانبِهارُ فيقُولُ: “العَظَمةُ والقُدرةُ للهِ وَحدَه!”، ويَدَعُ الفَلسَفةَ داخِلًا في مَيدانِ حِكمةِ القُرآنِ.
و”اللّامُ” هذه يَفهَمُها العالِمُ المُدَقِّقُ بمَعنَى “العِلّةِ” وبمَعنَى “الظَّرفيّةِ”. أي إنَّ الصّانِعَ الحَكِيمَ جَعَل الأَسبابَ الظّاهِرِيّةَ سِتارًا لِأَفعالِه وحِجابًا لِشُؤُونِه؛ فقد رَبَط السَّياراتِ بالشَّمسِ بقانُونِه المُسَمَّى بـ”الجاذِبيّةِ” وبه يُجرِي السَّيّاراتِ المُختَلِفةَ بحَرَكاتٍ مُختَلِفةٍ ولكن مُنتَظِمةٍ؛ ويُجرِي الشَّمسَ حَولَ مَركَزِها سَببًا ظاهِرِيًّا لِتَوليدِ تلك الجاذِبيّةِ.
أي إنَّ مَعنَى ﴿لِمُسْتَقَرٍّ﴾ هو أنَّ الشَّمسَ تَجرِي في مُستَقرٍّ لها لِاستِقرارِ مَنظُومَتِها، لأنَّ الحَرَكةَ تُوَلِّدُ الحَرارةَ، والحَرارةَ تُوَلِّدُ القُوّةَ، والقُوّةَ تُوَلِّدُ الجاذِبيّةَ الظّاهِرِيّةَ.. وذلك قانُونٌ رَبَّانِيٌّ وسُنّةٌ إلٰهِيّةٌ.
وهكذا، فهذا الحَكِيمُ المُدَقِّقُ يَفهَم مِثلَ هذه الحِكمةِ مِن حَرفٍ واحِدٍ مِنَ القُرآنِ الحَكيمِ، ويقُولُ: “الحَمدُ للهِ، إنَّ الحِكمةَ الحَقّةَ لَهِي في القُرآنِ، فلا أَعتَبِرُ الفَلسَفةَ بَعدُ شَيئًا يُذكَرُ”.
ومِن هذه “اللّامِ” والِاستِقرارِ يَرِدُ هذا المَعنَى إلى مَن يَملِكُ فِكْرًا وقَلْبًا شاعِرِيًّا أنَّ الشَّمسَ شَجَرةٌ نُورانيّةٌ، والسَّيّاراتِ الَّتي حَولَها إنَّما هي ثَمَراتُها السّائِحةُ، فالشَّمسُ تَنتَفِضُ -بخِلافِ الأَشجارِ- لِئَلَّا تَتَساقَطَ ثَمَراتُها، وبعَكسِه تَتَبعثَرُ الثَّمَراتُ.
ويُمكِنُ أن يَتَخيَّلَ أيضًا أنَّ الشَّمسَ كسَيِّدٍ في حَلْقةِ ذِكرٍ، يَذكُرُ اللهَ في مَركَزِ تلك الحَلْقةِ ذِكرَ عاشِقٍ وَلْهانَ، حتَّى يَدفَعَ الآخَرِين إلى الجَذْبةِ والِانتِشاءِ.
وقد قُلتُ في رِسالةٍ أُخرَى في هذا المَعنَى: “نعم، إنَّ الشَّمسَ مُثمِرةٌ، تَنتَفِضُ لِئلّا تَتَساقَطَ الثَّمَراتُ الطَّيِّبةُ، ولو سَكَنَتْ وسَكَتَت لانْفَقَد الِانجِذابُ، فيَصرُخُ العُشّاقُ المُنْساقُون في الفَضاءِ الواسِعِ هَلَعًا مِنَ السُّقُوطِ والضَّياعِ!”.
[مثال: وأولئك هم المفلحون]
ومَثلًا: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فيها سُكُوتٌ، وفيها إطلاقٌ، إذ لم تُعَيِّن بمَ يُفلِحُون؟ لِيَجِدَ كلُّ واحِدٍ مُبتَغاه في هذا السُّكُوتِ؛ فالآيةُ تَختَصِرُ الكَلامَ لِيتَّسِعَ المَعنَى، إذ إنَّ قَصْدَ قِسمٍ مِنَ المُخاطَبين هو النَّجاةُ مِنَ النَّارِ، وقِسمٌ آخَرٌ لا يُفكِّرُ إلّا بالجَنّةِ، وقِسمٌ يَأمُلُ السَّعادةَ الأَبَديّةَ، وقِسمٌ يَرجُو الرِّضَى الإلٰهِيَّ فحَسْبُ، وقِسمٌ غايةُ أَمَلِه رُؤيةُ اللهِ سُبحانَه. وهكذا.. فيَتْرُكُ القُرآنُ الكَلامَ على إطلاقِه لِيَعُمَّ، ويَحذِفُ لِيُفيدَ مَعانِيَ كَثيرةً، ويُوجِزُ لِيَجِدَ كلُّ واحِدٍ حَظَّه مِنها.
وهكذا فـ ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ هنا لا يُعيِّنُ بِمَ سيُفلِحُون. وكأنَّ الآيةَ بسُكُوتِها تقُولُ: أيُّها المُسلِمُون: لَكُمُ البُشرَى! أيُّها المُتَّقي: إنَّ لك نَجاةً مِنَ النَّارِ. أيُّها العابِدُ الصّالِحُ: فَلاحُك في الجَنَّةِ. أيُّها العارِفُ باللهِ: ستَنالُ رِضاه. أيُّها العاشِقُ لِجَمالِ اللهِ.. ستَحظَى برُؤيَتِه تَعالَى.. وهكذا.
ولقد أَوْرَدْنا مِنَ القُرآنِ الكَريمِ مِن جِهةِ جامِعِيّةِ اللَّفظِ في الكَلامِ والكَلِمةِ والحُرُوفِ والسُّكُوتِ مِثالًا واحِدًا فحَسْبُ مِن بينِ آلافِ الأَمثِلةِ؛ فقِسِ الآيةَ والقِصّةَ على ما أَسلَفْناه.
[مثال: فاعلم أنه لا إله إلا الله]
ومَثلًا: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾.
هذه الآيةُ لها مِنَ الوُجُوهِ الكَثيرةِ والمَراتبِ العَدِيدةِ حتَّى رَأَت جَميعُ طَبَقاتِ الأَولياءِ في شَتَّى أَنواعِ سُلُوكِهم ومَراتِبِهم حاجَتَهم إلى هذه الآيةِ، فأَخَذ كلٌّ مِنهُم غِذاءً مَعنَوِيًّا لائقًا بمَرتَبَتِه الَّتي هو فيها، لأنَّ لَفظَ الجَلالةِ “الله” اسمٌ جامِعٌ لِجَميعِ الأَسماءِ الحُسنَى، ففيه أنواعٌ مِنَ التَّوحيدِ بقَدْرِ عَدَدِ الأَسماءِ نَفسِها، أي: لا رَزَّاقَ إلَّا هو، لا خالقَ إلَّا هو، لا رَحمٰنَ إلّا هو.. وهكذا.
[مثال: قصة موسى]
ومَثلًا: قِصّةُ مُوسَى عَليهِ السَّلام مِنَ القِصَصِ القُرآنيّةِ، فيها مِنَ العِبَرِ والدُّرُوسِ بقَدْرِ ما في عَصا مُوسَى عَليهِ السَّلام مِنَ الفَوائدِ، إذ فيها تَطمِينٌ للرَّسُولِ ﷺ وتَسليةٌ له، وتَهديدٌ للكُفَّارِ، وتَقبِيحٌ للمُنافِقين، وتَوبيخٌ لليَهُودِ.. وما شابَهَها مِنَ المَقاصِدِ؛ فلَها إذًا وُجُوهٌ كَثيرةٌ جِدًّا، لِذا كُرِّرَت في سُوَرٍ عِدّةٍ؛ فمعَ أنَّها تُفيدُ جَميعَ المَقاصِدِ في كلِّ مَوضِعٍ إلّا أنَّ مَقصَدًا مِنها هو المَقصُودُ بالذّاتِ، وتَبقَى المَقاصِدُ الأُخرَى تابِعةً له.
[بِم نعرف أن جميع وجوه المعاني القرآنية مُرادة؟]
إذا قُلتَ: كيف نَفهَمُ أنَّ القُرآنَ قد أَرادَ جَميعَ تلك المَعاني الَّتي جاءَت في الأَمثِلةِ السّابِقةِ، ويُشِيرُ إلَيها؟
فالجَوابُ: ما دامَ القُرآنُ الكَريمُ خِطابًا أَزَليًّا، يُخاطِبُ به اللهُ سُبحانَه وتَعالَى مُختَلِفَ طَبَقاتِ البَشَريّةِ المُصطَفّةِ خَلفَ العُصُورِ ويُرشِدُهم جَميعًا، فلا بُدَّ أنَّه يُدرِجُ مَعانِيَ عِدّةً لِتُلائِمَ مُختَلِفَ الأَفهامِ، وسيَضَعُ أَماراتٍ على إرادَتِه هذه.
نعم، ففي كِتابِ “إشاراتِ الإعجازِ” ذَكَرْنا هذه المَعانِيَ المَوجُودةَ هنا وأَمثالَها مِنَ المَعاني المُتَعدِّدةِ لِكَلِماتِ القُرآنِ، وأَثبَتْناها وَفقَ قَواعِدِ عِلمِ الصَّرفِ والنَّحوِ وحَسَبَ دَساتيرِ عِلمِ البَيانِ وفَنِّ المَعاني وقَوانينِ فنِّ البَلاغةِ.
وإلى جانِبِ هذا فإنَّ جَميعَ الوُجُوهِ والمَعاني الَّتي هي صَحيحةٌ حَسَبَ عُلُومِ العَرَبيّةِ، وصائِبةٌ وَفقَ أُصُولِ الدِّينِ، ومَقبُولةٌ في فَنِّ المَعاني، ولائقةٌ في عِلمِ البَيانِ، ومُستَحسَنةٌ في عِلمِ البَلاغةِ، هي مِن مَعاني القُرآنِ الكَريمِ، بإجماعِ المُجتَهِدين والمُفَسِّرين وعُلَماءِ أُصُولِ الدِّينِ وأُصُولِ الفِقهِ، وبشَهادةِ اختِلافِ وِجْهاتِ نَظَرِهم؛ وقد وَضَع القُرآنُ الكَريمُ أَماراتٍ على كلٍّ مِن تلك المَعاني حَسَبَ دَرَجاتِها، وهي إمَّا لَفظِيّةٌ أو مَعنَوِيّةٌ، والأَمارةُ المَعنَويّةُ هي: إمَّا السِّياقُ نَفسُه أو سِياقُ الكَلامِ أو أَمارةٌ مِن آياتٍ أُخَرَ تُشِيرُ إلى ذلك المَعنَى.
إنَّ مِئاتِ الأُلُوفِ مِنَ التَّفاسِيرِ الَّتي قد بَلَغ بَعضُها ثَمانين مُجَلَّدًا -وقد أَلَّفَها عُلَماءُ مُحَقِّقُون- بُرهانٌ قاطِعٌ باهِرٌ على جامِعِيّةِ لَفظِ القُرآنِ وخارِقيَّتِه.
وعلى كلِّ حالٍ فلو أَوْضَحْنا في هذه الكَلِمةِ كلَّ أَمارةٍ تَدُلُّ على كلِّ مَعنًى مِنَ المَعاني بقانُونِها وبقاعِدَتِها لَطالَت بنا الكَلِمةُ، لِذا نَختَصِرُ الكَلامَ هنا ونُحِيلُ إلى كِتابِ “إشاراتِ الإعجازِ في مَظانِّ الإيجازِ”.
[اللمعة الثانية: جامعية معناه]
اللَّمعةُ الثّانية: الجامِعِيّةُ الخارِقةُ في مَعانيه.
نعم، إنَّ القُرآنَ الكَريمَ قد أَفاضَ مِن خَزِينةِ مَعانيه الجَليلةِ مَصادِرَ جَمِيعِ المُجتَهِدين، ومَذاقَ جَميعِ العارِفين، ومَشارِبَ جَميعِ الواصِلِين ومَسالِكَ جَميعِ الكامِلين، ومَذاهِبَ جَميعِ المُحَقِّقين، فَضْلًا عن أنَّه صارَ دَليلَهم في كلِّ وَقتٍ ومُرشِدَهم في رُقيِّهم كلَّ حِينٍ، ناشِرًا على طُرُقِهم أَنوارَه السَّاطِعةَ مِن خَزِينَتِه الَّتي لا تَنضُبُ، كما هو مُصَدَّقٌ ومُتَّفقٌ علَيه بَينَهم.
[اللمعة الثالثة: جامعية علمه]
اللَّمعةُ الثالثة: الجامِعِيّةُ الخارِقةُ في عِلمِه.
نعم، إنَّ القُرآنَ الكَريمَ مِثلَما أَجرَى مِن بَحرِ عُلُومِه عُلُومَ الشَّريعةِ المُتَعدِّدةَ الوَفيرةَ، وعُلُومَ الحَقيقةِ المُتَنوِّعةَ الغَزِيرةَ، وعُلُومَ الطَّرِيقةِ المُختَلِفةَ غيرَ المَحدُودةِ، فإنَّه أَجرَى كذلك مِن ذلك البَحرِ بسَخاءٍ وانتِظامٍ الحِكمةَ الحَقيقيّةَ لِدائرةِ المُمكِناتِ، والعُلُومَ الحَقيقيّةَ لِدائرةِ الوُجُوبِ، والمَعارِفَ الغامِضةَ لِدائرةِ الآخِرةِ. ولو أَرَدْنا إيرادَ مِثالٍ لهذه اللَّمعةِ فلا بُدَّ مِن كِتابةِ مُجَلَّدٍ كامِلٍ! لِذا نُبيِّنُ “الكَلِماتِ” الخَمسةَ والعِشرِين السّابِقةَ فحَسْبُ.
نعم، إنَّ الحَقائقَ الصّادِقةَ للكَلِماتِ الخَمسِ والعِشرِين كلِّها إنْ هي إلّا خَمسٌ وعِشرُون قَطرةً مِن بَحرِ عِلمِ القُرآنِ، فإن وُجِدَ قُصُورٌ في تلك “الكَلِماتِ” فهُو راجِعٌ إلى فَهمي القاصِرِ.
[اللمعة الرابعة: جامعية مباحثِه]
اللَّمعةُ الرابعة: الجامِعِيّة الخارِقةُ في مَباحِثِه.
نعم، إنَّ القُرآنَ قد جَمَعَ المَباحِثَ الكُلِّيّةَ لِما يَخُصُّ الإنسانَ ووَظِيفَتَه، والكَونَ وخالِقَه، والأَرضَ والسَّماواتِ، والدُّنيا والآخِرةَ، والماضِيَ والمُستَقبَلَ، والأَزَلَ والأَبدَ، فَضْلًا عن ضَمِّه مَباحِثَ مُهِمّةً أَساسِيّةً ابتِداءً مِن خَلقِ الإنسانِ مِنَ النُّطفةِ إلى دُخُولِه القَبْرَ، ومِن آدابِ الأَكلِ والنَّومِ إلى مَباحِثِ القَضاءِ والقَدَرِ، ومِن خَلقِ العالَمِ في سِتّةِ أَيّامٍ إلى وَظائفِ هُبُوبِ الرِّيحِ الَّتي يُشِيرُ إلَيها القَسَمُ في ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ﴾ ﴿وَالذَّارِيَاتِ﴾، ومِن مُداخَلَتِه سُبحانَه في قَلبِ الإنسانِ وإرادَتِه بإشاراتِ الآياتِ الكَرِيمةِ: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ إلى ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾، ومِن ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ إلى الحَقيقةِ العَجيبةِ الَّتي تُعبِّـرُ عنها الآيةُ: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾، ومِن حالةِ السَّماءِ ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ إلى انشِقاقِ السَّماءِ وانكِدارِ النُّجُومِ وانتِشارِها في الفَضاءِ الَّذي لا يُحَدُّ، ومِنِ انفِتاحِ الدُّنيا للِامتِحانِ إلى انتِهاءِ الِاختِبارِ، ومِنَ القَبْرِ الَّذي هو أوَّلُ مَنزِلٍ مِن مَنازِلِ الآخِرةِ والبَرزَخِ والحَشرِ والصِّراطِ إلى الجَنّةِ والسَّعادةِ الأَبَديّةِ، ومِن وَقائعِ الزَّمانِ الماضي الغابِرِ مِن خَلقِ آدَمَ عَليهِ السَّلام وصِراعِ ابنَيْهِ إلى الطُّوفانِ، إلى هَلاكِ قَومِ فِرعَونَ وحَوادِثَ جَليلةٍ لِأَغلَبِ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلَام، ومِنَ الحادِثةِ الأَزَليّةِ في ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ إلى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ الَّتي تُفيدُ الأَبَديّةَ.
فجَميعُ هذه المَباحِثِ الأَساسيّةِ والمُهِمّة تُبيَّنُ في القُرآنِ بَيانًا واضِحًا يَليقُ بذاتِ اللهِ الجَليلةِ سُبحانَه الَّذي يُدَبِّر الكَونَ كُلَّه كأنَّه قَصرٌ، ويَفتَحُ الدُّنيا والآخِرةَ كغُرفتَينِ يَفتَحُ إحداهما ويَسُدُّ الأُخرَى بسُهُولةٍ، ويَتَصَرَّفُ في الأَرضِ تَصَرُّفَه في بُستانٍ صَغيرٍ، وفي السَّماءِ كأنَّها سَقْفٌ مُزَيَّنٌ بالمَصابيحِ، ويَطَّلِعُ على الماضي والمُستَقبَلِ كصَحِيفتَينِ حاضِرَتَينِ أمامَ شُهُودِه كاللَّيلِ والنَّهارِ، ويُشاهِدُ الأَزَلَ والأَبَدَ كاليَومِ وأَمسِ، يُشاهِدُهما كالزَّمانِ الحاضِرِ الَّذي اتَّصَل فيه طَرَفا سِلسِلةِ الشُّؤونِ الإلٰهِيّةِ.
فكما أنَّ مِعمارِيًّا يَتَكلَّمُ في بِناءَينِ بَناهُما وفي إدارَتِهما، ويَجعَلُ للأَعمالِ المُتَعلِّقةِ بهما صَحِيفةَ عَمَلٍ وفِهرِسَ نِظامٍ؛ فالقُرآنُ الكَرِيمُ كذلك كَلامٌ مُبِينٌ يَليقُ بمَن خَلَق هذا الكَونَ ويُدِيرُه، وكَتَب صَحِيفةَ أَعمالِه وفَهارِسَ بَرامِجِه -إن جازَ التَّعبِيرُ- وأَظهَرَها؛ فلا يُشاهَدُ فيه أَثَرٌ مِن تَصَنُّعٍ وتَكَلُّفٍ بأيِّ جِهةٍ كانَت، كما لا أَمارةَ قَطعًا لِشائبةِ تَقليدِ كَلامِ أَحَدٍ آخَرَ، وفَرْضِ نَفسِه في مَكانِه ومَوقِعِه على سَبِيلِ الخِداع. فهو بكلِّ جِدِّيَّتِه، وبكُلِّ صَفائِه، وبكُلِّ خُلُوصِه صافٍ برَّاقٌ ساطِعٌ زاهِرٌ، إذ مِثلَما يقُولُ ضَوءُ الشَّمسِ: أنا مُنبَعِثٌ مِنَ الشَّمسِ، فالقُرآنُ كذلك يقُولُ: “أنا كَلامُ رَبِّ العالَمين وبَيانُه”.
نعم، إنَّ الَّذي جَمَّل هذه الدُّنيا وزَيَّنها بصَنائعِه الثَّمينةِ ومَلَأَها بأَطايِبِ نِعَمِه الشَّهِيّةِ، ونَشَرَ في وَجهِ الأَرضِ بَدائِعَ مَخلُوقاتِه ونِعَمَه القَيِّمةَ بكُلِّ إبداعٍ وإحسانٍ وتَنسِيقٍ وتَنظِيمٍ، ذلِكُمُ الصَّانِعُ الجَليلُ والمُنعِمُ المُحسِنُ، مَن غَيرُهُ يَليقُ أن يكُونَ صاحِبَ هذا البَيانِ، بَيانِ القُرآنِ الكَريمِ الَّذي مَلَأَ الدُّنيا بالتَّقدِيرِ والتَّعظيمِ والِاستِحسانِ والإعجابِ والحَمدِ والشُّكرِ، حتَّى جَعَل الأَرضَ رِباطَ ذِكرٍ وتَهليلٍ، ومَسجِدًا يُرفَعُ فيه اسمُ اللهِ، ومَعرِضًا لِبَدائعِ الصَّنعةِ الإلٰهِيّةِ؟ ومَن يكُونُ غيرُه صاحِبَ هذا الكَلامِ؟ ومَن يُمكِنُه أن يَدَّعيَ أن يكُونَ صاحِبَه؟
فهل يَليقُ للضِّياءِ الَّذي مَلَأ الدُّنيا نُورًا أن يعُودَ لِغَيرِ الشَّمسِ؟ وبَيانُ القُرآنِ الَّذي كَشَف لُغزَ العالَمِ ونَوَّرَه، نُورَ مَن يكُونُ غيرَ نُورِ مَن خَلَق السَّماواتِ والأَرضِ؟ فمَن يَجرُؤُ أن يُقلِّدَه ويَأتِيَ بنَظيرٍ له؟!
حقًّا، إنَّ الصّانِعَ الَّذي زَيَّن بإبداعِ صَنْعتِه هذه الدُّنيا، مُحالٌ ألَّا يَتَكلَّمَ مع هذا الإنسانِ المَبهُورِ بصُنعهِ وإبداعِه، فما دامَ يَفعَلُ ويَعلَمُ فلا بُدَّ أنَّه يَتَكلَّمُ، وما دامَ يَتَكلَّمُ فلا يَليقُ بكَلامِه إلّا القُرآنُ؛ فمالِكُ المُلكِ الَّذي يَهْتَمُّ بتَنظِيمِ زَهرةٍ صَغيرةٍ كيف لا يُبالي بكَلامٍ حَوَّلَ مُلكَه إلى جَذْبةِ ذِكرٍ وتَهليلٍ؟ أيُمكِنُ أن يُنزَل مِن قَدْرِ هذا الكَلامِ بنِسبَتِه إلى غيرِه؟!
[اللمعة الخامسة: جامعية أسلوبه وإيجازه]
اللَّمعةُ الخامسة: الجامِعِيّةُ الخارِقةُ في أُسلُوبه وإيجازِه.
في هذه اللَّمعةِ خَمسةُ أَضواءٍ:
[الضوء الأول: جامعية السوَر والآيات]
الضَّوءُ الأوَّلُ: إنَّ لِأُسلُوبِ القُرآنِ جامِعِيّةً عَجيبةً، حتَّى إنَّ سُورةً واحِدةً تَتَضمَّنُ بَحرَ القُرآنِ العَظيمِ الَّذي ضَمَّ الكَونَ بينَ جَوانِحِه؛ وإنَّ آيةً واحِدةً تَضُمُّ خَزِينةَ تلك السُّورةِ؛ وإنَّ أَكثَرَ الآياتِ كُلٌّ منها كسُورةٍ صَغيرةٍ، وأَكثَرَ السُّوَرِ كلٌّ مِنها كقُرآنٍ صَغير.
فمِن هذا الإيجازِ المُعجِزِ يَنشَأُ لُطْفٌ عَظيمٌ للإرشادِ وتَسهِيلٌ واسِعٌ جَميلٌ، لأنَّ كلَّ إنسانٍ على الرَّغمِ مِن حاجَتِه إلى تِلاوةِ القُرآنِ كلَّ وَقتٍ، فإنَّه قد لا يُتاحُ له تِلاوَتُه، إمّا لِغَباوَتِه وقُصُورِ فَهمِه أو لِأَسبابٍ أُخرَى، فلِكَيلا يُحرَمَ أَحَدٌ مِنَ القُرآنِ فإنَّ كلَّ سُورةٍ في حُكمِ قُرآنٍ صَغيرٍ، بل كلُّ آيةٍ طَوِيلةٍ في مَقامِ سُورةٍ قَصِيرةٍ، حتَّى إنَّ أَهلَ الكَشْفِ مُتَّفِقُون أنَّ القُرآنَ في الفاتِحةِ، والفاتِحةَ في البَسمَلةِ. أمّا البُرهانُ على هذا فهو إجماعُ أَهلِ التَّحقيقِ وأَهلِ العِلمِ.
[الضوء الثاني: جامعية الدلالات]
الضَّوءُ الثّاني: إنَّ الآياتِ القُرآنيّةَ جامِعةٌ بدَلالاتِها وإشاراتِها لِأَنواعِ الكَلامِ والمَعارِفِ الحَقيقيّةِ والحاجاتِ البَشَريّةِ كالأَمرِ والنَّهيِ، والوَعدِ والوَعيدِ، التَّرغِيبِ والتَّرهيبِ، الزَّجرِ والإرشادِ، القَصَصِ والأَمثالِ، الأَحكامِ والمَعارِفِ الإلٰهِيّةِ، العُلُومِ الكَونيّةِ، وقَوانينِ وشَرائطِ الحَياةِ الشَّخصِيّةِ والحَياةِ الِاجتِماعيّةِ والحَياةِ القَلبِيّةِ والحَياةِ المَعنَوِيّة والحَياةِ الأُخرَوِيّة. حتَّى يَصْدُقُ علَيه المَثَلُ السّائرُ بينَ أَهلِ الحَقيقةِ: “خُذ ما شِئتَ لِما شِئتَ” بمَعنَى أنَّ الآياتِ القُرآنيّةَ فيها مِنَ الجامِعِيّةِ ما يُمكِنُ أن يكُونَ دَواءً لكُلِّ داءٍ وغِذاءً لكُلِّ حاجةٍ.
نعم، هكذا يَنبَغي أن يكُونَ، لأنَّ الرّائدَ الكامِلَ المُطلَقَ -وهو القُرآنُ العَظيمُ- لِجَميعِ طَبَقاتِ أَهلِ الكَمالِ الَّذين يَقطَعُون المَراتِبَ دَوْمًا إلى الرُّقيِّ لا بُدَّ أن يكُونَ مالِكًا لِهذه الخاصِّيّةِ.
[الضوء الثالث: الإيجاز المعجز]
الضَّوءُ الثّالثُ: الإيجازُ المُعجِزُ للقُرآنِ. فقد يَذكُرُ القُرآنُ مَبدَأَ سِلسِلةٍ طَوِيلةٍ ومُنتَهاها ذِكرًا لَطِيفًا يُرِي السِّلسِلةَ بكامِلِها، وقد يُدرِجُ في كَلِمةٍ واحِدةٍ بَراهِينَ كَثيرةً لِدَعوَى؛ صَراحةً وإشارةً ورَمزًا وإيماءً.
فمَثلًا: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾.
هذه الآيةُ الكَريمةُ تَذكُرُ مَبدَأَ سِلسِلةِ خَلقِ الكَونِ ومُنتَهاها، وهي سِلسِلةُ آياتِ التَّوحيدِ ودَلائلِه، ثمَّ تُبيِّنُ السِّلسِلةَ الثّانيةَ، جاعِلةً القارِئَ يَقرَأُ السِّلسِلةَ الأُولَى، وذلك أنَّ أُولَى صَحائفِ العالَم الشّاهِدةِ على الصّانِعِ الحَكيمِ هي خَلقُ السَّماواتِ والأَرضِ، ثمَّ تَزيِينُ السَّماواتِ بالنُّجُوم وإعمارُ الأَرضِ بذَوِي الحَياةِ، ثمَّ تَبَدُّلُ المَواسِمِ بتَسخِيرِ الشَّمسِ والقَمَرِ، ثمَّ سِلسِلةُ الشُّؤُونِ الرَّبَّانيّةِ في اختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ وتَعاقُبِهما.. وهكذا تَدرِيجِيًّا حتَّى تَبلُغَ خُصُوصيّةَ المَلامِحِ والأَصواتِ وامتِيازَها وتَشَخُّصاتِها الَّتي هي أَكثَرُ مَواضِعِ انتِشارِ الكَثرةِ.
فإذا ما وُجِدَ انتِظامٌ بَديعٌ حَكيمٌ مُحَيِّـرٌ للأَلبابِ، وتَبيَّنَ عَمَلُ قَلَمِ صَنّاعٍ حَكيمٍ في أَكثَرِ المَواضِعِ بُعدًا عنِ الِانتِظامِ وأَزيَدِها تَعَرُّضًا للمُصادَفةِ ظاهِرًا، تلك هي مَلامِحُ وُجُوهِ الإنسانِ وأَلوانُه، فلا بُدَّ أنَّ الصَّحائفَ الأُخرَى الظّاهِرَ نِظامُها تُفهَمُ بنَفسِها وتَدُلّ على مُصَوِّرِها البَديعِ. ثمَّ إنّه لَمّا كان أَثرُ الإبداعِ والحِكمةِ يُشاهَدُ في أَصلِ خَلقِ السَّماواتِ والأَرضِ الَّتي جَعَلَها الصّانِعُ الحَكيمُ الحَجَرَ الأَساسَ للكَونِ، فلا بُدَّ أنَّ نَقْشَ الحِكمةِ وأَثرَ الإبداعِ ظاهِرٌ جِدًّا في سائرِ أَجزاءِ الكَونِ.
فهذه الآيةُ حَوَت إيجازًا لَطِيفًا مُعجِزًا في إظهارِ الخَفِيِّ وإضمارِ الظّاهِرِ، فأَوجَزَتْ وأَجمَلَت. حَقًّا إنَّ سِلسِلةَ البَراهِينِ المُبتَدِئةِ مِن ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ إلى ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ والَّتي تَتَكرَّرُ فيها سِتَّ مَرّاتٍ ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ.﴾. ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ﴾ إنَّما هي سِلسِلةُ جَواهِرَ، سِلسِلةُ نُورٍ، سِلسِلةُ إعجازٍ، سِلسِلةُ إيجازٍ إعجازِيٍّ؛ يَتَمنَّى القَلبُ أنْ أُبيِّنَ الجَواهِرَ الكامِنةَ في هذه الكُنُوزِ، ولكن ما حِيلَتي فالمَقامُ لا يَحتَمِلُه، فلا أَفتَحُ ذلك البابَ، وأُعَلِّقُ الأَمرَ إلى وَقتٍ آخَرَ بمَشِيئةِ اللهِ.
ومَثلًا: ﴿فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾: فبَينَ كَلِمةِ ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾ وكَلِمةِ ﴿يُوسُفُ﴾ يَكْمُنُ مَعنَى العِبارةِ التّاليةِ: “إلى يُوسُفَ لِأَستَعبِرَ مِنه الرُّؤيا، فأَرسَلُوه، فذَهَب إلى السِّجنِ، وقال..” بمَعنَى أنَّه أَوْجَزَ عِدّةَ جُمَلٍ في جُملةٍ واحِدةٍ مِن دُونِ أن يُخِلَّ بوُضُوحِ الآيةِ ولا أَشكَلَ في فَهمِها.
ومَثلًا: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا﴾: ففي مَعرِضِ رَدِّ القُرآنِ على الإنسانِ العاصِي الَّذي يَتَحدَّى الخالقَ بقَولِه: ﴿مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ يقُولُ: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾، ويقُولُ أيضًا: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا﴾ قادِرٌ على أن يُحيِيَ العِظامَ وهي رَمِيمٌ.
فهذا الكَلامُ يَتَوجَّهُ إلى دَعوَى الإحياءِ مِن عِدّةِ جِهاتٍ ويُثبِتُها، إذ إنَّه يَبدَأُ مِن سِلسِلةِ الإحساناتِ الَّتي أَحسَنَ اللهُ بها إلى الإنسانِ، فيُذَكِّرُه بها ويُثيرُ شُعُورَه، إلّا أنَّه يَختَصِرُ الكَلامَ، لأنَّه فَصَّلَه في آياتٍ أُخرَى، ويُوجِزُه مُحِيلًا إيّاه على العَقلِ. أي إنَّ الَّذي مَنَحَكم مِنَ الشَّجَرِ الثَّمَرَ والنّارَ، ومِنَ الأَعشابِ الرِّزقَ والحُبُوبَ ، ومِنَ التُّرابِ الحُبُوبَ والنَّباتاتِ، وقد جَعَل لكُمُ الأَرضَ مَهْدًا، فيها جَميعُ أَرزاقِكم، والعالَمَ قَصْرًا فيه جَميعُ لَوازِمِ حَياتِكم؛ فهل يُمكِنُ أن يَتْرُكَكم سُدًى فتَفِرُّوا مِنه، وتَختَفُوا عنه في العَدَمِ؟ فلا يُمكِنُ أن تكُونُوا سُدًى فتَدخُلُوا القَبْرَ وتَنامُوا براحةٍ دُونَ سُؤالٍ عمَّا كَسَبتُم ودُونَ إحيائِكم!
ثمَّ يُشِيرُ إلى دَليلٍ واحِدٍ لتلك الدَّعوَى: فيقُولُ رَمْزًا بكَلِمةِ ﴿الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ﴾: “أيُّها المُنكِرُ للحَشْرِ.. انظُر إلى الأَشجارِ، فإنَّ مَن يُحيِي أَشجارًا لا حَدَّ لها في الرَّبيعِ بعدَ أن ماتَت في الشِّتاءِ وأَصبَحَت شَبِيهةً بالعِظامِ، ويَجعَلُها مُخضَرّةً، بل يُظهِرُ في كلِّ شَجَرةٍ ثَلاثةَ نَماذِجَ مِنَ الحَشرِ، في الأَوراقِ والأَزهارِ والأَثمارِ.. إنَّ هذا القَدِيرَ لا تُتَحَدَّى قُدرَتُه بالإنكارِ ولا يُستَبعَدُ مِنه الحَشرُ”.
ثمَّ يُشِيرُ إلى دَليلٍ آخَرَ ويقُولُ: “إنَّ الَّذي أَخرَجَ لكُمُ النَّارَ، تلك المادّةَ الخَفيفةَ النُّورانيّةَ، مِنَ الشَّجَرِ الكَثيفِ الثَّقيلِ المُظلِمِ، كيف تَستَبعِدُون مِنه مَنْحَ حَياةٍ لَطيفةٍ كالنّارِ، وشُعُورٍ كالنُّورِ لِعِظامٍ كالحَطَبِ”.
ثمَّ يَأتي بدَليلٍ آخَرَ صَراحةً ويقُولُ: إنَّ الَّذي يَخلُقُ النّارَ مِنَ الشَّجَرِ المَشهُورِ لَدَى البَدَويِّين بِحَكِّ غُصنَينِ معًا، ويَجمَعُ بينَ صِفَتَينِ مُتَضادَّتَينِ (الرُّطُوبةِ والحَرارةِ)، ويَجعَلُ إحداهما مَنشَأً للأُخرَى، يَدُلُّنا على أنَّ كلَّ شيءٍ حتَّى العَناصِرُ الأَصليّةُ والطَّبائعُ الأَساسِيّةُ إنَّما تَتَحرَّكُ بقُوَّتِه وتَتَمثَّلُ بأَمرِه، ولا شَيءَ مِنها يَتَحرَّكُ بِذاتِه أو سُدًى؛ فمِثلُ هذا الخالقِ العَظيمِ لا يُمكِنُ أن يُستَبعَدَ مِنه إحياءُ الإنسانِ مِنَ التُّرابِ وقد خَلَقَه مِنَ التُّرابِ ويُعيدُه إلَيه، فلا يُتَحدَّى بالعِصيانِ.
ثمَّ بعدَ ذلك يُذَكِّرُ بكَلِمةِ ﴿الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ﴾ شَجَرةِ مُوسَى عَليهِ السَّلام المَشهُورةِ، فيُومِئُ إلى اتِّفاقِ الأَنبِياءِ إيماءً لَطِيفًا بأنَّ هذه الدَّعوَى الأَحمَدِيّةَ علَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ هي بعَينِها دَعوَى مُوسَى عَليهِ السَّلام، مِمّا يَزِيدُ إيجازَ هذه الكَلِمةِ لَطافةً وحُسْنًا آخَرَ.
[الضوء الرابع: إدراج دستور كلي في حادث جزئي]
الضَّوءُ الرَّابعُ: إنَّ إيجازَ القُرآنِ جامِعٌ ومُعجِزٌ، فلو أُنعِمَ النَّظَرُ فيه لَشُوهِدَ بوُضُوحٍ أنَّ القُرآنَ قد بَيَّن في مِثالٍ جُزئيٍّ وفي حادِثةٍ خاصّةٍ، دَساتيرَ كُلِّيّةً واسِعةً وقَوانينَ عامّةً طَوِيلةً، وكأنَّه يُبيِّنُ في غُرفةِ ماءٍ بَحرًا واسِعًا. سنُشِيرُ إلى مِثالَينِ اثنَينِ مِن آلافِ أَمثِلَتِه:
[مثال: قصة آدم عليه السلام]
المِثالُ الأوَّلُ: هو الآياتُ الثَّلاثُ الَّتي فَصَّلْنا شَرْحَها في المَقامِ الأَوَّلِ مِنَ “الكَلِمةِ العِشرِين”، وهي أنَّه بتَعلِيمِ آدَمَ عَليهِ السَّلام الأَسماءَ كلَّها تُفيدُ الآيةُ الكَرِيمةُ: تَعلِيمَ جَميعِ العُلُومِ والفُنُونِ المُلهَمةِ لِبَني آدَمَ.
وبحادِثةِ سُجُودِ المَلائكةِ لآدَمَ عَليهِ السَّلام وعَدَمِ سُجُودِ الشَّيطانِ تُبيِّنُ الآيةُ أنَّ أَكثَرَ المَوجُوداتِ -مِنَ السَّمَكِ إلى المَلَكِ- مُسَخَّرةٌ لِبَني الإنسانِ، كما أنَّ المَخلُوقاتِ المُضِرّةَ -مِنَ الثُّعبانِ إلى الشَّيطانِ- لا تَنقادُ إلَيه بل تُعادِيه، وبحادِثةِ ذَبحِ قَومِ مُوسَى عَليهِ السَّلام البَقَرةَ تُعبِّـرُ الآيةُ عن أنَّ فِكرةَ عِبادةِ البَقَرِ قد ذُبِحَتْ بسِكِّينِ مُوسَى عَليهِ السَّلام، تلك الفِكرةَ الَّتي كانَت رائِجةً في مِصرَ حتَّى إنَّ لها أَثَرًا مُباشِرًا في حادِثةِ العِجلِ؛ وبنَبَعانِ الماءِ مِنَ الحَجَرِ وتَشَقُّقِ الصُّخُورِ وسَيَلانِ الماءِ مِنها تُبيِّنُ الآيةُ أنَّ الطَّبقةَ الصَّخرِيّةَ الَّتي تحتَ التُّرابِ خَزائنُ أَوعِيةِ الماءِ تُزَوِّدُ التُّرابَ بما يَبعَثُ فيه الحَياةَ.
[مثال: قصة موسى عليه السلام ]
المِثالُ الثّاني: إنَّ قِصّةَ مُوسَى عَليهِ السَّلام قد تَكَرَّرَت كَثيرًا في القُرآنِ الكَريمِ، إذ إنَّ في كلِّ جُملةٍ مِنها، وفي كلِّ جُزءٍ مِنها إظهارًا لِطَرَفٍ مِن دُستُورٍ كُلِّيٍّ، ويُعبِّـرُ عن ذلك الدُّستُورِ.
مِنها: الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا﴾: يَأمُرُ فِرعَونُ وَزِيرَه: ابنِ لي بُرجًا عاليًا لِأَطَّلِعَ على أَحوالِ السَّماواتِ وأَنظُرَ هل هناك إلٰهٌ يَتَصرَّفُ فيها كما يَدَّعيه مُوسَى عَليهِ السَّلام؟ فبِكَلِمةِ ﴿صَرْحًا﴾ تُبيِّنُ الآيةُ الكَرِيمةُ بحادِثةٍ جُزئيّةٍ دُستُورًا عَجِيبًا وعُرْفًا غَرِيبًا كان جارِيًا في سُلالةِ فَراعِنةِ مِصرَ الَّذين ادَّعَوُا الرُّبُوبيّةَ لِجُحُودِهم بالخالقِ وإيمانِهم بالطَّبيعةِ، وخَلَّدُوا أَسماءَهم بجَبَـرُوتِهم وعُتُوِّهم، فشَيَّدُوا الأَهرامَ المَشهُورةَ كأنَّها جِبالٌ وَسَطَ صَحراءَ لا جِبالَ فيها، ليَشتَهِرُوا بها، وحَفِظُوا جَنائزَهم بالتَّحنيطِ واضِعين إيَّاها في تلك المَقابرِ الشّامِخةِ، لِاعتِقادِهم بتَناسُخِ الأَرواحِ والسِّحرِ.
ومِنها: قولُه تَعالَى: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾، والخِطابُ مُوَجَّهٌ إلى فِرعَونَ الَّذي غَرِقَ، وفي الوَقتِ نَفسِه تُبيِّنُ الآيةُ ما كان للفَراعِنةِ مِن دُستُورٍ لِحَياتِهم مُذَكِّرٍ بالمَوتِ مَليءٍ بالعِبَرِ، وهو نَقلُ أَجسادِ مَوتاهم بالتَّحنيطِ مِنَ الماضِي إلى الأَجيالِ المُقبِلةِ لِعَرضِها أَمامَهم وَفْقَ اعتِقادِهم بتَناسُخِ الأَرواحِ. كما تُفيدُ الآيةُ الكَرِيمةُ بأُسلُوبٍ مُعجِزٍ إشارةً غَيبيّةً إلى أنَّ الجَسَدَ الَّذي اكتُشِفَ في العَصرِ الأَخيرِ هو نَفسُه جَسَدُ فِرعَونَ الَّذي غَرِقَ، فكما أُلقِيَ به إلى السَّاحِلِ في المَوضِعِ الَّذي غَرِقَ فيه، فسيُلقَى به كذلك مِن بَحرِ الزَّمانِ، فوقَ أَمواجِ العُصُورِ، إلى ساحِلِ هذا العَصرِ.
ومِنها: قَولُه تَعالَى: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾، فإنَّه بحادِثةِ ذَبحِ بَني إسرائيلَ واستِحياءِ نِسائِهم وبَناتِهم في عَهدِ فِرعَونَ يُبيِّنُ الإبادةَ الجَماعيّةَ الّتي يَتَعرَّضُ لها اليَهُودُ في أَكثَرِ البُلدانِ وفي كلِّ عَصرٍ، والدَّورَ المُهِمَّ الَّذي تُؤَدِّيه نِساؤُهم وبَناتُهم في حَياةِ السَّفاهةِ للبَشَريّةِ وتَحَلُّلِ أَخلاقِها.
ومِنها: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.
هذان الحُكْمانِ القاضِيانِ في حَقِّ اليَهُودِ (الحِرصُ والفَسادُ)، يتَضَمَّنانِ هذَينِ الدُّستُورَينِ العامَّينِ المُهِمَّينِ، اللَّذَينِ يُدِيرُهما أُولَئك القَومُ في حَياةِ المُجتَمعِ الإنسانِيِّ بالمَكرِ والحِيَلِ والخَدِيعةِ؛ فالآيةُ تُبيِّنُ أنَّهم همُ الَّذين زَلزَلُوا الحَياةَ الِاجتِماعيّةَ الإنسانيّةَ وأَوقَدُوا الحَرْبَ بينَ الفُقَراءِ والأَغنِياءِ بتَحرِيضِ العامِلِين على أَصحابِ رَأسِ المالِ، وكانُوا السَّبَبَ في تَأسِيسِ البُنُوكِ بجَعلِهِمُ الرِّبا أَضعافًا مُضاعَفةً، وجَمَعُوا أَموالًا طائلةً بكُلِّ وَسِيلةٍ دَنيئةٍ بالمَكرِ والحِيَلِ، هؤلاء القَومُ هم أَنفسُهم أيضًا انخَرَطُوا في كلِّ أَنواعِ المُنَظَّماتِ الفاسِدةِ، ومَدُّوا أَيدِيَهم إلى كلِّ نَوعٍ مِن أَنواعِ الثَّوراتِ، أَخْذًا بثَأْرِهم مِنَ الشُّعُوبِ الغالِبةِ ومِنَ الحُكُوماتِ الَّتي ذاقُوا مِنها الحِرمانَ وسامَتْهُم أَنواعَ العَذابِ.
ومِنها: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾، فالآيةُ تُبيِّنُ بعُنوانِ حادِثةٍ جُزئيّةٍ وَقَعَتْ في مَجلِسٍ صَغيرٍ في الحَضْرةِ النَّبَويّةِ الكَرِيمةِ، مِن أنَّ اليَهُودَ الَّذين هم أَحرَصُ النّاسِ على حَياةٍ وأَخوَفُهم مِنَ المَوتِ، لن يَتَمنَّوُا المَوتَ ولن يَتَخَلَّوا عنِ الحِرصِ على الحَياةِ حتَّى قِيامِ السّاعةِ.
ومِنها: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾: تُبيِّنُ الآيةُ الكَرِيمةُ بهذا العُنوانِ، مُقَدَّراتِ اليَهُودِ في المُستَقبَلِ بصُورةٍ عامّةٍ، وحيثُ إنَّ الحِرصَ والفَسادَ قد تَغَلغَلَ في سَجاياهم وتَمَكَّن مِن طَبْعِهم، فالقُرآنُ الكَريمُ يُغلِظُ علَيهم في الكَلامِ ويَصفَعُهم صَفَعاتِ زَجْرٍ عَنيفةً للتَّأدِيبِ.
ففي ضَوءِ هذه الأَمثِلةِ، قِسْ بنَفسِك قِصّةَ مُوسَى عَليهِ السَّلام وحَوادِثَ وَقَعَت لِبَني إسرائيلَ وقِصَصَهم.
وبعدُ، فإنَّ وَراءَ كَلِماتِ القُرآنِ البَسِيطةِ ومَباحِثِه الجُزئيّةِ، هناك كَثيرٌ مِن أَمثالِ ما في هذا الضَّوءِ الرّابعِ مِن لَمَعاتِ إعجازٍ كلَمعةِ إيجازٍ إعجازِيٍّ، والعارِفُ تَكفيه الإشارةُ.
[الضوء الخامس: جامعية المقاصد]
الضَّوءُ الخامِسُ: هو الجامِعِيّةُ الخارِقةُ لِمَقاصِدِ القُرآنِ ومَسائلِه ومَعانيه وأَساليبِه ولَطائفِه ومَحاسِنِه:
نعم، إذا أُنعِمَ النَّظَرُ في سُوَرِ القُرآنِ الكَريمِ وآياتِه، ولا سِيَّما فَواتحِ السُّوَرِ، ومَبادِئِ الآياتِ ومَقاطِعِها تَبيَّنَ أنَّ القُرآنَ المُعجِزَ البَيانِ قد جَمَع أَنواعَ البَلاغةِ، وجَميعَ أَقسامِ فَضائلِ الكَلامِ، وجَميعَ أَصنافِ الأَساليبِ العاليةِ، وجَميعَ أَفرادِ مَحاسِنِ الأَخلاقِ، وجَميعَ خُلاصاتِ العُلُومِ الكَونيّةِ، وجَميعَ فَهارِسِ المَعارِفِ الإلٰهِيّةِ، وجَميعَ الدَّساتيرِ النّافِعةِ للحَياةِ البَشَريّةِ الشَّخصِيّةِ والِاجتِماعيّةِ، وجَميعَ القَوانينِ النُّورانيّةِ لِحِكمةِ الكَونِ السّامِيةِ.. وعلى الرَّغمِ مِن جَمعِه هذا، لا يَظهَرُ علَيه أيُّ أَثَرٍ كان مِن آثارِ الخَلطِ وعَدَمِ الِاستِقامةِ في التَّركيبِ أوِ المَعنَى.
حقًّا، إنَّ جَمعَ جَميعِ هذه الأَجناسِ المُختَلِفةِ الكَثيرةِ في مَوضِعٍ واحِدٍ، مِن دُونِ أن يَنشَأَ مِنه اختِلالُ نِظامٍ أو اختِلاطٌ وتَشَوُّشٌ، إنَّما هو شَأنُ نِظامِ إعجازِ قهَّارٍ ليس إلّا.
وحَقًّا، إنَّ تَمزِيقَ سِتارِ العادِيّاتِ، الَّتي هي مَصدَرُ الجَهلِ المُرَكَّبِ، ببَياناتٍ نافِذةٍ، واستِخراجَ خَوارِقِ العاداتِ المُتَستِّرةِ تحتَ ذلك السِّتارِ وإظهارَها بجَلاءٍ، وتَحطِيمَ طاغُوتِ الطَّبيعةِ الَّتي هي مَنبَعُ الضَّلالةِ بسُيُوفِ البَراهِينِ الأَلماسِيّةِ، وتَشتِيتَ حُجُبِ نَومِ الغَفلةِ الكَثيفةِ بصَيْحاتٍ مُدَوِّيةٍ كالرَّعدِ، وحَلَّ طِلَّسْمِ الكَونِ المُغلَقِ والمُعَمَّى العَجيبِ للعالَمِ الَّذي أَعجَزَ الفَلسَفةَ البَشَريّةَ والحِكمةَ الإنسانيّةَ.. ما هو إلّا مِن صُنعِ هذا القُرآنِ المُعجِزِ البَيانِ، البَصيرِ بالحَقيقةِ، المُطَّلِعِ على الغَيبِ، المانِحِ للهِدايةِ، المُظهِرِ للحَقِّ.
نعم، إذا أُنعِمَ النَّظَرُ في آياتِ القُرآنِ الكَريمِ بعَينِ الإنصافِ، شُوهِدَت أنَّها لا تُشبِهُ فِكرًا تَدرِيجِيًّا مُتَسَلسِلًا يُتابِعُ مَقصَدًا أو مَقصَدَينِ كما هي الحالُ في سائرِ الكُتُبِ، بل إنَّها تُلْقَى إلقاءً، ولها طَورٌ دَفعِيٌّ وآنِيٌّ، وأنَّ علَيها عَلامةَ أنَّ كلَّ طائفةٍ مِنها تَرِدُ معًا إنَّما تَرِدُ مُستَقِلّةً وُرُودًا وَجِيزًا مُنَجَّمًا، ومِن مَكانٍ قَصِيٍّ ضِمنَ مُخابَرةٍ في غايةِ الأَهمِّيّةِ والجِدِّيّةِ.
نعم، مَن غَيرُ رَبِّ العالَمِين يَستَطيعُ أن يُجرِيَ هذا الكَلامَ الوَثيقَ الصِّلةِ بالكَونِ وبخالقِ الكَونِ وبهذه الصُّورةِ الجادّةِ؟ ومَن غيرُه تَعالَى يَتَجاوَزُ حَدَّه بما لا حَدَّ له مِنَ التَّجاوُزِ فيَتكلَّمُ حَسَبَ هَواه باسمِ الخالِقِ ذِي الجَلالِ وباسمِ الكَونِ كَلامًا صَحِيحًا كهذا؟
نعم، إنَّه واضِحٌ جَلِيٌّ في القُرآنِ أنَّه كلامُ ربِّ العالَمِين.. هذا الكَلامُ الجادُّ الحَقُّ السّامي الحَقيقيُّ الخالِصُ، ليس علَيه أيّةُ أَمارةٍ كانَت تُومِئُ بالتَّقليدِ؛ فلو فَرَضْنا مُحالًا أنَّ هناك مَن هو مِثلُ مُسَيلِمةَ الكَذّابِ الَّذي تَجاوَزَ حَدَّه بغَيرِ حُدُودٍ، فقَلَّدَ كَلامَ خالِقِه ذِي العِزّةِ والجَبَرُوتِ، وتَكَلَّم مِن بَناتِ فِكرِه، ناصِبًا نَفسَه مُتَكلِّمًا عنِ الكَونِ، فلا بُدَّ أنَّه ستَظهَرُ آلافٌ مِن أَماراتِ التَّقليدِ والتَّصَنُّعِ وآلافٌ مِن عَلاماتِ الغِشِّ والتَّكَلُّفِ، لأنَّ مَن يَتَلبَّسُ طَوْرًا أَسمَى وأَعلَى بكَثيرٍ مِن حالَتِه الدَّنيئةِ لا شَكَّ أنَّ كلَّ حالةٍ مِن حالاتِه تَدُلُّ على التَّقليدِ والتَّصَنُّعِ.
فانظُرْ إلى هذه الحَقيقةِ الَّتي يُعلِنُها هذا القَسَمُ وأَنعِمِ النَّظَرَ فيها: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.
[الشعاع الثالث: الإخبار بالمغيبات]
الشُّعاع الثالث: إعجازُ القرآنِ الكريمِ الناشِئُ مِن إخبارِه عن الغُيُوبِ، ودَيمُومةُ شَبابِه، وصَلاحُه لكلِّ طَبَقةٍ مِنَ النّاسِ.
ولهذا الشُّعاعِ ثلاثُ جَلَواتٍ:
[الجلوة الأولى: إخباره عن الغيوب]
الجَلْوة الأولى: إخبارُه عن الغُيوب:
لهذه الجَلْوةِ ثلاثُ قَبَساتٍ:
[القبس الأول: إخباره عن غيب الماضي]
القَبَسُ الأوَّلُ: إخبارُه الغَيبيُّ عنِ الماضِي:
إنَّ القُرآنَ الحَكيمَ، بلِسانِ أُمِّيٍّ أَمينٍ بالِاتِّفاقِ يَذْكُرُ أَخبارًا مِن لَدُن آدَمَ عَليهِ السَّلام إلى خَيرِ القُرُونِ، مع ذِكرِه أَهَمَّ أَحوالِ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلَام وأَحداثِهمُ المُهِمّةِ، يَذكُرُها ذِكرًا في مُنتَهَى القُوّةِ وغايةِ الجِدِّ، وبتَصدِيقٍ مِنَ الكُتُبِ السّابقةِ كالتَّوراةِ والإنجِيلِ، فيُوافِقُ ما اتَّفَقَت علَيه تلك الكُتُبُ السّابقةُ ويُصَحِّحُ حَقيقةَ الواقِعةِ ويُفَصِّلُ في تلك المَباحِثِ الَّتي اختَلَفَت فيها.
بمَعنَى أنَّ نَظَرَ القُرآنِ الكَريمِ -ذلك النَّظَرَ المُطَّلِعَ على الغَيبِ- يَرَى أَحوالَ الماضِي أَفضَلَ مِن تلك الكُتُبِ، وبما هو فَوقَها جَميعًا، بحيثُ يُزَكِّيها ويُصَدِّقُها في المَسائلِ المُتَّفَقِ علَيها، ويُصَحِّحُها، ويُفَصِّلُ في المَباحِثِ الَّتي اختُلِفَ فيها؛ عِلْمًا أنَّ إخبارَ القُرآنِ الَّذي يَخُصُّ أَحوالَ الماضِي ووَقائِعَه ليس أَمرًا عَقلِيًّا حتَّى يُخبَرَ عنه بالعَقلِ، بل هو أَمرٌ نَقليٌّ مُتَوقِّفٌ على السَّماعِ، والنَّقلُ خاصٌّ بأَهلِ القِراءةِ والكِتابةِ، مع أنَّ الأَعداءَ والأَصدِقاءَ مُتَّفِقُون معًا على أنَّ القُرآنَ إنَّما نَزَل على شَخصٍ أُمِّيٍّ لا يَعرِفُ القِراءةَ والكِتابةَ، مَعرُوفٍ بالأَمانةِ مَوصُوفٍ بالأُمِّيّةِ، وحِينَما يُخبِرُ عن تلك الأَحوالِ الماضِيةِ يُخبِرُ عنها وكأنَّه يُشاهِدُها كلَّها، إذ يَتَناوَلُ رُوحَ حادِثةٍ طَويلةٍ وعُقدَتَها الحَياتيّةَ، فيُخبِرُ عنها، ويَجعَلُها مُقدِّمةً لِمَقصَدِه.
بمَعنَى أنَّ الخُلاصاتِ والفَذْلَكاتِ المَذكُورةَ في القُرآنِ الكَريمِ تَدُلُّ على أنَّ الَّذي أَظهَرَها يَرَى جَميعَ الماضِي بجَميعِ أَحوالِه، إذ كما أنَّ شَخصًا مُتَخصِّصًا في فَنٍّ أو صَنْعةٍ إذا أَتَى بخُلاصةٍ مِن ذلك الفَنِّ، أو بنَمُوذَجٍ مِن تلك الصَّنعةِ، فإنَّها تَدُلُّ على مَهارَتِه ومَلَكَتِه؛ كذلك الخُلاصاتُ ورُوحُ الوَقائعِ المَذكُورةِ في القُرآنِ الكَريمِ تُبيِّنُ أنَّ الَّذي يقُولُها إنَّما يقُولُها وقد أَحاطَ بها ويَراها، ثمَّ يُخبِرُ عنها بمَهارةٍ فوقَ العادةِ -إن جازَ التَّعبيرُ -.
[القبس الثاني: إخباره عن غيب المستقبل]
القَبَسُ الثَّاني: إخبارُه الغَيبيُّ عنِ المُستَقبَلِ:
لهذا القِسمِ أنواعٌ كَثيرةٌ:
القِسمُ الأوَّلُ: خاصٌّ بقِسمٍ مِن أَهلِ الكَشفِ والوِلايةِ:
مثلًا: إنَّ مُحيِيَ الدِّين بنَ عَرَبيٍّ وَجَد كَثيرًا مِنَ الأَخبارِ عنِ الغَيبِ في سُورةِ الرُّومِ ﴿الٓمٓ * غُلِبَتِ الرُّومُ﴾، وإنَّ الإمامَ الرَّبّانِيَّ “أَحمَدَ الفارُوقيَّ السِّرهِندِيَّ” قد شاهَدَ في المُقَطَّعاتِ الَّتي في بِداياتِ السُّوَرِ كَثيرًا مِن إشاراتِ المُعامَلاتِ الغَيبِيّةِ؛ وبالنِّسبةِ إلى عُلَماءِ الباطِنِ فالقُرآنُ الحَكِيمُ مِن أَوَّلِه إلى آخِرِه نَوعٌ مِنَ الإخبارِ عنِ الغَيبِ. أمَّا نحنُ فسنُشِيرُ إلى قِسمٍ مِنها، إلى الَّذي يَخُصُّ العُمُومِ ويَرجِعُ إلى الجَميعِ. ولهذا القِسمِ أيضًا طَبَقاتٌ كَثيرةٌ، فسنَقْصُرُ كَلامَنا على طَبَقةٍ واحِدةٍ.
فالقُرآنُ الكَريمُ يقُولُ للرَّسُولِ الكَريمِ ﷺ:
﴿(حاشية): هذه الآياتُ التي تُنبئُ عنِ الغَيبِ، وضَّحَتها تَفاسيرُ كَثيرةٌ، فَلم تُوضَّح هُنا لأنَّ العَزمَ على طَبعِ الكِتابِ بحُرُوفٍ قَديمةٍ “عرَبيّة” دَفَع المُؤلِّفَ إلى خَطَأِ الِاستعجالِ، لِذا ظَلَّت تلك الكُنُوزُ القيِّمةُ مُقفَلةً﴾.
﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ﴾ ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ﴾ ﴿بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ ﴿يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾.
وأَمثالُ هذه الآياتِ كَثيرةٌ جِدًّا تَتَضمَّنُ أَخبارًا عنِ الغَيبِ، وقد تَحَقَّقَت كما أَخبَرَتْ.
فالإخبارُ عنِ الغَيبِ دُونَ تَرَدُّدٍ وبكَمالِ الجِدِّ والِاطمِئنانِ وبما يُشعِرُ بقُوّةِ الوُثُوقِ، على لِسانِ مَن هو مُعَرَّضٌ لِاعتِراضاتِ المُعتَرِضين وانتِقاداتِهم، ورُبَّما يَفقِدُ دَعواه لِخَطَأٍ طَفيفٍ، يَدُلُّ دَلالةً قاطِعةً على أنَّه يَتَلقَّى الدَّرسَ مِن أُستاذِه الأَزَليِّ ثمَّ يقُولُه للنّاسِ.
[القبس الثالث: إخباره عن مغيبات الحقائق الإلهية والإيمانية والكونية]
القَبَسُ الثّالثُ: إخبارُه الغَيبيُّ عنِ الحَقائقِ الإلٰهِيّةِ والحَقائقِ الكَونيّةِ والأُمُورِ الأُخرَويّةِ:
نعم، إنَّ بَياناتِ القُرآنِ الَّتي تَخُصُّ الحَقائقَ الإلٰهِيّةَ، وبَياناتِه الكَونيّةَ الَّتي فَتَحَتْ طِلَّسْمَ الكَونِ وكَشَفَت عن مُعَمَّى خَلقِ العالَمِ لَهِيَ أَعظَمُ البَياناتِ الغَيبيّةِ، لأنَّه ليس مِن شَأنِ العَقلِ قَطُّ، ولا يُمكِنُه أن يَسلُكَ سُلُوكًا مُستَقيمًا بينَ ما لا يُحَدُّ مِن طُرُقِ الضَّلالةِ، فيَجِدَ تلك الحَقائقَ الغَيبيّةَ، وكما هو مَعلُومٌ فإنَّ أَعظَمَ دُهاةِ حُكَماءِ البَشَرِ لم يَصِلُوا إلى أَصغَرِ تلك الحَقائقِ وأَبسَطِها بعُقُولِهم؛ ثمَّ إنَّ عُقُولَ البَشَرِ ستقُولُ بلا شَكٍّ أمامَ تلك الحَقائقِ الإلٰهِيّةِ والحَقائقِ الكَونيّةِ الَّتي أَظهَرَها القُرآنُ الكَريمُ: صَدَقْتَ، وستَقبَلُ تلك الحَقائقَ بعدَ استِماعِها إلى بَيانِ القُرآنِ بصَفاءِ القَلبِ وتَزكيةِ النَّفسِ، وبعدَ رُقيِّ الرُّوحِ واكتِمالِ العَقلِ، وستُبارِكُه. وحيثُ إنَّ “الكَلِمةَ الحادِيةَ عَشْرةَ” قد أَوضَحَت وأَثبَتَت نُبذةً مِن هذا القِسمِ فلا داعيَ للتَّـكرارِ.
أمّا إخبارُ القُرآنِ الغَيبيُّ عنِ الآخِرةِ والبَرزَخِ، فإنَّ عَقلَ البَشَرِ وإنْ لم يُدرِكْ أَحوالَ الآخِرةِ والبَرزَخِ بمُفرَدِه ولا يَراها وَحْدَه، إلّا أنَّ العقلَ يُثبِتُها بدَرَجةِ الشُّهُودِ عبْرَ الطُّرُقِ الَّتي بيَّنَها القُرآنُ.
فراجِعِ “الكَلِمةَ العاشِرةَ” لِتَلمِسَ مَدَى صَوابِ الإخبارِ الغَيبيِّ عنِ الآخِرةِ الَّذي أَخبَرَ به القُرآنُ الكَريمُ. فقد أَثبَتَتْه تلك الرِّسالةُ ووَضَّحَتْه أيَّما إيضاحٍ.
[الجلوة الثانية: شبابُه وفتوَّته]
الجَلوةُ الثانية: شَبابيّةُ القرآنِ وفُتُوَّتُه
إنَّ القُرآنَ الكَريمَ قد حافَظَ على شَبابيَّتِه وفُتُوَّتِه حتَّى كأنَّه يَنزِلُ في كلِّ عَصرٍ نَضِرًا فَتيًّا.
نعم، إنَّ القُرآنَ الكَريمَ لأنَّه خِطابٌ أَزَليٌّ يُخاطِبُ جَميعَ طَبَقاتِ البَشَرِ في جَميعِ العُصُورِ خِطابًا مُباشَرًا يَلزَمُ أن تكُونَ له شَبابيّةٌ دائمةٌ كهذه؛ فلَقد ظَهَر شابًّا وهو كذلك كما كان، حتَّى إنَّه يَنظُرُ إلى كلِّ عَصرٍ مِنَ العُصُورِ المُختَلِفةِ في الأَفكارِ والمُتَبايِنةِ في الطَّبائعِ نَظَرًا كأنَّه خاصٌّ بذلك العَصرِ ووَفقَ مُقتَضَياتِه مُلَقِّنًا دُرُوسَه لافِتًا إلَيها الأَنظارَ.
إنَّ آثارَ البَشَرِ وقَوانينَه تَشِيبُ وتَهرَم مِثلَه، وتَتَغيَّـرُ وتُبدَّل؛ إلّا أنَّ أَحكامَ القُرآنِ وقَوانِينَه لها مِنَ الثَّباتِ والرُّسُوخِ بحيثُ تَظهَرُ مَتانَتُها أَكثَرَ كُلَّما مَرَّتِ العُصُورُ.
نعم، إنَّ هذا العَصرَ الَّذي اغتَـرَّ بنَفسِه وأَصَمَّ أُذُنَيه عن سَماعِ القُرآنِ أَكثَرَ مِن أيِّ عَصرٍ مَضَى، وأَهلَ الكِتابِ مِنهم خاصّةً، أَحوَجُ ما يكُونُون إلى إرشادِ القُرآنِ الَّذي يُخاطِبُهم بـ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ حتَّى كأنَّ ذلك الخِطابَ مُوَجَّهٌ إلى هذا العَصرِ بالذّاتِ، إذ إنَّ لَفظَ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ يَتَضمَّنُ مَعنًى: أَهلَ الثَّقافةِ الحَديثةِ أيضًا!
فالقُرآنُ يُطلِقُ نِداءَه يُدَوِّي في أَجواءِ الآفاقِ ويَملَأُ أَقطارَ العالَمِ بكُلِّ شِدّةٍ وقُوّةٍ وبكُلِّ نَضارةِ وشَبابٍ فيقُولُ:
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ..﴾.
فمَثلًا: إنَّ الأَفرادَ والجَماعاتِ معَ أنَّهم قد عَجَزُوا عن مُعارَضةِ القُرآنِ، إلَّا أنَّ المَدَنيّةَ الحاضِرةَ الَّتي هي حَصِيلةُ أَفكارِ بَني البَشَرِ ورُبَّما الجِنِّ أيضًا، قدِ اتَّخَذَت طَوْرًا مُخالِفًا له، وأَخَذَت تُعارِضُ إعجازَه بأَساليبِها السّاحِرةِ؛ فلِأَجلِ إثباتِ إعجازِ القُرآنِ بدَعوَى الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾. لهذا المُعارِضِ الجَديدِ الرَّهيبِ نَضَعُ الأُسُسَ والدَّساتيرَ الَّتي أَتَت بها المَدَنيّةُ الحاضِرةُ أمامَ أُسُسِ القُرآنِ الكَريمِ.
ففي الدَّرَجةِ الأُولَى: نَضَعُ المُوازَناتِ الَّتي عُقِدَت والمُوازِينَ الَّتي نُصِبَت في الكَلِماتِ السّابقةِ، ابتِداءً مِنَ الكَلِمةِ الأُولَى إلى الخامِسةِ والعِشرِين، وكذا الآياتِ الكَريمةَ المُتَصدِّرةَ لتلك الكَلِماتِ، والَّتي تُبيِّنُ حَقيقَتَها، تُثبِتُ إعجازَ القُرآنِ وظُهُورَه على المَدَنيّةِ الحاضِرةِ بيَقينٍ لا يَقبَلُ الشَّكَّ قَطْعًا.
وفي الدَّرَجةِ الثّانيةِ: نُورِدُ إجمالًا قِسْمًا مِن دَساتيرِ المَدَنيّةِ والقُرآنِ الَّتي وَضَّحَتْها وأَثبَتَتْها “الكَلِمةُ الثّانيةَ عَشْرةَ”.
فالمَدَنيّةُ الحاضِرةُ تُؤمِنُ بفَلسَفَتِها أنَّ رَكيزةَ الحَياةِ الِاجتِماعيّةِ البَشَرِيّةِ هي “القُوّةُ”، وهي تَستَهدِفُ “المَنفَعةَ” في كلِّ شيءٍ، وتَتَّخِذُ “الصِّراعَ” دُستُورًا للحَياةِ، وتَلتَزِمُ بـ”العُنصُرِيّة” و”القَومِيّةِ السَّلبِيّةِ” رابِطةً للجَماعاتِ؛ وغايَتُها هي “لَهْوٌ عابِثٌ” لإشباعِ رَغَباتِ الأَهواءِ ومُيُولِ النَّفسِ، الَّتي مِن شَأنِها تَزييدُ جُمُوحِ النَّفسِ وإثارةُ الهَوَى. ومِنَ المَعلُومِ أنَّ شَأنَ “القُوّةِ” هو “التَّجاوُزُ”، وشَأنَ “المَنفَعةِ” هو “التَّزاحُمُ”، إذ هي لا تَفِي بحاجاتِ الجَميعِ وتَلبِيةِ رَغَباتِهم؛ وشَأنَ “الصِّراعِ” هو “التَّصادُمُ”، وشَأنَ “العُنصُريّةِ” هو “التَّجاوُزُ” حيثُ تَكبُرُ بابتِلاعِ غَيرِها.
فهذه الدَّساتيرُ والأُسُسُ الَّتي تَستَنِدُ إلَيها هذه المَدَنيّةُ الحاضِرةُ هي الَّتي جَعَلَتْها عاجِزةً- معَ مَحاسِنِها -عن أن تَمنَحَ سِوَى عِشرِين بالمِئةِ مِنَ البَشَرِ سَعادةً ظاهِرِيّةً، بَينَما أَلقَتِ البَقيّةَ إلى شَقاءٍ وتَعاسةٍ وقَلَقٍ.
أمّا حِكمةُ القُرآنِ فهي تَقبَلُ “الحَقَّ” نُقطةَ استِنادٍ في الحَياةِ الِاجتِماعيّةِ بَدَلًا مِنَ “القُوّةِ”، وتَجعَلُ “رِضَى اللهِ” و”نَيلَ الفَضائلِ” هو الغايةَ والهَدَفَ بَدَلًا مِنَ “المَنفَعةِ”، وتَتَّخِذُ دُستُورَ “التَّعاوُنِ” أَساسًا في الحَياةِ بَدَلًا مِن دُستُورِ “الصِّراعِ”، وتَلتَزِمُ رابِطةَ “الدِّينِ” والصِّنفِ والوَطَنِ لِرَبطِ فِئاتِ الجَماعاتِ بَدَلًا مِنَ “العُنصُرِيّةِ” و”القَوميّةِ السَّلبِيّةِ”، وتَجعَلُ غاياتِها “الحَدَّ مِن تَجاوُزِ النَّفسِ الأَمّارةِ، ودَفعَ الرُّوحِ إلى مَعالي الأُمُورِ وتَطمِينَ مَشاعِرِها السَّامِيةِ لِسَوقِ الإنسانِ نحوَ الكَمالِ والمُثُلِ العُلْيا لِجَعلِ الإنسانِ إنسانًا حَقًّا”.
إنَّ شَأنَ “الحَقِّ” هو “الِاتِّفاقُ”، وشَأنَ “الفَضِيلةِ” هو “التَّسانُدُ”، وشَأنَ “التَّعاوُنِ” هو “إغاثةُ كُلٍّ للآخَرِ”، وشَأنَ “الدِّينِ” هو “الأُخُوّةُ والتَّكاتُفُ”، وشَأنَ “إلجامِ النَّفسِ وكَبحِ جِماحِها وإطلاقِ الرُّوحِ وحَثِّها نحوَ الكَمالِ” هو “سَعادةُ الدَّارَينِ”.
وهكذا غُلِبَتِ المَدَنيّةُ الحاضِرةُ أَمامَ القُرآنِ الحَكيمِ معَ ما أَخَذَت مِن مَحاسِنَ مِنَ الأَديانِ السّابِقةِ، ولا سِيَّما مِنَ القُرآنِ الكَريمِ.
وفي الدَّرَجةِ الثّالثةِ: سنُبيِّنُ -على سَبِيلِ المِثالِ- أَربَعةَ مَسائلَ فحَسْبُ مِن بينِ آلافِ المَسائلِ:
[دساتير القرآن أزلية أبدية]
المَسأَلةُ الأُولَى: إنَّ دَساتيرَ القُرآنِ الكَريمِ وقَوانينَه لأنَّها آتِيةٌ مِنَ الأَزَلِ، فهي باقيةٌ وماضِيةٌ إلى الأَبَدِ، لا تَهرَمُ أَبدًا ولا يُصِيبُها المَوتُ، كما تَهرَمُ القَوانينُ المَدَنيّةُ وتَمُوتُ، بل هي شابّةٌ وقَوِيّةٌ دائمًا في كلِّ زَمانٍ.
فمَثلًا: إنَّ المَدَنيّةَ بكلِّ جَمعِيّاتِها الخَيرِيّةِ، وأَنظِمَتِها الصّارِمةِ ونُظُمِها الجَبّارةِ، ومُؤَسَّساتِها التَّربَوِيّةِ الأَخلاقيّةِ لم تَستَطِعْ أن تُعارِضَ مَسأَلتَينِ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ، بلِ انهارَت أَمامَهما وهي في قَولِه تَعالَى: ﴿وَآَتَوُا الزَّكَاةَ﴾ ووَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.
سنُبيِّنُ هذا الظُّهُورَ القُرآنِيَّ المُعجِزَ وهذه الغالبِيّةَ بمُقدِّمةٍ: إنَّ أُسَّ أَساسِ جَميعِ الِاضطِراباتِ والثَّوراتِ في المُجتَمَعِ الإنسانِيِّ إنَّما هو كَلِمةٌ واحِدةٌ، كما أنَّ مَنبَعَ جَميعِ الأَخلاقِ الرَّذيلةِ كَلِمةٌ واحِدةٌ أَيضًا. كما أُثبِتَ ذلك في “إشاراتِ الإعجازِ”.
الكَلِمةُ الأُولَى: “إنْ شَبِعتُ، فلا عَلَيَّ أن يَمُوتَ غَيرِي مِنَ الجُوعِ”.
الكَلِمةُ الثَّانيةُ: “اكتَسِبْ أنتَ، لِآكُلَ أنا، واتْعَبْ أنتَ لِأَستَرِيحَ أنا”.
نعم، إنَّه لا يُمكِنُ العَيشُ بسَلامٍ ووِئامٍ في مُجتَمَعٍ إلّا بالمُحافَظةِ على التَّوازُنِ القائمِ بينَ الخَواصِّ والعَوامِّ، أي: بينَ الأَغنياءِ والفُقَراءِ؛ وأَساسُ هذا التَّوازُنِ هو رَحمةُ الخَواصِّ وشَفَقَتُهم على العَوامِّ، وإطاعةُ العَوامِّ واحتِرامُهم للخَواصِّ.
فالآنَ، إنَّ الكَلِمةَ الأُولَى قد ساقَتِ الخَواصَّ إلى الظُّلمِ والفَسادِ، ودَفَعَتِ الكَلِمةُ الثَّانيةُ العَوامَّ إلى الحِقدِ والحَسَدِ والصِّراعِ؛ فسُلِبَتِ البَشَريّةُ الرّاحةَ والأَمانَ لِعُصُورٍ خَلَت، كما هو في هذا العَصرِ، حيثُ ظَهَرَت حَوادِثُ أَورُوبَّا الجِسامُ بالصِّراعِ القائمِ بينَ العُمَّالِ وأَصحابِ رَأسِ المالِ كما لا يَخفَى على أَحَدٍ.
فالمَدَنيّةُ بكُلِّ جَمعِيَّاتِها الخَيرِيّةِ ومُؤَسَّساتِها الأَخلاقيّةِ وبكُلِّ وَسائلِ نِظامِها وانضِباطِها الصّارِمِ عَجَزَتْ عن أن تُصلِحَ بينَ تَينِكَ الطَّبَقتَينِ مِنَ البَشَرِ، كما عَجَزَت عن أن تُضَمِّدَ جُرحَيِ الحَياةِ البَشَريّةِ الغائرَينِ.
أمّا القُرآنُ الكَريمُ فإنَّه يَقلَعُ الكَلِمةَ الأُولَى مِن جُذُورِها، ويُداوِيها بوُجُوبِ الزَّكاةِ؛ ويَقلَعُ الكَلِمةَ الثّانيةَ مِن أَساسِها، ويُداوِيها بحُرمةِ الرِّبا. نعم، إنَّ الآياتِ القُرآنيّةَ تَقِفُ على بابِ العالَم قائلةً للرِّبا: “الدُّخُولُ مَمنُوعٌ”. وتَأمُرُ البَشَريّةَ: “أَوصِدُوا أَبوابَ الرِّبا لِتَنسَدَّ أَمامَكم أَبوابُ الحُرُوبِ”، وتُحَذِّرُ تَلاميذَ القُرآنِ المُؤمِنين مِنَ الدُّخولِ فيها.
[تعدد الزوجات]
الأَساسُ الثّاني: إنَّ المَدَنيّةَ الحاضِرةَ لا تَقبَلُ تَعَدُّدَ الزَّوجاتِ، وتَحسَبُ ذلك الحُكمَ القُرآنِيَّ مُخالِفًا للحِكمةِ ومُنافيًا لِمَصلَحةِ البَشَرِ.
نعم، لو كانَتِ الحِكمةُ مِنَ الزَّواجِ قاصِرةً على قَضاءِ الشَّهوةِ لَلَزِم أن يكُونَ التَّعدُّدُ مَعكُوسًا، بَينَما هو ثابتٌ حتَّى بشَهادةِ جَميعِ الحَيَواناتِ وبتَصدِيقِ النَّباتاتِ المُتَزاوِجةِ؛ إنَّ الحِكمةَ مِنَ الزَّواجِ والغايةَ مِنه إنَّما هي التَّكاثُرُ وإنجابُ النَّسْلِ. أمّا اللَّذّةُ الحاصِلةُ مِن قَضاءِ الشَّهوةِ فهي أُجرةٌ جُزئيّةٌ تَمنَحُها الرَّحمةُ الإلٰهِيّةُ لِتَأدِيةِ تلك المُهِمّةِ. فما دامَ الزَّواجُ للتَّكاثُرِ وإنجابِ النَّسلِ ولِبَقاءِ النَّوعِ حِكمةً وحَقيقةً، فلا شَكَّ أنَّ المَرأةَ الَّتي لا يُمكِنُ أن تَلِدَ إلّا مَرّةً واحِدةً في السَّنةِ، ولا تكُونُ خِصْبةً إلّا نِصفَ أَيّامِ الشَّهرِ وتَدخُلُ سِنَّ اليَأسِ في الخَمسِين مِن عُمُرِها، لا تَكفي الرَّجُلَ الَّذي له القُدرةُ على الإخصابِ في أَغلَبِ الأَوقاتِ حتَّى وهو ابنُ مِئةِ سَنةٍ، لِذا تُضطَرُّ المَدَنيّةُ إلى فَتحِ أَماكِنِ العُهرِ والفُحشِ.
[للذكر مثل حظ الأنثيين]
الأَساسُ الثّالثُ: إنَّ المَدَنيّةَ الَّتي لا تَتَحاكَمُ إلى المَنطِقِ العَقليِّ، تَنتَقِدُ الآيةَ الكَريمةَ: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ الَّتي تَمنَحُ النِّساءَ الثُلُثَ مِنَ المِيراثِ (أي: نِصفَ ما يَأخُذُه الذَّكَرُ).
ومِنَ البَدِيهيِّ أنَّ أَغلَبَ الأَحكامِ في الحَياةِ الِاجتِماعيّةِ إنَّما تُسَنُّ حَسَبَ الأَكثَرِيّةِ مِنَ النّاسِ، فغالبِيّةُ النِّساءِ يَجِدْنَ أَزواجًا يُعيلُونَهنَّ ويَحمُونَهنَّ، بَينَما الكَثيرُ مِنَ الرِّجالِ مُضطَرُّون إلى إعالةِ زَوجاتِهم وتَحَمُّلِ نَفَقاتِهنَّ. فإذا ما أَخَذَتِ الأُنثَى الثُّلُثَ مِن أَبيها (أي: نِصفَ ما أَخَذَه الزَّوجُ مِن أَبيه)، فإنَّ زَوجَها سيَسُدُّ حاجَتَها، بَينَما إذا أَخَذ الرَّجُلُ حَظَّينِ مِن أَبيه، فإنَّه سيُنفِقُ قِسطًا مِنه على زَوجَتِه؛ وبذلك تَحصُلُ المُساواةُ، ويكُونُ الرَّجُلُ مُساوِيًا لِأُختِه. وهكَذا تَقتَضِي العَدالةُ القُرآنيّةُ5هذه فِقرةٌ من اللَّائِحةِ المَرفُوعةِ إلى مَحكَمةِ التَّمييز، أُلقِيَت أمامَ المَحكَمة، فأَسكَتَتْها وأَصبَحَت حاشِيةً لهذا المَقامِ:
وأنا أقولُ لمحكَمةِ وِزارةِ العَدلِ: إنَّ إدانةَ مَن يُفسِّر أَقدَسَ دُستُورٍ إلٰهِيٍّ وهو الحَقُّ بعَينِه، ويَحتَكِمُ إلَيه ثلاثُ مِئةٍ وخَمسُون مِليُونًا مِن المُسلِمين في كلِّ عَصرٍ في حَياتِهم الِاجتِماعيّةِ، خِلالَ ألفٍ وثلاثِ مِئةٍ وخَمسِين عامًا. هذا المُفسِّرُ استَنَد في تَفسِيرِه إلى ما اتَّفَق علَيه وصَدَّق به ثلاثُ مِئةٍ وخَمسُون ألفَ مُفسِّرٍ، واقتَدَى بالعَقائدِ التي دانَ بها أَجدادُنا السّابقُون في أَلفٍ وثلاثِ مِئةٍ وخَمسين سنةً..
أقولُ: إنَّ إدانةَ هذا المُفسِّرِ قَرارٌ ظالمٌ لا بُدَّ أن تَرفُضَه العَدالةُ، إن كانت هُناك عَدالةٌ على وَجهِ الأَرضِ، ولا بُدَّ أن تَرُدَّ ذلك الحُكمَ الصّادِرَ بحَقِّه وتَنقُضَه..
[منع الأصنام والتصاوير]
الأَساسُ الرّابعُ: إنَّ القُرآنَ الكَريمَ مِثلَما يَمنَعُ بشِدّةٍ عِبادةَ الأَصنامِ، يَمنَعُ كذلك اتِّخاذَ الصُّوَرِ الَّتي هي شَبِيهةٌ بنَوعٍ مِنِ اتِّخاذِ الأَصنامِ؛ أمّا المَدَنيّةُ الحاضِرةُ فإنَّها تَعُدُّ الصُّوَرَ مِن مَزاياها وفَضائِلِها وتُحاوِلُ أن تُعارِضَ القُرآنَ. والحالُ أنَّ الصُّوَرَ أيًّا كانَت، ظِلِّيّةً أو غَيرَها، فهي إمّا ظُلمٌ مُتَحَجِّرٌ، أو رِياءٌ مُتَجسِّدٌ، أو هَوًى مُتَجَسِّمٌ، حيثُ تُهيِّجُ الأَهواءَ، وتَدفَعُ الإنسانَ إلى الظُّلمِ والرِّياءِ والهَوَى. ثمَّ إنَّ القُرآنَ يَأمُرُ النِّساءَ أن يَحتَجِبْنَ بحِجابِ الحَياءِ، رَحمةً بهنَّ وصِيانةً لِحُرمَتِهنَّ وكَرامَتِهنَّ، ولِكَيلا تُهانَ تلك المَعادِنُ الثَّمينةُ مَعادِنُ الشَّفَقةِ والرّأفةِ، وتلك المَصادِرُ اللَّطيفةُ للحَنَانِ والرَّحمةِ، تحتَ أَقدامِ الذُّلِّ والمَهانةِ؛ ولِكَيلا يَكُنَّ آلةً لِهَوْساتِ الرَّذيلةِ ومُتعةً تافِهةً لا قيمةَ لها. ﴿(حاشية): إن اللَّمعةَ الرّابعةَ والعِشرين تُثبِتُ بقَطعيّةٍ تامّةٍ أنَّ الحِجابَ أَمرٌ فِطرِيٌّ جِدًّا للنِّساء، بَينَما رَفعُ الحِجابِ يُنافي فِطرَتَهنَّ.﴾. أمّا المَدَنيّةُ فإنَّها قد أَخرَجَتِ النِّساءَ مِن أَوكارِهنَّ وبُيُوتِهنَّ ومَزَّقَت حِجابَهنَّ وأَدَّت بالبَشَريّةِ أن يُجَنَّ جُنُونُها. عِلْمًا أنَّ الحَياةَ العائلِيّةَ إنّما تَدُومُ بالمَحبّةِ والِاحتِرامِ المُتَبادَلِ بينَ الزَّوجِ والزَّوجةِ، بَينَما التَّكَشُّفُ والتَّبرُّجُ يُزِيلانِ تلك المَحَبّةَ الخالِصةَ والِاحتِرامَ الجادَّ ويُسَمِّمانِ الحَياةَ العائلِيّةَ، ولا سِيَّما الوَلَعُ بالصُّوَرِ فإنَّه يُفسِدُ الأَخلاقَ ويَهدِمُها كُلِّـيًّا، ويُؤدِّي إلى انحِطاطِ الرُّوحِ وتَرَدِّيها. ويُمكِنُ فَهمُ هذا بالآتي:
كما أنَّ النَّظَرَ بدافِعِ الهَوَى وبشَهوةٍ إلى جِنازةِ امرأةٍ حَسناءَ تَنتَظِرُ الرَّحمةَ وتَرجُوها، يَهدِمُ الأَخلاقَ ويَحُطُّها، كذلك النَّظَرُ بشَهوةٍ إلى صُوَرِ نِساءٍ مَيِّتاتٍ أو إلى صُوَرِ نِساءٍ حَيَّاتٍ -وهي في حُكمِ جَنائِزَ مُصَغَّرةٍ لَهُنَّ- يُزَعزِعُ مَشاعِرَ الإنسانِ ويَعبَثُ بها، ويَهدِمُها.
وهكذا بمِثلِ هذه المَسائلِ الأَربعِ فإنَّ كلَّ مَسأَلةٍ مِن آلافِ المَسائلِ القُرآنيّةِ تَضمَنُ سَعادةَ البَشَرِ في الدُّنيا، كما تُحَقِّقُ سَعادَتَه الأَبَديّةَ في الآخِرةِ. فلَكَ أن تَقِيسَ سائرَ المَسائِلِ على المَسائلِ المَذكُورةِ.
وأيضًا: فكما أنَّ المَدَنيّةَ الحاضِرةَ تَخسَرُ وتُغلَبُ أَمامَ دَساتيرِ القُرآنِ المُتَعلِّقةِ بحَياةِ الإنسانِ الِاجتِماعيّةِ، فَيظهَرُ إفلاسُها -مِن زاوِيةِ الحَقيقةِ- إزاءَ إعجازِ القُرآنِ المَعنَوِيِّ، كذلك فإنَّ فَلسَفةَ أَورُوبّا وحِكمةَ البَشَرِ -وهي رُوحُ المَدَنيّةِ- عِندَ المُوازَنةِ بَينَها وبينَ حِكمةِ القُرآنِ بمَوازِينِ الكَلِماتِ الخَمسِ والعِشرِين السّابقةِ، ظَهَرَتْ عاجِزةً وحِكمةُ القُرآنِ مُعجِزةً، وإن شِئتَ فراجِعِ “الكَلِمةَ الحادِيةَ عَشْرةَ” و”الثَّانيةَ عَشْرةَ” لِتَلمِسَ عَجْزَ حِكمةِ الفَلسَفةِ وإفلاسَها وإعجازَ حِكمةِ القُرآنِ وغِناها. وأيضًا، فكَما أنَّ المَدَنيّةَ الحاضِرةَ غُلِبَتْ أمامَ إعجازِ حِكمةِ القُرآنِ العِلميِّ والعَمَليِّ، كذلك آدابُ المَدَنيّةِ وبَلاغَتُها فهي مَغلُوبةٌ أمامَ الأَدَبِ القُرآنِيِّ وبَلاغَتِه؛ والنِّسبةُ بَينَهما أَشبَهُ ما تكُونُ ببُكاءِ يَتيمٍ فَقَد أَبوَيهِ بُكاءً مِلْؤُه الحُزنُ القاتِمُ واليَأسُ المَرِيرُ، إلى إنشادِ عاشِقٍ عَفيفٍ حَزِينٍ على فِراقٍ قَصِيرِ الأَمَدِ غِناءً مِلْؤُه الشَّوقُ والأَمَلُ.. أو نِسبةِ صُراخِ سِكِّيرٍ يَتَخبَّطُ في وَضعٍ سافِلٍ، إلى قَصائدَ حَماسِيّةٍ تَحُضُّ على بَذْلِ الغَوالي مِنَ الأنفُسِ والأَموالِ وبُلُوغِ النَّصرِ، لأنَّ الأَدَبَ والبَلاغةَ مِن حيثُ تَأثيرُ الأُسلُوبِ، إمّا يُورِثانِ الحُزنَ وإمّا الفَرَح. والحُزنُ نَفسُه قِسمانِ:
إمَّا أنَّه حُزنٌ مُنبَعِثٌ مِن فَقْدِ الأَحِبّةِ، أي: مِن عَدَمِ وُجُودِ الأَحِبّةِ والأَخِلّاءِ، وهو حُزنٌ مُظلِمٌ كَئيبٌ تُورِثُه المَدَنيّةُ المُلَوَّثةُ بالضَّلالةِ والمَشُوبةُ بالغَفلةِ والمُعتَقِدةُ بالطَّبيعةِ؛ وإمّا أنَّه ناشِئٌ مِن فِراقِ الأَحِبّةِ، بمَعنَى أنَّ الأَحِبّةَ مَوجُودُون، ولكِنَّ فِراقَهم يَبعَثُ على حُزنٍ يَنُمُّ عن لَوعةِ الِاشتِياقِ. فهذا الحُزنُ هو الَّذي يُورِثُه القُرآنُ الهادِي المُنيرُ.
أمّا الفَرَحُ والسُّرُورُ فهو أيضًا قِسمانِ:
الأوَّلُ: يَدْفَعُ النَّفْسَ إلى شَهَواتِها، هذا هو شَأْنُ آدابِ المَدَنيّةِ مِن أَدَبٍ مَسرَحِيٍّ وسِينِمائيٍّ ورُوائِيٍّ.
أمّا الثّاني: فهو فَرِحٌ لَطِيفٌ بَرِيءٌ نَزِيهٌ، يَكبَحُ جِماحَ النَّفسِ ويُلجِمُها ويَحُثُّ الرُّوحَ والقَلبَ والعَقلَ والسِّرَّ على المَعالي وعلى مَوطِنِهمُ الأَصلِيِّ، على مَقَرِّهمُ الأَبَدِيِّ، على أَحِبَّتِهمُ الأُخرَوِيِّين. وهذا الفَرَحُ هو الَّذي يَمنَحُه القُرآنُ المُعجِزُ البَيانِ الَّذي يَحُضُّ البَشَرَ ويُشَوِّقُه للجَنّةِ والسَّعادةِ الأَبَديّةِ وعلى رُؤيةِ جَمالِ اللهِ تَعالَى.
ولقد تَوَهَّمَ بعضُ قاصِرِي الفَهمِ ومِمَّن لا يُكلِّفُون أَنفُسَهم دِقّةَ النَّظَرِ أنَّ المَعنَى العَظيمَ والحَقيقةَ الكُبْرَى الَّتي تُفِيدُها الآيةُ الكَرِيمةُ:
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾
ظَنُّوها صُورةً مُحالةً ومُبالَغةً بَلاغِيّةً! حاشَ للهِ! بل إنَّها بَلاغةٌ هي عَينُ الحَقيقةِ، وصُورةٌ مُمكِنةٌ، وواقِعةٌ ولَيسَت مُحالةً قَطُّ.
فأَحَدُ وُجُوهِ تلك الصُّورةِ هو أنَّه لوِ اجتَمَع أَجمَلُ ما يقُولُه الإنسُ والجِنُّ الَّذي لم يَتَرشَّح مِنَ القُرآنِ ولا هو مِن مَتاعِه، فلا يُماثِلُ القُرآنَ قَطُّ ولن يُماثِلَه. لِذا لم يَظهَر مَثيلُه.
والوَجهُ الآخَرُ أنَّ المَدَنيّةَ وحِكمةَ الفَلسَفةِ والآدابَ الأَجنَبِيّةَ الَّتي هي نَتائِجُ أَفكارِ الجِنِّ والإنسِ وحتَّى الشَّياطينِ وحَصِيلةُ أَعمالِهم، هي في دَرَكاتِ العَجزِ أَمامَ أَحكامِ القُرآنِ وحِكمَتِه وبَلاغَتِه. كما قد بَيَّـنَّا أَمثِلةً مِنها.
[الجلوة الثالثة: مخاطبته جميع الطبقات]
الجَلوةُ الثّالثة: خِطابُه كلَّ طَبَقةٍ مِن طَبَقاتِ النّاس.
إنَّ القُرآنَ الحَكيمَ يُخاطِبُ كلَّ طَبَقةٍ مِن طَبَقاتِ البَشَرِ في كلِّ عصرٍ مِنَ العُصُورِ، وكأنَّه مُتَوجِّهٌ تَوَجُّهًا خاصًّا إلى تلك الطَّبَقةِ بالذّاتِ، إذ لَمَّا كان القُرآنُ يَدعُو جَميعَ بَني آدَمَ بطَوائفِهم كافّةً إلى الإيمانِ الَّذي هو أَسمَى العُلُومِ وأَدَقُّها، وإلى مَعرِفةِ اللهِ الَّتي هي أَوسَعُ العُلُومِ وأَنوَرُها، وإلى الأَحكامِ الإسلاميّةِ الَّتي هي أَهَمُّ المَعارِفِ وأَكثَرُها تَنَوُّعًا، فمِنَ الأَلزَمِ إذًا أن يكُونَ الدَّرسُ الَّذي يُلقِيه على تلك الطَّوائفِ مِنَ النَّاسِ دَرْسًا يُوائِمُ فهْمَ كلٍّ مِنها؛ والحالُ أنَّ الدَّرسَ واحِدٌ، وليس مُختَلِفًا، فلا بُدَّ إذًا مِن وُجُودِ طَبَقاتٍ مِنَ الفَهمِ في الدَّرسِ نَفسِه، فكلُّ طائفةٍ مِنَ النّاسِ -حَسَبَ دَرَجاتِها- تَأخُذُ حَظَّها مِنَ الدَّرسِ مِن مَشهَدٍ مِن مَشاهِدِ القُرآنِ.
ولقد وافَينا بأَمثِلةٍ كَثيرةٍ لهذه الحَقيقةِ، يُمكِنُ مُراجَعَتُها، أمّا هنا فنَـكتَفي بالإشَارةِ إلى بِضعِ أَجزاءٍ مِنها، وإلى حَظِّ طَبَقةٍ أو طَبَقتَينِ مِنها مِنَ الفَهمِ فحَسْبُ.
[مثال: سورة الإخلاص ]
فمَثلًا: قولُه تَعالَى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾:
فإنَّ حَظَّ فَهْمِ طَبَقةِ العَوامِّ الَّتي تُشَكِّلُ الأَكثَريّةَ المُطلَقةَ هو “أنَّ اللهَ مُنَـزَّهٌ عنِ الوالِدِ والوَلَدِ وعنِ الزَّوجةِ والأَقرانِ”.
وحَظُّ طَبَقةٍ أُخرَى مُتَوسِّطةٍ مِنَ الفَهمِ هو “نَفيُ أُلُوهيّةِ عِيسَى عَليهِ السَّلام والمَلائكةِ، وكلِّ ما هو مِن شَأنِه التَّولُّدُ” لأنَّ نَفيَ المُحالِ لا فائدةَ مِنه في الظّاهِرِ، لِذا فلا بُدَّ أن يكُونَ المُرادُ إذًا ما هو لازِمُ الحُكمِ كما هو مُقَرَّرٌ في البَلاغةِ؛ فالمُرادُ مِن نَفيِ الوَلَدِ والوالِدِيّةِ اللَّذَينِ لهما خَصائصُ الجِسمانيّةِ هو نَفيُ الأُلُوهيّةِ عن كلِّ مَن له وَلَدٌ ووالِدٌ وكُفْؤٌ، وبَيانُ عَدَمِ لَياقَتِهم للأُلُوهيّةِ. فمِن هذا السِّرِّ تَبيَّنَ أنَّ سُورةَ الإخلاصِ يُمكِنُ أن تُفيدَ كلَّ إنسانٍ في كلِّ وَقتٍ.
وحَظُّ فَهمِ طَبَقةٍ أَكثَرَ تَقَدُّمًا هو أنَّ اللهَ مُنَـزَّهٌ عن كلِّ رابِطةٍ تَتَعلَّقُ بالمَوجُوداتِ تُشَمُّ مِنها رائحةُ التَّوليدِ والتَّولُّدِ، وهو مُقَدَّسٌ عن كلِّ شَريكٍ ومُعينٍ ومُجانِسٍ؛ وإنَّما عَلاقَتُه بالمَوجُوداتِ هي الخَلَّاقيَّةُ، فهو يَخلُقُ المَوجُوداتِ بأَمرِ ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ بإرادَتِه الأَزليّةِ وباختِيارِه، وهو مُنَـزَّهٌ عن كلِّ رابِطةٍ تُنافي الكَمالَ، كالإيجابِ والِاضطِرارِ والصُّدُورِ بغَيرِ اختِيارٍ.
وحَظُّ فَهْمِ طَبَقةٍ أَعلَى مِن هذه هو أنَّ اللهَ أَزَليٌّ، أَبَدِيٌّ، أَوَّلٌ وآخِرٌ، لا نَظِيرَ له ولا كُفْؤَ، ولا شَبِيهَ، ولا مَثِيلَ ولا مِثالَ في أيَّةِ جِهةٍ كانَت، لا في ذاتِه ولا في صِفاتِه ولا في أَفعالِه؛ وإنَّما هناك “المَثَلُ” -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- الَّذي يُفيدُ التَّشبيهَ في أَفعالِه وشُؤُونِه فحَسْبُ.
فلَك أن تَقِيسَ على هذه الطَّبَقاتِ أَصحابَ الحُظُوظِ المُختَلِفةِ في الإدراكِ، مِن أَمثالِ طَبَقةِ العارِفين وطَبَقةِ العاشِقِين وطَبَقةِ الصِّدِّيقين وغيرِهم..
[مثال: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم]
المِثالُ الثّاني: قَولُه تَعالَى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾:
فحَظُّ فَهْمِ الطَّبقةِ الأُولَى مِن هذه الآيةِ هو أنَّ زَيدًا خادِمَ الرَّسُولِ ﷺ ومُتَبنَّاه ومُخاطَبَه بـ: “يا بُنيَّ”، قد طَلَّق زَوجَتَه العَزيزةَ بعدَما أَحَسَّ أنَّه ليس كُفْئًا لها، فتَزَوَّجَها الرَّسُولُ ﷺ بأَمرِ اللهِ تَعالَى؛ فالآيةُ (النّازِلةُ بهذه المُناسَبةِ) تقُولُ: إنَّ النَّبيَّ ﷺ إذا خاطَبَكم مُخاطَبةَ الأَبِ لِابنِه، فإنَّه يُخاطِبُكم مِن حيثُ الرِّسالةُ، إذ هو ليس أَبًا لِأَحَدٍ مِنكم باعتِبارِه الشَّخصِيِّ حتَّى لا تَلِيقَ به الزِّيجاتُ.
وحَظُّ فَهمِ الطَّبقةِ الثّانيةِ هو أنَّ الأَميرَ العَظيمَ يَنظُرُ إلى رَعاياه نَظَرَ الأَبِ الرَّحيمِ، فإنْ كان سُلْطانًا رُوحانيًّا في الظّاهِرِ والباطِنِ فإنَّ رَحمَتَه ستَفُوقُ رَحمةَ الأَبِ وشَفَقَتَه أَضعافًا مُضاعَفةً، حتَّى تَنظُرَ إلَيه أَفرادُ الرَّعِيّةِ نَظَرَهم لِلأَبِ وكأَنَّهم أَولادُه الحَقيقيُّون، وحيثُ إنَّ النَّظرةَ إلى الأَبِ لا يُمكِنُ أن تَنقَلِبَ إلى النَّظَرِ إلى الزَّوجِ، والنَّظَرَ إلى البِنتِ لا يَتَحوَّلُ بسُهُولةٍ إلى النَّظَرِ إلى الزَّوجةِ، فلا يُوافِقُ في فِكرِ العامّةِ تَزَوُّجُ الرَّسُولِ ﷺ ببَناتِ المُؤمِنين استِنادًا إلى هذا السِّرِّ، لِذا فالقُرآنُ يُخاطِبُهم قائلًا: إنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَنظُرُ إلَيكم نَظَرَ الرَّحمةِ والشَّفَقةِ مِن زاوِيةِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ، ويُعامِلُكم مُعامَلةَ الأَبِ الحَنُونِ مِن حيثُ النُّبوّةُ، ولكِنَّه ليس أَبًا لكم مِن حيثُ الشَّخصِيّةُ الإنسانيّةُ حتَّى لا يُلائِمَ تَزَوُّجَه مِن بَناتِكم ويَحرُمَ ذلك علَيه.
القِسمُ الثّالثُ يَفهَمُ الآيةَ هكذا: يَنبَغي علَيكُم ألَّا تَرتَكِبُوا السَّيِّئاتِ والذُّنُوبَ اعتِمادًا على رَأفةِ الرَّسُولِ الكَريمِ ﷺ علَيكُم وانتِسابِكُم إلَيه، إذ إنَّ هناك الكَثيرينَ يَعتَمِدُون على ساداتِهم ومُرشِدِيهم فيَتَكاسَلُون عنِ العِبادةِ والعَمَلِ، بل يقُولُون أَحيانًا: “قد أُدِّيَتْ صَلاتُنا” (كما هي الحالُ لَدَى بَعضِ الشِّيعةِ!).
النُّكتةُ الرّابعةُ: إنَّ قِسمًا آخَرَ يَفهَمُ إشارةً غَيبيّةً مِنَ الآيةِ، وهي أنَّ أَبناءَ الرَّسُولِ ﷺ لا يَبلُغُون مَبلَغَ الرِّجالِ، وإنَّما يَتَوفّاهُمُ اللهُ قبلَ ذلك، فلا يَدُومُ نَسْلُه مِن حَيثُ كَونُهم رِجالًا، لِحِكمةٍ يَراها سُبحانَه وتَعالَى؛ فإنَّ لَفْظَ “رِجال” فقط يُشِيرُ إلى أنَّه سيَدُومُ نَسْلُه مِنَ النِّساءِ دُونَ الرِّجالِ.. فلِلّهِ الحَمدُ والمِنّةُ فإنَّ النَّسْلَ الطَّـيِّبَ المُبارَكَ مِن فاطِمةَ الزَّهراءِ رَضِيَ الله عَنهَا كالحَسَنِ والحُسَينِ رَضِيَ الله عَنهُمَا وهما البَدرانِ المُنَوِّرانِ لِسِلسِلَتَينِ نُورانيَّتَينِ، يُدِيمانِ ذلك النَّسْلَ المُبارَكَ (المادِّيَّ والمَعنَوِيَّ) لِشَمسِ النُّبوّةِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ علَيه وعلى آلِه
(تمَّتِ الشُّعلةُ الأُولَى بأَشِعَّتِها الثّلاثةِ)
❀ ❀ ❀
[الشعلة الثانية: حول نظم القرآن]
الشُّعلة الثَّانية: هذه الشُّعلة لها ثلاثةُ أنوارٍ
[النور الأول: السلاسة والتساند والتناسب والتجاوب]
النُّور الأوَّل
إنَّ القُرآنَ الكَريمَ قد جَمَع السَّلاسةَ الرّائقةَ والسَّلامةَ الفائقةَ والتَّسانُدَ المَتينَ والتَّناسُبَ الرَّصِينَ والتَّعاوُنَ القَوِيَّ بينَ الجُمَلِ وهَيْئاتِها، والتَّجاوُبَ الرَّفيعَ بينَ الآياتِ ومَقاصِدِها، بشَهادةِ عِلمِ البَيانِ وعِلمِ المَعاني، وشَهادةِ أُلُوفٍ مِن أَئمّةِ هذه العُلُومِ كالزَّمَخْشَرِيِّ والسَّكَّاكِيِّ وعبدِ القاهِرِ الجُرجانِيِّ، مع أنَّ هناك ما يُقارِبُ تِسعةَ أَسبابٍ مُهِمّةٍ تُخِلُّ بذلك التَّجاوُبِ والتَّعاوُنِ والتَّسانُدِ والسَّلاسةِ والسَّلامةِ؛ فلم تُؤَثِّر تلك الأَسبابُ في الإفسادِ والإخلالِ، بل مَدَّت وعَضَدَت سَلاسَتَه وسَلامَتَه وتَسانُدَه، إلّا ما أَجرَتْه بشَيءٍ مِن حُكْمِها في إخراجِ رُؤُوسِها مِن وَراءِ سِتارِ النِّظامِ والسَّلاسةِ، وذلك لِتَدُلَّ على مَعانٍ جَليلةٍ مِن سَلاسةِ نَظمِ القُرآنِ، بمِثلِ ما تُخرِجُ البَراعِمُ بعضَ البُرُوزاتِ والنُّدَبِ في جِذْعِ الشَّجَرةِ المُنَسَّقةِ.. فهذه البُرُوزاتُ لَيسَت لِإخلالِ تَناسُقِ الشَّجَرةِ وتَناسُبِها، وإنَّما لإِعطاءِ ثَمَراتٍ يَتِمُّ بها جَمالُ الشَّجَرةِ وكَمالُ زِينَتِها.
إذ إنَّ ذلك القُرآنَ المُبِينَ نَزَل في ثَلاثٍ وعِشرِين سنةً نَجْمًا نَجْمًا لِمَواقِعِ الحاجاتِ نُزُولًا مُتَفرِّقًا مُتَقطِّعًا، معَ أنَّه يُظهِرُ مِنَ التَّلاؤُمِ الكامِلِ كأنَّه نَزَل دُفعةً واحِدةٍ.
وأيضًا إنَّ ذلك القُرآنَ المُبِينَ نَزَل في ثلاثٍ وعِشرِين سنةً لِأَسبابِ نُزُولٍ مُختَلِفةٍ مُتَبايِنةٍ، معَ أنَّه يُظهِرُ مِنَ التَّسانُدِ التّامِّ كأنَّه نَزَل لِسَبَبٍ واحِدٍ.
وأيضًا إنَّ ذلك القُرآنَ جاءَ جَوابًا لِأَسئلةٍ مُكرَّرةٍ مُتَفاوِتةٍ، معَ أنَّه يُظهِرُ مِنَ الِامتِزاجِ التّامِّ والِاتِّحادِ الكامِلِ كأنَّه جَوابٌ عن سُؤالٍ واحِدٍ.
وأيضًا إنَّ ذلك القُرآنَ جاءَ بَيانًا لِأَحكامِ حَوادِثَ مُتَعدِّدةٍ مُتَغايِرةٍ، مع أنَّه يُبيِّنُ مِنَ الِانتِظامِ الكامِلِ كأنَّه بَيانٌ لِحادِثةٍ واحِدةٍ.
وأيضًا إنَّ ذلك القُرآنَ نَزَل مُتَضمِّنًا لِتَنزُّلاتٍ كَلاميّةٍ إلٰهِيّةٍ في أَساليبَ تُناسِبُ أَفهامَ مُخاطَبِين لا يُحصَرُون، وحالاتٍ مِنَ التَّلَقِّي مُتَخالِفةٍ مُتَنوِّعةٍ، معَ أنَّه يُبيِّنُ مِنَ السَّلاسةِ اللَّطيفةِ والتَّماثُلِ الجَميلِ، كأنَّ الحالةَ واحِدةٌ والفَهْمَ واحِدٌ، حتَّى تَجرِي السَّلاسةُ كالماءِ السَّلسَبِيلِ.
وأيضًا إنَّ ذلك القُرآنَ جاءَ مُكَلِّمًا مُتَوجِّهًا إلى أَصنافٍ مُتَعدِّدةٍ مُتَباعِدةٍ مِنَ المُخاطَبين، معَ أنَّه يُظهِرُ مِن سُهُولةِ البَيانِ وجَزالةِ النِّظامِ ووُضُوحِ الإِفهامِ كأنَّ المُخاطَبِين صِنفٌ واحِدٌ بحيثُ يَظُنُّ كلُّ صِنفٍ أنَّه المُخاطَبُ وَحدَه بالأَصالةِ.
وأيضًا إنَّ ذلك القُرآنَ نَزَل هادِيًا ومُوصِلًا إلى غاياتٍ إرشاديّةٍ مُتَدرِّجةٍ مُتَفاوِتةٍ، معَ أنَّه يُبيِّنُ مِنَ الِاستِقامةِ الكامِلةِ والمُوازَنةِ الدَّقيقةِ والِانتِظامِ الجَميلِ كأنَّ المَقصَدَ واحِدٌ.
فهذه الأَسبابُ مع أنَّها أَسبابٌ للتَّشوِيشِ واختِلالِ المَعنَى والمَبنَى، إلّا أنَّها استُخدِمَت في إظهارِ إعجازِ بَيانِ القُرآنِ وسَلاسَتِه وتَناسُبِه.
نعم، مَن كان ذا قَلبٍ غيرِ سَقيمٍ، وعَقلٍ مُستَقيمٍ، ووِجدانٍ غيرِ مَرِيضٍ، وذَوقٍ سَليمٍ، يَرَى في بَيانِ القُرآنِ سَلاسةً جَميلةً وتَناسُقًا لَطِيفًا ونَغمةً لَذيذةً وفَصاحةً فَرِيدةً؛ فمَن كانَت له عينٌ سَلِيمةٌ في بَصِيرَتِه، فلا رَيبَ أنَّه يَرَى في القُرآنِ عَينًا تَرَى كلَّ الكائناتِ ظاهِرًا وباطِنًا بوُضُوحٍ تامٍّ كأنَّها صَحِيفةٌ واحِدةٌ، يُقَلِّبُها كيف يَشاءُ، فيُعَرِّفُ مَعانيَها على ما يَشاءُ مِن أُسلُوبٍ.
فلو أَرَدْنا تَوضِيحَ حَقيقةِ هذا النُّورِ الأَوَّلِ بأَمثِلةٍ، لَاحتَجْنا إلى بِضعةِ مُجَلَّداتٍ، لِذا نَكتَفي بالإيضاحاتِ الَّتي تَخُصُّ هذه الحَقيقةَ في كلٍّ مِنَ “الرَّسائلِ العَرَبيّةِ” و”إشاراتِ الإعجازِ” والكَلِماتِ الخَمسِ والعِشرِين السّابِقةِ؛ بلِ القُرآنُ الكَريمُ بكامِلِه مِثالٌ لِهذه الحَقيقةِ، أُبيِّنُه كُلَّه دُفعةً واحِدةً.
[النور الثاني: إعجاز القرآن في فذلكات الآيات]
النُّور الثاني
يَبحَثُ هذا النُّورُ عن مَزِيّةِ الإعجازِ في الأُسلُوبِ البَدِيعِ للقُرآنِ في الخُلاصاتِ (الفَذْلَكاتِ) والأَسماءِ الحُسنَى الَّتي تَنتَهي بها الآياتُ الكَرِيمة.
تَنبِيهٌ: ستَرِدُ آياتٌ كَثيرةٌ في هذا النُّورِ الثّاني، وهي لَيسَت خاصّةً به وَحدَه بل تكُونُ أَمثِلةً أيضًا لِما ذُكِرَ مِنَ المَسائلِ والأَشِعّةِ. ولو أَرَدنا أن نُوفِيَ هذه الأَمثِلةَ حقَّها مِنَ الإيضاحِ لَطالَ بنا البَحثُ، بَيْدَ أنِّي أَراني مُضطَرًّا في الوَقتِ الحاضِرِ إلى الِاختِصارِ والإجمالِ، لِذا فقد أَشَرْنا إشارةً في غايةِ الِاختِصارِ والإجمالِ إلى الآياتِ الَّتي أَوْرَدْناها مِثالًا لِبَيانِ هذا السِّرِّ العَظِيمِ “سِرِّ الإعجازِ”، مُؤَجِّلين تَفصِيلاتِها إلى وَقتٍ آخَرَ.
فالقُرآنُ الكَرِيمُ يَذكُرُ في أَكثَرِ الأَحيانِ قِسمًا مِنَ الخُلاصاتِ والفَذْلَكاتِ في خاتِمةِ الآياتِ. فتلك الخُلاصاتُ إمّا أنَّها تَتَضمَّنُ الأَسماءَ الحُسنَى أو مَعناها، وإمّا أنَّها تُحِيلُ قَضاياها إلى العَقلِ وتَحثُّه على التَّفكُّرِ والتَّدبُّرِ فيها، أو تَتَضمَّنُ قاعِدةً كُلِّيّةً مِن مَقاصِدِ القُرآنِ فتُؤيِّدُ بها الآيةَ وتُؤَكِّدُها.
ففي تلك الفَذْلَكاتِ بَعضُ إشاراتٍ مِن حِكمةِ القُرآنِ العاليةِ، وبَعضُ رَشاشاتٍ مِن ماءِ الحَياةِ للهِدايةِ الإلٰهِيّةِ، وبَعضُ شَراراتٍ مِن بَوارِقِ إعجازِ القُرآنِ.
ونحن الآنَ نَذكُرُ إجمالًا “عَشْرَ إشاراتٍ” فقط مِن تلك الإشاراتِ الكَثيرةِ جِدًّا، كما نُشِيرُ إلى مِثالٍ واحِدٍ فقط مِن كَثيرٍ مِن أَمثِلَتِها، وإلى مَعنًى إجماليٍّ لِحَقيقةٍ واحِدةٍ فقط مِن بينِ الحَقائقِ الكَثيرةِ لكُلِّ مِثالٍ.
هذا، وإنَّ أَكثَرَ هذه الإشاراتِ العَشْرِ تَجتَمِعُ في أَكثَرِ الآياتِ معًا مُكوِّنةً نَقْشًا إعجازِيًّا حَقيقيًّا. وإنَّ أَكثَرَ الآياتِ الَّتي نَأْتي بها مِثالًا هي أَمثِلةٌ لِأَكثَرِ الإشاراتِ. فنُبيِّنُ مِن كلِّ آيةٍ إشارةً واحِدةً مُشِيرين إشارةً خَفيفةً إلى مَعاني تلك الآياتِ الَّتي ذَكَرناها في “كَلِماتٍ” سابِقةٍ.
[استخراج الأسماء الإلهية من أفعال الصانع الجليل]
مَزِيّةُ الجَزالةِ الأُولَى:
إنَّ القُرآنَ الكَريمَ -ببَياناتِه المُعجِزةِ- يَبسُطُ أَفعالَ الصّانِعِ الجَليلِ ويَفرُشُ آثارَه أمامَ النَّظَرِ، ثمَّ يَستَخرِجُ مِن تلك الأَفعالِ والآثارِ الأَسماءَ الإلٰهِيّةَ، أو يُثبِتُ مَقصَدًا مِن مَقاصِدِ القُرآنِ الأَساسِيّةِ كالحَشرِ والتَّوحيدِ.
فمِن أَمثِلةِ المَعنَى الأوَّلِ: قَولُه تَعالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾. ومِن أَمثِلةِ المَعنَى الثَّاني: قَولُه تَعالَى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾ إلى قَولِه تَعالَى: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾؛ ففي الآيةِ الأُولَى: يَعرِضُ القُرآنُ الآثارَ الإلٰهِيّةَ العَظيمةَ الَّتي تَدُلُّ بغاياتِها ونَظْمِها على عِلمِ اللهِ وقُدرَتِه، يَذكُرُها مُقدِّمةً لِنَتيجةٍ مُهِمّةٍ وقَصْدٍ جَليلٍ، ثمَّ يَستَخرِجُ اسمَ اللهِ “العَليم”. وفي الآيةِ الثّانيةِ: يَذكُرُ أَفعالَ اللهِ الكُبْرَى وآثارَه العُظمَى، ويَستَنتِجُ مِنها الحَشرَ الَّذي هو يومُ الفَصْلِ، كما وُضِّح في النُّقطةِ الثّالثةِ مِنَ الشُّعاعِ الأَوَّلِ مِنَ الشُّعلةِ الأُولَى.
[نشر منسوجات الصنعة الإلهية ثم طيُّها في الأسماء الإلهية]
النُّكتة البَلاغيةُ الثانية:
إنَّ القُرآنَ الكَريمَ يَنشُرُ مَنسُوجاتِ الصَّنعةِ الإلٰهِيّةِ ويَعرِضُها على أَنظارِ البَشَرِ، ثمَّ يَلُفُّها ويَطوِيها في الخُلاصةِ ضِمنَ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ، أو يُحِيلُها إلى العَقلِ.
فمِن أَمثِلةِ الأوَّلِ:
﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ﴾.
فيقُولُ أوَّلًا: ” مَنِ الَّذي هَيَّأ السَّماءَ والأَرضَ وجَعَلَهما مَخازِنَ ومُستَودَعاتٍ لرِزقِكم، فأَنزَل مِن هُناك المَطَرَ ويُخرِجُ مِن هنا الحُبُوبَ؟ ومَن غيرُ اللهِ يَستَطيعُ أن يَجعَلَ السَّماءَ والأَرضَ العَظيمَتَينِ في حُكمِ خازِنَينِ مُطيعَينِ لحُكمِه؟ فالشُّكرُ والحَمدُ إذًا له وَحدَه”.
ويقُولُ في الفِقرةِ الثَّانية: ” أَمَّن هو مالِكُ أَسماعِكم وأَبصارِكمُ الَّتي هي أَثمَنُ ما في أَعضائِكم؟ مِن أيِّ مَصنَعٍ أو مَحَلٍّ ابتَعتُمُوها؟ فالَّذي مَنَحَكم هذه الحَواسَّ اللَّطيفةَ مِن عينٍ وسَمْعٍ إنَّما هو ربُّـكم! وهو الَّذي خَلَقَكم ورَبَّاكم، ومَنَحَها لكم، فالرَّبُّ إذًا إنَّما هو وَحدَه المُستَحِقُّ للعِبادةِ ولا يَستَحِقُّها غيرُه”.
ويقُولُ في الفِقرةِ الثّالثة: ” أَمَّن يُحيِي مِئاتِ الآلافِ مِنَ الطَّوائفِ المَيتةِ كما يُحيِي الأَرضَ؟ فمَن غيرُ الحَقِّ سُبحانَه وخالقِ الكَونِ يَقْدِرُ أن يَفعَلَ هذا الأَمرَ؟ فلا رَيبَ أنَّه هو الَّذي يَفعَلُ وهو الَّذي يُحيِي الأَرضَ المَيتةَ.. فما دامَ هو الحَقَّ فلن تَضِيعَ عِندَه الحُقُوقُ، وسيَبعَثُكم إلى مَحكَمةٍ كُبْرَى وسيُحيِيكم كما يُحيِي الأَرضَ”.
ويقُولُ في الفِقرةِ الرّابعةِ: ” مَن غيرُ اللهِ يَستَطيعُ أن يُدَبِّرَ شُؤُونَ هذا الكَونِ العَظيمِ ويُدِيرَ أَمرَه إدارةً مُنَسَّقةً مُنَظَّمةً بسُهُولةِ إدارةِ قَصْرٍ أو مَدِينةٍ؟ فما دام ليس هناك غيرُ الله، فلا نَقْصَ إذًا في القُدرةِ القادِرةِ على إدارةِ هذا الكَونِ العَظيمِ، بكلِّ أَجرامِهِ، بيُسرٍ وسُهُولةٍ؛ ولا حاجةَ لها إلى شَرِيكٍ ولا إلى مُعِينٍ، فهي مُطلَقةٌ لا تَحُدُّها حُدُودٌ؛ ولا يَدَعُ مَن يُدَبِّـرُ أُمُورَ الكَونِ العَظيمِ إدارةَ مَخلُوقاتٍ صَغيرةٍ إلى غيرِه.. فأنتُم إذًا مُضطَـرُّون لِأَن تقُولُوا: الله”.
فتَرَى أنَّ الفِقْرةَ الأُولَى والرّابِعةَ تقُولُ: “الله”، وتقُولُ الثّانيةُ: “رَبُّ”. وتقُولُ الثّالثةُ: “الحَقُّ”؛ فافْهَم مَدَى الإعجازِ في مَوقِعِ جُملةِ: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾.
وهكذا يَذكُرُ القُرآنُ عَظيمَ تَصَرُّفاتِ اللهِ سُبحانَه وعَظيمَ مَنسُوجاتِه، ثمَّ يَذكُرُ اليَدَ المُدَبِّرةَ لتلك الآثارِ الجَليلةِ والمَنسُوجاتِ العَظيمةِ: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾، أي إنَّه يُرِي مَنبَعَ تلك التَّصَرُّفاتِ العَظيمةِ ومَصدَرَها بذِكرِ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ: اللهُ، الرَّبُّ، الحَقُّ.
ومِن أَمثِلةِ الثَّاني:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
يَذكُرُ القُرآنُ في هذه الآياتِ ما في خَلْقِ السَّماواتِ والأَرضِ مِن تَجَلِّي سَلطَنةِ الأُلُوهيّةِ الَّذي يُظهِرُ تَجَلِّيَ كَمالَ قُدرَتِه سُبحانَه وعَظَمةَ رُبُوبيَّتِه، ويَشهَدُ على وَحدانيَّتِه.. ويَذكُرُ تَجَلِّيَ الرُّبُوبيّةِ في اختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وتَجَلِّيَ الرَّحمةِ بتَسخِيرِ السَّفينةِ وجَرَيانِها في البَحرِ الَّتي هي مِنَ الوَسائلِ العُظمَى للحَياةِ الِاجتِماعيّةِ، وتَجَلِّيَ عَظَمةِ القُدرةِ في إنزالِ الماءِ الباعِثِ على الحَياةِ مِنَ السَّماءِ إلى الأَرضِ المَيتةِ وإحيائِها معَ طَوائفِها الَّتي تَزِيدُ على مِئاتِ الآلافِ، وجَعْلِها في صُورةِ مَعرِضٍ للعَجائبِ والغَرائبِ.. كما يَذكُرُ تَجَلِّيَ الرَّحمةِ والقُدرةِ في خَلْقِ ما لا يُحَدُّ مِنَ الحَيَواناتِ المُختَلِفةِ مِن تُرابٍ بَسِيطٍ.. كما يَذكُرُ تَجَلِّيَ الرَّحمةِ والحِكمةِ مِن تَوظِيفِ الرِّياحِ بوَظائفَ جَليلةٍ كتَلقيحِ النَّباتاتِ وتَنَفُّسِها، وجَعْلِها صالِحةً في تَرديدِ أَنفاسِ الأَحياءِ بتَحرِيكِها وإدارَتِها.. كما يَذكُرُ تَجَلِّيَ الرُّبُوبيّةِ في تَسخِيرِ السُّحُبِ وجَمْعِها وتَفرِيقِها وهي مُعَلَّقةٌ بينَ السَّماءِ والأَرضِ كأنَّها جُنُودٌ مُنصاعُون للأَوامِرِ، يَتَفرَّقُون للرّاحةِ ثمَّ يُجَمَّعُون لِتَلَقِّي الأَوامِرِ في عَرضٍ عَظيمٍ.
وهكذا، بعدَ سَرْدِ مَنسُوجاتِ الصَّنعةِ الإلٰهِيّةِ يَسُوقُ العَقلَ إلى اكتِناهِ حَقائقِها تَفصِيلًا فيقُولُ: ﴿لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ آخِذًا بزِمامِ العَقلِ إلى التَّدَبُّرِ، مُوقِظًا إيّاه إلى التَّفَكُّرِ.
[إيجاز الأفعال الإلهية في الأسماء الإلهية]
مَزِيّةُ الجَزالةِ الثّالثة:
إنَّ القُرآنَ الكَريمَ قد يَذكُرُ أَفعالَ اللهِ سُبحانَه بالتَّفصيلِ، ثمَّ بعدَ ذلك يُوجِزُها ويُجمِلُها بخُلاصةٍ. فهو بتَفصِيلِها يُورِثُ القَناعةَ والِاطمِئنانَ، وبإيجازِها وإجمالِها يُسهِّلُ حِفظَها وتَقيِيدَها.
فمَثلًا:
﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
يُشِيرُ بهذه الآيةِ إلى النِّعَمِ الَّتي أَنعَمَها اللهُ على سيِّدِنا يُوسُفَ وعلى آبائِه مِن قَبلُ، فيقُولُ: إنَّ اللهَ تَعالَى هو الَّذي اصطَفاكم مِن بَني آدَمَ لِمَقامِ النُّبوّةِ، وجَعَل سِلسِلةَ جَميعِ الأَنبِياءِ مُرتَبِطةً بسِلسِلَتِكم، وسَوَّدَها على سائرِ سَلاسِلِ بني البَشَرِ، كما جَعَل أُسرَتَكم مَوضِعَ تَعليمٍ وهِدايةٍ، تُلَقِّنُ العُلُومَ الإلٰهِيّةَ والحِكمةَ الرَّبّانيّةَ، فجَمَع فيكم سَلطَنةَ الدُّنيا السَّعيدةَ وسَعادةَ الآخِرةِ الخالِدةَ، وجَعَلَك بالعِلمِ والحِكمةِ عَزِيزًا لِمِصرَ ونَبِيًّا عَظيمًا ومُرشِدًا حَكيمًا.. فبَعدَ أن يَذكُرَ تلك النِّعَمَ ويُعَدِّدُها، وكيف أنَّ اللهَ قد جَعَلَه هو وآباءَه مُمتازِينَ بالعِلمِ والحِكمةِ، يقُولُ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي: اقتَضَت رُبُوبيَّـتُه وحِكمَتُه أن يَجعَلَك وآباءَك تَحظَون بنُورِ اسمِ “العَليمِ الحَكيمِ”. وهكذا أَجمَلَ تلك النِّعَمَ المُفَصَّلةَ بِهذه الخُلاصةِ.
ومَثلًا: قَولُه تَعالَى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ إلى قَولِه تَعالَى: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
تَعرِضُ هذه الآيةُ أَفعالَ اللهِ سُبحانَه في المُجتَمَعِ الإنسانِيِّ، وتُفيدُ بأنَّ العِزّةَ والذِّلّةَ والفَقرَ والغِنَى مَربُوطةٌ مُباشَرةً بمَشِيئةِ اللهِ وإرادَتِه تَعالَى. أي: “إنَّ التَّصَرُّفَ حتَّى في أَكثَرِ طَبَقاتِ الكَثرةِ تَشَتُّـتًا إنَّما هو بمَشِيئةِ اللهِ وتَقدِيرِه، فلا دَخْلَ للمُصادَفةِ قَطُّ”.
فبَعدَ أن أَعطَتِ الآيةُ هذا الحُكمَ، تقُولُ: إنَّ أَعظَمَ شيءٍ في الحَياةِ الإنسانيّةِ هو رِزقُه. فتُثبِتُ ببِضعِ مُقدِّماتٍ أنَّ الرِّزقَ إنَّما يُرسَلُ مُباشَرةً مِن خَزِينةِ الرَّزّاقِ الحَقيقيِّ، إذ إنَّ رِزقَكم مَنُوطٌ بحَياةِ الأَرضِ، وحَياةُ الأَرضِ مَنُوطةٌ بالرَّبيعِ، والرَّبيعُ إنَّما هو بِيَدِ مَن يُسَخِّرُ الشَّمسَ والقَمَرَ ويُكَوِّرُ اللَّيلَ والنَّهارَ. إذًا فإنَّ مَنْحَ تُفّاحةٍ لإنسانٍ رِزقًا حَقيقيًّا، إنَّما هو مِن فِعلِ مَن يَملَأُ الأَرضَ بأَنواعِ الثَّمَراتِ، وهو الرَّزَّاقُ الحَقيقيُّ. وبعدَ ذلك يُجمِلُ القُرآنُ ويُثبِتُ تلك الأَفعالَ المُفَصَّلةَ بهذه الخُلاصةِ: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
[نظم المخلوقات ثمرات للأسماء الإلهية]
النُّكتةُ البلاغيّةُ الرابعة:
إنَّ القُرآنَ قد يَذكُرُ المَخلُوقاتِ الإلٰهِيّةَ مُرتَّبةً بتَرتيبٍ مُعيَّنٍ، ثمَّ يُبيِّنُ به أنَّ في المَخلُوقاتِ نِظامًا ومِيزانًا، يُرِيانِ ثَمَرةَ المَخلُوقاتِ. وكأنَّه يُضْفي نَوْعًا مِنَ الشَّفافيّةِ والسُّطُوعِ على المَخلُوقاتِ الَّتي تَظهَرُ مِنها الأَسماءُ الإلٰهِيّةُ المُتَجلِّيةُ فيها، فكأنَّ تلك المَخلُوقاتِ المَذكُورةَ أَلفاظٌ، وهذه الأَسماءَ مَعانِيها، أو أنَّها ثَمَراتٌ وهذه الأَسماءَ نُواها أو لُبابُها.
فمَثلًا:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾. يَذكُرُ القُرآنُ خَلْقَ الإنسانِ وأَطوارَه العَجيبةَ الغَريبةَ البَديعةَ المُنتَظِمةَ المَوزُونةَ ذِكرًا مُرَتَّـبًا يُبيِّنُ كالمِرآةِ ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، حتَّى كأنَّ هذه الأَطْوارَ بنَفسِها تُوحِي هذه الآيةَ، بل حتَّى قالَها قبلَ مَجِيئِها أَحَدُ كُتَّابِ الوَحيِ حِينَما كان يَكتُبُ هذه الآيةَ، فذَهَب به الظَّنُّ إلى أن يقُولَ: أَأُوحِيَ إلَيَّ أيضًا؟! والحالُ أنَّ كَمالَ نِظامِ الكَلامِ الأَوَّلِ وشَفافيَّتَه الرّائقةَ وانسِجامَه التّامَّ يُظهِرُ نَفسَه قبلَ مَجِيءِ هذه الكَلِمةِ.
وكذا قَولُه تَعالَى:
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.
يُبيِّنُ القُرآنُ في هذه الآيةِ عَظَمةَ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ وسَلطَنةَ الرُّبُوبيّةِ، بوَجهٍ يَدُلُّ على قَديرٍ ذِي جَلالٍ استَوَى على عَرشِ رُبُوبيَّتِه ويُسطِّـرُ آياتِ رُبُوبيَّتِه على صَحائفِ الكَونِ، ويُحوِّلُ اللَّيلَ والنَّهارَ كأنَّهما شَرِيطانِ يَعقُبُ أَحَدُهما الآخَرَ؛ والشَّمسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ مُتَهيِّئةٌ لِتَلقِّي الأَوامِرِ كجُنُودٍ مُطِيعين. لِذا فكلُّ رُوحٍ ما إن تَسمَعُ هذه الآيةَ إلّا وتقُولُ: “تَبارَكَ اللهُ رَبُّ العالَمِين.. بارَكَ اللهُ.. ما شاءَ اللهُ!”. أي إنَّ جُملةَ: ﴿تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ تَجرِي مَجرَى الخُلاصةِ لِما سَبَق مِنَ الجُمَلِ، وهي بحُكمِ نَواتِها وثَمَرتِها وماءِ حَياتِها.
[رد المتغيرات الجزئية إلى الأسماء الإلهية]
مَزِيّةُ الجَزالةِ الخامِسةِ:
إنَّ القُرآنَ قد يَذكُرُ الجُزئيّاتِ المادِّيّةَ المُعَرَّضةَ للتَّغَيُّرِ والَّتي تكُونُ مَناطَ مُختَلِفِ الكَيفيّاتِ والأَحوالِ، ثمَّ لِأَجلِ تَحوِيلِها إلى حَقائقَ ثابتةٍ يُقيِّدُها ويُجْمِلُها بالأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الَّتي هي نُورانيّةٌ وكُلِّيّةٌ وثابتةٌ؛ أو يَأتي بخُلاصةٍ تَسُوقُ العَقلَ إلى التَّفكُّرِ والِاعتِبارِ.
ومِن أَمثِلةِ المَعنَى الأوَّل:
﴿وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ هذه الآيةُ تَذكُرُ أوَّلًا حادِثةً جُزئيّةً هي أنَّ سَبَب تَفضِيلِ آدَمَ في الخِلافةِ على المَلائكةِ هو “العِلمُ”، ومِن بعدِ ذلك تَذكُرُ حادِثةَ مَغلُوبيّةِ المَلائكةِ أمامَ سيِّدِنا آدَمَ في قَضِيّةِ العِلمِ، ثمَّ تُعَقِّبُ ذلك بإجمالِ هاتَينِ الحادِثتَينِ بذِكرِ اسمَينِ كُلِّـيَّينِ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾، بمَعنَى أنَّ المَلائكةَ يقُولُون: أنتَ العَليمُ يا رَبُّ فعَلَّمتَ آدَمَ فغَلَبَنا، وأنتَ الحَكيمُ فتَمنَحُنا كلَّ ما هو مُلائِمٌ لِاستِعدادِنا، وتُفَضِّلُه علَينا باستِعداداتِه.
ومِن أَمثِلةِ المَعنَى الثّاني:
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
تعرِضُ هذه الآياتُ الكَريمةُ أنَّ اللهَ تَعالَى جَعَل الشّاةَ، والمَعْزَى، والبَقَرَ، والإبلَ، وأَمثالَها مِنَ المَخلُوقاتِ يَنابِيعَ خالِصةً زَكيّةً لَذِيذةً تَدفُقُ الحَليبَ، وجَعَل سُبحانَه العِنَبَ والتَّمرَ وأَمثالَهما أَطباقًا مِنَ النِّعمةِ وجِفانًا لَطِيفةً لَذِيذةً.. كما جَعَل مِن أَمثالِ النَّحلِ -الَّتي هي مُعجِزةٌ مِن مُعجِزاتِ القُدرةِ- العَسَلَ الَّذي فيه شِفاءٌ للنّاسِ، إلى جانِبِ لَذَّتِه وحَلاوَتِه.. وفي خاتِمةِ المَطافِ تَحُثُّ الآياتُ على التَّفكُّرِ والِاعتِبارِ وقِياسِ غَيرِها علَيها بـ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
[ختم مظاهر الكثرة بخاتم الوحدة]
النُّكتة البلاغيّةُ السَّادِسة:
إنَّ القُرآنَ الكَريمَ قد يَنشُرُ أَحكامَ الرُّبُوبيّةِ على الكَثرةِ الواسِعةِ المُنتَشِرةِ، ثمَّ يَضَعُ علَيها مَظاهِرَ الوَحدةِ، ويَجمَعُها في نُقطةِ تَوَحُّدِها كجِهةِ وَحدةٍ بَينَها، أو يُمَكِّنُها في قاعِدةٍ كُلِّيّةٍ.
فمَثلًا: قولُه تَعالَى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾: فهذه الآيةُ (أي: آيةُ الكُرسِيِّ) تَأتي بعَشرِ جُمَلٍ تُمَثِّـلُ عَشرَ طَبَقاتٍ مِنَ التَّوحيدِ في أَشكالٍ مُختَلِفةٍ، وتُثبِتُها. وبعدَ ذلك تَقطَعُ قَطعًا كُلِّـيًّا بقُوّةٍ صارِمةٍ عِرقَ الشِّركِ وتَدَخُّلَ غيرِ اللهِ بـ ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾؛ فهذه الآيةُ لِأَنَّها قد تَجَلَّى فيها الِاسمُ الأَعظَمُ فإنَّ مَعانيَها مِن حيثُ الحَقائقُ الإلٰهِيّةُ هي في الدَّرَجةِ العُظمَى والمَقامِ الأَسمَى، إذ تُبيِّنُ تَصَرُّفاتِ الرُّبُوبيّةِ في الدَّرَجةِ العُظمَى؛ وبعدَ ذِكرِ تَدبِيرِ الأُلُوهيّةِ المُوَجَّهِ للسَّماواتِ والأَرضِ كافّةً تَوَجُّهًا في أَعلَى مَقامٍ وأَعظَمِ دَرَجةٍ، تَذكُرُ الحَفيظيّةَ الشّامِلةَ المُطلَقةَ بكلِّ مَعانيها؛ ثمَّ تُلخِّصُ مَنابِعَ تلك التَّجَلِّياتِ العُظمَى في رابِطةِ وَحدةِ اتِّحادٍ، وجِهةِ وَحدةٍ بقَولِه تَعالَى: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾.
ومَثلًا:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.
تُبيِّنُ هذه الآياتُ كيف أنَّ اللهَ تَعالَى قد خَلَق هذا الكَونَ للإنسانِ في حُكمِ قَصْرٍ، وأَرسَلَ ماءَ الحَياةِ مِنَ السَّماءِ إلى الأَرضِ، فجَعَل السَّماءَ والأَرضَ مُسخَّرتَينِ كأنَّهما خادِمانِ عامِلانِ على إيصالِ الرِّزقِ إلى النّاسِ كافّةً، كما سَخَّر له السَّفينةَ لِيَمنَحَ الفُرصةَ لكُلِّ أَحَدٍ، لِيَستَفيدَ مِن ثِمارِ الأَرضِ كافّةً، لِيَضمَنَ له العَيشَ، فيَتَبادَلُ الأَفرادُ فيما بَينَهم ثِمارَ سَعيِهم وأَعمالِهم. أي: جَعَل لكُلٍّ مِنَ البَحرِ والشَّجَرِ والرِّيحِ أَوضاعًا خاصّةً بحيثُ تكُونُ الرِّيحُ كالسَّوطِ والسَّفينةُ كالفَرَسِ والبَحرُ كالصَّحراءِ الواسِعةِ تَحتَها. كما أنَّه سُبحانَه جَعَل الإنسانَ يَرتَبِطُ مع كلِّ ما في أنحاءِ المَعمُورةِ بالسَّفينةِ وبوَسائطِ نَقلٍ فِطرِيّةٍ في الأَنهارِ والرَّوافِدِ، وسَيَّر له الشَّمسَ والقَمَرَ وجَعَلَهما مَلّاحَينِ مَأمُورَينِ لإدارةِ دُولابِ الكائناتِ الكَبيرِ وإحضارِ الفُصُولِ المُختَلِفةِ وإعدادِ ما فيها مِن نِعَمٍ إلٰهِيّةٍ. كما سَخَّر اللَّيلَ والنَّهارَ جاعِلًا اللَّيلَ لِباسًا وغِطاءً لِيَخلُدَ الإنسانُ إلى الرّاحةِ، والنَّهارَ مَعاشًا لِيتَّجِرَ فيه. وبعدَ تَعدادِ هذه النِّعَمِ الإلٰهِيّةِ تَأتي الآيةُ بخُلاصةٍ: ﴿وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ لِبَيانِ مَدَى سَعةِ دائرةِ إنعامِ اللهِ تَعالَى على الإنسانِ وكيف أنَّها مَملُوءةٌ بأَنواعِ النِّعَمِ، أي إنَّ كلَّ ما سَأَلَه الإنسانُ بحاجَتِه الفِطرِيّةِ وبلِسانِ استِعدادِه قد مَنَحَه اللهُ تَعالَى إيّاه. فتلك النِّعَمُ لا تَدخُلُ في الحَصْرِ ولا تَنفَدُ ولا تَنقَضي بالتَّعدادِ.
نعم، إن كانَتِ السَّماواتُ والأَرضُ مائدةً مِن مَوائِدِ نِعَمِه العَظيمةِ وكانَتِ الشَّمسُ والقَمَرُ واللَّيلُ والنَّهارُ بَعضًا مِن تلك النِّعَمِ الَّتي احتَوَتْها تلك المائدةُ، فلا شَكَّ أنَّ النِّعَمَ المُتَوجِّهةَ إلى الإنسانِ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى.
[رد الأسباب إلى المسبِّب]
سِرُّ البلاغة السابعة:
قد تُبيِّنُ الآيةُ غاياتِ المُسَبَّبِ وثَمَراتِه لِتَعزِلَ السَّبَبَ الظّاهِرِيَّ وتَسلُبَ مِنه قُدرةَ الخَلقِ والإيجادِ. وليُعلَم أنَّ السَّبَبَ ما هو إلّا سِتارٌ ظاهِرِيٌّ، ذلك لأنَّ إرادةَ الغاياتِ الحَكيمةِ والثَّمَراتِ الجَليلةِ يَلزَمُ أن يكُونَ مِن شَأنِ مَن هو عَليمٌ مُطلَقُ العِلمِ وحَكيمٌ مُطلَقُ الحِكمةِ، بَينَما سَبَبُها جامِدٌ مِن غيرِ شُعُورٍ. فالآية تُفيدُ بذِكرِ الثَّمَراتِ والغاياتِ أنَّ الأَسبابَ وإن بَدَتْ في الظّاهِرِ والوُجُودِ مُتَّصِلةً معَ المُسَببَّاتِ، إلّا أنَّ بَينَهما في الحَقيقةِ وواقِعِ الأَمرِ بَوْنًا شاسِعًا جِدًّا.
نعم، إنَّ المَسافةَ بينَ السَّبَبِ وإيجادِ المُسَبَّبِ مَسافةٌ شاسِعةٌ بحيثُ لا طاقةَ لِأَعظَمِ الأَسبابِ أن تَنالَ إيجادَ أَدنَى مُسَبَّبٍ، ففي هذا البُعدِ بينَ السَّبَبِ والمُسَبَّبِ تُشرِقُ الأَسماءُ الإلٰهِيّةُ كالنُّجُومِ السّاطِعةِ.
مَطالِعُ تلك الأَسماءِ هي في تلك المَسافةِ المَعنَويّةِ، إذ كما يُشاهَدُ اتِّصالُ أَذيالِ السَّماءِ بالجِبالِ المُحيطةِ بالأُفُقِ وتَبدُو مَقرُونةً بها، بَينَما هناك مَسافةٌ عظيمةٌ جِدًّا بينَ دائرةِ الأُفُقِ الجَبَليّةِ وسَفْحِ السَّماءِ، وهي -أي: المَسافةُ- مَطْلِعٌ لِجَميعِ النُّجُومِ ومَساكِنُ أَشياءَ أُخرَى، كذلِك فإنَّ ما بينَ الأَسبابِ والمُسَبَّباتِ مَسافةٌ مَعنَوِيّةٌ عَظيمةٌ جِدًّا لا تُرَى إلَّا بمِنظارِ الإيمانِ ونُورِ القُرآنِ. فمَثلًا:
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾.
هذه الآياتُ الكَرِيمةُ تَذكُرُ مُعجِزاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ ذِكرًا مُرَتَّبًا حَكيمًا تَربِطُ الأَسبابَ بالمُسَبَّباتِ، ثمَّ في خاتِمةِ المَطافِ تُبيِّنُ الغايةَ بلَفظِ: ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾، فتُثبِتُ في تلك الغايةِ أنَّ مُتَصرِّفًا مُستَتِرًا وَراءَ جَميعِ تلك الأَسبابِ والمُسبَّباتِ المُتَسَلسِلةِ يَرَى تلك الغاياتِ ويُراعِيها. وتُؤَكِّدُ أنَّ تلك الأَسبابَ ما هي إلّا حِجابٌ دُونَه.
نعم، إنَّ عِبارةَ: ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ تَسلُبُ جَميعَ الأَسبابِ مِنَ القُدرةِ على الإيجادِ والخَلقِ، إذ تقُولُ مَعنًى: إنَّ الماءَ الَّذي يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ لِتَهيِئةِ الأَرزاقِ لكم ولِأَنعامِكُم لا يَنزِلُ بنَفسِه، لأنَّه ليس له قابِليّةُ الرَّحمةِ والحَنانِ علَيكم وعلى أَنعامِكم كي يَرْأَفَ بحالِكُم، فإذًا يُرسَلُ إرسالًا؛ وإنَّ التُّرابَ الَّذي لا شُعُورَ له، لأنَّه بَعيدٌ كلَّ البُعدِ مِن أن يَرأَفَ بحالِكُم فيُهيِّئَ لكُمُ الرِّزقَ، فلا يَنشَقُّ إذًا بنَفسِه، بل هناك مَن يَشُقُّه ويَفتَحُ أَبوابَه، ويُناوِلُكمُ النِّعَمَ مِنه؛ وكذا الأَشجارُ والنَّباتاتُ، فهي بَعيدةٌ كلَّ البُعدِ عن تَهيِئةِ الثَّمَراتِ والحُبُوبِ رَأفةً بكم وتَفَكُّرًا برِزقِكُم، فما هي إلّا حِبالٌ وشَرائطُ مُمتَدّةٌ مِن وَراءِ سِتارِ الغَيبِ يَمُدُّها حَكيمٌ رَحيمٌ عَلَّق تلك النِّعَمَ بها وأَرسَلَها إلى ذَوِي الحَياةِ.
وهكذا، فمِن هذه البَياناتِ تَظهَرُ مَطالِعُ أَسماءٍ حُسنَى كَثيرةٌ كالرَّحيمِ والرَّزّاقِ والمُنعِمِ والكَرِيمِ.
ومَثلًا:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ * وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهذه الآيةُ الكَريمةُ حِينَما تُبيِّنُ التَّصَرُّفاتِ العَجِيبةَ في إنزالِ المَطَرِ وتَشَكُّلِ السَّحابِ الَّذي يُمَثِّـلُ سِتارَ خَزِينةِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ وأَهَمَّ مُعجِزةٍ مِن مُعجِزاتِ الرُّبُوبيّةِ، تُبيِّنُها كأنَّ أَجزاءَ السَّحابِ كانَت مُنتَشِرةً ومُختَفِيةً في جَوِّ السَّماءِ -كالجُنُودِ المُنتَشِرين للرَّاحةِ- فتَجتَمِعُ بأَمرِ اللهِ وتَتَألَّفُ تلك الأَجزاءُ الصَّغيرةُ مُشَكِّلةً السَّحابَ كما يَجتَمِعُ الجُنُودُ بصَوتِ بُوقٍ عَسكَرِيٍّ، فيُرسِلُ الماءَ الباعِثَ على الحَياةِ إلى ذَوِي الحَياةِ كافّةً، مِن تلك القِطَعِ مِنَ السَّحابِ الَّتي هي في جَسامةِ الجِبالِ السَّيّارةِ في القِيامةِ وعلى صُورَتِها، وهي في بَياضِ الثَّلجِ والبَرَدِ وفي رُطُوبَتِها.. فيُشاهَد في ذلك الإرسالِ إرادةٌ وقَصْدٌ لأنَّه يَأتي حَسَبَ الحاجةِ، أي: يُرسَلُ المَطَرُ إرسالًا، ولا يُمكِنُ أن تَجتَمِعَ تلك الأَجزاءُ الضَّخمةُ مِنَ السَّحابِ وكأنَّها جِبالٌ بنَفسِها في الوَقتِ الَّذي نَرَى الجَوَّ بَرَّاقًا صَحْوًا لا شيءَ يُعَكِّرُه، بل يُرسِلُها مَن يَعرِفُ ذَوِي الحَياةِ ويَعلَمُ بحالِهم.
ففي هذه المَسافةِ المَعنَويّةِ تَظهَرُ مَطالِعُ الأَسماءِ الحُسنَى كالقَدِيرِ والعَليمِ والمُتَصرِّفِ والمُدَبِّرِ والمُرَبِّي والمُغيثِ والمُحيِي.
[تصوير المشاهد الأخروية بنظائر دنيوية]
مَزيّةُ الجَزالة الثامنة:
إنَّ القُرآنَ الكَريمَ قد يَذكُرُ مِن أَفعالِ اللهِ الدُّنيَوِيّةِ العَجيبةِ والبَديعةِ كي يُعِدَّ الأَذهانَ للتَّصديقِ ويُحضِرَ القُلُوبَ للإيمانِ بأَفعالِه المُعجِزةِ في الآخِرةِ، أو إنَّه يُصَوِّرُ الأَفعالَ الإلٰهِيّةَ العَجِيبةَ الَّتي ستَحدُثُ في المُستَقبَلِ والآخِرةِ بشَكلٍ يَجعَلُنا نَقتَنِعُ ونَطمَئِنُّ إلَيه بما نُشاهِدُه مِن نَظائرِها العَدِيدةِ.
فمَثلًا: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ.﴾. إلى آخِرِ سُورةِ “يسٓ”.. هنا في قَضِيّةِ الحَشرِ، يُثبِتُ القُرآنُ الكَريمُ ويَسُوقُ البَراهِينَ علَيها، بسَبعِ أو ثَماني صُوَرٍ مُختَلِفةٍ مُتَنوِّعةٍ:
إنَّه يُقَدِّم النَّشأةَ الأُولَى أوَّلًا، ويَعرِضُها للأَنظارِ قائلًا: إنَّكم تَرَوْن نَشأَتَكم مِنَ النُّطفةِ إلى العَلَقةِ ومِنَ العَلَقةِ إلى المُضغةِ ومِنَ المُضغةِ إلى خَلقِ الإنسانِ، فكيف تُنكِرُون إذًا النَّشأةَ الأُخرَى الَّتي هي مِثلُ هذا بل أَهوَنُ مِنه؟ ثمَّ يُشِيرُ بـ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا﴾ إلى تلك الآلاءِ وذلك الإحسانِ والإنعامِ الَّذي أَنعَمَه الحَقُّ سُبحانَه على الإنسانِ، فالَّذي يُنعِمُ علَيكم مِثلَ هذه النِّعَمِ لن يَتْرُكَكم سُدًى ولا عَبَثًا، لِتَدخُلُوا القَبْرَ وتَنامُوا دُونَ قِيامٍ.
ثمَّ إنَّه يقُولُ رَمْزًا: إنَّكم تَرَون إحياءَ الأَشجارِ المَيتةِ واخضِرارَها، فكيف تَستَبعِدُون اكتِسابَ العِظامِ الشَّبِيهةِ بالحَطَبِ للحَياةِ ولا تَقِيسُون علَيها؟ ثمَّ هل يُمكِنُ أن يَعجِزَ مَن خَلَق السَّماواتِ والأَرضَ عن إحياءِ الإنسانِ وإماتَتِه وهو ثَمَرةُ السَّماواتِ والأَرضِ؟ وهل يُمكِنُ مَن يُدِيرُ أَمرَ الشَّجَرةِ ويَرعاها أن يُهمِلَ ثَمَرتَها ويَتْرُكَها للآخَرِين؟! فهل تَظُنُّون أن يَتْرُكَ للعَبَثِ “شَجَرةَ الخِلقةِ” الَّتي عُجِنَت جَميعُ أَجزائِها بالحِكمةِ، بأن يُهمِلَ ثَمَرتَها ونَتيجَتَها؟! وهكذا فإنَّ الَّذي سيُحيِيكُم في الحَشرِ مَن بِيَدِه مَقاليدُ السَّماواتِ والأَرضِ، وتَخضَعُ له الكائناتُ خُضُوعَ الجُنُودِ المُطِيعين لِأَمرِه، فيُسَخِّرُهم بأَمرِ ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ تَسخِيرًا كامِلًا.. ومَن عِندَه خَلقُ الرَّبيعِ يَسيرٌ وهَيِّنٌ كخَلقِ زَهرةٍ واحِدةٍ، وإيجادُ جَميعِ الحَيَواناتِ سَهلٌ على قُدرَتِه كإيجادِ ذُبابةٍ واحِدةٍ.. فلا ولن يُسأَلَ للتَّعجِيزِ صاحِبُ هذه القُدرةِ: ﴿مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ﴾
ثمَّ إنَّه بعِبارةِ: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يُبيِّنُ أنَّه سُبحانَه بيَدِه مَقاليدُ كلِّ شيءٍ، وعِندَه مَفاتيحُ كلِّ شيءٍ، يُقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ، والشِّتاءَ والصَّيفَ بكُلِّ سُهُولةٍ ويُسْرٍ كأنَّها صَفَحاتُ كِتابٍ، والدُّنيا والآخِرةُ هما عِندَه كمَنزِلَينِ يُغلِقُ هذا ويَفتَحُ ذاك. فما دامَ الأَمرُ هكذا فإنَّ نَتيجةَ جَميعِ الدَّلائلِ هي ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي إنَّه يُحيِيكُم مِنَ القَبْرِ، ويَسُوقُكم إلى الحَشرِ، ويُوَفِّي حِسابَكم عند دِيوانِه المُقَدَّسِ.
وهكذا تَرَى أنَّ هذه الآياتِ قد هَيَّأَتِ الأَذهانَ، وأَحضَرَتِ القُلُوبَ لِقَبُولِ قَضِيّةِ الحَشرِ، بما أَظهَرَت مِن نَظائرِها بأَفعالٍ في الدُّنيا.
هذا، وقد يَذكُرُ القُرآنُ أيضًا أَفعالًا أُخرَوِيّةً بشَكلٍ يُحَسِّسُ ويُشِيرُ إلى نَظائرِها الدُّنيَوِيّةِ، لِيَمنَعَ الإنكارَ والِاستِبعادَ. فمَثلًا:
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾.. إلى آخِرِ السُّورة.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾.. إلى آخِرِ السُّورة.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ..﴾.. إلى آخِر السُّورةِ.
فتَرَى أنَّ هذه السُّوَرَ تَذكُرُ الِانقِلاباتِ العَظيمةَ والتَّصَرُّفاتِ الرَّبّانيّةَ الهائلةَ في القِيامةِ والحَشرِ بأُسلُوبٍ يَجعَلُ الإنسانَ يَرَى نَظائِرَها في الخَرِيفِ والرَّبيعِ فيَقبَلُها بكُلِّ سُهُولةٍ ويُسْرٍ، معَ أنَّها كانَت تَجعَلُ القَلبَ أَسِيرَ دَهشةٍ هائِلةٍ، ويَضِيقُ العَقلُ دُونَها، ويَبقَى في حَيرةٍ.
ولَمّا كان تَفسِيرُ السُّوَرِ الثَّلاثِ هذه يَطُولُ، لِذا سنَأخُذُ كَلِمةً واحِدةً نَمُوذَجًا، فمَثلًا: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾: تُفيدُ هذه الآيةُ: “ستُنشَرُ في الحَشرِ جَميعُ أَعمالِ الفَردِ مَكتُوبةً على صَحيفةٍ”. وحيثُ إنَّ هذه المَسأَلةَ عَجِيبةٌ بذاتِها فلا يَرَى العَقلُ إلَيها سَبِيلًا، إلّا أنَّ السُّورةَ كما تُشِيرُ إلى الحَشرِ الرَّبيعيِّ، وكما أنَّ للنِّقاطِ الأُخرَى نَظائرَها وأَمثِلَتَها، كذلك نَظيرُ نَشرِ الصُّحُفِ ومِثالُها واضِحٌ جَلِيٌّ، فلِكُلِّ ثَمَرٍ ولكُلِّ عُشْبٍ ولكُلِّ شَجَرٍ، أَعمالٌ وله أَفعالٌ، وله وَظائفُ؛ وله عُبُودِيّةٌ وتَسبِيحاتٌ بالشَّكلِ الَّذي تَظهَرُ به الأَسماءُ الإلٰهِيّةُ الحُسنَى.. فجَميعُ هذه الأَعمالِ مُندَرِجةٌ معَ تارِيخِ حَياتِه في بُذُورِه ونُواه كُلِّها، وستَظهَرُ جَميعُها في رَبيعٍ آخَرَ ومَكانٍ آخَرَ. أي إنَّه كما يَذكُرُ بفَصاحةٍ بالِغةٍ أَعمالَ أُمَّهاتِه وأُصُولِه بالصُّورةِ والشَّكلِ الظّاهِرِ، فإنَّه يَنشُرُ كذلك صَحائفَ أَعمالِه بنَشرِ الأَغصانِ وتَفتُّحِ الأَوراقِ والأَثمارِ. نعم، إنَّ الَّذي يَفعَلُ هذا أَمامَ أَعيُنِنا بكلِّ حِكمةٍ وحِفظٍ وتَدبِيرٍ وتَربِيةٍ ولُطفٍ هو الَّذي يقُولُ: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ..﴾. وهكذا قِسِ النِّقاطَ الأُخرَى على هذا المِنوالِ، وإن كانَت لَدَيك قُوّةُ استِنباطٍ فاستَنبِطْ.
ولِأَجلِ مُساعَدَتِك ومُعاوَنَتِك سنَذكُرُ: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ أيضًا: فإنَّ لَفظَ ﴿كُوِّرَتْ﴾ الَّذي يَرِدُ في هذا الكَلامِ هو بمَعنَى: لُفَّت وجُمِعَت، فهو مِثالٌ رائِعٌ ساطِعٌ فوقَ أنَّه يُومِئُ إلى نَظِيرِه ومَثيلِه في الدُّنيا:
أوَّلًا: إنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى قد رَفَع سَتائرَ العَدَمِ والأَثيرِ والسَّماءِ، عن جَوهَرةِ الشَّمسِ الَّتي تُضِيءُ الدُّنيا كالمِصباحِ، فأَخرَجَها مِن خَزِينةِ رَحمَتِه وأَظهَرَها إلى الدُّنيا، وسيَلُفُّ تلك الجَوهَرةَ بأَغلِفَتِها عِندَما تَنتَهي هذه الدُّنيا وتَنسَدُّ أَبوابُها.
ثانيًا: إنَّ الشَّمسَ مُوَظَّفةٌ ومَأمُورةٌ بنَشرِ غُلالاتِ الضَّوء في الأَسحارِ ولَفِّها في الأَماسِيِّ. وهكذا يَتَناوَبُ اللَّيلُ والنَّهارُ هامَةَ الأَرضِ، وهي تَجمَعُ مَتاعَها مُقَلِّلةً مِن تَعامُلِها، أو يكُونُ القَمَرُ -إلى حَدٍّ مّا- نِقابًا لِأَخذِها وعَطائِها ذلك، أي: كما أنَّ هذه المُوَظَّفةَ تَجمَعُ مَتاعَها وتَطوِي دَفاتِرَ أَعمالِها بهذه الأَسبابِ، فلا بُدَّ أن يَأتِيَ يَومٌ تُعفَى مِن مَهامِّها، وتُفصَلُ مِن وَظيفَتِها، حتَّى إن لم يكُن هناك سَبَبٌ للإعفاءِ والعَزْلِ.. ولعلَّ تَوَسُّعَ ما يُشاهِدُه الفَلَكيُّون على وَجهِها مِنَ البُقعَتَينِ الصَّغيرَتَينِ الآنَ اللَّتَينِ تَتَوسَّعانِ وتَتَضخَّمانِ رُوَيدًا رُوَيدًا، تَستَرجِعُ الشَّمسُ -بهذا التَّوَسُّعِ- وبأَمرٍ رَبّانِيٍّ ما لَفَّتْه ونَشَرَتْه على رَأسِ الأَرضِ بإذنٍ إلٰهِيٍّ مِنَ الضَّوءِ، فتَلُفُّ به نَفسَها، فيقُولُ رَبُّ العِزّةِ: “إلى هنا انتَهَت مُهِمَّتُكِ مع الأَرضِ، فهَيّا إلى جَهَنَّمَ لِتُحرِقي الَّذين عَبَدُوكِ وأَهانُوا مُوَظَّفةً مُسَخَّرةً مِثلَكِ وحَقَّرُوها مُتَّهِمِين إيّاها بالخِيانةِ وعَدَمِ الوَفاءِ”. بهذا تَقرَأُ الشَّمسُ الأَمرَ الرَّبّانِيَّ: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ على وَجهِها المُبقِعِ.
[تحويل المقاصد الجزئية إلى قواعد كلية]
نُكتةُ البَلاغةِ التّاسعة:
إنَّ القُرآنَ الكَريمَ قد يَذكُرُ بعضًا مِنَ المَقاصِدِ الجُزئيّةِ، ثمَّ لِأَجلِ أن يُحَوِّلَ تلك الجُزئيّاتِ إلى قاعِدةٍ كُلِّيّةٍ ويُجِيلَ الأَذهانَ، فيها يُثبِّتُ ذلك المَقصَدَ الجُزئيَّ ويُقرِّرُه ويُؤكِّدُه بالأَسماءِ الحُسنَى الَّتي هي قاعِدةٌ كُلِّيّةٌ. فمَثلًا: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾، يقُولُ القُرآنُ: إنَّ اللهَ سَمِيعٌ مُطلَقُ السَّمعِ يَسمَعُ كلَّ شيءٍ، حتَّى إنَّه لَيَسمَعُ باسمِه “الحَقِّ” حادِثةً جُزئيّةً لِامرَأةٍ، تلك المَرأةِ الَّتي حَظِيَت بأَلطَفِ تَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ، وهي الَّتي تُمَثِّلُ أَعظَمَ كَنزٍ لِحَقيقةِ الرَّأفةِ والحَنانِ؛ هذه الدَّعوَى المُقدَّمةَ مِنِ امرَأةٍ وهي مُحِقّةٌ في دَعواها على زَوجِها وشَكْواها إلى اللهِ مِنه يَسمَعُها برَحمةٍ بالِغةٍ كأيِّ أَمرٍ عَظيمٍ باسمِ “الرَّحِيمِ”، ويَنظُرُ إلَيها بكلِّ شَفَقةٍ ويَراها باسمِ “الحَقِّ”.
فلِأَجلِ جَعْلِ هذا المَقصَدِ الجُزئيِّ كُلِّـيًّا تُفيدُ الآيةُ بأنَّ الَّذي يَسمَعُ أَدنَى حادِثةٍ مِنَ المَخلُوقاتِ ويَراها، يَلزَمُ أن يكُونَ ذلك الَّذي يَسمَعُ كلَّ شيءٍ ويَراه، وهو المُنَـزَّهَ عنِ المُمكِناتِ؛ والَّذي يكُونُ رَبًّا للكَونِ لا بُدَّ أن يَرَى ما في الكَونِ أَجمَعَ مِن مَظالِمَ، ويَسمَعَ شَكوَى المَظلُومِين، فالَّذي لا يَرَى مَصائِبَهم ولا يَسمَعُ استِغاثاتِهم لا يُمكِنُ أن يكُونَ رَبًّا لهم. لذا فإنَّ جُملةَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ تُبيِّنُ حَقيقَتَينِ عَظيمَتَينِ. كما جَعَلَتِ المَقصَدَ الجُزئيَّ أَمرًا كُلِّـيًّا.
ومَثَلٌ ثانٍ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾:
إنَّ القُرآنَ الكَريمَ يَختِمُ هذه الآيةَ بـ ﴿إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، وذلك بعدَ ذِكرِه إسراءَ الرَّسُولِ الحَبيبِ ﷺ مِن مَبدَأِ المِعراجِ، أي: مِنَ المَسجِدِ الحَرامِ إلى المَسجِدِ الأَقصَى.
فالضَّميرُ في ﴿إِنَّه﴾ إمّا أن يَرجِعَ إلى اللهِ تَعالَى، أو إلى الرَّسُولِ الكَريمِ ﷺ؛ فإذا كان راجِعًا إلى الرَّسُولِ ﷺ فإنَّ قَوانينَ البَلاغةِ ومُناسَبةَ سِياقِ الكَلامِ تُفيدانِ أنَّ هذه السِّياحةَ الجُزئيّةَ فيها مِنَ السَّيرِ العُمُوميِّ والعُرُوجِ الكُلِّيِّ ما قد سَمِعَ وشاهَدَ كلَّ ما لاقَى بَصَرَه وسَمْعَه مِنَ الآياتِ الرَّبّانيّةِ، وبَدائِعِ الصَّنعةِ الإلٰهِيّةِ في أثناءِ ارتِقائِه المَراتِبَ الكُلِّيّةَ للأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى البالِغةِ إلى سِدْرةِ المُنتَهَى، حتَّى كان قابَ قَوسَينِ أو أَدنَى. مِمّا يَدُلُّ على أنَّ هذه السِّياحةَ الجُزئيّةَ هي في حُكمِ مِفتاحٍ لِسِياحةٍ كُلِّـيّةٍ جامِعةٍ لِعَجائِبِ الصَّنعةِ الإلٰهِيّةِ. وإذا كان الضَّميرُ راجِعًا إلى اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، فالمَعنَى يكُونُ عِندَئذٍ هكذا: إنَّه سُبحانَه وتَعالَى دَعا عَبدَه إلى حُضُورِه والمُثُولِ بينَ يَدَيهِ، لِيُنيطَ به مُهِمّةً ويُكلِّفُه بوَظيفةٍ، فأَسرَى به مِنَ المَسجِدِ الحَرامِ إلى المَسجِدِ الأَقصَى الَّذي هو مَجمَعُ الأَنبِياءِ؛ وبعدَ إجراءِ اللِّقاءِ معَهم وإظهارِه بأنَّه الوارِثُ المُطلَقُ لِأُصُولِ أَديانِ جَميعِ الأَنبِياءِ، سَيَّـرَه في جَولةٍ ضِمنَ مُلكِه وسِياحةٍ ضِمنَ مَلَكُوتِه، حتَّى أَبلَغَه سِدْرةَ المُنتَهَى، فكان قابَ قَوسَينِ أو أَدنَى.. وهكذا، فإنَّ تلك السِّياحةَ أو السَّيرَ، وإن كانَت مِعراجًا جَزئيًّا، وأنَّ الَّذي عُرِجَ به عَبدٌ، إلّا أنَّ هذا العَبدَ يَحمِلُ أَمانةً عَظيمةً تَتَعلَّقُ بجَميعِ الكائناتِ، ومعَه نُورٌ مُبِينٌ يُنيرُ الكائناتِ ويُبدِّلُ مِن مَلامِحِها ويَصبِغُها بصِبغَتِه؛ فَضْلًا عن أنَّ لَدَيه مِفتاحًا يَستَطِيعُ أن يَفتَحَ به بابَ السَّعادةِ الأَبَديّةِ والنَّعيمِ المُقيمِ.
فلِأَجلِ كلِّ هذا يَصِفُ اللهُ سُبحانَه وتَعالَى نَفسَه بـ ﴿إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ كي يُظهِرَ أنَّ في تلك الأَمانةِ وفي ذلك النُّورِ وفي ذلك المِفتاحِ، مِنَ الحِكَمِ السّامِيةِ ما يَشمَلُ عُمُومَ الكائناتِ، ويَعُمُّ جَميعَ المَخلُوقاتِ، ويُحِيطُ بالكَونِ أَجمَعَ.
ومِثالٌ آخَرُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
ففي هذه السُّورةِ يقُولُ تَعالَى: إنَّ فاطِرَ السَّماواتِ والأَرضِ ذا الجَلالِ قد زَيَّن السَّماواتِ والأَرضَ، وبَيَّن آثارَ كَمالِه على ما لا يُعَدُّ مِنَ المُشاهِدِين، وجَعَلَهم يَرفَعُون إلَيه ما لا نِهايةَ له مِنَ الحَمدِ والثَّناءِ؛ وإنَّه تَعالَى زَيَّن الأَرضَ والسَّماءَ بما لا يُحَدُّ مِنَ النِّعَمِ والآلاءِ، فتَحمَدُ السَّماواتُ والأَرضُ بلِسانِ نِعَمِها وبلِسانِ المُنعَمِين جَميعًا وتُثنِي على فاطِرِها “الرَّحمٰنِ”.. وبعدَ ذلك يقُولُ: إنَّ اللهَ سُبحانَه الَّذي مَنَح الإنسانَ والحَيَواناتِ والطُّـيُورَ مِن سُكّانِ الأَرضِ أَجهِزةً وأَجنِحةً يَتَمكَّنُون بها مِنَ الطَّيَرانِ والسِّياحةِ بينَ مُدُنِ الأَرضِ ومَمالِكِها، والَّذي مَنَح سُكّانَ النُّجُومِ وقُصُورَ السَّماواتِ -وهُمُ المَلائكةُ- كي تَسِيحَ وتَطِيرَ بينَ مَمَالِكِها العُلْوِيّةِ وأَبراجِها السَّماوِيّةِ، لا بُدَّ أن يكُونَ قادِرًا على كلِّ شيءٍ؛ فالَّذي أَعطَى الذُّبابةَ الجَناحَ لِتَطيرَ مِن ثَمَرةٍ إلى أُخرَى، والعُصفُورَ لِيَطيرَ مِن شَجَرةٍ إلى أُخرَى، هو الَّذي جَعَل المَلائكةَ أُولي أَجنِحةٍ لِتَطيرَ مِنَ الزُّهْرةِ إلى المُشتَرِي ومِنَ المُشتَرِي إلى زُحَلَ.
ثمَّ إنَّ عِبارةَ: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ تُشِيرُ إلى أنَّ المَلائكةَ لَيسُوا مُنحَصِرين بجُزئيّةٍ ولا يُقيِّدُهم مَكانٌ مُعَيَّنٌ، كما هي الحالُ في سُكّانِ الأَرضِ، بل يُمكِنُ أن يكُونُوا في آنٍ واحِدٍ في أَربَعِ نُجُومٍ أو أَكثَرَ.
فهذه الحادِثةُ الجُزئيّةُ، أي: تَجهِيزُ المَلائكةِ بالأَجنِحةِ تُشِيرُ إلى عَظَمةِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ المُطلَقةِ العامّةِ وتُؤكِّدُها بخُلاصةٍ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
[ترغيب المذنب في رحمة الله]
نُكتةُ البلاغةِ العاشرة:
قد تَذكُرُ الآيةُ ما اقتَرَفَه الإنسانُ مِن سَيِّئاتٍ، فتَزجُرُه زَجْرًا عَنِيفًا، ثمَّ تَختِمُها ببَعضٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى الَّتي تُشِيرُ إلى الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ لِئلَّا يُلقِيَه الزَّجرُ العَنيفُ في اليَأسِ والقُنُوطِ.
فمَثلًا:
﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾.
تقُولُ هذه الآيةُ: قُل لهم: لو كان في مُلكِ اللهِ شَريكٌ كما تقُولُون، لَامتَدَّت أَيدِيهم إلى عَرشِ رُبُوبيَّتِه، ولَظَهَرَت عَلائمُ المُداخَلةِ باختِلالِ النِّظامِ، ولكنَّ جَميعَ المَخلُوقاتِ مِنَ السَّماواتِ السَّبعِ الطِّباقِ إلى الأَحياءِ المِجهَرِيّةِ، جُزئيِّها وكُلِّـيِّها، صَغيرِها وكَبِيرِها، تُسَبِّحُ بلِسانِ ما يَظهَرُ علَيها مِن تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى ونُقُوشِها، وتُقَدِّسُ مُسَمَّى تلك الأَسماءِ ذا الجَلالِ والإكرامِ، وتُنزِّهُه عنِ الشَّريكِ والنَّظيرِ.
نعم، إنَّ السَّماءَ تُقَدِّسُه وتَشهَدُ على وَحدَتِه بكَلِماتِها النَّـيِّرةِ مِن شُمُوسٍ ونُجُومٍ، وبحِكمَتِها وانتِظامِها.. وإنَّ جَوَّ الهَواءِ يُسَبِّحُه ويُقَدِّسُه ويَشهَدُ على وَحدانيَّتِه بصَوتِ السَّحابِ وكَلِماتِ الرَّعدِ والبَرقِ والقَطَراتِ.. والأَرضُ تُسَبِّحُ خالِقَها الجَليلَ وتُوَحِّدُه بكَلِماتِها الحَيّةِ مِن حَيَواناتٍ ونَباتاتٍ ومَوجُوداتٍ.. وكذا تُسَبِّحُه وتَشهَدُ على وَحدانيَّتِه كلُّ شَجَرةٍ مِن أَشجارِها بكَلِماتِ أَوراقِها وأَزاهيرِها وثَمَراتِها.. وكلُّ مَخلُوقٍ صَغيرٍ ومَصنُوعٍ جُزئيٍّ معَ صِغَرِه وجُزئيَّتِه يُسبِّحُ بإشاراتِ ما يَحمِلُه مِن نُقُوشٍ وكَيفيّاتٍ وما يُظهِرُه مِن أَسماءٍ حُسنَى كَثيرةٍ، ويُقدِّسُ مُسَمَّى تلك الأَسماءِ ذا الجَلالِ ويَشهَدُ على وَحدانيَّتِه تَعالَى.
وهكذا، فالكَونُ برُمَّتِه معًا وبلِسانٍ واحِدٍ يُسَبِّحُ خالِقَه الجَليلَ مُتَّفِقًا ويَشهَدُ على وَحدانيَّتِه، مُؤَدِّيًا بكَمالِ الطّاعةِ ما أُنيطَ به مِن وَظائفِ العُبُودِيّةِ، إلّا الإنسانَ الَّذي هو خُلاصةُ الكَونِ ونَتيجَتُه وخَليفَتُه المُكَرَّمُ وثَمَرتُه اليانِعةُ، يقُومُ بخِلافِ جَميعِ ما في الكَونِ وبضِدِّه، فيَكفُرُ باللهِ ويُشرِكُ به! فكم هو قَبيحٌ صَنِيعُه هذا؟! وكم يا تُرَى يَستَحِقُّ عِقابًا على ما قَدَّمَت يَداه؟ ولكِن لئَلّا يَقَع الإنسانُ في هاوِيةِ اليَأسِ والقُنُوطِ ولِتَبيِنَ حِكْمةُ عَدَمِ هَدْمِ القَهَّارِ الجَليلِ الكَونَ على رَأسِه بما يَجتَرِحُه مِن سَيِّئاتٍ شَنِيعةٍ كهذه الجِنايةِ العُظمَى، تقُولُ الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ مُبَيِّنةً بهذه الخاتِمةِ حِكْمةَ الإمهالِ، تارِكةً بابَ الأَمَلِ مَفتُوحًا.
فافْهَمْ مِن هذه الإشاراتِ العَشْرِ الإعجازِيّةِ، أنَّ في الخُلاصاتِ والفَذْلَكاتِ الَّتي في خِتامِ الآياتِ لَمَعاتٍ إعجازِيّةً كَثيرةً فَضْلًا عَمّا يَتَرشَّحُ مِنها مِن رَشَحاتِ الهِدايةِ الغَزِيرةِ، حتَّى بَلَغ بدُهاةِ البُلَغاءِ أنَّهم لم يَتَمالَكُوا أَنفُسَهم مِنَ الحَيرةِ والإعجابِ أَمامَ هذه الأَساليبِ البَدِيعةِ فقالُوا: ما هذا كَلامُ البَشَرِ، وآمَنُوا بحَقِّ اليَقينِ بقَولِه تَعالَى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.
هذا، وإنَّ بَعضَ الآياتِ -إلى جانِبِ جَميعِ الإشاراتِ المَذكُورةِ- تَتَضمَّنُ مَزايا أُخرَى عَدِيدةً لم نَتَطرَّقْ إلَيها في بَحثِنا، فيُشاهَدُ مِن إجماعِ تلك المَزايا نَقْشٌ إعجازِيٌّ بَدِيعٌ يَراه حتَّى العُميانُ.
[النور الثالث: القرآن لا يقاس بأي كلام آخر]
النُّور الثالثُ
وهو أنَّ القُرآنَ الكَريمَ لا يُمكِنُ أن يُقاسَ بأَيِّ كَلامٍ آخَرَ، إذ إنَّ مَنابِعَ عُلُوِّ طَبَقةِ الكَلامِ وقُوَّتِه وحُسْنِه وجَمالِه أَربَعةٌ:
الأوَّلُ: المُتَكلِّمُ.
الثّاني: المُخاطَبُ.
الثّالث: المَقصَدُ.
الرّابع: المَقامُ.
وليس المَقامُ وَحدَه كما ضَلَّ فيه الأُدَباءُ. فلا بُدَّ أن تَنظُرَ في الكَلامِ إلى: مَن قالَ؟ ولِمَن قالَ؟ ولِمَ قالَ؟ وفيمَ قالَ؟ فلا تَقِفْ عِندَ الكَلامِ وَحدَه وتَنظُرْ إلَيه.
ولَمّا كان الكَلامُ يَستَمِدُّ قُوَّتَه وجَمالَه مِن هذه المَنابِعِ الأَربَعةِ، فبإِنعامِ النَّظَرِ في مَنابِعِ القُرآنِ تُدرِكُ دَرَجةَ بَلاغَتِه وحُسْنَه وسُمُوَّه وعُلُوَّه.
نعم، إنَّ الكَلامَ يَستَمِدُّ القُوّةَ مِنَ المُتَكلِّمِ، فإذا كانَ الكَلامُ أَمرًا ونَهيًا يَتَضمَّنُ إرادةَ المُتَكلِّمِ وقُدرَتَه حَسَبَ دَرَجتِه، وعِندَ ذاك يكُونُ الكَلامُ مُؤَثِّرًا نافِذًا يَسرِي سَرَيانَ الكَهرَباءِ مِن دُونِ إعاقةٍ أو مُقاوَمةٍ؛ وتَتَضاعَفُ قُوّةُ الكَلامِ وعُلُوُّه حَسَبَ تلك النِّسبةِ.
فمَثلًا: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾ و ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾.
فانظُرْ إلى قُوّةِ وعُلُوِّ هذه الأَوامِرِ الحَقيقيّةِ النّافِذةِ الَّتي تَتَضمَّنُ القُوّةَ والإرادةَ، ثمَّ انظُرْ إلى كَلامِ إنسانٍ وأَمرِه الجَماداتِ الشَّبِيهِ بهَذَيانِ المَحمُومِ: اسكُنِي يا أَرضُ وانشَقِّي يا سَماءُ وقُومي أَيَّتُها القِيامةُ!
فهل يُمكِنُ مُقايَسةُ هذا الكَلامِ معَ الأَمرَينِ النّافِذَينِ السّابقَينِ؟ ثمَّ أينَ الأَوامِرُ النّاشِئةُ مِن فُضُولِ الإنسانِ والنّابِعةُ مِن رَغَباتِه والمُتَولِّدةُ مِن أَمانيِّه.. وأينَ الأَوامِرُ الصّادِرةُ مِمَّن هو مُتَّصِفٌ بالآمِرِيّةِ الحَقّةِ يَأمُرُ وهو مُهَيمِنٌ على عَمَلِه؟! نعم، أينَ أَمرُ أَميرٍ عَظِيمٍ مُطاعٍ نافِذِ الكَلامِ يَأمُرُ جُنُودَه بـ: “تَقَدَّمْ”؟ وأينَ هذا الأَمرُ إذا صَدَر مِن جُندِيٍّ بَسِيطٍ لا يُبالَى به؟ فهَذانِ الأَمرانِ وإن كانا صُورةً واحِدةً إلّا أنَّ بَينَهما مَعنًى بَوْنًا شاسِعًا، كما بينَ القائدِ العامِّ والجُندِيِّ.
ومَثلًا: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾ و﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ﴾: انظُرْ إلى قُوّةِ الأَمرَينِ وعُلُوِّهِما في هاتَينِ الآيتَينِ، ثمَّ انظُرْ إلى كَلامِ البَشَرِ مِن قَبِيلِ الأَمرِ. ألا تكُونُ النِّسبةُ بَينَهما كضَوءِ اليَراعِ أَمامَ نُورِ الشَّمسِ السّاطِعةِ؟ نعم، أينَ تَصوِيرُ عامِلٍ يُمارِسُ عَمَلَه، وبَيانُ صانِعٍ وهو يَصنَعُ، وكَلامُ مُحسِنٍ في آنِ إحسانِه؟ كلٌّ يُصَوِّرُ أَفاعيلَه، ويُطابِقُ فِعلُه قَولَه، أي يقُولُ: انظُرُوا فقد فَعَلتُ كذا لِكذا، أَفعَلُ هذا لذاك، وهذا يكُون كذا وذاك كذا.. وهكذا يُبيِّنُ فِعلَه للعَينِ والأُذُنِ معًا.
فمَثلًا:
﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾.
أينَ هذا التَّصوِيرُ الَّذي يَتَلَألَأُ كالنَّجمِ في بُرجِ هذه السُّورةِ في سَماءِ القُرآنِ، كأنَّه ثِمارُ الجَنّةِ، وقد ذَكَر كثيرًا مِنَ الدَّلائلِ ضِمنَ هذه الأَفعالِ معَ انتِظامِ البَلاغةِ وأَثبَتَ الحَشْرَ الَّذي هو نَتيجَتُها بتَعبِيرِ: ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ لِيُلزِمَ به الَّذين يُنكِرُون الحَشْرَ في مُستَهَلِّ السُّورةِ.. فأينَ هذا وأينَ كَلامُ النّاسِ على وَجهِ الفُضُولِ عن أَفعالٍ لا تَمَسُّهم إلّا قَلِيلًا؟ فلا تكُونُ نِسبَتُه إلَيه إلّا كنِسبةِ صُورةِ الزَّهرةِ إلى الزَّهرةِ الحَقيقيّةِ الَّتي تَنبِضُ بالحَياةِ.
إنَّ بَيانَ مَعنَى هذه الآياتِ مِن قَولِه تَعالَى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا﴾ إلى ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ على وَجهٍ أَفضَلَ يَتَطلَّبُ مِنّا وَقتًا طَوِيلًا، فنَكتَفي بالإشارةِ إلَيه ونَمضِي إلى شَأْنِنا:
إنَّ القُرآنَ يَبسُطُ مُقدِّماتٍ ليُرغِمَ الكُفّارَ على قَبُولِ الحَشْرِ، لإنكارِهم إيّاه في مُستَهَلِّ السُّورةِ، فيقُولُ: أفَلا تَنظُرُون إلى السَّماءِ فَوقَكم كيف بَنَيناها بِناءً مَهِيبًا مُنتَظِمًا؟ أوَلا تَرَوْن كيف زَيَّنّاها بالنُّجُومِ وبالشَّمسِ والقَمَرِ دُونَ نَقْصٍ أو فُطُورٍ؟ أوَلا تَرَوْن كيفَ بَسَطْنا الأَرضَ وفَرَشناها لكُم بالحِكمةِ، وثَبَّتْنا فيها الجِبالَ لِتَقِيَها مِن مَدِّ البِحارِ واستِيلائِها؟ أوَلا تَرَوْن أنّا خَلَقْنا فيها أَزواجًا جَمِيلةً مُتَنوِّعةً مِن كلِّ جِنسٍ مِنَ الخُضراواتِ والنَّباتاتِ، وزَيَّنّا بها أَرجاءَ الأَرضِ كافّةً؟ أوَلا تَرَوْن كيف أُرسِلُ ماءً مُبارَكًا مِنَ السَّماءِ فأُنبِتُ به البَساتينَ والزَّرعَ والثَّمَراتِ اللَّذِيذةَ مِن تَمْرٍ ونَحوِه وأَجعَلُه رِزقًا لِعِبادِي؟ أوَلا تَرَوْن أنَّني أُحيِي الأَرضَ المَيتةَ بذَلك الماءِ؟ وآتي أُلُوفًا مِنَ الحَشرِ الدُّنيَوِيّ.. فكما أُخرِجُ بقُدرَتي هذه النَّباتاتِ مِن هذه الأَرضِ المَيتةِ، كذلك خُرُوجُكم يومَ الحَشرِ، إذ تَمُوتُ الأَرضُ في القِيامةِ وتُبعَثُون أنتُم أَحياءً. فأَينَ ما أَظهَرَتْه الآيةُ في إثباتِ الحَشرِ مِن جَزالةِ البَيانِ الَّتي ما أَشَرْنا إلّا إلى واحِدةٍ مِنَ الأَلْفِ مِنها؟ وأينَ الكَلِماتُ الَّتي يَسرُدُها النّاسُ لِدَعوَى مِنَ الدَّعاوَى؟
لَقدِ انتَهَجْنا مِن أَوَّلِ هذه الرِّسالةِ إلى هنا نَهْجَ المُحايِدِ المَوضُوعيِّ في تَحقيقِ قَضِيّةِ الإعجازِ، وقد أَبقَيْنا كَثِيرًا مِن حُقُوقِ القُرآنِ مَطوِيّةً مَخفِيّةً مَستُورةً، فكُنّا نَعقِدُ مُوازَنةً نُنزِلُ تلك الشَّمسَ مَنزِلةَ الشُّمُوعِ، وذلك كلُّه لِكَي نُخضِعَ خَصْمًا عاتِيًا لِقَبُولِ إعجازِ القُرآنِ.
والآنَ وقد وَفَّى التَّحقيقُ العِلمِيُّ مُهِمَّتَه، وأُثبِتَ إعجازُ القُرآنِ إثباتًا ساطِعًا، فنُشِيرُ ببَعضِ القَولِ باسمِ الحَقيقةِ لا باسمِ التَّحقيقِ العِلمِيِّ، إلى مَقامِ القُرآنِ، ذلك المَقامِ العَظيمِ الَّذي لا تَسَعُه مُوازَنةٌ ولا مِيزانٌ.
نعم، إنَّ نِسبةَ سائرِ الكَلامِ إلى آياتِ القُرآنِ، كنِسبةِ صُوَرِ النُّجُومِ المُتَناهِيةِ في الصِّغَرِ الَّتي تَتَراءَى في المَرايا، إلى النُّجُومِ نَفسِها.
نعم، أينَ كَلِماتُ القُرآنِ الَّتي كُلٌّ مِنها تُصَوِّرُ الحَقائقَ الثّابِتةَ وتُبيِّنُها؟ وأينَ المَعاني الَّتي يَرسُمُها البَشَرُ بكَلِماتِه على مَرايا صَغيرةٍ لِفِكرِه ومَشاعِرِه؟ أينَ الكَلِماتُ الحَيّةُ حَياةَ المَلائكةِ الأَطهارِ.. كَلِماتُ القُرآنِ الَّذي يَفِيضُ بأَنوارِ الهِدايةِ وهو كَلامُ خالِقِ الشَّمسِ والقَمَرِ؟ وأينَ كَلِماتُ البَشَرِ اللّاذِعةُ الخادِعةُ بدَقائقِها السّاحِرةِ بنَفَثاتِها الَّتي تُثِيرُ أَهواءَ النَّفسِ؟
نعم، كم هي النِّسبةُ بينَ الحَشَراتِ السّامّةِ والمَلائكةِ الأَطهارِ والرُّوحانيِّين المُنَوَّرِين؟ إنَّها هي النِّسبةُ نَفسُها بينَ كَلِماتِ البَشَرِ وكَلِماتِ القُرآنِ الكَريمِ. وقد أَثبَتَتْ هذه الحَقيقةَ معَ “الكَلِمةِ الخامِسةِ والعِشرِين” جَميعُ الكَلِماتِ الأَربَعِ والعِشرِينَ السّابِقةِ. فدَعوانا هذه لَيسَتِ ادِّعاءً، وإنَّما هي نَتيجةٌ لِبُرهانٍ سَبَقَها.
نعم، أينَ أَلفاظُ القُرآنِ الَّتي كلٌّ مِنها صَدَفُ دُرَرِ الهِدايةِ، ومَنبَعُ حَقائقِ الإيمانِ، ومَعدِنُ أُسُسِ الإسلامِ، والَّتي تَتَنزَّلُ مِن عَرشِ الرَّحمٰنِ وتَتَوجَّهُ مِن فَوقِ الكَونِ ومِن خارِجِه إلى الإنسانِ؟ فأينَ هذا الخِطابُ الأَزَليُّ المُتَضمِّنُ للعِلمِ والقُدرةِ والإرادةِ، مِن أَلفاظِ الإنسانِ الواهِيةِ المَليئةِ بالأَهواءِ؟ نعم، إنَّ القُرآنَ يُمَثِّـلُ شَجَرةَ طُوبَى طَيِّبةً نَشَرَت أَغصانَها في جَميعِ أَرجاءِ العالَمِ الإسلاميِّ، فأَوْرَقَت جَميعَ مَعنَوِيّاتِه وشَعائرِه وكَمالاتِه ودَساتيرِه وأَحكامِه، وأَبرَزَت أَولياءَه وأَصفِياءَه كزُهُورٍ نَضِرةٍ جَميلةٍ تَستَمِدُّ حُسْنَها ونَداوَتَها مِن ماءِ حَياةِ تلك الشَّجَرةِ، وأَثمَرَت جَميعَ الكَمالاتِ والحَقائقِ الكَونيّةِ والإلٰهِيّةِ حتَّى غَدَت كلُّ نَواةٍ مِن نُوَى ثِمارِها دُستُورَ عَمَلٍ ومَنهَجَ حَياةٍ.. نعم، أينَ هذه الحَقائقُ المُتَسَلسِلةُ الَّتي يُطالِعُنا بها القُرآنُ بمَثابةِ شَجَرةٍ مُثمِرةٍ وارِفةِ الظِّلالِ؟ وأينَ مِنها كَلامُ البَشَرِ المَعهُودُ؟ أينَ الثَّرَى مِنَ الثُّرَيّا؟
إنَّ القُرآنَ الحَكيمَ يَنشُرُ جَميعَ حَقائقِه في سُوقِ الكَونِ ويَعرِضُها على المَلَأِ أَجمَعينَ مُنذُ أَكثَرَ مِن أَلفٍ وثَلاثِ مِئةِ سَنةٍ، وإنَّ كلَّ فَردٍ وكلَّ أُمّةٍ وكلَّ بَلَدٍ قد أَخَذ مِن جَواهِرِه ومِن حَقائقِه، وما زالَ يَأخُذُ.. على الرَّغمِ مِن هذا فلم تُخِلَّ تلك الأُلفةُ، ولا تلك الوَفرةُ، ولا مُرُورُ الزَّمانِ، ولا التَّحَوُّلاتُ الهائلةُ، بحَقائقِه القَيِّمةِ ولا بأُسلُوبِه الجَميلِ، ولم تُشَيِّبْه ولم تَتَمكَّن مِن أن تُفقِدَهُ طَراوَتَه أو تُسقِطَ مِن قِيمَتِه أو تُطفِئَ سَنَا جَمالِه وحُسْنِه. إنَّ هذه الحالةَ وَحْدَها إعجازٌ أيُّ إعجازٍ.
والآنَ إذا ما قامَ أَحَدٌ ونَظَم قِسْمًا مِنَ الحَقائقِ الَّتي أَتَى بها القُرآنُ حَسَبَ أَهوائِه وتَصَرُّفاتِه الصِّبيانيّةِ، ثمَّ أَرادَ أن يُوازِنَ بينَ كَلامِه وكَلامِ القُرآنِ، بُغيةَ الِاعتِراضِ على بَعضِ آياتِه، وقال: “لقد قُلتُ كَلامًا شَبِيهًا بالقُرآنِ”. فلا شَكَّ أنَّ كَلامَه هذا يَحمِلُ مِنَ السُّخْفِ والحَماقةِ ما يُشبِهُ هذا المِثالَ:
إنَّ بَنّاءً شَيَّدَ قَصْرًا فَخْمًا، أَحجارُه مِن جَواهِرَ مُختَلِفةٍ، ووَضَع تلك الأَحجارَ في أَوضاعٍ وزَيَّنَها بزِينةٍ ونُقُوشٍ مَوزُونةٍ تَتَعلَّقُ بجَميعِ نُقُوشِ القَصرِ الرَّفيعةِ، ثمَّ دَخَل ذلك القَصرَ مَن يَقصُرُ فَهمُه عن تلك النُّقُوشِ البَدِيعةِ، ويَجهَلُ قِيمةَ جَواهِرِه وزِينَتِهِ. وبَدَأَ يُبَدِّلُ نُقُوشَ الأَحجارِ وأَوضاعَها، ويَجعَلُها في نِظامٍ حَسَبَ أَهوائِه حتَّى غَدا بَيْتًا اعتِيادِيًّا؛ ثمَّ جَمَّلَه بما يُعجِبُ الصِّبْيانَ مِن خَرَزٍ تافِهٍ، ثمَّ بَدَأَ يقُولُ: انظُرُوا.. إنَّ لي مِنَ المَهارةِ في فَنِّ البِناءِ ما يَفُوقُ مَهارةَ باني ذلك القَصرِ الفَخْمِ، ولي ثَروةٌ أَكثَرُ مِن بَنّاءِ القَصْرِ! فانظُرُوا إلى جَواهِرِي الثَّمِينةِ! لا شَكَّ أنَّ كَلامَه هذا هَذَيانٌ بل هَذَيانُ مَجنُونٍ ليس إلّا.
❀ ❀ ❀
[الشعلة الثالثة: القرآن والعِلم والعالَم]
الشُّعلةُ الثالثة: هذه الشُّعلة لها ثلاثةُ أضواءٍ.
[الضياء الأول: كيف ينشر القرآن نوره على الوجود]
الضِّياءُ الأوَّل
لقد وُضِّحَ في “الكَلِمةِ الثّالثةَ عَشْرةَ” وَجهٌ عَظيمٌ مِن وُجُوهِ إعجازِ القُرآنِ المُعجِزِ البَيانِ، فأُخِذ هنا وأُدرِجَ معَ سائرِ إِخوَتِه مِن وُجُوهِ الإعجازِ: إذا شِئتَ أن تُشاهِدَ وتَتَذوَّقَ كيف تَنشُرُ كلُّ آيةٍ مِنَ القُرآنِ الكَريمِ نُورَ إعجازِها وهِدايَتِها وتُبَدِّدُ ظُلُماتِ الكُفرِ كالنَّجمِ الثّاقِبِ؛ فتَصَوَّرْ نَفسَك في ذلك العَصرِ الجاهِليِّ وفي صَحراءِ تلك البَداوةِ والجَهلِ، فبَيْنا تَجِدُ كلَّ شيءٍ قد أُسدِلَ علَيه سِتارُ الغَفلةِ وغَشِيَه ظَلامُ الجَهلِ ولُفَّ بغِلافِ الجُمُودِ والطَّبِيعةِ، إذا بك تُشاهِدُ وقد دَبَّتِ الحَياةِ في تلك المَوجُوداتِ الهامِدةِ أوِ المَيتةِ في أَذهانِ السّامِعِين، فتَنهَضُ مُسَبِّحةً ذاكِرةً اللهَ بصَدَى قَولِه تَعالَى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ وما شابَهَها مِنَ الآياتِ الجَليلةِ.
ثمَّ إنَّ وَجهَ السَّماءِ المُظلِمةِ الَّتي تَستَعِرُ فيها نُجُومٌ جامِدةٌ، تَتَحوَّلُ في نَظَرِ السّامِعِين، بصَدَى قَولِه تَعالَى ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ﴾ إلى فَمٍ ذاكِرٍ للهِ، كلُّ نَجمٍ يُرسِلُ شُعاعَ الحَقيقةِ ويَبُثُّ حِكمةً حَكيمةً بَليغةً.
وكذا يَتَحوَّلُ وَجهُ الأَرضِ الَّذي يَضُمُّ المَخلُوقاتِ الضَّعيفةَ العاجِزةَ بذلك الصَّدَى السَّماوِيِّ إلى رَأسٍ عَظيمٍ، والبَرُّ والبَحرُ لِسانَينِ يَلهَجانِ بالتَّسبِيحِ والتَّقدِيسِ وجَميعُ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ كَلِماتٍ ذاكِرةً مُسَبِّحةً؛ حتَّى لَكَأنَّ الأَرضَ كلَّها تَنبِضُ بالحَياةِ.. وهكذا بانتِقالِك الشُّعُورِيِّ إلى ذلك العَصرِ تَتَذوَّقُ دَقائقَ الإعجازِ في تلك الآيةِ الكَرِيمةِ، وبخِلافِ ذلك تُحرَمُ مِن تَذَوُّقِ تلك الدَّقائقِ اللَّطيفةِ في الآيةِ الكَريمةِ.
نعم، إنَّك إذا نَظَرتَ إلى الآياتِ الكَريمةِ مِن خِلالِ وَضْعِك الحاضِرِ الَّذي استَنارَ بنُورِ القُرآنِ منذُ ذلك العَصرِ حتَّى غَدا مَعرُوفًا، وتَنَوَّرَ بسائرِ العُلُومِ الإسلاميّةِ، حتَّى أَخَذَت صُورةَ النَّهارِ بشَمسِ القُرآنِ؛ أو إذا نَظَرتَ إلى الآياتِ مِن خِلالِ سِتارِ الأُلفةِ، فإنَّك -بلا شَكٍّ- لا تَرَى رُؤيةً حَقيقيّةً مَدَى الجَمالِ المُعجِزِ في كلِّ آيةٍ، وكيف أنَّها تُبَدِّدُ الظُّلُماتِ الدّامِسةَ بنُورِها الوَهّاجِ، ومِن بعدِ ذلك لا تَتَذوَّقُ وَجهَ إعجازِ القُرآنِ المَذكُورَ مِن بينِ وُجُوهِه الكَثيرةِ.
وإذا أَرَدتَ مُشاهَدةَ أَعظَمِ دَرَجةٍ لإعجازِ القُرآنِ الكَثيرةِ، فاستَمِعْ إلى هذا المِثالِ وتَأَمَّلْ فيه: لِنَفرِضْ شَجَرةً عَجِيبةً في مُنتَهَى العُلُوِّ والغَرابةِ وفي غايةِ الِانتِشارِ والسَّعةِ، قد أُسدِلَ علَيها غِطاءُ الغَيبِ، فاستَتَرَت طَيَّ طَبَقاتِ الغَيبِ، فمِنَ المَعلُومِ أنَّ هناك تَوازُنًا وتَناسُبًا وعَلاقاتِ ارتِباطٍ بينَ أَغصانِ الشَّجَرةِ وثَمَراتِها وأَوراقِها وأَزاهِيرِها -كما هو مَوجُودٌ بينَ أَعضاءِ جِسمِ الإنسانِ- فكُلُّ جُزءٍ مِن أَجزائِها يَأخُذُ شَكْلًا مُعَيَّنًا وصُورةً مُعَيَّنةً حَسَبَ ماهِيّةِ تلك الشَّجَرةِ.
فإذا قامَ أَحَدٌ -مِن قِبَلِ تلك الشَّجَرةِ الَّتي لم تُشاهَدْ قَطُّ ولا تُشاهَدُ- ورَسَمَ على شاشةٍ صُورةً لِكُلِّ عُضْوٍ مِن أَعضاءِ تلك الشَّجَرةِ، وحَدَّ له، بأَن وَضَع خُطُوطًا تُمَثِّـلُ العَلاقاتِ بينَ أَغصانِها وثَمَراتِها وأَوراقِها، ومَلَأَ ما بينَ مَبدَئِها ومُنتَهاها -البَعِيدَينِ عن بَعضِهِما بما لا يُحَدُّ- بصُوَرٍ وخُطُوطٍ تُمثِّـلُ أَشكالَ أَعضائِها تَمامًا، وتُبْرِزُ صُوَرَها كامِلةً.. فلا يَبقَى أَدنَى شَكٍّ في أنَّ ذلك الرَّسَّامَ يُشاهِدُ تلك الشَّجَرةَ الغَيبِيّةَ بنَظَرِه المُطَّلِعِ على الغَيبِ ويُحِيطُ به عِلْمًا، ومِن بعدِ ذلك يُصَوِّرُها.
فالقُرآنُ المُبِينُ كهذا المِثالِ أيضًا، فإنَّ بَياناتِه المُعجِزةَ الَّتي تَخُصُّ حَقيقةَ المَوجُوداتِ -تلك الحَقيقةَ الَّتي تَعُودُ إلى شَجَرةِ الخَلقِ المُمتَدّةِ مِن بَدْءِ الدُّنيا إلى نِهايةِ الآخِرةِ، والمُنتَشِرةِ مِنَ الفَرْشِ إلى العَرْشِ ومِنَ الذَّرّاتِ إلى الشُّمُوسِ- قد حافَظَت تلك البَياناتُ الفُرقانيّةُ على المُوازَنةِ والتَّناسُبِ، وأَعطَتْ لكُلِّ عُضْوٍ مِنَ الأَعضاءِ ولكُلِّ ثَمَرةٍ مِنَ الثَّمَراتِ صُورةً تَلِيقُ بها، بحيثُ خَلُصَ العُلَماءُ المُحَقِّقون لَدَى إجراءِ تَحقِيقاتِهم وأَبحاثِهم إلى الِانبِهارِ والِانشِداهِ قائِلِين: “ما شاءَ اللهُ.. بارَكَ اللهُ، إنَّ الَّذي يَحُلُّ طِلَّسْمَ الكَونِ ويَكشِفُ مُعَمَّى الخَلقِ إنَّما هو أنتَ وَحْدَك أيُّها القُرآنُ الحَكِيمُ”! فلْنُمَثِّلْ -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- أَسماءَ اللهِ تَعالَى وصِفاتِه الجَلِيلةَ والأَفعالَ والشُّؤُونَ الرَّبّانيّةَ كأنَّها شَجَرةُ طُوبَى مِن نُورٍ تَمتَدُّ دائِرةُ عَظَمَتِها مِنَ الأَزَلِ إلى الأَبَدِ، وتَسَعُ حُدُودُ كِبْرِيائِها الفَضاءَ المُطلَقَ غيرَ المَحدُودِ وتُحِيطُ به، ويَمتَدُّ مَدَى إجراءاتِها مِن حُدُودِ ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ إلى ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ وإلى ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾، فنَرَى أنَّ القُرآنَ الكَريمَ يُبيِّنُ تلك الحَقيقةَ النُّورانيّةَ بجَميعِ فُرُوعِها وأَغصانِها وبجَميعِ غاياتِها وثَمَراتِها بَيانًا في مُنتَهَى التَّوافُقِ والِانسِجامِ بحيثُ لا تُعِيقُ حَقيقةٌ حَقيقةً أُخرَى، ولا يُفسِدُ حُكمُ حَقيقةٍ حُكْمًا لِأُخرَى، ولا تَستَوحِشُ حَقيقةٌ مِن غيرِها؛ وعلى هذه الصُّورةِ المُتَجانِسةِ المُتَناسِقةِ بيَّنَ القُرآنُ الكَريمُ حَقائقَ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ والصِّفاتِ الجَليلةِ والشُّؤُونِ الرَّبّانيّةِ والأَفعالِ الحَكِيمةِ بَيانًا مُعجِزًا بحيثُ جَعَل جَميعَ أَهلِ الكَشفِ والحَقيقةِ وجَميعَ أُولي المَعرِفةِ والحِكمةِ الَّذين يَجُولُون في عالَمِ المَلَكُوتِ، يُصَدِّقُونه قائلِين أمامَ جَمالِ بَيانِه المُعجِزِ والإعجابُ يَغمُرُهم: “سُبحانَ الله! ما أَصْوَبَ هذا! وما أَكثَرَ انسِجامَه وتَوافُقَه وتَطابُقَه معَ الحَقيقةِ، وما أَجمَلَه وأَليَقَه!”.
فلَو أَخَذْنا مَثلًا أَركانَ الإيمانِ السِّتّةَ الَّتي تَتَوجَّهُ إلى جَميعِ دائرةِ المَوجُوداتِ المُختَلِفةِ ودائرةِ الوُجُوبِ الإلٰهِيِّ، والَّتي تُعَدُّ غُصْنًا مِن تِلكُما الشَّجَرتَينِ العَظِيمَتَينِ، يُصَوِّرُها القُرآنُ الكَريمُ بجَميعِ فُرُوعِها وأَغصانِها وثَمَراتِها وأَزاهِيرِها، مُراعِيًا في تَصوِيرِه انسِجامًا بَدِيعًا بينَ ثَمَراتِها وأَزاهِيرِها، مُعَرِّفًا طَرْزَ التَّناسُبِ في مُنتَهَى التَّوازُنِ والِاتِّساقِ، بحيثُ يَجعَلُ عَقلَ الإنسانِ عاجِزًا عن إدراكِ أَبعادِه، ومَبهُوتًا أمامَ حُسْنِ جَمالِه.
ثمَّ إنَّ الإسلامَ الَّذي هو فَرعٌ مِن غُصنِ الإيمانِ أَبدَعَ القُرآنُ الكَرِيمُ وأَتَى بالرّائِعِ المُعجِبِ في تَصوِيرِ أَدَقِّ فُرُوعِ أَركانِه الخَمسةِ، وحافَظَ على جَمالِ التَّناسُبِ وكَمالِ التَّوازُنِ فيما بَينَها، بل حافَظَ على أَبسَطِ آدابِها ومُنتَهَى غاياتِها وأَعمَقِ حِكَمِها وأَصغَرِ فَوائدِها وثَمَراتِها؛ وأَبهَرُ دَليلٍ على ذلك هو كَمالُ انتِظامِ الشَّريعةِ العُظمَى النّابعةِ مِن نُصُوصِ ذلك القُرآنِ الجامِعِ ومِن إشاراتِه ورُمُوزِه.. فكَمالُ انتِظامِ هذه الشَّريعةِ الغَرّاءِ وجَمالُ تَوازُنِها الدَّقيقِ وحُسْنُ تَناسُبِ أَحكامِها ورَصانَتُها، كلٌّ مِنها شاهِدُ عَدْلٍ لا يُجرَحُ، وبُرهانٌ قاطِعٌ باهِرٌ لا يَدنُو مِنه الرَّيبُ أَبدًا على أَحَقِّيّةِ القُرآنِ الكَريمِ؛ بمَعنَى أنَّ البَياناتِ القُرآنيّةَ لا يُمكِنُ أن تَستَنِدَ إلى عِلْمٍ جُزْئيٍّ لِبَشَرٍ، ولا سِيَّما إنسانٍ أُمِّيٍّ، بل لا بُدَّ أن تَستَنِدَ إلى عِلمٍ واسِعٍ مُحِيطٍ بكُلِّ شيءٍ بَصيرٍ بجَميعِ الأَشياءِ مَعًا..
فهو كَلامُ ذاتِ اللهِ الجَليلِ البَصِيرِ بالأَزَلِ والأَبَدِ مَعًا، والشّاهِدِ على جَميعِ الحَقائقِ في آنٍ واحِدٍ.. آمَنَّا.
[الضياء الثاني: خفوت الفلسفة إزاء حكمة القرآن]
الضِّياءُ الثَّاني
إنَّ فَلسَفةَ البَشَرِ الَّتي تُحاوِلُ أن تَتَصدَّى لِحِكمةِ القُرآنِ الكَريمِ وتَسعَى لِمُعارَضَتِها، قد سَقَطَتْ وهَوَت أمامَ حِكمةِ القُرآنِ السّامِيةِ، كما أَوضَحْنا ذلك في “الكَلِمةِ الثّانيةَ عَشْرةَ” في أُسلُوبِ حِكايةٍ تَمثيليّةٍ، وأَثبَتْناه إثباتًا قاطِعًا في كَلِماتٍ أُخرَى.
لِذا نُحِيلُ إلى تلك الرَّسائلِ، إلّا أنَّنا سنَعقِدُ هنا مُوازَنةً جُزئيّةً بَسِيطةً بَينَهما مِن جانبٍ آخَرَ وهو جانِبُ نَظْرَتِهما إلى الدُّنيا، كالآتي:
إنَّ فَلسَفةَ البَشَرِ وحِكمَتَه تَنظُرُ إلى الدُّنيا على أنَّها ثابِتةٌ دائِمةٌ، فتَذكُرُ ماهِيّةَ المَوجُوداتِ وخَواصَّها ذِكْرًا مُفَصَّلًا مُسهَبًا، بَينَما لو ذَكَرَتْ وَظائفَ تلك المَوجُوداتِ الدّالّةَ على صانِعِها فإنَّها تَذكُرُها ذِكْرًا مُجمَلًا مُقتَضَبًا. أي إنَّها تُفَصِّلُ في ذِكرِ نُقُوشِ كِتابِ الكَونِ وحُرُوفِه، في حِينِ لا تُعيرُ مَعناه ومَغزاه اهتِمامًا كَبِيرًا.
أمّا القُرآنُ الكَريمُ فإنَّه يَنظُرُ إلى الدُّنيا على أنَّها: عابِرةٌ سَيّالةٌ، خَدّاعةٌ سَيّارةٌ، مُتَقلِّبةٌ لا قَرارَ لها ولا ثَباتَ، لِذا يَذكُرُ خَواصَّ المَوجُوداتِ وماهِيّاتِها المادِّيّةَ الظّاهِرةَ ذِكْرًا مُجمَلًا مُقتَضَبًا، بَينَما يُفَصِّلُ تَفصِيلًا كامِلًا لَدَى بَيانِه وَظائِفَها الَّتي تَنُمُّ عن عُبُودِيَّتِها الَّتي أَناطَها بها الصّانِعُ الجَليلُ، ولَدَى بَيانِه مَدَى انقِيادِ المَوجُوداتِ للأَوامِرِ التَّكوِينيّةِ الإلٰهِيّةِ، وكيف وبأَيِّ وَجهٍ مِن وُجُوهِها تَدُلُّ على أَسماءِ صانِعِها الحُسنَى؟ ففي بَحثِنا هذا، سنُلقِي نَظرةً عَجْلَى على الفَرْقِ بينَ نَظرةِ الفَلسَفةِ ونَظرةِ القُرآنِ إلى الدُّنيا والمَوجُوداتِ مِن حيثُ هذا الإجمالُ والتَّفصِيلُ، لِنَرَى أينَ يَقِفُ الحَقُّ الأَبلَجُ والحَقيقةُ السّاطِعةُ.
إنَّ ساعَتَنا اليَدَويّةَ الَّتي يَبدُو علَيها الِاستِقرارُ والثَّباتُ تنطَوِي على تَغَيُّراتٍ وتَبَدُّلاتٍ واهتِزازاتٍ عَدِيدةٍ، سَواءٌ في حَرَكاتِ التُّرُوسِ الدّائمةِ أو في اهتِزازاتِ المُسَنَّناتِ والآلاتِ الدَّقيقةِ؛ فكما أنَّ السّاعةَ هكذا، فالدُّنيا كذلك كأنَّها ساعةٌ عَظِيمةٌ أَبدَعَتْها القُدرةُ الإلٰهِيّةُ، فعلى الرَّغمِ مِن أنَّها تَبدُو ثابِتةً مُستَقِرّةً، فهي تَتَقلَّبُ وتَتَدحْرَجُ في تَغَيُّرٍ واضطِرابٍ دائمَينِ، ضِمنَ تَيّارِ الزَّوالِ والفَناءِ؛ إذ لَمّا حَلَّ “الزَّمانُ” في الدُّنيا، أَصبَحَ “اللَّيلُ والنَّهارُ” كعَقْرَبِ الثَّواني ذِي الرَّأسِ المُزدَوَجِ لتلك السّاعةِ العُظمَى، تَتَبدَّلُ بسُرعةٍ.. وصارَتِ “السَّنةُ” كأنَّها عَقرَبُ الدَّقائقِ لتلك السّاعةِ.. وغَدا “العَصرُ” كأنَّه عَقرَبُ السّاعاتِ لها.. وهكذا أَلقَى “الزَّمانُ” الدُّنيا على ظَهرِ أَمواجِ الزَّوالِ والفَناءِ، مُستَبْقِيًا الحاضِرَ وَحدَه للوُجُودِ مُسَلِّمًا الماضِيَ والمُستَقبَلَ إلى العَدَمِ.
فالدُّنيا -عَلاوةً على هذه الصُّورةِ الَّتي يَمنَحُها الزَّمانُ- هي كالسّاعةِ أيضًا مُتَغيِّرةٌ وغيرُ ثابِتةٍ، مِن حيثُ “المَكانُ”؛ إذ إنَّ “الجَوَّ” -كمَكانٍ- في تَبَدُّلٍ سَرِيعٍ، وفي تَغَيُّرٍ دائِمٍ، وفي تَحَوُّلٍ مُستَمِرٍّ، حتَّى إنَّه قد يَحدُثُ في اليَومِ الواحِدِ مَرّاتٍ عِدّةً امتلاءُ الغُيُومِ بالأَمطارِ ثمَّ انقِشاعُها عن صَحْوٍ باسِمٍ. أي: كأنَّ الجَوَّ بسُرعةِ تَغَيُّرِه وتَحَوُّلِه يُمَثِّـلُ عَقْرَبَ الثَّواني لتلك السّاعةِ العُظمَى.
و”الأَرضُ” الَّتي هي رَكِيزةُ دارِ الدُّنيا، فإنَّ “وَجْهَها” كمَكانٍ في تَبَدُّلٍ مُستَمِرٍّ، مِن حيثُ المَوتُ والحَياةُ، ومِن حيثُ ما علَيه مِن نَباتٍ وحَيَوانٍ، لِذا فهو كعَقْرَبِ الدَّقائقِ تُبيِّنُ لنا أنَّ هذه الجِهةَ مِنَ الدُّنيا عابِرةٌ سائِرةٌ زائِلةٌ؛ وكما أنَّ الأَرضَ مِن حيثُ وَجْهُها في تَبَدُّلٍ وتَغَيُّرٍ، فإنَّ ما في “باطِنِها” مِن تَغَيُّراتٍ وزَلازِلَ وانقِلاباتٍ تَنتَهي إلى بُرُوزِ الجِبالِ وخَسْفِ الأَرضِ، جَعَلَها كعَقْرَبِ السّاعاتِ الَّتي تَسِيرُ ببُطْءٍ نَوعًا مّا، إلّا أنَّها تُبيِّنُ لنا أنَّ هذه الجِهةَ مِنَ الدُّنيا أيضًا تَمضِي إلى زَوالٍ. أمّا “السَّماءُ” الَّتي هي سَقْفُ دارِ الدُّنيا، فإنَّ التَّغَيُّراتِ الحاصِلةَ فيها -كمَكانٍ- سَواءٌ بحَرَكاتِ الأَجرامِ السَّماوِيّةِ، أو بظُهُورِ المُذَنَّباتِ وحُدُوثِ الكُسُوفِ والخُسُوفِ، وسُقُوطِ النُّجُومِ والشُّهُبِ وأَمثالِها مِنَ التَّغَيُّراتِ تُبيِّنُ أنَّ السَّماءَ لَيسَت ثابِتةً ولا مُستَقِرّةً، بل تَسِيرُ نحوَ الهَرَمِ والدَّمارِ؛ فتَغَيُّراتُها كعَقرَبِ السّاعةِ العادَّةِ للأَسابِيعِ، الدّالّةِ على مُضِيِّها نحوَ الخَرابِ والزَّوالِ رَغمَ سَيرِها البَطِيءِ.
وهكذا، فالدُّنيا -مِن حَيثُ إنَّها دُنيا (أي: باعتِبارِ نَفسِها)- قد شُيِّدَت على هذه الأَركانِ السَّبعةِ، هذه الأَركانُ تَهُدُّها في كلِّ وَقتٍ وتُزَلزِلُها كلَّ حِينٍ، إلّا أنَّ هذه الدُّنيا المُتَزلزِلةَ المُتَغيِّرةَ المُتَبدِّلةَ باستِمرارٍ عِندَما تَتَوجَّهُ إلى صانِعِها الجَليلِ، فإنَّ تلك التَّغيُّراتِ والحَرَكاتِ تَغدُو حَرَكاتِ قَلَمِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ لَدَى كِتابَتِها رَسائِلَ صَمَدانيّةً على صَفْحةِ الوُجُودِ، وتُصبِحُ تَبَدُّلاتُ الأَحوالِ مَرايا مُتَجدِّدةً تَعكِسُ أَنوار تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى، وتُبيِّنُ شُؤُونَها الحَكِيمةَ وتَصِفُها بأَوصافٍ مُتَنوِّعةٍ مُختَلِفةٍ لائِقةٍ بها.
وهكذا، فالدُّنيا -مِن حيثُ إنَّها دُنيا- مُتَوجِّهةٌ نحوَ الفَناءِ والزَّوالِ، وساعيةٌ سَعْيًا حَثِيثًا نحوَ المَوتِ والخَرابِ، ومُتَزلزِلةٌ مُتَبدِّلةٌ باستِمرارٍ؛ فهي عابِرةٌ راحِلةٌ كالماءِ الجارِي في حَقيقةِ أَمرِها، إلّا أنَّ الغَفلةَ عنِ اللهِ أَظهَرَت ذلك الماءَ جامِدًا ثابِتًا، وبمَفهُومِ “الطَّبِيعةِ” المادِّيِّ تُعَكِّرُ صَفْوَه وتُلَوِّثُ نَقاءَه، حتَّى غَدَتِ الدُّنيا سِتارًا كَثِيفًا يَحْجُبُ الآخِرةَ.
فالفَلسَفةُ السَّقِيمةُ بتَدقِيقاتِها الفَلسَفيّةِ وتَحَرِّياتِها، وبمَفهُومِ الطَّبِيعةِ المادِّيِّ، وبمُغرِياتِ المَدَنيّةِ السَّفِيهةِ الفاتِنةِ، وهَوْساتِها وعَرْبَدَتِها.. كَثَّفَت تلك الدُّنيا وزادَتْها صَلابةً وتَجَمُّدًا، وعَمَّقَتِ الغَفلةَ في الإنسانِ، وضاعَفَت مِن لَوْثاتِها وشَوائِبِها حتَّى أَنْسَتْه الصّانِعَ الجَليلَ والآخِرةَ البَهِيجةَ.
أمّا القُرآنُ الكَرِيمُ فإنَّه يَهُزُّ هذه الدُّنيا -وتلك حَقِيقَتُها- هَزًّا عَنِيفًا -مِن حيثُ إنَّها دُنيا- حتَّى يَجعَلَها كالعِهْنِ المَنفُوشِ، وذلك في قَولِه تَعالَى: ﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ﴾ وإِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ و﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾ وأَمثالِها مِنَ الآياتِ الجَليلةِ. ثمَّ إنَّه يَمنَحُ الدُّنيا شَفافيّةً وصَفاءً رائِقًا مُزِيلًا عنها الشَّوائبَ والأَكدارَ، وذلك ببَياناتِها الرّائعةِ في قَولِه تَعالَى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا﴾ ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا﴾ وأَمثالِها مِنَ الآياتِ الحَكِيمةِ.
ثمَّ إنَّه يُذِيبُ تلك الدُّنيا الجامِدةَ بنَظَرِ الغَفلةِ عنِ اللهِ بعِباراتِه النُّورانيّةِ اللّامِعةِ في قَولِه تَعالَى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ وأَمثالِها مِنَ الآياتِ العَظِيمةِ.
ثمَّ إنَّه يُزِيلُ تَوَهُّمَ الأَبَديّةِ والخُلُودِ في الدُّنيا بعِباراتِه الَّتي تَنُمُّ عن زَوالِ الدُّنيا ومَوتِها في قَولِه تَعالَى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ وأَمثالِها مِنَ الآياتِ الكَرِيمةِ.
ثمَّ إنَّه يُبَدِّدُ الغَفلةَ المُوَلِّدةَ لِمَفهُومِ “الطَّبِيعةِ” المادِّيِّ، ويُشَتِّـتُها بنِداءاتِه المُدَوِّيةِ كالصّاعِقةِ في قَولِه تَعالَى:
﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.﴾.
وأَمثالِها مِنَ الآياتِ النَّـيِّرةِ.
وهكذا، فإنَّ القُرآنَ الكَرِيم