الكلمة الثلاثون: رسالة “أنا” و”الذَّرّة”
[تتحدث هذه الكلمة عن موضوعَين: «الأنا الإنسانية» باعتبار أن معرفتَها مفتاح لمعرفة الأسماء الإلهية وفهم لغز الوجود؛ و«الذرة» باعتبار أن تحولاتها حركاتُ قلم القدرة الإلهية في كتابة آيات الله التكوينية في العالم]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
الكلمة الثلاثون
الكَلِمةُ التي كَشفَتْ عن لُغْزِ الكَونِ وطِلَّسْمِه
وحَلَّتْ سِرًّا عَظِيمًا مِن أَسرارِ القُرآنِ الحَكِيمِ
الكلمة الثلاثون
حرفٌ مِن كتابِ “أنا” الكبيرِ..
نُقطةٌ من بحرِ “الذَّرَّة” العظيمِ
هذه الكَلِمةُ عبارةٌ عن مَقصَدَين:
المَقصَدُ الأوَّلُ: يَبحَثُ في ماهِيّةِ “أنا” ونَتائِجِها.
المَقصَدُ الثّاني: يَبحَثُ في حَرَكةِ “الذَّرّةِ” ووَظائِفِها.
[المقصد الأول: مبحث “الأنا”]
المَقصَدُ الأوَّلُ
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾
مِنَ الخَزِينةِ العُظمَى لِهذه الآيةِ الجَلِيلةِ، سنُشِيرُ إلى جَوْهَرةٍ واحِدةٍ مِن جَواهِرِها، وهي: أنَّ الأَمانةَ الَّتي أَبَتِ السَّماواتُ والأَرضُ والجِبالُ أن يَحمِلْنَها، لَها مَعانٍ عِدّةٌ، ولها وُجُوهٌ كَثِيرةٌ؛ فمَعنًى مِن تلك المَعاني، ووَجهٌ مِن تلك الوُجُوهِ، هو: “أنا“.
نعم، إنَّ “أنا” بِذْرةٌ، نَشَأَت مِنها شَجَرةُ طُوبَى نُورانيّةٌ عَظِيمةٌ، وشَجَرةُ زَقُّومٍ رَهِيبةٌ، تَمُدَّانِ أَغصانَهما وتَنشُرانِ فُرُوعَهما في أَرجاءِ عالَمِ الإنسانِ مِن لَدُنْ آدَمَ عَليهِ السَّلام إلى الوَقتِ الحاضِرِ.
وقبلَ أن نَخُوضَ في هذه الحَقِيقةِ الواسِعة، نُبيِّنُ بينَ يَدَيها “مُقدِّمةً” تُيَسِّرُ فَهْمَها.
[مقدمة: “أنا” مفتاح كنوز الأسماء الإلهية]
المُقدِّمة
إنَّ “أنا” مِفتاحٌ يَفتَحُ الكُنُوزَ المَخْفِيّةَ للأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى، كما يَفتَحُ مَغاليقَ الكَونِ؛ فهو بِحَدِّ ذاتِه طِلَّسْمٌ عَجِيبٌ، ومُعَمًّى غَرِيبٌ؛ ولكن بمَعرِفةِ ماهِيّةِ “أنا” يَنْحَلُّ ذلك الطِّلَّسْمُ العَجِيبُ ويَنكَشِفُ ذلك المُعَمَّى الغَرِيبُ، ويَنفَتِحُ بدَورِه لُغزُ الكَونِ، وكُنُوزُ عالَمِ الوُجُوبِ.
وقد ذَكَرْنا ما يَخُصُّ هذه المَسأَلةَ في رِسالةِ “شَمّةٌ مِن نَسِيمِ هِدايةِ القُرآنِ” كالآتي:
«اِعلَمْ أنَّ مِفتاحَ العالَمِ بِيَدِ الإنسانِ، وفي نَفسِه، فالكائِناتُ معَ أنَّها مُفَتَّحةُ الأَبوابِ ظاهِرًا، إلّا أنَّها مُنغَلِقةٌ حَقِيقةً؛ فالحَقُّ سُبحانَه وتَعالَى أَوْدَع مِن جِهةِ الأَمانةِ في الإنسانِ مِفتاحًا يَفتَحُ كلَّ أَبوابِ العالَمِ، وطِلَّسْمًا يَفتَحُ به الكُنُوزَ المَخفِيّةَ لِخَلّاقِ الكَونِ، والمِفتاحُ هو: ما فيك مِن “أنا”. إلّا أنَّ “أنا” أَيضًا مُعَمًّى مُغلَقٌ وطِلَّسْمٌ مُنغَلِقٌ، فإذا فَتَحْتَ “أنا” بمَعرِفةِ ماهِيَّتِه المَوهُومةِ وسِرِّ خِلْقَتِه، انفَتَح لك طِلَّسْمُ الكائِناتِ كالآتي:
إنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُه وَضَعَ بِيَدِ الإنسانِ أَمانةً هي: “أنا” الَّذي يَنطَوِي على إشاراتٍ ونَماذِجَ يُستَدَلُّ بها على أَوصافِ رُبُوبيَّتِه وحَقائقِ شُؤُونِه المُقَدَّسةِ. أي: يكُونُ “أنا” وَحْدةً قِياسِيّةً تُعرَفُ بها أَوصافُ الرُّبُوبيّةِ وشُؤُونُ الأُلُوهِيّةِ.
ومِنَ المَعلُومِ أنَّه لا يَلزَمُ أن يكُونَ للوَحْدةِ القِياسِيّةِ وُجُودٌ حَقِيقيٌّ، بل يُمكِنُ أن تُرَكَّبَ وَحْدةٌ قِياسِيّةٌ بالفَرْضِ والخَيالِ، كالخُطُوطِ الِافتِراضِيّةِ في عِلمِ الهَندَسةِ. أي: لا يَلزَمُ لـ”أنا” أن يكُونَ له وُجُودٌ حَقِيقيٌّ بالعِلمِ والتَّحقِيق».
[لماذا ارتبطت معرفة صفات الله بأنانية الإنسان؟]
سُؤالٌ: لِمَ ارْتَبَطَتْ مَعرِفةُ صِفاتِ اللهِ جَلَّ جَلالُه وأَسمائِه الحُسنَى “بأَنانيّةِ” الإنسانِ؟
الجَوابُ: إنَّ الشَّيءَ المُطلَقَ والمُحِيطَ، لا يكُونُ له حُدُودٌ ولا نِهايةٌ؛ فلا يُعطَى له شَكْلٌ ولا يُحْكَمُ علَيه بحُكْمٍ، وذلك لِعَدَمِ وُجُودِ وَجْهِ تَعَيُّنٍ وصُورةٍ له، لِذا لا تُفهَمُ حَقِيقةُ ماهِيَّتِه.
فمَثلًا: الضِّياءُ الدّائِمُ الَّذي لا يَتَخلَّلُه ظَلامٌ لا يُشعَرُ به ولا يُعرَفُ وُجُودُه إلّا إذا حُدِّدَ بظُلمةٍ حَقِيقيّةٍ أو مَوهُومةٍ.
وهكذا، فإنَّ صِفاتِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، كالعِلْمِ والقُدرةِ، وأَسماءَه الحُسنَى، كالحَكِيمِ والرَّحِيمِ، لأنَّها مُطلَقةٌ لا حُدُودَ لها ومُحِيطةٌ بكُلِّ شَيءٍ، لا شَرِيكَ لها ولا نِدَّ، لا يُمكِنُ الإحاطةُ بها أو تَقيِيدُها بشَيءٍ، فلا تُعرَفُ ماهِيَّتُها، ولا يُشعَرُ بها؛ لذا لا بُدَّ مِن وَضْعِ حَدٍّ فَرَضِيٍّ وخَياليٍّ لتلك الصِّفاتِ والأَسماءِ المُطلَقةِ، لِيَكُونَ وَسِيلةً لِفَهْمِها، حيثُ لا حُدُودَ ولا نِهايةَ حَقِيقيّةً لها؛ وهذا ما تَفعَلُه “الأَنانيّةُ”، أي ما يقُومُ به “أنا”؛ إذ يَتَصَوَّرُ في نَفسِه رُبُوبيّةً مَوهُومةً، ومالِكِيّةً مُفتَرَضةً، وقُدرةً وعِلْمًا، فيَحُدُّ حُدُودًا مُعَيَّنةً، ويَضَعُ بها حَدًّا مَوهُومًا لِصِفاتٍ مُحِيطةٍ وأَسماءٍ مُطلَقةٍ، فيقُولُ مَثلًا: مِن هُنا إلى هُناك لي، ومِن بَعدِه يَعُودُ إلى تلك الصِّفاتِ. أي: يَضَعُ نَوْعًا مِن تَقسِيمِ الأُمُورِ، ويَستَعِدُّ بهذا إلى فَهْمِ ماهِيّةِ تلك الصِّفاتِ غيرِ المَحدُودةِ شَيْئًا فشَيْئًا، وذلك بما لَدَيه مِن مَوازِينَ صَغِيرةٍ ومَقايِيسَ بَسِيطةٍ.
فمَثلًا: يَفهَمُ برُبُوبيَّتِه المَوهُومةِ الَّتي يَتَصَوَّرُها في دائِرةِ مُلكِه، رُبُوبيّةَ خالِقِه المُطلَقةَ سُبحانَه وتَعالَى في دائِرةِ المُمكِناتِ؛ ويُدرِكُ بمالِكِيَّتِه الظّاهِرِيّةِ مالِكِيّةَ خالِقِه الحَقِيقيّةَ، فيقُولُ: كما أنَّني مالِكٌ لِهذا البَيتِ، فالخالِقُ سُبحانَه كذلك مالِكٌ لهذا الكَونِ؛ ويَعلَمُ بعِلمِه الجُزئيِّ عِلمَ اللهِ المُطلَقَ؛ ويَعرِفُ بمَهارَتِه المُكتَسَبةِ الجُزئيّةِ بَدائِعَ الصّانِعِ الجَلِيلِ، فيقُولُ مَثلًا: كما أنَّني شَيَّدتُ هذه الدّارَ ونَظَّمتُها، كذلك لا بُدَّ مِن مُنشِئٍ لِدارِ الدُّنيا ومُنَظِّمٍ لها.
وهكذا.. فقدِ اندَرَجَتْ في “أنا” آلافُ الأَحوالِ والصِّفاتِ والمَشاعِرِ المُنطَوِيةِ على آلافِ الأَسرارِ المُغلَقةِ الَّتي تَستَطِيعُ أن تَدُلَّ وتُبَيِّنَ -إلى حَدٍّ مّا- الصِّفاتِ والشُؤُونَ الإلٰهِيّةَ كُلَّها.
أي إنَّ “أنا” لا يَحمِلُ في ذاتِه مَعنًى، بل يَدُلُّ على مَعنًى في غيرِه؛ كالمِرآةِ العاكِسةِ، والوَحْدةِ القِياسِيّةِ، وآلةِ الِانكِشافِ، والمَعنَى الحَرفِيِّ، فهو شَعرةٌ حَسَّاسةٌ مِن حَبْلِ وُجُودِ الإنسانِ الجَسِيمِ، وهو خَيطٌ رَفيعٌ مِن نَسِيجِ ثَوبِ ماهِيّةِ البَشَرِ، وهو حَرْفُ “أَلِفٍ” في كِتابِ شَخصِيّةِ بَني آدَمَ، بحَيثُ إنَّ ذلك الحَرْفَ له وَجْهانِ:
وَجْهٌ مُتَوجِّهٌ إلى الخَيرِ والوُجُودِ؛ فهو في هذا الوَجْهِ يَتَلقَّى الفَيْضَ ويَقبَلُه فحَسْبُ، أي: يَقبَلُ الإفاضةَ علَيه فقط؛ إذ هو عاجِزٌ عن إيجادِ شَيءٍ في هذا الوَجْهِ، أي: ليس فاعِلًا فيه، لأنَّ يَدَه قَصِيرةٌ لا تَملِكُ قُدرةَ الإيجادِ.
والوَجْهُ الآخَرُ مُتَوجِّهٌ إلى الشَّرِّ، ويُفضِي إلى العَدَمِ؛ فهو في هذا الوَجْهِ فاعِلٌ، وصاحِبُ فِعلٍ.
ثمَّ إنَّ ماهِيّةَ “أنا” حَرفيّةٌ، أي: يَدُلُّ على مَعنًى في غَيرِه، فرُبُوبيَّتُه خَياليّةٌ، ووُجُودُه ضَعِيفٌ وهَزِيلٌ إلى حَدٍّ لا يُطِيقُ أن يَحمِلَ بذاتِه أيَّ شَيءٍ كان، ولا يُطِيقُ أن يُحمَلَ علَيه شَيءٌ، بل هو مِيزانٌ ليس إلّا؛ يُبَيِّنُ صِفاتِ اللهِ تَعالَى الَّتي هي مُطلَقةٌ ومُحِيطةٌ بكُلِّ شَيءٍ، بمِثلِ ما يُبَيِّنُ مِيزانُ الحَرارةِ ومِيزانُ الهَواءِ والمَوازِينُ الأُخرَى مَقادِيرَ الأَشياءِ ودَرَجاتِها.
[الناس في معرفة “أنا” صنفان]
فالَّذي يَعرِفُ ماهِيّةَ “أنا” على هذا الوَجْهِ، ويُذعِنُ له، ثمَّ يَعمَلُ وَفْقَ ذلك وبمُقتَضاه، يَدخُلُ ضِمنَ بِشارةِ قَولِه تَعالَى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾، ويكُونُ قد أَدَّى الأَمانةَ حَقَّها، فيُدرِكُ بمِنظارِ “أنا” حَقِيقةَ الكائِناتِ والوَظائِفَ الَّتي تُؤَدِّيها؛ وعِندَما تَرِدُ المَعلُوماتُ مِنَ الآفاقِ الخارِجِيّةِ إلى النَّفسِ تَجِدُ في “أنا” ما يُصَدِّقُها، فتَستَقِرُّ تلك المَعلُوماتُ عُلُومًا نُورانيّةً وحِكْمةً صائِبةً في النَّفْسِ، ولا تَنقَلِبُ إلى ظُلُماتِ العَبَثِيّةِ.
وحِينَما يُؤَدِّي “أنا” وَظِيفَتَه على هذه الصُّورةِ، يَتْرُكُ رُبُوبيَّتَه المَوهُومةَ ومالِكِيَّتَه المُفتَرَضةَ الَّتي هي وَحْدةُ قِياسٍ ليس إلّا، ويُفَوِّضُ المُلكَ للهِ وَحْدَه قائلًا: “له المُلْكُ، وله الحَمْدُ، وله الحُكْمُ وإلَيه تُرجَعُون”، فيَلْبَسُ لِباسَ عُبُودِيَّتِه الحَقّةِ، ويَرتَقِي إلى مَقامِ “أَحسَنِ تَقوِيمٍ”.
ولكن إذا نَسِيَ “أنا” حِكْمةَ خَلْقِه، ونَظَرَ إلى نَفسِه بالمَعنَى الِاسمِيِّ، تارِكًا وَظِيفتَه الفِطْرِيّةَ، مُعتَقِدًا بنَفسِه أنَّه المالِكُ، فقد خانَ الأَمانةَ، ودَخَل ضِمنَ النَّذِيرِ الإلٰهِيِّ: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾.
وهكذا، فإنَّ إشفاقَ السَّماواتِ والأَرضِ والجِبالِ مِن حَمْلِ الأَمانةِ، ورَهْبَتَهنَّ مِن شِرْكٍ مَوْهُومٍ مُفتَرَضٍ، إنَّما هو مِن هذا الوَجْهِ مِنَ “الأَنانيّةِ” الَّتي تُولِّدُ جَمِيعَ أَنواعِ الشِّركِ والشُّرُورِ والضَّلالاتِ.
أَجَل، إنَّ “أنا” معَ أنَّه أَلِفٌ رَقيقٌ، خَيطٌ دَقيقٌ، خَطٌّ مُفتَرَضٌ، إلّا أنَّه إذا لم تُعرَفْ ماهِيَّتُه يَنمُو في الخَفاءِ، كنُمُوِّ البِذْرةِ تحتَ التُّرابِ، ويَكبُرُ شَيْئًا فشَيْئًا، حتَّى يَنتَشِرَ في جَمِيعِ أَنحاءِ وُجُودِ الإنسانِ، فيَبتَلِعَه ابتِلاعَ الثُّعبانِ الضَّخْمِ، فيكُونَ ذلك الإنسانُ بكامِلِه وبجَمِيعِ لَطائِفِه ومَشاعِرِه عِبارةً عن “أنا”؛ ثمَّ تُمِدُّه “أَنانيّةُ” النَّوعِ نافِخةً فيه رُوحَ العَصَبِيّةِ النَّوعِيّةِ والقَوْمِيّةِ، فيَستَغلِظُ بالِاستِنادِ على هذه “الأَنانيّةِ” حتَّى يَصِيرَ كالشَّيطانِ الرَّجِيمِ يَتَحدَّى أَوامِرَ اللهِ ويُعارِضُها؛ ثمَّ يَبدَأُ بقِياسِ كلِّ النّاسِ، بل كلِّ الأَشياءِ على نَفسِه، فيُقَسِّمُ مُلكَ اللهِ سُبحانَه على تلك الأَشياءِ وعلى الأَسبابِ، فيَتَردَّى في شِرْكٍ عَظِيمٍ، يَتَبيَّنُ فيه مَعنَى الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، إذ كما أنَّ الَّذي يَسرِقُ أَربَعِين دِينارًا مِن أَموالِ الدَّولةِ لا بُدَّ أن يُرضِيَ أَصدِقاءَه الحاضِرِين معَه بِأَخْذِ كلٍّ مِنهم دِرهَمًا مِنه كي تُسَوَّغَ له السَّرِقةُ، كذلك الَّذي يقُولُ: إنَّني مالِكٌ لِنَفسِي. لا بُدَّ أن يقُولَ ويَعتَقِدَ أنَّ كل شَيءٍ مالِكٌ لِنَفسِه!
وهكذا، فـ”أنا” في وَضْعِه هذا، المُتَلَبِّسِ بالخِيانةِ للأَمانةِ، إنَّما هو في جَهْلٍ مُطبِقٍ بل هو أَجهَلُ الجُهَلاءِ، يَتَخَبَّطُ في دَرَكِ جَهالةٍ مُرَكَّبةٍ حتَّى لو عَلِمَ آلافَ العُلُومِ والفُنُونِ، ذلك لأنَّ ما تَتَلقَّفُه حَواسُّه وأَفكارُه مِن أَنوارِ المَعرِفةِ المَبثُوثةِ في رِحابِ الكَوْنِ، لا يَجِدُ في نَفسِه مادّةً تُصَدِّقُه وتُنَوِّرُه وتُدِيمُه، لِذا تَنطَفِئُ كلُّ تلك المَعارِفِ، وتَغدُو ظَلامًا دامِسًا؛ إذ يَنصَبغُ كلُّ ما يَرِدُ إلَيه بصِبغةِ نَفسِه المُظلِمةِ القاتِمةِ، حتَّى لو وَرَدَتْ حِكْمةٌ مَحْضةٌ باهِرةٌ فإنَّها تَلْبَسُ في نَفسِه لَبُوسَ العَبَثِ المُطلَقِ، لأنَّ لَوْنَ “أنا” في هذه الحالةِ هو الشِّرْكُ وتَعطِيلُ الخالِقِ مِن صِفاتِه الجَلِيلةِ وإنكارُ وُجُودِه تَعالَى؛ بل لوِ امتَلَأَ الكَوْنُ كلُّه بآياتٍ ساطِعاتٍ ومَصابِيحِ هُدًى فإنَّ النُّقطةَ المُظلِمةَ المَوجُودةَ في “أنا” تَكْسِفُ جَمِيعَ تلك الأَنوارِ القادِمةِ، وتَحْجُبُها عنِ الظُّهُورِ.
ولقد فَصَّلْنا القَوْلَ في “الكَلِمةِ الحادِيةَ عَشْرةَ” عنِ الماهِيّةِ الإنسانيّةِ و”الأَنانيّةِ” الَّتي فيها مِن حَيثُ المَعنَى الحَرفِيُّ، وأَثْبَتْنا هناك إثباتًا قاطِعًا كيف أنَّها مِيزانٌ حَسّاسٌ للكَوْنِ، ومِقْياسٌ صائِبٌ دَقيقٌ، وفِهْرِسٌ شامِلٌ مُحِيطٌ، وخَرِيطةٌ كامِلةٌ، ومِرآةٌ جامِعةٌ، وتَقْوِيمٌ جامِعٌ.. فمَن شاءَ فلْيُراجِعْ تلك الرِّسالةَ.
إلى هنا نَخْتِمُ المُقدِّمةَ، مُكتَفِين بما في تلك الرِّسالةِ مِن تَفْصِيلٍ.
فيا أخي القارِئَ، إذا استَوْعَبْتَ هذه المُقدِّمةَ، فهَيّا لِنَدْخُلَ مَعًا إلى الحَقِيقةِ نَفسِها.
[تياران عظيمان في تاريخ البشرية]
إنَّ في تارِيخِ البَشَرِيّةِ -منذُ زَمَنِ سَيِّدِنا آدَمَ عَليهِ السَّلام إلى الوَقْتِ الحاضِرِ- تَيّارَينِ عَظِيمَينِ وسِلسِلَتَينِ للأَفكارِ، يَجرِيانِ عَبْرَ الأَزمِنةِ والعُصُورِ، كأنَّهما شَجَرتانِ ضَخْمَتانِ أَرْسَلَتا أَغصانَهما وفُرُوعَهما في كلِّ صَوْبٍ، وفي كلِّ طَبَقةٍ مِن طَبَقاتِ الإنسانيّةِ.
إحداهُما: سِلسِلةُ النُّـبُوّةِ والدِّينِ.
والأُخرَى: سِلسِلةُ الفَلسَفةِ والحِكمةِ.
فمَتَى كانَت هاتانِ السِّلسِلَتانِ مُتَّحِدَتَينِ ومُمتَزِجَتَينِ، أي: في أيِّ وَقتٍ أو عَصرٍ استَجارَتِ الفَلْسَفةُ بالدِّين وانقادَت إلَيه وأَصبَحَت في طاعَتِه، انتَعَشَتِ الإنسانيّةُ بالسَّعادةِ، وعاشَت حَياةً اجتِماعِيّةً هَنِيئةً؛ ومَتَى ما انفَرَجَتِ الشُّقةُ بَينَهما وافْتَرَقَتا، احتَشَدَ النُّورُ والخَيرُ كُلُّه حَولَ سِلسِلةِ النُّبوّةِ والدِّينِ، وتَجَمَّعَتِ الشُّرُورُ والضَّلالاتُ كُلُّها حَولَ سِلسِلةِ الفَلْسَفةِ.
[شجرة زقوم الفلسفة]
والآنَ لِنَجِدْ مَنْشَأَ كلٍّ مِن تِلكُما السِّلسِلَتَينِ وأَساسَهما:
فإنَّ سِلسِلةَ الفَلْسَفةِ الَّتي عَصَتِ الدِّينَ، اتَّخَذَت صُورةَ شَجَرةِ زَقُّومٍ خَبِيثةٍ تَنشُرُ ظُلُماتِ الشِّركِ وتَنثُرُ الضَّلالةَ حَوْلَها؛ حتَّى إنَّها سَلَّمَت إلى يَدِ عُقُولِ البَشَرِ -في غُصنِ القُوّةِ العَقْلِيّةِ- ثَمَراتِ الدَّهرِيِّين والمادِّيِّين والطَّبِيعيِّين؛ وأَلْقَت على رَأْسِ البَشَرِيّةِ -في غُصنِ القُوّةِ الغَضَبِيّةِ- ثَمَراتِ النَّمارِيدِ والفَراعِنةِ والشَّدّادِين1نعم، إن الفَلسَفةَ القَديمةَ لمِصرَ وبابِلَ، التي بلَغَت مَبلَغَ السِّحرِ، أو تُوُهِّمَت سِحرًا -لاقتِصارِها على فئةٍ مُعيَّنةٍ- هي التي أَرضَعَتِ الفَراعِنةَ والنَّمارِيدَ ورَبَّتْهم في أَحضانِها، كما أنَّ حَمْأَةَ الفَلسَفةِ الطَّبيعيةِ ومُستَنقَعَها مَكَّنَتِ الآلِهةَ في عُقُولِ فلاسِفةِ اليُونانِ القُدَماءِ، ووَلدَتِ الأصنامَ والأوثانَ.
حقًّا إن المَحجُوبَ عن نُورِ الله بسِتارِ “الطَّبيعة” يَمنَح كلَّ شيء أُلُوهيّةً، ثم يُسَلِّطُه على نفسِه...
ورَبَّت -في غُصنِ القُوّةِ الشَّهَوِيّةِ البَهِيمِيّة- ثَمَراتِ الآلِهةِ والأَصنامِ ومُدَّعِي الأُلُوهِيّةِ.
[شجرة طوبى النبوة]
وبجانِبِ هذه الشَّجَرةِ الخَبِيثةِ -شَجَرةِ الزَّقُّومِ- نَشَأَت شَجَرةُ طُوبَى العُبُوديّةِ للهِ، تلك هي سِلسِلةُ النُّبوّةِ، فأَثمَرَت ثَمَراتٍ يانِعةً طَيِّبةً في بُستانِ الكُرةِ الأَرضِيّةِ، ومَدَّتْها إلى البَشَرِيّةِ، فتَدَلَّت قُطُوفًا دانِيةً مِن غُصنِ القُوّةِ العَقْلِيّةِ: أَنبِياءُ ومُرسَلُون وصِدِّيقُون وأَولياءُ صالِحُون.. كما أَثمَرَت في غُصنِ القُوّةِ الدّافِعةِ: حُكّامًا عادِلِين ومُلُوكًا طاهِرِين طُهْرَ المَلائِكةِ.. وأَثمَرَت في غُصنِ القُوّةِ الجاذِبةِ: كُرَماءَ وأَسخِياءَ ذَوِي مُرُوءةٍ وشَهامةٍ في حُسْنِ سِيرةٍ وجَمالِ صُورةٍ ذاتِ عِفّةٍ وبَراءةٍ.. حتى أَظهَرَت تلك الشَّجَرةُ المُبارَكةُ، أنَّ الإنسانَ هو حَقًّا أَكرَمُ ثَمَرةٍ لِشَجَرةِ الكَونِ.
وهكذا، فمَنشَأُ هذه الشَّجَرةِ المُبارَكةِ، ومَنشَأُ تلك الشَّجَرةِ الخَبِيثةِ، هما جِهَتا “أنا” ووَجْهاه، أي: إنَّ “أنا” الَّذي أَصبَح بِذْرةً أَصلِيّةً لِتِلكُما الشَّجَرتَينِ، صارَ وَجْهاه مَنشَأَ كلٍّ مِنهما.
وسنُبيِّنُ ذلك بالآتي: إنَّ النُّبوّةَ تَمضِي آخِذةً وَجْهًا لـ”أنا”، والفَلسَفةَ تُقبِلُ آخِذةً الوَجهَ الآخَرَ لـ”أنا”:
[وجه “أنا” بجهة النبوة]
فالوَجهُ الأوَّلُ الَّذي يَتَطلَّعُ إلى حَقائِقِ النُّبوّةِ، هذا الوَجهُ مَنشَأُ العُبُودِيّةِ الخالِصةِ لله، أي: إنَّ “أنا” يَعرِفُ أنَّه عَبدٌ للهِ، ومُطِيعٌ لِمَعبُودِه.. ويَفهَمُ أنَّ ماهِيَّتَه حَرفيّةٌ، أي: دالٌّ على مَعنًى في غَيرِه.. ويَعتَقِدُ أنَّ وُجُودَه تَبَعِيٌّ، أي: قائِمٌ بوُجُودِ غَيرِه وثابِتٌ بإيجادِه.. ويَعلَمُ أنَّ مالِكِيَّتَه للأَشياءِ وَهْمِيّةٌ، أي إنَّ له مالِكِيّةً مُؤَقَّتةً ظاهِرِيّةً بإذنِ مالِكِه الحَقِيقيِّ.. وحَقِيقَتَه ظِلِّيّةٌ -لَيسَت أَصِيلةً- أي إنَّه مُمكِنٌ مَخلُوقٌ هَزِيلٌ، وظِلٌّ ضَعِيفٌ يَعكِسُ تَجَلِّيًا لِحَقِيقةٍ واجِبةٍ حَقّةٍ.. أمّا وَظِيفَتُه فهي القِيامُ بطاعةِ مَوْلاه، طَاعةً شُعُورِيّةً كامِلةً، لِكَونِه مِيزانًا لِمَعرِفةِ صِفاتِ خالِقِه، ومِقياسًا للتَّعَرُّفِ على شُؤُونِه سُبحانَه.
هكذا نَظَرَ الأَنبِياءُ والمُرسَلُون عَلَيهم السَّلَام ومَن تَبِعَهم مِنَ الأَصفِياءِ والأَولياءِ إلى “أنا” بهذا الوَجهِ، وشاهَدُوه على حَقِيقَتِه هكذا، فأَدرَكُوا الحَقِيقةَ الصّائبةَ، وفَوَّضُوا المُلكَ كلَّه إلى مالِكِ المُلكِ ذِي الجَلالِ، وأَقَرُّوا جَمِيعًا أنَّ ذلك المالِكَ جَلَّ وعلا لا شَرِيكَ له ولا نَظِيرَ، لا في مُلكِه ولا في رُبُوبيَّتِه ولا في أُلُوهيَّتِه، وهو المُتَعالِ الَّذي لا يَحتاجُ إلى شَيءٍ، فلا مُعِينَ له ولا وَزِيرَ، بِيَدِه مَقالِيدُ كلِّ شَيءٍ وهو على كلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ؛ وما “الأَسبابُ” إلّا أَستارٌ وحُجُبٌ ظاهِرِيّةٌ تَدُلُّ على قُدرَتِه وعظَمَتِه؛ وما “الطَّبِيعةُ” إلّا شَرِيعَتُه الفِطْرِيّةُ، ومَجمُوعةُ قَوانِينِه الجارِيةِ في الكَونِ، نَمُوذَجًا لِقُدرَتِه جَلَّ جَلالُه.
فهذا الوَجهُ الوَضِيءُ المُنَوَّرُ الجَمِيلُ، قد أَخَذ حُكمَ بِذرةٍ حَيّةِ ذاتِ مَغزًى وحِكمةٍ؛ خَلَق اللهُ جَلَّ وعَلا مِنها شَجَرةَ طُوبَى العُبُودِيّةِ، امتَدَّت أَغصانُها المُبارَكةُ إلى أَنحاءِ عالَمِ البَشَرِيّةِ كافّةً وزَيَّنَتْه بثَمَراتٍ طَيِّبةٍ ساطِعةٍ، بَدَّدَت ظُلُماتِ الماضِي كُلَّها، وأَثبَتَت بحَقٍّ أنَّ ذلك الزَّمَنَ الغابِرَ المَدِيدَ ليس كما تَراه الفَلسَفةُ مَقبَرةً شاسِعةً مُوحِشةً، ومَيدانَ إعداماتٍ مُخِيفةٍ، بل هو رَوضةٌ مِن رِياضِ النُّورِ، لِلأرواحِ الَّتي أَلْقَت عِبْئَها الثَّقِيلَ لِتُغادِرَ الدُّنيا طَلِيقةً، وهو مَدارُ أَنوارٍ ومِعراجُ مُنَوَّرٍ مُتَفاوِتةِ الدَّرجاتِ لتلك الأَرواحِ الآفِلةِ لِتَتَنقَّلَ إلى الآخِرةِ وإلى المُستَقبَلِ الزّاهِرِ والسَّعادةِ الأَبدِيّةِ.
[وجه “أنا” بجهة الفلسفة]
أمّا الوَجهُ الثَّاني: فقدِ اتَّخَذَتْه الفَلسَفةُ، وقد نَظَرَت إلى “أنا” بالمَعنَى الِاسمِيِّ، أي تقُولُ:
إنَّ “أنا” يَدُلُّ على نَفسِه بنَفسِه.. وتَقضِي أنَّ مَعناه في ذاتِه، ويَعمَلُ لِأَجلِ نَفسِه.
وتَرَى أنَّ وُجُودَه أَصِيلٌ ذاتِيٌّ -وليس ظِلًّا- أي: له ذاتيّةٌ خاصّةٌ به.
وتَزعُمُ أنَّ له حَقًّا في الحَياةِ، وأنَّه مالِكٌ حَقِيقيٌّ في دائِرةِ تَصَرُّفِه، وتَزْعُمُه حَقِيقةً ثابِتةً.
وتَعلَمُ أنَّ وَظِيفَتَه هي الرُّقيُّ والتَّكامُلُ الذّاتِيُّ النّاشِئُ مِن حُبِّ ذاتِه.
وهكذا أَسنَدُوا مَسلَكَهم إلى أُسُسٍ فاسِدةٍ كَثِيرةٍ وبَنَوها على تلك الأُسُسِ المُنهارةِ الواهِيةِ.
وقد أَثْبَتْنا بقَطْعِيّةٍ تامّةٍ مَدَى تَفاهةِ تلك الأُسُسِ ومَدَى فَسادِها في رَسائِلَ كَثِيرةٍ ولا سِيَّما في “الكَلِماتِ”، وبالأَخَصِّ في “الكَلِمةِ الثّانيةَ عَشْرةَ” و”الخامِسةِ والعِشرِين” الخاصّةِ بالمُعجِزاتِ القُرآنيّةِ.
[الفلسفة: وظيفة الإنسان: التشبه بالواجب]
ولقدِ اعتَقَد عُظَماءُ الفَلسَفةِ ورُوّادُها ودُهاتُها، أمثالُ أَفلاطُون وأَرِسطُو وابنِ سِينا والفارابي -بِناءً على تلك الأُسُسِ الفاسِدةِ- بأنَّ الغايةَ القُصوَى لِكَمالِ الإنسانيّةِ هي “التَّشَبُّهُ بالواجِبِ“! أي: بالخالِقِ جَلَّ وعَلا، فأَطلَقُوه حُكْمًا فِرعَوْنيًّا طاغِيًا، ومَهَّدُوا الطَّرِيقَ لِكَثيرٍ مِنَ الطَّوائفِ المُتَلبِّسةِ بأَنواعٍ مِنَ الشِّركِ، أَمثالَ: عَبَدةِ الأَسبابِ وعَبَدةِ الأَصنامِ وعَبَدةِ الطَّبِيعةِ وعَبَدةِ النُّجُومِ، وذلك بتَهيِيجِهمُ “الأَنانيّةَ” لِتَجرِيَ طَلِيقةً في أَوْدِيةِ الشِّركِ والضَّلالةِ.. فسَدُّوا سَبِيلَ العُبُودِيّةِ إلى اللهِ، وغَلَّقُوا أبوابَ العَجْزِ والضَّعْفِ والفَقْرِ والحاجةِ والقُصُورِ والنَّقصِ المُندَرِجةَ في فِطْرةِ الإنسانِ، فَضَلُّوا في أَوحالِ الطَّبِيعةِ ولم يَنجُوْا مِن حَمْأةِ الشِّركِ كُلِّيًّا ولا اهتَدَوا إلى بابِ الشُّكرِ الواسِعِ.
[النبوة: وظيفة الإنسان: التخلق بالأخلاق الإلهية]
بَينمَا الَّذين هم في مَسارِ النُّبوّةِ، فقد حَكَمُوا حُكْمًا مِلْؤُه العُبُودِيّةُ الخالِصةُ للهِ وَحدَه، وقَضَوا أنَّ الغايةَ القُصوَى للإنسانيّةِ والوَظِيفةَ الأَساسِيّةَ للبَشَرِيّةِ هي التَّخَلُّقُ بالأَخلاقِ الإلٰهِيّةِ، أي: التَّحَلِّي بالسَّجايا السّامِيةِ والخِصالِ الحَمِيدةِ الَّتي يَأْمُرُ بها اللهُ سُبحانَه، وأن يَعلَمَ الإنسانُ عَجْزَه فيَلْتَجِئَ إلى قُدرَتِه تَعالَى، ويَرَى ضَعْفَه فيَحتَمِيَ بقُوَّتِه تَعالَى، ويُشاهِدَ فَقْرَه فيَلُوذَ برَحمَتِه تَعالَى، ويَنظُرَ إلى حاجَتِه فيَستَمِدَّ مِن غِناه تَعالَى، ويَعرِفَ قُصُورَه فيَستَغفِرَ رَبَّه تَعالَى، ويَلْمَسَ نَقْصَه فيُسَبِّحَ ويُقَدِّسَ كَمالَه تَعالَى.
[ثمرات شجرة زقوم الفلسفة]
وهكذا، فلِأنَّ الفَلسَفةَ العاصِيةَ للدِّينِ قد ضَلَّتْ ضَلالًا بَعِيدًا، صارَ “أنا” ماسِكًا بزِمامِ نَفسِه، مُسارِعًا إلى كلِّ نَوعٍ مِن أَنواعِ الضَّلالةِ.
وهكذا نَبَتَت شَجَرةُ زَقُّومٍ على قِمّةِ هذا الوَجهِ مِن “أنا” غَطَّت بضَلالِها نِصفَ البَشَرِيّةِ، وحادَت بهم عن سَواءِ السَّبِيل.
أمّا الثَّمَراتُ الَّتي قَدَّمَتْها تلك الشَّجَرةُ الخَبِيثةُ -شَجَرةُ زَقُّومٍ- إلى أَنظارِ البَشَرِ فهي الأَصنامُ والآلِهةُ في غُصْنِ القُوّةِ البَهِيميّةِ الشَّهَوِيّةِ؛ إذِ الفَلسَفةُ تُحَبِّذُ أَصلًا القُوّةَ، وتَتَّخِذُها أَساسًا وقاعِدةً مُقَرَّرةً لِنَهْجِها، حتَّى إنَّ مَبدَأَ “الحُكْمُ للغالِبِ” دُستُورٌ مِن دَساتيرِها، وتَأْخُذُ بمَبدَأِ “الحَقُّ في القُوّةِ“2أمّا النُّبوّةُ فهي تُقرِّرُ أنَّ القُوّةَ في الحَقِّ وليس الحَقُّ في القُوّةِ، فتَقطَعُ بهذا دابِرَ الظُّلمِ وتُحَقِّقُ العَدْل. فأُعجِبَتْ ضِمْنًا بالظُّلمِ والعُدْوانِ، وحَثَّتِ الطُّغاةَ والظَّلَمةَ والجَبابِرةَ العُتاةَ حتَّى ساقَتْهم إلى دَعوَى الأُلُوهِيّةِ.
ثمَّ إنَّها مَلَّكَتِ الجَمالَ في المَخلُوقاتِ والحُسْنَ في صُوَرِها، إلى المَخلُوقِ نَفسِه، وإلى الصُّورةِ نَفسِها، مُتَناسِيةً نِسبةَ ذلك الجَمالِ إلى تَجَلِّي الجَمالِ المُقَدَّسِ للخالِقِ الجَمِيلِ والحُسْنِ المُنَـزَّهِ للمُصَوِّرِ البَدِيعِ، فتَقُولُ: “ما أَجمَلَ هذا!” بَدَلًا مِن أن تقُولَ: “ما أَجمَلَ خَلْقَ هذا!” أي: جَعَلَتْ ذلك الجَمالَ في حُكْمِ صَنَمٍ جَدِيرٍ بالعِبادةِ!
ثمَّ إنَّها استَحْسَنَت مَظاهِرَ الشُّهرةِ، والحُسْنِ الظَّاهرِ للرِّياءِ والسُّمعةِ.. لذا حَبَّذَتِ المُرائِين، ودَفَعَتْهم إلى التَّمادِي في غَيِّهم جاعِلةً مِن أَمثالِ الأَصنامِ عابِدةً لِعُبّادِها3أي: إنَّ أولئك الشَّبِيهين بالأَصنامِ، يُظهِرُون أَوضاعًا شَبِيهةً بالعِبادةِ أمامَ المُعجَبِين بهم، كَسْبًا لإقبالِهم وتَوَجُّهِهم إليهم، وتلبيةً لرَغَباتِ هَواهُم، فيكونون عابِدِين مِن جِهةٍ ومَعبُودِين مِن جِهةٍ أُخرَى..
ورَبَّت في غُصنِ القُوّةِ الغَضَبِيّةِ على رُؤُوسِ البَشَرِ المَساكِينِ الفَراعِنةَ والنَّمارِيدَ والطُّغاةَ صِغارًا وكِبارًا.
أمّا في غُصنِ القُوّةِ العَقْلِيّةِ، فقد وَضَعَتِ الدَّهرِيِّين والمادِّيِّين والطَّبيعيِّين، وأَمثالَهم مِنَ الثَّمَراتِ الخَبِيثةِ في عَقلِ الإنسانيّةِ، فشَتَّتَت عَقْلَ الإنسانِ أَيَّ تَشتِيتٍ.
[مقارنة بين نتائج النبوة ونتائج الفلسفة]
وبعدُ.. فلِأَجلِ تَوضِيحِ هذه الحَقِيقةِ، نَعقِدُ مُقارَنةً بينَ نَتائِجَ نَشَأَت مِنَ الأُسُسِ الفاسِدةِ لِمَسْلَكِ الفَلسَفةِ، ونَتائِجَ تَوَلَّدَت مِنَ الأُسُسِ الصّائبةِ لِمَسارِ النُّبوّةِ.. وسنَقصُرُ الكَلامَ في بِضعةِ أَمثِلةٍ فقط مِن بينِ آلافِ المُقارَناتِ بَينَهما.
[في الحياة الشخصية]
المِثالُ الأوَّلُ: مِنَ القَواعِدِ المُقَرَّرةِ للنُّبوّةِ في حَياةِ الإنسانِ الشَّخصِيّةِ: التَّخَلُّقُ بأَخلاقِ اللهِ. أي: كُونُوا عِبادَ اللهِ المُخلِصِين، مُتَحَلِّين بأَخلاقِ اللهِ، مُحتَمِين بحِماه، مُعتَرِفين في قَرارةِ أَنفُسِكُم بعَجْزِكم وفَقْرِكم وقُصُورِكم.
فأينَ هذه القاعِدةُ الجَلِيلةُ مِن قَولِ الفَلسَفةِ: “تَشَبَّهُوا بالواجِبِ” الَّتي تُقَرِّرُها غايةً قُصْوَى للإنسانيّةِ؟!
أينَ ماهِيّةُ الإنسانِ الَّتي عُجِنَت بالعَجْزِ والضَّعْفِ والفَقْرِ والحاجةِ غيرِ المَحدُودةِ مِن ماهِيّةِ واجِبِ الوُجُودِ، وهو اللهُ القَدِيرُ القَوِيُّ الغَنِيُّ المُتَعالِ!!
[في الحياة الاجتماعية]
المِثالُ الثَّاني: مِنَ القَواعِدِ الثَّابِتةِ للنُّبوّةِ في الحَياةِ الِاجتِماعيّةِ: أنَّ “التَّعاوُنَ” دُستُورٌ مُهَيمِنٌ على الكَونِ، ابتِداءً مِنَ الشَّمسِ والقَمَرِ إلى النَّباتاتِ والحَيَواناتِ، فتَرَى النَّباتاتِ تُمِدُّ الحَيَواناتِ، والحَيَواناتِ تُمِدُّ الإنسانَ، بل ذَرّاتِ الطَّعامِ تُمِدُّ خَلايا الجِسمِ وتُعاوِنُها.
فأينَ هذا الدُّستُورُ القَوِيمُ -دُستُورُ التَّعاوُنِ وقانُونُ الكَرَمِ ونامُوسُ الإكرامِ- مِن دُستُورِ “الصِّراعِ” الَّذي تقُولُ به الفَلسَفةُ مِن أنَّه الحاكِمُ على الحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ؟
عِلْمًا أنَّ “الصِّراعَ” ناشِئٌ فقط لَدَى بعضِ الظَّلَمةِ والوُحُوشِ الكاسِرةِ مِن جَرّاءِ سُوءِ استِعمالِ فِطْرَتِهم؛ بل أَوْغَلَتِ الفَلسَفةُ في ضَلالِها حتَّى اتَّخَذَت دُستُورَ “الصِّراعِ” هذا حاكِمًا مُهَيمِنًا على المَوجُوداتِ كافّةً، فقَرَّرَت ببَلاهةٍ مُتَناهِيةٍ: “إنَّ الحَياةَ جِدالٌ وصِراعٌ”.
[في التوحيد والشرك]
المِثالُ الثّالثُ: مِنَ النَّتائِجِ المُثْلَى للنُّبوّةِ ومِن قَواعِدِها السّامِيةِ في التَّوحِيدِ: أنَّ “الواحِدَ لا يَصدُرُ إلّا عنِ الواحِدِ”، أي: أنَّ كلَّ ما لَه وَحْدةٌ لا يَصدُرُ إلَّا عنِ الواحِدِ؛ إذ ما دامَتْ في كلِّ شَيءٍ -وفي الأَشياءِ كُلِّها- وَحْدةٌ ظاهِرةٌ، فلا بُدَّ أنَّها مِن إيجادِ ذَاتٍ واحِدةٍ.
بَينَما دُستُورُ الفَلسَفةِ القَدِيمةِ وعَقِيدَتُها أنَّ: “الواحِدَ لا يَصدُرُ عنه إلّا الواحِدُ” أي: لا يَصدُرُ عن ذاتٍ واحِدةٍ إلّا شَيءٌ واحِدٌ، ثمَّ الأَشياءُ الأُخرَى تَصدُرُ بتَوَسُّطِ الوَسائِطِ.
هذه القاعِدةُ للفَلسَفةِ القَدِيمةِ تُعطِي لِلأسبابِ القائِمةِ والوَسائِطِ نَوْعًا مِنَ الشَّراكةِ في الرُّبُوبيّةِ، وتُظهِرُ أنَّ القَدِيرَ على كلِّ شَيءٍ والغَنِيَّ المُطلَقَ والمُستَغنِيَ عن كلِّ شَيءٍ بحاجةٍ إلى وَسائِطَ عاجِزةٍ! بل ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا فنَسَبُوا إلى الخالِقِ جَلَّ وعَلا مَخلُوقًا باسمِ “العَقلِ الأَوَّلِ”، وقَسَّمُوا سائِرَ مُلْكِه بينَ الوَسائِطِ، ففَتَحُوا الطَّرِيقَ إلى شِركٍ عَظِيمٍ.
فأَينَ ذلك الدُّستُورُ التَّوحِيدِيُّ للنُّبوّةِ مِن هذه القاعِدةِ -للفَلسَفةِ القَدِيمةِ السَّقِيمةِ- المُلَوَّثةِ بالشِّركِ والمُلَطَّخةِ بالضَّلالةِ؟
فإن كان الإشراقيُّون الَّذين هم أَرقَى الفَلاسِفةِ والحُكَماءِ فهُما يَتَفوَّهُون بهذا السُّخْفِ مِنَ الكَلامِ، فكيف يكُونُ -يا تُرَى- كَلامُ مَن هم دُونَهم في الفَلسَفةِ والحِكْمةِ مِن مادِّيِّينَ وطَبِيعيِّينَ؟
[في حكمة الخلق]
المِثالُ الرّابعُ: إنَّه مِنَ الدَّساتيرِ الحَكِيمةِ للنُّبوّةِ: أنَّ لِكُلِّ شَيءٍ حِكَمًا كَثِيرةً ومَنافِعَ شَتَّى، حتَّى إنَّ للثَّمَرةِ مِنَ الحِكَمِ ما يُعَدُّ بعَدَدِ ثَمَراتِ الشَّجَرةِ، كما يُفهَمُ مِنَ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾، فإن كانَت هُناك نَتِيجةٌ واحِدةٌ -لِخَلْقِ ذِي حَياةٍ- مُتَوجِّهةٌ إلى المَخلُوقِ نَفسِه، وحِكمةٌ واحِدةٌ مِن وُجُودِه تَعُودُ إلَيه، فإنَّ آلافًا مِنَ النَّتائِجِ تَعُودُ إلى خالِقِه الحَكِيمِ وآلافًا مِنَ الحِكَمِ تَتَوجَّهُ إلى فاطِرِه الجَلِيلِ.
أمّا دُستُورُ الفَلسَفةِ فهو أنَّ “حِكْمةَ خَلْقِ كُلِّ كائِنٍ حَيٍّ وفائِدَتَه مُتَوجِّهةٌ إلى نَفسِه، أو تَعُودُ إلى مَنافِعِ الإنسانِ ومَصالِحِه”، هذه القاعِدةُ تَسلُبُ مِنَ المَوجُوداتِ حِكَمًا كَثِيرةً أُنيطَت بها، وتُعطِي ثَمَرةً جُزئيّةً كحَبّةٍ مِن خَرْدَلٍ إلى شَجَرةٍ ضَخْمةٍ هائِلةٍ، فتُحَوِّلُ المَوجُوداتِ إلى عَبَثٍ لا طائِلَ مِن وَرائِه.
فأَينَ تلك الحِكْمةُ الصّائِبةُ مِن هذه القَواعِدِ الفاسِدةِ للفَلسَفةِ الفارِغةِ مِنَ الحِكْمةِ، الَّتي تَصبُغُ الوُجُودَ كُلَّه بالعَبَث!
ولقد قَصَرْنا الكَلامَ هُنا على هذا القَدْرِ، حيثُ إنَّنا قد بَحَثْنا هذه الحَقِيقةَ في الحَقِيقةِ العاشِرةِ مِنَ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” بشَيءٍ مِنَ التَّفصِيلِ.
وبعدُ.. فيُمكِنُك أن تَقِيسَ على مِنْوالِ هذه الأَمثِلةِ الأَربَعةِ آلافًا مِنَ النَّماذِجِ والأَمثِلةِ، وقد أَشَرْنا إلى قِسْمٍ مِنها في رِسالةِ “اللَّوامِع”.
[فلاسفة مسلمون اغتروا ببريق الفلسفة]
ونَظَرًا لِاستِنادِ الفَلسَفةِ إلى مِثلِ هذه الأُسُسِ السَّقِيمةِ ولِنَتائِجِها الوَخِيمةِ، فإنَّ فَلاسِفةَ الإسلامِ الدُّهاةَ الَّذين غَرَّهم مَظْهَرُ الفَلسَفةِ البَـرَّاقُ، فانساقُوا إلى طَرِيقِها كابنِ سِينا والفارابيِّ، لم يَنالُوا إلّا أَدنَى دَرَجاتِ الإيمانِ، دَرَجةَ المُؤمِنِ العادِيِّ، بل لم يَمنَحْهُم حُجّةُ الإسلامِ الإمامُ الغَزّاليُّ حتَّى تلك الدَّرَجةَ.
وكذا أَئِمّةُ المُعتَزِلةِ، وهم مِن عُلَماءِ الكَلامِ المُتَبحِّرِين، فلِأَنَّهم افتُتِنُوا بالفَلسَفةِ وزِينَتِها وأَوثَقُوا صِلَتَهم بها، وحَكَّمُوا العَقلَ، لم يَظفَرُوا سِوَى بِدَرَجةِ المُؤمِنِ المُبتَدِعِ الفاسِقِ.
وكذا أبو العَلاءِ المَعَرِّيُّ الَّذي هو مِن أَعلامِ أُدَباءِ المُسلِمين والمَعرُوفُ بتَشاؤُمِه؛ وعُمَرُ الخَيّامُ المَوصُوفُ بنَحِيبِه اليُتْمِيِّ، وأَمثالُهُما مِنَ الأُدَباءِ الأَعلامِ مِمَّنِ استَهْوَتْهُمُ الفَلسَفةُ، وانبَهَرَت نُفُوسُهُمُ الأَمّارةُ بها..
فهَؤُلاء قد تَلَقَّوْا صَفْعةَ تَأْدِيبٍ ولَطْمةَ تَحقِيرٍ وتَكفِيرٍ مِن قِبَلِ أَهلِ الحَقِيقةِ والكَمالِ، فزَجَرُوهم قائِلِين: “أيُّها السُّفَهاءُ، أنتُم تُمارِسُون السَّفَهَ وسُوءَ الأَدَبِ، وتَسلُكُون سَبِيلَ الزَّندَقةِ، وتُرَبُّون الزَّنادِقةَ في أَحضانِ أَدَبِكُم”.
[“أنا” في تربية الفلسفة وضلالاتُه]
ثمَّ إنَّ مِن نَتائِجِ الأُسُسِ الفاسِدةِ للفَلسَفةِ أنَّ “أنا” الَّذي ليس له في ذاتِه إلّا ماهِيّةٌ ضَعِيفةٌ كأنَّه هَواءٌ أو بُخارٌ، لكن بشُؤْمِ نَظَرِ الفَلسَفةِ، ورُؤيَتِها الأَشياءَ بالمَعنَى الِاسمِيِّ، يَتَميَّعُ.
ثمَّ بسَبَبِ الأُلفةِ والتَّوَغُّلِ في المادِّيّاتِ والشَّهَواتِ كأنَّه يَتَصلَّبُ، ثمَّ تَعتَرِيه الغَفْلةُ والإنكارُ فتَتَجمَّدُ تلك “الأَنانيّةُ”. ثمَّ بالعِصْيانِ لِأَوامِرِ اللهِ يَتَكدَّرُ “أنا” ويَفقِدُ شَفَّافِيَّـتَه ويُصبِحُ قاتِمًا؛ ثمَّ يَستَغلِظُ شيئًا فشيئًا حتَّى يَبتَلِعَ صاحِبَه، بل لا يَقِفُ “أنا” عندَ هذا الحَدِّ وإنَّما يَنتَفِخُ ويَتَوسَّعُ بأَفكارِ الإنسانِ، ويَبدَأُ بقِياسِ النّاسِ -وحتَّى الأَسبابِ- على نَفسِه، فيَمنَحُها فِرعَوْنِيّةً طاغِيةً رَغمَ رَفْضِها واستِعاذَتِه مِنها، وعِندَ ذلك يَأْخُذُ طَوْرَ الخَصْمِ للأَوامِرِ الإلٰهِيّةِ فيقُولُ: ﴿مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟!﴾ وكأنَّه يَتَحدَّى اللهَ عزَّ وجَلَّ، ويَتَّهِمُ القَدِيرَ على كلِّ شَيءٍ بالعَجْزِ، ثمَّ يَبلُغُ به الأَمرُ أن يَتَدخَّلَ في أَوْصافِ اللهِ الجَلِيلةِ، فيُنكِرُ أو يُحَرِّفُ أو يَرُدُّ كلَّ ما لا يُلائِمُ هَواه، أو لا يُعجِبُ فِرعَونيّةَ نَفسِه.
فمَثلًا: أَطلَقَت طائِفةٌ مِنَ الفَلاسِفةِ على اللهِ سُبحانَه وتَعالَى اسمَ “المُوجِبِ بالذّاتِ” فنَفَوُا الإرادةَ والِاختِيارَ مِنه تَعالَى، مُكَذِّبِين شَهادةَ جَمِيعِ الكَونِ على إرادَتِه الطَّلِيقةِ. فيا سُبحانَ اللهِ! ما أَعجَبَ هذا الإنسانَ! إنَّ المَوجُوداتِ قاطِبةً مِنَ الذَّرّاتِ إلى الشُّمُوسِ لَتَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على إرادةِ الخالِقِ الحَكِيمِ، بتَعَيُّناتِها، وانتِظامِها، وحِكَمِها، ومَوازِينِها، كيف لا تَراها عَينُ الفَلسَفةِ؟ أَعمَى اللهُ أَبصارَهم!
وادَّعَت طائِفةٌ أُخرَى مِنَ الفَلاسِفةِ: “أنَّ العِلمَ الإلٰهِيَّ لا يَتَعلَّقُ بالجُزئيّاتِ” نافِينَ إحاطةَ عِلمِ اللهِ سُبحانَه بكُلِّ شَيءٍ، رافِضِين شَهادةَ المَوجُوداتِ الصّادِقةِ على عِلْمِه المُحِيطِ بكُلِّ شَيءٍ.
ثمَّ إنَّ الفَلسَفةَ تَمنَحُ الأَسبابَ التَّأْثيرَ، وتُعطِي الطَّبِيعةَ الإيجادَ والإبداعَ، فلا تَرَى الآياتِ المُتَلَألِئةَ على كلِّ مَوجُودٍ، الدّالّةَ على الخالِقِ العَظِيمِ -كما أَثبَتْناه في “الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِين”- فَضْلًا عن أنَّها تُسنِدُ خَلْقَ قِسمٍ مِنَ المَوجُوداتِ الَّتي هي مَكاتِيبُ إلٰهِيّةٌ صَمَدانيّةٌ إلى الطَّبِيعةِ العاجِزةِ الجامِدةِ الفاقِدةِ للشُّعُورِ، والَّتي لَيسَ في يَدَيها إلّا المُصادَفةُ العَشْواءُ والقُوّةُ العَمْياءُ، جاعِلةً لها -أي: للطَّبِيعةِ- مَصْدَرِيّةً في خَلْقِ الأَشياءِ، وفاعِلِيّةً في التَّأثيرِ! فحَجَبَت آلافَ الحِكَمِ المُندَرِجةِ في المَوجُوداتِ.
ثمَّ إنَّ الفَلسَفةَ لم تَهْتَدِ إلى بابِ الآخِرةِ الواسِعِ، فأَنكَرَتِ الحَشْرَ وادَّعَت أَزَليّةَ الأَرواحِ، عِلْمًا أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ بجَمِيعِ أَسمائِه الحُسنَى، والكَوْنَ بجَمِيعِ حَقائِقِه والأَنبِياءَ والرُّسُلَ الكِرامَ عَلَيهم السَّلَام بجَمِيعِ ما جاؤُوا به مِنَ الحَقائِقِ، والكُتُبَ السَّماوِيّةَ بجَمِيعِ آياتِها الكَرِيمةِ.. تُبَيِّنُ الحَشْرَ والآخِرةَ، كما أَثْبَتْناه في “الكَلِمةِ العاشِرةِ”.
وهكَذا يُمكِنُك أن تَقِيسَ سائِرَ مَسائِلِ الفَلسَفةِ على هذه الخُرافاتِ السَّخِيفةِ.
أَجَل، لَكَأنَّ الشَّياطِينَ اختَطَفُوا عُقُولَ الفَلاسِفةِ المُلحِدين بمِنْقارِ “أنا” ومَخاليبِه، وأَلْقَوْها في أَوْدِيةِ الضَّلالةِ، ومَزَّقُوها شَرَّ مُمَزَّقٍ.
فـ”أنا” في العالَمِ الصَّغِيرِ (الإنسانِ) كالطَّبِيعةِ في العالَمِ الكَبِيرِ، كِلاهُما مِنَ الطَّواغِيتِ:
﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
[واقعةٌ في عالم المثال تبين المسالك الثلاثة في سورة الفاتحة]
ولقد رَأَيتُ حادِثةً مِثاليّةً قبلَ الشُّرُوعِ بتَأْليفِ هذه الرِّسالةِ بثَماني سَنَواتٍ، عِندَما كُنتُ في إسطَنبُولَ في شَهرِ رَمَضانَ المُبارَكِ، وكان آنَئِذٍ سَعِيدٌ القَدِيمُ الَّذي انشَغَلَ بالفَلسَفةِ على وَشْكِ أن يَنقَلِبَ إلى سَعِيدٍ الجَدِيدِ.. في هذه الحِقبةِ بالذّاتِ وحِينَما كُنتُ أَتأَمَّلُ في المَسالِكِ الثَّلاثةِ المَشارِ إلَيها في خِتامِ سُورةِ الفاتِحةِ بـ ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ رَأَيتُ تلك الحادِثةَ الخَيالِيّةَ وهي حادِثةٌ أَشَبهُ ما تكُونُ بالرُّؤيا؛ سَجَّلتُها في حِينِها في كِتابي “اللَّوامِع” على صُورةِ سِياحةٍ خَياليّةٍ وبما يُشبِهُ النَّظْمَ؛ وقد حانَ الآنَ وَقْتُ ذِكرِ مَعناها وشَرحِها، حيثُ إنَّها تُسَلِّطُ الأَضواءَ على الحَقِيقةِ المَذكُورةِ.
كُنتُ أَرَى نَفسِي وَسَطَ صَحْراءَ شاسِعةٍ عَظِيمةٍ، وقد تَلَبَّدَتِ السَّماءُ بسُحُبٍ قاتِمةٍ مُظلِمةٍ، حتَّى لَتَكادُ الأَنفاسُ تَختَنِقُ على الأَرضِ كافّةً، فلا نَسِيمَ ولا ضِياءَ ولا ماءَ.. كلُّ ذلك مَفقُودٌ.
تَوَهَّمْتُ أنَّ الأَرضَ مَلْأَى بالوُحُوشِ والضَّوارِي والحَيَواناتِ الضّارّةِ، فخَطَر على قَلْبي أنَّ في الجِهةِ الأُخرَى مِنَ الأَرضِ يُوجَدُ نَسِيمٌ عَلِيلٌ وماءٌ عَذْبٌ وضِياءٌ جَمِيلٌ، فلا مَناصَ إذًا مِنَ العُبُورِ إلى هناك؛ ثمَّ وَجَدتُني وأنا أُساقُ إلى هناك دُونَ إرادتي.. دَخَلتُ كَهْفًا تحتَ الأَرضِ، أَشْبَهَ ما يكُونُ بأَنفاقِ الجِبالِ، سِرْتُ في جَوْفِ الأَرضِ خَطْوةً خَطْوةً وأنا أُشاهِدُ أنَّ كَثِيرِين قد سَبَقُوني في المُضِيِّ مِن هذا الطَّرِيقِ تحتَ الأَرضِ، دُونَ أن يُكمِلُوا السَّيرَ إذ ظَلُّوا في أَماكِنِهم مُختَنِقِين، فكُنتُ أَرَى آثارَ أَقدامِهم، وأَسمَعُ حِينًا أَصواتَ عَدَدٍ مِنهم، ثمَّ تَنقَطِعُ الأَصواتُ.
فيا صَدِيقي الَّذي يُرافِقُني بخَيالِه في سِياحَتِي الخَياليّةِ هذه.. إنَّ تلك الأَرضَ هي “الطَّبِيعةُ” و”الفَلسَفةُ الطَّبِيعيّةُ”، أمّا النَّفَقُ فهو المَسلَكُ الَّذي شَقَّه أَهلُ الفَلسَفةُ بأَفكارِهِم لِبُلُوغِ الحَقِيقةِ، أمّا آثارُ الأَقدامِ الَّتي رَأَيتَها فهي لِمَشاهِيرِ الفَلاسِفةِ كأَفلاطُون وأَرِسْطُو4وإن قُلتَ: فما تَكونُ أنت حتَّى تُنازِلَ هؤلاء المَشاهِيرَ؟ فهل أَصبَحتَ نَظِيرَ ذُبابةٍ حتَّى تَتَدخَّلَ في طَيَرانِ الصُّقُورِ؟
فأنا أقُولُ: لَمّا كان لي أُستاذٌ أَزَليٌّ وهو القرآنُ العظيمُ، فلا أُراني مُضطَرًّا أن أُباليَ -ولو بقَدْرِ جَناحِ ذُبابةٍ- في طريقِ الحَقيقةِ والمَعرِفة، بأُولئِك الصُّقُورِ الَّذين هُم تَلاميذُ الفَلسفةِ المُلَوَّثة بالضَّلَالة والعَقلِ المُبتَلَى بالأوهامِ.
فَمهمَا كُنتُ أَدنَى مِنهُم دَرجةً إلّا أنَّ أُستاذَهم أَدنَى بدَرَجاتٍ لا حَدَّ لها من أُستاذي، فبفَضْلِ أُستاذي وهِمَّتِه لم تَستطعِ المَادّةُ التي أَغرَقَتْهم أن تُبَلِّل قَدَميَّ.
نَعم، إنَّ الجُنديَّ البَسِيط الحامِلَ لِأَوامرِ سُلطانٍ عَظيمٍ وقَوانينِه، يُمكِنُه أن يُنجِزَ من الأعمالِ مَالا يُنجِزُه مُشِيرٌ لدى مَلِكٍ صَغيرٍ.، وما سَمِعْتُه مِن أَصواتٍ هي أَصواتُ الدُّهاةِ كابنِ سِينا والفارابيِّ.. نعم، كُنتُ أَجِدُ أَقوالًا لابنِ سِينا وقَوانِينَ له في عَدَدٍ مِنَ الأَماكِنِ، ولكن كانَتِ الأَصواتُ تَنقَطِعُ كُلِّيًّا، بمَعنَى أنَّه لم يَستَطِعْ أن يَتَقدَّمَ، أي إنَّه اختَنَق.
وعلى كلِّ حالٍ فقد بَيَّنتُ لك بعضَ الحَقائِقِ الكامِنةِ تحتَ الخَيالِ لِأُخَفِّفَ عنك تَلَهُّفَك وتَشَوُّقَك.. والآنَ أَعُودُ إلى ذِكْرِ سِياحَتِي:
استَمَرَّ بي السَّيرُ، وإذا بشَيئَينِ يُجعَلانِ بِيَدَيَّ:
الأوَّلُ: مِصباحٌ كَهرَبائيٌّ، يُبَدِّدُ ظُلُماتٍ كَثِيفةً للطَّبِيعةِ تحتَ الأَرضِ.
والآخَرُ: آلةٌ عَظِيمةٌ، تُفَتِّتُ صُخُورًا ضَخْمةً هائِلةً أَمثالَ الجِبالِ.. فيَنفَتِحُ لي الطَّريقُ.
وهُمِسَ في أُذُني آنَذاك: إنَّ هذا المِصباحَ والآلةَ، قد مُنِحَتا لك مِن خَزِينةِ القُرآنِ الكَرِيمِ.
وهكذا فقد سِرْتُ مُدّةً على هذا المِنوالِ، حتَّى رَأَيتُ نَفسِي قد وَصَلْتُ إلى الجِهةِ الأُخرَى، فإذا الشَّمسُ مُشرِقةٌ في سَماءٍ صافِيةٍ جَمِيلةٍ لا سَحابَ فيها، واليومُ يومُ رَبِيعٍ بَهِيجٍ، والنَّسِيمُ يَهُبُّ هُبُوبَ الرُّوحِ، والماءُ السَّلسَبِيلُ العَذْبُ يَجرِي.. فقد رَأَيتُ عالَمًا عَمَّتْه البَهجةُ ودَبَّ الفَرَحُ في كلِّ مكانٍ، فحَمِدتُ اللهَ.
ثمَّ نَظَرتُ إلى نَفسِي، فرَأَيتُ أنِّي لا أَملِكُها ولا أَستَطِيعُ السَّيطَرةَ علَيها، وكأنَّ أَحدَهم يَضَعُني مَوضِعَ الِاختِبارِ، وعلى حِينِ غِرّةٍ رَأَيتُ نَفسِي مَرّةً أُخرَى في تلك الصَّحْراءِ الشّاسِعةِ، وقد أَطبَقَتِ السُّحُبُ القاتِمةُ أيضًا فأَظلَمَتِ السَّماءُ، والأَنفاسُ تَكادُ تَختَنِقُ مِنَ الضِّيقِ..
أَحسَسْتُ سائِقًا يَسُوقُني إلى طَرِيقٍ آخَرَ، إذ رَأَيتُ أنِّي أَسِيرُ في هذه المَرّةِ على الأَرضِ وليس في جَوْفِها، في طَرِيقي إلى الجِهةِ الأُخرَى.. فرَأَيتُ في سَيْري هذا أُمُورًا عَجِيبةً ومَشاهِدَ غَرِيبةً لا تَكادُ تُوصَفُ، فالبَحرُ غاضِبٌ عَلَيَّ، والعاصِفةُ تُهَدِّدُني، وكلُّ شَيءٍ يُلقِي أَمامي العَوائِقَ والمَصاعِبَ؛ إلّا أنَّ تلك المَشاكِلَ تُذَلَّلُ بفَضلِ ما وُهِبَ لي مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ مِن وَسِيلةٍ سِياحِيّةٍ، فكُنتُ أَتَغلَّبُ علَيها بتلك الوَسِيلةِ.. وبَدَأتُ أَقطَعُ السَّيرَ خَطْوةً خَطْوةً، شاهَدتُ أَشلاءَ السّائِحِين وجَنائِزَهم مُلْقاةً على طَرَفَيِ الطَّرِيقِ، هنا وهناك، فلم يُنهِ إلّا واحِدٌ مِن أَلفٍ هذه السِّياحةَ.
وعلى كلِّ حالٍ فقد نَجَوْتُ مِن ظُلُماتِ تلك السُّحُبِ الخانِقةِ، ووَصَلْتُ إلى الجِهةِ الأُخرَى مِنَ الأَرضِ، وقابَلْتُ الشَّمسَ الجَمِيلةَ، وتَنَفَّستُ النَّسِيمَ العَلِيلَ، وبَدَأتُ أَجُولُ في ذلك العالَمِ البَهِيجِ كالجَنّةِ، وأنا أُرَدِّدُ: “الحَمدُ للهِ”.
ثمَّ رَأَيتُ أنَّني لن أُترَكَ هنا، فهُناك مَن كأنَّه يُرِيدُ أن يُرِيَني طَرِيقًا آخَرَ، فأَرجَعَني في الحالِ إلى ما كُنتُ علَيه.. تلك الصَّحراءِ الشّاسِعةِ.. فنَظَرتُ فإذا أَشياءُ نازِلةٌ مِنَ الأَعلَى كنُزُولِ المَصاعِدِ (الكَهرَبائيّةِ) بأَشكالٍ مُتَبايِنةٍ وأَنماطٍ مُختَلِفةٍ، بعضُها يُشبِهُ الطّائراتِ وبعضُها شَبِيهٌ بالسَّيّاراتِ، وأُخرَى كالسِّلالِ المُتَدلِّيةِ.. وهكذا، فأَيُّما إنسانٍ يُمكِنُ أن يَتَعلَّقَ بإحدَى تلك الأَشياءِ، حَسَبَ قابِلِيَّتِه وقُوَّتِه، فإنَّه يُعرَجُ به إلى الأَعلَى.. فرَكِبتُ إحداها، وإذا أنا في دَقيقةٍ واحِدةٍ فوقَ السُّحُبِ وعلى جِبالٍ جَمِيلةٍ مُخضَوضِرةٍ، بل لا تَبلُغُ السُّحُبُ مُنتَصَفَ تلك الجِبالِ الشّاهِقةِ.. ويُشاهَدُ في كلِّ مَكانٍ أَجمَلُ ضِياءٍ، وأَعذَبُ ماءٍ، وأَلطَفُ نَسِيمٍ.. وحِينَما سَرَّحتُ نَظَري إلى الجِهاتِ كُلِّها رَأَيتُ أنَّ تلك المَنازِلَ النُّورانيّةَ -الشَّبِيهةَ بالمَصاعِدِ- مُنتَشِرةٌ في كلِّ مَكانٍ. ولقد كُنتُ شاهَدتُ مِثلَها في الجِهةِ الأُخرَى مِنَ الأَرضِ في تِلكُما السِّياحَتَينِ السّابِقَتَينِ.. ولكن لم أَفهَمْ مِنها شَيْئًا، بَيْدَ أنِّي الآنَ أَفهَمُ أنَّ هذه المَنازِلَ إنَّما هي تَجَلِّياتٌ لآياتِ القُرآنِ الحَكِيمِ.
وهكذا، فالطَّرِيقُ الأوَّلُ: هو طَرِيقُ الضّالِّين المُشارُ إلَيه بـ ﴿الضَّالِّينَ﴾، وهو مَسلَكُ الَّذين زَلُّوا إلى مَفهُومِ “الطَّبِيعةِ” وتَبَنَّوا أَفكارَ الطَّبِيعيِّين.. وقد لَمَسْتُم مَدَى صُعُوبةِ الوُصُولِ إلى الحَقِيقةِ مِن خِلالِ هذا السَّيرِ المَلِيءِ بالمُشكِلاتِ والعَوائِقِ.
والطَّرِيقُ الثّاني: المُشارُ إلَيه بـ ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ فهو مَسلَكُ عَبَدةِ الأَسبابِ، والَّذين يُحِيلُون الخَلْقَ والإيجادَ إلى الوَسائِطِ، ويُسنِدُون إلَيها التَّأثيرَ، ويُرِيدُون بُلُوغَ حَقِيقةِ الحَقائقِ ومَعرِفةَ اللهِ جَلَّ جَلالُه عن طَرِيقِ العَقلِ والفِكرِ وَحدَه، كالحُكَماءِ المَشّائِينَ.
أمّا الطَّرِيقُ الثّالثُ: المُشارُ إلَيه بـ ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ فهو الصِّراطُ المُستَقِيمُ والجادّةُ النُّورانيّةُ لِأَهلِ القُرآنِ، وهو أَقصَرُ الطُّرُقِ وأَسلَمُها وأَيسَرُها، ومَفتُوحٌ أَمامَ النّاسِ كافّةً لِيَسلُكُوه، وهو مَسلَكٌ سَماوِيٌّ رَحْمانِيٌّ نُورانِيٌّ.
[المقصد الثاني: مبحث الذرَّة]
المَقصَدُ الثّاني
يَخُصُّ تَحَوُّلاتِ الذَّرّاتِ
يُشِيرُ إلى ذَرّةٍ مِن خَزِينةِ هذه الآيةِ الكَرِيمةِ:
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾
يُبيِّنُ هذا المَقصَدُ مِثقالَ ذَرّةٍ مِنَ الخَزِينةِ العُظمَى لِهذه الآيةِ الكَرِيمةِ، أي: يُبيِّنُ الجَوْهرَ الَّذي تَنطَوِي علَيه صُنَيدِيقةُ الذَّرّةِ، ويَتَناوَلُ جُزءًا ضَئِيلًا جِدًّا مِن حَرَكةِ الذَّرّةِ ووَظِيفَتِها؛ وذلك في نِقاطٍ ثَلاثٍ معَ مُقدِّمةٍ.
[مقدمة: تحولات الذرات هي حركات قلم القدرة في كتابة الآيات التكوينية]
المُقدِّمة
إنَّ تَحَوُّلاتِ الذَّرّاتِ وجَوَلانَها عِبارةٌ عنِ اهتِزازاتِ الذَّرّاتِ وتَنَقُّلِها في أَثناءِ كِتابةِ قَلَمِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ للآياتِ التَّـكوِينيّةِ في كِتابِ الكَونِ؛ فهي لَيسَت كما يَتَوهَّمُه المادِّيُّون والطَّبِيعيُّون مِن أنَّها أُلعُوبةُ المُصادَفةِ في حَرَكةٍ عَشْوائيّةٍ لا مَعنَى لها ولا مَغزَى، ذلك لأنَّ كلَّ ذَرّةٍ، وكلَّ الذَّرّاتِ تقُولُ في مَبدَأِ حَرَكَتِها: “بِاسمِ اللهِ” -كما تقُولُه جَمِيعُ المَوجُوداتِ- حيثُ إنَّها تَحمِلُ أَثقالًا هائِلةً تَفُوقُ كَثِيرًا طاقَتَها المُتَناهِيةَ، كحَمْلِ بِذْرةِ الصَّنَوبَرِ على أَكتافِها شَجَرَتَها الضَّخمةَ، ثمَّ عندَ انتِهاءِ وَظِيفَتِها تقُولُ: “الحَمدُ للهِ” حيثُ إنَّها أَظهَرَت أَثَرًا بَدِيعًا، كأنَّه يُنشِدُ قَصِيدةً رائِعةً في الثَّناء على الصّانِعِ الجَلِيلِ، لِما فيه مِن جَمالِ الإتقانِ الحَكِيمِ، ورَوعةِ صُورةٍ تَنِمُّ عن مَغزًى عَمِيقٍ تَتَحيَّـرُ مِنه العُقُولُ.
[الإمام المبين والكتاب المبين]
فإن شِئتَ فانظُرْ بإنعامٍ إلى الرُّمّانِ والذُّرَةِ. نعم، إنَّ تَحَوُّلاتِ الذَّرّاتِ وتَنَقُّلاتِها، عِبارةٌ عن حَرَكاتٍ واهتِزازاتٍ ذاتِ مَغزًى عَمِيقٍ، ناشِئةٍ مِن كِتابةِ كَلِماتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ ومَحْوِ تلك الكَلِماتِ في لَوحِ “المَحْوِ والإثباتِ” الَّذي هو حَقِيقةُ الزَّمانِ السَّيّالِ وصَحِيفَتُه المِثاليّةُ، استِنساخًا مِنَ الكِتابِ المُبِينِ الَّذي هو عُنوانٌ للقُدرةِ الإلٰهِيّةِ والإِرادةِ الرَّبّانيّةِ، ومِحْوَرُ التَّصَرُّفِ في إيجادِ الأَشياءِ وتَشكِيلِها مِن عالَمِ الشَّهادةِ والزَّمانِ الحاضِرِ، وَفْقًا لِدَساتيرِ الإمامِ المُبِينِ الَّذي هو جِماعُ مُقَوِّماتِ الأَشياءِ في أُصُولِها وفُرُوعِها -أي أَصلُ كلِّ شَيءٍ مَضَى وكلِّ نَسْلٍ آتٍ- الَّتي طَواها الغَيبُ، معَ مُمَيِّزاتِها، وعُنوانٌ لِعِلمِ اللهِ وأَمرِه5لقد ذُكِر في القرآنِ: “إمامٍ مُبينٍ” و”كتابٍ مُبينٍ” في عِدّةِ مَواضِعَ. وقال قسمٌ من المُفسِّرين: إنهما بمعنًى واحِدٍ. وقال آخَرون: معناهما مُختلِف. وفسَّروا حقيقَتَهما بوُجُوهٍ مُتَضارِبة. وخلاصةُ ما قالوه: إنهما عُنوانان للعِلمِ الإلٰهِيِّ.
ولقد حَصَل لي الِاطمئنانُ التامُّ والقناعةُ التامّةُ بفيضِ القرآن الكريم أنَّ: “الإمامَ المُبِينَ” عنوانٌ لنوعٍ من العلمِ الإلٰهِيِّ وأَمرِه، بحيث يَتَوجَّهُ إلى عالَمِ الغَيبِ أكثرَ ممّا يَتَوجَّهُ إلى عالَمِ الشَّهادة. أي إنَّه يَتَوجَّه إلى المَاضِي والمُستَقبَل أكثرَ مِن تَوَجُّهِه إلى الحَال والزَّمَن الحَاضِر.
وبِعبارةٍ أُخرى: إنَّه سِجِلٌّ للقَدَر الإلٰهِيِّ يَنظُر إلى أصلِ كلِّ شيءٍ وإلى نَسْلِه، إلى عُرُوقِه وإلى بُذُورِه، أكثرَ ممّا يَنظُر إلى وُجُودِه الظّاهِريّ. وقد أُثبِت وُجُودُ هذا السِّجِلِّ في “الكَلِمَة السَّادِسة والعِشرِين” وفي “حَاشِية الكَلِمَة العَاشِرة”.
نعم، إنَّ هذا الإمامَ المُبِينَ عُنوانٌ لنَوعٍ مِن عِلمِ اللهِ وأَمرِه، وهذا يعني أنَّ إنتاجَ مَبادِئِ الأشياءِ وجُذُورِها وأُصُولِها، للأشياء، في غايةِ الإبداعِ والإتقانِ، يَدُلُّ على أن ذلك التَّنظيمَ والإتقان إنَّما يَتِمّانِ وَفْقَ سِجِلِّ دَساتيرَ للعِلمِ الإلٰهِيِّ. كما أنَّ نتائِجَ الأشياء وأَنسالَها وبُذُورَها، سِجِلٌّ صغيرٌ للأَوامِرِ الإلٰهِيّةِ لكَونِها تتضمَّنُ بَرامِجَ ما سيأتي مِنَ المَوجُودات وفهارِسَه، فيَصِحُّ أن يُقالَ: إنَّ البِذرةَ -مثلًا- عبارةٌ عن بَرامِجَ وفَهارسَ مُجَسَّمةٍ مُصَغَّرةٍ لجميعِ ما يُنَظِّم تركيبَ الشَّجرة الضَّخمة، وللأَوَامِر التَكوِينيّة التي تُعَيِّنُ تلك التَّصاميمَ والفَهارِسَ وتُحَدِّدُها.
الحاصل أنَّ “الإمامَ المُبِينَ” هو في حُكمِ فِهْرِسِ وبَرنامَجِ شجرةِ الخَلْقِ، المُمتَدّةِ عُرُوقُها وأغصانُها وفروعُها حولَ الماضي والمُستقبَلِ وعالَمِ الغَيبِ. فـ”الإمامُ المُبِينُ” بهذا المعنى سِجِلّ للقَدَرِ الإلٰهِيِّ، وكُرّاسُ دَساتيرِه. والذَّرّاتُ تُساقُ إلى حَرَكاتِها ووَظائفِها في الأشياءِ بإملاءٍ مِن تلك الدَّساتيرِ وبحُكْمِها.
أمّا “الكِتابُ المُبِينُ” فهو يَتَوجَّه إلى عالَمِ الشَّهادة أكثرَ مِن تَوَجُّهِه إلى عالَمِ الغَيبِ، أي: يَنظُرُ إلى الزَّمانِ الحاضر أكثرَ ممّا يَنظُرُ إلى المَاضِي والمُستقبَل. فهو عنوانٌ للقُدرةِ الإلٰهِيّةِ والإرادةِ الرَّبّانيّةِ، وسِجِلٌّ لهما وكتابٌ، أكثرَ مِمَّا هو عُنوانٌ لِعِلمِ اللهِ وأَمرِه.
وبتعبيرٍ آخَرَ: إنَّه إذا كان “الإمامُ المُبِينُ” سِجِلًّا للقَدَر الإلٰهِيِّ فـ”الكتابُ المُبِينُ” سِجِلٌّ للقُدرةِ الإلٰهِيّة.
أي إنَّ الِانتِظامَ والإتقان في كلِّ شيءٍ، سواءٌ في وُجُودِه، في هُوِيَّتِه، في صِفاتِه، في شُؤُونِه يَدُلّانِ على أن الوُجُودَ يُضفى على الشَّيءِ وتُعيَّنُ له صُوَرُه، ويُشَخَّصُ مِقدارُه، ويُعطَى له شَكلُه الخاصُّ، بدَساتيرِ قُدرةٍ كاملةٍ وقَوانينِ إرادةٍ نافِذةٍ. فتلك القُدرةُ الإلٰهِيّةُ والإرَادة الإلٰهِيّةُ إذًا لهما قَوانينُ كُلِّيّةٌ وعُمُوميّةٌ مَحفُوظةٌ في سِجِلٍّ عظيمٍ، بحيثُ يُفصَّلُ ويُخاطُ ثَوبُ أَنماطِ الوُجُودِ الخاصِّ لكُلِّ شيءٍ ويُلبَسُ عليه ويُعطَى له صُوَرُه المَخصُوصةُ، وَفْقَ تلك القَوانينِ. وقد أُثبِت وُجُودُ هذا السِّجلِّ في رسالةِ “القَدَرُ الإلٰهِيُّ والجُزءُ الاختيارِيُّ” كما أُثبِت فيها “الإمامُ المُبِينُ“.
فانظُر إلى حَماقةِ الفَلاسِفةِ وأربابِ الضَّلالة والغَفلة! فلقد شَعَرُوا بوُجُودِ اللَّوحِ المَحفُوظ للقُدرةِ الإلٰهِيّة الفَاطِرة، وأَحَسُّوا بمَظاهِر ذَلك الكِتابِ البَصيرِ للحِكمةِ الرَّبّانيّة، والإرَادةِ الإلٰهِيّةِ النّافِذةِ في الأشياء، ولَمَسُوا صُوَرَه ونَماذِجَه، إلّا أنَّهم أَطلَقوا عليه اسمَ “الطَّبيعة” -حاشَ لله- فأَخمَدُوا نُورَه.
وهكذا، بإملاءٍ مِن الإمامِ المُبِينِ، أي: بحُكمِ القَدَر الإلٰهِيِّ ودُستُورِه النّافِذ، تَكتُبُ القُدرةُ الإلٰهِيّةُ -في إيجادِها- سِلسِلةَ المَوجُوداتِ التي كلٌّ مِنها آيةٌ، وتُوجِد وتُحَرِّكُ الذَّرّاتِ في لَوحِ “المَحْوِ والإثباتِ” الَّذي هو الصَّحِيفةُ المِثاليةُ للزَّمان.
أي إنَّ حَرَكاتِ الذَّرّاتِ إنَّما هي اهتِزازاتٌ وحَرَكاتٌ في أثناءِ عُبُورِ المَوجُوداتِ، مِن تلك الكِتابةِ، ومِن ذلك الِاستِنساخِ، ومِن عالَمِ الغَيبِ، إلى عالَمِ الشَّهادة، أي: مِن العِلمِ إلى القُدرةِ.
أمّا “لَوحُ المَحْوِ والإثباتِ” فهو سِجِلٌّ مُتَبدِّلٌ للَّوحِ المَحفُوظِ الأَعظمِ الثّابتِ الدّائمِ، ولَوحةُ “كتابةٍ ومَحْوٍ” في دائرةِ المُمكِناتِ، أي هو سِجِلٌّ للأشياءِ المُعرَّضةِ دَومًا إلى المَوتِ والحياةِ، إلى الفَناءِ والوُجُودِ. بحيث إنَّ حقيقةَ الزَّمان هو هذا. نعم، فكما أنَّ لكلِّ شيءٍ حَقيقةً، فحقيقةُ ما نُسمِّيه بالزَّمان الذي يَجرِي جَرَيانَ النَّهرِ العظيمِ في الكَونِ هي في حُكمِ صَحِيفةٍ ومِدادٍ لكِتاباتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ في لَوحِ المَحْوِ والإثباتِ. ولا يَعلَمُ الغَيبَ إلّا الله..
[النقطة الأولى: حول حركة الذرة]
النُّقطة الأولى
وهي مَبحَثَان
[المبحث الأول: في كل ذرّة نوران للتوحيد]
المَبحثُ الأوَّل:
إنَّ في حَرَكةِ كلِّ ذَرّةٍ وفي سُكُونِها يَتَلمَّعُ نُورانِ للتَّوحيدِ، كأنَّهما شَمسانِ ساطِعَتانِ.
ولقد أَثبَتْنا بيَقِينٍ إثباتًا مُجمَلًا في الإشارةِ الأُولَى مِنَ “الكَلِمةِ العاشِرةِ” وفَصَّلْناه في “الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِين” أنَّ كلَّ ذَرّةٍ مِنَ الذَّرّاتِ إن لم تكُن مَأْمُورةً بأَوامِرِ اللهِ تَعالَى، وإن لم تَتَحرَّكْ بإذنِه وفِعلِه، وإن لم تَتَحوَّلْ بعِلمِه وقُدرَتِه، فلا بُدَّ أن يكُونَ لكُلِّ ذَرّةٍ عِلمٌ لا نِهايةَ له، وقُدرةٌ لا حَدَّ لها، وبَصَرٌ يَرَى كلَّ شيءٍ، ووَجهٌ يَتَوجَّهُ إلى كلِّ شيءٍ، وأَمرٌ نافِذٌ في كلِّ شيءٍ.
لأنَّ كلَّ ذَرّةٍ مِن ذَرّاتِ العَناصِرِ، تَعمَلُ -أو يُمكِنُ أن تَعمَلَ- عَمَلًا مُنتَظِمًا في جِسمِ كلِّ كائِنٍ حَيٍّ، عِلْمًا أنَّ أَنظِمةَ الأَشياءِ وقَوانِينَ تَراكِيبِها مُخالِفٌ بعضُها بعضًا، ولا يُمكِنُ عَمَلُ شيءٍ ما لم تُعلَمْ أَنظِمَتُه، وحتَّى لو قامَتِ الذَّرّةُ بعَمَلٍ فلا يَخلُو مِن خَطَأٍ. والحالُ أنَّ الأَعمالَ تُنجَزُ مِن دُونِ خَطَأٍ. فإذًا إمّا أنَّ تلك الذَّرّاتِ العامِلةَ تَعمَلُ وَفقَ أَوامِرِ مَن يَملِكُ عِلمًا مُحِيطًا بكلِّ شيءٍ، وبإذنِه، وبعِلمِه، وبإرادَتِه.. أو يَنبَغي أن يكُونَ لها مِثلُ ذلك العِلمِ المُحِيطِ والقُدرةِ المُطلَقةِ!
ثمَّ إنَّ كلَّ ذَرّةٍ مِن ذَرّاتِ الهَواءِ، تَستَطِيعُ أن تَدخُلَ في جِسمِ كلِّ كائِنٍ حَيٍّ، وفي ثَمَرةِ كلِّ زَهرةٍ، وفي بِناءِ كلِّ وَرَقةٍ، وتَعمَلَ في كلٍّ مِنها؛ عِلْمًا أنَّ بِناءَ كلٍّ مِنها يُخالِفُ الآخَرَ ونِظامَه يُبايِنُ الآخَرَ، فلو كان مَعمَلُ ثَمَرةِ التِّينِ -مَثلًا- شَبِيهًا بمَعمَلِ النَّسِيجِ، لَكانَ مَعمَلُ ثَمَرةِ الرُّمَّانِ شَبِيهًا بمَعمَلِ السُّكَّرِ. فتَصامِيمُ كلٍّ مِنهُما، وبِناءُ كلٍّ مِنهُما مُخالِفٌ للآخَرِ.
فهذه الذَّرّاتُ الهَوائيّةُ تَدخُلُ في كلٍّ مِنها -أو تَستَطِيعُ الدُّخُولَ- وتَعمَلُ بمَهارةٍ فائِقةٍ وبحِكمةٍ تامّةٍ، وتَتَّخِذُ فيها أَوْضاعًا مُعَيَّنةً، ثمَّ حالَما تَنتَهِي وَظِيفَتُها تَتْرُكُها ماضِيةً إلى شَأْنِها.
وهكذا، فالذَّرّةُ المُتَحرِّكةُ في الهَواءِ المُتَحرِّكِ: إمّا أنَّها تَعلَمُ الصُّوَرَ الَّتي أُلبِسَتْ على الحَيَواناتِ والنَّباتاتِ، وعلى ثَمَراتِها وأَزاهِيرِها، وتَعلَمُ أيضًا مَقادِيرَ كلٍّ مِنها وأَنماطَ تَصامِيمِها! أو أنَّ تلك الذَّرّةَ مَأْمُورةٌ بأَمرِ مَن يَعلَمُ ذلك كُلَّه وعامِلةٌ بإرادَتِه.
وكذا كلُّ ذَرّةٍ ساكِنةٍ في التُّرابِ السّاكِنِ الهادِئِ، فهي مُتَهيِّئةٌ لِتَكُونَ مَنبَتًا لِجَمِيعِ بُذُورِ النَّباتاتِ المُزهِرةِ والأَشجارِ المُثمِرةِ؛ إذ لو أُلقِيَتْ تلك البُذُورُ في حَفْنةِ تُرابٍ -المُتَـكوِّنةِ مِن ذَرّاتٍ مُتَماثِلةٍ كأنَّها ذَرّةٌ واحِدةٌ- فإمّا أنَّها تَجِدُ مَصْنَعًا خاصًّا بها، معَ ما يَحتاجُه بِناؤُها مِن لَوازِمَ ومُعَدّاتٍ، أي: أن تكُونَ في تلك الحَفْنةِ مِنَ التُّرابِ مَعامِلُ مَعنَوِيّةٌ دَقِيقةٌ عَدِيدةٌ، عَدَدَ أَنواعِ النَّباتاتِ والأَشجارِ والأَثمارِ.! أو أن يكُونَ هناك عِلمٌ واسِعٌ وقُدرةٌ مُحِيطةٌ بكُلِّ شيءٍ، تُبدِعُ كلَّ شَيءٍ مِنَ العَدَمِ.. أو أنَّ تلك الأَعمالَ إنَّما تَتِمُّ بحَولِ وقُوّةِ اللهِ القَدِيرِ على كلِّ شيءٍ والعَلِيمِ بكلِّ شيءٍ.
لو سافَرَ شَخصٌ إلى أَورُوبّا، وهو جاهِلٌ بوَسائلِ الحَضارةِ جَهْلًا مُطْبِقًا، وعَلاوةً على ذلك فهو أَعمَى لا يُبصِرُ، ولو دَخَل هناك إلى جَمِيعِ المَعامِلِ والمَصانِعِ، وأَنجَزَ أَعمالًا بَدِيعةً في كلِّ صُنُوفِ الصِّناعةِ وفي أَنواعِ الأَبنِيةِ، بانتِظامٍ كامِلٍ وحِكمةٍ فائِقةٍ ومَهارةٍ بارِعةٍ تَحَيَّـرَت مِنها العُقُولُ.. فلا شَكَّ أنَّ مَن له ذَرّةٌ مِنَ الشُّعُورِ يَعرِفُ يَقِينًا أنَّ ذلك الرَّجُلَ لا يَعمَلُ ما يَعمَلُ مِن تِلقاءِ نَفسِه، بل هناك أُستاذٌ عَلِيمٌ يُلَقِّنُه ويَستَخدِمُه.
وأَيضًا لو كان هُناك عاجِزٌ، أَعمَى، مُقعَدٌ، قابعٌ في كُوخِه الصَّغِيرِ، لا يُحرِّكُ ساكِنًا؛ أُدخِلَ علَيه قَليلٌ مِن حَصْوٍ، وقِطَعٌ مِن عَظْمٍ، وشيءٌ يَسِيرٌ مِن قُطْنٍ، وإذا بالكُوخِ الصَّغِيرِ تَصدُرُ مِنه أَطنانٌ مِنَ السُّكَّرِ، وأَطوالٌ مِنَ النَّسِيجِ، وآلافٌ مِن قِطَعِ الجَواهِرِ، معَ مَلابِسَ في أَبْهَى زِينةٍ وأَفخَرِ نَوعٍ، معَ أَطعِمةٍ طَيِّبةٍ في مُنتَهَى اللَّذّةِ.. أفلا يقُولُ مَن له ذَرّةٌ مِنَ العَقلِ: إنَّ ذلك الأَعمَى المُقعَدَ ما هو إلّا حارِسٌ ضَعِيفٌ لِمَصنَعٍ مُعجِزٍ، وخادِمٌ لَدَى صاحِبِه ذِي المُعجِزاتِ؟
كذلك الأَمرُ في حَرَكاتِ ذَرّاتِ الهَواءِ ووَظائفِها في النَّباتاتِ والأَشجارِ والأَزهارِ والأَثمارِ، الَّتي كُلٌّ مِنها كِتابةٌ إلٰهِيّةٌ صَمَدانيّةٌ، ورائِعةٌ مِن رَوائِعِ الصَّنْعةِ الرَّبّانيّةِ، ومُعجِزةٌ مِن مُعجِزاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ، وخارِقةٌ مِن خَوارِقِ الحِكْمةِ الإلٰهِيّةِ؛ فلا تَتَحرَّكُ تلك الذَّرّاتُ ولا تَنتَقِلُ مِن مَكانٍ إلى آخَرَ إلّا بأَمْرِ الصّانِعِ الحَكِيمِ ذِي الجَلالِ وبإرادةِ الفاطِرِ الكَرِيمِ ذِي الجَمالِ.
وقِسْ على هذا ذَرّاتِ التُّرابِ الَّذي هو مَنبَتٌ لِسَنابِلِ البُذُورِ والنُّوَى، الَّتي كلٌّ مِنها في حُكْمِ ماكِنةٍ عَجِيبةٍ تَختَلِفُ عنِ الأُخرَى، ومَطبَعةٍ مُغايِرةٍ للأُخرَى، وخَزِينةٍ مُتَبايِنةٍ عنِ الأُخرَى، ولَوحةِ إعلانٍ تُعلِنُ أَسماءَ اللهِ الحُسنَى مُتَميِّزةً عنِ الأُخرَى، وقَصِيدةٍ عَصْماءَ تُثنِي على كَمالاتِه جَلَّ وعَلا. ولا شَكَّ أنَّ هذه البُذُورَ البَدِيعةَ ما أَصبَحَت مَنشَأً لتلك الأَشجارِ والنَّباتاتِ إلّا بأَمرِ اللهِ المالِكِ لِأَمرِ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾،كلُّ شيءٍ مُسَخَّرٌ لِأَمرِه، ولا يَعمَلُ إلّا بإذنِه وإرادَتِه وقُوَّتِه.. وهذا يَقِينٌ وثابِتٌ قَطْعًا.. آمَنّا.
[المبحث الثاني: ما تنطوي عليه حركات الذرات من وظائف وحكم]
المَبحثُ الثاني:
هذا المَبحَثُ عِبارةٌ عن إشارةٍ بَسِيطةٍ إلى ما في حَرَكاتِ الذَّرّاتِ مِن وَظائِفَ وحِكَمٍ.
إنَّ المادِّيِّين الَّذين انحَدَرَت عُقُولُهم إلى عُيُونِهم، فلا يَرَوْن إلّا المادّةَ، يَرَوْن بحِكْمَتِهمُ الخاليةِ مِنَ الحِكمةِ وبفَلسَفَتِهمُ المَبنِيّةِ على أَساسِ العَبَثِ في الوُجُودِ، أنَّ تَحَوُّلاتِ الذَّرّاتِ مَربُوطةٌ بالمُصادَفةِ، حتَّى اتَّخَذُوها قاعِدةً مُقَرَّرةً لِدَساتيرِهم كُلِّها، جاعِلِين مِنها مَصدَرَ إيجادٍ للمَخلُوقاتِ الرَّبّانيّةِ!
فالَّذي يَملِكُ ذَرّةً مِنَ الشُّعُورِ يَعلَمُ يَقِينًا مَدَى بُعدِهم عن مَنطِقِ العَقلِ، في إسنادِهم هذه المَخلُوقاتِ المُزدانةِ بحِكَمٍ غَزِيرةٍ، إلى شيءٍ مُختَلِطٍ عَشْوائيٍّ لا حِكْمةَ فيه ولا مَعنَى.
أمّا المَنظُورُ القُرآنِيُّ وحِكْمَتُه، فإنَّه يَرَى أنَّ تَحَوُّلاتِ الذَّرّاتِ لها حِكَمٌ كَثِيرةٌ جِدًّا وغاياتٌ لا تُحصَى ووَظائِفُ لا تُحَدُّ، تُشِيرُ إلَيها الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾ وأَمثالُها مِنَ الآياتِ الكَثِيرةِ.
ونحنُ هنا نُشِيرُ إلى بِضْعٍ مِنها فقط، على سَبِيلِ المِثالِ:
[الأولى: تجديد تجليات الإيجاد في الوجود]
أُولاها: إنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى، لِأَجلِ تَجدِيدِ تَجَلِّياتِ الإيجادِ في الوُجُودِ، يُحَرِّكُ الذَّرّاتِ ويُسَخِّرُها بقُدرَتِه، جاعِلًا مِن كلِّ رُوحٍ واحِدةٍ “نَمُوذَجًا”، يُلبِسُها جَسَدًا جَدِيدًا مِن مُعجِزاتِ قُدرَتِه في كلِّ سَنةٍ، ويَستَنسِخُ مِن كلِّ كِتابٍ فَرْدٍ بحِكمَتِه التَّامّةِ آلافَ الكُتُبِ المُتَنوِّعةِ، ويُظهِرُ حَقِيقةً واحِدةً في أَنماطٍ مُختَلِفةٍ وصُوَرٍ شَتَّى، ويُفسِحُ المَجالَ ويُعِدُّ المَكانَ لِوُرُودِ أَكوانٍ جَدِيدةٍ وعَوالِمَ جَدِيدةٍ ومَوجُوداتٍ جَدِيدةٍ، طائِفةً إثرَ طائِفةٍ.
[الثانية: إبراز معجزات القدرة وهدايا الرحمة]
ثانيتُها: إنَّ مالِكَ المُلْكِ ذا الجَلالِ، قد خَلَق هذه الدُّنيا، ولا سِيَّما وَجْهَ الأَرضِ، على هَيئةِ مَزرَعةٍ واسِعةٍ، أي: مَهَّدَها لِتَكُونَ قابِلةً لِنُمُوِّ مَحاصِيلِ المَوجُوادتِ ونُشُوئِها، وظُهُورِها بجِدَّتِها وطَراوَتِها، أي: لِيَزرَعَ فيها مُعجِزاتِ قُدرَتِه غيرِ المُتَناهِيةِ ويَحصِدَها؛ ففي مَزرَعَتِه الشّاسِعةِ هذه الَّتي هي بِسَعةِ سَطْحِ الأَرضِ، يُبْرِزُ سُبحانَه مِن مُعجِزاتِ قُدرَتِه كائِناتٍ جَدِيدةً، في كلِّ عَصرٍ، في كلِّ فَصلٍ، في كلِّ شَهرٍ، في كلِّ يومٍ، بل في كلِّ ساعةٍ، فيُعطِي ساحةَ الأَرضِ مَحاصِيلَ مُتَنوِّعةً جَدِيدةً، بتَحرِيكِ الذَّرّاتِ بحِكْمةٍ تامّةٍ وتَوظِيفِها بنِظامٍ مُتقَنٍ، مُبيِّنًا سُبحانَه وتَعالَى بحَرَكاتِ الذَّرّاتِ هذه هَدايا رَحمَتِه الصّادِرةَ مِن خَزِينَتِه الَّتي لا تَنضُبُ، ونَماذِجَ مُعجِزاتِ قُدرَتِه الَّتي لا تَنفَدُ.
[الثالثة: تكثير المعاني المعبرة عن شؤون الأسماء الإلهية]
ثالثَتُها: إنَّه سُبحانَه وتَعالَى يُحَرِّكُ الذَّرّاتِ بحِكمةٍ تامّةٍ ويُسَخِّرُها في وَظائِفَ مُنَظَّمةٍ لِأَجلِ إظهارِ بَدائِعِ المَوجُوداتِ كي تُفْصِحَ الأَسماءُ الحُسنَى عن مَعاني تَجَلِّياتِها غيرِ المُتَناهِيةِ؛ فيُخرِجُ سُبحانَه في مكانٍ مَحدُودٍ ما لا يُحَدُّ مِن بَدائِعِ الصُّوَرِ الدّالّةِ على تلك التَّجَلِّياتِ غيرِ المَحدُودةِ، ويَكتُبُ في صَحِيفةٍ ضَيِّقةٍ آياتٍ تَكوِينيّةً لا حَدَّ لها، تُعَبِّـرُ عن مَعانٍ سامِيةٍ غيرِ مَحدُودةٍ.
نعم، إنَّ مَحاصِيلَ السَّنةِ الماضِيةِ ونَتائِجَها مِنَ المَوجُوداتِ، ومَحاصِيلَ هذه السَّنةِ ونَتائِجَها، مِن حَيثُ الماهِيّةُ، في حُكمٍ واحِدٍ، إلّا أنَّ مَعانِيَها ومَدلُولاتِها مُتَبايِنةٌ جِدًّا، إذ بِتَبَدُّلِ التَّعَيُّناتِ الِاعتِبارِيّةِ تَتَبدَّلُ مَعانِيها وتَكثُرُ وتَزدادُ؛ ومعَ أنَّ التَّعَيُّناتِ الِاعتِبارِيّةَ والتَّشَخُّصاتِ المُؤَقَّتةَ تُبَدَّلانِ، وهما فانيَتانِ في الظّاهِرِ، إلّا أنَّ مَعانِيَها الجَمِيلةَ يُحافَظُ علَيها وتَستَمِرُّ وتَبقَى وتَثبُتُ. فأَوراقُ هذه الشَّجَرةِ وأَزاهِيرُها وثَمَراتُها الَّتي كانَت في الرَّبيعِ الماضِي -لأَنَّها لا تَحمِلُ رُوحًا كالإنسانِ- هي عَينُ أَمثالِها في هذا الرَّبيعِ، إذا نُظِرَ إلَيها مِن زاوِيةِ الحَقِيقةِ، إلّا أنَّ الفَرقَ هو في التَّشَخُّصاتِ الِاعتِبارِيّةِ.. هذه التَّشَخُّصاتُ أَتَت إلى هذا الرَّبيعِ، لِتَحُلَّ مَحَلَّ تَشَخُّصاتِ سابِقَتِها، وذلك للإفادةِ عن مَعانِي شُؤُونِ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الَّتي تَتَجدَّدُ تَجَلِّياتُها باستِمرارٍ.
[الرابعة: إنتاج محاصيل معنوية لعوالم أخرى]
رابعَتُها: إنَّ الحَكِيمَ ذا الجَلالِ يُحَرِّكُ الذَّرّاتِ في مَزرَعةِ هذه الدُّنيا الضَّيِّقةِ ويَنسُجُها في مَصنَعِ الأَرضِ، جاعِلًا الكائناتِ سَيّالةً والمَوجُوداتِ سَيّارةً، وذلك لِأَجلِ إعدادِ ما يُناسِبُ مِن لَوازِمَ أو تَزيِيناتٍ أو مَحاصِيلَ لِعَوالِمَ واسِعةٍ لا حَدَّ لها، كعالَمِ المِثالِ وعالَمِ المَلَكُوتِ الواسِعِ جِدًّا وسائِرِ عَوالِمِ الآخِرةِ غيرِ المَحدُودةِ. فيُهَيِّئُ سُبحانَه في هذه الأَرضِ الصَّغِيرةِ، مَحاصِيلَ ونَتائِجَ مَعنَوِيّةً كَثِيرةً جِدًّا، لتلك العَوالِمِ الكَبِيرةِ الواسِعةِ جِدًّا. ويُجرِي مِنَ الدُّنيا سَيْلًا لا نِهايةَ له يَنبُعُ مِن خَزِينةِ قُدرَتِه المُطلَقةِ ويَصُبُّه في عالَمِ الغَيبِ، ويَصُبُّ قِسمًا مِنه في عوالِمِ الآخِرةِ.
[الخامسة: إطهار الكمالات الإلهية والجلوات الجمالية]
خامسَتُها: يُحَرِّكُ سُبحانَه وتَعالَى الذَّرّاتِ بقُدرَتِه في حِكمةٍ تامّةٍ ويُسَخِّرُها في وَظائِفَ مُنتَظِمةٍ إظهارًا لِكَمالاتٍ إلٰهِيّةٍ لا نِهايةَ لها، وجَلَواتٍ جَماليّةٍ لا حَدَّ لها، وتَجَلِّياتٍ جَلاليّةٍ لا مُنتَهَى لها، وتَسبِيحاتٍ رَبَّانيّةٍ لا عَدَّ لها، في هذه الأَرضِ الضَّيِّقةِ المَحدُودةِ، وفي زَمانٍ قَليلٍ مُتَناهٍ؛ فيَجعَلُ سُبحانَه وتَعالَى المَوجُوداتِ تُسَبِّحُ تَسبِيحاتٍ غيرَ مُتَناهِيةٍ في زَمانٍ مُتَناهٍ وفي مكانٍ مَحدُودٍ، مُبيِّنًا بذلك تَجَلِّياتِه الجَماليّةَ والكَماليّةَ والجَلاليّةَ المُطلَقةَ، مُوجِدًا كَثِيرًا مِنَ الحَقائِقِ الغَيبِيّةِ، وكَثِيرًا مِنَ الثَّمَراتِ الأُخرَوِيّةِ، وكَثِيرًا مِنَ البَدائِعِ المِثاليّةِ -لِصُوَرِ الفانِينَ وهُوِيّاتِهمُ الباقيةِ- وكَثِيرًا مِن نَسائِجَ لَوْحِيّةٍ حَكِيمةٍ. فالَّذي يُحَرِّكُ الذَّرّاتِ، ويُبْرِزُ هذه المَقاصِدَ العَظِيمةَ، وهذه الحِكَمَ الجَسِيمةَ، إنَّما هو الواحِدُ الأَحَدُ، وإلّا فيَجِبُ أن تكُونَ لكُلِّ ذَرّةٍ عَقْلٌ بكِبَرِ الشَّمسِ!
وهكذا، فهُناك أَمثِلةٌ كَثِيرةٌ جِدًّا على تَحَوُّلاتِ الذَّرّاتِ الَّتي تُحَرَّكُ بحِكمةٍ بالِغةٍ، كهذه النَّماذِجِ الخَمسةِ، بل رُبَّما تَربُو على خَمسةِ آلافِ مِثالٍ. إلّا أنَّ أُولَئك الفَلاسِفةَ الحَمْقَى قد ظَنُّوها خاليةً مِنَ الحِكمةِ! فقد زَعَمُوا أنَّ الذَّرّاتِ في حَرَكَتَيها الَّتي تَتَحرَّكُ بهما في نَشْوةٍ وجَذْبٍ رَبّانِيٍّ، أَحَدُهما -في الحَقِيقةِ- آفاقيٌّ والآخَرُ أَنفُسِيٌّ، والمُستَغرِقةُ في ذِكرٍ وتَسبِيحٍ إلٰهِيٍّ كالمُرِيدِ المَوْلَوِيِّ إنَّما تقُومُ بها مِن تِلْقاءِ نَفسِها، وتَرقُصُ ذاهِلةً وتَدُورُ.
نَخلُصُ مِن هذا: أنَّ عِلمَ أُولَئِك الفَلاسِفةِ ليس عِلْمًا، بل جَهْلٌ؛ وأنَّ حِكْمَتَهم سَخافةٌ وخاليةٌ مِنَ الحِكْمةِ!
[السادسة: تنوير الذرات وبث الحياة فيها لتبني العالم الأخروي]
(سنَذكُرُ في النُّقطةِ الثّالثةِ حِكمةً أُخرَى مُطَوَّلةً هي السّادِسةُ).
[النقطة الثانية: في كل ذرة شاهدان على وجود الله ووحدانيته]
النُّقطة الثانية: إنَّ في كلِّ ذَرّةٍ شاهِدَينِ صادِقَينِ على وُجُودِ اللهِ سُبحانَه، وعلى وَحْدانيَّتِه.
[شاهد الوظيفة الجسيمة]
أَجَل، إنَّ الذَّرّةَ بقِيامِها بوَظائِفَ جَسِيمةٍ جِدًّا، وحَمْلِها لِأَعباءٍ ثَقِيلةٍ جِدًّا تَفُوقُ طاقَتَها، في مُنتَهَى الشُّعُورِ، رَغمَ عَجْزِها وجُمُودِها، تَشهَدُ شَهادةً قاطِعةً على وُجُودِ اللهِ سُبحانَه؛ وإنَّها تَشهَدُ شَهادةً صادِقةً أيضًا على وَحْدانيّةِ اللهِ وأَحَدِيّةِ مالِكِ المُلكِ والمَلَكُوتِ، بتَنسِيقِ حَرَكاتِها وانسِجامِها معَ النِّظامِ العامِّ الجارِي في الكَونِ ومُراعاتِها النِّظامَ حَيثُما حَلَّت، وتَوَطُّنِها هناك كأنَّه مَوطِنُها. أي: لِمَن تَعُودُ مُلكِيّةُ الذَّرّةِ؟ فجَمِيعُ أَماكِنِ جَوَلانِها مُلكُه وتَعُودُ إلَيه، بمَعنَى أنَّ مَن كانَت له فإنَّ جَمِيعَ الأَماكِنِ الَّتي تَسِيرُ فيها له أَيضًا.
أي إنَّ الذَّرّةَ لِكَونِها عاجِزةً، وعِبْؤُها ثَقِيلٌ جِدًّا، ووَظائِفُها كَثِيرةٌ لا تُحَدُّ، يَدُلُّ ذلك على أنَّها قائِمةٌ ومُتَحرِّكةٌ باسمِ قَدِيرٍ مُطلَقِ القُدرةِ وبأَمْرِه.
[شاهد الاتساق والعلاقة مع سائر عناصر المنظومة]
ثمَّ إنَّ تَوفِيقَ حَرَكَتِها وجَعْلَها مُنسَجِمةً معَ الأَنظِمةِ العامّةِ الكُلِّيّةِ في الكَونِ، وكأنَّها على عِلْمٍ بها، ودُخُولَها إلى كلِّ مَكانٍ دُونَ مانِعٍ يَمنَعُها، يَدُلُّ على أنَّها تَعمَلُ ما تَعمَلُ بقُدرةِ واحِدٍ عَلِيمٍ مُطلَقِ العِلمِ وبحِكْمَتِه الواسِعةِ.
نعم، إنَّ الجُندِيَّ له عَلاقةٌ وانتِسابٌ معَ كلٍّ مِن فَصِيلِه، وسَرِيَّتِه، وفَوْجِه، ولِوائِه، وفِرْقَتِه، كما أنَّ له في كلٍّ مِنها وَظِيفةً مُعَيَّنةً على قَدْرِ تلك العَلاقةِ، وأنَّ تَنسِيقَ الحَرَكةِ والِانسِجامَ معَ كلِّ هذه العَلاقاتِ والِارتِباطاتِ بمَعرِفَتِها ومَعرِفةِ وَظائِفِها في كلِّ دائِرةٍ، معَ القِيامِ بواجِباتٍ عَسكَرِيّةٍ مِن تَدرِيبٍ وأَخْذٍ للتَّعلِيماتِ حَسَبَ أَنظِمَتِها.. كلُّ ذلك إنَّما يكُونُ بالِانقِيادِ إلى أَوامِرِ القائِدِ الأَعظَمِ الَّذي يقُودُ تلك الدَّوائِرَ كُلَّها، واتِّباعِ قَوانينِه.
فكَما أنَّ الأَمرَ هكذا في الجُندِيِّ الفَرْدِ، كذلك كلُّ ذَرّةٍ مِنَ الذَّرّاتِ الدّاخِلةِ في المُرَكَّباتِ المُتَداخِلِ بعضُها في بعضٍ، لها أَوضاعٌ مُلائِمةٌ في كلٍّ مِنها، ومَواقِعُ مُتَناسِبةٌ تَنبَنِي علَيها مَصالِحُ مُتَنوِّعةٌ، ووَظائِفُ مُنتَظِمةٌ شَتَّى، ونَتائِجُ مُتَبايِنةٌ ذاتُ حِكمةٍ، فلا بُدَّ أنَّ تَوطِينَ تلك الذَّرّةِ بينَ تلك المُرَكَّباتِ، تَوْطِينًا لا يُخِلُّ بالنَّتائِجِ والحِكَمِ النّاشِئةِ مِن تلك النِّسَبِ والوَظائِفِ، معَ الحِفاظِ على جَمِيعِ النِّسَبِ والوَظائِفِ، خاصٌّ بمالِكِ المُلكِ الَّذي بِيَدِه مَقاليدُ كلِّ شيءٍ.
فمَثلًا: إنَّ الذَّرّةَ المُستَقِرّةَ في بُؤبُؤِ عَينِ “تَوفيق”6المُدوِّن الأوَّل لرِسَائل النُّورِ. لها عَلاقةٌ معَ أَعصابِ العَينِ الحَرَكِيّةِ والحِسِّيّةِ، ومعَ الشَّرايِينِ والأَورِدةِ الَّتي فيها، ومعَ الوَجهِ، والرَّأسِ، ثمَّ معَ الجِسمِ، ومعَ الإنسانِ ككُلٍّ؛ فَضْلًا عن أنَّ لها في كلٍّ مِنها وَظِيفةً وفائِدةً.
فوُجُودُ تلك النِّسَبِ في كلٍّ مِنها، والعَلاقاتُ والفَوائِدُ، معَ الحِكْمةِ الكامِلةِ والإتقانِ التّامِّ يُبيِّنُ أنَّ الَّذي خَلَق ذلك الجَسَدَ بجَمِيعِ أَعضائِه، هو الَّذي يُمكِنُه أن يُمَكِّن تلك الذَّرّةَ في ذلك المَكانِ، ولا سِيَّما الذَّرّاتِ الآتِيةَ للرِّزقِ؛ فتلك الذَّرّاتُ الَّتي تَسِيرُ معَ قافِلةِ الرِّزقِ وتُسافِرُ معَها، إنَّما تَسِيرُ بانتِظامٍ وتَسِيحُ بحِكْمةٍ تُحَيِّـرُ العُقُولَ، ثمَّ تَدخُلُ في أَطْوارٍ مُختَلِفةٍ، وتَجُولُ في طَبَقاتٍ مُتَنوِّعةٍ بنِظامٍ دَقِيقٍ، فتَخْطُو خُطُواتٍ ذاتَ شُعُورٍ، مِن دُونِ أن تُخطِئَ، حتَّى تَأْتِيَ تَدرِيجِيًّا إلى الجِسمِ الحَيِّ، وتُصَفَّى هناك في أَربَعِ مَصافٍ فيه، إلى أن تَصِلَ إلى الأَعضاءِ والحُجَيْراتِ المُحتاجةِ إلى الرِّزقِ، فتُمِدُّها به، وتُسعِفُها بقانُونِ الكَرَمِ مَحمُولةً على الكُرَيّاتِ الحَمْراءِ في الدَّمِ.
يُفهَمُ مِن هذا بَداهةً أنَّ الَّذي أَمَر هذه الذَّرّاتِ مِن خِلالِ آلافِ المَنازِلِ المُختَلِفةِ والطَّبَقاتِ المُتَبايِنةِ، وساقَها هكذا بحِكمةٍ، لا بُدَّ وبلا أَدنَى شَكٍّ هو رَزّاقٌ كَرِيمٌ، خَلّاقٌ رَحِيمٌ، تَتَساوَى أَمامَ قُدرَتِه النُّجُومُ والذَّرّاتُ.
[الاتساق دليل المأمورية]
ثمَّ إنَّ كلَّ ذَرّةٍ مِنَ الذَّرّاتِ تقُومُ بعَمَلِ صُورةٍ بَدِيعةٍ ونَقشٍ رائِعٍ في المَخلُوقِ بحَيثُ إمّا أنَّها في مَوقِعِ حاكِمٍ مُسَيطِرٍ على كلِّ ذَرّةٍ مِنَ الذَّرّاتِ وعلى مَجمُوعِها، ومَحكُومةٍ في الوَقتِ نَفسِه تحتَ أَمرِ كُلِّ ذَرّةٍ مِنَ الذَّرّاتِ وأَمرِ مَجمُوعِها، وأنَّها تَمْلِكُ مَعرِفةً كامِلةً، بالصُّورةِ البَدِيعةِ المُحَيِّرةِ للأَلبابِ والنَّقشِ الرّائِعِ المَلِيءِ بالحِكْمةِ، فتُوجِدُها! وهذا مُحالٌ بأَلفِ مُحالٍ.. أو أنَّها نُقطةٌ مَأْمُورةٌ بالحَرَكةِ نابِعةٌ مِن قَلَمِ قُدرةِ اللهِ سُبحانَه وقانُونِ قَدَرِه.
[مثال أحجار القبة]
فمَثلًا: إنَّ الأَحجارَ المَوجُودةَ في قُبّةِ “آياصُوفْيا” إن لم تكُن مُطِيعةً لِأَمرِ بَنّائِها، يَنبَغي أن يكُونَ كلُّ حَجَرٍ مِنها ماهِرًا في صَنعةِ البِناءِ كـ”المِعْمارِيِّ سِنان” نَفسِه، ويكُونَ حاكِمًا على الأَحجارِ الأُخرَى ومَحكُومًا بأَمرِها في الوَقتِ نَفسِه، أي: يُمكِنُه أن يَحكُمَ الأَحجارَ الأُخرَى فيقُولَ لها: “هَيّا أَيَّتُها الأَحجارُ، لِنَتَّحِدْ حتَّى نَحُولَ دُونَ سُقُوطِنا”! وكذلك الأَمرُ في الذَّرّاتِ المَوجُودةِ في المَخلُوقاتِ، الَّتي هي أَكثَرُ إبداعًا، وأَكثَرُ إتقانًا وأَكثَرُ رَوْعةً وأَكثَرُ إثارةً للإعجابِ، وأَكثَرُ حِكْمةً مِن قُبّةِ “آياصُوفْيا” بآلافِ المَرّاتِ؛ إن لم تكُن هذه الذَّرّاتُ مُنقادةً لِأَمرِ الخالِقِ العَظِيمِ، خالِقِ الكَونِ، فيَنبَغي إذًا أن يُعطَى لكُلٍّ مِنها أَوصافُ الكَمالِ الَّتي لا تَلِيقُ إلّا باللهِ سُبحانَه.
فيا سُبحانَ اللهِ! ويا لَلعَجَبِ! إنَّ المادِّيِّين الزَّنادِقةَ الكَفَرةَ لَمّا أَنكَرُوا اللهَ الواجِبَ الوُجُودِ، اضطُرُّوا حَسَبَ مَذْهَبِهم للِاعتِقادِ بآلِهةٍ باطِلةٍ بعَدَدِ الذَّرّاتِ.
ومِن هذه الجِهةِ تَرَى أنَّ الكافِرَ المُنكِرَ لِوُجُودِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى مَهْما كان فَيلَسُوفًا وعالِمًا فهو في جَهْلٍ عَظِيمٍ، وهو جاهِلٌ جَهْلًا مُطلَقًا.
[النقطة الثالثة: حكمة عظيمة من حِكم تحولات الذرّات: التأهيل لبناء العالم الأخروي]
النُّقطةُ الثّالثة
هذه النُّقطةُ إشارةٌ إلى الحِكْمةِ السّادِسةِ العَظِيمةِ الَّتي وُعِدَ بها في خِتامِ النُّقطةِ الأُولَى، وهي: لقد ذُكِرَ في حاشِيةِ السُّؤالِ الثّاني مِنَ “الكَلِمةِ الثّامِنةِ والعِشرِين”: أنَّ حِكْمةً أُخرَى مِن آلافِ الحِكَمِ الَّتي تَتَضمَّنُها تَحَوُّلاتُ الذَّرّاتِ وحَرَكاتُها في أَجسامِ ذَوِي الحَياةِ، هي تَنوِيرُ الذَّرّاتِ بالحَياةِ وكَسْبُها المَعنَى والمَغزَى، لِتُصبِحَ ذَرّاتٍ لائِقةً في بِناءِ العالَمِ الأُخرَوِيِّ.
نعم، إنَّ الكائِنَ الحَيَوانِيَّ والإنسانَ وحتَّى النَّباتَ في حُكْمِ مَضِيفٍ لتلك الذَّرّاتِ ومُعَسكَرِ تَدرِيبٍ لَها، ومَدرَسةٍ تَربَوِيّةٍ تَتَلقَّى فيها الإرشاداتِ؛ بحَيثُ إنَّ تلك الذَّرّاتِ الجامِدةَ تَدخُلُ هناك فتَتَنوَّرُ، وكأنَّها تَنالُ التَّدرِيبَ وتَتَلقَّى الأَوامِرَ والتَّعلِيماتِ، فتَتَلَطَّفُ، وتَكسِبُ بأَداءِ كلٍّ مِنها لِوَظِيفةٍ لَياقةً وجَدارةً، لِتُصبحَ ذَرّاتٍ لِعالَمِ البَقاءِ والدَّارِ الآخِرةِ الحَيّةِ حَياةً شامِلةً لِجَمِيعِ أَجزائِها.
[بِمَ تُعرف الحكمة في الذرات؟]
سُؤالٌ: بماذا يُعرَفُ وُجُودُ هذه الحِكْمةِ في حَرَكاتِ الذَّرّاتِ؟
الجَوابُ:
[شهود حكمة الحكيم سبحانه]
أوَّلًا: يُعرَفُ وُجُودُها بحِكمةِ اللهِ الحَكِيمِ سُبحانَه، تلك الحِكْمةِ الثّابِتةِ بالأَنظِمةِ الجارِيةِ في المَوجُوداتِ كافّةً وبالحِكَمِ الَّتي تَنطَوِي علَيها؛ إذِ الحِكْمةُ الإلٰهِيّةُ الَّتي أَناطَت حِكَمًا كُلِّيّةً كَثِيرةً جِدًّا بأَصغَرِ شَيءٍ جُزئيٍّ، لا يُمكِنُ أن تَتْرُكَ حَرَكاتِ الذَّرّاتِ سُدًى مِن دُونِ حِكْمةٍ! تلك الحَرَكاتِ الجارِيةَ في سَيْلِ الكائِناتِ، والَّتي تُبدِي فَعّاليّةً عُظمَى في الوُجُودِ، والَّتي هي سَبَبٌ لإبرازِ البَدائِعِ الحَكِيمةِ.
ثمَّ إنَّ الحِكْمةَ والحاكِمِيّةَ الإلٰهِيّةَ الَّتي لا تُهمِلُ أَصغَرَ مَخلُوقٍ دُونَ أَجْرٍ، أو دُونَ كَمالٍ، أو دُونَ مَقامٍ، لِما يقُومُ به مِن وَظِيفةٍ، كيف تُهمِلُ مَأْمُورِيها ومُستَخدِميها الكَثِيرين جِدًّا -الذَّرّاتِ- دُونَ نُورٍ، أو دُونَ أَجْرٍ.
[ترقي الذرَّات في المراتب]
ثانيًا: إنَّ الحَكِيمَ العَلِيمَ يُحَرِّكُ العَناصِرَ ويَستَخدِمُها لِأَداءِ وَظائِفَ جَلِيلةٍ، فيُـرَقِّيها إلى دَرَجةِ المَعدِنِيّاتِ، كأُجْرةٍ لها في طَرِيقِ الكَمالِ.
ويُحَرِّكُ ذَرّاتِ المَعدِنِيّاتِ ويُسَخِّرُها في وَظائِفَ ويُعَلِّمُها تَسبِيحاتِها الخاصّةَ بها فيَمنَحُها المَرتَبةَ الحَيّةَ للنَّباتاتِ.
ويُحَرِّكُ ذَرّاتِ النَّباتاتِ ويُوَظِّفُها، ويَجعَلُها رِزْقًا للآخَرِين، فيُنعِمُ علَيها برَفْعِها إلى المَرتَبةِ اللَّطِيفةِ للحَيَواناتِ.
ويَستَخدِمُ ذَرَّاتِ الحَيَواناتِ عن طَرِيقِ الرِّزقِ، فيرفَعُها إلى دَرَجةِ الحَياةِ الإنسانيّةِ.
وبإمرارِ ذَرّاتِ جِسمِ الإنسانِ مِن خِلالِ مَصافٍ عِدّةٍ مَرّاتٍ ومَرّاتٍ، وتَنقِيَتِها وجَعْلِها لَطِيفةً، يُرَقِّيها إلى أَلطَفِ مَكانٍ وأَعَزِّ مَوقِعٍ في الجِسمِ وهو الدِّماغُ والقَلبُ.
يُفهَمُ مِمّا ذُكِرَ أنَّ حَرَكاتِ الذَّرّاتِ لَيسَت سُدًى ولَيسَت حَرَكَتُها خالِيةً مِنَ الحِكْمةِ، بل تُهرَعُ الذَّرّاتُ وتُساقُ إلى نَوعٍ مِنَ الكَمالِ اللّائِقِ بها.
[بعض الذرات سلطان على بعض]
ثالثًا: إنَّ قِسْمًا مِن ذَرّاتِ الكائِنِ الحَيِّ -كذَرّاتِ البُذُورِ والنُّوَى- يَنالُ نُورًا مَعنَوِيًّا، ولَطافةً ومَزِيّةً، بحَيثُ يكُونُ بمَثابةِ رُوحٍ وسُلطانٍ على سائِرِ الذَّرّاتِ، وعلى الشَّجَرةِ الضَّخْمةِ نَفسِها.
فاعتِلاءُ هذه الذَّرّاتِ -مِن بينِ مَجمُوعِ ذَرّاتِ الشَّجَرةِ العَظِيمةِ- هذه المَرتَبةَ، إنَّما هو حَصِيلةُ أَدائِها وَظائِفَ دَقِيقةً ومُهِمّاتٍ جَلِيلةً في أَثناءِ مَراحِلِ نُمُوِّ الشَّجَرةِ، مِمّا يَدُلُّ على أنَّ تلك الذَّرّاتِ حِينَما تُؤَدِّي وَظِيفَتَها الفِطْرِيّةَ بأَمرِ الخالِقِ الحَكِيمِ، تَنالُ لَطافةً مَعنَوِيّةً ونُورًا مَعنَوِيًّا ومَقامًا رَفِيعًا وإرشادًا سامِيًا، حَسَبَ أَنواعِ حَرَكاتِها ووَفْقَ ما يَتَجلَّى علَيها مِن تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى، وسُمُوِّ تلك الأَسماءِ.
[سبعة قوانين إلهية في الموجودات]
[قانون الربوبية]
الخُلاصةُ: إنَّ الخالِقَ الحَكِيمَ قد عَيَّنَ لكُلِّ شَيءٍ نُقطةَ كَمالٍ يُناسِبُ ذلك الشَّيءَ، وحَدَّدَ نُورَ وُجُودٍ يَلِيقُ به، فيَسُوقُ ذلك الشَّيءَ إلى نُقطةِ الكَمالِ تلك، باستِعدادٍ يَمنَحُه إيّاه. فهذا القانُونُ للرُّبُوبيّةِ مِثلَما هو جارٍ في جَمِيعِ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ، جارٍ أَيضًا في الجَماداتِ، حتَّى يَمنَحُ سُبحانَه التُّرابَ العادِيَّ رُقِيًّا يَبلُغُ به دَرَجةَ الأَلماسِ ومَرتَبةَ الأَحجارِ الكَرِيمةِ.
مِن هذه الحَقِيقةِ يَنكَشِفُ طَرَفٌ مِن قانُونٍ عَظِيمٍ هو: “قانُونُ الرُّبُوبيّةِ“.
[قانون الكرم]
وإنَّ ذلك الخالِقَ الكَرِيمَ، في أَثناءِ تَسخِيرِه الحَيَواناتِ لإنفاذِ قانُونِ التَّناسُلِ العَظِيمِ، يَمنَحُها لَذّةً جُزئيّةً، أُجرةً لِأَدائِها الوَظِيفةَ؛ ويَهَبُ للحَيَواناتِ المُستَخدَمةِ لإنفاذِ أَوامِرَ رَبّانيّةٍ -كالبُلْبُلِ والنَّحلِ- أُجرةَ كَمالٍ راقِيةً، مَقامًا يَبُثُّ الشَّوقَ والمُتعةَ.
مِن هذه الحَقِيقةِ يَنكَشِفُ طَرَفٌ مِن قانُونٍ عَظِيمٍ هو: “قانُونُ الكَرَمِ“.
[قانون التحسين والجمال]
ثمَّ إنَّ حَقِيقةَ كلِّ شَيءٍ تَتَوجَّهُ إلى تَجَلِّي اسمٍ مِنَ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى، ومُرتَبِطةٌ بها، وهي كالمِرآةِ العاكِسةِ لِأَنوارِه؛ فذلك الشَّيءُ مَهْما اتَّخَذ مِن أَوضاعٍ جَمِيلةٍ، فالجَمالُ يعُودُ إلى شَرَفِ ذلك الِاسمِ وسُمُوِّه، إذ يَقتَضِيه ذلك الِاسمُ. فسَواءٌ أَعَلِمَ ذلك الشَّيءُ أم لم يَعلَم، فذلك الوَضْعُ الجَمِيلُ مَطلُوبٌ في نَظَرِ الحَقِيقةِ.
مِن هذه الحَقِيقةِ يَظهَرُ طَرَفٌ مِن قانُونٍ عَظِيمٍ هو: “قانُونُ التَّحسِينِ والجَمالِ“.
[قانون الرحمة]
ثمَّ إنَّ ما أَعطاه الفاطِرُ الحَكِيمُ مِن مَقامٍ وكَمالٍ، إلى شَيءٍ مّا، بمُقتَضَى دُستُورِ الكَرَمِ، لا يَستَرِدُّه مِنه عِندَ انقِضاءِ مُدّةِ ذلك الشَّيءِ وانتِهاءِ عُمُرِه، بل يُبقِي ثَمَراتِه، ونَتائِجَه، وهُوِيَّتَه المَعنَوِيّةَ، ومَعناه، ورُوحَه إن كان ذا رُوحٍ. فمَثلًا: يُبقِي سُبحانَه وتَعالَى مَعانِيَ الكَمالاتِ الَّتي يَنالُها الإنسانُ وثَمَراتِها، حتَّى إنَّ شُكْرَ المُؤمِنِ الشّاكِرِ وحَمْدَه على ما يَأْكُلُه مِن فَواكِهَ زائِلةٍ، يُعِيدُها سُبحانَه إلَيه مَرّةً أُخرَى على صُورةِ فاكِهةٍ مُجَسَّمةٍ طَيِّبةٍ مِن فَواكِهِ الجَنّةِ.
مِن هذه الحَقِيقةِ يَنكَشِفُ طَرَفٌ مِن قانُونٍ عَظِيمٍ هو: “قانُونُ الرَّحمةِ“.
[قانون الحكمة]
ثمَّ إنَّ الخالِقَ الحَكِيمَ سُبحانَه لا يُسرِفُ في شَيءٍ قَطُّ، ولا يَعمَلُ عَبَثًا مُطْلَقًا، إذ يَستَعمِلُ حتَّى الأَنقاضَ المادِّيّةَ للمَخلُوقاتِ المَيتةِ -الَّتي انتَهَت مُهِمّاتُها- في الخَرِيفِ، في بِناءِ مَخلُوقاتٍ جَدِيدةٍ في الرَّبيعِ. لِذا، فمِن مُقتَضَى الحِكْمةِ الإلٰهِيّةِ، إدراجُ هذه الذَّرّاتِ الأَرضِيّةِ الجامِدةِ، وغيرِ الشّاعِرةِ، والَّتي أَنجَزَت وَظائِفَ جَلِيلةً في الأَرضِ في قِسمٍ مِن أَبنِيةِ الآخِرةِ الَّتي هي حَيّةٌ وذاتُ شُعُورٍ بكُلِّ ما فيها، بأَحجارِها وأَشجارِها بدَلالةِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ﴾ وبإشارةِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ لِأنَّ تَرْكَ ذَرّاتِ الدُّنيا المُتَهدِّمةِ في الدُّنيا نَفسِها، أو رَمْيَها إلى العَدَمِ إسرافٌ وعَبَثٌ.
مِن هذه الحَقِيقةِ يَنكَشِفُ طَرَفٌ مِن قانُونٍ عَظِيمٍ هو: “قانُونُ الحِكْمةِ“.
[قانون العدل]
ثمَّ إنَّ كَثِيرًا جِدًّا مِن آثارِ هذه الدُّنيا ومَعنَوِيّاتِها وثَمَراتِها، ومَنسُوجاتِ أَعمالِ المُكَلَّفِين -كالجِنِّ والإنسِ- وصَحائِفِ أَفعالِهم، وأَرواحِهم، وأَجسادِهم، تُرسَلُ إلى سُوقِ الآخِرةِ ومَعرِضِها. فمِن مُقتَضَى العَدْلِ والحِكْمةِ أن تُرسَلَ أَيضًا الذَّرّاتُ الأَرضِيّةُ الَّتي رافَقَت تلك الثَّمَراتِ والمَعانِيَ وخَدَمَتْها معَ أَنقاضِ هذه الدُّنيا الَّتي ستُدَمَّرُ، إلى العالَمِ الأُخرَوِيِّ وتُستَعمَلُ في بِنائِه، وذلك بعدَ تَكامُلِها تَكامُلًا يَخُصُّها مِن حَيثُ الوَظِيفةُ، أي: بعدَ أن نالَت نُورَ الحَياةِ كَثِيرًا وخَدَمَتْها، وأَصبَحَت وَسِيلةً لِتَسبِيحاتٍ حَياتيّةٍ.
مِن هذه الحَقِيقةِ يَنكَشِفُ طَرَفٌ مِن قانُونٍ عَظِيمٍ هو: “قانُونُ العَدْلِ“.
[قانون العلم المحيط]
ثمَّ إنَّ الرُّوحَ مِثلَما أنَّها مُهَيمِنةٌ على الجِسمِ، فالأَوامِرُ التَّكوِينيّةُ للمَوادِّ الجامِدةِ الَّتي كَتَبَها القَدَرُ الإلٰهِيُّ، لها سُلطانٌ أيضًا على تلك المَوادِّ؛ فتَتَّخِذُ تلك المَوادُّ مَواقِعَها، وتَسِيرُ بنِظامٍ مُعَيَّنٍ وَفقَ ما تُملِيه الكِتابةُ المَعنَوِيّةُ للقَدَرِ الإلٰهِيِّ.
فمَثلًا: في أَنواعِ البَيضِ، وأَقسامِ النُّطَفِ، وأَصنافِ النُّوى، وأَجناسِ البُذُورِ، تَنالُ المَوادُّ أَنوارًا مُختَلِفةً، مَقاماتٍ مُتَبايِنةً، حَسَبَ تَبايُنِ الأَوامِرِ التَّكوِينيّةِ الَّتي سَطَّرَها القَدَرُ الإلٰهِيُّ بأَنماطٍ مُتَنوِّعةٍ وأَشكالٍ مُتَغايِرةٍ، إذ إنَّ تلك المَوادَّ -مِن حَيثُ هي مادّةٌ- في ماهِيّةٍ واحِدةٍ7نعم، إنَّ جَمِيعَ تلك المَوَادِّ مُركَّبةٌ مِن عناصِرَ أربعةٍ هي: مُولِّدُ الحُمُوضة ومُولِّدُ المَّاء (الأُوكسِجين والهِيدرُوجِين) والآزُوت والكَربُون، وأمَثالِها. لِذا تُعتَبَرُ المَوادُّ مِن حَيثُ التَّركيبُ المادِّيُّ مُتَشابِهةً، إلّا أنَّ الفرقَ في كِتَابةِ القَدَرِ المَعنَوِيِّ.، إلّا أنَّها تُصبِحُ وَسِيلةً لِنُشُوءِ ما لا يُحَدُّ مِنَ المَوجُوداتِ، فتكُونُ صاحِبةَ مَقاماتٍ مُختَلِفةٍ وأَنوارٍ مُتَنوِّعةٍ، فلا بُدَّ إذًا لو قامَت ذَرّةٌ في خِدْماتٍ حَياتيّةٍ، ودَخَلَت ضِمنَ التَّسبِيحاتِ الرَّبّانيّةِ الَّتي تُسَبِّحُ بها الحَياةُ مَرّاتٍ ومَرّاتٍ، وأَدَّت مُهِمّاتِها هُناك، فلا شَكَّ أن يُكتَبَ في جَبْهَتِها المَعنَوِيّةِ حِكَمُ تلك المَعانِي، ويُسَجِّلَها قَلَمُ القَدَرِ الإلٰهِيِّ الَّذي لا يَعزُبُ عنه شَيءٌ، وذلك بمُقتَضَى العِلمِ المُحِيطِ الإلٰهِيِّ.
مِن هذه الحَقِيقةِ يَنكَشِفُ طَرَفٌ مِن قانُونٍ عَظِيمٍ هو: “قانُونُ العِلمِ المُحِيطِ“.
فبِناءً على ما سَبَق: فإنَّ الذَّرّاتِ إذًا لَيسَت سائِبةً ولا مُنفَلِتةً8جوابُ الفِقراتِ السَّبعِ التي مَرَّت..
[الذرات قيد الإعداد للانتقال إلى عالم أسمى ]
النَّتيجةُ: إنَّ القَوانِينَ السَّبعةَ السّابِقةَ، أي: قانُونَ الرُّبُوبيّةِ، وقانُونَ الكَرَمِ، وقانُونَ الجَمالِ، وقانُونَ الرَّحمةِ، وقانُونَ الحِكْمةِ وقانُونَ العَدْلِ، وقانُونَ العِلمِ المُحِيطِ.. وأَمثالَها مِنَ القَوانِينِ العُظمَى، يُلَوِّحُ كلٌّ مِنها مِن طَرَفٍ ما يَنكَشِفُ مِنه اسمُ اللهِ الأَعظَمُ، وتَجَلٍّ أَعظَمُ لِذلك الِاسمِ الأَعظَمِ؛ ويُفهَمُ مِن ذلك التَّجَلِّي: أنَّ تَحَوُّلاتِ الذَّرّاتِ أَيضًا في هذه الدُّنيا -كسائِرِ المَوجُوداتِ- تَجُولُ حَسَبَ ما خَطَّه القَدَرُ الإلٰهِيُّ مِن حُدُودٍ ووَفْقَ ما تُعطِيه القُدرَةُ الإلٰهِيّةُ مِن أَوامِرَ تَكوِينيّةٍ، وعلى أَساسِ مِيزانٍ عِلْمِيٍّ حَسّاسٍ، لِأَجلِ حِكَمٍ سامِيةٍ، وكأنَّها تَتَهيَّأُ للرَّحِيلِ إلى عالَمٍ آخَرَ أَسمَى!9لأنَّه ماثِلٌ أمامَنا أنَّ نَشرَ نُورِ الحَياةِ بغَزارةٍ في هذا العالَمِ الكَثيفِ السُّفليِّ، وإيقادَه بفَعّاليّةٍ دائِمةٍ في مُنتَهَى الجُودِ، حتَّى بَثَّ نُورَ الحَياةِ بكثرةٍ هائلةٍ في أَخَسِّ المَوادِّ وأَكثَرِها تَعَفُّنًا، وصَقْلَ تلك المَوادِّ الكَثيفةِ والخَسِيسةِ بنُورِ الحَياة وجَعلَها لَطِيفةً.. تُشِيرُ بما يَقرُبُ مِن الصَّراحةِ أنَّ الله سُبحانَه وتعالى يُذِيبُ هذا العالَمَ الكَثيفَ الجامِدَ ويُجَمِّلُه ويُلَمِّعُه بحَرَكاتِ الذَّرّاتِ ونُورِ الحَياةِ ليُهيِّئَه إلى العالَمِ الآخَرِ الحيِّ اللَّطيفِ السَّامِي الطّاهِر، وكأنه يُزَيِّنُه للرَّحِيل إلى عالَمٍ لَطِيفٍ.
فالذين لا يَستَوعِبُون بعُقُولهم الضَّيِّقةِ حَشْرَ البَشَر، لو نَظَروا بنُورِ القرآنِ وبمِرصادِه لَرَأَوا أنَّ “قانُونَ قَيُّوميّةٍ مُحِيطًا” واضِحٌ رَأْيَ العَينِ، يَحشُرُ جَمِيعَ الذَّرّاتِ كحَشرِ الجُنُود في الجيشِ ويَتَصرَّفُ فيها، كما هو مُشاهَد..
ومِن هنا عُدَّتِ الأَجسامُ الحَيّةُ كأنَّها مَدرَسةٌ، تَتَعلَّمُ فيها الذَّرّاتُ السّائِحةُ، ومُعَسكَرُ تَدرِيبٍ، ومَضِيفٌ تَربَوِيٌّ لها، ويَصِحُّ أن نَحكُمَ بحَدْسٍ صادِقٍ أنَّها كذلك.
[جميع الموجودات، حتى الذرّات، تتحرك “باسم الله”]
الحاصِلُ: مِثلَما ذُكِرَ في “الكَلِمةِ الأُولَى” وأُثبِتَ هُناك: أنَّ كلَّ شَيءٍ يقُولُ “بِسمِ اللهِ”، فالذَّرّةُ أَيضًا كجَمِيعِ المَوجُوداتِ وكلُّ طائِفةٍ مِنها وكلُّ جَماعةٍ مِن جَماعاتِها تقُولُ بلِسانِ الحالِ: “بِسمِ اللهِ” وتَتَحرَّكُ وَفْقَها.
نعم، إنَّ كلَّ ذَرّةٍ -بدَلالةِ النِّقاطِ الثَّلاثِ المَذكُورةِ- تقُولُ بلِسانِ حالِها في مَبْدَأِ حَرَكَتِها: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ” أي: أَتَحرَّكُ باسمِ اللهِ وبقُوَّتِه وبحَوْلِه وبإذنِه وفي سبِيلِه، ثمَّ تقُولُ -وكلُّ طائِفةٍ مِنها- بعدَ إنهاءِ حَرَكَتِها بمِثلِ ما يقُولُه أيُّ مَخلُوقٍ كان بلِسانِ حالِه: الحَمدُ للهِ رَبِّ العالَمِين.
فكلُّ ذَرّةٍ تُبدِي نَفْسَها في حُكْمِ رِيشةٍ صَغِيرةٍ لِقَلَمِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ في تَصوِيرِ كلِّ مَخلُوقٍ بَدِيعٍ الَّذي هو بمَثابةِ قَصِيدةِ ثَناءٍ وحَمْدٍ للهِ تَعالَى؛ بل كلُّ ذَرّةٍ تُبيِّنُ نَفسَها في صُورةِ طَرَفِ إبرةٍ لِأَذرُعٍ مَعنَوِيّةٍ لا حَدَّ لها لِحائِكٍ رَبّانِيٍّ مُعَظَّمٍ، تَدُورُ الإبرةُ على أُسطُواناتٍ -وهي المَصنُوعاتُ الرَّبّانيّةُ- فتُنطِقُها بقَصائِدِ ثَناءٍ وحَمْدٍ رَبّانيّةٍ، وتُنشِدُها أَناشِيدَ تَسبِيحاتٍ إلٰهِيّةٍ.
﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾
﴿اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَاةً تَكُونُ لَكَ رِضَاءً، ولِحَقِّهِ أَدَاءً، وعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وإِخوَانِهِ وَسَلِّم، وسَلِّمنَا وسَلِّم دِينَنَا.. آمِينَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ﴾
❀ ❀ ❀