الكلمة الرابعة والعشرون
[هذه الكلمة تتحدث عن: (1) تجليات الأسماء الإلهية على العوالم، و(2) أصول فهم الحديث النبوي، و(3) معنى العبادة، و(4) مراتب الموجودات في العبادة]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
الكلمة الرابعة والعشرون
هذه الكَلِمةُ عِبارةٌ عن خَمسةِ أَغصانٍ.. لاحِظْ بإمعانٍ الغُصنَ الرّابعَ، واستَمْسِكْ بالغُصنِ الخامِسِ، واصْعَدْ لِتَقطِفَ ثِمارَه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾
نُشِيرُ إلى خَمسةِ أَغصانٍ لِحَقيقةٍ واحِدةٍ مِنَ الحَقائقِ الكُبْرَى الجَليلةِ لهذه الآيةِ الكَرِيمةِ:
[الغصن الأول: سِرُّ تنوع الأسماء الحسنى]
الغُصنُ الأوَّل: إنَّ للسُّلطانِ عَناوِينَ مُختَلِفةً في دَوائرِ حُكُومَتِه، وأَوصافًا مُتَبايِنةً ضِمنَ طَبَقاتِ رَعاياه، وأَسماءً وعَلاماتٍ مُتَنوِّعةً في مَراتِبِ سَلطَنَتِه.
فمَثلًا: له اسمُ “الحاكِمِ العادِلِ” في دَوائرِ العَدلِ، وعُنوانُ “السُّلطانِ” في الدَّوائرِ المَدَنيّةِ، بَينَما له اسمُ “القائدِ العامِّ” في الدَّوائرِ العَسكَرِيّةِ، وعُنوانُ “الخَليفةِ” في الدَّوائرِ الشَّرعيّةِ.. وهكذا له سائرُ الأَسماءِ والعَناوِينِ، فله في كلِّ دائرةٍ مِن دَوائرِ دَولَتِه مَقامٌ وكُرسِيٌّ بمَثابةِ عَرشٍ مَعنَوِيٍّ له.
وعلَيه: يُمكِنُ أن يكُونَ ذلك السُّلطانُ الفَرْدُ مالِكًا لِأَلفِ اسمٍ واسمٍ في دَوائرِ تلك السَّلطَنةِ وفي مَراتبِ طَبَقاتِ الحُكُومةِ، أي: يُمكِنُ أن يكُونَ له أَلفُ عَرشٍ وعَرشٍ مِنَ العُرُوشِ المُتَداخِلِ بعضُها في بعضٍ، حتَّى كأنَّ ذلك الحاكِمَ مَوجُودٌ وحاضِرٌ في كلِّ دائرةٍ مِن دَوائرِ دَولَتِه، ويَعلَمُ ما يَجرِي فيها بشَخصِيَّتِه المَعنَويّةِ، وهاتِفِه الخاصِّ، ويُشاهَدُ ويَشْهَدُ في كلِّ طَبَقةٍ مِنَ الطَّبَقاتِ بقانُونِه ونِظامِه وبمُمَثِّليه.. ويُراقِبُ ويُدِيرُ مِن وَراءِ الحِجابِ كلَّ مَرتَبةٍ مِنَ المَراتبِ بحِكمَتِه وبعِلْمِه وبقُوَّتِه.. فلُكِلِّ دائِرةٍ مَركَزٌ يَخُصُّها ومَوقِعٌ خاصٌّ بها، أَحكامُه مُختَلِفةٌ، طَبَقاتُه مُتَغايِرةٌ.
وهكذا، فإنَّ رَبَّ العالَمِين -وهو سُلطانُ الأَزَلِ والأَبدِ– له ضِمنَ مَراتبِ رُبُوبيَّتِه شُؤُونٌ وعَناوِينُ مُختَلِفةٌ، لكن يَتَناظَرُ بعضُها مع بعضٍ؛ وله ضِمنَ دَوائرِ أُلُوهيَّتِه عَلاماتٌ وأَسماءٌ مُتَغايرةٌ، لكن يُشاهَدُ بعضُها في بعضٍ؛ وله ضِمنَ إجراءاتِه العَظِيمةِ تَجَلِّياتٌ وجَلَواتٌ مُتَبايِنةٌ، لكن يُشابِهُ بَعضُها بعضًا؛ وله ضِمنَ تَصَرُّفاتِ قُدرَتِه عَناوِينُ مُتَنوِّعةٌ، لكن يُشعِرُ بعضُها ببعضٍ؛ وله ضِمنَ تَجَلِّياتِ صِفاتِه مَظاهِرُ مُقَدَّسةٌ مُتَفاوِتةٌ، لكن يُظهِرُ بعضُها بعضًا؛ وله ضِمنَ تَجَلِّياتِ أَفعالِه تَصَرُّفاتٌ مُتَبايِنةٌ، لكن تُكَمِّلُ الواحِدةُ الأُخرَى؛ وله ضِمنَ صَنْعَتِه ومَصنُوعاتِه رُبُوبيّةٌ مَهِيبةٌ مُتَغايِرةٌ، لكن تَلحَظُ إحداها الأُخرَى.
ومع هذا يَتَجلَّى عُنوانٌ مِن عَناوِينِ اسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى، في كلِّ عالَمٍ مِن عَوالِمِ الكَونِ، وفي كلِّ طائفةٍ مِن طَوائفِه؛ ويكُونُ ذلك الِاسمُ حاكِمًا مُهَيمِنًا في تلك الدّائرةِ، وبَقيّةُ الأَسماءِ تابِعةً له هناك، بل مُندَرِجةً فيه.
ثمَّ إنَّ ذلك الِاسمَ له تَجَلٍّ خاصٌّ ورُبُوبيّةٌ خاصّةٌ في كلِّ طَبَقاتِ المَخلُوقاتِ، صَغِيرةً كانَت أم كَبِيرةً، قَلِيلةً كانَت أم كَثيرةً، خاصّةً كانَت أم عامّةً؛ بمَعنَى أنَّ ذلك الِاسمَ وإن كان مُحِيطًا بكلِّ شيءٍ وعامًّا، إلَّا أنَّه مُتَوجِّهٌ بقَصْدٍ وبأَهَمِّيّةٍ بالِغةٍ إلى شيءٍ مّا، حتَّى كأنَّ ذلك الِاسمَ مُتَوجِّهٌ فقط وبالذّاتِ إلى ذلك الشَّيءِ وكأنَّه خاصٌّ بذلك الشَّيءِ.
زِدْ على ذلك: فإنَّ الخالِقَ الجَليلَ قَرِيبٌ إلى كلِّ شيءٍ، معَ أنَّ له سَبعِينَ أَلفَ حِجابٍ مِنَ الحُجُبِ النُّورانيّةِ، ويُمكِنُك أن تَقِيسَ ذلك -مَثلًا- مِنَ الحُجُبِ المَوجُودةِ في مَراتِبِ اسمِ الخالقِ، ابتِداءً مِنَ المَرتَبةِ الجُزئيّةِ لِاسمِ الخالقِ المُتَجَلِّي علَيْك بخَلْقِك، وانتِهاءً بالمَرتَبةِ الكُبْرَى والعُنوانِ الأَعظَمِ لِخالقِ الكَوْنِ أجْمَعَ؛ بمَعنَى أنَّك تَستَطِيعُ أن تَبلُغَ نِهايةَ تَجَلِّياتِ اسمِ الخالقِ وتَدخُلَ إلَيها مِن بابِ المَخلُوقيّةِ، بشَرطِ أن تَدَعَ الكائناتِ وَراءَك، وعِندَئذٍ تَتَقرَّبُ إلى دائرةِ الصِّفاتِ. ولِوُجُودِ المَنافِذِ في الحُجُبِ، والتَّناظُرِ في الشُّؤُونِ، والتَّعاكُسِ في الأَسماءِ، والتَّداخُلِ في التَّمَثُّلاتِ، والتَّمازُجِ في العَناوِينِ، والتَّشابُهِ في الظُّهُورِ، والتَّسانُدِ في التَّصَرُّفاتِ، والتَّعاضُدِ في الرُّبُوبيّاتِ، لَزِمَ البَتَّةَ لِمَن عَرَفَه سُبحانَه في واحِدٍ مِمّا مَرَّ مِنَ الأَسماءِ والعَناوِينِ والرُّبُوبيّةِ ألَّا يُنكِرَ سائرَ الأَسماءِ والعَناوِينِ والشُّؤُونِ، بل يَفهَمَ بَداهةً أنَّه هو هو؛ وإلَّا يَتَضرَّرَ إن ظلَّ مَحجُوبًا عن تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الأُخرَى ولم يَنتَقِل مِن تَجَلِّي اسمٍ إلى آخَرَ.
فمَثلًا: إذا رَأَى أَثَرَ اسمِ الخالقِ القَدِيرِ، ولم يَرَ أَثَرَ اسمِ العَليمِ، يَسقُطُ في ضَلالةِ الطَّبِيعةِ، لِذا علَيه أن يَجُولَ بنَظَرِه فيما حَوْلَه ويَرَى أنَّ اللهَ هو هو، ويُشاهِدَ تَجَلِّيَه في كلِّ شيءٍ، وأن تَسمَعُ أُذُنُه مِن كلِّ شيءٍ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، ويُنصِتَ إلَيه، وأن يُرَدِّدَ لِسانُه دائمًا: “لا إلٰهَ إلَّا اللهُ”، ويُعلِنَ “لا إلٰهَ إلَّا هُو.. بَرَابَرْ ميزَنَدْ عَالَمْ”.
وهكذا يُشِيرُ القُرآنُ الكَرِيمُ بهذه الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ إلى الحَقائقِ الَّتي ذَكَرناها.
[كل موجود يَذكر اسمًا من أسماء الله الحسنى]
فإن كُنتَ تُرِيدُ أن تُشاهِدَ تلك الحَقائقَ الرَّفيعةَ عن قُرْبٍ، فاذهَبْ إلى بَحرٍ هائِجٍ، وإلى أَرضٍ مُهتَزّةٍ بالزَّلازِلِ، واسْأَلْهما: ما تَقُولانِ؟ ستَسمَعُ حَتْمًا أنَّهما يُنادِيانِ: يا جَليلُ.. يا جَليلُ.. يا عَزِيزُ.. يا جَبّارُ.
ثمَّ اذْهَبْ إلى الفِراخِ والصِّغارِ مِنَ الحَيَواناتِ الَّتي تَعِيشُ في البَحرِ أو على الأَرضِ، والَّتي تُرَبَّى في مُنتَهَى الشَّفَقةِ والرَّحمةِ، واسْأَلْها: ما تَقُولين؟ لا بُدَّ أنَّها تَتَرنَّمُ: يا جَمِيلُ.. يا جَمِيلُ.. يا رَحِيمُ.. يا رَحِيمُ1حتَّى إنَّني لاحَظتُ القِطَطَ وتأمَّلتُ فيها، فَرأيتُ أنَّها بعدَما أَكلَت ولَعِبَت، نَامَت؛ فوَرَد إلى ذِهني سُؤالٌ: لِمَ يُطلَقُ عَلى هَذه الحَيَواناتِ الشَّبِيهةِ بالمُفتَرِسةِ: حَيَواناتٌ مُبارَكةٌ طَيِّبةٌ؟ ثمَّ في اللَّيلِ اضطَجَعتُ لِأَنامَ وإذا بقِطّةٍ مِن تلك القِطَطِ جاءَت واستَنَدَتْ إلى وِسادَتي وقَرَّبَت فَمَها إلى أُذُني، وذَكَرَتِ اللهَ ذِكرًا صَرِيحًا باسمِ: “يا رَحِيمُ.. يا رَحِيمُ.. يا رَحِيمُ” وكأنَّها رَدَّت ما وَرَد مِنَ الِاعتِراضِ والإهانةِ باسمِ طائفَتِها.
فوَرَد إلى عَقْلي: تُرى هل هذا الذِّكرُ خاصٌّ بهذه القِطّةِ فقط أم بطائفةِ القِطَطِ عامّةً؟ وإنَّ استِماعَ ذِكرِها، هل هو خاصٌّ بي ومُنحَصِرٌ لِمُعتَرِضٍ بغيرِ حقٍّ مِثلي، أم أنَّ كلَّ إنسانٍ يَستَطيعُ الِاستِماعَ إلى حَدٍّ، لو أَعارَ سَمْعَه إلَيها؟ وفي الصَّباحِ بَدَأتُ أُنصِتُ إلى القِطَطِ الأُخرَى، كانَت تُكَرِّرُ الذِّكرَ نَفسَه بدَرَجاتٍ مُتَفاوِتةٍ وإن لم يكُن صَريحًا مثلَ الأُولى، إذ في بِدايةِ هَرِيرِها لا يَتميَّـزُ هذا الذِّكرُ ثم يُمكِنُ تَميِيزُ: “يا رَحِيمُ.. يا رَحِيمُ..” في الهَرِيرِ، ثم يَتَحوَّلُ هَرِيرُها كلُّه إلى: “يا رَحِيمُ” نَفسِه، فتَذكُرُ اللهَ ذِكْرًا حَزِينًا فَصِيحًا دونَ إخراجٍ للحُرُوفِ حيثُ تَسُدُّ فَمَها وتَذكُرُ اللهَ ذِكرًا لَطِيفًا بـ: “يا رَحِيمُ”.
ذَكَرتُ الحادِثةَ نَفسَها للَّذين أَتَوا لزِيارَتي، وهم بدَورِهم بَدَؤُوا يُلاحِظُون الأَمرَ، ثمَّ قالوا: “نَسمَعُ الذِّكرَ إلى حَدٍّ مّا”، ثمَّ وَرَد بقلبي: “ما وَجهُ تَخصِيصِ هذا الِاسمِ: يا رَحِيمُ؟ ولِمَ تَذكُرُ القِطَطُ هذا الِاسمَ بالذّاتِ بلَهجةِ لِسانِ الإنسانِ ولا تَذكُرُه بلِسانِ الحَيَواناتِ؟”،
فوَرَد: أنَّ القِطَّ حَيَوانٌ رَقيقٌ لَطِيفٌ كالطِّفلِ الصَّغيرِ، يَختَلِطُ مع الإنسانِ في كلِّ زاوِيةٍ مِن مَسكَنِه، حتَّى كأنَّه صَدِيقُه، فهو مُحتاجٌ إذًا إلى مَزِيدٍ مِنَ الشَّفَقةِ والرَّحمةِ؛ فعِندَما يُلاطَف ويُستَأنَسُ به يَحمَدُ اللهَ تارِكًا الأسبابَ، بخِلافِ الكَلبِ، ومُعلِنًا في عالَمِه الخاصِّ رَحمةَ خالِقِه الرَّحِيمِ، فيُوقِظُ بذلك الذِّكرِ الإنسانَ السّادِرَ في نَومِ الغَفلةِ، وبنِداءِ: “يا رَحِيمُ” يُنبِّه عَبَدةَ الأسبابِ قائلًا: “مِمَّن يَرِدُ المَدَدُ والعَونُ، ومِمَّن يُتوَقَّعُ الرَّحمةُ؟”..
ثمَّ أَنْصِتْ إلى السَّماءِ كيف تُنادِي: يا جَلِيلُ ذُو الجَمالِ..
وأَعِرْ سَمْعَك إلى الأَرضِ كيف تُرَدِّدُ: يا جَمِيلُ ذُو الجَلالِ.
وأَنْصِتْ للحَيَواناتِ كيف تَقُولُ: يا رَحمٰنُ يا رَزَّاقُ.
واسْأَلِ الرَّبيعَ، فستَسمَعُ مِنه: يا حَنَّانُ يا رَحمٰنُ يا رَحِيمُ يا كَرِيمُ يا لَطِيفُ يا عَطُوفُ يا مُصَوِّرُ يا مُنَوِّرُ يا مُحسِنُ يا مُزَيِّنُ.. وأَمثالَها مِنَ الأَسماءِ الكَثِيرةِ.
واسْأَلْ إنسانًا هو حَقًّا إنسانٌ، وشاهِدْ كيف يَقرَأُ جَمِيعَ الأَسماءِ الحُسنَى، فهي مَكتُوبةٌ على جَبهَتِه، حتَّى إذا أَنعَمْتَ النَّظَرَ ستَقرَؤُها أنت بنَفسِك.. وكأنَّ الكَونَ كلَّه مُوسِيقَى مُتَناغِمةُ الأَلحانِ لِذِكرٍ عَظِيمٍ؛ فامتِزاجُ أَصغَرِ نَغْمةٍ وأَوْطَئِها معَ أَعظَمِ نَغْمةٍ وأَعلاها يُنتِجُ لَحْنًا لَطِيفًا مَهِيبًا.. وقِسْ على ذلك..
غيرَ أنَّ الإنسانَ مهما كان مَظهَرًا لِجَميعِ الأَسماءِ الحُسنَى إلَّا أنَّ تَنَوُّعَ الأَسماءِ الحُسنَى أَصبَحَ سَبَبًا لتَنَوُّعِ الإنسانِ إلى حَدٍّ مّا، كما هي الحالُ في تَنوُّعِ الكائناتِ واختِلافِ عِبادةِ المَلائكةِ، بل قد نَشَأَت مِن هذا التَّنوُّعِ شَرائعُ الأَنبِياءِ المُختَلِفةُ وطَرائِقُ الأَولياءِ المُتَفاوِتةُ ومَشارِبُ الأَصفِياءِ المُتَنوِّعةُ؛ فمَثلًا: إنَّ الغالِبَ في سيِّدِنا عِيسَى عَليهِ السَّلام هو تَجَلِّي اسمِ “القَدِيرِ” معَ الأَسماءِ الأُخرَى، والمُهَيمِنَ على أَهلِ العِشقِ هو اسمُ “الوَدُودِ”، والمُستَحوِذَ على أَهلِ التَّفكُّرِ هو اسمُ “الحَكِيمِ”.
فلو أنَّ رَجُلًا كان عالِمًا وضابِطًا وكاتِبَ عَدْلٍ ومُفَتِّشًا في دَوائرِ الدَّولةِ في الوَقتِ نَفسِه، فإنَّ له في كلِّ دائرةٍ مِن تلك الدَّوائرِ عَلاقةً وارتِباطًا ووَظِيفةً وعَمَلًا، وله أيضًا أُجرةٌ ومُرتَّبٌ ومَسؤُوليّةٌ فيها، وله كذلك مَراتِبُ رُقيٍّ، فَضْلًا عن وُجُودِ الحُسَّادِ والأَعداءِ الَّذين يُحاوِلُون أن يُعيقُوا عَمَلَه.. فكما أنَّ هذا الرَّجُلَ -وهذا شَأنُه- يَظهَرُ أمامَ السُّلطانِ بعَناوِينَ كَثيرةٍ مُختَلِفةٍ جِدًّا، ويَرَى السُّلطانَ مِن خِلالِ تلك العَناوِينِ المُتَنوِّعةِ، ويَسأَلُه العَوْنَ والمَدَدَ بأَلسِنةٍ كَثيرةٍ، ويُراجِعُه بعَناوِينَ كَثيرةٍ، ويَستَعِيذُ به في صُوَرٍ شَتَّى كَثيرةٍ، خَلاصًا مِن شَرِّ أعدائِه؛ كذلك الإنسانُ الَّذي حَظِيَ بتَجَلِّياتِ أَسماءٍ كَثيرةٍ، وأُنيطَت به وَظائفُ كَثيرةٌ، وابتُلِي بأَعداءٍ كَثيرين، يَذكُرُ كَثيرًا مِن أَسماءِ اللهِ في مُناجاتِه واستِعاذَتِه.. كما أنَّ مَدارَ فَخرِ الإنسانيّةِ، وهو الإنسانُ الكامِلُ الحَقيقيُّ مُحمَّدٌ ﷺ، يَدعُو اللهَ ويَستَعِيذُ به مِنَ النّارِ بأَلفِ اسمٍ واسمٍ في دُعائِه المُسَمَّى بالجَوْشَنِ الكَبِيرِ.
ومِن هذا السِّرِّ نَجِدُ القُرآنَ يَأمُرُ بالِاستِعاذةِ بثَلاثةِ عَناوِينَ، وذلك في سُورةِ النّاسِ:
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ *مَلِكِ النَّاسِ *إِلَهِ النَّاسِ *مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ..﴾
ويُبيِّنُ في ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الِاستِعانةَ بثَلاثةِ أَسماءٍ مِن أَسمائِه الحُسنَى.
الغُصنُ الثَّاني [سِرَّان فيهما مفاتيح أسرار كثيرة]
يُبيِّنُ سِرَّينِ يَتَضمَّنانِ مَفاتِيحَ أَسرارٍ كَثيرةٍ:
[السر الأول: لماذا يختلف الأولياء في مشهوداتهم رغم اتفاقهم في أصول الإيمان؟]
السِّرُّ الأوَّل: لِمَ يَختَلِفُ الأَولياءُ كَثِيرًا في مَشهُوداتِهم وكَشفِيّاتِهم مع أنَّهم يتَّفقُون في أُصُولِ الإيمانِ، إذ تَظهَرُ أحيانًا كُشُوفُهمُ الَّتي هي في دَرَجةِ الشُّهودِ مُخالِفةً للواقِعِ ومُجانِبةً للحَقِّ؟ ولماذا يَرَى ويُبيِّنُ أَصحابُ الفِكرِ وأَربابُ النَّظَرِ الحَقيقةَ مُتَناقِضةً في أَفكارِهم، رَغمَ إثباتِ أَحَقِّيَّتِها بالبُرهانِ القاطِعِ لَدى كلِّ واحِدٍ مِنهم؟ فِلمَ تَتَلوَّنُ الحَقيقةُ الواحِدةُ بأَلوانٍ شَتَّى؟
[السر الثاني: لماذا أجمل الأنبياء السابقون بعض أركان الإيمان؟]
السِّرُّ الثَّاني: لِماذا تَرَك الأَنبِياءُ السّابِقُون عَلَيهم السَّلَام قِسْمًا مِن أَركانِ الإيمانِ، كالحَشرِ الجِسمانِيِّ، على شَيءٍ مِنَ الإجمالِ، ولم يُفَصِّلُوه تَفصِيلًا كامِلًا كما هو في القُرآنِ الكَرِيمِ؛ حتَّى ذَهَب فيما بَعدُ قِسمٌ مِن أُمَمِهم إلى إنكارِ تلك الأَركانِ المُجمَلةِ؟
ثمَّ لِماذا تَقَدَّم قِسمٌ مِنَ الأَولياءِ العارِفين الحَقيقيِّين في التَّوحِيدِ فحَسْبُ، حتَّى بَلَغُوا دَرَجةَ حَقِّ اليَقينِ، معَ أنَّ قِسمًا مِن أَركانِ الإيمانِ يَبدُو مُجمَلًا في مَشارِبِهم أو يَتَراءَى نادِرًا، بل لِأَجلِ هذا لم يُولِ مُتَّبِعُوهم فيما بعدُ تلك الأَركانَ الِاهتِمامَ اللّازِمَ، بل قد زاغَ بعضُهم وضَلَّ.
فما دامَ الكَمالُ الحَقيقيُّ يُنالُ بانكِشافِ أَركانِ الإيمانِ كلِّها، فلِماذا تَقَدَّم أَهلُ الحَقيقةِ في بَعضِها بَينَما تَخَلَّفُوا في بعضِها الآخَرِ، عِلمًا أنَّ الرَّسُولَ الكَرِيمَ ﷺ وهو إمامُ المُرسَلين الَّذي حَظِيَ بالمَراتِبِ العُظمَى للأَسماءِ الحُسنَى كلِّها، وكذا القُرآنُ الحَكِيمُ الَّذي هو إمامُ جَمِيعِ الكُتُبِ السَّماوِيّةِ، قد فَصَّلا أَركانَ الإيمانِ كُلَّها تَفصِيلًا واضِحًا جَلِيًّا وبأُسلُوبٍ جادٍّ ومَقصُودٍ؟
الجَوابُ: نعم، لأنَّ الكَمالَ الحَقيقيَّ الأَتَمَّ هو هكذا في الحَقيقةِ.
وحِكمةُ هذه الأَسرارِ هي على النَّحوِ الآتي:
[سر التفاوت في الاستمداد من الأسماء الإلهية]
إنَّ الإنسانَ على الرَّغمِ مِن أنَّ له استِعدادًا لِبُلُوغِ الكَمالاتِ كلِّها ونَيلِ أَنوارِ الأَسماءِ الحُسنَى جَمِيعِها، فإنَّه يَتَحرَّى الحَقيقةَ مِن خِلالِ أُلُوفِ الحُجُبِ والبَرازِخِ، إذِ اقتِدارُه جُزئيٌّ، واختِيارُه جُزئيٌّ، واستِعداداتُه مُختَلِفةٌ ورَغَباتُه مُتَفاوِتةٌ؛ ولِأَجلِ هذا تَتَوسَّطُ الحُجبُ والبَرازِخُ لَدَى انكِشافِ الحَقيقةِ، وفي شُهُودِ الحَقِّ؛ فبَعضُهم لا يَستَطِيعُ المُرُورَ مِنَ البَرزِخِ. وحيثُ إنَّ القابِليَّاتِ مُتَفاوِتةٌ، فقابِليّةُ بعضِهم لا تكُونُ مَنشَأً لِانكِشافِ بعضِ أَركانِ الإيمانِ.
ثمَّ إنَّ أَلوانَ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ تَتَنوَّعُ حَسَبَ نَيلِ المَظاهِرِ، وتُصبِحُ مُتَغايرةً، فلا يَستَطيعُ بعضُ مَن حَظِيَ بمَظهَرِ اسمٍ مِنَ الأَسماءِ أن يكُونَ مَدارًا لِتَجلِّيه تَجَلِّيًا كامِلًا، فَضْلًا عن أنَّ تَجَلِّيَ الأَسماءِ تَتَّخِذُ صُوَرًا مُختَلِفةً باعتِبارِ الكُلِّيّةِ والجُزئيّةِ والظِّلِّيّةِ والأَصلِيّةِ؛ فيَقصُرُ بعضُ الِاستِعداداتِ عنِ اجتِيازِ الجُزئيّةِ والخُرُوجِ مِنَ الظِّلِّ. وقد يَغلِبُ اسمٌ مِنَ الأَسماءِ حَسَبَ الِاستِعدادِ، فيَنفُذُ حُكمُه وَحدَه، ويكُونُ مُهَيمِنًا في ذلك الِاستِعدادِ.. وهكذا.
فهذا السِّرُّ الغامِضُ العَمِيقُ وهذه الحِكمةُ الواسِعةِ، سنُشِيرُ إلَيها ببِضعِ إشاراتٍ ضِمنَ تَمثِيلٍ واسِعٍ تُمازِجُه الحَقيقةُ إلى حَدٍّ:
[طبقات أهل الحقيقة في مثال]
فلْنَفرِضْ “زَهرةً” ذاتَ نُقُوشٍ، و”قَطْرةً” ذاتَ حَياةٍ عاشِقةً للقَمَرِ، و”رَشْحةً” ذاتَ صَفاءٍ مُتَوجِّهةً نحوَ الشَّمسِ، بحيثُ إنِّ لِكُلٍّ مِنها شُعُورًا، ولِكُلٍّ مِنها كَمالًا، وشَوْقًا نحوَ ذلك الكَمالِ؛ فهذه الأَشياءُ الثَّلاثةُ تُشِيرُ إلى حَقائقَ كَثِيرةٍ، فَضْلًا عن إشاراتِها إلى سُلُوكِ النَّفسِ والعَقلِ والقَلبِ، وهي أَمثِلةٌ لِثَلاثِ طَبَقاتٍ لِأَهلِ الحَقيقةِ2وفي كلِّ طَبَقة أيضًا ثَلاثُ طَوائفَ، فالأَمثِلةُ الثلاثةُ الوارِدةُ في التَّمثيلِ مُتَوجِّهةٌ إلى الطَّبَقاتِ الثلاثِ التي في كلِّ طَبَقةٍ، بَل إلى الطَّبَقاتِ التِّسعِ التي فيها، لا الطَّبَقاتِ الثلاثِ وَحدَها.:
أُولاها: أَهلُ الفِكرِ، وأَهلُ الوِلايةِ، وأَهلُ النُّبوّةِ.. فهذه الأَشياءُ تُشِيرُ إلى هؤلاء.
ثانيَتُها: السَّالِكُون إلى الحَقيقةِ سَعْيًا لِبُلوغِ كَمالِهم بأَجهِزةٍ جِسمانيّةٍ -أي عن طَرِيقِ الحَواسِّ- والماضُون إلى الحَقيقةِ بالمُجاهَدةِ بتَزكِيةِ النَّفسِ وإعمالِ العَقلِ، والسّائرُون إلى الحَقيقةِ بتَصفِيةِ القَلبِ والإيمانِ والتَّسليمِ.. فهذه الأَشياءُ أَمثِلةٌ لِهَؤُلاء.
ثالثَتُها: الَّذين حَصَرُوا السُّلُوكَ إلى الحَقيقةِ باستِدلالِهم، ولم يَدَعوا الأَنانيّةَ والغُرُورَ، وأَوغَلُوا في الآثارِ؛ والَّذين يَتَحرَّون الحَقيقةَ بالعِلمِ والحِكمةِ والمَعرِفةِ؛ والَّذين يَصِلُون إلى الحَقيقةِ سَرِيعًا بالإيمانِ والقُرآنِ والفَقرِ والعُبُودِيّةِ.
فالأَشياءُ الثَّلاثةُ تَمثيلاتٌ، تُشِيرُ إلى حِكمةِ الِاختِلافِ في الطَّوائفِ الثَّلاثِ المُتَفاوِتةِ في الِاستِعداداتِ.
فالسِّرُّ الدَّقيقُ والحِكمةُ الواسِعةُ الَّتي يَتَضمَّنُها رُقيُّ هذه الطَّبَقاتِ الثَّلاثِ، نُحاوِلُ أن نُبيِّنَها ضِمنَ تَمثيلٍ وتحتَ عَناوِينِ: “زَهْرةٌ” و”قَطْرةٌ” و”رَشْحةٌ”.
[تمثيل لتجليات للشمس]
فمَثلًا: للشَّمسِ -بإذنِ خالِقِها وبأَمرِه- أَنواعٌ ثلاثةٌ مُختَلِفةٌ مِنَ التَّجَلِّي والِانعِكاسِ والإفاضةِ.
أَحَدُها: على الأَزهارِ.
والآخَرُ: على القَمَرِ والكَواكِبِ السَّيّارةِ.
وآخَرُ: على المَوادِّ اللَّمَّاعةِ كالزُّجاجِ والماءِ.
[التجلي الأول]
فالأوَّلُ مِن هذا التَّجَلِّي والإفاضةِ والِانعِكاسِ على أَوجُهٍ ثلاثةٍ:
الأوَّلُ: تَجَلٍّ كُلِّيٌّ وانعِكاسٌ عُمُوميٌّ، وهو إفاضَتُها على جَميعِ الأَزهارِ.
الثّاني: تَجَلٍّ خاصٌّ، وهو انعِكاسٌ خاصٌّ حَسَبَ كلِّ نَوعٍ.
الثّالثُ: تَجَلٍّ جُزئيٌّ، وهو إفاضةٌ حَسَبَ شَخصِيّةِ كلِّ زَهرةٍ.
هذا، وإنَّ مِثالَنا مَبنيٌّ على الرَّأيِ القائلِ بأنَّ الأَلوانَ الزّاهِيةَ للأَزهارِ إنَّما تَنشَأُ مِنِ انعِكاسِ تَحَلُّلِ الأَلوانِ السَّبعةِ لِضِياءِ الشَّمسِ. وبِناءً على هذا القَولِ فالأَزهارُ أيضًا نَوعٌ مِن مَرايا الشَّمسِ.
[التجلي الثاني]
ثانيها: هو الفَيضُ والنُّور الَّذي تُعطِيه الشَّمسُ القَمَرَ والكَواكِبَ السَّيّارةَ، بإذنِ الفاطِرِ الحَكِيمِ، فالقَمَرُ يَستَفيدُ مِنَ النُّورِ الَّذي هو في حُكمِ ظِلٍّ لِضِياءِ الشَّمسِ استِفادةً كُلِّيّةً، بعدَ أن أُفيضَ علَيه هذا الفَيضُ الكُلِّيُّ والنُّورُ الواسِعُ، وبعدَ ذلك يُفيدُ القَمَرُ فيَفيضُ بالنُّور بشَكلٍ خاصٍّ على البِحارِ والهَواءِ والتُّرابِ اللّامِعِ، ويَفيضُ بصُورةٍ جُزئيّةٍ على حَباباتِ الماءِ ودَقائقِ التُّرابِ وذَرّاتِ الهَواءِ.
[التجلي الثالث]
ثالثُها: هو انعِكاسٌ للشَّمسِ، بأَمرٍ إلٰهِيٍّ، انعِكاسًا صافيًا كُلِّـيًّا بلا ظِلٍّ، بحيثُ يَجعَلُ كلًّا مِن جَوِّ الهَواءِ ووَجهِ البِحارِ مَرايا.. ثمَّ إنَّ تلك الشَّمسَ تُعطِي صُورَتَها الجُزئيّةَ وتِمثالَها المُصَغَّرَ إلى كلٍّ مِن حَباباتِ البِحارِ وقَطَراتِ الماءِ ورَشَحاتِ الهَواءِ وبِلَّوْراتِ الثَّلجِ.
وهكذا، فالشَّمسُ في الجِهاتِ الثَّلاثِ المَذكُورةِ لها إفاضةٌ وتَوَجُّهٌ إلى كلِّ زَهرةٍ، وإلى كلِّ قَطرةٍ مُتَوجِّهةٍ للقَمَرِ، وإلى كلِّ رَشحةٍ، بطَريقَينِ اثنَينِ في كلٍّ مِنها:
الطَّريقُ الأوَّلُ: إفاضةٌ مُباشَرةٌ بالأَصالةِ، مِن دُونِ المُرُورِ في البَرزَخِ، وبلا حِجابٍ.. هذا الطَّريقُ يُمَثِّلُ طَرِيقَ النُّبوّةِ.
الطَّريقُ الثّاني: تَتَوسَّطُ فيه البَرازِخُ، إذ قابِلِيّاتُ المَرايا والمَظاهِرِ تُعطِي لَوْنًا لِتَجَلِّياتِ الشَّمسِ.. هذا الطَّرِيقُ يُمَثِّلُ طَرِيقَ الوِلايةِ.
وهكذا، “فالزَّهرةُ” و”القَطرةُ” و”الرَّشحةُ” كلٌّ مِنها تَستَطِيعُ أن تقُولَ في الطَّرِيقِ الأوَّلِ: “أنا مِرآةُ شَمسِ العالَمِ أَجمَعَ”، ولكِنَّها لا تَتَمكَّنُ مِن أن تقُولَها في الطَّرِيقِ الثّاني، بل تقُولُ: “إنَّني مِرآةُ شَمسِي” أو “إنَّني مِرآةٌ للشَّمسِ المُتَجلِّيةِ على نَوعِي”، لأنَّها تَعرِفُ الشَّمسَ هكذا؛ إذ لا تَستَطِيعُ أن تَرَى الشَّمسَ المُتَوجِّهةَ إلى العالَمِ كلِّه، لأنَّ شَمسَ ذلك الشَّخصِ، أو نَوعَه، أو جِنسَه، تَظهَرُ له ضِمنَ بَرزَخٍ ضَيِّقٍ وتحتَ قَيدٍ مَحدُودٍ، فلا يَستَطِيعُ أن يَمنَحَ تلك الشَّمسَ المُقيَّدةَ آثارَ الشَّمسِ المُطلَقةِ بلا قَيدٍ ولا بَرزَخٍ. أي: لا يَستَطِيعُ أن يَمنَحَ بشُهُودٍ قَلبيٍّ دِفْءَ وَجهِ الأَرضِ قاطِبةً وتَنوِيرَه وتَحرِيكَ حَياةِ الحَيَواناتِ والنَّباتاتِ جَميعِها وجَعْلَ السَّيّاراتِ تَجرِي حَولَها.. وأَمثالَها مِنَ الآثارِ الجَليلةِ المَهِيبةِ، لا يَستَطِيعُ مَنحَ تلك الشَّمسِ الآثارَ التي شاهَدَها ضِمنَ ذلك القَيدِ الضَّيِّقِ والبَرزَخِ المَحدُودِ.
وحتَّى لو مَنَحَتِ الأَشياءُ الثَّلاثةُ -الَّتي فَرَضْناها ذاتَ شُعُورٍ- الشَّمسَ تلك الآثارَ العَجِيبةَ الَّتي تُشاهِدُها تحتَ ذلك القَيدِ، فإنَّها يُمكِنُها أن تَمنَحَها بوَجهٍ عَقليٍّ وإيمانِيٍّ بَحتٍ، وبتَسلِيمٍ تامٍّ مِن أنَّ تلك المُقيَّدةَ هي المُطلَقةُ ذاتُها؛ فتلك “الزَّهرةُ والقَطرةُ والرَّشحةُ” الَّتي فَرَضْناها شَبِيهةً بالإنسانِ العاقِلِ، إسنادُها هذه الأَحكامَ -أي الآثارَ العَظِيمةَ- إلى شُمُوسِها إسنادٌ عَقليٌّ لا شُهُوديٌّ.. بل قد تَتَصادَمُ أَحكامُها الإيمانيّةُ معَ مَشهُوداتِها الكَونيّةِ، فتُصَدَّقُ بصُعُوبةٍ بالِغةٍ.
[تطبيق التمثيل]
وهكذا، فعلَينا نحنُ الثَّلاثةَ الدُّخُولَ إلى هذا التَّمثيلِ المُمتَزِجِ بالحَقيقةِ، والَّذي يَضِيقُ بها ولا يَسَعُها، وتُشاهَدُ في بعضِ جَوانبِه أَعضاءُ الحَقيقةِ:
سنَفتَرِضُ أَنفُسَنا نحنُ الثَّلاثةَ “الزَّهرة” و”القَطرة” و”الرَّشحة”، إذ لا يَكفِي ما افتَرَضْناه مِن شُعُورٍ فيها، فنُلحِقَ بها عُقُولَنا أيضًا، أي أن نُدرِكَ أنَّ تلك الثَّلاثةَ مِثلَما تَستَفِيضُ مِن شَمسِها المادِّيّةِ، فنحنُ كذلك نَستَفِيضُ مِن شَمسِنا المَعنَوِيّةِ.
فأنت أيُّها الصِّدِّيقُ الَّذي لا يَنسَى الدُّنيا ويُوغِلُ في المادِّيّاتِ وقد غَلُظَتْ نَفسُه وتَكاثَفَت.. كُنِ “الزَّهرةَ“. لِأنَّ استِعدادَك شَبِيهٌ بها، إذ إنَّ تلك الزَّهرةَ تَأخُذُ لَوْنًا قد تَحَلَّل مِن ضِياءِ الشَّمسِ وتَمزِجُ مِثالَ الشَّمسِ مِن ذلك اللَّونِ، وتَتَلوَّنُ به في صُورةٍ زاهِيةٍ.
أمّا هذا الفَيلَسُوفُ الَّذي دَرَس في المَدارِسِ الحَدِيثةِ، والمُعتَقِدُ بالأَسبابِ، والَّذي يُشبِهُه “سَعيدٌ القَديمُ”، فلْيَكُنِ “القَطْرةَ” العاشِقةَ للقَمَرِ الَّذي يَمنَحُها ظِلَّ الضِّياءِ المُستَفادِ مِنَ الشَّمسِ فيُعطِي عَينَها نُورًا فتَتَلَألَأُ به.. ولكِنَّ “القَطْرةَ” لا تَرَى بذلك النُّورِ إلّا القَمَرَ، ولا تَستَطِيعُ أن تَرَى به الشَّمسَ، بل يُمكِنُها رُؤيةُ الشَّمسِ بإيمانِها.
ثمَّ إنَّ هذا الفَقيرَ الَّذي يَعتَقِدُ أنَّ كلَّ شيءٍ مِنه تَعالَى مُباشَرةً، ويَعُدُّ الأَسبابَ حِجابًا، لِيَكُن هو “الرَّشحةَ“، فهي رَشحةٌ فَقيرةٌ في ذاتِها، لا شَيءَ لها كي تَستَنِدَ إلَيه وتَعتَمِدَ علَيه كالزَّهرةِ، وليس لها لَونٌ كي تُشاهَدَ به، ولا تَعرِفُ أَشياءَ أُخرَى كي تَتَوجَّهَ إلَيها. فلَها صَفاءٌ خالِصٌ يُخبِّئُ مِثالَ الشَّمسِ في بُؤبُؤِ عَينِها.
والآنَ، ما دُمنا قد حَلَلْنا مَواضِعَ هذه الثَّلاثةِ، علَينا أن نَنظُرَ إلى أَنفُسِنا، لِنَرَى ماذا بنا؟ وماذا نَعمَلُ؟
فها نحن نَنظُرُ، وإذا بالكَرِيمِ يُسبِغُ علَينا نِعَمَه وإحسانَه، فيُنوِّرُنا ويُرَبِّينا ويُجَمِّلُنا؛ والإنسانُ عَبدُ الإحسانِ، ويَسأَلُ القُرْبَ مِمَّن يَستَحِقُّ العِبادةَ والمَحَبّةَ، ويَطلُبُ رُؤيَتَه، لِذا فكُلٌّ مِنّا يَسلُكُ حَسَبَ استِعدادِه بجاذِبةِ تلك المَحَبّةِ.
فيا مَن يُشبِهُ “الزَّهْرةَ”.. أنت تَمضِي في سُلُوكِك، ولكِنِ امْضِ وأنت زَهرةٌ؛ وها قد مَضَيتَ، وقد تَرَقَّيتَ تَدرِيجِيًّا حتَّى بَلَغْتَ مَرتَبةً كُلِّيّةً، كأَنَّك أَصبَحتَ بمَثابةِ كلِّ الأَزهارِ.. بَينَما الزَّهرةُ مِرآةٌ كَثيفةٌ، فأَلوانُ الضِّياءِ السَّبعةُ تَنكَسِرُ وتَتَحلَّلُ فيها، فتُخْفِي صُورةَ الشَّمسِ المُنعَكِسةَ، فلن تُوَفَّقَ إلى رُؤْيةِ وَجهِ مَحبُوبِك الشَّمسِ، لأنَّ الأَلوانَ المُقَيَّدةَ، والخَصائِصَ، تُشَتِّتُ ضَوْءَ الشَّمسِ وتُسدِلُ الحِجابَ دُونَه، فيَحجُبُ ما وَراءَه. فأنتَ في هذه الحالةِ لن تَنجُوَ مِنَ الفِراقاتِ النّاشِئةِ مِن تَوَسُّطِ الصُّوَرِ والبَرازِخِ، ولكنَّ النَّجاةَ بشَرطٍ واحِدٍ هو: أن تَرفَعَ رَأسَك السّارِحَ في مَحَبّةِ نَفسِك، وتَكُفَّ نَظَرَك المُستَمتِعَ بمَحاسِنِ نَفسِك والمُغتَرَّ بها، وتَجعَلَه يُحدِّقُ في وَجهِ الشَّمسِ الَّتي هي في كَبِدِ السَّماءِ، ثمَّ تُحَوِّلَ وَجْهَك المُنكَبَّ على التُّرابِ يَسأَلُ الرِّزقَ، إلى الشَّمسِ في عُلاها؛ ذلك لأنَّك مِرآةٌ لتلك الشَّمسِ، ووَظِيفَتُك مِرآتيّةٌ وإظهارٌ لِتَجَلِّيها. أمّا رِزقُك فسيَأتيك مِن بابِ خَزِينةِ الرَّحمةِ: التُّراب، سَواءٌ أَعلِمتَ أمْ لم تَعلَمْ. نعم، كما أنَّ الزَّهرةَ مِرآةٌ صَغِيرةٌ للشَّمسِ، فإنَّ هذه الشَّمسَ الضَّخْمةَ أيضًا هي مِرآةٌ كقَطْرةٍ في بَحرِ السَّماءِ، تَعكِسُ لَمْعةً مُتَجَلِّيةً مِنِ اسمِ اللهِ “النُّورُ”. فأَدْرِكْ يا قَلْبَ الإنسانِ مِن هذا ما أَعظَمَ الشَّمسَ الَّتي أنتَ مِرْآتُها!
فبَعدَما أَنجَزْتَ هذا الشَّرطَ تَجِدُ كَمالَك، ولكن لن تَرَى الشَّمسَ بذاتِها وفي نَفسِ الأَمرِ، بل لا تُدرِكُ تلك الحَقيقةَ مُجَرَّدةً، إذ أَلوانُ صِفاتِك تُعطِيها لَونًا، ومِنظارُك الكَثِيفُ يُلبِسُها صُورةً، وقابِليَّتُك المُقيَّدةُ تُحَدِّدُها تحتَ قَيدٍ.
والآنَ أيُّها الفَيلَسُوفُ الحَكِيمُ الدّاخِلُ في “القَطْرةِ“.. إنَّك بمِنظارِ قَطْرةِ فِكْرِك وسُلَّمِ الفَلسَفةِ رَقِيتَ وصَعِدتَ حتَّى بَلَغتَ القَمَرَ، ودَخَلْتَ القَمَرَ.. انظُر: القَمَرُ في ذاتِه كَثِيفٌ مُظلِمٌ، لا ضِياءَ له ولا حَياةَ، فقد ذَهَب سَعْيُك هَباءً وعِلْمُك بلا جَدْوَى ولا نَفْعٍ، فإنَّك تَقْدِرُ أن تَنجُوَ مِن ظُلُماتِ اليَأْسِ ووَحْشةِ الغُربةِ وإزعاجاتِ الأَرواحِ الخَبِيثةِ بهذه الشُّرُوطِ، وهي: أنَّك إن تَرَكتَ لَيلَ الطَّبِيعةِ وتَوَجَّهتَ إلى شَمسِ الحَقيقةِ، واعتَقَدتَ يَقِينًا أنَّ أَنوارَ اللَّيلِ هذا هي ظِلالُ ضِياءِ شَمسِ النَّهار، فإن وَفَيْتَ بهذا الشَّرطِ تَجِدُ كَمالَك، فتَجِدُ الشَّمسَ المَهِيبةَ بَدِيلَ قَمَرٍ فَقِيرٍ مُعتِمٍ؛ ولَكِنَّك أيضًا -مِثلَ صَدِيقِك الآخَرِ- لن تَرَى الشَّمسَ صافِيةً، وإنَّما تَراها وَراءَ سَتائِرَ آنَسَها عَقلُك وأَلِفَتْها فَلْسَفَتُك، تَراها خَلْفَ ما نَسَجَها عِلْمُك وحِكمَتُك مِن حُجُبٍ، تَراها في صِبغةٍ أَعطَتْها إيّاها قابِلِيَّتُك.
وهذا صَدِيقُكُمُ الثّالثُ الشَّبِيهُ بـ”الرَّشْحةِ” فَقِيرٌ، عَدِيمُ اللَّونِ، يَتَبخَّرُ بسُرعةٍ بحَرارةِ الشَّمسِ، يَدَعُ أَنانيَّتَه ويَمتَطِي البُخارَ فيَصعَدُ إلى الجَوِّ، يَلتَهِبُ ما فيه مِن مادّةٍ كَثِيفةٍ بنارِ العِشقِ، يَنقَلِبُ بالضِّياءِ نُورًا، يُمسِكُ بشُعاعٍ صادِرٍ مِن تَجَلِّياتِ ذلك الضِّياءِ ويَقتَرِبُ مِنه.
فيا مِثالَ الرَّشْحةِ.. ما دُمتَ تُؤدِّي وَظِيفةَ المِرآةِ للشَّمسِ مُباشَرةً، فكُن أَينَما شِئتَ مِنَ المَراتبِ، فيُمكِنُك أن تَجِدَ نافِذةً نَظّارةً صافيةً تُطِلُّ مِنها إلى عَينِ الشَّمسِ بعَينِ اليَقينِ؛ فلا تُعانِيَ صُعُوبةً في إسنادِ الآثارِ العَجِيبةِ للشَّمسِ إلَيها، إذ تَستَطِيعُ أن تُسنِدَ إلَيْها أَوْصافَها المَهِيبةَ بلا تَرَدُّدٍ، فلا يُمكِنُ أن يُمسِكَ يَدَك ويَكُفَّك شيءٌ قَطْعًا عن إسنادِ الآثارِ المُذهِلةِ لِسَلطَنَتِها الذّاتيّةِ إلَيْها.. فلا يُحَيِّـرُك ضِيقُ البَرازِخِ ولا قَيْدُ القابِليّاتِ ولا صِغَرُ المَرايا، ولا يَسُوقُك إلى خِلافِ الحَقيقةِ شَيءٌ مِن ذلك، لأنَّك صافٍ وخالِصٌ تَنظُرُ إلَيْها مُباشَرةً، ولذلك فقد أَدرَكْتَ أنَّ ما يُشاهَدُ في المَظاهِرِ ويُرَى في المَرايا ليس شَمْسًا، وإنَّما نَوعٌ مِن تَجَلِّياتِها وضَرْبٌ مِنِ انعِكاساتِها المُتَلَوِّنةِ، وأنَّ تلك الِانعِكاساتِ إنَّما هي دَلائلُ وعَناوِينُ لها فحَسْبُ، ولكِنْ لا يُمكِنُها أن تُظهِرَ آثارَ هَيبَتِها جَمِيعًا.
ففي هذا التَّمثيلِ المُمتَزِجِ بالحَقيقةِ يُسلَكُ إلى الكَمالِ بطُرُقٍ ثلاثةٍ مُختَلِفةٍ مُتَنوِّعةٍ، فهم يَتَبايَنُون في مَزايا تلك الكَمالاتِ وفي تَفاصِيلِ مَرتَبةِ الشُّهُودِ، إلّا أنَّهم يَتَّفِقُون في النَّتيجةِ، وفي الإذعانِ للحَقِّ، وفي التَّصدِيقِ بالحَقيقةِ.
هذا، فكما أنَّ إنسانًا لَيْلِيًّا لم يُشاهِدِ الشَّمسَ أَصْلًا، وإنَّما يَرَى ظِلالَها في مِرآةِ القَمَرِ، لا يُمكِنُه أن يُمَكِّنَ في عَقْلِه ويَستَوعِبَ هَيْبةَ الضِّياءِ الخاصِّ بالشَّمسِ وجاذِبَتِها العَظِيمةِ، وإنَّما يُقلِّدُ مَن رآها ويَستَسلِمُ لهم؛ كذلك مَن لم يَبلُغْ بالوِراثةِ النَّبوِيّةِ المَرتَبةَ العُظمَى لِاسْمَيِ “القَدِيرِ” و”المُحيِي” وأَمثالِهما مِنَ الأَسماءِ يَرَى الحَشْرَ الأَعظَمَ والقِيامةَ الكُبْرَى ويَقبَلُها تَقلِيدًا، قائلًا: إنَّها لَيسَت مَسأَلةً عَقلِيّةً، لأنَّ حَقيقةَ الحَشرِ والقِيامةِ مَظاهِرُ لِتَجَلِّي الِاسمِ الأَعظَمِ والمَراتِبِ العُظمَى لِقِسمٍ مِنَ الأَسماءِ.
فمَن لم يَرْقَ نَظَرُه إلى تلك المَرتَبةِ يُضطَرُّ إلى التَّقليدِ، بَينَما مَن نَفَذَ فِكْرُه إلى هناك يَرَى الحَشْرَ والقِيامةَ سَهْلةً كسُهُولةِ تَعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ والشِّتاءِ والصَّيفِ، فيَرضَى بها مُطمَئِنَّ القَلبِ.
وهكذا، فمِن هذا السِّرِّ يَذكُرُ القُرآنُ الكَرِيمُ الحَشْرَ والقِيامةَ في أَعظَمِ مَرتَبةٍ وفي أَكمَلِ تَفصِيلٍ، وهكذا يُرشِدُ إلَيْهما الرَّسُولُ الأَعظَمُ ﷺ الَّذي حَظِيَ بأَنوارِ الِاسمِ الأَعظَمِ؛ أمّا الأَنبِياءُ السَّابقُون عَلَيهم السَّلَام فلم يُبيِّنُوا الحَشْرَ في أَعظَمِ دَرَجةٍ وأَوسَعِ تَفصِيلٍ بل بشَيءٍ مِنَ الإجمالِ، وذلك بمُقتَضَى حِكمةِ الإرشادِ حيثُ كانَت أُمَمُهم على أَحوالٍ ابتِدائيّةٍ بَسِيطةٍ. ومِن هذا السِّرِّ أيضًا لم يَرَ قِسمٌ مِنَ الأَولياءِ بعضَ أَركانِ الإيمانِ في مَرتَبَتِه العُظمَى أو عَجَزُوا عن أن يُبَيِّنُوه هكذا.
ومِن هذا السِّرِّ أيضًا تَتَفاوَتُ كَثِيرًا دَرَجاتُ العارِفين في مَعرِفةِ اللهِ.
وهكذا تَنكَشِفُ مِن هذه الحَقيقةِ أَسرارٌ كَثيرةٌ أَمثالَ هذه.
والآنَ نَكتَفي بالتَّمثيلِ، لأنَّه يُشعِرُ إلى حَدٍّ مّا بالحَقيقةِ، إذِ الحَقيقةُ واسِعةٌ جِدًّا وعَمِيقةٌ جِدًّا، ولا نَتَدخَّلُ بما هو فَوقَ حَدِّنا مِن أَسرارٍ وبما لا طاقةَ لنا به.
الغُصنُ الثّالث [أصولٌ في فهم الأحاديث النبوية الشريفة]
نَظَرًا لِشَيءٍ مِنَ الغُمُوضِ الَّذي يَكتَنِفُ فَهْمَ قِسمٍ مِنَ الأَحادِيثِ الشَّرِيفةِ الَّتي تَبحَثُ في “عَلاماتِ السّاعةِ وأَحداثِها”، وفي “فَضائلِ الأَعمالِ وثَوابِها”، فقد ضَعَّفها عَدَدٌ مِن أَهلِ العِلمِ المُعتَدِّين بعُقُولِهم، ووَضَعُوا بعضَها في عِدادِ “المَوضُوعاتِ”؛ وتَطَرَّف آخَرُون مِن ضِعافِ الإيمانِ المَغرُورِين بعُقُولِهم فذَهَبُوا إلى إنكارِها؛ ونحنُ هنا لا نُرِيدُ أن نُناقِشَهم تَفصِيلًا، بل نُنَبِّهُ إلى “اثنَيْ عَشَرَ” أَصْلًا مِنَ الأُصُولِ والقَواعِدِ العامّةِ الَّتي يُمكِنُ الِاستِهداءُ بها في فَهْمِ هذه الأَحادِيثِ الشَّرِيفةِ مَوضُوعِ البَحثِ.
الأصلُ الأوَّل [الدين امتحان واختبار، والإبهام في بعض النصوص لهذا السبب]
وهو المَسأَلةُ الَّتي بَيَّنّاها في الجَوابِ عنِ السُّؤالِ الوارِدِ في نِهايةِ “الكَلِمةِ العِشرِين” ومُجمَلُها: أنَّ الدِّينَ امتِحانٌ واختِبارٌ، يُمَيِّـزُ الأَرواحَ العالِيةَ مِنَ الأَرواحِ السّافِلةِ؛ لِذا يَبحَثُ في الحَوادِثِ الَّتي سيَشهَدُها النّاسُ في المُستَقبَلِ بصِيغةٍ لَيسَت مَجهُولةً ومُبهَمةً إلى حَدِّ استِعصاءِ فَهْمِها، ولَيسَت واضِحةً وُضُوحَ البَداهةِ الَّتي لا مَناصَ مِن تَصدِيقِها، بل يَعرِضُها عَرْضًا مُنفَتِحًا على العُقُولِ، لا يُعجِزُها، ولا يَسلُبُ مِنها القُدرةَ على الِاختِيارِ؛ فلو ظَهَرَت عَلامةٌ مِن عَلاماتِ السّاعةِ بوُضُوحٍ كوُضُوحِ البَدِيهيّاتِ، واضطُرَّ النّاسُ إلى التَّصدِيقِ، لَتَساوَى عِندَئذٍ استِعدادٌ كالفَحْمِ في خَساسَتِه مع استِعدادٍ آخَرَ كالأَلماسِ في نَفاسَتِه، ولَضاعَ سِرُّ التَّكليفِ وضاعَت نَتِيجةُ الِامتِحانِ سُدًى.
فلِأَجلِ هذا ظَهَرَتِ اختِلافاتٌ كَثيرةٌ في مَسائلَ عَدِيدةٍ، كمَسائلِ المَهدِيِّ والسُّفيانِيِّ، وصَدَرَت أَحكامٌ مُتَضارِبةٌ لكَثرةِ الِاختِلافِ في الرِّواياتِ.
الأصلُ الثّاني [لا يُطلب البرهان القطعي والإذعان اليقيني في كل مسألةٍ فرعية]
للمَسائلِ الإسلاميّةِ طَبَقاتٌ ومَراتِبُ، فبَينَما تَحتاجُ إحداها إلى بُرهانٍ قَطعِيٍّ، كما في مَسائلِ العَقائدِ، تَكتَفي الأُخرَى بغَلَبةِ الظَّنِّ، وأُخرَى إلى مُجَرَّدِ التَّسليمِ والقَبُولِ وعَدَمِ الرَّفضِ.
لهذا لا يُطلَبُ بُرهانٌ قَطعِيٌّ وإذعانٌ يَقينيٌّ في كلِّ مَسأَلةٍ مِن مَسائلِ الفُرُوعِ أوِ الأَحداثِ الزَّمانيّةِ الَّتي هي لَيسَت مِن أُسُسِ الإيمان، بل يُكتَفَى بالتَّسلِيمِ وعَدَمِ الرَّفضِ.
الأصلُ الثّالث [آفة الإسرائيليات]
لقد أَسلَمَ كَثيرٌ مِن عُلَماءِ بَني إسرائيلَ والنَّصارَى في عَهْدِ الصَّحابةِ الكِرامِ رَضِيَ الله عَنهُم، وحَمَلُوا معَهم إلى الإسلامِ مَعلُوماتِهِمُ السّابِقةَ، فأُخِذَ وَهْمًا غيرُ قَلِيلٍ مِن تلك المَعلُوماتِ السّابِقةِ المُخالِفةِ لِواقِعِ الحالِ كأنَّها مِنَ العُلُومِ الإسلاميّةِ.
الأصلُ الرّابع [آفة الرواية بالمعنى]
لقد أُدرِجَ شَيءٌ مِن أَقوالِ الرُّواةِ، أوِ المَعاني الَّتي استَنبَطُوها ضِمنَ مَتنِ الحَدِيثِ، فأُخِذَت على عِلّاتِها؛ ولَمّا كان الإنسانُ لا يَسلَمُ مِن خَطَأٍ، ظَهَر شَيءٌ مِن تلك الأَقوالِ والِاستِنباطاتِ مُخالِفًا للواقِعِ، مِمّا سبَّبَ ضَعْفَ الحَدِيثِ.
الأصلُ الخامِس [الإلهامات والكشفيات دون مرتبة الحديث]
اعتُبِر بعضُ المَعاني المُلهَمةِ للأَولياءِ وأَهلِ الكَشفِ مِنَ المُحَدِّثين على أنَّها أَحادِيثُ، بِناءً على أنَّ في الأُمّةِ مُحَدَّثين، أي: مُلهَمِين؛ ومِنَ المَعلُومِ أنَّ إلهامَ الأَولياءِ قد يكُونُ خَطَأً لبَعضِ العَوارِضِ، فيُمكِنُ أن يَظهَرَ ما يُخالِفُ الحَقيقةَ في أَمثالِ هذا النَّوعِ مِنَ الرِّواياتِ.
الأصلُ السّادِس [المقصدُ من ذكر بعض الأخبار في نصوص الوحي]
تَشتَهِرُ بعضُ الحِكاياتِ بينَ النّاسِ، فتَجرِي تلك الحِكايةُ مَجرَى الأَمثالِ، والأَمثالُ لا يُنظَر إلى مَعناها الحَقيقيِّ، وإنَّما يُنظَرُ إلى الهَدَفِ الَّذي يُساقُ إلَيْه المَثَلُ، لهذا كان في بعضِ الأَحادِيثِ ذِكرُ بعضِ ما تَعارَف علَيه النّاسُ مِن قِصَصٍ وحِكاياتٍ كِنايةً وتَمثِيلًا على سَبِيلِ التَّوجِيهِ والإرشادِ. فإن كان هناك نَقْصٌ وقُصُورٌ في المَعنَى الحَقيقيِّ في مِثلِ هذه المَسائلِ، فهو يَعُودُ إلى أَعرافِ النّاسِ وعاداتِهم، ويَرجِعُ إلى ما تَسامَعُوه وتَعارَفُوا علَيه مِن حِكاياتٍ.
الأصلُ السّابع [المجاز ينقلب بيد الجهل حقائق]
هناك كَثيرٌ مِنَ التَّشبِيهاتِ والتَّمثِيلاتِ البَلاغِيّةِ تُؤخَذُ كحَقائقَ مادِّيّةٍ، إمّا بمُرُورِ الزَّمَنِ، أو بانتِقالِها مِن يَدِ العِلمِ إلى يَدِ الجَهلِ، فيَقَعُ النّاسُ في الخَطَأِ مِن حُسْبانِ تلك التَّشبِيهاتِ حَقائقَ مادِّيّةً.
فمَثلًا: إنَّ المَلَكَينِ المُسَمَّيَينِ بالثَّورِ والحُوتِ، والمُتَمَثِّلَينِ على صُورَتَيهِما في عالَمِ المِثالِ، وهما مِن مَلائِكةِ اللهِ المُشرِفةِ على الحَيَواناتِ البَرِّيّةِ والبَحرِيّةِ، قد تَحَوَّلا إلى ثَوْرٍ ضَخْمٍ وحُوتٍ مُجَسَّمٍ في ظَنِّ النّاسِ وتَصَوُّرِهمُ الخَطَأِ، مِمّا أَدَّى إلى الِاعتِراضِ على الحَدِيثِ.
ومَثلًا: سُمِعَ صَوْتٌ في مَجلِسِ الرَّسُولِ ﷺ، فقالَ: “هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فهُوَ يَهْوِي في النَّارِ الآنَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا”. فالَّذي يَسمَعُ بهذا الحَدِيثِ ولم تَتَبيَّنْ له الحَقِيقةُ يُنكِرُه، فيَزِيغُ، ولكِنْ إذا عَلِمَ ما هو ثابِتٌ قَطْعًا، أنَّه بعدَ مُدّةٍ وَجِيزةٍ جاءَ أَحَدُهم فأَخبَرَ النَّبِيَّ ﷺ أنَّ المُنافِقَ الفُلانِيَّ المَشهُورَ قد ماتَ قَبلَ هُنَيْهةٍ، عِندَئذٍ يَتَيقَّنُ أنَّ الرَّسُولَ ﷺ قد صَوَّرَ ببَلاغَتِه النَّبَوِيّةِ الفائِقةِ ذلك المُنافِقَ الَّذي دَخَلَ السَّبعِينَ مِن عُمُرِه حَجَرًا يَتَدحْرَجُ إلى قَعْرِ جَهَنَّمَ، حيثُ إنَّ حَياتَه كُلَّها سُقُوطٌ إلى الكُفْرِ، وتَرَدٍّ إلى أَسْفَلِ سافِلِين، وقد أَسْمَعَ اللهُ سُبحانَه ذلك الصَّوْتَ في لَحْظةِ مَوْتِ ذلك المُنافِقِ وجَعَلَه عَلامةً علَيه.
الأصلُ الثّامِن [حكمة الإبهام]
يُخفي الحَكِيمُ العَلِيمُ في دارِ الِامتِحانِ ومَيدانِ الِابتِلاءِ هذا، أُمُورًا مُهِمّةً جِدًّا بينَ ثَنايا كَثْرةٍ مِنَ الأُمُورِ، وتَرتَبِطُ بهذا الإخفاءِ حِكَمٌ كَثيرةٌ ومَصالِحُ شَتَّى.
فمَثلًا: قد أَخفَى سُبحانَه وتَعالَى “لَيلةَ القَدْرِ” في شَهرِ رَمَضانَ، و”ساعةَ الإجابةِ” في يَومِ الجُمُعةِ، و”أَولياءَه الصّالِحِين” بينَ مَجامِيعِ البَشَرِ، و”الأَجَلَ” في العُمُر، و”قِيامَ السّاعةِ” في عُمُرِ الدُّنيا.. وهكذا، فلو كانَ أَجَلُ الإنسانِ مُعَيَّنًا ومَعلُومًا وَقتُه، لَقَضَى هذا الإنسانُ المِسكِينُ نِصْفَ عُمُرِه في غَفْلةٍ تامّةٍ، ونِصفَه الآخَرَ مَرعُوبًا مَدهُوشًا كمَن يُساقُ خَطْوةً خَطْوةً نحوَ حَبْلِ المِشْنَقةِ؛ بَينَما تَقتَضِي المُحافَظةُ على التَّوازُنِ المَطلُوبِ بينَ الدُّنيا والآخِرةِ ومَصلَحةُ بقاءِ الإنسانِ مُعَلَّقًا قَلبُه بينَ الرَّجاءِ والخَوْفِ، أن تكُونَ في كُلِّ دَقيقةٍ تَمُرُّ بالإنسانِ إمكانُ حُدُوثِ المَوتِ أوِ استِمرارِ الحَياةِ.. وعلى هذا يُرجَّحُ عِشرُون سَنةً مِن عُمُرٍ مَجهُولِ الأَجَلِ على أَلفِ سَنةٍ مِن عُمُرٍ مَعلُومِ الأَجَلِ.
وهكذا، فقِيامُ السّاعةِ هو أَجَلُ هذه الدُّنيا الَّتي هي كإنسانٍ كَبِيرٍ، فلو كان وَقتُه مُعَيَّنًا ومُعْلَنًا لَمَضَتِ القُرُونُ الأُولَى والوُسْطَى سادِرةً في نَومِ الغَفلةِ، بَينَما تَظَلُّ القُرُونُ الأَخيرةُ في رُعبٍ ودَهشةٍ، ذلك لأنَّ الإنسانَ وَطِيدُ العَلاقةِ بحَياةِ مَسكَنِه الأَكبَرِ وبلَدِه الأَعظَمِ: الدُّنيا، بحُكْمِ حَياتِه الِاجتِماعيّةِ والإنسانيّةِ، مِثلَما يَرتَبِطُ بمَسكَنِه وبلَدِه بحُكْمِ حَياتِه اليَوميّةِ والشَّخصِيّةِ.
نَفهَمُ مِن هذا أنَّ القُربَ المَذكُورَ في الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾ لا يُناقِضُه مُرُورُ أَلفِ سَنةٍ ونَيِّفٍ، إذِ السّاعةُ أَجَلُ الدُّنيا. وما نِسبةُ أَلفِ سَنةٍ أو أَلفَينِ مِنَ السِّنينَ إلى عُمُرِ الدُّنيا إلّا كنِسبةِ يَومٍ أو يَومَينِ أو دَقيقةٍ ودَقيقتَينِ إلى سِنِيْ العُمُرِ.
فلا يَنبَغي أن يَغِيبَ عن بالِنا أنَّ يَومَ القِيامةِ ليس أَجَلَ الإنسانيّةِ فحَسْبُ حتَّى يُقاسَ قُربُه وبُعْدُه بمِقياسِ عُمُرِها، بل هو أَجَلُ الكائِناتِ والسَّماواتِ والأَرضِ ذاتِ الأَعمارِ المَهُولةِ الَّتي تَنِدُّ عنِ القِياسِ والحِسابِ.
ولِأَجلِ هذا فقد أَخفَى الحَكِيمُ العَلِيمُ مَوعِدَ قِيامِ السّاعةِ في عِلمِه بينَ المُغيَّباتِ الخَمسةِ، وكان مِن حِكمةِ الإخفاءِ هذا أن يَخشَى النّاسُ في جَمِيعِ العُصُورِ قِيامَ السّاعةِ، حتَّى الصَّحابةُ الكِرامُ رِضوانُ اللهِ علَيهم كانُوا أَشَدَّ خَشْيةً مِن قِيامِها في زَمَنِهم مِن غَيرِهم، معَ أنَّهم كانُوا يَعيشُون في خَيرِ القُرُونِ، وهو قَرْنُ السَّعادةِ وانجِلاءِ الحَقائقِ، بل قال بعضُهم: إنَّ أَشراطَ السّاعةِ وعَلاماتِها قد تَحَقَّقَت.
[كيف ظن الصحابة وقوع بعض أشراط الساعة في زمانهم؟]
فالَّذين يَجهَلُون حِكمةَ الإخفاءِ وحَقيقَتَه في الوَقتِ الحاضِرِ يقُولُون ظُلْمًا: كيفَ ظَنَّ الصَّحابةُ الكِرامُ رِضوانُ اللهِ علَيهم قُرْبَ وُقُوعِ حَقيقةٍ مُهِمّةٍ وخَطِيرةٍ ستَأتِي بعدَ أَلفٍ وأَربعِ مِئةِ سَنةٍ، ظَنُّوها قَرِيبةً في عَصْرِهم؛ عِلْمًا بأنَّهم كانُوا أَقْدرَ المُسلِمين وأَفضَلَهم في إدراكِ مَعانِي الآخِرةِ، وأَحَدَّ المُؤمنين بَصِيرةً وأَرهَفَهم حِسًّا بإرهاصاتِ ما سيَأتِي به الزَّمَنُ؟ لَكَأنَّ فِكْرَهم قد حادَ عنِ الحَقيقةِ أَلفَ سَنةٍ!
الجَوابُ: لِأَنَّ الصَّحابةَ الكِرامَ -رَضِيَ الله عَنهُم أَجمَعِين- كانُوا أَكثرَ النّاسِ تَفَكُّرًا بالآخِرةِ، وأَرسَخَهم يَقِينًا بفَناءِ الدُّنيا، وأَوْسَعَهم فِقهًا بحِكْمةِ إخفاءِ اللهِ سُبحانَه لِوَقتِ القِيامةِ، وذلك بفَضْلِ نُورِ الصُّحبةِ النَّبوِيّةِ وفَيضِها علَيهم، لِذا كانُوا مُنتَظِرين أَجَلَ الدُّنيا، مُتَهيِّئين لِمَوتِها كمَن يَنتَظِرُ أَجَلَه الشَّخصِيَّ، فسَعَوْا لِآخِرَتِهم سَعْيًا حَثِيثًا.
ثمَّ إنَّ تَكرارَ الرَّسُولِ ﷺ: “.. فانتَظِروا السّاعةَ” نابِعٌ مِن هذه الحِكمةِ، حِكمةِ الإخفاءِ والإبهامِ، وفيه إرشادٌ نَبَوِيٌّ بَلِيغٌ، وليس تَعيِينًا لِمَوعِدِ السّاعةِ بالوَحْيِ، حتَّى يُظَنَّ بُعدُه عنِ الحَقيقةِ، إذِ الحِكمةُ شَيءٌ يَختَلِفُ عنِ العِلّةِ. وهكذا، فالأَحادِيثُ الشَّرِيفةُ الَّتي هي مِن هذا القَبِيلِ نابِعةٌ مِن حِكمةِ الإخفاءِ والإبهامِ.
[حول المهدي والدجال]
وبِناءً على هذه الحِكمةِ نَفسِها، فقدِ انتَظَر النّاسُ مُنذُ زَمَنٍ مَدِيدٍ، بل مُنذُ زَمَنِ التّابعِين، ظُهُورَ المَهدِيِّ والدَّجّالِ السُّفيانِيِّ، على أَمَلِ اللَّحاقِ بهم، حتَّى قالَ قِسمٌ مِنَ الأَولياءِ الصّالِحين بفَواتِ وَقتِهم!
فالحِكمةُ في عَدَمِ تَعيِينِ أَوقاتِ ظُهُورِهم هي الحِكمةُ نَفسُها في عَدَمِ تَعيِينِ يَومِ القِيامةِ. وتَتَلخَّصُ بما يَأتِي: إنَّ كلَّ وَقتٍ وكلَّ عَصْرٍ بحاجةٍ إلى “مَعنَى” المَهدِيِّ الَّذي يكُونُ أَساسًا للقُوّةِ المَعنَوِيّةِ، وخَلاصًا مِنَ اليَأْسِ. فيَلزَمُ أن يكُونَ لكُلِّ عَصْرٍ نَصِيبٌ مِن هذا المَعنَى.
وكذلك يَجِبُ أن يكُونَ النّاسُ في كلِّ عَصْرٍ مُتَيقِّظين وحَذِرِين مِن شَخصِيّاتٍ شِرِّيرةٍ تكُونُ على رَأْسِ النِّفاقِ، وتَقُودُ تَيّارًا عَظِيمًا مِنَ الشَّرِّ، وذلك لِئَلّا يَرتَخِيَ عِنانُ النَّفسِ بالتَّسَيُّبِ وعَدَمِ المُبالاةِ.
فلو كانَت أَوقاتُ ظُهُورِ المَهدِيِّ والدَّجّالِ وأَمثالِهما مِنَ الأَشخاصِ مُعَيَّنةً لَضاعَت مَصْلَحةُ الإرشادِ والتَّوجِيهِ.
أمّا سِرُّ الِاختِلافِ في الرِّواياتِ الوارِدةِ في حَقِّهما فهو: أنَّ الَّذين فَسَّروا تلك الأَحادِيثَ الشَّرِيفةَ قد أَدمَجُوا استِنباطاتِهم واجتِهاداتِهمُ الشَّخصِيّةَ معَ مَتْنِ الحَدِيثِ، كتَفسِيرِهم أنَّ وَقائِعَ المَهديِّ وأَحداثَ الدَّجّالِ تَقَعُ حَولَ الشّامِ والبَصْرةِ والكُوفةِ حَسَبَ تَصَوُّرِهم، إذ كانَت تلك المُدُنُ تَقَعُ حَولَ مَركَزِ الخِلافةِ يَومَئذٍ في المَدِينةِ المُنَوَّرةِ والشّامِ.
أو أنَّهم فَسَّرُوا تلك الأَحادِيثَ بأنَّ الآثارَ العَظِيمةَ الَّتي تُمَثِّـلُ الشَّخصِيّةَ المَعنَوِيّةَ لأُولَئك الأَشخاصِ أو تَقُومُ بها جَماعاتُهم، تَصَوَّرُوها ناشِئةً مِن شَخصِيَّتِهمُ الذّاتيّةِ الفَردِيّةِ، مِمّا أَدَّى إلى أن يُفهَمَ أنَّ هؤلاء الأَشخاصَ سيَظهَرُون ظُهُورًا خارِقًا للعادةِ، فيَعرِفُهم جَميعُ النّاس.
والحالُ -كما قلنا- أنَّ الدُّنيا مَيدانُ اختِبارٍ وامتِحانٍ، وأنَّ اللهَ تَعالَى عِندَما يَختَبِرُ الإنسانَ لا يَسلُبُ مِنه الِاختِيارَ، بل يَفتَحُ البابَ أمامَ عَقْلِه؛ لِذا فهؤلاء الأَشخاصُ -أيِ الدَّجّالُ والمَهدِيُّ- لا يُعرَفُون مِن قِبَلِ كَثيرٍ مِنَ النّاسِ عندَ ظُهُورِهم، بل لا يَعرِفُ ذلك الدَّجّالُ الرَّهِيبُ نَفسُه أنّه دَجّالٌ بادِئَ الأَمرِ، وإنَّما يَعرِفُهم مَن يَنظُرُ إلَيهم بنُورِ الإيمانِ النّافِذِ إلى الأَعماقِ.
[حول الدجال]
والدَّجّالُ الَّذي هو مِن عَلاماتِ السّاعةِ أَخبَرَ عنه الرَّسُولُ ﷺ أنَّ يَومًا مِن أيّامِه كسَنةٍ، ويَومًا كشَهْرٍ، ويَومًا كجُمُعةٍ، وسائرَ أيّامِه كأيّامِكم. وأنَّ الدُّنيا تَسمَعُ صَوتَه، ويَسِيحُ في الأَرضِ في أَربَعِين يَومًا.
فالَّذين لم يُنصِفُوا قالُوا: هذه الرِّوايةُ ضَرْبٌ مِنَ المُحالاتِ! وأَنكَرُوها. حاشَ للهِ، بل إنَّ حَقِيقتَها -والعِلمُ عندَ اللهِ- هي الآتي: إنَّ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ إشارةً إلى ظُهُورِ شَخْصٍ مِن جِهةِ الشَّمالِ، الَّذي هو أَكثَفُ مَنطِقةٍ لِعالَمِ الكُفرِ، يَقُودُ تَيّارًا عَظِيمًا يَتَمَخَّضُ عنِ المادِّيّةِ الجاحِدةِ، ويَدعُو إلى الإلحادِ وإنكارِ الخالقِ. فمَعنَى الحَديثِ فيه إشارةٌ إلى ظُهُورِ هذا الشَّخصِ مِن شَمالِ العالَمِ.
وتَتَضمَّنُ هذه الإشارةُ رَمْزًا حَكِيمًا وهو أنَّ الدّائرةَ القَرِيبةَ للقُطبِ الشَّماليِّ تكُونُ السَّنةُ فيها يَومًا ولَيلةً، حيثُ إنَّ سِتّةَ أَشهُرٍ مِنها لَيلٌ، والسِّتّةَ الأُخرَى نَهارٌ. أي: يَومُ الدَّجّالِ هذا سَنةٌ واحِدةٌ كما وَرَد: “يَومٌ كسَنةٍ”. فهذه إشارةٌ إلى ظُهُورِه قَرِيبًا مِن تلك الدّائرةِ.
أمّا المُرادُ بـ”يَومٌ كشَهْرٍ” فهو أنَّه كُلَّما تَقَدَّمْنا مِنَ الشَّمالِ نَحوَ مَناطِقِنا يكُونُ النَّهارُ أَحيانًا شَهرًا كامِلًا، حيثُ لا تَغرُبُ الشَّمسُ شَهرًا في الصَّيفِ. وهذه إشارةٌ أيضًا إلى تَجاوُزِ الدَّجّالِ إلى عالَمِ الحَضارةِ بعدَ ظُهُورِه في الشَّمالِ. وهذه الإشارةُ آتيةٌ مِن إسنادِ اليومِ إلى الدَّجّالِ.. وهكذا كلَّما اقتَرَبْنا نُـزُولًا مِنَ الشَّمالِ إلى الجَنُوبِ نَرَى الشَّمسَ لا تَغرُبُ أُسبُوعًا، إلى أن يكُون الفَرقُ في الشُّروقِ والغُروبِ ثلاثَ ساعاتٍ.. وقد كُنتُ في مكانٍ كهذا عِندَما كنتُ أَسِيرًا في رُوسيا، فكانَتِ الشَّمسُ لا تَغرُبُ أُسبُوعًا في مَكانٍ قَرِيبٍ مِنّا، حتَّى كان النّاسُ يَخرُجُون لِمُشاهَدةِ المَنظَرِ الغَرِيبِ للغُرُوبِ.
أمَّا بُلُوغُ صَوْتِ الدَّجّالِ إلى أَنحاءِ العالَمِ، وأنَّه يَطُوفُ الأَرضَ في أَربَعين يَومًا، فقد حَلَّتْهما أَجهِزةُ الرّاديُو والمُخابَرةِ ووَسائلُ النَّقلِ الحاضِرةُ مِن قِطاراتٍ وطائراتٍ. فالَّذين أَنكَرُوا هاتَينِ الحالتَينِ مِنَ المُلحِدِين بالأَمسِ وعَدُّوهما مِنَ المُحالاتِ يَرَونَهما اليَومَ مِنَ الأُمُورِ العادِيّةِ.
[حول يأجوج ومأجوج]
أمَّا يأجُوجُ ومأجُوجُ والسَّدُّ اللَّذانِ هما مِن عَلاماتِ السّاعةِ، فقد كَتَبتُ عنهما بشَيءٍ مِنَ التَّفصِيلِ في رِسالةٍ أُخرَى، أُحِيلُ إلَيها، أمّا هنا فأَقُولُ:
إنَّه مِثلَما دَمَّرتْ قَبِيلَتا المانجُورِ والمَغُولِ بالأَمسِ المُجتَمَعاتِ البَشَرِيّةَ وكانُوا السَّببَ في بِناءِ سَدِّ الصِّينِ، فهناك رِواياتٌ تُشِيرُ إلى أنَّه معَ قُرْبِ قِيامِ السّاعةِ ستَسقُطُ الحَضارةُ الجَدِيدةُ أيضًا وتَنهارُ تحتَ ضَرَباتِ أَقدامِ أَفكارِهمُ الإرهابيّةِ والفَوضَوِيّةِ المُرعِبةِ.
[أين يأجوج ومأجوج اليوم؟]
وهنا يَتَساءَلُ عَدَدٌ مِنَ المَلاحِدةِ: أين هذه الطّائفةُ مِنَ البَشَرِ، الَّتي قامَت وستَقُومُ بمِثلِ هذه الأَفعالِ؟
الجَوابُ: كما أنّ الجَرادَ آفةٌ زِراعيّةٌ تَكتَسِحُ مَنطِقةً مُعيَّنةً في مَوسِمٍ مُعيَّنٍ، ثمَّ تَختَفي تَبَعًا لِتَبَدُّلِ المَوسِمِ. فإنَّ خَواصَّ تلك الأَجناسِ الَّتي أَبادَتْ تلك المَنطِقةَ مَخبُوءةٌ في حَنايا بعضِ أَفرادٍ مَحدُودِين مِنها، فتَظهَرُ تلك الآفةُ نَفسُها، بأَمرٍ إلٰهِيٍّ، في مَوسِمٍ مُعيَّنٍ، وبكَثرةٍ ساحِقةٍ، أي إنَّ حَقيقةَ أَجناسِها تَنزَوِي ولا تَضْمَحِلُّ، لِتَظهَرَ مِن جَديدٍ في مَوسِمٍ مُعيَّنٍ.
فكما أنَّ الأَمرَ هكذا في الجَرادِ، فإنَّ الأَقوامَ الَّذين أَشاعُوا الفَسادَ في العالَمِ في وَقتٍ مّا، سيَظهَرُون عِندَ مَوعِدٍ مُحدَّدٍ لهم لإهلاكِ البَشَرِيّةِ بأَمرٍ إلٰهِيٍّ وبمَشِيئتِه سُبحانَه، فيُدَمِّرُون الحَضارةَ البَشَرِيّةَ مَرّةً أُخرَى، ولكِنَّ إثارتَهم وتَحرِيكَهم سيكُونُ بنَمَطٍ آخَرَ. ولا يَعلَمُ الغَيبَ إلّا اللهُ.
الأصلُ التّاسِع [حول فهم أحاديث فضائل الأعمال]
إنَّ حَصِيلةَ قِسمٍ مِنَ المَسائلِ الإيمانيّةِ مُتَوجِّهةٌ إلى أُمُورٍ تَتَعلَّقُ بهذا العالَمِ الضَّيِّقِ المُقيَّدِ، والقِسمُ الآخَرُ مِنها يَرنُو إلى العالَمِ الأُخرَوِيِّ الواسِعِ الطَّليقِ؛ وحيثُ إنَّ قِسمًا مِنَ الأَحادِيثِ النَّبَوِيّةِ الوارِدةِ في فَضائلِ الأَعمالِ قد عبَّر عنها الرَّسُولُ الكَرِيمُ ﷺ بأُسلُوبٍ بَلاغيٍّ يُناسِبُ التَّرغِيبَ والتَّرهِيبَ، فقد ظَنَّ مَن لا يُنعِمُ النَّظَرَ أنَّ تلك الأَحادِيثَ الشَّرِيفةَ تَحمِلُ مُبالَغةً! كلّا، إنَّها جَميعًا لَعَينُ الحَقِّ ومَحْضُ الحَقيقةِ، وليس فيها مُبالَغةٌ قَطُّ.
[مثال: حديث الدنيا لا تعدل جناح بعوضة]
مِثالٌ: إنَّ الَّذي يَخرِشُ أَذهانَ المُتعَسِّفين ويُثيرُها هو الحَدِيثُ الآتي: “لو كانَتِ الدُّنيا تَعدِلُ عندَ اللهِ جَناحَ بَعُوضةٍ ما شَرِبَ الكافِرُ مِنها جَرعةَ ماءٍ”. أو كما قالَ.
وحَقيقَتُه هي أنَّ كَلِمةَ “عِندَ اللهِ” تُعبِّرُ عنِ العالَمِ الباقي، فالنُّورُ المُنبَثِقُ مِن عالَم البَقاءِ، ولو بمِقدارِ جَناحِ بَعُوضةٍ هو أوسعُ وأعمُّ، لأنه أَبَديٌّ، من نُورٍ مؤقَّت ولو كان يَملَأ الأرضَ.
أي إنَّ الحَدِيثَ لا يَعقِدُ مُوازَنةً بينَ جَناحِ البَعُوضِ والعالَمِ الكَبِيرِ، وإنَّما المُوازَنةُ هي بينَ دُنيا كلِّ فَرْدٍ، مَحصُورةٍ في عُمُرِه القَصِيرِ، وبينَ النُّورِ الدّائِمِ المُشِعِّ، ولو بمِقدارِ جَناحِ بَعُوضةٍ مِنَ الفَيضِ الإلٰهِيِّ وإحسانِه العَمِيمِ.
[استطراد: للدنيا ثلاثة وجوه]
ثمَّ إنَّ الدُّنيا لها وَجهانِ، بل ثلاثةُ أَوجُهٍ:
الأوَّلُ: وَجهٌ كالمِرآة يَعكِسُ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى.
والثاني: وَجهٌ يَنظُرُ إلى الآخِرةِ، أي إنَّ الدُّنيا مَزرَعةُ الآخِرةِ.
أمَّا الثّالِثُ: فهو الوَجهُ الَّذي يَنظُرُ إلى العَدَمِ والفَناءِ، فهذا الوَجهُ الأَخِيرُ هو الدُّنيا غيرُ المَرضِيّةِ عندَ اللهِ، وهي المَعرُوفةُ بدُنيا أَهلِ الضَّلالةِ.
إذًا، فالدُّنيا المَذكُورةُ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ لَيسَت بالدُّنيا العَظِيمةِ الَّتي هي كمَرايا للأَسماءِ الحُسنَى ورَسائلَ صَمَدانيّةٍ، ولا هي بالدُّنيا الَّتي هي مَزرَعةٌ للآخِرةِ؛ وإنَّما هي الدُّنيا الَّتي هي نَقِيضُ الآخِرةِ ومَنشَأُ جَمِيعِ الخَطايا والذُّنُوبِ، ومَنبَعُ كلِّ البَلايا والمَصائبِ، هي دُنيا عَبَدَةِ الدُّنيا الَّتي لا تَعدِلُ ذَرّةً واحِدةً مِن عالَمِ الآخِرةِ السَّرمَدِيِّ المَمنُوحِ لعِبادِ اللهِ المُؤمِنين.
فأينَ هذه الحَقِيقةُ الصّادِقةُ الصّائبةُ مِن فَهْمِ أَهلِ الإلحادِ الظّالِمين لِما ظَنُّوه مُبالَغةً؟!
[مثال: أحاديث فضائل السور القرآنية]
ومِثالٌ آخَرُ: هو ما ذَهَب إلَيْه المُلحِدُون وتَمادَوا فيه بتَعَسُّفِهم، حينَ ظَنُّوا أنَّ ما وَرَد مِنَ الأَحادِيثِ الشَّرِيفةِ حَولَ ثَوابِ الأَعمالِ وفَضائلِ بعضِ السُّوَرِ في القُرآنِ الكَرِيمِ مُبالَغةٌ غيرُ مَعقُولةٍ، بل حتَّى قالُوا: إنَّها مُحالةٌ!
فقد وَرَد -مَثلًا- أنَّ سُورةَ “الفاتِحةِ” لها ثَوابُ القُرآنِ، وسُورةَ “الإخلاصِ” تَعدِلُ ثُلُثَ القُرآنِ، وسُورةَ “الزِّلزالِ” رُبُعُ القُرآنِ، وسُورةَ “الكافِرُون” رُبُعُ القُرآنِ، وسُورةَ “يسٓ” لها ثَوابُ عَشَرةِ أَمثالِ القُرآنِ.
فالَّذين لا يُنعِمُون النَّظَرَ وليس لهم إنصافٌ وتَرَوٍّ يَدَّعُون استِحالةَ هذه الرِّواياتِ! إذ يقُولُون: كيفَ تكُون لِسُورةِ “يسٓ” هذه الفَضِيلةُ وهي سُورةٌ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ وهناك سُوَرٌ أُخرَى فاضِلةٌ؟!
إنَّ حَقِيقةَ هذه الرِّواياتِ هي: أنَّ لِكُلِّ حَرْفٍ مِن حُرُوفِ القُرآنِ الكَرِيمِ ثَوابًا، وهو حَسَنةٌ واحِدةٌ، ولكِن بفَضلِ اللهِ وكَرَمِه يَتَضاعَفُ ثَوابُ هذه الحُرُوفِ ويُثمِرُ حِينًا عَشْرَ حَسَناتٍ، وأَحيانًا سَبعِين، وأُخرَى سَبْعَ مِئةٍ (كما في حُرُوفِ آيةِ الكُرسِيِّ) ورابعةً: أَلفًا وخَمْسَ مِئةٍ (كما في حُرُوفِ سُورةِ الإخلاصِ) وخامِسةً: عَشَرةَ آلافِ حَسَنةٍ (كقِراءةِ الآياتِ في الأَوقاتِ الفاضِلةِ ولَيلةِ النِّصفِ مِن شَعبانَ) وسادِسةً: ثلاثين أَلفًا مِنَ الحَسَناتِ (كما في قِراءةِ الآياتِ في لَيلةِ القَدْرِ) فتَتَضاعَفُ هذه الحَسَناتُ كما تَتَكاثَرُ بُذُورُ الخَشْخاشِ. ويُمكِنُ فَهمُ تَضاعُفِ الثَّوابِ إلى ثَلاثين أَلفًا مِنَ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾.
وهكذا، فلا يُمكِنُ مُقايَسةُ ولا مُوازَنةُ القُرآنِ الكَرِيمِ معَ وُجُودِ هذا التَّضاعُفِ العَدَدِيِّ التَّصاعُدِيّ للثَّوابِ المَذكُورِ، وإنَّما يُمكِنُ ذلك معَ أَصلِ الثَّوابِ لِبَعضِ السُّوَرِ.
ولْنُوَضِّحْ ذلك بمِثالٍ: لِنَفرِضْ أنَّ مَزرَعةً زُرِعَت فيها أَلفُ حَبّةٍ مِنَ الذُّرَةِ، فلو أَنبَتَت بعضُ حَبّاتها سَبْعَ سَنابِلَ (عَرانِيسَ) في كلِّ سُنبُلةٍ مِئةُ حَبّةٍ، فإنَّ حَبّةً واحِدةً مِنَ الذُّرَة تَعدِلُ عِندَئذٍ ثُلُثَي ما في المَزرَعةِ؛ ولو فَرَضْنا مَثلًا أنَّ حَبّةً أُخرَى أَنبَتَت عَشْرَ سَنابِلَ (عَرانِيسَ) في كلِّ سُنبُلةٍ مِنها مِئَتا حَبّةٍ، فإنَّ حَبّةً واحِدةً عِندَ ذلك تُساوِي ضِعْفَ الحُبُوبِ المَزرُوعةِ أَصْلًا.. وهكذا قِسْ في ضَوءِ هذا المِثالِ.
فالآنَ نَتَصَوَّرُ القُرآنَ الكَرِيمَ مَزْرعةً سمَاوِيّةً نُورانيّةً مُقَدَّسةً، كلُّ حَرْفٍ فيه معَ ثَوابِه الأَصلِيِّ بمَثابةِ حَبّةٍ واحِدةٍ، بغَضِّ النَّظَرِ عن سَنابِلِها، فإذا ما طَبَّقتَ هذا على المِثالِ السّابِقِ يُمكِنُك مَعرِفةُ فَضائلِ السُّوَرِ الَّتي وَرَدَتْ بحَقِّها الأَحادِيثُ الشَّرِيفةُ، بمُقارَنَتِها بأَصلِ حُرُوفِ القُرآنِ.
مِثالُ ذلك: إنَّ حُرُوفَ القُرآنِ الكَرِيمِ ثَلاثُ مِئةِ أَلفٍ وسِتُّ مِئةٍ وعِشرُون حَرْفًا، وحُرُوفَ سُورةِ الإخلاصِ معَ البَسمَلةِ تِسعٌ وسِتُّون حَرْفًا، فثَلاثةُ أَضعافِ تِسعٍ وسِتِّين تُساوِي مِئَتَينِ وسَبعةَ حُرُوفٍ. أي إنَّ حَسَناتِ كلِّ حَرْفٍ مِن حُرُوفِ سُورةِ الإخلاصِ تُقارِبُ أَلفًا وخَمسَ مِئةِ حَسَنةٍ. وكذلك إذا حَسَبْتَ حُرُوفَ سُورةِ “يسٓ” وأَخَذْتَ النِّسبةَ بَينَها وبينَ مَجمُوعِ حُرُوفِ القُرآنِ، وأَخَذْنا التَّضاعُفَ إلى عَشَرةِ أَمثالِها بنَظَرِ الِاعتِبارِ، نَجِدُ أنَّ لِكُلِّ حَرفٍ فيها ما يُقارِبُ مِن خَمسِ مِئةِ حَسَنةٍ.
فإذا قِسْتَ على هذا المِنوالِ بَقيّةَ ما وَرَد في فَضائلِ السُّوَرِ في الأَحادِيثِ، فستُدرِكُ مَدَى كَونِها حَقيقةً صائبةً لَطِيفةً، ومَدَى بُعْدِها عن كلِّ ما يُومِئُ إلى المُبالَغةِ والإسرافِ في الكَلامِ.
الأصلُ العاشِر [فضائل الأعمال فيها فرد كامل ودونه أفراد]
قد يُوجَدُ لَدَى بَعضِ الأَشخاصِ الأَفذاذِ تَفَوُّقٌ في الأَعمالِ والأَفعالِ البَشَرِيّة، كما هي الحالُ في أَكثَرِ طَوائفِ المَخلُوقاتِ، فإن كان الفَرْدُ الفَذُّ هذا قد سَبَق الآخَرِين وبَزَّهم في الخَيرِ والصَّلاحِ، فسيكُونُ مَبْعَثَ فَخْرٍ لِبَني جِنْسِه ومَدارَ اعتِزازِهم، وإلّا فهو نَذِيرُ شُؤْمٍ وبَلاءٍ علَيهِم؛ فكلٌّ مِن هؤلاء الأَفذاذِ يَنبَثُّ كشَخصِيّةٍ مَعنَوِيّةٍ في كلِّ مَكانٍ في المُجتَمَعِ، ويُحاوِلُ الآخَرُون تَقلِيدَه في أَفعالِه ويَجِدُّون لبُلُوغِ شَأْوِه، ورُبَّما يَبلُغُ واحِدٌ مِنهم مَبلَغَه في هذا الفِعلِ أو ذاك. فالقَضِيّةُ إذًا مِن حيثُ المَنطِقُ هي قَضِيّةٌ “مُمكِنةٌ”، لإمكانِ وُجُودِ ذلك الفَردِ الخارِقِ في كلِّ مَكانٍ، وُجُودًا مَخفِيًّا ومُطلَقًا. أي إنَّه أَصبَحَ شَخْصًا كُلِّـيًّا بعَمَلِه هذا، أي: مِنَ المُمكِنِ لِكُلِّ عَمَلٍ أن يَأْتِيَ بنَتِيجةٍ كهذه.
فانظُرْ في ضَوءِ هذا المِثالِ إلى أَحادِيثَ نَبَوِيّةٍ شَرِيفةٍ وَرَدَت بهذه المَعانِي: مَن صَلَّى رَكعَتَينِ كذا فلَه أَجرُ حَجّةٍ. أي: ثَوابُ رَكعِتَينِ في أَوقاتٍ مُعَيَّنةٍ يُقابِلُ حَجّةً، هذه حَقيقةٌ ثابِتةٌ. فيَجُوزُ إذًا أن تَحمِلَ كلُّ رَكعَتَينِ مِنَ الصَّلاةِ بالكُلِّيةِ هذا المَعنَى، ولكنَّ الوُقُوعَ الفِعلِيَّ لِهذا النَّوعِ مِنَ الرِّواياتِ ليس دائمًا ولا كُلِّـيًّا، حيثُ إنَّ للقَبُولِ شَرائطَه المُعَيَّنةَ؛ لذا تَنتَفي مِن أَمثالِ هذه الرِّواياتِ صِفةُ الكُلِّيّةِ والدَّيمُومةِ، فهي إمّا بالفِعلِ مُؤَقَّتةٌ مُطلَقةٌ؛ أو هي قَضِيّةٌ مُمكِنةٌ، كُلِّيّةٌ؛ والكُلِّيّةُ في أَمثالِ هذه الأَحادِيثِ هي مِن حيثُ الإمكانُ، كما هو في: “الغِيبةُ كالقَتلِ”. أي: يكُونُ الفَرْدُ بالغِيبةِ سُمًّا زُعافًا قاتِلًا؛ وكما هو في: “الكَلِمةُ الطَّيِّبةُ صَدَقةٌ كعِتقِ رَقَبةٍ”.
والحِكْمةُ في إيرادِ هذه الأَحادِيثِ بهذه الصِّيغةِ أي: إبرازُ إمكانيّةِ وُقُوعِ هذا الفَرْدِ الفَذِّ المُبهَمِ المُطلَقِ في كلِّ مَكانٍ بصُورَةٍ واقعةٍ فِعلًا، هي أنَّه أَبلَغُ في التَّرغيبِ والتَّرهيبِ وأَكثَـرُ حَضًّا للنُّفُوسِ على الخَيرِ، وأَشَدُّ تَجنِيبًا لها مِنَ الشَّرِّ.
ثمَّ إنَّ شُؤُونَ العالَمِ الأَبَدِيِّ لا تُوزَنُ بمَقايِيسِ عالَمِنا الحاضِرِ، إذ إنَّ أَضخَمَ ما عِندَنا يُمكِنُ أن يكُونَ أَصغَرَ شيءٍ هناك ولا يُوازِيه، فثَوابُ الأَعمالِ نَظَرًا لِكَونِه يَتَطلَّعُ إلى ذلك العالَمِ الأَبَدِيِّ، فإنَّ نَظْرَتَنا الدُّنيَوِيّةَ الضَّيِّقةَ تَغدُو قاصِرةً دُونَه، فنَعجِزُ عن أن نَستَوعِبَه بعُقُولِنا المَحدُودةِ.
فمَثلًا: هناك رِوايةٌ تَلفِتُ أَنظارَ مَن لا يُدقِّقُون النَّظَرَ ولا يُنصِفُون في أَحكامِهم، هي: “مَن قَرَأَ هذا أُعطِيَ مِثلَ ثَوابِ مُوسَى وهارُونَ”، أي: “الحَمْدُ للهِ رَبِّ السَّماواتِ ورَبِّ الأَرَضِينَ رَبِّ العالَمِين، وله الكِبْرِياءُ في السَّماواتِ والأَرضِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ؛ الحَمْدُ للهِ رَبِّ السَّماواتِ ورَبِّ الأَرَضِينَ رَبِّ العالَمِين، وله العَظَمةُ في السَّماواتِ والأَرضِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ، وله المُلْكُ رَبُّ السَّماواتِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ”.
فحَقيقةُ أَمثالِ هذه الأَحادِيثِ الَّتي تُثِيرُ الأَذهانَ هي: أنَّنا لا نُدرِكُ مَدَى الثَّوابِ الَّذي يَنالُه نَبِيّانِ عَظِيمانِ هما مُوسَى وهارُونُ عَلَيهمَا السَّلَام إلّا حَسَبَ تَصَوُّرِنا ووَفقَ إطارِ فِكرِنا الضَّيِّقِ، وضِمنَ حُدُودِ نَظَرِنا القاصِرِ الدُّنيَوِيِّ؛ لِذا فحَقيقةُ الثَّوابِ الَّذي يَنالُه عَبدٌ عاجِزٌ مُطلَقَ العَجْزِ بقِراءَتِه ذلك الوِرْدَ، مِن رَبٍّ رَحِيمٍ واسِعِ الرَّحمةِ، في حَياةٍ خالِدةٍ أَبَديّةٍ، يُمكِنُ أن يكُونَ مُماثِلًا لِذلك الثَّوابِ الَّذي تَصَوَّرْناه بعُقُولِنا القاصِرةِ للنَّبِيَّينِ العَظِيمَينِ، وذلك حَسَبَ دائرةِ عِلْمِنا وأُفُقِ تَفكِيرِنا.
مَثَلُنا في هذا كمَثَلِ بَدَوِيٍّ لم يَرَ السُّلطانَ ولا يُدرِكُ عَظَمَتَه وأُبَّهَتَه، وفي نَظَرِه المَحدُودِ وفِكْرِه الضَّيِّقِ أنَّ السُّلطانَ شَخْصٌ كشَيخِ القَريةِ أو أَكبَرُ مِنه بقَليلٍ؛ حتَّى لقد كان حَوالَينا -في شَرْقيِّ الأَناضُولِ- قَرَوِيُّون سُذَّجٌ يقُولُون: إنَّ السُّلطانَ يَجلِسُ قُرْبَ المَوْقِدِ ويُشرِفُ على طَبِيخِه بنَفسِه.. بمَعنَى أن أَقصَى ما يَتَصَوَّرُه البَدوِيُّ لِعَظَمة السُّلطان لا يَرقَى إلى مُستوَى آمِرِ فَوْجٍ في الجَيشِ.. فلو قِيلَ لِأَحَدِ هؤلاء: إذا أَنجَزتَ لي هذا العَمَلَ فسأُكافِئُك برُتبةِ السُّلطانِ (أي: بمَكانةِ آمِرِ الفَوْجِ)، فهذا القَولُ حَقِيقةٌ وصَوابٌ، حيثُ إنَّ عَظَمةَ السُّلطانِ في ذِهنِ السّامِعِ وفي فِكرِه المَحدُودِ هي بمِقدارِ عَظَمةِ آمِرِ الفَوْجِ ليس إلّا.
وهكذا، فنحنُ لا نَكادُ نَفهَمُ حتَّى بمِثلِ هذا البَدَوِيِّ الحَقائقَ الوارِدةَ في ثَوابِ الأَعمالِ المُتَوَجِّهةِ إلى الآخِرةِ، بعُقُولِنا الضَّيِّقةِ وبأَفكارِنا القاصِرةِ وبنَظَرِنا الدُّنيَوِيِّ الكَليلِ؛ إذ إنَّ ما في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ ليس هو عَقْدًا لِمُوازَنةٍ بينَ الثَّوابِ الحَقيقيِّ الَّذي يَنالُه مُوسَى وهارُونُ عَلَيهمَا السَّلَام والَّذي هو مَجهُولٌ لَدَينا، وبينَ الثَّوابِ الَّذي يَنالُه العَبدُ الذّاكِرُ للوِرْدِ؛ لأنَّ قاعِدةَ التَّشبِيهِ هي قِياسُ المَجهُولِ على المَعلُومِ، أي: إدراكُ حُكْمِ المَجهُولِ مِن حُكْمِ المَعلُومِ. بل إنَّ المُوازَنةَ هي بينَ ثَوابِهِما “المَعلُومِ” لَدَينا حَسَبَ تَصَوُّرِنا، وبينَ الثَّوابِ الحَقيقيِّ للعَبدِ الذّاكِرِ “المَجهُولِ” عِندَنا.
ثمَّ إنَّ صُورةَ الشَّمسِ المُنعَكِسةَ مِن سَطْحِ البَحرِ ومِن قَطْرةِ ماءٍ هي الصُّورةُ نَفسُها، والفَرقُ في النَّوعِيّةِ فقط، فكِلاهُما يَعكِسانِ صُورةَ الشَّمسِ وضَوْءَها، لِذا فإنَّ رُوحَ كلٍّ مِن مُوسَى وهارُونَ عَلَيهمَا السَّلَام الَّتي هي مِرآةٌ صافِيةٌ كالبَحرِ تَنعَكِسُ علَيها مِن ماهِيّةِ الثَّوابِ ما يَنعَكِسُ على رُوحِ العَبدِ الذّاكِرِ الَّتي هي كقَطْرةِ ماءٍ، فكِلاهُما ثَوابٌ واحِدٌ مِن حيثُ الماهِيّةُ والكَمِّيّةُ، إلّا أنَّ النَّوعِيّةَ تَختَلِفُ، إذ تَتْبَعُ القابِلِيّةَ.
ثمَّ إنَّ تَردِيدَ ذِكرٍ وتَسبِيح مُعيَّنٍ، أو تِلاوةَ آيةٍ واحِدةٍ قد تَفتَحُ مِن أَبوابِ الرَّحمةِ والسَّعادةِ ما لا تَفتَحُه عِبادةُ سِتِّين سنةً، أي إنَّ هناك حالاتٍ تَمنَحُ فيها آيةٌ واحِدةٌ مِنَ الفَوائدِ ما للقُرآنِ الكَرِيمِ كلِّه.
ثمَّ إنَّ الفُيُوضاتِ الرَّبّانيّةَ المُتَجلِّيةَ على الرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ بتِلاوَتِه آيةً واحِدةً قد تكُونُ مُساوِيةً لفَيضٍ إلٰهِيٍّ كامِلٍ على نَبِيٍّ آخَرَ؛ إذ هو ﷺ مَوضِعُ تَجَلِّي الِاسمِ الأَعظَمِ. فإذا قيلَ: إنَّ مُؤمِنًا نالَ ظِلًّا مِنَ الِاسمِ الأَعظَمِ بواسِطةِ الوِراثةِ الأَحمَدِيّةِ، يَكسِبُ ثَوابًا حَسَبَ قابِليَّتِه بقَدْرِ الفَيضِ الإلٰهِيِّ لِنَبِيٍّ مِن حَيثُ الكَمِّيّةُ؛ فلا يُمكِنُ أن يَكُونَ ذلك خِلافَ الحَقِيقةِ قَطُّ.
ثمَّ إنَّ الثَّوابَ والأَجرَ مِن عالَمِ النُّورِ الخالِدِ، الَّذي يُمكِنُ أن يَنحَصِرَ عالَمٌ مِنه في ذَرّةٍ واحِدةٍ، بمِثلِ انحِصارِ صُورةِ السَّماواتِ بنُجُومِها في قِطعةٍ صَغيرةٍ مِن زُجاجٍ ورُؤيَتِها فيها. وهكذا فقِراءةُ آيةٍ واحِدةٍ أو ذِكرٍ مُعيَّنٍ بنِيّةٍ خالِصةٍ يُمكِنُ أن تُولِّدَ شَفّافيّةً في الرُّوحِ -كالزُّجاجِ- تَستَطيعُ أن تَستَوعِبَ ثَوابًا نُورانيًّا كالسَّماواتِ الواسِعةِ.
النَّتيجةُ: أيُّها النّاظِرُ إلى كلِّ شيءٍ بعَينِ النَّقدِ والتَّجرِيحِ ومِن دُونِ تَدقيقٍ، ويا ذا الإيمانِ الواهِي والفِكرِ المَملُوءِ بالفَلسَفةِ المادِّيّةِ.. أَنصِفْ قَلِيلًا.. أَدِمِ النَّظَرَ في هذه الأُصُولِ العَشَرةِ، وإيّاك أن تَمُدَّ إصبَعَ اعتِراضِك إلى الأَحادِيثِ الشَّرِيفةِ، وبدَورِه إلى ما يُخِلُّ بمَرتَبةِ عِصْمةِ النُّبوّةِ للرَّسُولِ الكَرِيمِ ﷺ بحُجّةِ ما تَراه في رِوايةٍ مِن خِلافٍ قَطعِيٍّ للواقِعِ ومُنافاةٍ للحَقيقةِ.
فهذه الأُصُولُ العَشَرةُ، ومَيادِينُ تَطبِيقِها تَجعَلُك تَتَخلَّى عنِ الإنكارِ، وتَكُفُّك عنِ الرَّفْضِ أوَّلًا؛ ثمَّ تُخاطِبُك: إن كان هناك تَقصِيرٌ حَقيقِيٌّ، فهذا راجِعٌ إلَينا (أي إلى الأُصُولِ)، وليس إلى الحَدِيثِ الشَّرِيفِ قَطْعًا، وإن لم يكن ثَمّةَ تَقصِيرٌ حَقيقيٌّ فهو يَعُودُ إلى سُوءِ فَهْمِك أنت!
وحاصِلُ الكَلامِ: إنَّ مَن يَستَرسِلُ في الإنكارِ والرَّفضِ، علَيه أن يُفنِّدَ الأُصُولَ العَشَرةَ المَذكُورةَ، وإلّا فلا يَستَطِيعُ الإنكارَ؛ فإن كُنتَ مُنصِفًا حَقًّا فتَأَمَّلْ جَيِّدًا في هذه الأُصُولِ العَشَرةِ، ومِن بَعدِها لا تَنهَضْ لإنكارِ حَدِيثٍ نَبَوِيٍّ يَراه عَقلُك مُخالِفًا للحَقيقةِ، بل قُل: رُبَّما هناك تَفسِيرٌ له، أو تَأوِيلٌ، أو تَعبِيرٌ.. ودَعِ الِاعتِراضَ!
الأصلُ الحادِيَ عشَر [كما أن في القرآن متشابهات ففي الحديث النبوي مشكلات]
كما أنَّ في القُرآنِ الكَرِيمِ آياتٍ مُتَشابِهاتٍ تَحتاجُ إلى تَأوِيلٍ أو تَطلُبُ التَّسليمَ المُطلَقَ، كذلك في الحَدِيثِ الشَّريفِ مُشكِلاتٌ تَحتاجُ أَحيانًا إلى تَفسِيرٍ وتَعبِيرٍ دَقيقَينِ. ويُمكِنُك الِاكتِفاءُ بالأَمثِلةِ المَذكُورةِ.
نعم، إنَّ اليَقِظَ يَستَطِيعُ أن يُعبِّر عن رُؤيا النّائمِ، بَينَما النّائمُ الَّذي يَسمَعُ مَن حَولَه مِنَ اليَقِظِين قد يُطبِّقُ كَلامَهم بشَكلٍ مّا في مَنامِه، فيُعبِّـرُ عنه بما يُلائِمُه في النَّومِ.
فيا أيُّها المُنوَّمُ بالغَفلةِ والفَلسَفةِ المادِّيّةِ، ويا عَدِيمَ الإنصافِ.. إنَّ الَّذي يقُولُ اللهُ تَعالَى في حَقِّه: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾، والَّذي يقُولُ عن نَفسِه: “تَنامُ عَيناي ولا يَنامُ قَلبي” هو اليَقظانُ الحَقيقيُّ، فلا تُنكِرْ ما يَراه هو، بل عَبِّر عنه وجِدْ له تَعبِيرًا في رُؤياك، والْتَمِسْ له تَفسِيرًا؛ إذ لو لَسَعَتْ بَعُوضةٌ شَخصًا نائمًا، فإنَّ آثارَ ذلك تَظهَرُ عليه وكأنَّه قد جُرِح في الحَربِ، وإذا ما استُفسِر عنه بعدَ صَحْوِه، فسيقُولُ: نعم كنتُ في حَربٍ دامِيةٍ والمَدافِعُ مُصَوَّبةُ نَحوِي! بَينَما اليَقِظُون الَّذين حَولَه يَأخُذُون اضطِرابَه هذا مَأخَذَ الِاستِهزاءِ. فنَظَرُ الغَفْلةِ المُنَوِّمةِ وفِكرُ الفَلسَفةِ المادِّيّة لا يُمكِنُ أن يكُونا قَطْعًا مَحَكًّا للحَقائقِ النَّبوِيّةِ.
الأصلُ الثانِيَ عشَر [الفرق بين نظر النبوة ونظر الفلسفة]
إنَّ نَظَرَ النُّبوّةِ والتَّوحِيدِ والإيمانِ يَرَى الحَقائقَ في نُورِ الأُلُوهيّةِ والآخِرةِ ووَحدةِ الكَونِ، لأنَّه مُتَوجِّهٌ إلَيها، أمّا العِلمُ التَّجرِيبيُّ والفَلسَفةُ الحَدِيثةُ فإنَّه يَرَى الأُمُورَ مِن زاوِيةِ الأَسبابِ المادِّيّةِ والكَثرةِ والطَّبِيعةِ، لأنَّه مُتَوَجِّهٌ إلَيها؛ فالمَسافةُ إذًا بينَ زاوِيتَيِ النَّظَرِ بَعِيدةٌ جِدًّا، فرُبَّ غايةٍ عَظِيمةٍ جَليلةٍ لَدَى أَهلِ الفَلسَفةِ، تافِهةٌ وصَغِيرةٌ لا تكادُ تُرَى بينَ مَقاصِدِ عُلَماءِ أُصُولِ الدِّين وعِلمِ الكَلام.
ولهذا فقد تَقَدَّم أَهلُ العِلمِ التَّجرِيبيِّ كَثيرًا في مَعرِفةِ خَواصِّ المَوجُوداتِ وتَفاصِيلِها وأَوصافِها الدَّقيقةِ، في حينِ تَخَلَّفوا كَثيرًا حتَّى عن أَبسَطِ المُؤمِنين وأَقلِّهم عِلْمًا في مَجالِ العِلمِ الحَقيقيِّ، وهو العُلُومُ الإلٰهِيّةُ السّاميةُ والمَعارِفُ الأُخرَوِيّةُ.
فالَّذين لا يُدرِكُون هذا السِّرَّ، يَظُنُّون أنَّ عُلَماءَ الإسلامِ مُتَأخِّرُون عن عُلَماء الطَّبِيعةِ والفَلاسِفةِ، والحالُ أنَّ مَنِ انحَدَرَت عُقُولُهم إلى عُيُونِهم وأَصبَحُوا لا يُفكِّرون إلّا بما يَرَون، وغَرِقوا في الكَثرةِ مِنَ المَخلُوقاتِ، أنَّى لهمُ الجُرأةُ لِيَلحَقُوا بوَرَثةِ الأَنبِياءِ عَلَيهِم السَّلَام الَّذين بلَغُوا المَقاصِدَ الإلٰهِيّةَ السّامِيةَ وغاياتِها الرَّفيعةَ العاليةَ؟!
ثمَّ إنَّ الرُّؤيةَ إن كانَت مِن زاوِيتَينِ مُختَلِفتَينِ، فلا شَكَّ في ظُهُورِ حَقيقتَينِ مُتَبايِنتَينِ، وقد تكُون كِلتاهما حَقيقةً؛ وحَتْمًا لا تَتَعارَضُ حَقيقةٌ عِلميّةٌ قاطِعةٌ معَ حَقائقِ النُّصُوصِ القُرآنيّةِ المُقدَّسةِ، إذِ اليَدُ القَصِيرةُ للعِلمِ التَّجرِيبيِّ قاصِرةٌ عن بُلُوغِ أَهدابِ طَرَفٍ مِن حَقائقِ القُرآنِ الرَّفيعةِ المُنَـزَّهةِ. وسنُورِدُ مِثالًا واحِدًا فقط على هذا:
[حقيقة الكرة الأرضية بين أهل العلوم التجريبية وبين أهل القرآن]
حَقِيقةُ الكُرةِ الأَرضِيّةِ في نَظَرِ أَهلِ العِلمِ [التجريبي] هي أنَّها إحدَى السَّيّاراتِ ذاتِ الحَجمِ المُتَوسِّطِ، تَدُورُ حَولَ الشَّمسِ، وهي جِرمٌ صَغِيرٌ قِياسًا بالكَواكِبِ والنُّجُومِ الَّتي لا تُعدُّ ولا تُحصَى؛ أمّا إذا نَظَرنا إلى الكُرةِ الأَرضِيّةِ بنَظَرِ أَهلِ القُرآنِ، فحَقيقَتُها هي كما وضَّحَتْها “الكَلِمةُ الخامِسةَ عَشْرةَ“:
«إنَّ الإنسانَ الَّذي هو أَلطَفُ ثَمَرةٍ للعالَم، ومُعجِزةٌ جامِعةٌ مِن مُعجِزاتِ القادِرِ الحَكِيمِ، وأَبدَعُ المَخلُوقاتِ وأَعَزُّها وأَلطَفُها، معَ أنَّه أَعجَزُها وأَضعَفُها.. هذا الإنسانُ يَعيشُ على هذه الأَرضِ، فالأَرضُ إذًا مَهْدٌ لهذا الإنسانِ، فهي مع صِغَرِها وحَقارَتِها قِياسًا إلى السَّماواتِ، عَظِيمةٌ وجَلِيلةٌ مِن حيثُ المَعنَى والمَغزَى والإبداعِ؛ حتَّى أَصبَحَت بالمَنظُورِ القُرآنِيِّ: قَلبَ الكَونِ ومَركَزَه مِن حيثُ المَعنَى.. ومَعرِضَ جَمِيعِ المَصنُوعاتِ المُعجِزةِ.. ومَوضِعَ تَجَلِّي الأَسماءِ الحُسنَى كلِّها، حتَّى لَكَأنَّها البُؤرةُ الجامِعةُ لتلك الأَنوارِ.. ومَحشَرَ الأَفعالِ الرَّبّانيّةِ المُطلَقةِ ومِرآتَها.. وسُوقًا واسِعةً لإبرازِ الخَلّاقيّةِ الإلٰهِيّةِ المُطلَقةِ، ولا سِيَّما إيجادُها الكَثرةَ الهائلةَ مِنَ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ الدَّقيقةِ بكلِّ جُودٍ وكَرَمٍ.. ونَمُوذجًا مُصَغَّرًا لِمَصنُوعاتِ عالَمِ الآخِرةِ الواسِعِ الفَسِيحِ.. ومَصنَعًا يَعمَلُ بسُرعةٍ قُصْوَى لإنتاجِ مَنسُوجاتٍ خالِدةٍ.. ومَوضِعَ عَرْضٍ لِنَماذِجِ المَناظِرِ السَّرمَدِيّةِ المُتَبَدِّلةِ بسُرعةٍ فائقةٍ.. ومَزرَعةً ضَيِّقةً مُؤَقَّتةً لِاستِنباتِ بُذَيراتٍ تُربَّى بسُرعةٍ للبَساتينِ الخالِدةِ الرّائعةِ.
لهذا كُلِّه يَجعَلُ القُرآنُ الكَرِيمُ الأَرضَ صِنْوًا للسَّماواتِ، مِن حيثُ عَظَمَتُها مَعنًى وأَهمِّيَّتُها صَنْعةً، وكأنَّها ثَمَرةٌ صَغِيرةٌ لِشَجَرةٍ ضَخْمةٍ، وكأنَّها قَلبٌ صَغِيرٌ لِجَسَدٍ ضَخْمٍ؛ فيَذكُرُها القُرآنُ الكَريمُ مَقرُونةً بالسَّماواتِ، فهي في كِفّةٍ والسَّماواتُ كلُّها في كِفّةٍ، فتُكَرَّرُ الآيةُ الكَرِيمةُ: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾».
وهكذا فقِسْ سائرَ المَسائلِ على هذا المِنوالِ، وافهَمْ أنَّ الحَقائقَ المَيتةَ المُنكَفِئةَ للفَلسَفةِ لا يُمكِنُها أن تَتَصادَمَ معَ حَقائقِ القُرآنِ الحَيّةِ والمُنوَّرةِ، فكِلتاهما حَقيقةٌ، إلّا أنَّ الِاختِلافَ هو في زاوِيةِ النَّظَر، فتَظهَرُ الحَقائقُ مُتَبايِنةً.
الغُصنُ الرّابع [عبادات الموجودات]
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾.
سنُبيِّنُ جَوهَرةً واحِدةً فقط مِنَ الخَزِينةِ العُظمَى الواسِعةِ لهذه الآيةِ الكَرِيمةِ، وذلك أنَّ القُرآنَ الحَكِيمَ يُصَرِّحُ بأنَّ كلَّ شيءٍ مِنَ العَرشِ إلى الفَرشِ، ومِنَ المَلَكِ إلى السَّمَكِ، ومِنَ المَجرَّاتِ إلى الحَشَراتِ، ومِنَ السَّيَّاراتِ إلى الذَّرَّاتِ.. كلٌّ مِنها يَسجُدُ للهِ، ويَعبُدُه، ويَحمَدُه ويُقَدِّسُه؛ إلَّا أنَّ عِباداتِها مُختَلِفةٌ مُتَبايِنةٌ مُتَنوِّعةٌ، كلٌّ حَسَبَ قابِليّاتِه، ومَدَى نَيلِه لِتَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى.
نُبيِّنُ هنا تَنَوُّعَ عِباداتِ المَخلُوقاتِ وتَبايُنَها بمِثالٍ:
[أربعة أنواع من العمال في قصر السلطان]
فمَثلًا -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- أنَّ مَلِكًا عَظِيمًا وسُلطانًا ذا شَأْنٍ، يَستَخدِمُ أَربَعةَ أَنواعٍ مِنَ العُمّالِ في بِناءِ قَصرٍ أو مَدِينةٍ:
[العبيد]
النَّوعُ الأوَّلُ: عَبِيدُه. هذا النَّوعُ لا مُرَتَّبَ لهم ولا أُجرةَ، بل يَنالُون ذَوْقًا في مُنتَهَى اللُّطفِ، ويَحصُلُون على غايةِ الشَّوقِ في كلِّ ما يَعمَلُونه ويُؤَدُّونَه بأَمرِ سَيِّدِهم، بل يَزدادُون مُتعةً وشَوْقًا مِن أيِّ كَلامٍ في مَدحِ سيِّدِهم ووَصْفِه، فحَسْبُهمُ الشَّرَفُ العَظِيمُ الَّذي يَنالُونه بانتِسابِهم إلى سيِّدِهم؛ فَضْلًا عن تَلَذُّذِهم لَذّةً مَعنَوِيّةً في أَثناءِ إشرافِهم على العَمَلِ باسمِ ذلك المالِكِ، وفي سبِيلِه ونَظَرِه إلَيهم؛ فلا داعيَ إلى مُرتَّبٍ ولا إلى رُتبةٍ ولا إلى أُجرةٍ.
[الخَدَم]
القِسمُ الثّاني: خُدَّامٌ بُسَطاءُ، لا يَعرِفُون لِماذا يَعمَلُون، بل ذلك المالِكُ العَظيمُ هو الَّذي يَستَخدِمُهم ويَسُوقُهم إلى العَمَلِ بفِكرِه وعِلمِه، ويُعطِيهم أُجرةً جُزئيّةً تُناسِبُهم. وهؤلاء الخُدّامُ لا يَعرِفُون نَوعَ الغاياتِ الكُلِّيّةِ والمَصالِحِ العَظِيمةِ الَّتي تَتَرتَّبُ على عَمَلِهم، حتَّى حَدا ببعضِ النّاسِ أن يَتَوهَّمَ أنَّ عَمَلَ هؤلاء لا غايةَ له إلّا أُجرةٌ جُزئيّةٌ تَخُصُّهم بالذّاتِ.
[الحيوانات]
القِسمُ الثّالثُ: الحَيَواناتُ الَّتي يَملِكُها ذلك المالِكُ العَظيمُ، ويَستَخدِمُها في أَعمالِ بِناءِ القَصرِ والمَدِينةِ، ولا يُعطِيها إلّا عَلَفَها. فهذه الحَيَواناتُ تَتَمتَّعُ بلَذّةٍ في أَثناءِ قِيامِها بعَمَلٍ يُوافِقُ استِعداداتِها، إذِ القابِليّةُ أو الِاستِعدادُ إن دَخَلَت طَوْرَ الفِعلِ والعَمَلِ بعدَما كانَت في طَورِ القُوّةِ الكامِنةِ، تَنبَسِطُ وتَتَنفَّسُ، فتُورِثُ لَذّةً، وما اللَّذّةُ المَوجُودةُ في الفَعّاليّاتِ كُلِّها إلّا نابِعةٌ مِن هذا السِّرِّ. فأُجرةُ هذا القِسمِ مِنَ الخُدّامِ ومُرَتَّبُهم هو العَلَفُ مع لَذّةٍ مَعنَوِيّةٍ، فهم يَكتَفُون بهما.
[العمال المشرفون]
القِسمُ الرّابعُ: عُمّالٌ يَعرِفُون ماذا يَعمَلُون، ولِماذا يَعمَلُون، ولِمَن يَعمَلُون؛ فَضْلًا عن مَعرِفَتِهم لِمَ يَعمَلُ العُمّالُ الآخَرُون، وما الَّذي يَقصِدُه المالِكُ العَظِيمُ، ولِمَ يَدفَعُ الجَميعَ إلى العَمَلِ؟ فهذا النَّوعُ مِنَ العُمّالِ، لهم رِئاسةٌ على العُمّالِ الآخَرِين، وإشرافٌ علَيهم، ولهم مُرَتَّباتُهم حَسَبَ دَرَجاتِهم ورُتَبِهم.
[العمال في قصر الكون]
وعلى غِرارِ هذا المِثالِ، فإنَّ مالِكَ السَّماواتِ والأَرَضِين ذا الجَلالِ، وبانِيَ الدُّنيا والآخِرةِ ذا الجَمالِ، وهو رَبُّ العالَمِين، يَستَخدِمُ المَلائكةَ والحَيَواناتِ والجَماداتِ معَ النَّباتاتِ والإنسانَ في قَصرِ هذا الكَونِ ضِمنَ دائرةِ الأَسبابِ، ويَسُوقُهم إلى العِبادةِ، لا لِحاجةٍ، إذ هو خالِقُهم وما يَعمَلُونَ، بل لِأَجلِ إظهارِ العِزّةِ والعَظَمةِ وشُؤُونِ الرُّبُوبيّةِ وأَمثالِها مِنَ الحِكَمِ.
وهكذا فقد كَلَّف هذه الأَنواعَ الأَربَعةَ بأَربَعةِ أَنماطٍ مُختَلِفةٍ مِنَ العِبادةِ.
[العبيد: الملائكة]
القِسمُ الأوَّلُ الَّذين يُمَثِّلُون العَبِيدَ في المِثالِ: همُ المَلائكةُ، فهم لا مَراتِبَ لهم في الرُّقيِّ بالمُجاهَدةِ، إذ لكُلٍّ مِنهم مَقامٌ ثابِتٌ ورُتبةٌ مُعيَّنةٌ، إلّا أنَّ لهم ذَوْقًا خاصًّا في عَمَلِهم نَفسِه، وهم يَستَقبِلُون الفُيُوضَ الرَّبّانيّةَ حَسَبَ دَرَجاتِهم، في عِبادَتِهم نَفسِها، بمَعنَى أنَّ أُجرةَ خِدْماتِهم مُندَرِجةٌ في عَينِ أَعمالِهم؛ إذ كما يَتَلذَّذُ الإنسانُ مِنَ الماءِ والهَواءِ والضِّياءِ والغِذاءِ، كذلك المَلائكةُ، يَتَلذَّذُون ويَتَغذَّون ويَتَنعَّمُون بأَنوارِ الذِّكرِ والتَّسبِيحِ والحَمدِ والعِبادةِ والمَعرِفةِ والمَحَبّةِ، لِأَنَّهم مَخلُوقُون مِن نُورٍ، فيَكفيهِمُ النُّورُ غِذاءً، بل حتَّى الرَّوائِحُ الطَّـيِّبةُ القَرِيبةُ مِنَ النُّورِ، هي الأُخرَى نَوعٌ مِن غِذائِهم حيثُ يُسَرُّون بها. نعم، إنَّ الأَرواحَ الطَّيِّبةَ تُحِبُّ الرَّوائِحَ الطَّيِّبةَ.
ثمَّ إنَّ للمَلائكةِ سَعادةً عُظمَى إلى دَرَجةٍ لا يُدرِكُها عَقلُ البَشَرِ، ولا يَستَطِيعُ أن يَعرِفَها إلّا المَلَك نَفسُه، وذلك فيما يَعمَلُون مِن عَمَلٍ بأَمرِ مَعبُودِهم، وفي الأَعمالِ الَّتي يُؤَدُّونها في سَبِيلِه، والخِدْماتِ الَّتي يقُومُون بها باسمِه، والإشرافِ الَّذي يُزاوِلُونه بنَظَرِه، والشَّرَفِ الَّذي يَغنَمُونه بانتِسابِهم إلَيه، والتَّفَسُّحِ والتَّنزُّهِ الَّذي يَنالُونَه بمُطالَعةِ مُلْكِه ومَلَكُوتِه، والتَّنعُّمِ الَّذي يَحصُلُون علَيه بمُشاهَدةِ تَجَلِّياتِ جَمالِه وجَلالِه.
فقِسمٌ مِنَ المَلائكةِ عُبّادٌ، وآخَرُون يُزاوِلُون عِباداتِهم في أَعمالِهم؛ والقِسمُ العامِلُ مِنَ المَلائكةِ الأَرضِيِّين شَبِيهٌ بنَوعِ الإنسانِ -إن جازَ التَّعبِيرُ- فمِنهم مَن يُؤدِّي مُهِمّةَ رِعايةِ الحَيَوانِ وهُمُ الرُّعاةُ، ونَوعٌ آخَرُ لهُمُ الإشرافُ على نَباتِ الأَرضِ وهُمُ الفَلّاحُون.. بمَعنَى أنَّ سَطحَ الأَرضِ مَرعًى عامٌّ يُشرِفُ علَيْه مَلَكٌ مُوَكَّلٌ به، أي: يُشرِفُ على جَميعِ طَوائفِ الحَيَواناتِ الَّتي تَدِبُّ على الأَرضِ بأَمرِ الخالقِ الجَليلِ، وبإِذنِه، وفي سَبِيلِه، وبحَوْلِه وقُوَّتِه؛ وهناك مَلَكٌ مُوَكَّلٌ أَصغَرُ للقِيامِ برِعايةٍ خاصّةٍ لِكُلِّ نَوعٍ مِن أَنواعِ الحَيَواناتِ.
وحيثُ إنَّ سَطحَ الأَرضِ مَزرَعةٌ، تُزرَعُ فيها أَنواعُ النَّباتاتِ كُلُّها، فهناك إذًا مَلكٌ مُوَكَّلٌ للإشرافِ على تلك النَّباتاتِ كُلِّها، باسمِ اللهِ سُبحانَه، وبقُوَّتِه، وهناك مَلَكٌ أَوْطَأُ مَرتَبةً، يُشرِفُ على كلِّ طائِفةٍ مِن طَوائفِ النَّباتاتِ، وهكذا.. فهُناك مَلائكةٌ مُشرِفُون، وسيِّدُنا مِيكائِيلُ عَليهِ السَّلام الَّذي هو مِن حَمَلةِ عَرْشِ الرَّزّاقيّةِ، هو المُشرِفُ الأَعظَمُ على هؤلاء المَلائكةِ.
وإنَّ المَلائكةَ الَّذين هم بمَثابةِ الرُّعاةِ والفَلّاحِين يَختَلِفُون عنِ الإنسانِ، لأنَّ إشرافَهم على الأُمُورِ هو عَمَلٌ خالِصٌ في سَبِيلِ اللهِ، وباسمِه، وبقُوَّتِه وبأَمرِه، بل إنَّ إشرافَهم هو مُشاهَدةُ تَجَلِّياتِ الرُّبُوبيّةِ في النَّوعِ الَّذي أُوكِلَ إِلَيْهِمُ الإشرافُ علَيْه، ومُطالَعةُ تَجَلِّياتِ القُدرةِ والرَّحمةِ فيه، والقِيامُ بإلهامِ الأَوامِرِ الإلٰهِيّةِ إلَيه، وأَداءُ ما يُشبِهُ التَّنظِيمَ في أَفعالِه الِاختِيارِيّةِ، ولا سِيَّما إشرافُها على النَّباتاتِ في مَزرَعةِ الأَرضِ، هو تَمثِيلُ تَسبِيحاتِها المَعنَوِيّةِ، وإعلانُ تَحِيّاتِها المَعنَوِيّةِ إلى فاطِرِها الجَليلِ بلِسانِ المَلائكةِ، عَلاوةً على حُسْنِ استِعمالِ الأَجهِزةِ المَمنُوحةِ لها وتَوجِيهِها إلى غاياتٍ مُعيَّنةٍ والقِيامِ بنَوعٍ مِنَ التَّنظِيمِ فيها.
وتُعَدُّ هذه الخِدْماتُ الَّتي تُؤَدِّيها المَلائكةُ نَوعًا مِن كَسبٍ بالجُزءِ الِاختِيارِيِّ، بل هي نَوعٌ مِنَ العِبادةِ والعُبُودِيّةِ، إذ ليس لهم تَصَرُّفٌ حَقيقيٌّ، لأنَّ كلَّ شيءٍ يَحمِلُ سِكّةً خاصّةً وخَتْمًا مُعَيَّنًا لِخالقِ كلِّ شيءٍ لا يُمكِنُ لغَيرِه تَعالَى أن يَحشُرَ نَفسَه في الإيجادِ قَطْعًا. أي إنَّ هذا النَّوعَ مِن عَمَلِ المَلائكةِ هو عِباداتُهم، إذ ليست هي عاداتٍ كما هي في الإنسانِ.
[الحيوانات]
القِسمُ الثّاني مِنَ العُمّالِ في قَصرِ الكَونِ: هو الحَيَواناتُ.
وحيثُ إنَّ الحَيَواناتِ لها نَفسٌ مُشتَهِيةٌ، واختيارٌ جُزئيٌّ، فلا تكُونُ أَعمالُها خالِصةً لِوَجهِ اللهِ، بل تَستَخرِجُ النَّفسُ حَظَّها وشَهْوَتَها مِن عَمَلِها، لِذا يَمنَحُ مالِكُ المُلكِ ذُو الجَلالِ والإكرامِ تلك الحَيَواناتِ أُجرةً ومُرَتَّبًا ضِمنَ أَعمالِها، تُطَمئِنُ نُفُوسَها وتُشبِعُها.
[مثال البلبل وخمس غايات لوجوده]
فمَثلًا: البُلبُلُ المَعرُوفُ بعاشِقِ الوُرُودِ والأَزهارِ3لَمّا كان البُلبُل يُغرِّد تَغرِيدًا شاعِرِيًّا فإنَّ بَحثَنا هذا قدِ انسابَ فيه شيءٌ مِن رُوحِ الشّاعِرِيّةِ، إلّا أنه ليس بخَيالٍ بل حَقيقة.، يَستَخدِمُ الفاطِرُ الجَليلُ ذلك الحَيَوانَ الصَّغيرَ ويَستَعمِلُه في خَمسِ غاياتٍ:
أُولاها: أنَّه مَأمُورٌ ومُكَلَّفٌ، باسمِ القَبائلِ الحَيَوانيّةِ، بإعلانِ شِدّةِ العَلاقةِ تِجاهَ طَوائفِ النَّباتاتِ.
ثانيَتُها: أنَّه مُوَظَّفٌ بإعلانِ الفَرَحِ والسُّرُورِ، والتَّرحِيبِ بالهَدايا المُرسَلةِ مِن قِبَلِ الرَّزّاقِ الكَرِيمِ، حيثُ إنَّه خَطِيبٌ رَبّانِيٌّ يَسأَلُ بتَغرِيدِه أَرزاقَ الحَيَواناتِ، ضُيُوفِ الرَّحمٰنِ، المُحتاجِين إلى الرِّزقِ.
ثالثَتُها: إظهارُ حُسْنِ الِاستِقبالِ على رُؤُوسِ النَّباتاتِ جَميعًا، تَعبِيرًا عن إرسالِ النَّباتاتِ إمدادًا لِبَني جِنسِه مِنَ الطَّيرِ والحَيَوانِ.
رابعَتُها: بَيانُ شِدّةِ حاجةِ الحَيَواناتِ إلى النَّباتاتِ الَّتي تَبلُغُ حَدَّ العِشقِ تِجاهَ الوُجُوهِ المَلِيحةِ للنَّباتاتِ، وإعلانُها على رُؤُوسِ الأَشهادِ.
خامسَتُها: تَقدِيمُ أَلطَفِ تَسبِيحٍ إلى دِيوانِ رَحمةِ مالِكِ المُلكِ ذِي الجَلالِ والإكرامِ في أَلطَفِ شَوقٍ ووَجْدٍ، وفي أَلطَفِ وَجهٍ، وهو الوَردُ.
وهكذا، هناك مَعانٍ أُخرَى شَبِيهةٌ بهذه الغاياتِ الخَمسِ.
فهذه المَعاني وهذه الغاياتُ هي الغايةُ مِن عَمَلِ البُلبُلِ الَّذي يقُومُ به لِأَجلِ الحَقِّ سُبحانَه وتَعالَى، فالبُلبُلُ يُغرِّدُ بلُغَتِه ونحنُ نَفهَمُ هذه المَعانِيَ مِن نَغَماتِه الحَزِينةِ، مِثلَما يَفهَمُها أَيضًا المَلائكةُ والرُّوحانيّاتُ؛ وإنَّ عَدَمَ فَهمِ البُلبُلِ لِمَعنَى نَغَماتِه مَعرِفةً كامِلةً ليس حائلًا أمامَ فَهْمِنا نحن لِذلك، ولا يَقدَحُ فيه، والمَثَلُ: “رُبَّ مُستَمِع أَوعَى مِن مُتَـكلِّم” مَشهُورٌ؛ ثمَّ إنَّ عَدَمَ مَعرِفةِ البُلبُلِ لِهذه الغاياتِ بالتَّفصِيلِ لا يَدُلُّ على عَدَمِ وُجُودِها، فهو في الأَقلِّ كالسّاعةِ الَّتي تُعَرِّفُك أَوقاتَك وهي لا تَعلَمُ شَيئًا مِمّا تَعمَلُ، فجَهلُها لا يَضُرُّ بمَعرِفَتِك.
أمّا مُرَتَّبُ ذلك البُلبُلِ ومُكافَأَتُه الجُزئيّةُ فهي الذَّوقُ الَّذي يَحصُلُ علَيه مِن مُشاهَدةِ تَبَسُّمِ الأَزهارِ الجَمِيلةِ، والتَّلَذُّذُ الَّذي يَحصُلُ علَيه مِن مُحاوَرَتِها، أي إنَّ نَغَماتِهِ الحَزِينةَ وأَصواتِه الرَّقيقةَ ليستَ شَكاوَى نابِعةً مِن تَألُّماتٍ حَيَوانيّةِ، بل هي شُكرٌ وحَمدٌ وثَناءٌ تِجاهَ العَطايا الرَّحمانيّةِ. وقِسْ على البُلبُلِ بَلابِلَ النَّحلِ والعَنكَبُوتِ والنَّملِ والهَوامِّ والحَيَواناتِ الصَّغيرةِ، فلِكُلٍّ مِنها غاياتٌ كَثيرةٌ في أَعمالِها، أُدرِجَ فيها ذَوقٌ خاصٌّ، ولَذّةٌ مَخصُوصةٌ، كمُرتَّبٍ وكَمُكافَأةٍ جُزئيّةٍ، فهي تَخدُمُ غاياتٍ جَليلةً لِصَنعةٍ رَبّانيّةٍ بذلك الذَّوقِ.
فكما أنَّ لِعامِلٍ بَسِيطٍ في سَفِينةِ السُّلطانِ مُرَتَّبَه الجُزئيَّ، كذلك لِهذه الحَيَواناتِ الَّتي تَخدُمُ الخِدْماتِ السُّبْحانيّةَ مُرتَّبُها الجُزئيُّ.
[لكل نوعٍ من الموجودات بلبلٌ منها]
تتمّة لبحث البلبل:
لا تَحسَبَنَّ أنَّ هذه الوَظِيفةَ الرَّبّانيّةَ في الإعلانِ والدَّلالةِ والتَّغَنِّي بِهَزَجاتِ التَّسبِيحاتِ خاصٌّ بالعَندَليبِ، بل إنَّ لِكُلِّ نَوعٍ مِن أَكثَرِ أَنواعِ المَخلُوقاتِ صِنفًا شَبِيهًا بالعَندَليبِ، له فَردٌ لَطِيفٌ أو أَفرادٌ يُمثِّلُون أَلطَفَ مَشاعِرِ ذلك النَّوعِ ويَتَغنَّى بأَلطَفِ التَّسبِيحاتِ بأَلطَفِ السَّجَعاتِ، ولا سِيَّما أَنواعِ الهَوامِّ والحَشَراتِ، فبَلابِلُها كَثيرةٌ، وعَنادِلُها مُتَنوِّعةٌ جِدًّا، تُمَتِّعُ جَميعَ مَن له آذانٌ صاغِيةٌ إلَيهم بَدْءًا مِن أَصغَرِ حَيَوانٍ إلى أَكبَرِه، وتَنثُرُ على رُؤُوسِهم تَسبِيحاتِها بأَجمَلِ نَغَماتِها.
وقِسمٌ مِن هذه البَلابِلِ لَيلِيٌّ، يكُونُ الأَنيسَ المَحبُوبَ والقاصَّ المُؤنِسَ في ذلك اللَّيلِ السّاكِنِ والمَوجُوداتِ الصّامِتةِ، للحَيَواناتِ الصَّغيرةِ الَّتي خَلَدت إلى الهُدُوءِ، حتَّى كأنَّ كُلًّا مِن تلك البَلابِلِ قُطْبٌ في حَلْقةِ ذِكْرٍ خَفِيٍّ، وَسَطَ ذلك المَجلِسِ الَّذي انسَحَب كلُّ فَردٍ فيه إلى الهُدُوءِ والسُّكُونِ يُنصِتُ إلى نَوعٍ مِن ذِكرِ اللهِ وتَسبِيحِه، بقَلبِه المُطمَئِنِّ إلى الفاطِرِ الجَليلِ.
وقِسمٌ آخَرُ مِن هذه البَلابِلِ نَهارِيٌّ، يُعلِنُ في وَضَحِ النَّهارِ رَحمةَ الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ على مَنابِرِ الأَشجارِ وعلى رُؤُوسِ الأَشهادِ، ويَتَغنَّى بها، ولا سِيَّما في مَوسِمِ الصَّيفِ والرَّبِيعِ، ويَنثُرُونَ بتَغرِيداتِهمُ الرَّقيقةِ وشَدْوِهِمُ اللَّطِيفِ وتَسبِيحاتِهِمُ المُسْجَعةِ الوَجْدَ والشَّوقَ، لَدَى كلِّ سامِعٍ لهم، حتَّى يَشرَعَ السّامِعُ بذِكرِ فاطِرِه الجَليلِ بلِسانِه الخاصِّ، وبنَغَماتِه الخاصّةِ.
بمَعنَى أنَّ لكُلِّ نَوعٍ مِن أَنواعِ المَوجُوداتِ بُلبُلَه الخاصَّ به، فهو رَئيسُ حَلْقةِ ذِكرٍ خاصٌّ بهم، بل حتَّى لِنُجُومِ السَّماءِ بُلبُلُها الخاصُّ بها، يَشدُو بأَنوارِه ويَتَرنَّمُ بأَضوائِه.
[رسول الله ﷺ عندليب البشر في بستان الكائنات]
ولكِنَّ أَفضَلَ هذه البَلابِلِ طُرًّا وأَشرَفَها وأَنوَرَها وأَبهَرَها وأَعظَمَها وأَكرَمَها، وأَعلاها صَوْتًا وأَجلاها نَعْتًا وأَتمَّها ذِكرًا وأَعَمَّها شُكرًا وأَكمَلَها ماهِيّةً وأَحسَنَها صُورةً، هو الَّذي يُثيرُ الوَجْدَ والجَذْبَ والشَّوقَ في الأَرضِ والسَّماواتِ العُلا، في بُستانِ هذا الكَونِ العَظِيمِ، بسَجَعاتِه اللَّطِيفةِ وتَضَرُّعاتِه اللَّذِيذةِ، وتَسبِيحاتِه العُلوِيّةِ.. وهو العَندَليبُ العَظيمُ لِنَوعِ البَشَر، في بُستانِ الكائناتِ، بُلبُلُ القُرآنِ لِبَني آدَمَ، مُحمَّدٌ الأَمينُ، علَيه وعلى آلِه وأَمثالِه، أَفضَلُ الصَّلَواتِ وأَجمَلُ التَّسلِيماتِ.
خُلاصةُ ما سَبَق: إنَّ الحَيَواناتِ الخادِمةَ في قَصرِ الكَونِ تَمتَثِلُ الأَوامِرَ التَّكوِينيّةَ امتِثالًا تامًّا، وتُظهِرُ ما في فِطْرَتِها مِن غاياتٍ بأَجمَلِ صُورَتِها باسمِ اللهِ؛ فتَسبِيحاتُها هي قِيامُها بوَظائفِ حَياتِها بأَبدَعِ طِرازٍ بقُوّةِ اللهِ سُبحانَه، وبِبَذْلِ الجُهدِ في العَمَلِ؛ وعِباداتُها هي هَداياها وتَحِيّاتُها الَّتي تُقَدِّمُها إلى الفاطِرِ الجَليلِ واهِبِ الحَياةِ.
[الخَدَم: النباتات والحيوانات]
القِسمُ الثّالثُ مِنَ العُمّالِ: هم النَّباتاتُ والجَماداتُ.. هؤلاء العُمّالُ لا مُرَتَّبَ لهم ولا مُكافأةَ، لأنَّهم لا اختِيارَ لهم، فأَعمالُهم خالِصةٌ لِوَجهِ اللهِ، وحاصِلةٌ بمَحضِ إرادَتِه سُبحانَه وبِاسمِه وفي سَبِيلِه، وبِحَولِه وقُوَّتِه؛ إلّا أنَّه يُستَشعَرُ مِن أَحوالِ النَّباتاتِ أنَّ لها نَوْعًا مِنَ التَّلَذُّذِ في أَدائِها وَظائِفَ التَّلقِيحِ والتَّوليدِ وإنماءِ الثِّمارِ، إلّا أنَّها لا تَتَألَّمُ قَطُّ، بخِلافِ الحَيَواناتِ الَّتي تَتَعرَّض لِلآلامِ مِثلَما تَستَمتِعُ باللَّذائِذِ، حيثُ إنَّ لها اختِيارًا.
ولِأَجلِ عَدَمِ تَدَخُّلِ الِاختِيارِ في أَعمالِ النَّباتاتِ والجَماداتِ تكُونُ آثارُهما أَتقَنَ وأَكمَلَ مِن أَعمالِ الحَيَواناتِ الَّتي لها اختِيارٌ. وفي النَّحلِ -مَثلًا- الَّتي تَتَنوَّرُ بالوَحيِ والإلهامِ، يكُونُ الإتقانُ في الأَعمالِ أَكمَلَ مِن حَيَوانٍ آخَرَ يَعتَمِدُ على جُزئِه الِاختِيارِيِّ.
وكلُّ طائفةٍ مِن طَوائفِ النَّباتاتِ في مَزرَعةِ الأَرضِ تَسأَلُ فاطِرَها الحَكِيمَ وتَدعُوه بلِسانِ الحالِ والِاستِعدادِ، قائلةً: يا رَبَّنا آتِنا مِن لَدُنك قُوّةً، كي نَنصِبَ رايةَ طائفَتِنا في أَرجاءِ الأَرضِ كافّةً، لِنُعلِنَ بلِسانِنا عَظَمةَ رُبُوبيَّتِك.. ووَفِّقنا يا رَبَّنا لِعِبادَتِك في كلِّ رُكنٍ مِن أَركانِ مَسجِدِ الأَرضِ هذا.. وهَبْ لنا قُدرةً لِنَسِيحَ في كلِّ ناحِيةٍ مِن نَواحِي مَعرِضِ الأَرضِ لِنُشهِرَ فيها نُقُوشَ أَسمائِك الحُسنَى وبَدائِعَ صُنعِك وعَجائِبَها.
والفاطِرُ الحَكِيمُ يَستَجِيبُ لِدُعاءِ النَّباتاتِ المَعنَوِيِّ هذا.. فيَهَبُ لِبُذُورِ طائفةٍ مِنها جُنَيحاتٍ مِن شُعَيراتٍ دَقيقةٍ لِتَتَمكَّنَ بها مِنَ الطَّيَرانِ إلى كلِّ مكانٍ؛ فتَجعَلُ النّاظِرَ إلَيها يَقرَأُ أَسماءَ اللهِ الحُسنَى كما في أَغلَبِ النَّباتاتِ الشَّوكِيّةِ وقِسمٍ مِن بُذُورِ الأَزهارِ الصَّفراءِ.. ويَهَبُ سُبحانَه لآخَرَ نَسِيجًا طَرِيًّا طَيِّـبًا يَحتاجُه الإنسانُ ويَرتاحُ إلَيه، حتَّى يَجعَلُ الإنسانَ خادِمًا له، فيَزرَعُه في كلِّ ناحِيةٍ.. ويَهَبُ لِطائِفةٍ أُخرَى ما لا يُهضَمُ مِن شَبِيهِ العِظامِ مَكسُوًّا بما يُشبِهُ اللَّحمَ تَستَسِيغُه الحَيَواناتُ، فتَنشُرُها في أَقطارِ الأَرضِ.. ويَهَبُ لبَعضٍ شُوَيكاتٍ دَقيقةً تَتَعلَّقُ بالأَشياءِ بأَدنَى تَماسٍّ، وبهذا يَنتَقِلُ مِن مكانٍ إلى آخَرَ فيَنشُرُ رايةَ طائِفَتِه هناك. وهكذا تَنشُرُ النَّباتاتُ بَدائِعَ صُنعِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، فيَهَبُ لِقِسمٍ آخَرَ عُلَبًا مَملُوءةً بالبُذُورِ تَقذِفُ بها إلى مَسافةِ أَمتارٍ حِينَ نُضُوجِها.
وقِسْ على هذا المِنوالِ كيفَ تَستَنطِقُ النَّباتاتُ أَلسِنةً كَثيرةً في ذِكرِ الفاطِرِ الجَليلِ وفي تَقدِيسِه، فلقد خَلَق الفاطِرُ الحَكِيمُ والقَدِيرُ العَلِيمُ كلَّ شيءٍ في أَحسَنِ صُورةٍ، وفي أَكمَلِ انتِظامٍ، وجَهَّزَه بأَفضَلِ جِهازٍ، ووَجَّهَه إلى أَحسَنِ وِجهةٍ، ووَظَّفَه بأَحسَنِ وَظِيفةٍ، فيَقُومُ الشَّيءُ بأَفضَلِ التَّسبِيحاتِ وأَجمَلِها، ويُؤَدِّي العِباداتِ على أَفضَلِ الوُجُوهِ.
فإن كُنتَ أيُّها الإنسانُ إنسانًا حَقًّا، فلا تُقحِمِ الطَّبِيعةَ والمُصادَفةَ والعَبَثِيّةَ والضَّلالةَ في هذه الأُمُورِ الجَمِيلةِ، ولا تُشَوِّهْ جَمالَها بعَمَلِك القَبِيحِ، فتَكُونَ قَبِيحًا.
[المشرفون: الإنسان]
القِسمُ الرّابعُ: هو الإنسانُ، فالإنسانُ الَّذي هو نَوعٌ مِن أَنواعِ الخَدَمِ العامِلين في هذا القَصرِ، قَصرِ الكَونِ، هذا الإنسانُ شَبِيهٌ بالمَلائكةِ مِن جِهةٍ، وشَبِيهٌ بالحَيَوانِ مِن جِهةٍ أُخرَى؛ إذ يُشبِهُ المَلائكةَ في العِبادةِ الكُلِّيّةِ وشُمُولِ الإشرافِ وإحاطةِ المَعرِفةِ، وكَونِه داعِيًا إلى الرُّبُوبيّةِ الجَليلةِ، بلِ الإنسانُ أَكثَرُ جامِعِيّةً مِنَ المَلائكةِ، ولأنَّ الإِنسانَ يَحمِلُ نَفْسًا شِرِّيرةً شَهَوِيّةً، بخِلافِ المَلائكةِ، فُتِحَ أَمامَه نَجْدانِ، له أن يَختارَ، إمَّا رُقِيًّا عَظِيمًا أو تَدَنِّـيًا مُرِيعًا.
ووَجهُ شَبَهِ الإنسانِ بالحَيَوانِ هو أنَّه يَبحَثُ في أَعمالِه عن حَظٍّ لِنَفسِه، وحِصّةٍ لِذاتِه، لِذا فالإنسانُ له مُرَتَّبانِ: الأوَّل: جُزئيٌّ حَيَوانِيٌّ مُعَجَّلٌ.
والثّاني: كُلِّيٌّ ملَائكِيٌّ مُؤَجَّلٌ.
ولقد ذَكَرنا في الكَلِماتِ الثَّلاثِ والعِشرِين السّابِقةِ قِسْمًا مِن مُكافأةِ الإنسانِ ومُرَتَّبِه ووَظائفِه، ومَدارِجِ رُقيِّه وتَدَنِّيه، ولا سِيَّما في الكَلِمةِ “الحادِيةَ عَشْرةَ” و”الثّالثةِ والعِشرِين” إذ فيهما تفَصيِلُ بَيانٍ، لِذا نَختَصِرُ هذا البَحثَ ونَختِمُ بابَه سائلِين العَلِيَّ القَدِيرَ أن يَفتَحَ علَينا أَبوابَ رَحمَتِه، ويُوَفِّقَنا إلى إتمامِ هذه الكَلِمةِ، راجِين مِنه سُبحانَه وتَعالَى أن يَعفُوَ عن سَيِّئاتِنا ويَغفِرَ لنا خَطايانا.
[الغصن الخامس: معنى العبادة]
الغُصنُ الخامس: لِهذا الغُصنِ خَمسُ ثَمَراتٍ:
[الثمرة الأولى: المحبة والخوف]
الثَّمرةُ الأُولى:
يا نَفسِيَ المُحِبّةَ لِنَفسِها، ويا رَفيقي العاشِقَ للدُّنيا.. اعلَمي أنَّ المَحَبّةَ سَبَبُ وُجُودِ هذه الكائناتِ، والرّابِطةُ لِأَجزائِها، وأنَّها نُورُ الأَكوانِ، وحَياتُها.
ولَمّا كان الإنسانُ أَجمَعَ ثَمَرةٍ مِن ثَمَراتِ هذا الكَونِ، فقد أُدرِجَت في قَلبِه الَّذي هو نَواةُ تلك الثَّمَرةِ مَحَبّةٌ قادِرةٌ على الِاستِحواذِ على الكائناتِ كلِّها؛ لذا لا يَلِيقُ بمِثلِ هذه المَحَبّةِ غيرِ المُتَناهِيةِ إلّا صاحِبُ كَمالٍ غيرِ مُتَناهٍ.
فيا نَفسِي، ويا صاحِبي.. لقد أَوْدَع اللهُ سُبحانَه جِهازَينِ في فِطرةِ الإنسانِ، لِيَكُونا وَسِيلَتَينِ للخَوفِ وللمَحَبّةِ؛ وتلك المَحَبّةُ والخَوفُ إمّا سيَتَوجَّهانِ إلى الخَلقِ أو إلى الخالقِ، عِلمًا أنَّ الخَوفَ مِنَ الخَلقِ بَليّةٌ أَليمةٌ، والمَحَبّةَ المُتَوجِّهةَ نحوَه أيضًا مُصِيبةٌ مُنَغِّصةٌ، إذ إنَّك أيُّها الإنسانُ تَخافُ مَن لا يَرحَمُك، أو لا يَسمَعُ استِرحامَك، فالخَوفُ إذًا في هذه الحالةِ بَلاءٌ أَليمٌ.
أمّا المَحَبّةُ: فإنَّ ما تُحِبُّه إمّا أنَّه لا يَعرِفُك، فيَرحَلُ عنك دونَ تَودِيعٍ، كشَبابِكَ ومالِكَ، أو يُحَقِّرُك لِمَحَبَّتِك؛ ألَا تَرَى أنَّ تِسعةً وتِسعِين في المِئةِ مِنَ العُشّاقِ المَجازِيِّين يَشكُون مَعشُوقِيهم، ذلك لأنَّ عِشْقَ مَحبُوباتٍ دُنيَوِيّةٍ شَبِيهةٍ بالأَصنامِ لِحَدِّ العِبادةِ، بباطِنِ القَلبِ الَّذي هو مِرآةُ الصَّمَدِ، ثَقيلٌ في نَظَرِ أُولئِك المَحبُوبِين، إذِ الفِطرةُ تَرُدُّ كلَّ ما لَيسَ بفِطرِيٍّ وغيرَ لائِقٍ بها. “والحُبُّ الشَّهْوانِيُّ خارِجٌ عن بَحثِنا”. بمَعنَى: أنَّ ما تُحِبُّه مِن أَشياءَ إمّا أنَّه لا يَعرِفُك أو يُحَقِّرُك أو لا يُرافِقُك، بل يُفارِقُك وأَنفُك راغِمٌ.
فما دامَ الأَمرُ هكذا، فاصرِفْ هذه المَحَبّةَ والخَوْفَ إلى مَن يَجعَلُ خَوفَك تَذَلُّلًا لَذِيذًا، ومَحَبَّـتَك سَعادةً بلا ذِلّةٍ.
نعم، إنَّ الخَوفَ مِنَ الخالقِ الجَليلِ يعني وِجدانَ سَبِيلٍ إلى رَأفَتِه ورَحمَتِه تَعالَى للِالْتِجاءِ إلَيه. فالخَوفُ بهذا الِاعتِبارِ هو سَوْطُ تَشِويقٍ يَدفَعُ الإنسانَ إلى حُضنِ رَحمَتِه تَعالَى، إذ مِنَ المَعلُومِ أنَّ الوالِدةَ تُخَوِّفُ طِفلَها لِتَضُمَّه إلى صَدْرِها، فذلك الخَوفُ لَذِيذٌ جِدًّا لِذلك الطِّفلِ، لأنَّه يَجذِبُ ويَدفَعُ الطِّفلَ إلى صَدْرِ الحَنانِ والعَطْفِ، عِلمًا أنَّ شَفَقةَ الوالِداتِ كلِّهن ما هي إلَّا لَمعةٌ مِن لَمَعاتِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ. بمَعنَى أنَّ في الخَوفِ مِنَ اللهِ لَذّةً عَظيمةً. فلَئِن كانَ للخَوفِ مِنَ اللهِ لَذّةٌ إلى هذا الحَدِّ، فكيف بمَحَبّةِ الله سُبحانَه، ألَا يُفهَمُ كم مِنَ اللَّذائذِ غيرِ المُتَناهِيةِ فيها؟!
ثمَّ إنَّ الَّذي يَخافُ اللهَ يَنجُو مِنَ الخَوفِ مِنَ الآخَرِين، ذلك الخَوفِ المَلِيءِ بالقَساوة والبَلايا.
ثمَّ إنَّ المَحَبّةَ الَّتي يُوليها الإنسانُ إلى المَخلُوقاتِ، إن كانَت في سَبِيلِ اللهِ لا تَكُونُ مَشُوبةً بالأَلَمِ والفِراقِ.
نعم، إنَّ الإنسانَ يُحِبُّ نَفسَه أوَّلًا، ثمَّ يُحِبُّ أَقارِبَه، ثمَّ أُمَّتَه، ثمَّ الأَحياءَ مِنَ المَخلُوقاتِ، ثمَّ الكائناتِ، ثمَّ الدُّنيا، فهو ذُو عَلاقةٍ معَ كلِّ دائرةٍ مِن هذه الدَّوائرِ، ويُمكِنُ أن يَتَلذَّذ بلَذائذِها ويَتَألَّمَ بآلامِها؛ بَينَما لا يَقَـرُّ قَرارٌ لِشَيءٍ في هذا العالَمِ الصّاخِبِ الَّذي يَمُوجُ بالهَرْجِ والمَرْجِ، وتَعصِفُ فيه العَواصِفُ المُدَمِّرةُ، لِذا تَرَى قَلبَ الإنسانِ المِسكِينِ يُجرَحُ دائِمًا، فالأَشياءُ الَّتي يَتَشَبَّثُ بها هي الَّتي تَجرَحُه بالذَّهابِ عنه، بل قد تَقطَعُ يَدَه، لِذا لا يَنجُو الإنسانُ مِن قَلَقٍ دائِمٍ، ورُبَّما يُلقِي نَفسَه في أَحضانِ الغَفلةِ والسُّكْرِ.
فيا نَفسِي.. إن كُنتِ تَعقِلِين، فاجمَعِي إذً جَميعَ أَنواعِ تلك المَحَبّةِ وسَلِّمِيها إلى صاحِبِها الحَقيقيِّ وانْجِي مِن هذه البَلايا. فهذه الأَنواعُ مِنَ المَحَبّةِ غيرِ المُتَناهِيةِ إنَّما هي مَخصُوصةٌ لِصاحِبِ كَمالٍ وجَمالٍ لا نِهايةَ لهما، ومتى سَلَّمتِها إلى صاحِبِها الحَقيقيِّ يُمكِنُكِ أن تُحِبِّي الأَشياءَ جَميعَها باسمِه دونَ قَلَقٍ ومِن حيثُ إنَّها مَراياه، بمَعنَى أنَّه لا يَنبَغي أن تَصرِفي هذه المَحَبّةَ مُباشَرةً إلى الكائناتِ، وإلّا انقَلَبَتِ المَحَبّةُ إلى نِقمةٍ أَليمةٍ بعدَ أن كانَت نِعمةً لَذِيذةً.
ظَلَّ أَمرٌ آخَرُ وهو أَهَمُّ مِمّا ذُكِرَ: إنَّكِ يا نَفسِي تُولينَ وَجهَ مَحَبَّتِك إلى نَفسِك بالذّاتِ، فتَجعَلِين نَفسَك مَحبُوبةَ نَفسِها بل مَعبُودةً لها، وتُضَحِّين بكُلِّ شَيءٍ في سَبِيلِها وكأنَّكِ تَمنَحِينَها نَوعًا مِنَ الرُّبُوبيّةِ، مع أنَّ سَبَبَ المَحَبّةِ إمّا كَمالٌ، والكَمالُ مَحبُوبٌ لِذاتِه، أو مَنفَعةٌ أو لَذّةٌ أو فَضِيلةٌ أو أيُّ سَبَبٍ مُشابِهٍ لِهَذه الأَسبابِ المُؤَدِّيةِ إلى المَحَبّةِ.
والآنَ يا نَفسِي.. لقد أَثبَتْنا في عَدَدٍ مِنَ “الكَلِماتِ” إثباتًا قاطِعًا أنَّ ماهِيَّتَكِ الأَصلِيّةَ هي عَجِينةٌ مُرَكَّبةٌ مِنَ القُصُورِ والنَّقصِ والفَقرِ والعَجزِ، فإنَّكِ حَسَبَ الضِّدِّيّةِ تُؤَدِّين وَظيفةَ المِرآةِ، فبالنَّقصِ والقُصُورِ والفَقرِ والعَجزِ المَوجُودِ في ماهِيَّتِكِ أَصلًا، تُظهِرِين كَمالَ الفاطِرِ الجَليلِ وجَمالَه وقُدرَتَه ورَحمَتَه، مِثلَما يُبيِّنُ الظَّلامُ الدّامِسُ سُطُوعَ النُّورِ.
فيا أيَّتُها النَّفسُ.. علَيكِ ألّا تُحِبِّي نَفسَكِ، بلِ الأَولَى لكِ مُعاداتُها، أوِ التَّألُّمُ لِحالِها، والإشفاقُ علَيها، بعدَ أن تُصبِحَ نَفسًا مُطمَئِنّةً.
فإن كُنتِ تُحِبِّين نَفسَكِ لِكَونِها مَنشَأَ اللَّذّةِ والمَنفَعةِ، وأنتِ مَفتُونةٌ بأَذواقِ اللَّذّةِ والمَنفَعةِ، فلا تُفَضِّلي لَذّةً نَفسانِيّةً بقَدْرِ ذَرّةٍ على لَذّةٍ لا نِهايةَ لها ومَنافِعَ لا حَدَّ لها؛ فلا تكُوني كاليَراعةِ الَّتي تُغرِقُ جَميعَ الأَشياءِ وجَميعَ أَحِبَّتِها في وَحْشةِ الظَّلامِ مُكتَفِيةً هي بلُمَيعةٍ في نَفسِها، لأنَّ لَذَّتَكِ النَّفسانيّةَ ومَنفَعَتَكِ وما تَنتَفِعِين مِن وَراءِ مَنفَعَتِهم وما تَسعَدِين بسَعادَتِهم وجَميعَ مَنافِعِ الكائناتِ ونَفْعَها كلَّها إنَّما هي مِن لُطْفِ مَحبُوبٍ أَزَليٍّ سُبحانَه. فعلَيكِ إذًا أن تُحِبِّي ذلك المَحبُوبَ الأَزَليَّ حتَّى تَلْتَذِّي بسَعادَتِكِ وبسَعادةِ أُولَئِك، بلَذّةٍ لا مُنتَهَى لها مِن مَحَبّةِ الكَمالِ المُطلَقِ.
وفي الحَقيقةِ إنَّ مَحَبَّتَكِ الشَّدِيدةَ لِنَفسِكِ والمَغرُوزةَ فيكِ، ما هي إلَّا مَحَبّةٌ ذاتيّةٌ مُتَوجِّهةٌ إلى ذاتِ اللهِ الجَليلةِ سُبحانَه، إلَّا أنَّكِ أَسَأتِ استِعمالَ تلك المَحَبّةِ فوَجَّهْتِها إلى ذاتِك. فمَزِّقي يا نَفسِي إذًا ما فيكِ مِن “أنا”، وأَظهِرِي “هو”، فإنَّ جَميعَ أَنواعِ مَحَبَّتِكِ المُتَفرِّقةِ على الكائناتِ إنَّما هي مَحَبّةٌ مَمنُوحةٌ لكِ تِجاهَ أَسمائِه الحُسنَى وصِفاتِه الجَليلةِ، بَيْدَ أنَّكِ أَسَأْتِ استِعمالَها، فستَنالِين جَزاءَ ما قَدَّمَتْ يَداكِ، لأنَّ جَزاءَ مَحَبّةٍ غيرِ مَشرُوعةٍ وفي غيرِ مَحَلِّها، مُصِيبةٌ لا رَحمةَ فيها.
وإنَّ مَحبُوبًا أَزَليًّا أَعَدَّ -باسمِه الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ- مَسْكَنًا جامِعًا لِجَميعِ رَغَباتِكِ المادِّيّةِ، وهو الجَنّةُ المُزَيَّنةُ بالحُورِ العِينِ، وهَيَّأَ بسائرِ أَسمائِه الحُسنَى آلاءَه العَمِيمةَ لإشباعِ رَغَباتِ رُوحِكِ وقَلبِكِ وسِرِّكِ وعَقلِكِ وبَقيّةِ لَطائفِك؛ بل له سُبحانَه في كلِّ اسمٍ مِن أَسمائِه الحُسنَى خَزائنُ مَعنَوِيّةٌ لا تَنفَدُ مِنَ الإحسانِ والإكرامِ. فلا شَكَّ أنَّ ذَرّةً مِن مَحَبّةِ ذلك المَحبُوبِ الأَزَليِّ تَكفِي بَدِيلًا عنِ الكائناتِ كلِّها، ولا يُمكِنُ أن تكُونَ الكائناتُ برُمَّتِها بَدِيلًا عن تَجَلٍّ جُزئيٍّ مِن تَجَلِّياتِ مَحَبَّتِه سُبحانَه.
فاستَمِعِي يا نَفسِي واتَّبِعِي هذا العَهْدَ الأَزَليَّ الَّذي أَنطَقَ به ذلك المَحبُوبُ الأَزَليُّ، حَبِيبَه الكَرِيمَ بقَولِه تَعالَى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم﴾.
[الثمرة الثانية: العبودية ليست مقدمة لثواب لاحق، لا نتيجة نعمة سابقة]
الثَّمرة الثانية: يا نَفسُ.. إنَّ وَظائفَ العُبُودِيّةِ وتَكاليفَها لَيسَت مُقدَّمةً لِثَوابٍ لاحِقٍ، بل هي نَتيجةٌ لِنِعمةٍ سابِقةٍ.
نعم، نحنُ قد أَخَذْنا أُجرَتَنا مِن قَبلُ، وأَصبَحْنا بحَسَبِ تلك الأُجرةِ المُقَدَّمةِ لنا مُكَلَّفين بالخِدمةِ والعُبُودِيّةِ.
ذلك لأنَّ الخالقَ ذا الجَلالِ والإكرامِ الَّذي أَلبَسَكِ -أيَّتُها النَّفسُ- الوُجُودَ، وهو الخَيرُ المَحْضُ، قد أَعطاكِ باسمِه “الرَّزّاقِ” مَعِدةً تَتَذوَّقين وتَتَلذَّذِين بجَميعِ ما فَرَشَه أَمامَك على مائدةِ النِّعمةِ مِن مَأكُولاتٍ..
ثمَّ إنَّه وَهَب لكِ حَياةً حَسّاسةً، فهي كالمَعِدةِ تَطلُبُ رِزقًا لها، فوَضَع أَمامَ حَواسِّكِ مِن عَينٍ وأُذُنٍ -وهي كالأَيدِي- مائدةَ نِعمةٍ واسِعةٍ سَعةَ سَطْحِ الأَرضِ..
ثمَّ وَهَب لكِ إنسانيّةً تَطلُبُ بدَورِها أَرزاقًا مَعنَوِيّةً كَثيرةً، ففَتَح أَمامَ مَعِدةِ الإنسانيّةِ آفاقَ المُلْكِ والمَلَكُوتِ بمِقدارِ ما يَصِلُ إلَيه العَقْلُ. وبما وَهَب لكِ مِنَ الإسلامِ والإيمانِ الَّذي هو “الإنسانيّةُ الكُبْرَى”، والَّذي يَطلُبُ نِعَمًا لا نِهايةَ لها، ويَتَغذَّى على ثِمارِ الرَّحمةِ الَّتي لا تَنفَدُ، فَتَح لكِ مائِدةَ النَّعمةِ والسَّعادةِ واللَّذّةِ الشّامِلةِ للأَسماءِ الحُسنَى، والصِّفاتِ الرَّبّانيّةِ المُقدَّسةِ، ضِمنَ دائرةِ المُمكِناتِ..
ثمَّ أَعطاكِ المَحَبّةَ الَّتي هي نُورٌ مِن أَنوارِ الإيمانِ، فأَحسَنَ إليكِ بمائدةِ نِعمةٍ وسَعادةٍ ولَذّةٍ لا تَنتَهي أَبدًا.
بمَعنَى أنَّكِ قدِ انتَقَلتِ بإحسانِه سُبحانَه وتَعالَى مِن جُزءٍ جُزئيٍّ -بحَسَبِ جِسمِكِ الصَّغيرِ المَحدُودِ المُقيَّدِ الذَّليلِ العاجِزِ الضَّعِيفِ- إلى كُلٍّ كُلِّيِّ نُورانِيٍّ، بما أَعطاكِ “الحَياةَ“، ثمَّ إلى الكُلِّيّةِ الحَقيقيّةِ بما وَهَب لكِ “الإنسانيّةَ“، ثمَّ إلى الكُلِّيّةِ النُّورانيّةِ السّامِيةِ بما أَحسَنَ إلَيكِ “الإيمان“، ومِنها رَفَعَكِ إلى النُّورِ المُحِيطِ الشّامِلِ بما أَنعَمَ عَلَيكِ مِنَ “المَعرِفةِ والمَحَبّةِ”.
فيا نَفسُ.. لقد قَبَضْتِ مُقَدَّمًا كلَّ هذه الأُجُورِ والأَثمانِ، ثمَّ كُلِّفْتِ بالعُبُودِيّةِ، وهي خِدمةٌ لَذيذةٌ وطاعةٌ طَيِّبةٌ بل مُرِيحةٌ خَفِيفةٌ؛ أفَبَعدَ هذا تَتَكاسَلِين عن أَداءِ هذه الخِدمةِ العَظِيمةِ المُشَرَّفةِ؟ وتقُولين بدَلالٍ: لِمَ لا يُقبَلُ دُعائي؟ حتَّى إذا ما قُمْتِ بالخِدمةِ بشَكلٍ مُهَلهَلٍ تُطالِبِين بأُجرةٍ عَظِيمةٍ أُخرَى، وكأنَّكِ لم تَكتَفِي بالأُجرةِ السّابِقةِ؟
نعم، إنَّه ليس مِن حَقِّكِ الدَّلالُ أَبدًا، وإنَّما مِن واجِبِكِ التَّضَرُّعُ والدُّعاءُ، فاللهُ سُبحانَه وتَعالَى يَمنَحُكِ الجَنّةَ والسَّعادةَ الأَبَديّةَ بمَحْضِ فَضْلِه وكَرَمِه، لِذا فالْتَجِئِي إلى رَحمَتِه، واعتَمِدِي علَيها، ورَدِّدِي هذا النِّداءَ العُلْوِيَّ الرَّبّانِيَّ:
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
[القيام بعبادة كلية إزاء النعم الكلية]
وإذا قُلتِ: كيف يُمكِنُني أن أُقابِلَ تلك النِّعَمَ الكُلِّيّةَ الَّتي لا تُحَدُّ بشُكرِي المَحدُودِ الجُزئيِّ؟
فالجَوابُ: بالنِّيّةِ الكُلِّيّةِ، وبالِاعتِقادِ الجازِمِ الَّذي لا حَدَّ له.
فمَثلًا: إنَّ رَجُلًا يَدخُلُ إلى دِيوانِ السُّلطانِ بِهَديّةٍ زَهيدةٍ مُتَواضِعةٍ بقِيمةِ خَمسةِ فُلُوسٍ، ويُشاهِدُ هناك هَدايا مَرصُوصةً تُقَدَّرُ أَثمانُها بالمَلايِينِ أُرسِلَت إلى السُّلطانِ مِن قِبَلِ ذَواتٍ مَرمُوقين، فعِندَها يُناجي نَفسَه: ماذا أَعمَلُ؟ إنَّ هَدِيَّتي زَهِيدةٌ ولا شَيءٌ! إلّا أنَّه يَستَدرِكُ ويقُولُ فَجْأةً: “يا سَيِّدي.. إنَّني أُقدِّمُ لكَ جَميعَ هذه الهَدايا باسمِي، فإنَّك أَهلٌ لها؛ ويا سَيِّدي العَظيمَ، لو كان باستِطاعَتِي أن أُقَدِّم لك أَمثالَ أَمثالِ هذه الهَدايا الثَّمِينةِ لَما تَرَدَّدتُ”.
وهكذا فالسُّلطانُ الَّذي لا حاجةَ له إلى أَحَدٍ، والَّذي يَقبَلُ هَدايا رَعاياه رَمْزًا يُشِيرُ إلى مَدَى إخلاصِهم وتَعظِيمِهم له، يَقبَلُ هذه النِّـيّةَ الكُلِّيّةَ مِن ذلك الرَّجُلِ المَسكِينِ، وأُمنِيَّتَه ورَغبَتَه الصّادِقةَ، ويَقِينَه السّامِيَ الجَمِيلَ بأنّ السُّلطانَ أَهلٌ لتلك الهَدايا؛ يَقبَلُها كأَعظَمِ هَدِيّة.
وهكذا، فالعَبدُ العاجِزُ عِندَما يقُولُ في الصَّلاةِ: “التَّحِيَّاتُ للهِ” يَنوِي بها: “إنَّني أَرفَعُ إلَيك يا إلٰهِي باسمِي هَدايا العُبُودِيّةِ لِجَميعِ المَخلُوقاتِ، الَّتي هي حَياتُها؛ فلو كُنتُ أَستَطِيعُ أن أُقدِّمَ التَّحِيَّاتِ إلَيكَ يا رَبِّي بعَدَدِ تلك الهَدايا لَمَا أَحجَمْتُ ولا تَرَدَّدتُ، فإنَّكَ أَهلٌ لِذاك، بل أَكثَـرُ. فهذه النِّـيّةُ الصّادِقةُ والِاعتِقادُ الجازِمُ، هي الشُّكرُ الكُلِّيُّ الواسِعُ”.
ولْنَأخُذْ مَثَلًا مِنَ النَّباتاتِ حيثُ النُّوَى والبُذُورُ فيها بمَثابةِ نِيَّاتِها. فالبِطِّيخُ مَثلًا يقُولُ بما يُنوَى مِن آلافِ النُّوَى الَّتي في جَوفِه: يا خالقِي إنَّني على شَوْقٍ ورَغبةٍ أن أُعلِنَ نُقُوشَ أَسمائِك الحُسنَى في أَرجاءِ الأَرضِ كُلِّها. وحيثُ إنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى يَعلَمُ ما يَحدُثُ وكيف يَحدُثُ، فإنَّه يَقبَلُ النِّـيّةَ الصّادِقةَ كأنَّها عِبادةٌ فِعلِيّةٌ، أي كأنَّها حَدَثَت. ومِن هنا تَعلَمُ كيف أنَّ نِيّةَ المُؤمِنِ خَيرٌ مِن عَمَلِه، وتَفهَمُ كذلك حِكمةَ التَّسبِيحِ بأَعدادٍ غيرِ نِهائيّةٍ في مِثلِ: “سُبحانَك وبحَمدِك عَدَدَ خَلقِك ورِضاءَ نَفسِك وزِنةَ عَرشِك ومِدادَ كَلِماتِك”، و: نُسَبِّحُك بجَميعِ تَسبِيحاتِ أَنبِيائِك وأَوليائِك ومَلائِكَتِك.
فكما أنَّ الضّابِطَ المَسؤُولَ عنِ الجُنُودِ يُقدِّمُ أَعمالَهم وإنجازاتِهم إلى السُّلطانِ باسمِه، كذلك هذا الإنسانُ الَّذي هو ضابِطٌ على المَخلُوقاتِ، وقائدٌ للنَّباتاتِ والحَيَواناتِ، ومُؤهَّلٌ ليكونَ خَلِيفةً على مَوجُوداتِ الأَرضِ، ويَعُدُّ نَفسَه مَسؤُولًا ووَكيلًا عمَّا يَحدُثُ في عالَمِه الخاصِّ.. يقُولُ بلِسانِ الجَميعِ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ،﴾ فيُقدِّمُ إلى المَعبُودِ ذي الجَلالِ جَميعَ عِباداتِ الخَلقِ واستِعاناتِهم، ويَجعَلُ المَوجُوداتِ قاطِبةً كذلك تَتَكلَّمُ باسمِه، وذلك عندَ قَولِه: “سُبحانَك بجَميعِ تَسبِيحاتِ جَميعِ مَخلُوقاتِك، وبأَلسِنةِ جَميعِ مَصنُوعاتِك”.
ثمَّ إنَّه يُصَلِّي على النَّبيِّ ﷺ باسمِ جَميعِ الأَشياءِ على الأَرضِ: “اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحمَّدٍ بعَدَدِ ذَرّاتِ الكائناتِ ومُرَكَّباتِها”.. إذ إنَّ كلَّ شَيءٍ في الوُجُودِ له عَلاقةٌ معَ النُّورِ المُحَمَّديِّ علَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وهكذا افْهَمْ حِكمةَ الأَعدادِ غيرِ النِّهائيّةِ في التَّسبِيحاتِ والصَّلَواتِ.
[الثمرة الثالثة: أعمال خالدة في عمر قصير]
الثَّمرةُ الثالثة: فيا نَفسُ.. إن كُنتِ حَقًّا تُرِيدِين أن تَنالي عَمَلًا أُخرَوِيًّا خالِدًا في عُمُرٍ قَصِيرٍ، وإن كُنتِ حَقًّا تُرِيدِين أن تَرَيْ فائِدةً في كلِّ دَقيقةٍ مِن دَقائقِ عُمُرِكِ كالعُمُرِ الطَّوِيلِ، وإن كُنتِ حَقًّا تُرِيدِين أن تُحَوِّلي العادةَ إلى عِبادةٍ وتُبَدِّلي غَفلَتَكِ إلى طُمَأنينةٍ وسَكِينةٍ.. فاتَّبِعي السُّنَّةَ النَّبوِيّةَ الشَّرِيفةَ.. ذلك: لِأنَّ تَطبِيقَ السُّنَّةِ والشَّرعِ في مُعامَلةٍ مّا، يُورِثُ الطُّمَأنينةَ والسَّكِينةَ، ويُصبِحُ نَوعًا مِنَ العِبادةِ، بما يُثمِرُ مِن ثَمَراتٍ أُخرَوِيّةٍ كَثيرةٍ.
فمَثلًا: إذا ابتَعْتَ شَيئًا، ففي اللَّحظةِ الَّتي تُطَبِّقُ الأَمرَ الشَّرعِيَّ (الإيجابَ والقَبُولَ)، فإنَّ جَميعَ هذا البَيعِ والشِّراءِ يَأخُذُ حُكمَ العِبادةِ، حيثُ يُذَكِّرُك بالحُكْمِ الشَّرعيِّ، مِمّا يُعطِي تَصَوُّرًا رُوحِيًّا، وهذا التَّصَوُّرُ يُذَكِّرُك بالشّارِعِ الجَليلِ سُبحانَه، أي يُعطِي تَوَجُّهًا إلٰهِيًّا. وهذا هو الَّذي يَسكُبُ السَّكِينةَ والطُّمَأنينةَ في القَلبِ.
أي إنَّ إنجازَ الأَعمالِ وَفقَ السُّنّةِ الشَّرِيفةِ يَجعَلُ العُمُرَ الفانِيَ القَصِيرَ مَدارًا للحَياةِ الأَبَدِيّةِ، وذا ثِمارٍ خالِدةٍ؛ لِذا فأَنصِتي جَيِّدًا إلى قَولِه تَعالَى: ﴿فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، واسْعَيْ أن تَكُوني مَظهَرًا جامِعًا شامِلًا لِفَيضِ تَجَلٍّ لكُلِّ اسمٍ مِن تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى المُنتَشِرةِ في أَحكامِ السُّنّةِ الشَّرِيفةِ والشَّرعِ.
[الثمرة الرابعة: إياك أن تقلد أهل الدنيا والسفاهة]
الثَّمرة الرابعة: أيَّتُها النَّفسُ.. لا تُقَلِّدِي أَهلَ الدُّنيا، ولا سِيَّما أَهلَ السَّفاهةِ وأَهلَ الكُفرِ خاصّةً، مُنخَدِعةً بزِينَتِهِمُ الظّاهِرِيّةِ الصُّورِيّةِ، ولَذائذِهِمُ الخادِعةِ غيرِ المَشرُوعةِ، لأنَّكِ بالتَّقلِيدِ لا تَكُونِين مِثلَهم قَطعًا، بل تَتَردَّيْنَ كَثيرًا جِدًّا، بل لن تكُوني حتَّى حَيَوانًا أيضًا، لأنَّ العَقلَ الَّذي في رَأسِكِ يُصبِحُ آلةً مَشؤُومةً مُزعِجةً تَنزِلُ بمَطارِقِها على رَأسِكِ، إذ إن كان ثَمَّةَ قَصرٌ فَخمٌ فيه مِصباحٌ كَهرَبائيٌّ عَظيمٌ تَشَعَّبَت مِنه قُوّةُ الكَهرَباءِ إلى مَصابِيحَ أَصغَرَ فأَصغَرَ مُوزَّعةٍ في مَنازِلَ صَغِيرةٍ مُرتَبِطةٍ كُلِّها بالمِصباحِ الرَّئيسِ؛ فلو أَطفَأَ أَحَدُهمُ المِصباحَ الكَهرَبائيَّ الكَبِيرَ، فسيَعُمُّ الظَّلامُ المَنازِلَ الأُخرَى كلَّها، وتَستَولي الوَحْشةُ فيها؛ ولكن ثَمّةَ مَصابِيحُ في قُصُورٍ أُخرَى غيرَ مَربُوطةٍ بالمِصباحِ الكَبيرِ في القَصرِ الفَخْمِ، فإنَّ صاحِبَ القَصرِ هذا إن أَطفَأَ المِصباحَ الكَهرَبائيَّ الكَبيرَ فإنَّ مَصابِيحَ صَغِيرةً تَعمَلُ على الإضاءةِ في القُصُورِ الأُخرَى، ويُمكِنُه أن يُؤَدِّيَ بها عَمَلَه، فلا يَستَطِيعُ اللُّصُوصُ نَهْبَ شيءٍ مِنه.
فيا نَفسِي.. القَصرُ الأَوَّلُ هو المُسلِمُ، والمِصباحُ الكَبِيرُ هو سيِّدُنا الرَّسُولُ ﷺ في قَلبِ ذلك المُسلِمِ، فإن نَسِيَه وأَخرَجَ الإيمانَ به مِن قَلبِه -والعِياذُ باللهِ- فلا يُؤمِنُ بعدُ بأيِّ نَبِيٍّ آخَرَ، بل لا يَبقَى مَوضِعٌ للكَمالاتِ في رُوحِه، بل يَنسَى رَبَّه الجَليلَ ويكُونُ ما أُدرِجَ في ماهِيَّتِه مِن مَنازِلَ ولَطائِفَ طُعْمةً للظَّلامِ، ويُحدِثُ في قَلبِه دَمارًا رَهِيبًا، وتَستَولي علَيه الوَحْشةُ.. تُرَى ما الَّذي يُغنِي عن هذا الدَّمارِ الرَّهيبِ، وما النَّفعُ الَّذي يَكسِبُه حتَّى يَستَطِيعَ أن يُعَمِّرَ ذلك الدَّمارَ والوَحْشةَ؟!
أمّا الأَجانِبُ فإنَّهم يُشبِهُون القَصرَ الثّانِيَ، بحيثُ لو أَخرَجُوا نُورَ مُحمَّدٍ ﷺ مِن قُلُوبِهم، تَظَلُّ لَدَيهِم أَنوارٌ بالنِّسبةِ لهم، أو يَظُنُّون أنَّها تَظَلُّ! إذ يُمكِنُ أن يَبقَى لَدَيهِم شَيءٌ مِنَ العَقيدةِ باللهِ والإيمانِ بمُوسَى وعِيسَى عَلَيهمَا السَّلَام، والَّذي هو مِحْوَرُ كَمالِ أَخلاقيّاتِهم.
فيا نَفسِي الأَمّارةَ بالسُّوءِ.. إذا قُلتِ: أنا لا أُريدُ أن أَكُونَ أَجنَبِيًّا بل حَيَوانًا! فلَقد كَرَّرْنا علَيكِ القَولَ يا نَفسِي: إنَّكِ لن تكُوني حتَّى كالحَيَوانِ، لأنَّكِ تَملِكِين عَقْلًا، فهذا العَقلُ الجامِعُ لِآلامِ الماضِي ومَخاوِفِ المُستَقبَلِ يُنزِلُ ضَرَباتٍ مُوجِعةً وصَفَعاتٍ مُؤلِمةً برَأسِكِ وعَينِكِ، فيُذِيقُكِ أُلُوفَ الآلامِ في ثَنايا لَذّةٍ واحِدةٍ، بَينَما الحَيَوانُ يَستَمتِعُ بلَذّةٍ غيرِ مَشُوبةٍ بالآلامٍ. لِذا إن أَرَدتِ أن تكُوني حَيَوانًا فتَخَلَّيْ عن عَقلِكِ أَوَّلًا وارمِيه بَعِيدًا، وتَعَرَّضي لِصَفعةِ التَّأدِيبِ في الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾.
[الثمرة الخامسة: العبادة تنقل الإنسان من الفناء إلى البقاء]
الثَّمرةُ الخامسة: يا نَفسُ لقد كَرَّرْنا القَولَ: إنَّ الإنسانَ ثَمَرةُ شَجَرةِ الخِلقةِ، فهو كالثَّمَرةِ أَبعَدُ شيءٍ عنِ البِذرةِ، وأَجمَعُ لِخَصائصِ الكُلِّ، وله نَظَرٌ عامٌّ إلى الجَميعِ، ويَضُمُّ جِهةَ وَحدةِ الكُلِّ، فهو مَخلُوقٌ يَحمِلُ نَواةَ القَلبِ، ووَجهُهُ مُتَوجِّهٌ إلى الكَثرةِ مِنَ المَخلُوقاتِ، وإلى الفَناءِ، وإلى الدُّنيا، ولكِنَّ العِبادةَ الَّتي هي حَبْلُ الوِصالِ، أو نُقطةُ اتِّصالٍ بينَ المَبدَأِ والمُنتَهَى، تَصرِفُ وَجهَ الإنسانِ مِنَ الفَناءِ إلى البَقاءِ، ومِنَ الخَلقِ إلى الحَقِّ، ومِنَ الكَثرةِ إلى الوَحدانيّةِ، ومِنَ المُنتَهَى إلى المَبدَأِ.
لو أنَّ ثَمَرةً قيِّمةً ذاتَ إدراكٍ أَوشَكَت على أن تُكوِّنَ البُذُورَ، تَباهَتْ بجَمالِها، ونَظَرَتْ إلى أَسفَلَ مِنها مِن ذَوِي الأَرواحِ، وأَلقَت نَفسَها في أَيدِيهم أو غَفَلَت فسَقَطَت، فلا شَكَّ أنَّها تَتَفتَّتُ وتَتَلاشَى في أَيدِيهم، وتَضِيعُ كأَيّةِ ثَمَرةٍ اعتِيادِيّةٍ؛ ولكِنَّ تلك الثَّمَرةَ المُدرِكةَ إن وَجَدَت نُقطةَ استِنادِها، وتَمَكَّنَت مِنَ التَّفكِيرِ في أنَّها ستكُونُ وَساطةً لبَقاءِ الشَّجَرةِ وإظهارِ حَقِيقَتِها ودَوامِها، بما تُخبِّئُ في نَفسِها مِن جِهةِ الوَحْدةِ للشَّجَرةِ، فإنَّ البِذرةَ الواحِدةَ لتلك الثَّمَرةِ الواحِدةِ تَنالُ حَقِيقةً كُلِّيّةً دائمةً ضِمنَ عُمُرٍ باقٍ دائمٍ..
فالإنسانُ الَّذي تاهَ في كَثرةِ المَخلُوقاتِ، وغَرِق في الكائناتِ، وأَخَذ حُبُّ الدُّنيا بلُبِّه حتَّى غَرَّه تَبَسُّمُ الفانِياتِ وسَقَط في أَحضانِها، لا شَكَّ أنَّ هذا الإنسانَ يَخسَرُ خُسرانًا مُبِينًا، إذ يَقَعُ في الضَّلالِ والفَناءِ والعَدَمِ، أي: يُعدِمُ نَفسَه مَعنًى. ولكِن إذا ما رَفَع هذا الإنسانُ رَأسَه واستَمَع بقَلبٍ شَهِيدٍ لدُرُوسِ الإيمانِ مِن لِسانِ القُرآنِ، وتَوَجَّه إلى الوَحدانيّةِ، فإنَّه يَستَطِيعُ أن يَصعَدَ بمِعراجِ العِبادةِ إلى عَرْشِ الكَمالاتِ والفَضائلِ، فيَغدُوَ إنسانًا باقِيًا.
يا نَفسِي.. لَمّا كانَتِ الحَقيقةُ هي هذه، وأنتِ مِنَ المِلّةِ الإبراهِيميّةِ، فقُولي على غِرارِ سيِّدِنا إبراهيمَ: ﴿لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ﴾، وتَوَجَّهي إلى المَحبُوبِ الباقي، وابكِي مِثلي، قائلةً:
…………….
(الأَبياتُ الفارِسيّةُ لم تُدرَج هنا، حيثُ أُدرِجَت في المَقامِ الثاني مِنَ الكَلِمةِ السّابِعةَ عَشْرةَ).
❀ ❀ ❀